إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ۩ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأحبتي في الله وأخواتي:
أولياء الله الذين لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ حدهم المولى – تبارك وتعالى – وعرَّفهم بقوله الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ۩ على أن التقوى عند التحقيق شطرُ مقام الإحسان الذي هو أن يعبد المرء ربه – سبحانه وتعالى – كأنه يراه – وهذا أعلى الشطرين -، فإن لم يكن يراه فإنه يراه، إن لم يعتقد العبد أنه بلغ هذا المقام فليعمل على مقامٍ آخر وهو مقام الاعتقاد برقابة الله عليه وقيامه عليه سبحانه وتعالى، أي شطر المُشاهَدة – كما يُقال – وشطر المُراقَبة، والمُشاهَدة هى أعلى الشطرين وأشرف القسمين، وهى أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه – لم تبلغ هذا المقام- فإنه يراك، فالمُشاهَدة أن تعمل على وفق هذا الاعتقاد، والمُرجَّح – والله تبارك وتعالى عنده العلم والحكم – أن الشطر الآخر “أن يعلم العبد أن الله يراه” هو التقوى، إذن هذه هى التقوى لأن العبد الذي يتقي الله – سبحانه وتعالى – إنما يتقيه لعلمه بأن الله قائمٌ عليه ورقيب، ولذا قيل في حد التقوى هى أن لا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك، فأن تعمل لئلا يراك الله حيث نهاك مُراقَبة، فالتقوى شطرُ الإحسان، فإن صح هذا الفهم والتفسير لمَ لم يحد ولم يُفسِّر الله – تبارك وتعالى – الولاية بالإحسان كما يفعل كثيرٌ من العرفاء ومن أهل الله الذين يُعرِّفون الولاية بالإحسان وبأنها الترقي والعروج في مقامات الإحسان؟!
تعريف الرحمن الرحيم – سبحانه وتعالى – أرفق بالعباد وأعم فيدخل فيه كثيرٌ من عباد الله – أدخلني الله وإياكم في زمرتهم وجعلنا من الحاظين بحظوتهم. اللهم آمين – وذلكم أن هذا الشطر من شطري الإحسان هو الأكثرُ ميسوريةً، ومن ثم فهو للعباد أكثر، أما مقام المُشاهَدة وهو أن تعبد الله كأنك تراه فمقامٌ عزيز، لأنه مقام انكشاف الحجاب عن القلب طبعاً وليس عن العين الباصرة، وبالتالي هذا مقامٌ عزيز، لذا الله – تبارك وتعالى – من رحمته وتيسيره حد الولاية بالمقام الأدنى ليدخل مُعظم مَن تحقَّق بالتقوى بل كل مَن تحقَّق بالتقوى إن شاء الله تبارك وتعالى.
قال الله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، علماً بأن الله لم يقل أن هذا في الآخرة، بل في الدنيا وفي الآخرة – بإذن الله – لأنه قال لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ۩ بطريقة مُطلَقة من كل قيدٍ فتعم الدارين وتشمل النشأتين، ومما يُؤكِّد إطلاقية الأول أنه قال لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ۩، فهنا أكَّد أنه مُطلَقٌ من قيدي النشأة الأولى أو الآخرة، ثم قال لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۩، موقع هذا القيلِ الكريم؟!
موقع لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۩ أن مَن ثبتت – بحول الله تبارك وتعالى وفضله ومنه – الولايةُ له هو آمنٌ من الخذلان بإذن الله تبارك وتعالى، فالعرفاء – وهذه بُشرى سارة – يُؤكِّدون أن الله – تبارك وتعالى – يمتحن عبده مرةً تلو الأخرى فيأمن العبد بعد ذلك من الخذلان إن نجح في عددٍ من الامتحانات والابتلاءات اختلفوا في حدها، بعضهم قال “هن سبع مرات” والقلب يميل إلى هذا لأن هذا العدد “السبع” مُعتبَر في أمور شرعية خبرية وأمرية أو خبرية وإنشائية كما تعلمون، وبعضهم قال ” هن سبعون” وهذا فيه تشديدٌ كبير، ولكن الحاصل أن العبد إذا ابتلاه مولاه – سبحانه وتعالى – في أمرٍ من الأمور سبع مرار أو سبع مرات فنجا أمن بعد ذلك من الخذلان، يأمن – بإذن الله – إلى أن يلقى الله، ولذلك على المرء أن يُجاهِد نفسه دوماً، فلنفترض أن أحدهم ابتُليَ – مثلاً – بشهوة النساء أُتيح له أن يواقع الفاحشة مع مَن يشتهي القلب والعين – والعياذ بالله – ولكنه استعصم بعروة التقوى وقال مَعَاذَ اللَّهِ ۖ ۩ وقال إني أخافُ الله وأرجو ما عنده من الفضل لمَن خشيه واتقاه، فنجح في المرة الأولى ثم في الثانية ثم في الثالثة وهكذا إلى أن يصل إلى السابعة فيأمن من هذه الفتنة إلى أن يلقى الله، فيُصبِح كالمعصوم ويكون محفوظاً بإذن الله تبارك وتعالى، وكذلك الحال في فتنة المال وفي سائر الفتن، ويدل له في عمومه – وليس في خصوص التحديد بالتعديد – الحديث المشهور وهو حديث عياض في صحيح مسلم، حيث قال الرسول “تُعرَض الفتن على القلوب كعرض الحصيرِ عُوداً عُوداً – ويُروى عَوداً عَوداً أي مرةً تلو الأخرى، أو عُوداً عُوداً أي من أعواد الحصير، والمقصود فتنةً فأخرى – فأي قلبٍ أُشرِبها – والعياذ بالله أي قلبٍ أُشرِب هذه الفتنة – نُكِت فيه نُكتة سوداء وأي قلبٍ أنكرها نُكِت فيه نُكتةٌ بيضاء – والنكت هو التلوين بخلاف الحاصل، فإن كان الحاصل أبيض ولونت بالأسود هذا هو النكت وهذا أغلبه أو العكس فالسواد في البياض يُسمّى أيضاً نكتاً – حتى تصير القلوب على مثل قلبين، قلبٍ – هذا بالبدل، أي نجرها على البدلية – أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض – إذن كلام العرفاء مُستلٌ ومأخوذٌ من كلام الصادق الأبر الأطهر المصدوق صلوات ربي وتسليماته عليه وآله، والقلب الذي يكون هكذا ينجو ويأمن الخذلان بإذن الله تعالى – وقلبٍ أسودَ كالكوز مُجَخِّيًا – الكوزالمنكوس مُحال يعلق فيه شيئ من ماء – لا يعرف معروفاً ولا يُنكِر مُنكَراً إلا ما أُشرِب من هواه” أي أن – والعياذ بالله – المعروف هو ما أحبه وما خدمه وما واطأ هواه – هوى نفسه – والمُنكَر هو ما لم يخدمه وما لا مصلحة ولا منفعة له فيه وما لم يُواطيء ويُطابِق هواه، فهذا يُعَد مُنكَراً وإن أتي الشرع بمعروفيته لكنه لا يُبالي -نعوذ بالله من الخذلان وأن نسقط من عين الرحمن – وهذا شيئ مُخيف.
