من السهل الإمساك بقضية والإلتفاف حولها، وكتابة مقال أو كتاب يتناول مضمونها، لكن من الصعب إصابة الهدف الذي نود الوصول إليه، ذلك أن قراءتنا للواقع لم تكن بتلك الجدية التي تستلزمها الحادثة، هذا هو الواقع لمن أراد أن يعرفه، وقضيتنا هنا تتناول الواقع بالذات، وحوادثه الكثيرة، وبوجه من الوجوه نختار منه جزئية، تتمثل في صنع أم تفسير هذا الواقع؛ بنائه أم ترميمه، والقارئ البسيط سيجد صعوبة في التفريق بين الإثنين، وما دورنا إلا تبسيط المعقد، وتسهيل الصعب، حتى يدرك تمام الإدراك لرسالتنا التي نوده أن يبلغها.
واقع مثل واقعنا، هل يحتاج لتفسير ما يحدث فيه؟ أم صنع واقع مغاير وبعيد عن كل الأحداث التي نعيشها؟، سؤال بسيط لكنه مفيد، لهذا أود أن أجاريك فيه، تارة بسؤال، وأخرى بجواب، وتارة بطريقة فلسفية بحثه، وأخرى منهجية صحفية بسيطة، وهكذا حتى نصل إلى النقطة التي نريد الوصول إليها عن طريق الحوار البناء بيني وبينك.
هذه المهمة التي وضعتها على عاتقي يجب أن أتحمل مسؤوليتها، وهيء نفسك أيضا بعدة جديدة للإنطلاق في ساحة الفكر، لأنني أعلم أنك ترغب في مزاولة هذه المهنة، وأخاطبك بهذه الطريقة وليس كما يخاطبونك أصحاب التنمية البشرية، فحقيقة أنا لا أؤمن بتلك الأفكار بتاتا، لهذا وجدت طريقتي الخاصة، للوصول إليك.
كيف يُصنع الواقع؟
نبدأ بالعمل الذي يجب على أصحاب الفكر أن يؤدوه في التطرق لأحداث الواقع، من الإنطلاق في صياغة جملة من الأفكار عن تلك الحادثة، ومن خلال تلك الأفكار، نحدد تجربتنا بإختيار ما ينبع من صدق وأمانة لما يتم الوصول إليه، لا بإختيار منافس لمجاراته، أو آخر تكون تابعا لأفكاره، وكي تتجنب كل ذلك يجب عليك أولا أن تقوم بصياغة أسئلة بسيطة تندرج للعمق شيئا فشيئا، من شأنها أن تحرك مكامن التفكير داخلك، وتزحزح ماكان مطروحا من إشكالات ضعيفة، لتبرهن ضعفها أو عجزها عن طرح حلول لتلك الحادثة، أو صوغ إشكالات جديدة، هكذا يجب أن يكون طرح الأفكار والمفاهيم، وخلق الممارسات في واقع عاجز فكريا، لا بقراءة آلاف الكتب، أو بلفت أنظار الجماهير بموقف يعادي موقف آخر، فتفقد الأفكار مصداقيتها داخل المجتمع.
هذا هو صاحب الفكر المنير، والعقل الرشيد الذي نريده، وهذا هو المنتج الذي أتقن الإبداع في مجال عمله، ويحقق أهداف الأمة، ويكشف عن أزماتها، وتعرية مشاكلها، لينقذها من حطام متراكم عليها منذ مئات السنين، فهو الذي يسعى لتفسير وتشخيص كبريات المشاكل بنصوصه وخطاباته، ويكد بجهده لفمهما، لتصبح أطروحاته وأفكاره قضية بحد ذاتها.
يجب عليهم تفسير الواقع كبداية للفهم، وإنتاج أفكارهم كبداية لصنع الواقع، ونتيجة لتلك الأفكار وتفاعلها مع الواقع، سينزح الواقع ويرضخ للتغير رغما عن أنفه، لأن الأفكار الخلاقة كما يقول علي حرب: ” لا جنسية لها..وأنها ليست سوى علاقاتنا بالواقع والحقيقة”.
