لئلا ينقلب بنا القارب، خطبة للدكتور #عدنان_إبراهيم، من ثلاثة أجزاء، ستنشر تباعا حول أهمية سؤال تعريف الإسلام؛ هل هو دين عدل ورحمة، أم دين إجرام؟ ولماذا فشلت الأمة في فهم جوهر دينها الحقيقي؟
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.
ثم أما بعد/
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/
يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ *
صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.
إخوتي وأخواتي/
لو أراد أحدنا أن يُعرّف هذا الدين العظيم، لابنه الصغير، أو لطفله الصغير؛ ابنا كان أم بنتا، أو ربما لامرئ من غير المسلمين، يُريد أن يتعرف على هذا الدين، من أين يبدأ؟ وبأي شيء يبدأ؟ ونظره على ماذا؟ أنت تتحدث عن دين، تتحدث عن منظومة عقدية، ومنظومة تشريعية وأخلاقية تزكوية هائلة! ألوف الكُتب التي كُتبت في الإسلام وأنظمته، ولا تزال تُكتب، تزحم المكتبات! كيف يُمكن أن نكتفي، من كل هذا التراث، من هذه الجبال المُتراكمة من المعلومات والمُعطيات، بتعريف لا يخون حقيقة الدين، لا يخون جوهر الدين، يُفرغ عن حقيقته الأساس الأصلية، عن جوهره الأول والأكبر والأهم والأخطر؟
أحبتي في الله/
قضية التعريف ليست قضية ترف أو قضية خيار، وبالذات في أوقات وأعصار الأزمات والمحن والتباس الرؤى وتغبش المنظر وتشوه الفهوم، تُصبح ضرورة من الضرورات، ضرورة لازمة، لا مفر منها. ثمة أسئلة، أنواع من الأسئلة، لا يُمكن أن يُجاب عها بالشكل الصحيح، إلا بعد التعريف السليم. بشكل عام، هذه الأسئلة، ستجد جوابات كثيرة، لكن بالحري كل هذه الجوابات، ستكون غالطة خطأ، ما استندت أو مهما استندت أو إذا استندت، إلى تعريف غير صحيح للإسلام! ستكون خاطئة.
من مثل ماذا؟ الآن، والعالم من عقدين تقريبا، يتحدث عن الإرهاب والإرهاب الإسلامي، ثمة سؤال يُطرح، لا أدري هل هناك مَن طرحه؟ أنا سأطرحه الآن؛ هل هم إرهابيون مسلمون، أم مسلمون إرهابيون؟ هذا ليس تلاعبا بالكلمات. فرق كما بين المشرق والمغرب، بين المقامين، وبين الموردين، وبين السؤالين. ماذا يُوظف ماذا؟ ماذا يخدم ماذا؟ ماذا يبعث ماذا؟ هل الإسلام هو الذي يُوظف الإرهاب، فالإسلام إرهابي؟ هل الإسلام هو الذي يبعث على الإرهاب؟ هل الإسلام هو الذي يُنتج الإرهاب، فالإسلام إرهابي، أم الإرهاب هو الذي يُوظف الإسلام، الإرهاب هو الذي يبعث رؤية مُشوهة وشائهة للإسلام، يتوسل بفهم غير سديد وغير سليم وغير صحيح للإسلام؟ وهذا موجود! لأن الإنسان كما قلنا غير مرة، المفروض أن يُوضع في قائمة، في رأس تعريفاته، أنه حيوان أو كائن مُؤول. الإنسان كائن مؤول، لا يترك شيئا خاما كما هو، يُعيد إنتاجه باستمرار، وخاصة المعنى! يُعيد إنتاج المعنى باستمرار، وخاصة إذا كان هذا المعنى تتعلق به مصائر وأقدار وحاضر ومُستقبل أُناس وأُناس كثيرين!
هذا دين يعتنقه ربع العالم الآن، لذلك لا بد أن يكون التعاطي مع القضايا التي تمت إليه، مُتسما – هذا التعاطي – بالصدق، بالإخلاص، بالصفاء، بالطهارة، وبالجدية. طبعا الشرط الأول غير مُتوفر في كثيرين من المُغرضين الشانئين، الذين لا يهمهم أن يُنصفوا هذا الدين، ولا أن يخدموا البشرية أبدا، أبدا! هم يهمهم أيضا أن يُعيدوا توظيف هذا الدين، إعادة إنتاج هذا الدين، بطريقة ما، تخدم مصالح أُناس مُعينين، جهات مُعينة، باعثها الهيمنة والتسلط والإثراء والاغتناء والقهر وتبرير مسالك مُتوحشة.
انتبهوا، أعجب أحيانا كيف يغدو ذهن وعقلية كثيرين من المُحللين حول العالم، وخاصة في العالم الغربي، ضحلا جدا! ذهن ضحل! يغدو هذا الذهن المُحلل، ضحلا جدا، فقيرا جدا بالخيال! مع أنه في غير هذا، مُفعم جدا بالخيال! بمعنى ماذا؟ بمعنى أنهم حين يتعاطون مثلا مع مقولة الإرهاب الإسلامي، الإسلام والإرهاب، سُبحان الله العظيم! يفتقرون تماما إلى الخيال حتى العلمي والتحليلي، وتُصبح المسألة واحدية بسيطة مُسطحة وخطية؛ دين شرير، يُنتج أُناسا شريرين! انتهى كل شيء. لا بد أن يُقوّموا بكل الوسائل المُمكنة، بما فيها العنف والقوة والتسلط، وإلا فلنتخد خطوات أكثر عنفا! هذا إرهاب آخر، هذا إرهاب ألعن بكثير ربما، وأخوف بكثير على البشرية ومصير البشرية، من هذا الإرهاب سطحوه، وكذبوا! كذبوا على أسسه، وكذبوا في تحليله.
أين السيكولوجيا Psychology؟ أين السوسيولوجيا Sociology؟ أين ال Economy؟ أين الأنثروبولوجيا Anthropology؟ أين السايكوباثولوجيا Psychopathology؟ أين كل هذه العائلة من اللوجي Logy واللوجي Logy واللوجي Logy؟ لا فرد منها، لا فرد موجود هنا الآن، من عائلة اللوجي Logy. لا تُوجد مُقاربات سيكولوجية، وسيكوباثولوجية، وأنثروبولوجية، وسوسيولوجية، وإيكونومية، وبين حضارية، كله غير موجود! وثقافوية، غير موجود! دين شرير، يُنتج أُناسا شريرين! انتهى كل شيء. عجيب! عجيب! هكذا؟
وطبعا ما يفقأ الأعين كل يوم، أنه حين يرتكب امرؤ ما، جريمة وحشية، ورائحة الفاشية أو النازية أو العنصرية والتعصب الديني أحيانا، تكون فائحة منها، يُقال لا، مُقاربة باثولوجية، سيكوباثولوجية! مُختل عقليا، يُعاني من أشياء كثيرة! ولماذا أولئكم ليسوا مُختلين؟ مَن قال لكم إنهم ليسوا مُختلين؟ هل فحصتم عليهم؟ هل درستموهم وقاربتموهم سيكوباثولوجيا؟ لا، أليسوا هم مسلمون؟ فهم أبناء هذا الدين الشرير، وهم أشرار! واضح أن المسألة مُسيسة ومؤدلجة و(مُقرفة)، هذا شيء مُقرف.
بالأمس القريب جدا، كان هذا الدين، على مدى الحرب الباردة – تقريبا نصف قرن، على مدى نصف قرن -، كان حليفا للغرب الأوروبي المسيحي، اليهومسيحي، في مُحاربة الإلحاد والماركسية والشموليات. سُبحان الله! بين عشية وضُحاها، وتقريبا بلا مُقدمات، بطريقة افتعالية، تحول هذا الدين، بقدرة قادر، إلى دين شرير، يُهدد البشرية، ويُهدد أهله، والعالم كله!