إذن أولياء الله الذين لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ أدنى مقاماتهم التقوى، فمَن لم يتحقَّق بالتقوى ليس له حظٌ في الولاية الخاصة، علماً بأن هذه ولاية خاصة، لأن هناك ولاية عامة لكل المُؤمِنين، فأي مُؤمِن هو من أولياء الله من مُنطلَق الولاية العامة، حتى أنها تعم المُسرِفين من المُؤمِنين أو المُوحِّدين على حد قوله – تبارك وتعالى – ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ – أي أنه دخل في مَن تولاه الله ولاية عامة واصطفاه بالتوحيد – وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ۩ ، فكل هؤلاء داخلون في الولاية العامة، ولكن الحديث هنا في الولاية الخاصة.
إخواني وأحبابي في الله وأخواتي:
الواحد منا أو الواحدة لا يُسعِده كثيراً أن يكون له سببٌ بعيد بشريف من الشرفاء – مثلاً – أو برجل من ذوي المقام والحشمة والمثابة أو بزعيم من الزعماء أو برئيس من الرؤساء أو بغنٍ مُتموِّل مُثرٍ من الأغنياء المُثرين المُتموِّلين، لا يُسعِده كثيراً فهذا سبب بعيد جداً لا تُقضى به الحاجات على الأقل سريعاً ولا يُرفَع به الحجاب – كما يُقال – ولكن الذي يُسعِده ويتنافس فيه وتحدث بسببه الغيرة والحسد هو السبب والوصلة القريبة، كأن أكون قريباً من هذا السيد الجليل، ولذلك على المُؤمِن أن يغار فلم يكون غيره من أولياء الله أصحاب وصلاتٍ وأسباب قريبة من رب العزة – لا إله إلا هو – فإذا سألوه أعطاهم وإذا استغاثوا بهم أغاثهم وإذا استنصروه نصرهم وإذا استفتحوا به فتح عليهم وفتح لهم وبهم؟!
لم أنت لا تغار من هذا وأنت تسمع عنهم وعن مقاماتهم وعن حشمتهم وعن كرامتهم على الله – تبارك وتعالى – ومع ذلك لا يتحرَّك فيك داعي الغيرة؟!
لم لست منهم؟!
هذا من سقوط الهمة، هذا – والعياذ بالله – من سقوط وانحطاط همة العبد، فليس له همة في الآخرة، ليس له همة في الزلفى إلى رب العالمين – لا إله إلا هو – ولكن له همة في الدنيا طبعاً، في عالم الأسباب والأموال والجاه والسُلطان وهذا الكلام الفارغ له همة – ما شاء الله – قعساء كما يُقال، فهذا من نقصان العقل لأن سقوط الهمة وعلو الهمة في ما لا ينبغي أن يكون على هذا الوجه من نقصان العقل فهو لا عقل تاماً له، لأن لو تم عقله وكمل لاعتدلت الأمور ولطلب أعز ما يُطلَب وهو وجه الرحمن – لا إله إلا هو – لأن هذا أعز ما يُطلَب، وكل شيئ يخدم هذا المطلب ولا يُمكِن أن يكون هو خادماً لمطلبٍ سواه.