وما بين تفسير الواقع وصنع الواقع، هو فهم الواقع، لأن الفهم يسمح لنا بقراءة المشكلة قراءة دقيقة ومن جوانب مختلفة، ويشخص لنا الحادثة بزمانها ومكانها، لتترجم في آخر المطاف في قالب فكرة مكتملة، تعالج ذلك الحدث أو المشكلة.
وليس الواقع كما يراه من ينظرون له كل يوم بذلك السوء، أو من يُدْلُون بآرائهم – في الغالب – أن الأزمة أو المشكلة أو الحدث لا يحتاج لكل هذا التفكُّر والتدبُّر، ويتأسفون على أفكارهم التي لم تطبق على أرض الواقع لأن الواقع حسبهم رفض ذلك لوم ينسجم مع طروحاتهم البالية التقليدية، أو أن المجتمع جاهل لا يقبل بكل الحلول التي قدموها؛ هؤلاء الميؤوسين هم علة همنا، لأنهم يرون العلة في الواقع لا في أفكارهم، ولا يريدون الإعتراف بعجزهم عن تفسير المشكلة، وتحليلها، وفهمها، بل كل همهم أنهم ألفوا عشرون كتاب، أو أنهم قدموا مائة ملتقى دولي، وكيف يتم بهم ذلك لولا أن أفكارهم صحيحة، أو أنهم فعلا سعوا بحثا عن الحقيقة، بل لأنهم لم يسعوا بقيم ذلك المجتمع أو البيئة، ولم ينطلقوا من ثقافة تلك البيئة، فأصبحت أفكارهم بالية ترمى بعرض الحائط، ولا يهتم لها أحد، سوى تلك الفئة التي تدعي بأنها النخبة، فيتم التضييق على الفكرة وخنقها إلى أن تموت، أو تهاجر إلى المكان الذي يناسبها في إحدى الدول الأوروبية، هذا هو واقعهم، و يصدق هذا على قول علي حرب في نقدهم، إذ يقول: “إنهم يرون العلة في الواقع لا في الأفكار أو في أنماط الفهم أو في طريقة التعامل مع الحقائق؛ من هنا سعيهم الدائم لمطابقة الوقائع مع مقولاتهم المتحجرة، أو لقولبة المجتمع حسب أطرهم الضيقة أو تصنيفاتهم الجاهزة، بهذا المعنى مارس المثقفون ديكتاتوريتهم الفكرية أو عنفهم الرمزي بإسم الحقيقة أو الحرية، أو تحت شعار الديمقراطية؛ هكذا، فهم بدلا من أن يشتغلوا على أفكارهم لفهم ما يحدث أو لإستباق ما قد يقع، كانوا فعلا بمثابة “شرطة للأفكار”، إذا شئنا استعارة العبارة من ريجيس دوبريه أو جورج بالاندييه”.
“هكذا إكتفى المثقف أو المفكر الذي يمثل أهل الفكر بحارسة أفكاره، والترويج والإستهلاك لها، بالدعوة إلى التبنّي والتطبيق، دون الخلق والتوليد، أو البحث والتمحيص؛ توليد الأفكار وخلق المفاهيم حول المجتمع والعالم، بما يؤدي إلى خلق الواقع بالفكرة وعلى صعيد المفهوم، والبحث والتمحيص لتنقية الأفكار من الشوائب التي تأكل أحشاءها، فالواقع لا يتغيّر ما لم ننسج معه علاقات جديدة، بتغيير أفكارنا حوله، أو بإعادة صياغته على مستوى الفكر، أو بجعله مجالاً للإبداع الفكري”.
بعد ذلك – التفسير والفهم والإنتاج- نسعى الآن إلى وضع واسطة تربط بينهم وتمكننا من قراءة الواقع على طبيعته، هذه الرابطة هي التي تشكل لنا علاقة تفاعل بين المفاهيم الثلاثة الآنفة الذكر، لأنها ستشكل لنا أداة أو وسيلة تقربنا أكثر للحدث، حيث تكمن هذه الوسيلة في المفهومات، لأنها تعد من الوسائل التي بإمكانها تغيير أو فك لغز العلاقة بين الفكر والواقع، وعلى هذا الأساس تتشكل الفكرة مكتملة بقدر ما نعمل على تشكيل الواقع وصنعه؛ والواقع لا يتغير إلا إذا غيرنا علاقاتنا القديمة بعلاقات جديدة مع الأشياء.