هذا لا يُزعجنا، بقدر ما يُزعجنا، أنك تجد أنفارا، هنا وهناك، مُلتحين وغير مُلتحين، يقومون بالآتي! وواضح أنهم مُتحمسون لدينهم، لكن على طريقتهم، انتبهوا! أي الحماس لا يغري ولا يغر، وليس لازما، حتى لو أدى بصاحبه إلى الموت، أن نُحيي جُهده، نُحيي جُهده في فهم الإسلام، نُحيي اجتهاده في تعريف الإسلام! لا، لن نُحيه، لن نقتنع به، لن نُثمره، لن نحترمه، لن نرفع له القبعة؛ لأنه مات في سبيل دينه! لا، قبل هذا هو جنى على دينه. تجد هؤلاء الأنفار، هنا وهناك – عجيب! – يتعاطفون مع هذا الإرهاب، الذي تتواتر الأدلة على أنه صنيعة أجهزة استخبارات عالمية، أدلة كثيرة جدا! الغرب يقولها، شباب الغرب هنا وشواب الغرب يفضحون هذا، وأشياء فاقعة أيضا، تفقأ العينين الثنتين!
ولماذا أنت يا ذا اللحية، يا صاحب اللحية، يا أيها الإسلامي أو الإسلاموي، مُتعاطف مع هذا الإرهاب، وتُعطيه مددا جديدا وتبريرات وتسويغات مفاهيمية وتأويلية جديدة، وأحيانا قد تقضي ضحية له ولأهدافه؟ أنت مشكوك في أمرك، على مُستويات كثيرة. ليس بالضرورة، كما أقول دائما من عشرين سنة، من ربع قرن، الخيانة التعاقدية، لا! هناك خيانة اللياقات، لياقة الصدق والإخلاص والطهورية، ولياقة الفهم والعقل المُتزن.
أيها الإخوة/
مَن قال إن الإنسان المؤول، إن الإنسان المُفسر، إن الإنسان حين يتعاطى مع نص ما، أيا كان هذا النص، خاصة إذا كان نصا مُقدسا دينيا، مَن قال أنه بارئ بالمرة من ماضيه، من مُؤثراته الاجتماعية والنفسية والبيئية الصغيرة والكبيرة؟ مَن قال إنه يأتي بشكل نظيف وRein ومُحايد تماما؛ لكي يستقري ويستشهد ويستشير النص، حتى إن تسلح بالخطوات اللازمة، أو ببعضها، وبالآليات اللازمة، كآليات قراءة النص – في السياق الإسلامي علم أصول الفقه -؟ هذا هو Hermeneutics المسلمين! هرمنيوطيقا المسلمين هي علم أصول الفقه، وحُق لنا أن نفخر به، مع أنه لم يُوف على الغاية.
لا صنعة بشرية تُوفي على الغاية، انس! كل جهد بشري يحتاج إلى تكميل وتتميم باستمرار، وإلى إغناء وإخصاب باستمرار، وإلى استدراك وإضافة وحذف باستمرار، جُهد بشري! لكن الأمم حين تتحنط وتتجمد وتدخل في غيبوبة عقلية، ترى الأمور استكماليا؛ كل شيء كامل مُمتاز، وهذا مُنتهى المُراد من رب العباد! وهذه علامة الغيبوبة العقلية والحضارية، واضح هذا على كل حال، لكن حُق لنا بالمُجمل أن نفخر بهذه الآلية المُعجبة؛ آلية علم أصول الفقه، في مُقاربة النص الإلهي وتفسيره وتأويله وإعادة إنتاجه مفاهيميا، شيء عظيم جدا جدا.
على كل حال، قد يفعل هذا، ولكن انتبهوا، مُشكلة النصوص أنها طيعة، وخاصة حين تكون نصوصا، وليس نصا مُفردا واحدا، أكثر من ستة آلاف آية، عدد كبير جدا، وعشرات ألوف الأحاديث طبعا، ومئات ألوف ومئات ألوف الفهوم والتفاسير والتأويلات، لسيدي فلان وسيدي علان والإمام فلان والإمام كذا، موجودة! أليس كذلك؟ كل هذا تراث الآن، يُتعاطى معه. ما يهمنا يا إخواني، وما ينبغي أن نؤكد عليه بإلحاح عنيد وبإصرار مُثابر، لأنفسنا ولغيرنا، ومع أنفسنا ومع غيرنا، أن المعركة وأن النزاع وأن الجدال، ليس بين النصوص، بين الفهوم. هذه بديهية! لكن مَن يفهمها حقا؟ مَن يصدر عنها حقا؟ مَن يفي لها ولا يخونها حقا؟ قليل، أقل القليل.
الإمام علي – عليه السلام، وكرّم الله وجهه – بنفاذ عجيب، بثقوبية، بصائبية نادرة جدا، ما شاء الله! دعاه الخوارج، الذين – والعياذ بالله – قيضهم الشيطان؛ لكي يكون مصرعه على أيديهم بعد ذلك قريبا، قريبا! دعوه إلى كتاب الله! عجيب! يدعون الإمام عليا، ابن عم رسول الله، أول مَن أسلم من الصغار، أسلم في الساعة الأولى، إن لم يكن في الدقائق الأولى، للإسلام! يدعونه هؤلاء الأجلاف الغلاظ الجهلة، إلى تحكيم كتاب الله! كأنه يصدر عن هواه وعن رأيه، أو عن كتاب أرسطو Aristotle ربما ولا كتاب لا أدري ماذا! فانظروا إلى الجواب العبقري، الذي حفظه التاريخ وأنصفه!
قال لهم كتاب الله (القرآن) خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال. لا تقل لي كتاب الله، حكّم كتاب الله. كتاب الله موجود، انتبه! بأي معنى أحكّمه؟ بأي تفسير؟ بأي فهم؟ بأي نظرية؟ بأي خلفية؟ أنت فقط ترفع شعارات؛ حكّم كتاب الله، وتقول هذا لعلي؟ نعم طبعا أنا سأحكّم كتاب الله، لكن لفهمي إزاء فهمكم، ولتأويلي إزاء تأويلاتكم.
إذن الإمام علي، أراد أن ينقل اللعبة كما يُقال أو الصراع، إلى المُربع الصحيح، إلى الساحة الصحيحة؛ صراع فهوم، صراع تأويلات، صراع بشر مع بشر، عقل مع عقل، ذهن مع ذهن، مِزاج مع مِزاج، وليس نصا مع نص، كذب! النصوص إلهية، تتصادق ولا تتكاذب، تتساعد ولا تتناكد، تتوافق ولا تتناقض، هذه النصوص! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا *، لا يُوجد اختلاف، هذا كتاب مُتآزر، لكن ما بال التأويلات غير مُتآزرة، مُتشاكسة، حد الموت، حد الاستباحة، حد القتل؟
تعرفون، أحيانا – وهذا يعرض لي كثيرا، من سنوات، كثيرا! وأعتقد يعرض لمُعظمكم – في لحظات الصفاء والخلوة النفسية والتحرر من تأثير الآني وضغوط الراهن الذي يحصل هنا وهناك وهناك والأخبار التي تسمعها هنا وهناك من هؤلاء وعن هؤلاء في هؤلاء لأجل هؤلاء، أي حين تتحرر من كل هذا، تجتاحك مشاعر مُرعبة قابضة، حين تستذكر هذه الحقيقة؛ أن اشتراكنا في الإيمان بالله وكُتبه ورُسله وملائكته طبعا واليوم الآخر، وإجماعنا واشتراكنا واجتماعنا على أركان الإسلام الخمسة، عمليا ليس كافيا لئلا نُبغض بعضنا بعضا حد الذبح، حد التكفير، حد اللعن! تشعر بشيء مُرعب، أقسم بالله العظيم!