من هنا عز أولياء الله عند الله – تبارك وتعالى – وعلا مقامهم حتى ذكر السادة العلماء – رحمة العلماء عليهم جميعاً – أن مُعاداة هؤلاء من أكبر الذنوب والكبائر، فأن تُعادي ولياً لله – تبارك وتعالى – يعني أنك تورّطت في ورطة عظيمة مع رب العالمين الذي قال في أول حديث الولي وهو من أفراد البخاري “مَن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمُحارَبة”، وفي حديث ابن ماجه عن معاذ بن جبل – رضيَ الله تعالى وعنه – قال – صَلَىَ الله عليه وآله وسَلَّمَ تسليماً كثيراً – في هذا الصدد “إن اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء فقد بارز الله بالمُحارَبة” إذن دخلت في حرب مع الله، فلن تستقيم أمورك ولن يتهيأ لك الأمر كما تُريد، ومن ثم تورّطت في الدنيا والآخرة ما لم تتب لأن الله قال “ومَن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمُحارَبة” ولأن الرسول يقول “وإن أحب العباد إلى الله الأتقياء الأخفياء – أي الأنقياء، جعلني الله وإياكم بفضله ومنه منهم. اللهم آمين -الذين إذا غابوا لم يُفتقَدوا، وإذا حضروا لم يُعرَفوا”، أي أنهم ليسوا من أصحاب السُلطة وليسوا من أصحاب الشهادات وليسوا من أصحاب الأموال وليسوا من أصحاب الشُهرة والجاه العريض والصيت البعيد – كما يُقال – أبداً، هم أُناس أخفياء يستخفون بعبادتهم وبصدقهم وبحالهم مع الله وبسرهم مع الله – تبارك وتعالى – ولذلك هم أحب العباد إلى الله، هؤلاء هم المحبوبون، ولكن مَن يُحِب هؤلاء قليل، وهو إن شاء الله قريبٌ منهم بإذن الله وعما قليل يصير في زمرتهم بإذن الله وحول الله، أما الناس فلا يُحِبون هؤلاء وإنما يُحِبون الدنيا وأهل الدنيا ويُحِبون صاحب الصيت وصاحب الأموال وصاحب السُلطان وصاحب المصالح، يُحِبونه وعلى استعداد أن يُقبِّلوا أياديه إن لم يُقبِّلوه إلى رجليه – والعياذ بالله – وهذا أيضاً من نقصان العقل وعدم تمامه، فلابد أن نُحِب مَن أحب الله ولابد أن نُقرِّب وأن نُزلِف وأن نُدني مَن أزلف وقرَّب وأدنى الله سبحانه وتعالى، هذا هو الفهم عن الله – عز وجل – وهذه هى لوائح السعادة وأمارات السعادة وعلامات الفوز بإذن الله، ومن هنا قال الرسول “الذين إذا غابوا لم يُفتقَدوا، وإذا حضروا لم يُعرَفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مُظلِمة”، أي أن لهم قلوب كالمصابيح وكالكواكب الدُرية فيعرفون بنورها – بإذن الله تبارك وتعالى – الخير من الشر وينجحون – أيها الإخوة – ويفوزون في كل فتنة، فلا يُفتنون بإذن الله تعالى، إذن هذا هو معنى يخرجون من كل غبراء مُظلمة، أما الغبراء المُظلِمة فهى الفتنة الحندس المُدلَهمة – والعياذ بالله – التي يحير في متاهاتها الخِرِّيت ويعزبُ عن حلم الحليم فيها حلمه، لكن هم يعرفون هذا بضربة واحدة بتوفيق الله، وكيف لا يعرفون وهم أهل الله وخلصانه وخاصته وأولياؤه وأحباؤه الذين يخلو بهم ويكسوهم من نوره؟!
إذن مُعادَتهم سمٌ زعاف وسمٌ قتَّال، ومحبتهم وصفةٌ مُجرَّبة، ومن هنا الله – تبارك وتعالى – قال “يا دواد إن أدنى ما أفعل بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أمنعه لذيذ مُناجاتي، يا داود لا تسل عني مَن أسكرته الدنيا أولئك قطّاع الطريقِ على عبادي عني – هم ليسوا علماء على الرغم من أنهم قد يكونون في نظر الناس علماء بلحى وعمائم وجباب، ولكنهم عند الله قطّاع طريق، فهؤلاء هم شباه الأبالسة والعياذ بالله في كل الأديان، والإسلام ليس بدعاً وليس استثناءً، لأن هؤلاء هم الذين أسكرتهم الدنيا بشهواتها وأغراضها وأعراضها ومن ثم لا تسل عنهم الله تبارك وتعالى ولا تسل مثل هؤلاء كيف الطريق وكيف السبيل إلى الله، بل دعهم لأن هؤلاء قطّاع طريق محرومون والعياذ بالله تبارك وتعالى -،يا داود إذا وجدت لي طالباً فكُن له خادماً – الله أكبر، معنى الكلام أنك إذا وجدته ولياً يعبدني على التحقيق والتجريد بصدق النية وخلوص القصد فاخدمه لأُحِبك -، يا داود مَن رد هاربا كتبته عندي جهبذا، ومَن كتبته جهبذا لم أُعذِبه أبداً”، وكأن الله – تبارك وتعالى – يقول ولا يرد الهاربين الشاردين عن سواء السبيل وعن طريق رب العالمين إلا أولياء الله، فلا يردهم أشباه العلماء وصور العلماء الذين لديهم قلوب الأبالسة وقلوب قطّاع الطريق، فهؤلاء حيل بينهم وبين ما يشتهون، وحاشا لله أن يجعلهم وسيلة لرد التائهين إليه، أما الذين يردون الفارين الشاردين التائهين إلى الله فهم أحباب الله وأولياء الله الذين عُمِّرَت قلوبهم وجوانجهم بذكر الله ومعرفته سبحانه وتعالى، ومن هنا قال الله “يا داود مَن رد هارباً كتبته عندي جهبذا، ومَن كتبته جهبذا لم أُعذِبه أبداً”، وقال داود: يا رب فأين أبغيك؟!
أي أين أجدك؟!
قال “عند المُنكسِرة قلوبهم من أجلي”، أي القلوب المجروحة بحب الله والعيون المُقرَّحة شوقاً إلى الله والألسن اللهجة بذكر الله في حلها وترحالها و في ليلها ونهارها وفي سفرها وقرارها، فالله قال اطلبني تجدني عند هؤلاء، هؤلاء هم الأدلة علىّ، فمن أعظم الأدلة على الله أولياء الله لأن – والله العظيم – مُجرَّد رؤياهم بمثابة دليل على الله، فكيف إذا تكلَّموا وإذا أرشدوا وألهموا؟!