وبالتالي يجب على المثقف أو المفكر لقراءة الواقع أو الحدث وتفسيره والسعي إلى فهمه “أن ينطلق مما يحدث، فلا ينفيه كما لا يصادق عليه، بل يقر بحدوثه، لكي يُحسن قراءته والتعاطي معه؛ وإذا إصدمت أفكاره بما يقع أو لم تتلاءم مع ما يحدث، فهو لا يستسلم إلى الفشل والإحباط، بل يلتفت إلى ما يستبعده الفكر من مجال الرؤية، أو إلى ما يسكت عليه الكلام في سياق العبارة؛ بمعنى أنه لا يلوم الوقائع، بل يحاول تفسير ما يجري بتعرية مسبقات تفكيره وشبكات إدراكه، أي مجمل المعايير والآليات التي يستخدمها في مجال الرؤية والتصنيف والتقويم؛ وهكذا فإن المفكر لا يفكر كعقائدي يحرس مقولاته أو كطوباوي يحلم بتطبيق أفكاره المستحيلة، وإنما يهمُّه فهم ما يجري بالدرجة الأولى، والإشتغال على المفاهيم نفسها، أي بالدخول إلى المناطق المعتمة أو الغُرف المغلقة من العقل والفكر؛ فما ينفيه الفكر هو بالذات ما يفسر فشل الأفكار”.
وإن لم ينظر هؤلاء إلى الواقع بإعتباره إستكشافا، كما ينظر العالم للظاهرة التي يود إستكشافها، بالأحرى أن يبحث عن شيء لم يسبق معرفته من قبل وإكتشافه، فلن يسمى ذلك تفسيرا ولا فهما للمشكلة، ولا إنتاجا للأفكار، لأنه لا يمكن وضع حلول لمشكلة ما دون البحث في مكامنها، تلك هي الحقيقة التي لن يدلي عليها أحد، لأنها تختبئ في أعماق المشكلة، وليست تسبح فوق سطحها ليأتي بها من يأتي، ويطرح الحل من يطرح، وكما يجب على العالم وضع الظاهرة التي يود دراستها في المختبر من أجل فحصها وتجريبها مراراً وتكراراً للوصول إلى قانون يحكمها، دائم بدوام الكون، كذلك المثقف أو المفكر في عمله مع المشكلة أن يفهمها فهما عميقا ويشرحها شرحا مفصلا كي يتوصل إلى الحقيقة وإن كانت نسبية.
يقول هشام صالح: “فالظواهر تخدعنا ولا يمكن الركون إلى وجوهها الخارجية، كل مظاهر الطبيعة ليست إلا بانوراما من الوهم: وهي بانوراما تخفي خلفها تبادلات الطاقة، والإنتظامات البيولوجية، والتفاعلات الكيماوية، كل الأشياء من حيوانات ونباتات تُختزل في نهاية المطاف إلى ذلك؛ حتى الزهور الجميلة تتحول في المختبر إلى شيء آخر غير الجمال…هكذا نجد أن الوجه الظاهري للواقع وحقيقته الداخلية شيئان مختلفان، ولا يمكن التوصل إلى الثانية قبل إنكار الأول أو التخلص من سرابه الخادع؛ وأول مبدأ في فلسفة العلوم ( الإبستيمولوجيا) يقول لنا بأنه ينبغي تدمير المعارف السطحية الخارجية التي نشكلها بشكل عفوي عن الأشياء قبل التوصل إلى المعرفة العلمية الحقيقية لهذه الأشياء ذاتها؛ وبالتالي ففعل المعرفة يبتدئ أولا بالسلب قبل التوصل إلى الإيجاب، ولا بد من الهدم قبل البناء”.