إذا كان كل هذا غير كاف، فما الذي سيكون كافيا؟ لا شيء. الكارثة! وقلتها مرة هنا على هذا المنبر؛ الكارثة. حين تسيل بحور دمائنا، دمائي ودمائكم بحورا، وحين لا يبقى أحد في مأمن ولا بمنجاة، حينئذ نكون قد رأينا العذاب الأليم؛ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ *، وسنقول هيا إلى خُطة أكثر عدلا وإنصافا ومعقولية في فهم النص. (صح النوم)، ما شاء الله عليكم! تبا لكم! تبا لكم وتبا لهذا الإجرام في حق دين الله وفي حق أمة محمد! كل هذا غير كاف؟
أنا أعرف وتعرفون – أعرف وتعرفون، أكيد مررنا بحكايا كثيرة – رجالا، يحيق بهم ظلم لا تحتمله الجبال، من أشقائهم، من أخيه لأبيه وأمه! ظلم لا تحتمله الجبال، على جميع المُستويات! إلا أنه يعتصم بالحلم، بالإغضاء، بالمُسامحة، ولا يقطع الحبال، وبالعامية (يُمشّي الأمور). إذن لماذا؟ لماذا؟ منطق غير مفهوم! لا، مفهوم تماما، وهو المنطق الوحيد الذي ينبغي أن يكون مفهوما؛ لأن هناك الأخوة، التي تعني في الأخير ماذا؟ علاقة بالأب والأم. هناك أبي وأمي، وأخي لم يأت من الفضاء، أخي ابن أبي وأمي، وخاصة إذا كان أبي وأمي لا يزالا في قِيد الحياة – في قِيد، وليس قَيد. في قِيد الحياة -! فطبعا الأخوة عند هذا المُغضي الكريم أكبر من كل الظلم الذي يحيق به، أكبر من كل الخسارة التي فدحته، أكبر! لكن نحن، الله ورسوله وكتابه، ليسوا أكبر، من ثاراتنا، من وجوه بُغضنا، من حقدنا! عجيب! على ماذا؟ وبسبب ماذا؟ لماذا نختلف؟ إذا أركان الإيمان الستة تجمعنا، أركان الإسلام الخمسة نتشاركها، فما الذي نُريده فوق ذلك؟ ما الذي يُمكن أن يجمعنا؟
ولذلك أنا أقول لكم سؤال تعريف الإسلام، مُهم ومُهم ومُهم إلى انقطاع النفس، على أكثر من مُستوى، ليس فقط لعلاج الإرهاب، الذي يُنسب إلى الإسلام. أنا لا أُنكر أن هناك إرهابا يقوم به مسلمون، لكن حتى وصفه بالإسلامي لي عليه ألف تحفظ. أن يُقال هذا إرهاب الدين، هذا الدين يُنتج الإرهابي، فلا، انتبهوا، هذا ظلم وقباحة فكرية وإغراض مريض، إغراض مريض بادي العورة!
هذا الدين أمته في التاريخ لها وعليها، لكن باعتراف المُنصفين من الأمم الأخرى، كانوا أرحم فاتحين عرفتهم البشرية. اعتدوا على الآخرين، نعم! وفتحوا بلادا بغير مُسوغ ديني، بغير مُسوغ قرآني. المُسوغ الفقهوي موجود، أعرف أنه موجود، انس! المُسوغ القرآني الواضح غير موجود. الاعتداء على الناس هذا بحُكم قانون الزمان، والغير يفعل! أي هم لم يكونوا ملائكة ومُطهرين. غيرهم فعل، وهم فعلوا! ولكن جرائمهم كانت أقل، ضحاياهم كانوا أقل، رحمتهم كانت أوسع. لا أقول هذا أنا! لو قلته، لكذبتموه، ولحُق لكم! لكن قاله الآخرون المفتوحون، الذين ظُلموا وسالت دماؤهم أنهارا أيضا. قالوا هم أرحم من غيرهم، بما لا قياس معه.
إذن هذا الدين بطبيعته لا ليس دينا شرير بالمُطلق، غير صحيح! الأمة نعم أجرمت في حق دينها، حين انحرفت عن مساره الإلهي، حين لم تفهم الجوهر الحقيقي لهذا الدين. ستقول لي ما شاء الله! وأنت جئت في القرن الخامس عشر؛ لتفهم الجوهر؟ باستمرار ظل هناك مَن يفهم جوهر الدين.
إن الذي جعل الحقيقة علقما…..لم يُخل من أهل الحقيقة جيلا.
باستمرار ظل هناك مَن يفهم جوهر الدين، ومَن يفي لجوهر الدين، ولكن قلة مُستوحشة، وتُحارب وتُتهم، وربما حتى تُستبعد بالقتل أو بغيره! موجود! لأن هناك برامج إمبراطورية، خُطط توسعية قهرية هيمنية تسلطية. والبشر بنزوعه يُحب هذا على فكرة، انتبهوا! البشر في أعلى قمم حضارته، يُحب هذا. أنت لو تقرأ هذا الشيء، لا تكاد تُصدق! تقرأ لفلاسفة سلاميين، من درجة أولى، مثل برتراند راسل Bertrand Russell، الذي دخل السجن؛ لأنه ضد الحرب، ومع ذلك الرجل كان واقعيا، وكان يقول على أي مدنية وأي حضارة وأي مُجتمع ودولة مُتحضرة، أن توفر وسائل مُعينة للبشر؛ لكي يُنفسوا عن ماذا؟ عن الغريزة العدوانية التدميرية التهديمية التي فيهم. موجود هذا! إذا لم يُنفس عن هذه الغريزة بطرق حضارية، فسيُنفس عنها بطرق توحشية. تتذكرون أيام البوسنة والهرسك في التسعينيات سياحة القتل، في أوروبا، أوروبا في القرن العشرين! سياحة القتل. يدفع ألوفا، لا أدري كم ألفا، ويأتي إلى البوسنة؛ لكي يصيد البشر، وكانوا مُسلمين طبعا. صيد! بدل أن يصيد على النينتندو Nintendo وماريو Mario واللعب هذا، لا! صيد حقيقي.
هل حدثكم أحد عن الفيلق الأجنبي في الجيش الفرنسي؟ من ألف وثمانمائة وثلاثين، موجود إلى اليوم! اقرأ واكتب واعمل بحثا عن الفيلق الفرنسي، ثمانون في المئة من أعضائه ماذا عنهم؟ لا تُوجد معلومات دقيقة، لكن يُقال وصل أحيانا إلى الخمسين ألف عضو، خمسون ألف مُجند في هذا الفيلق! مثل الفيلق الروماني، لكن على أبشع. انظر الفيلق الفرنسي – موجود إلى اليوم على فكرة – وماذا يُمارس وماذا يعمل وما أعماله، ولكن هذا كله ماذا؟ كله إرهاب وإجرام وبشاعة رسمية مُدولنة، باسم الدولة! يفعلون هذا دائما، على كل حال ليس لنا علاقة.
وتستغرب من أن برتراند راسل Bertrand Russell، على ما أذكر، مرة ذكر أن النيو غينيا، سكان النيو غينيا، حين جاءهم التحضير الغربي بالقوة، ومنعوهم من مُمارسة رياضتهم المُفضلة، عبر ألوف السنين الماضية، وهي صيد الرؤوس – كانوا صائدي رؤوس، فقالوا لهم ممنوع صيد البشر -، أصابتهم حالة Depression، وأصبحوا مُكتئبين، وفقدوا كل طاقة إنتاجية. ينتعشون على هذا! وقال لك الدين! الدين خطير، فهم الدين قضية خطيرة، الدين جاء لكي يُهذب هذه الحيوانية فينا، الدين يُلجم هذا الوحش المُنطلق في البشر، انتبهوا! هذه رسالة الدين الأصلية، لا لكي ليمده بأمداد جديدة من الأشلاء والدماء، ويقول لك الدين! الدين والجهاد يا أخي!