كيف إذا أجرى الله على أيديهم ما لا يُقدَر عليه إلا بحولٍ من الله؟!
علمنا أنهم أهل الله وعلمنا ولمسنا لطف الله لمس اليد ورأيناه رأي العين، ولذلك كانوا هم الأدلة على الله بل أن هؤلاء من أعظم الأدلة على الإطلاق، ولذلك لا دليل عليهم – كما قال ابن عطاء الله قدَّس الله سره – إلا من حيث الدليل على الله تبارك وتعالى، لأنهم أهل الله والسبيل إلى الله واحدة.
قال داود: يا رب أين أبغيك؟!
قال “عند المُنكسِرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم كل يومٍ باعا، ولولا ذلك لانهدموا”، أي من شدة الشوق!
في حلقاتي المُتواضِعة عن إمامنا حُجة الإسلام الغزالي – أعلى مقامه في دار التهاني وقدَّس الله سره الكريم – كتب بعض أحبابي وإخواني يتساءل: لم هذا الإمام الجليل والعلم الخفَّاق انخلع من الدنيا ومن مُهِم التدريس ونشر العلم الشرعي والدفاع والذب عن حوضة أو بيضة الإسلام وحياضه وسافر هائماً على وجهه سنين عشر – عشر سنين – ففارق أهله وموطنه وأولاده وزوجه وإخوانه وأحبابه وتلاميذه باحثاً عن الله؟!
ثم يتساءل هذا الأخُ الفاضل – عرَّفني الله وإياه وإياكم وإياكن جميعاً وجمعاوات به ودلنا عليه من حيث دلَّ الصادقين عليه – قائلاً: أليس كتاب الله يكفي؟!
أي القرآن يُعرِّفنا على الله وينتهي كل شيئ، فهل تستأهل وهل تستحق المسألة وهل تستلزم وتتطلَّب وتقتضي عشر سنين سفراً لنبحث عن الله؟!
وهذا سؤال مَن لم يعرف الله، ومن هنا أقول لأخي هذا – دلَّه الله عليه – أنت لم تعرف الله ولم تفهم أصلاً ما هى المعرفة ومن ثم أنت تتحدَّث عن العلم، لكن العلم شيئ والمعرفة شيئٌ آخر، عليك أن تنتبه إلى أن العلم شيئ والمعرفة شيئٌ آخر مُختلِف، فالمعرفة طورٌ وراء طور العلم وهى التحقق بصدق ما عُلِم وبشكلٍ فردي، أي أن المعرفة ذات طابع خصوصي، فمثلاً كلنا يعلم أن الله – تبارك وتعالى – قدير لأنه قال عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، الكل يعلم هذا، كل مسلم يعلم هذا وكل مسلمة تعلم هذا، لكن العارف جرَّب هذا وذاقه وعرفه، دخل في تجربة مُعيَّنة لا يقدر على أن يُنجيه منها إلا رب العالمين فقُطِعَ به – أي أن كل الأسباب مقطوعة ولا سبيل – لكنه استغاث بالله فأخذ الله بالأعين والأسماع والأيدي والجوارح والآلات عنه، هذا هو مقام عرفان، فالآن هو عرف أن الله على كل شيئٍ قدير ولكنه عرف بعدما علم، فكم منا مَن يجهل حقيقة أن الله على كل شيئٍ قدير؟!
لا أحد، الكل يعلم هذا ولكننا نسلك وكأنه لا يقدر على شيئ، ترتعد فرائسنا من فرقنا إلى قدمنا أمام اختبار بسيط وكأنه لا ذوق لنا ولا ذرة من الثقة بقدرة الله لأن لدينا علم وليس لدينا عرفان، ليس لدينا معرفة، وهكذا قيسوا على سائر الصفات والمعاني.
الذي طلبه أبو حامد الغزالي كالذي طلبه إبراهيم بن أدهم من قبله وغير إبراهيم وغير أبي حامد وهو المعرفة، أي المعرفة بالله وليس العلم بالله لأن العلم يُلقَّن تلقيناً، ولذلك دفعوا ثمناً لا نقول باهظاً ولكنه ثمنٌ بالنسبة لأمثالنا من الضعفاء والفقراء كبيرٌ جداً وصعبٌ جداً، لأننا – والله – لا نقدر عليه، أما هم فأقدرهم عليهم مَن جذبهم إليه ووفَّقهم وأراد أن يُسعِدهم وأن يُقيم منهم أدلةً عليه، ومن هنا يقول أحدهم: رأيت أبا إسحاق إبراهيم بن أدهم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ذات عام في الموسم – موسم الحج – وكنت أرقبه – لأنه سيد الأولياء في عصره، هذا كان ابن ملك من ملوك الفرس في بلاد فارس، طبعاً ليس ملكاً على كل فارس وإنما على قطاع مُعيَّن أو كما نقول على مُحافَظة أو إقليم، فليس ملكاً على فارس كلها، وكان أبا إسحاق أميراً مُسرِفاً على نفسه ومُتوسِّعاً في اللذائذ والدعة والشهوات ولكنه ذات يوم كأنه نُوديَ في سره أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ۩، لكن الرواة يُبالِغون ويقولون سمع بأذنه وهذا غير بعيد على كل حال لأن هذا نداء السر، فنزل عن فرسه وكان في رحلة قنص وصيد وقال بلى يا رب قد آن، وخلع لباسه مُباشَرةً من فوره وأخذ لباس أحد الخدم فلبسه ثم ترك أهله وأباه وأمه وزوجه وولده وساح في الأرض إلى أن لقى الله ولم يعد إليهم لأنه يطلب وجه الله – تبارك وتعالى – على الرغم من أنه كان في البداية مسلماً ومُوحِّداً ولكنه ما عرف الله، كان يُصلي ويصوم ويقرأ القرآن ويستمع إليه ولكنه كان في حال لهو عجيب كشأننا تقريباً إلا ما رحم الله منا، فنحن نُصلي ونصوم ونبكي أحياناً ونقرأ القرآن بل نحفظه ونحفظ الأحاديث كشأن الكثير منا ولكننا نكذب ونغتاب ونحقد ونحسد ونغش ونلهو ونغفل كثيراً وننسى كثيراً، فليس لدينا تعظيم لله حقيقي ولا خشية حقيقية ولا رجاء حقيقي ولا اعتماد ولا توكل ولا ثقة ولا شوق ولا محبة ولا هُيام ولا أشياء كثيرة، مساكين إذن نحن ولا حظ لنا، فنحن نلعب بمصائرنا – فرأيته في الطواف يطوف بالكعبة – شرَّفها الله وزداها مهابةً وبراً – ويُطيل إلى غُلامٍ صغير صبوح وضيء حسن الوجه واستغربت هذا – لأن هذا ليس من دأب السالكين فضلاً عن العارفين، إنهم يتجنَّبون فضول النظر اجتنابهم فضول السمع والكلام والأكل – فقلت له يا أبا إسحاق رأيتك تُديم النظر وتُطيله إلى هذا الغُلام، فما شأنه؟!