وإن لم يتم كشف المستور عن كل مشكلة فأعلم أن المشكلة لازالت مشكلة، وإن تم طرح آلاف الأوراق الملونة بحبر أسود، لأن الحل ليس بين كل تلك الأوراق، فالمثقف والمفكر، لا يجب أن يكون فكره مثل ما هو شائع بين الناس، لأن الفكر عند هؤلاء – وفي إعتقادهم- حر طليق وما هي إلا أفكار بديهية يحتويها فكرهم على المشكلات المطروحة في الواقع، بدليل أنهم لا يمنعهم مانع عن التفكير فيما يشاءون، دون أن يوصلهم فكرهم إلى حقيقة محددة، وفي الواقع هم أحرار لأنهم يستطيعون التفكير فيما يريدون، وفي حدود مواهبهم الخاصة، ورغم كل ذلك فهم لا ينتجون بتفكيرهم هذا أي شيء، ومادام فكرهم لا ينتج فهم لا يستحقون بأن يخوضوا في مشكلات الواقع، لأن تلك الحرية هي طبيعية، وليست لها قيمة تستحق الإعتبار، وأفكارهم عن الأشياء بديهية، فهي لا تُجدي من المرء ولا من واقعه شيئاً، “بل إنها حرية مؤلمة للإنسان المفكر مادام لا يقدر على إيصال أفكاره للناس ومادام لا يستطيع بغير جهد جهيد أن يكبت أفكاراً قوية ويخفيها في الظلام… قد يعرض للمرء أن ينظر بعين ناقدة إلى الآراء والعادات التي تنتظم شؤون قومه، وأن ينبذ ما تعصبوا له من معتقدات، وأن يلتمس للحياة مناهج خيراً مما إتبعوا.. فإذا تمكنت منه آراؤه المستحدثة أصبح من شبيه المحال أن يكتمها كتمانا في ذات نفسه، ولا بد لآرائه حينئذ أن تبدو منه ولو في كلمات عابرات، أو في سلوكه الشخصي أو في صمته إزاء بعض الأشياء” .
وهذا ما يوصلنا على العموم إلى طرح شيء آخر، ألا وهو كيف ننتج أفكارا قوية؟ وقبل الخوض في هذا الغمار يجب أن نعرف ما هي الفكرة؟ ومن ينتجها؟ ولماذا؟ وكيف تنجح وتقاوم أو تموت؟ وبالإجابة على هذه الأسئلة سنتوصل إلى مكمن الأزمة هل هي داخل الواقع أم داخل فكرنا؟
أزمة فكر أم أزمة الواقع؟
السؤال عن الفكرة هو أشبه بالحديث عن شيء زئبقي لا تستطيع الأيدي القبض عليه في حين أننا يمكن أن نحصره في أنبوب، كذلك الأفكار لا يمكن للعقل أن يحكم قبضته عليها دون أن يقوم بحصرها بين شيئين، ولهذين الشيئين يكمن في العقل والواقع، فالإنتاج العقلي الإنساني خلال عصر من العصور سوى كان ذلك من ماضٍ أو حاضر أو البحث في المستقبل، هو إنتاج لواقع ما، إما تفسيرا له، أو بناءاً عليه، وما نحتاجه لمعالجة هذا الموضوع هو الجزء الثاني، أي كيف نبني واقعنا فكرياًّ؟ وإلى ماذا تشير كل فكرة؟، وقبل ذلك يجب أن نخوض في عالم الفكرة ككائن تعيش بيننا دون أن نشعر بها.
تعتقد جاكلين روس أن الأفكار ليست شيئا جامدا مستقلا بذاته، ولا هي كوكبا من الكواكب المنفصلة عنا، تسبح في فضاء شاسع غير كوكب الأرض، بل هي نشاط نقوم به لإنتاج واقعنا، وبناء حضارتنا وذلك واضح في قولها: “هي ليست تركيبات فوقية أو انعكاسات، وليست عالماً منفصلا ومجرّدا، وإنما هي طاقات ديناميكية تمتلك وجوداً موضوعيا وتنتج الحضارات التي تخلقها وتنظمها، هكذا هي الأفكار، تسلك مسلك الكائنات الفاعلة التي تتمتع بقدرة ذاتية”.