إذن قضية التعريف قضية خطيرة. هل هم إرهابيون مسلمون، أم مسلمون إرهابيون؟ ماذا يُوظف ماذا؟ ماذا يبعث ماذا؟ ماذا يُنتج ماذا؟ هذه قضية الجواب عنها، أو هذا السؤال الجواب عنه، مرهون بالتعريف! كيف تُعرّف دينك؟ طبعا واحد يقول لي والله القضية مُحيرة يا أخي هذه، القضية مُحيرة جدا جدا! كيف أُعرّف ديني؟ التعريفات لا تنتهي! بعضهم – وكان ردا علي وعلى أمثالي، مِمَن نؤكد على أن هذا الدين دين رحمة بدرجة أولى وأساسية وتأصيلية، رحمة، دين رحمة – يقول لك لا، نحن نقول دين عدل. لماذا؟ العدل هناك ما هو أجمل منه؟ هل هناك أحد لا يحتاجه؟ كلنا نحتاج إلى العدل. نحن نعيش في عالم فيه أقدار غير قليلة، غير يسيرة، من الظلم، أليس كذلك؟ نهفو، نتشوف، نتعشق العدل! لكن انتبه، هو يُريد أن يُصدر العدل؛ حتى لا يضيع عليه ماذا؟ القتل، الجهاد، وأشياء أخرى كثيرة. فلذلك يقول لك هذا. يقول لك رأي، رأي ورأي. رأيك أنت أنه دين رحمة، رأيه هو دين عدل. لا، هكذا دخلنا في عدمية مفاهيمية. ليست حكاية رأي ورأي، وطبعا هو رأيه، وهو حر، وهذا رأيك ورأي هذا ورأي ذاك، لا تُوجد مُشكلة، ولكن انتبه، ألا تُوجد معايير؟ القضية مُباحة هكذا؟ وهذا دين خاتم، رسالة خاتمة! الله هو الذي يتكلم، لا إله إلا هو! ألا تُوجد معايير؟ لا! تُوجد معايير، كيف لا تُوجد معايير؟ ومعايير واضحة، واضحة جدا وبيّنة ولائحة – بفضل الله تبارك وتعالى – ومعقولة، معقولة بدرجة كبيرة جدا. سأكتفي بمعيارين من هذه المعايير، للتعريف وإعادة التعريف.
المعيار الأول التردد Frequency، التردد! إذا الشيء يتردد في كتاب الله دائما وكثيرا، فماذا يعني؟ كيف الله يُعرّف نفسه؟ الله! نحن نقول الله يُعرّف نفسه. الله! الله له الأسماء الحُسنى كلها، والصفات العُلا كلها، ما علمنا منها، وما لم نعلم؛ لأن هناك الكثير مما استأثر به لذاته، لا إله إلا هو! لا يناله الفهم البشري. أنت تتحدث عن المُطلق، لا إله إلا هو! إذن، التردد. ما هو أكثر اسم ووصف في كتاب الله، بعد اسم الله؟ الرحمن. القضية إحصائية، هذه ليست قضية انتخابية، إحصائية. اذهب وادخل على الحاسوب، واعمل بحثا، على المُعجم المُفهرس اعمل بحثا، أحص بنفسك. أكثر اسم من أسماء الله يتردد في كتاب الله الرحمن.
ليس هذا فحسب، جُزء الإعلانية – الإعلانية ستأتي فيما بعد أوضح – قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ *، لماذا إذن الرحمن؟ فهناك الجبار، ادعوا الله أو ادعوا الجبار، ادعوا الله أو ادعوا المُنتقم، ادعوا الله أو ادعوا المُهيمن، ادعوا الله أو ادعوا أي اسم له. لا! ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى *، الله أكبر! بحثنا، فوجدنا أن الرحمن أكثر اسم يتردد بعد اسم الله، عدديا! نفتح المُصحف، نجد في بداية كل سورة، باستثناء التوبة (براءة)؛ بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم. تفتح المُصحف، أول سورة الفاتحة، بعد بسملتها، منها أو ليست منها؛ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *، ليس رب المسلمين، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! واضح معيار التردد يخدمنا.
إذن مَن شاء، مَن انتهى به اجتهاده، إلى أن الدين ينبغي أن يُعرّف كرحمة، فله هذا. هذا رسالة رحمة. عيسى عرّف دينه، المسيحيون عرّفوا دينه وخانوه، خانوا عيسى وخانوا التعريف، وسأقول هذا أيضا، وسأربط هذا بخيانة الإسلام. قالوا دين محبة، رسالة محبة، الله محبة، الرب نفسه محبة. جميل! القرآن قال لك ماذا؟ الله رحمة، الإسلام رحمة، الدين رحمة. أليس كذلك؟ بأي معيار؟ بمعيار التردد، تردد Frequency!
والمعيار الثاني أوضح وأقصر، صارم قاطع؛ معيار الإعلانية. حين يُعلن الله – لا إله إلا هو – بنفسه، يقول لك هذا الدين جوهره كذا كذا كذا، محوره كذا كذا، قُطب رحاه كذا كذا، أساسه كذا. انتهى، لا يبقى مجال ولا مقال لأي قائل. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا *، استثناء من عموم الأحوال، استثناء من عموم الأحوال! وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *. فرق كبير بين هذه الآية، وبين ما لو قال إنا إرسلناك رحمة للعالمين. لم يقل إنا إرسلناك رحمة للعالمين، قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ *، أصلا من أجل هذا كانت الرسالة، من أجل هذا كانت الرسالة!
الحديث الصحيح، المُخرّج في الصحيح، والذي ربما ابتذلناه؛ لكثرة ما كررناه. هل فهمناه؟ سنرى الآن، سنرى الآن! والذي نفسي بيده، لن يَدخل أحدكم الجنة بعمله. ويُروى لن يُدخِل أحدكم الجنة عملهُ. النبي يُقسم! قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، إلا، أو حتى، يتغمدني الله برحمة منه. رحمة! قال ليس العمل. لا تظن أنه بالصلاة وبالصوم وبالزكاة وبالحج وبالعمرة وحفظ القرآن وحفظ الأحاديث والخطابة على المنابر، تدخل الجنة. النبي قال والله لن يحدث. والله لن يحدث هذا. النبي قال! والله – قال – لن يحدث. لن تدخل بهذه الأشياء. يا رسول الله، قطعت قلوبنا، قطعت نياطنا! إذن بماذا؟ قال برحمة الله. جميل! جميل! وستقول وهذه الأعمال طريق رحمة الله؟ طريق، لكن ليست مضمونة دائما، وليست مضمونة مئة في المئة. لماذا إذن؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *. قبل منك صلاتك؟ قبل منك حجك، عمرتك، حفظك للقرآن، تجويدك له بالقراءات الأربع عشرة وليس العشر؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *، الله أعلم، الله أعلم! ليس مضمونا، أليس كذلك؟ لا نعرف.
لكن هناك طريق أنا أقول لكم مضمونة. وهذه الطريق لا بد منها! طريق الصلاة والصوم والزكاة لا بد منها، هذا الدين! لكن طبعا الدين أيضا، والدين في العُمق أيضا والجوهر، مع الإعلان، مع الأساس؛ مَن لا يَرحم، لا يُرحم. ارحموا مَن في الأرض، يرحمكم مَن في السماء. طريق مضمونة وواضحة، من أقصر الطرق لنيل رحمة الله، استحقاق رحمة الله تبارك وتعالى، أن ترحم ماذا؟ أن ترحم عباده. ليس إخوانك المسلمين فقط، عباده، حتى كما قلنا في خُطبة قريبة كل ذات كبد رطبة، كل كائن حي، ارحم، حتى الخنزير والكلب.
كم تُعجبني المقاطع الطيبة للإخوة الخليجيين – كثر الله من أمثالهم -! يكون في جوف الصحراء، في المفازة المُدوية، وينزل من سيارته، من عربته؛ لكي يسقي ثعبانا، حية! في الصحراء، والله تُعجبني! وأنا أكثر شيء أكرهه الحيايا، عندي فوبيا Phobia من الحيايا، لكن أُحاول أن أجعل عقلي يتحكم في عواطفي، في مِزاجي الفوبيائي هذا. هناك أشياء مررت بها وأنا طفل، انتهى، عندي فوبيا Phobia حيايا! لكن أعلم أن هذه رحمة، رحمة جميلة، أستعبر معها، أشعر برقة غير طبيعية! حتى حية، تستأهل، لماذا لا؟ وتُحرك رأسها بطريقة كأنها تشعر بالامتنان له، سُبحان الله يا أخي! شيء عجيب! في كل ذات كبد رطبة أجر. النبي قال في كل ذات كبد رطبة أجر. حتى هذه الحية، حتى الخنزير والكلب، الرحمة! الرحمة!