قال: فبكى – استعبر – وقال يا أخي هذا الغُلام ابني – أي أنه عرفه – وهؤلاء الخدم هم خدمي وغلماني، ولولا شيئٌ بيني وبين ربي لأقبلت عليه وقبَّلته – لأنه من بضع سنين لم يره ومن ثم فهو مُشتاق إليه ولكن بينه وبين الله عهد – فامض إليه واقرأ عليه مني السلام.
قال: فمضيت إليه سريعاً وقلت يا بُني أبوك يقرأ عليك السلام، فضج وقال أين أبي؟!
قال: فأشرت إليه فجاء، فمنعه الخدم بأمر إبراهيم بن أدهم وقال امسكوه، وسلَّم على أبيه فرد عليه السلام ثم أمر بصرفه فصُرِف، ومضى إبراهيم يبكي وأنا أبكي معه وهو يقول:
هجرت الخلق طراً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطَّعتني في الحب إرباً لما حنَّ إلفؤاد إلى سواك
ومن هنا أقول لأخي السائل هذا هو، هؤلاء يا أخي الفاضل يطلبون وجه الله، يطلبون عرفان الله، يطلبون المعرفة الحقة وليس شقشقة الألسن، ومن هنا قلت البركة في علمنا وعلمائنا وكلامنا وقولنا، فعجيب أن يكون العلم والدرس الشرعي سبباً في تمزيق الأمة، عجيب جداً أن يكون سبباً في تباغض الأمة وتعادي الأمة، لأنه ليس العلم الذي يُريده الله وليس الفهم الذي يُريده الله، هو شيئٌ آخر يتعلَّق بحظوظ النفس وبشهوات النفس، ومن هنا أنا دائماً ما أسأل نفسي عن سبب ما أفعل لأنني أعلم أن الله سيسألني يوم القيامة، فهل تظنون أن واحداً منا – أنا أو أنتَ أو أنتِ – سيأتي يوم القيامة ويقول لربه يا رب أنا سعيت في إقامة الدولة الإسلامية – مثلاً – دون أن يقول له شكر الله سعيك ولكن لم سعيت؟!
الله سيقول له: هل سعيت حقاً لوجهي وطلباً لمرضاتي أم طلباً لحظ نفسك بإسم الدولة الإسلامية؟!
وهكذا سيقول أحدهم سعيت لإقامة كذا وكذا وكذا وبناء وتشييد كذا وكذا وكذا، وسيقول له الله أيضاً شكر الله سعيك ولكن لم فعلت هذا؟!
من أجل ماذا؟!
هل حاسبت نفسك وفتَّشت نيتك وأحوالك، أم أنك كنت مُسترسِلاً استرسال الغافلين اللاهين السادرين الساهين فتمن على الله بأنك ساهمت في بناء دولة وفي بناء مسجد وفي بناء جماعة وحزب؟!
الله سيقول لك: أما قرأت كلامي؟!
قال الله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ فقال ابن عباس إلا ليعرفون، رواه الطبري في تفسيره، أي أن الله قال إلا ليعبدوني فقال ابن عباس أن المُراد إلا ليعرفوني، أي حتى يُعرَف الله، فإن عرفنا الله أولاً صحت أعمالنا ومسالكنا – بإذن الله تبارك وتعالى – ومن ثم لا بأس بعد ذلك أن نُساهِم في بناء الدولة والمساجد والمشافي والكتب والعلم، أهلاً وسهلاً بهذا إن عرفنا الله، لكن إن لم نعرفه كان سعينا لأنفسنا لا لله ولا لدينه، فتمزقت الأمة وتحيرت كما هى الآن – والعياذ بالله – إلا مَن رحم الله تبارك وتعالى.
كيف تخشى الله؟!
أنت تخشاه على قدر معرفتك به، إن كانت هذه المعرفة منزورة فضلاً عن أن تكون معدومة فلا خشية، ومن هنا أسأل: بالله هل يخشى الله الذي يُقسِم أعظم الأقسام من أجل أن يتغوَّل ألف يورو ولا مائة يورو حتى من أخيه؟!
هل هذا يخشى الله؟!
هل هذا يعرف الله؟!