فالأفكار إذا هي تلك البويضة التي تولد في زمن ما، لتشكل لها حياة خاصة بها، وتفقص بعد حين إكتمالها، لتصل إلى مشروع في النهاية بعدما تتغذى وتتوالد، وترث ما ولدته قبل زوالها، لتنتقل من جيل إلى جيل، ومن فكرة إلى أفكار، ومن ركود إلى حركة؛ هكذا تنمو الفكرة لتحقق هدفها، وتبلغ رسالتها، وتنجز مشروعها على أرض الواقع إن قدر لها ذلك، فالفكرة وليدة الظروف التاريخية، وإبنة البيئة التي تولد وتتوالد فيها، وتتطور من ضمنها، وتنتهي ببروز منافسها لتحدث المعركة الشرسة والحرب الدامية بين الفكرة التقليدية، والفكرة الحديثة، وينتصر من كانت حجته وبرهانه أقوى، وتنتهي الفكرة الضعيفة بنهاية مأساوية، ويزول تأثيرها، ولن يبقى منها سوى أثر قد يعفي عليها الزمن بعد حين.
من ينتج تلك الأفكار؟
عندما يحدث الصراع والتناقض بين بني البشر والواقع، أو بين بني البشر وجنسهم، ذلك التناقض والصراع ينتج أزمة، وتبعث تلك الأزمة بطاقات تسبب ثورة وهيجان في عقول المتمردين الذين لا يعلنون الولاء لأحد الفريقين، بل كل همهم هو طلب التغيير، أو بحثا عن حلول لتجنب حرب قد تؤدي بهلاك الجميع، فلا يكون ذلك إلا بالتأمل والتفكر في هذا العالم، وتنقيبا لفك ذلك اللغز، عن طريق بناء تصورات تمكنهم من وضع حد لكل تلك المشكلات، وهو ما يستلزم جملة وتفصيلا فهما عميقا للأزمة، ولو لا تلك الأزمة لما برزت فكرة على أرض الواقع، لتقبض عليه وتقوم بتغييره وفق ما ينسجم والوضع المطلوب.
إذا ما الفكرة؟
تقول جاكلين روس: “هي كلمة – ملتقى” خضعت لتحولات دلالية عميقة عبر تاريخها: فالفكرة عند أفلاطون تشير إلى نموذج مدرك للواقع، أما عند هيغل، فهي مبدأ الجدلية عينه؛ تمثل الفكرة في نظرنا، شكلا مثاليا يعطي العالم إطاراً ومعنى، ويوحّد وينظّم؛ ذلك أن الفكرة تجسد وحدة جدلية حية، إنها صورة غير ملموسة، لكنها تجمع أحداث التاريخ، وترشدها، وتنيرها، وتقودها، إنّ التصورات الأساسية، كالتطور، والإنسانوية، والعدل، والحق…التي بواسطتها يتأمل البشر العالم، هي حقائق تتحكم بكل شيء، وتنشر حياةً تتميز بنشاط كبير، وتمتلك القوة والسلطة، تُظهر أفكار التطور أو الديمقراطية تلك الطاقة الخلاقة الهائلة، أبعد من كونها تركيبات فوقية فقط أو عناصر محدّدة بتركيبة تحتية اقتصادية أو سياسية (ماركس)، تتطور الأفكار بفعل تاريخ خاص بها وبطريقة مستقلة نسبيا، وقدرتها الخلاقة التي تنبع من داخلها تتحكم بهذا التطور وهذه الصيرورة”.
وتقول في موضع آخر: ” تتميز الفكرة عن الإيديولوجية التي هي نظام أفكار ومفاهيم مجتمعة حول بعض المبادئ الأساسية والهادفة إلى تفسير العالم، يقول ريمون آرون Raymond Aron: “نهاية الإيديولوجيات، نهضة الأفكار” وهو عنوان لأحد أبحاثه، فالإيديولوجية، بالإشارة إلى الماركسية وهي الإيديولوجية بإمتياز، تتضمن عامة نقضا، وعجزاً، وخطأً أو مغالطة: فهي تعني مفهوما للعالم وهميّاً أو مخادعاً، نوعا من الخليط الذي تمتزج فيه الحقائق؛ لا تتماهى الفكرة مع الوهم الإيديولوجي، لأنها إنتاج روحي يرشد البشر وهو ضروري لهم، من الممكن أن تتحول الفكرة إلى تصور للعالم يتناسى الواقع، لكنها تعني في الأصل قوة روحية مليئة وصادقة، ونداءا وواقعا فاعلا: إنها تصور موجَّه يشكل أساساً للفكر، وفيما تتسم الإيديولوجيات بوصمة سلبية، تجسد الفكرة تصوراً أكثر انفتاحا، من دون أن تكون حيادية، إذا كان لا بدّ لنا من الحكم على الإيديولوجيات، كيف لنا أن نحكم على الأفكار، وهي أوكسجين الحياة الإنسانية؟ من دون أفكار، لا يمكن للفرد إلا أن يتقهقر ويموت؛ يمكن للوجود أن يكون إنسانيا من دون إطار إيديولوجي ضامن ومُطمئن، ولكن لا يمكنه أن يكون إنسانيا من دون أفكار”.