قال ماذا؟ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ *، مُهيأة، مُزيّنة، لِلْمُتَّقِينَ *. مَن هم يا رب؟ قال الَّذِينَ *…يُصلون ليل نهار، ويحجون كل سنة؟ لا، لم يقل هذا. قال الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء *. الإعطاء، تُعطي، تُعطي مَن؟ أصحاب الملايين؟ لا، تُعطي مَن يحتاج، الأرملة، المسكين، الفقير، المديون، (الغلبان)، غير القادر على أن يأكل، السوري الذي يموت من البرد، غير القادرة على أن تزوج ابنها، غير القادرة على أن تزوج ابنتها، التي لا تجد بطانية، التي لا تجد لحافا، التي لا تجد ما تُعلّم به أولادها، الذي لا يجد ما يُعلّم به أولاده وبناته. أنفق، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء *. إذن وماذا بعد؟ والصلاة؟ وأين الصلاة؟ وأين الصلاة؟ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ *، لا تغضب على الناس، لا تكسر قلوب الناس. ليس لأنك مسؤول عليهم، لأنك مُدير في شركة، لأنك زوج، لأنك أب، لأنكِ أم، لأنك رئيس جهاز استخبارات أو أمن، لأنك أيا ما تكون، تكسر بخاطر مَن دونك، تقهره، تنهره، تلعنه، تشتمه، تُقبّح له. ممنوع، إياك! اكظم غيظك، حتى وإن كنت رئيسا، وإن كنت وزيرا، وإن كنت رئيس جهاز أمن، اكظم غيظك، كما قلنا في الخُطبة السابقة اعف عن هذا، تجاوز لله، تذكر قدرة الله عليك.
الحجاج بن يوسف، الذي باء بإثم ألوف، قتلهم المُجرم ظلما، ومات وفي سجنه ثمانون ألفا، هكذا ظلما! لكن مرة واحدة استجاب، يُريد أن يقتل شابا، جاءت أمه، تتوسل إليه! قالت له أيها الأمير، أيها الوالي، سألتك بالذي هو عليك أقدر منك على ابني. فاهتز لها الحجاج، وقال اذهبي، عفوت عنه. ذكرته للحظة!
هذا الرجل؛ أبو محمد، فوزي، هذا مرة ونحن نطوف بالكعبة، رأى أحد الحجاج – ولا نعرفه، لم يكن من مجموعتنا -، وقد أتى شيئا، أي خطأ ربما، لا أدري ما هو، جاءته الشرطة السعودية، تعال هنا! أرادوا اعتقاله والتحقيق معه. طبعا خاف الرجل، خاف أن تُقطع عليه حجته، وربما أن يؤخذ إلى بلده وأن يُسجن وما إلى ذلك، خاف الرجل! والمُهم، الطواف مُستمر، ووقف الأخ فوزي – ها هو، بارك الله فيه -، أنا تُعجبني هذه الأشياء، لا أنساها، تؤثر في كثيرا، أي أنا لا أذكر لا حجته ولا حجتي، لكن أتذكر هذا الموقف مثلا، لا أنساه، لا أستطيع أن أنسى هذه المواقف، لا أستطيع! قال له يا أخي، الرجل حاج وكذا وكذا. فقالوا له ابعد يا حاج، حج، وامش. قالوا له امش. بقوة نهروا فوزي. أبدا! ركب رأسه الرجل – وبارك الله فيه، كثّر الله من أمثال هذه الرؤوس، فيها نخوة العدالة، رحمة المسلم بأخيه، بالبشر -، قال لا. قال لهم الله – طيلة عمري لا أنسى هذا – تبارك وتعالى نُخطئ في حقه، في جانبه، ويعفو عنا، ألا تعفون؟ قال له بارك الله فيك يا حاج.
والله هؤلاء الخليجيون فيهم خير كثير. الله يُحب الإنصاف، أليس كذلك؟ فيهم خير كثير، فيهم تواضع، فيهم عطاء، وفيهم نفقة أيضا، كثّر الله من خير أمة محمد، كثّر الله من الخير في العالمين. أنا أُحب الإنصاف. فسُبحان الله اهتز لها! وكانوا أكثر من شرطي على ما أذكر. قال له يا حاج بارك الله فيك. اذهب يا أخي. وانتهى كل شيء. تأثرت جدا أنا، تأثرت بهذا المسلم، الذي فعلا حين ذُكِّر بالله، ذكر. ذُكِّر بالله! ذكَّره بالله، قال له نحن في حق الله نغلط، الله عز وجل! ويعفو عنا. اعف عن هذا الرجل. قال له انتهى، انتهى كل شيء. هذا الصحيح، سألتك بالله الذي هو أقدر عليك منك أيها الأمير على هذا؛ على ابني، أن تعفو عنه. استكان لها، بخع لها. قال عفوت عنه. هذا الشيء عظيم!
لذلك يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ *. إذن وأين الصلاة يا ربي؟ إلى الآن لا تُوجد صلاة ولا يُوجد صوم؟ ما الذي يحدث؟ وأين الحج؟ وأين العمرة؟ تُحدثنا عن جنة عرضها السماوات والأرض، وعن مُتقين، أُعدت لهم، وهذه أوصافهم؟ أين صلاتهم؟ هم مِمَن يُصلون طبعا، كيف مُتقون ولا يُصلون؟ أين صيامهم؟ أين حجهم؟ أين عمرتهم؟ أين ذكرهم لله؟ أين حفظهم للقرآن؟ أين؟ أين؟ أين؟ ولا شيء من هذا. يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * أيضا، أحسن كما أحسن الله إليك، أحسن بالعفو، أحسن بالإغضاء، أحسن بالصلة وبالمواساة وبالعطية، أحسن. الله يُحب هذا. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ *. الله! ما هذا الدين العظيم؟
وستقول لي إذن أجب عن سؤالك، أجب عن السؤال؛ أين الصلاة؟ أنا أقول لكم إذن هذه المذكورات هي ثمار الصلاة، وثمار الصوم، وثمار الحج والعمرة، وثمار حفظ الآيات وتلاوة الآيات وترديد الآيات واستدعاء الأحاديث والاستشهاد بالأحاديث وشرح الأحاديث، ثمارها هذا! لكن تُصلي وتصوم وتحج وتعتمر وتحفظ الكتاب وتُجوّده وتخطب في الناس، وأنت بخيل، كزاز، كريه، مقيت، غير إلف، ولا مألوف، وقاس، وغليظ، وربما تجمع إلى هذا أنك غيّاب، نمّام، قطّاع وصلات بين الناس، وتُريد أن تبلغ رضوان الله؟ كيف؟ أنت أتيت بأعمال واضح أنها بلا ثمار، من ثمارهم تعرفونهم. أنت تعرف أن صلاتك وصومك وحجك وعمرتك وقرآنك، مقبولة، إذا رأيت نفسك أصبحت أكثر طيبة، وأكثر كرما، وأكثر تسامحا، وأكثر إغضاء.
والله، والله الذي لا إله إلا هو، كم يُفرحني، كم أُصبح جذلان طربا مسرورا، لا تسعني الدنيا، حين أرى مثل هذه النماذج! ونراها كثيرا – بفضل الله في هذه الأمة الخيّرة -! بالأمس يكتب لي أحد أحبابي من فنلندا، يكتب لي؛ يا شيخ أنا كذا وكذا وكذا، وبفضل الله تبارك وتعالى أنا مُنذ ثلاث سنوات، لم أذكر أحدا بسوء، لم أفعل. كم أسعدني هذا الشاب! عراقي، كثّر الله من أمثاله، والله الدنيا لم تسعني. قلت كثّر الله – في قلبي – من أمثالك يا أخي، كثّر الله في أمة محمد من أمثال هؤلاء الصادقين. من ثلاث سنوات تاب، قال لي إلى اليوم – بفضل الله تبارك وتعالى -، لكن أنا غير راض عن نفسي، بماذا تنصحني؟ بماذا؟ إلى ماذا تدعوني؟ شيء جميل! هذا صادق، هذا صدق الله، هذا أخذ الدين بقوة، هذا مُديّن، انتبه! ليس مُديّنا؛ لأن عنده لحية، أو يُصلي الخمس صلوات، أو لابس جلباب، أو حافظ للقرآن، لا! هذا كله لا بد له من ثمار، إذا لم تكن هناك ثمار، فهذا غير مُفيد. إذا لم تكن هناك ثمار، فهذا غير مُفيد.
