تشير تفجيرات بروكسل الإرهابية إلى أن الإرهاب لم يعد حدثاً “موسمياً” في أوروبا، إذ بات واضحاً أن ثمة تفجيرات تتالى تباعاً، ما يجعل القارة الأوروبية والأميركية (بوسطن) برمتها في مرماه، إضافة إلى بؤرته المركزية في آسيا/الشرق الأوسط (سورية، العراق، أفغانستان، باكستان..) والقارة الأفريقية (بوكو حرام في نيجيريا وجوارها، ليبيا، تونس..).
هذا يعني أن العالم برمته اليوم في مواجهته، الأمر الذي يستوجب مقاربة عالمية للإرهاب، تبحث في الأسباب الرئيسية المولدة له، بعيداً عن المقاربات الجزئية الإقليمية الجارية اليوم، المركّزة على حماية القارات منه، والتي تشكل المقاربة الأوروبية أسسها اليوم، كما تجلت في معالجة أزمة اللجوء إلى القارة العجوز، ما يجعلنا نضع أيدينا على ثلاثة مولّدات أساسية للإرهاب، لا بد أن تعالج في سياق عالمي/عولمي، يأخذ بالاعتبار التشابكات والتداخلات التي بات العالم يعيشها ككل.
السبب الأول والأهم يتجلى بالتراث الديني اللاهوتي الذي تستمد الأصوليات الدينية على اختلاف أشكالها (إسلامية، مسيحية، يهودية، أديان الأقليات) شرعيتها منه، فهذا التراث الذي لم يُعمل مبضع النقد الديني العلمي فعله فيه بعد، يشكّل الأساس الذي ينبغي أن يعمل على تفكيكه ولفظه، إذ لم تعد الأفكار القائلة إن هذه الأصوليات مجرد “نشاز” عن الفكر الديني السائد، إلا تغطية على الإرهاب.
وباعتبار أن الفكر الإسلامي هو الأكثر توليداً لإرهاب اليوم، يقع على المرجعيات الدينية الإسلامية (شيعية وسنية وأقليات أخرى)، والمفكرين الإسلاميين والعلمانيين على السواء، مهمة مواجهة تراثهم، والعمل على إيجاد قطع حاد مع أفكارٍ كثيرة لا تزال تدرس في مؤسسات رسمية ودول كثيرة.
الأصوليات ليست مجرد “نشاز” عن الفكر الديني السائد
فالثورة تبدأ من هنا، لأن أفكاراً كثيرة تتقاطع مع فكر الأصوليات التي تجد تربتها الصالحة هنا، والتي يضفي هؤلاء عليها شرعية “الإسلام”، فالفكر السائد في مؤسساتٍ، مثل الأزهر وجامع النور والمدارس الدينية في أفغانستان وغيرها (وكلها تعيش في رعاية الدكتاتوريات) وكتابات “مفكّرين” يقدمون أنفسهم “معتدلين” دينياً، تشكل المادة الخام التي تستند عليها الأصوليات الدينية، لاحتوائها على كم هائل من اللامعقول والسحر والخرافة، خصوصاً ما ينسب منها لفقهاء العصور السالفة الذين يعتمدون مراجع لا يطاولها الشك، من دون أن يقف الأمر هنا، فاليهودية التي تشكل أحد جذور الصهيونية في فلسطين.
وفكر الأقليات المستهدفة من داعش، والتي تقدم بوصفها ضحية، غالباً ما تغطي مظلوميتها على تراثها الديني السحري الغيبي، والذي يعمل على جذب أفرادها نحو تبرير ممارسة العنف تحت ستار الدفاع عن النفس، لنكون إزاء أصوليات مضادة، تنبع ضدّيتها من فكرها بالذات، قبل أن تنبع من مواجهة الآخر الأصولي، مضافاً إليها صعود اليمين المتطرّف المسيحي في أوروبا، لنكون إزاء منظوماتٍ تولّد الإرهاب الذي سيبقى يجد مستنده هنا، إن لم يجر العمل على نزع هذا التراث الأصولي الفكري من دائرة المقدس إلى غير رجعة، فالأديان هي ضحية هذه الرؤية قبل غيرها.