ومن يطلب العيش بدون أن يفكر فهو كمن يطلب الحياة دون أوكسجين، وهذا مالا يمكن تحقيقه أبدا، لأننا ببساطة نحيا داخل تلك الأفكار، ونقبع داخلها لصنع عالمنا الصغير، بل هي العالم بذاته، ولا يمكننا أن نعيش بدونها كما لا يمكننا أن نعيش دون أوكسجين، وليست هناك فكرة تعيش خارج ذواتنا مستقلة، فلو تابعنا برهاننا لقلنا أن الحرية، الديمقراطية، الدستور، القوانين، الحرب، السلم، الحق، الواجب، كلها أفكار نابعة من واقعنا، وكلها وقائع نابعة من أفكارنا، وهكذا تجدنا نحارب ونناضل من أجلها دونما حساب لألف حساب، لولا تلك العقول والأفكار التي أنارت دربنا بتوقيف حربنا، وتقليص تناقضاتنا، ولولا محاولةً منهم بناء عالم من التصورات العليا، وتشييد مجتمع أصيل، وحماية الثقافة بكل قيمها بحصون مصقولة، لـَمَا كان للأصالة وجود.
وللأفكار سلطة تفوق كل السلطات المتعارف عليها، وهي أكثر شراسة وفتكا مثلما هي أكثر لطفا، وهي التي تستحوذ على عقول الشعوب وذوي العقليات البسيطة، وتبث طاقة الحرب كما تبث طاقة السلم، لكن رغم ذلك تبقى الأفكار هي الأكثر غموضا وعنادا من الواقع ذاته، كما تقر بها جاكلين في قولها: ” لأن الوقائع تتحطم على الأفكار أكثر مما تتحطم الأفكار على الوقائع”.
كيف تتخطى الأفكار حياة المنتج؟
تقول جاكلين روس: “لا يمكن للفلاسفة أن يحصروا الأفكار بذواتهم، إن الفنانين، والثوار، والعلماء، ومؤسسي الأديان، والشعراء ينظمون هم أيضا العالم ويتفكرونه، هم أيضا بحاجة إلى تصورات كاشفة…الإنسان المرمي في العالم، الذي تهدده خصومة الأشياء، يصوغ أفكارا تساعده على فهم الطبيعة وعلى السيطرة عليها، الإنسان، الإنسانوية، الإنسانية، التاريخ، الشخص، الفرد، هذه التصنيفات الأساسية تنظم فكر الغرب، وأما العقل، والعلم، والطريقة، والجدلية، والنظام، والفوضى، والخواء، والمفهوم، والطبيعة، والتقدم، والصيرورة فهي تعطي الثقافة الأوروبية معناها، هذه الثقافة المتأثرة كما رأينا بالإرث اليوناني (الجدلية، العقل…) وأيضا بالإرث المسيحي (اللامتناهي…)؛ كل هذه الأفكار نظرية، لكن ثمة أفكار تدير العمل الفردي والجماعي: الأخلاق، العدالة، المساواة، الكرامة، السعادة، الشخص، السياسة، الديمقراطية…إنها مفاهيم تتمازج فيها الرؤية اليهودية – المسيحية والمذهب الطبيعي اليوناني، وتؤسس للفكر الأوروبي، أخيراً إن فكرة الجميل، والجمال، والذوق، والجمالية…تذكرنا بأن الإنسان الأوروبي هو ذلك الإنسان الجمالي، الذي يطارد الجمال المولود في المدينة القديمة حيث الجمال علامة الخير”.