أما كما قلت لكم الإصرار على أن نُعيد تعريف الإسلام كما نُريد، مُستدلين بالنصوص، فلا. النصوص كما قلت لكم ساكتة، لا تتكلم، يتكلم بها ماذا؟ الرجال. نُريد معايير! والنصوص تُلبيك، تُريد أن تُعيد تصوير الإسلام على أنه دين فتح وقتل وقتال؟ هناك آيات تُساعدك. لكن بعد أن تُجرم مرة أُخرى في حقها بالاقتطاف – باقتطافها كما يقول النصارى، يقولون الاقتطاف -، والاجتزاء، والابتسار، والاختزال، وإخراجها عن سياقها، أليس كذلك؟ وتشويه تأويلها. ثم قل لي هذا الإسلام! دين جهاد وعزة وقتل وقتال وهذا هو وقطع الله لسانك! يُلبيك. تُريد الإسلام ديانة طقوسية شكلانية، تهتم بالظواهر وما إلى ذلك؟ تُلبيك. تُريد أن تستخرج منه برنامج للهيمنة والرقابة والسُلطة على العباد؟
لا يتركون لا مُمثلا ولا مُمثلة ولا مُغنيا ولا مُغنية ولا رقاصا ولا رقاصة! يا رجل كف عن عباد الله، وأنت هكذا تعمل لهم أصلا دعاية مجانية، دعاية! كف عن عباد الله، يا رجل أما فهمت أن طريقة فعل الخير والدلالة على الخير، بالدلالة على الخير؟ كما قال الحكيم الأمريكي – هذا أمريكي، هذا لم يكن نبيا – بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin خير لك من أن تلعن الظلام ألف مرة، أن تُوقد شمعة. أوقد شمعة يا رجل، هذه هي! وبعد ذلك – ما شاء الله – في عهد النت Net الآن، إذا فعلت هذا، بالله الذي لا إله إلا هو، فستدخل التاريخ أسفه سفهاء العصر! على قدر ما تنجح، على قدر ما لم تترك أي غلطة! ومقاطع، مقاطع، مقاطع! تدخل التاريخ من ألعن أبوابه وأحقرها سفيه العصر! سافهت العباد كلهم، ما تركت أحدا إلا سببته وشتمته، باسم ماذا؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر. ألم تتعلم من نبيك أنه لم يكن يُحب أن يكسر خواطر العباد، ولا أن يُجابه الناس بما يكرهون؟ وطبعا كان بعض الناس أيام النبي يفعلون أشياء سيئة، بين الناس، ليس في السر، بين الناس! أشياء سيئة، والنبي يراها، أو يُبلغ بها، يُحدث عنها، يقوم، يقول ما بال أقوام؟ فقط! انتهى! وتصل الرسالة.
متى سنفهم يا أحبتي، يا إخوتي وأخواتي، متى سنفهم – انتبهوا – أن البشر، كل واحد منا، لا يُحب هذا؟ والله لو كان من أقل طبقات الناس، أي فقير ابن فقير ابن سبعين فقيرا، ولو كان جاهلا ابن جاهل ابن سبعين جاهلا – ينميه نسب الجهلاء، ولا واحد فيهم مُتعلم ولا يعرف كيف يفك الخط، وينميه نسب فقراء معدمين، ليس عندهم قوت اليوم -، وأتيت لتمس كرامته، أو تمس ذاته، لغضب، أليس كذلك؟ ولقام بردة فعل، أليس كذلك؟ هكذا البشر!
على فكرة، متى سنفهم ما يطفح به اليوتيوب Youtube والنت Net هذا؟ كل صباح ألوف المقاطع؛ لأن شيخا رد على شيخ، فالشيخ الثاني رد عليه بأشد من الرد الأول، وبدأت المُلاسنات! لأنه لا أحد يُريد أن يُنتقص. إذن إذا هو شيخ وداعية وحافظ كتاب الله ويتحدث عن الأخلاق العالية، لم يقدر على أن يمتلك أعصابه، وحين مس أحدهم بكرامته، ذهب ورد له الصاع صاعين، تُريد من الرقاص والرقاصة والمُغني والمُغنية والمُمثل ولاعب الكرة والمُلحد والشكاك والربوبي، أن تمس بكرامته، وتعمل مقاطع فيها سب، وتُريد منه أن يهتدي؟ أنت داعية؟ بالله العظيم أنت داعية إلى طريق الشيطان. أنت تُريد أن تلز الناس لزا أن يُلحدوا. وأنا أقول لك أنت يوم القيامة مسؤول عن إلحادهم، ما رأيك؟ افهم هذا جيدا. إذا كان لك قلب أو تُلقي السمع بشهادة، فأنا أقول لك ستُسأل عن تلحيد هؤلاء؛ لأنه لا يُوجد بشر يُحب أو يسمح بأن تُمس كرامته، لا باسم الله ولا باسم الدين ولا باسم الهداية، والله لم يقل لك هذا.
الله، وهو الله – لا إله إلا هو، رب العالمين، ليس الرسول، وليس داعية، وليس عالما، رب العالمين، لا إله إلا هو – حين يُخاطبنا، ماذا يقول؟ وعلى فكرة – وقلتها مرة في خُطبة – هو كان قادرا على أن يُنّزل القرآن أو الزبور أو التوراة أو الإنجيل سطرا واحدا، ما رأيكم؟ والله العظيم! الله يقول سطرا واحدا؛ هذا مني، أنزلته على قلب نبيي، افعلوا كل ما ترونه خيرا، انتهوا عن الشرور، وإلا عذبتكم عذابا لا تقوم له السماوات والأراضون. نُقطة! وانتهى! وهناك جنة ونار. لا، يَا عِبَادِيَ *، يَا عِبَادِيَ *، يَا عِبَادِيَ *، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا *، وقال ماذا؟ وهناك قصص وحكم وأمثال ومواعظ وترغيب وترهيب! ما هذا التلطف يا رب العالمين؟ ما الرحمة الفيّاضة هذه؟ ما التلطف العجيب هذا بنا؟ نحن الحقراء، نحن البشر الضعفاء الصغراء! لماذا كل هذا التلطف والتحنن والتودد؟ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا *، يتحسر، لا إله إلا هو، لا إله إلا هو! إذا الله هكذا، فلماذا أنت لست هكذا؟ أنت يا ضعيف، يا مسكين! أحوج الناس إلى هذا، بكرة تُصيبك الكورونا – لا قدر الله، عافى الله الجميع -، وسُبحان الله! تنقلب أحوالك ليس في أربع وعشرين ساعة، في أربع وعشرين دقيقة، تُصبح لطيفا طيبا، وتقول سامحوني يا أحبتي، سامحوني يا إخواني، الدنيا لا تساوي! (صح النوم)، مُتأخر كثيرا يا أخي، لماذا تأخرت هكذا؟ لماذا تأخرت؟ وستأتيك، ستأتيك! أي عن طريق كورونا، أو عن طريق غيرها! أي المنية، المنية ستأتيك، ستأتيك، والله العظيم!
وكم، وكم رأينا أناسا مكورونين، كانوا كذلك لأسبوع أو لأسبوعين أو لثلاثة أسابيع، وعاشوا! وأناسا ليسوا مكورونين ماتوا من غير أي سبب! أليس كذلك؟ الآن، في الأيام هذه! فجأة، مات! عنده كورونا؟ قال لك لا والله، ليس فيه أي شيء، لا يشتكي، ليس به بأس. فجأة مات! اختُطف كما يقول المصريون، أي (اتخطف) بالمصري. يحدث، أليس كذلك؟ يحدث. فقبل أن تأتيك المنية، يا رجل أصلح، وكُن صادقا مع ضميرك، تصرف بما تُمليه عليك هشاشتك وضعفك الإنساني. أنت إنسان ضعيف هش، كُن رحيما، كُن لطيفا، كُن طيبا، ادرأ بالحسنة كما نقول دائما السيئة. هذا الذي يبقى، وخاصة إذا كنت تدّعي أنك داعية، وتدل الناس على الله، وتُدافع عن دين الله، إلى آخره، إلى آخره! خاصة، انتبه! يُطلب منك قدر زائد، قدر زائد من هذه المعاني.