يُقسِم الواحد منهم يميناً كاذبة ويقول “والله” من أجل ألف يورو، هذا أمر غير معقول، وأحدهم يغتاب أخاه فإذا عُوتِبَ يقول والله ما اغتبته، وهذا شيئ عجيب، فأنت يا مَن تفعل هذا تجمع كبيرة إلى كبيرة وجريمة إلى جريمة وبائقة إلى بائقة وداهية إلى داهية، ما هذا؟!
أنت اغتبته وقد وقعت في كبيرة، ثم تُقسِم الآن بالله يميناً مُغلَّظة مُوثَّقة أنك ما اغتبته، فهذه كبيرة أخرى أفظع من الأولى، ما هذا؟!
لأنه لا يُوجَد معرفة حقيقية، فأنت تُحِبه – لا إله إلا هو – وتشتاق إليه وتُعظِّمه وتُوقِّره وتبخع لأمره وتخشاه وترجوه وتثق به وتعتمد عليه وتتوكَّل عليه وإلى آخره على قدر معرفتك به طبعاً، ولذلك كان شوق الأولياء إلى الله عجباً من العجب، محبتهم لله كانت عجباً من العجب ، حياؤهم من الله هو عجبٌ من العجب، وإلى آخر هذا المعنى.
مالك بن دينار – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يقول: والله لوودت إذ جمع الله – تبارك وتعالى – الخلائق يوم القيامة أن يقول لي “يا مالك بن دينار”، فأقول “لبيك ربي وسعديك”، فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة فأعلم أنه قد رضيَ عني ثم يقول لي “يا مالك كُن تراباً اليوم”، كأنه يُريد أن يقول لا يهمني أن أكون تراباً فالمُهِم لدي هو أنخ ناداني بإسمي وأذِن لي أن أسجد يوم القيامة بين يديه سجدة عن إذنٍ منه فأعلم أنه رضيَ عني ثم يقول لي بعد ذلك “يا مالك كُن تراباً” لأنني لا أُريد لا جنة ولا غير جنة وإنما أُريد أن أعلم أن الله رضيَ عني.
الله أكبر، هذا شوق عجيب ومحبة عجيبة، من أين له هذا؟!
من المعرفة، هؤلاء عرفوا الله – تبارك وتعالى – وسعوا إلى معرفته.
مر عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام وعلى رسولنا وآل كلٍ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً – بقومٍ ثلاثةٍ – بثلاثة نفر – قد زوت أبدانهم فصاروا كالفراخ وشحبت ألوانهم فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟!
قالوا “خشية النار”، أي أننا نخاف من نار جهنم، فقال “مخلوقاً خفتم، وحقٌ على الله أن يُؤمِّنكم”، وهذا الخوف جميل وطيب ومطلوب لأن الله يقول وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ۩، ثم مر بثلاثةِ نفر حالهم كحال الأولين، زوت أبدانهم وشحبت ألوانهم ، فقال: ما الذي صيَّركم إلى ما أرى؟!
قالوا “الشوق إلى الجنة”، أي أننا نُفكِّر في الجنة دائماً ونعيمها وأنهارها، فهذا الذي أزوانا وأضعفنا وأشحب ألواننا، فقال “مخلوقاً اشتقتم، وحقٌ على الله أن يُبلِّغكم ما أملتم”، ثم مر بثلاثةٍ آخرين قد هزلوا جداً ولكن وجوههم كالمرايا من النور، فيطفح منها نورٌ شعشعاني ويلوح عليها ألقٌ رباني، فأعجبه حالهم جداً وقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟!
قالوا”محبة الجليل”، هذه هى المحبة وهذه هى القلوب التي تنطوي على حب عظيم الله، ولذا يقول الله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ۩ ويقول الله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩،فقال “أولئك المُقرَّبون، أولئك المُقرَّبون، أولئك المُقرَّبون”، إذن الأمر يتعلَّق بالمحبة، ومن هنا كان حالهم عجيب في محبة الله.
قال أحدهم: صحبتُ الفتح بن شخرف ثلاثين سنة – قدَّس الله سره – فما رأيته مرةً رافعاً رأسه إلى السماء حياءاً من الله وأدباً،وبعد ثلاثين سنة اتفق لي أن رأيته يرفع بصره إلى السماء ويرفع يديه يدعو باكياً يقول “إلهي قد طال شوقي إليك – أي ما عدت أحتمل أكثر من ثلاثين سنة – فعجِّل قدومي عليك” فخر ميتاً.
وهذا الأمر معروف، الفتح بن شخرف هكذا مات، وهذا ثابت في كل مَن ترجم له، مات بهذه الدعوة حين قال “إلهي قد طال شوقي إليك فعجِّل قدومي عليك” فسقط، فإذا هو ميت.
وأما فتح الموصلي – قدَّس الله سره – ففي يوم عيد أضحى انصرف الناس من مُصلاهم وقرابينهم بعد أن قرَّبوها ولكن تبعه أحد أحبابه فقال:
فرأيته يمشي في زُقاق ليس فيه ماشٍ، وسمعتهُ يبكي كالذي ينوح ويقول: إلهي وسيدي ومولاي قد تقرَّب الناس بقرابينهم إليك، وإني أتقرَّب إليك يا حبيبي بحزني، إلى كم ذا تدعني محزوناً بالأزقة؟!
أي أنه يُريد أن يقول خُذني إليك، ومن هنا نجد أن أبا إسحاق إبراهيم بن أدهم – قدَّس الله سره – أيضاً يقول “دعوت ربي مرةً فقلت إلهي إن كنت أعطيت أحداً من أحبابك ما تُسكَّن به قلق شوقه إليك قبل لقائك فأعطني من ذلك”، وذلك لأن شوقه إلى الله أضر به ولم يستطع أن يحتمل، ثم استتلى قائلاً: فنمتُ فسمعتُ صوتاً يقول يا إبراهيم أما تستحي تسألني ما أُسكِّن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن قلبُ الحبيب قبل لقاء حبيبه؟!