الإستبداد منبع الإرهاب
السبب الثاني يتمثل بالاستبداد الذي يجد، هو الآخر، في الأصوليات السابقة أرضاً خصبةً، ليمارس أصوليّته السياسية، فهو يعمل على تربيتها دائماً ليقدم نفسه (وغالباً أمام الغرب) بوصفه سدّاً منيعاً ضدها في لعبة ابتزازٍ باتت واضحة، وتلقى رواجاَ لدى منظوماتٍ فكريةٍ وأحزابٍ غربية تتبناها (أحد الأحزاب الإيطالية أعلن أنه سيعيد علاقته مع نظام الأسد، إذا وصل إلى السلطة)، الأمر الذي يستوجب القطع مع هذه الرؤية “التوفيقية” التي تقول إن السيئ أفضل من الأسوأ، وهو ما يصب في خدمة الدكتاتوريات التي تذكي هذا الصراع، وتستند له، طالما هناك من يتبناه.
وهنا تلعب المقاربة الأوروبية دوراً بارزاً في دعم الإرهاب، فاستقبال عبد الفتاح السيسي أوروبياً، وتقديم المصلحة الاقتصادية مع النظام الإيراني المولد للإرهاب الشيعي الجهادي على حساب حقوق الإنسان، يلعبان دوراً بارزاً هنا، على الرغم من أن هذه النظم مولدة للإرهاب.
وما مقتل الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، الوحشي في مصر على يد السلطات إلا دليلا على عقم المقاربة الأوروبية.
وهنا، تتلاقى الرؤية الأوروبية/ الغربية مع رؤية الدكتاتوريات، عبر التركيز على المعالجة الأمنية لمسألة الإرهاب، بعيداً عن السياق الاجتماعي الاقتصادي، ومنظومة حقوق الإنسان، فالدكتاتوريات التي تقدم نفسها بوصفها “تكافح” الإرهاب، تعمل على تعزيز المراقبة الأمنية للأصوليات الدينية في مرحلة “الاستقرار”، وعلى إطلاقها من السجون، حين يتهدّد نظامها، في حين تترك الفكر المتطرف طليقاً في مدارسها وجامعاتها الدينية، بالتوازي مع قمع العلمانيين والنشطاء السلميين، في حين أن المقاربة الأوروبية تكتفي بحراسة حدود القارة، والحصول على مكاسب اقتصادية، في الوقت الذي تتغاضى عن الدكتاتوريات المولدة لهذا الإرهاب، الأمر الذي يستوجب وضع مسألة الديمقراطية في صلب “مكافحة الإرهاب”، إذا أريد لهذه المكافحة أن تأخذ مداها فعلاً.
ولعل الدرس الذي قدمته تونس، أخيراً، في أحداث بنقردان دليل على ذلك، فتونس هي البلد الوحيد الذي نجح في الانتقال الديمقراطي نسبياً. ولهذا، تمكّنت من معالجة مسألة الإرهاب على أراضيها، على الرغم من وقوعها وسط محيطٍ مضطربٍ ومحاط بالإرهاب، في حين فشلت كل الدكتاتوريات التي تقدم نفسها ضد الإرهاب! ما يعني أن الديمقراطية هي الضد الوحيد للإرهاب، وليس الاستبداد.
السبب الثالث يتجلى بالمنظومة الدولية العرجاء والعاجزة عن مقاربة مسائل العالم وأزماته، بدءاً من أزمة العولمة التي باتت توسع “الطرد والإقصاء”، كما تقول ساسكيا ساسن، وليس انتهاءً بالمعالجات الوطنية أو القارّية للإرهاب، والتي تتيح وتبرّر “الحرب”، والتدخل في كل مكان في العالم، تحت شعار حماية أمنها، بعيداً عما يولده الأمر من تهديد أمن العالم والبلدان المتدخّل فيها، إذ لا يمكن عزل الإرهاب المستوطن في العراق وسورية ونيجيريا عن التدخلات الغربية التي تضع مصالحها ومصالح شعوبها فوق مصلحة العالم.
فالمقاربات “الوطنية/القومية/القارية” هذه أثبتت عجزها عن حماية شعوبها، فما تولده سياساتها في مناطق بعيدة بات يولد الإرهاب في أراضيها اليوم، كما بينت أحداث بروكسل أخيراً، الأمر الذي يستوجب مقاربة عالمية للإرهاب، تأخذ كل ما سبق بالاعتبار، وتضع مصلحة الجنوب في الديمقراطية، كما الشمال في الأمن، وإلا سيبقى العالم مسرحاً للإرهاب.
أضف تعليق