إذن ليست القضية أنه اقتطف واجتزأ، كل أحد يُمكن أن يقتطف وأن يجتزئ وأن يُعيد تعريف الإسلام كما يُريد. أنا أقول له معنا معياران؛ معيار التردد، ومعيار الإعلانية. يشهدان لصحة طريقتنا، وبسلامة خُطتنا. هذا الدين العظيم دين رحمة، قبل كل شيء وبعد كل شيء. ما رأيك؟ دين رحمة. الله خلق السماوات والأرض واستوى على العرش بالرحمانية، أليس كذلك؟ الله قال لك هذا. أي لولا الرحمانية، ما خلق الوجود كله. بالرحمة! الرحمانية فيضها الوجود. الوجود فيض الرحمانية. لولا الرحمانية، ما خُلق الكون. وبالرحمة أنزل الكُتب ونبّأ الأنبياء ووضع الشرائع، وبالرحمة أمهلنا وفتح باب التوبة. تعصيه سبعين أو ثمانين أو تسعين سنة، ويفتح لك باب التوبة. تتوب في آخر يوم، يُدخلك الجنة. لا إله إلا الله! تعيش تسعين سنة مُلحدا، تؤمن في آخر ساعة، تدخل الجنة. لا إله إلا الله! قال لك عدالة. هذه عدالة؟ هذا عدل أم رحمة؟ لا! العدل يقع في طول الرحمة.
مَن حاكم على مَن؛ العدل حاكم على الرحمة، أم الرحمة حاكمة على العدل؟ لا، الرحمة حاكمة على العدل؛ لأن العلاقة طولية، أي علاقة علية ومعلولية، فلا بد أن يكون العدل في طول الرحمة، في مقام المعلولية للرحمة. ولذلك كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ *، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ ۚ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا *، لا إله إلا الله! حتى الحساب يا إخواني، البعث والنشور والحساب والموازين والجنة والنار – هذا عدل -، من أجل ماذا؟ من أجل تحقيق الرحمة والرحمانية. أليس كذلك؟ هذه هي! فالعدل مُتطاول مع الرحمة، لكن في مقام المعلولية لها، ليس في مقام العلية، هي في مقام العلية. هذا إذا أردنا أن نفهم ديننا بشكل جيد، بشكل…ماذا أقول لكم؟ يقترب من عظمته، من هذا الجوهر العجيب!
النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث المُخرج في الصحيحين، من حديث أبي هريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة. والأنبياءُ إخوة لعلات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد – الدين هو مقام الأب -، وليس بيني وبينه – أي عيسى – نبي. لذلك يقول أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم. أولا زمنيا، لم يُبعث نبي في الفترة. يُسمونها الفترة هذه، هذه فترة! فتر فيها الوحي، لم يُبعث فيها نبي بين عيسى ومحمد، ولذلك يقول أنا زمنيا أولى الناس به. وبعد ذلك يقول دينيا منظوميا أنا أولى الناس به. لماذا يا رسول الله؟ انظر إلى هذا، انظر التعبير العجيب! قال الأنبياء إخوة لعلات. العلات هن الضرائر، العلات هن الضرائر، جمع ضَرة؛ لأنها فعلا كذلك. أي كيف؟ كيف الأنبياء إخوة لعلات؟ قال لك أمهاتهم شتى. الشرائع شتى، ناموس موسى غير شرع محمد، أليس كذلك؟ وعيسى تقريبا ليس عنده ناموس، أي هو جاء واحترم الناموس الذي قبله، ولكن حاول أن يُخفف من التقديس المُبالغ فيه للأحكام، للقوانين، للنواميس. حاول أن يُغلّب ماذا؟ منطق ماذا؟ المحبة والإغضاء والتسامح والكرم. عليه السلام عيسى. هل هذا حصل؟ لو سألنا سؤالا، ماذا سيكون الجواب؟ طبعا ودينهم واحد. قال ماذا؟ قال دينهم، لم يقل أبوهم. قال أمهاتهم شتى، ودينهم. الذي هو بمقام ماذا؟ الوالد. والذي هو ماذا؟ الأصول العقدية، الأصول العلمية النظرية، العقيدة، الدين! الإيمان بالله والملائكة والكُتب والرُسل واليوم الآخر، هذا مُشترك بين كل الأنبياء والمُرسلين، انتبه! هذا هو الأصل، أرأيت؟ العقيدة! لكن المنظومات التشريعية؛ هذا حلال، هذا حرام، هذا يجوز، وما إلى ذلك، تختلف من نبي إلى نبي، بحسب ماذا؟ المُقتضيات، بحسب الظروف، تغير الظروف. أمهاتهم شتى، ودينهم واحد. والحديث في الصحيحين؛ في البخاري ومُسلم – رضيَ الله تعالى عنهما -.
إذن هل فعلا يُحدثنا التاريخ أن عيسى ابن مريم بقيَ دينه دين محبة وسلام؟ لو سألنا سؤالا – ونختم به الخُطبة اليوم -؛ ما هو أكثر دين ضحايا؟ ولا أستثني حتى الأديان البشرية؛ كونفوشيوسية، طاوية، جينية، بوذية، هندوسية، الأديان عموما! ما هو أكثر دين ضحايا؟ أكثر دين سالت باسمه الدماء، زُهقت باسمه الأرواح في التاريخ – إحصائيا، أرقام -؟ الدين المسيحي. كارثة! معقول! دينك يا يسوع – عليه السلام -؟ يسوع كان رمز المحبة – عليه السلام -، يسوع رمز المحبة، جسدها بألف وجه وجه، ودعا إليها بألف طريقة وطريقة – صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا -. لماذا؟ لماذا مُنيَ دينه بهذه الخيانة؟
أحمد شوقي، شاعرنا العظيم، ماذا يقول؟
يا حامل الآلام عن هذا الورى……..كثرت عليه باسمك الآلام.
أي والله، لخص القضية كلها ببيت شعر واحد.
يا حامل الآلام عن هذا الورى……..كثرت عليه باسمك الآلام.
في سبيل تديين الناس، أي تمسيح، تنصير الناس، إدخالهم في المسيحية، الناس كانت تُقتل وتُذبح وتجري دماؤها أنهارا، عجيب! باسم يسوع – عليه السلام -، المُخلص، الفادي. معقول! ما الذي حصل؟ هذا سيكون جواب ما بعد العصر ربما – إن شاء الله تبارك وتعالى -.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
إخوتي وأخواتي/
كما وعدتكم بعد العصر – بعون الله – أُجيب عن هذا السؤال. وهذا السؤال أنا لم أطرحه من باب ماذا؟ من باب التكثر والتمرؤ بالغير. العرب كانوا ينعون على بعض الناس أنهم يتمرأون بغيرهم، أي يُظهرون مروءتهم على حساب ماذا؟ غيرهم. أرأيتم؟ هو كيف؟ أنا لست هكذا. تتمرأ بغيرك؟ انظر إلى العرب، أذكياء. لا تتمرأ بغيرك، أرنى مروءتك أنت، أرني مجدك أنت، أرنى تبريزك أنت. لا تقل لي انظر إلى النقصة. نقصة، هذا ناقص، وهذا مُجرم، وهذا أفاك، وهذا أثيم، وهذا، وهذا، وماذا بعد؟ وأنت؟ لا، أنا لم أفعل هذا؛ لكي أتمرأ بالآخرين، أبدا! نحن نحترم هذه الأديان، خاصة السماوية، هذه كلها أديان من عند الله، حاشا لله! ولكن ما لا نحترمه مثله حصل لدينا، بالعكس! لذلك أنا طرحت وقدمت بين يدي هذا الطرح بحديث رسول الله في الصحيحين؛ أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لكي أقول وما جرى على دين ابن مريم، جرى على ديننا. ديننا حُرّف، وأُعيد إنتاجه، وخاصة في هذه الفترة…ماذا أقول؟ القاتمة السخيفة من حياتنا، في آخر عشرين أو ثلاثين سنة. خرج لنا أنفار عجيبون، من المسلمين، يُعيدون إنتاج فهم مُلتاث مُهوّس مجنون مُخيف، مُخيف للدين، أقسم بالله، فهم غير طبيعي، وفهم مُزدوج ومُوجهن – بوجهين، أي فيه ازدواجية وفيه نفاق -.