قال “فقلت يا رب قد توهت في محبتك فلم أدر ما أقول”، أي لا تُؤاخذني، فأنا توهت لأن القلق والشوق إلى يا الله – تبارك وتعالى – أضر بي.
أما الحياء فشأنهم عجبٌ – كما قلت – عاجب وعجبٌ عجيب، ومن هنا الحسن البصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال “لو لم يكن إلا الحياءُ من الوقوف بين يديه – تبارك وتعالى – يوم القيامة لحُقَّ أن نبكي طويلاً”، أي نبكي من الحياء وليس من الخوف، فنستحي منه لأننا نعلم أنه أنعم وأسدى وأفضل وأجمل وستر وأحسن وأعطى وأتم وأكمل ومع ذلك نعصيه ونُخالِف عن أمره ثم نُبارِزه بركوب فرس المعاصي، ولكنه يوم القيامة سيُوقِفنا بين يديه، فماذا نفعل والحياءُ غالب؟!
قال الحسن البصري “حُقَّ لنا أن نبكي طويلاً”، أي يجب عليك أن تبكي طويلاً لأجل هذا، ولذلك كان الفضل بن عياض – رضوان الله عليه – يُكثِر أن يقول “واسوءتاه منك ربي وإن عفوت”، واسوءتاه أي وافضيحتاه، كيف أقف بين يديك وقد عصيتك مرة بعد المرة وإن عفوت وغفرت؟!
ولكن الحياء، فانظروا كيف كان الحياء لديه مُتمثِّلاً في قوله واسوءتاه منك وإن عفوت، ولذلك يروي أحمد بن أبي الحواري عن أحدهم عن الفضيل نفسه – رضيَ الله تعالى عنه وقدَّس الله أرواحهم – أن الفضيل قال “والله لو خيَّرني بين أن أُبعَث يوم القيامة وأُدخَل الجنة وبين ألا أُبعَث لاخترت ألا أُبعَث”، فقيل: لم؟!
قال “الحياء”، أي أنني أستحي من الله، فماذا أقول له وقد عصيته وبارزته بالمعصية؟!
إذن هذا هو الحياء، فهل نستحي من الله؟!
النبي قال ” ليستحي أحدكم من الله – كأن النبي يقول أن هذا أضعف الإيمان وأدنى حد منه – كما يستحي من سيدٍ جليل في قومه”، أي كما تستحي من عالم ومن شيخ صالح اجعل حياءك من الله على الأقل بهذا القدر، ولكن أن تستحي من الناس ولا تستحي من رب الناس فهذه عظيمة، فنسأل الله التوفيق والتبصير.
روى أبو بكر بن أبي الدنيا عن أحدهم قال” كان لنا جارٌ وكانت له أعمال – وصياغته هذه تدل على أدبه، فهو يُريد أن يقول كانت له أعمال سيئة لأنه كان مُسرِفاً على نفسه لكنه صاغها بطريقة مُؤدَّبة، فهم لا يفضحون الناس – ثم تيب عليه – أي أن الله أسعده ووفَّقه إلى التوبة – فترك هذه الأعمال وحسن حاله،فلما احتُضِر أُغميَ عليه ثم أفاق فقال رأيت كأنني مت وكأن أتياً من ربي آتاني فانطلق بي فوقف بي دون الحجاب – وحجابه لا إله إلا هو النور، فلو كشفه لأحرقت سبوحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه – فكععت عن التقدم – يُريد أن يقول لا أُريد أن أتقدَّم – لأن داخلني من الحياء ما الله به عليم – حياءٌ عظيمٌ جداً من ذنوبه -، فكأنه قيل لي ما هو إلا الدخول أو دخول النار – أي إما هذه وإما هذه – وكأني اخترت دخول النار لما داخلني من الحياء، فانطُلِق بي إلى نار جهنم ثم عُرِجَ بي ثم نُوديَ الذي يقودني أن انطلق به إلى الجنة”.
تعست ليلةٌ عصيتك فيها كيف لا أستحي وأنت الرقيبُ؟
هذا هو الحياء من الله تبارك وتعالى.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعرِّفنا به وأن يدلنا عليه وأن يُصلِحنا له بما أصلح له به عباده الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد إخواني وأخواتي:
وأما حالهم في ذكر الله – تبارك وتعالى – فهم السابقون المُفرِّدون كما وصفهم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – حيث قال “سيروا هذا جُمدان سبق المُفرِّدون”، فقالوا: ما المُفرِّدون يا رسول الله؟!
فقال “المُستهترون بذكر الله – تبارك وتعالى – يأتون يوم القيامة خِفافا قد وضع الذكر عنهم أثقالهم”، فأكثر ما يُذيب الذنوب الذكر، لأن الذكر يُزيل الرانة عن القلب، فالقلوب تصدأ ولها جِلاء، وجِلاؤها هو الاستغفار وذكر الله وتلاوة القرآن العظيم، فالذكر إذن هو ما يجلو عن القلوب صدأها، ونحن مأمورون بذكره – تعالى – ذكراً كثيراً، ومن هنا ورد ” اذكروا الله حتى يُقال مجنون”، أي حتى يتساءل الناس عن ما به فيقولون: أبه جنون؟!
إنه الحبُ والفتون، ومن هنا كان رسول الله – صَلَىَ الله عليه وآله وسَلَّمَ تسليماً كثيراً – يذكر الله على كل أنحائها وأحواله، يذكر الله دائماً ولا يفتر، وقال له أحدهم مرة “يا رسول الله كثرت علىّ شعب الإسلام فمُرني بعمل أتشبَّث به”، أي أُريد أن أعمل عملاً واحداً لأنجو، وهذا السؤال لا يُجيبه إلا رسول الله، فلو سألت ألف عالم لم يقفوا على هذا الحديث لأجابوا ربما بألف جواب، فمنهم مَن يأمر بالصوم أو بالصلاة أو بالصدقة أو بكذا وبكذا وبكذا، أي بأشياء كثيرة جداً، لكن الرسول الناطق عن رب العالمين والمُفرِغ عن الغيب قال “لايزال لسانك رطباً بذكر الله”، لأن من المُحال – بإذن الله تعالى – أن يكون اللسان رطباً بذكر الله والعبد قاسي القلب أو شارد اللُب أو غافل ساهٍ، إذن علينا بالذكر على كل الأحوال!
يقول العارف بالله:
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
القطب الرفاعي – مولانا أحمد الرفاعي قدَّس الله سره – يقول:
إِذا جَنَّ لَيلي هامَ قَلبي بِذكركم أَنوح كَما ناحَ الحَمام المُطَوَّقُ
وَفَوقي سَحاب يُمطر الهَمّ وَالأَسى وَتَحتي بحار بِالجَوى تَتَدفّقُ
سَلوا أُمّ عَمرو كَيف بات أَسيرُها تَفكُّ الأسارى دونَه وَهوَ موثقُ
ومعنى قوله “إِذا جَنَّ لَيلي هامَ قَلبي بِذكركم” أي أنني أهيمُ بالذكر، إنه الهُيام والعطش والشوق، فهذا هو!
ورابعة العدوية – رضوان الله عليها – تقول:
إني جعلتُكَ في الفؤادِ مُحدَّثي وأبحتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي
فالجِسمُ منِّي للجَليس مُؤَانسٌ وحَبيبُ قلبي في الفؤاد أنيسي
أي أنها تتكلَّم مع الناس بحكم الظاهر فقط ولكن قلبها باستمرار وفي كل الأحوال مع العزيز الغفار – لا إله إلا هو – ومع الملك الجليل العلي الأعلى الولي الأولى المولى الجبَّار، هذا هو!
أبو حامد الغزالي – قدَّس الله سره – يقول في منهاج العابدين “وذكر الله – تبارك وتعالى – كما عرف المُحقِّقون من أولياء الله له لبٌ لباب – وهو الأصل والمطلوب والغاية والمُنى والمقصود -، ودون هذا اللُب قشورٌ ثلاثة تتفاضل بحسب دنوها من اللُب”
فالقشر الأول هو الأبعد، والقشر الثاني هو الأقرب قليلاً، والقشر الثالث هو الأكثر قُرباً، ثم يأتي اللُب.
القشر الأول هو ذكر الله باللسان، كحال كثير من خلق الله، وهذا جيد لأنه ذكر، فكما قيل نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، على الأقل اشتغل بذكر الله، فإن لم يشتغل هذا اللسان بذكر الله فحتماً سيشتغل بالغيبة والنميمة والكذب والكلام الفارغ والشهوات وسيحتطب في حبال المعاصي، وكلنا نعلم هذا جيداً.
إذن ذكر الله باللسان هو القشر الأول، أما القشر الثاني فهو ذكر الله بالقلب ولكن مع التكلف وحمل القلب على الحضور، لأن القلب سادر في أودية الدنيا وفي عالم الخواطر، فلابد أن نتكلَّف إحضار القلب في الذكر، إذن هذا هو القشر الثاني وهو أفضل من الأول، أما الثالث فهو ذكر الله بالقلب والقلب حاضر مُستمكِن في الذكر بحيث لا يُمكِن صرفه عن الحضور إلا بتكلف كالتكلف الذي في القشر الثاني، ولكن هل هناك ما هو أفضل من هذا؟!
نعم وهو اللُب، فبعد أن يستمكن الذكر في قلب العبد يُفضي به الأمرُ إلى اللُب، فاللُب اللُباب والجوهر المطلوب هو أن يفنى العبد عن الذكر نفسه وعن نفسه فلا يبقى إلا المذكور، وهو ما يُسميه العرفاء بحالة الفناء لأنه يفنى عن نفسه، لكن بعض أهل الظاهر مِمَن لا تحقيق لهم في هذه المقامات البتة يُنكِرون هذا ويُشنِّعون على مَن الله به عليه، وكان يكفيهم مثلٌ بسيطٌ جداً وهو أنك تفنى عن تسعةِ أعشار كيانك إذا كُنت في حضور ملك عظيم جداً مُهاب مهيب، فقد تنسى إسمك وقد تعرف إسمك المُفرَد – عدنان مثلاً – ولكنك تنسى إسم أبيك أو إسم جدك، وطبعاً بالحري تنسى علومك ومعارفك وبيانك وبلاغتك لأنك في حضرة ملك عظيم من الملوك، فهو ليس ملكاً صغيراً، وطبعاً تفنى عن كل الحاضرين فلا ترى لأحدٍ وزناً لا للعلَّامة ولا لرئيس الوزارة ولا لأي أحد أبداً، ترى فقط الملك وتفنى عن كل شيئ، فيكف بالحضور في حضرة ملك الملوك لا إله إلا هو؟!
لا تبقى لك بقية، ولكن العبدُ عبدٌ والربُ ربٌ، وأين التراب من رب الأرباب؟!
إذن الحضور هذا هو اللُب، فنسأل الله أن يُرّقينا إلى هذا المقام الجليل.
اللهم إنك أصلحت لك الصالحين فأصلحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، واهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيم.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (13/1/2012)
أضف تعليق