حدثتكم مرة عن داعية كبير وعالم وأستاذ جامعي في الشريعة، زارني في بيتي، جرى الحديث بيننا، وهو يظن أنني أعمل دعاية للإسلام، حين أتحدث عن الرحمة والمحبة والتسامح! قال لي ولكن بيني وبينك يا أبا محمد. قلت له نعم؟ قال لي أي لو مكّن الله لنا – للمسلمين -؟ نعم؟ قلت له ماذا لو مكّن الله لنا؟ قال لي أي بصراحة نحن نعرف. قلت له ماذا؟ تعرف ماذا؟ تتحدث عن ماذا؟ ووالله أنا وهو وحدنا، لم يكن معنا ثالث، أي حتى أقول هناك نوع من المُراعاة، أبدا! هو معي، برأسينا فقط، كنا اثنين، والله ثالثنا. قال لي يا رجل نحن نعرف، لو مكّن الله لنا، سنُطيح بالرؤوس!
قلت له ماذا؟ قلت له لا والله، ما صدقت. لا والله – قلت له -، أنا لا أصادق على هذا، ولا أؤمن به. ولا أقول على المنابر، إلا ما أؤمن به. وأنا أتعبد الله بهذا. وأعرف كم كلفني وكم يُكلفني هذا! أنا أعرف، والله العظيم. والله لقد ولطالما عرفت وكنت أعرف ولا أزال – أي وذلك علي يسير -، أنني أستطيع أن أجتذب أصوات الملايين حول العالم من هذه الأمة، فقط لو خاطبت غرائزهم وأحقادهم وكراهياتهم وبرامجهم للهيمنة والتسلط، وإذا نافقتهم؛ وأرى فيكم الإيمان، أيها العظماء، وجوهكم تشع بالنور، ما شاء الله عليكم، يا جُند الله! لم أفعل هذا مرة، ولن أفعله – إن شاء الله تعالى -؛ لأن الله سائلي عن كل شيء، مما أُظهر أو أُبطن. ودائما عندي قناعة مُطلقة؛ الحق لا يُنصر بالباطل، كما قال الإمام علي. الحق لا يُنصر إلا بالحق. والصدق – والله – لا ينصره إلا الصدق. والكذب والبرامج الحقيرة هذه، لا أُريدها.
فهذا الرجل كان موجهنا؛ بوجهين، مُزدوجا، عجيب! أنا صدمني، صعقني! وهو يظنني مثله، أنني أقول هذا من باب الدعاية، من باب (مشي حالك)؛ لأنك غير مُمكّن. وهو لا يدري أنني من تلك الحقبة، بل والله، وشهد الله، من قبل تلك الحقبة، في سري وعلانيتي، أقول لا تُمكّن، اللهم لا تُمكّن لأمثال هؤلاء. وفعلا، الحمد لله، الحمد لله مليار مرة، أن الله لم يُمكّن لهم. تعرفون لو مكّن لهم، لكان الآن مُعظمنا شبع موتا، طبعا! هؤلاء يذبحون ويقتلون مُباشرة. هم يقتلون من غير تمكين! هم يقتلون من غير تمكين! ولذلك إذا سُئل بعضهم، أو سُئل أحدهم؛ كيف ندعو الملاحدة والكفار والملاعين والمناجيس؟ يقول كما تعلمون؛ لأننا غير مُمكّن لنا، فلا بد من الحوار. جواب مُخيف، هزني! الله أكبر! والجواب جوابان طبعا، الجواب جوابان! فكأنه يقول إذا أردنا أن ننظمهما جوابا واحدا، فبما أننا غير قادرين على قطف الرؤوس ومُمارسة الهيمنة والتعذيب والإرسال إلى الجحيم بضربة واحدة – ضرب سيف مُباشرة -، فلا حول ولا قوة، مُضطرون إلى الحوار. وهذا حدث قريبا، الله أكبر يا أخي! ما الذي يحصل؟ ما هذا؟ ما هذا؟ ألا تستيقظون؟ ألا تشعر يا أخي – أنا أُخاطب حتى صاحب هذا الكلام – بأن وضعك غير مُريح؟ ألا تشعر يا أخي، أيها المسلم، أنك في وضع غير مُريح؟ هذا الوضع غير مُريح، حتى أمام الله، أمام الضمير. هذا الدين دين تصالح، دين صدق. بواطننا مثل ظواهرنا – بفضل الله تبارك وتعالى -. المسلم الصالح الصادق، لا يُمكن أن يكون ظاهره غير باطنه، أبدا! وخاصة أنك غير مُضطر إلى هذا.
لكن على كل حال هو كان صادقا في شيء واحد! قال ما يعتقده. لن أحيي هذا الصدق؛ لأنني لا أحترم مضمونه، لن أحيه مرة أُخرى، ولكن هو كان صادقا حين أفرغ عن ما في ضميره! لأنني غير مُتمكن من تطبيق الأحكام! كما يفهمها هو، وطبعا في رأسها ماذا؟ حد الردة. تقول له مُلحد! مُلحد ماذا يا حبيبي؟ مُلحد؟ تعال هنا، مُلحد؟ نقاش ماذا يا أخي؟ وطبعا سيُناقشك هو في خمس دقائق؛ لأن عنده الحقيقة المُطلقة. وهو الذي سيحكم عليك، وما شاء الله على هكذا حكم وخصم! خصم سيحكم عليك في ساعات أنك ميؤوس منك، ولم تقتنع، فلتُرسل إلى الآخرة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوقظنا من هذه الغفلة. الكلام باسم الله يا إخواني ليس من دين الله، انتبهوا! الكلام باسم الله ليس من دين الله. الله لم يأذن لنا أن نتكلم باسمه في هكذا قضايا فيها خلاف، فيها منادح للنظر، فيها وجهات نظر، فيها اجتهادات. إياكم أن تفعلوا هذا! تقول لي من أين لك؟ سأختم بهذه الجُملة – أطلت عليكم -؛ الرسول علّمني هذا، لكن هذا الحديث الذي في صحيح مُسلم، قل أن تسمعه، قل أن تسمعه! لماذا؟ لأنه لا يُساعد، لا يُساعد ولا يتناغم مع هذا المناخ الاستئصالي الاستبعادي الاستحواذي الهيمني؛ حديث بُريدة بن الحُصيب – رضيَ الله عنه وأرضاه – في صحيح مُسلم، وهو حديث طويل. بماذا كان يُوصي رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وأصحابه – الجيش، الغُزاة، حين يُسيرهم؟
يُوصيهم بأن يتقوا الله في خويصة أنفسهم ومَن معهم من المسلمين خيرا، وبعد ذلك يقول لهم إذا حاصرتم أهل حصن، فأرادوكم على أن تجعلوا لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعلوا لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه. لماذا؟ هذه أسهل مسألة عند المسلمين اليوم، أليس كذلك؟ قال لك لا. اجعلوا لهم ذممكم وذمم أصحابكم. قل لا، لكم ذمتي أنا القائد، وذمة أصحابي المُجاهدين، ذمة الله والرسول لا، لا أُعطيكم إياها. لماذا؟ لأنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك على أن تُنزلهم على حُكم الله، فلا تُنزلهم على حُكم الله. واليوم نحن بلادنا ضاعت، أجيال ضاعت وسُحقت، باسم تحكيم شرع الله، نُريد أن نُحكّم شرع الله، هذا حُكم الله، هذا دين الله! عجيب! من أين لك أن تعرف حُكم الله في كل القضايا وبالطريقة هذه؟ قال لا تُنزلهم على حُكم الله، فإنك لا تدري أتُصيب حُكم الله أم لا. لعلك لا تُصيب ماذا؟ حُكم الله. أنزلهم على ماذا؟ على حُكمك أنت. أي أرأيتم الرسول كم كان يُحاذر! وكان يتخوف من ماذا؟ من اختطاف اسم الله والكلام باسم الله.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا علما وفقها ورشدا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم لا تدع لنا في هذه الساعة المُباركة، من هذا اليوم الأغر، ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا غائبا إلا رددته، وإلا أسيرا إلا أطلقته، ولا مدينا إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه وحُزنه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.
عباد الله/
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وأقم الصلاة.
أضف تعليق