بعد هذه الإطلالة على حياة الفكرة أو الأفكار وتطورها وإنجازاتها وموتها، وفق منظور أوروبي، سننتقل في مقال آخر نوضح فيه الأفكار في عالمنا الإسلامي والتي صنعت حضارة ولا بد أن تصنع حضارة أخرى ، محاولين الإقتصار على تلك الأفكار التي يجب على المفكر والمثقف الإهتمام بها لأنها من صميم واقعنا لا من صميم واقعهم – أوروبا- لهذا وجب على واقعنا من تناقضاته، ومشكلاته أن يحرك هذه العقول الراكدة، وأن يبعث بالنسيم، وإن كان واقعنا اليوم يبعث بالإعصار، إلا أن الأفكار لم تنتج بعد؛ وهو ما يبعث على حالة مأساوية جدا يعيشها مثقفونا ومفكرونا في دولنا العربية الإسلامية في خضم الأحداث المؤسفة، من ثورات، وفقر، وإستبداد، وإستعمار فكري ومادي كأهم عوامل مطروحة حاليا، وهو ما يؤكد بأن هناك أزمة كبيرة يعيشها العقل العربي في ظل غيابه التام، وأخرى يعيشها الواقع، فالعقل يحتاج لصفعة توقظه من سباته، والواقع يحتاج حلولا لكل المشاكل الكامنة فيه، واحدة بواحدة، والكل متكامل.
حتى جاكلين روس وأمثالها لم يعترفوا بكل الأفكار التي صنعت عالم أوروبي من ذوات الأصول الإسلامية، لم تعترف بكل الأنوار التي بعثناها في أعماقهم يوم وطئت قدم المسلمين عالمهم، لأنها بحق لم ترد أن تحطم تلك القدرات التي صنعناها، ولو تم كشف المكنون لإنكسر الزجاج الـمُعاكس للحضارة الأوروبية، ولكن إدراكها هذا جعل منها لأن تُعيد صقل العقول الغربية الناشئة بروية، وتقفز من حضارة اليونان إلى حضارة الحداثة الأوروبية مُخلفة وراءها تاريخا طويلا وآثارا كبيرة لمعلم القرون الوسطى ابن رشد رحمة الله عليه ، وتتخفي وراء ذلك عصورا مظلمة عليهم وليست علينا، لأننا كنا في قمة المنارة العلمية، ومصدرا يبعث على الروح التي لها شغف البحث، وعالما منتجا للأفكار، وحضارة مصدرة للعلوم، فهي أرادت أن تقدم رواية بطلها أوروبا لأفكار أوروبية، حتى تبقى العقول الغربية هي منبع لتوليد الأفكار، ولكن لا يمكن أن نَـمـُـرَّ مرور الكرام دون الرد عليها دفاعا لكرامة الشخصيات التي أنارت دربهم، ودفاعا لأفكارهم، يجب أن نعلمها درسا في العصور الوسطى، برواية عربية أصيلة تحكي أسفنا للقطيعة التي أحدثناها مع أولئك الأنوار، وتقتبس من واقعنا مأساة الشعوب والنخب على السواء، ونضفي عليها غطاء رومانطيقي لعاشق الأصول العربية.
رأينا سابقا – في مقالين نشرتهما في عدة مواقع بعنوان( بوادر ظهور أزمة العقل الغربي ، المسيحية بين مشكلة العقل والإنسان)- كيف كانت العصور الوسطى يحيط بها الجهل من النواحي، وكيف تمت الكنيسة برمي شباك القدسية على كل شيء دون قيد، حتى كادت الكنيسة أن تكون وحدها الذي يقدم إنتاجا فكريا وفق ما يتوافق وتعاليمها، ووحدها القادرة على تخليص الإنسان الأوروبي من جحيم الآخرة، وكان الدافع الحتمي إلى الإضطهاد العقلي هو الإيمان العميق بأن من لا يخاف الكنيسة ملعون لعنة أبدية، وأن الله حسبهم يعاقب البشر على الظلال الديني بإعتباره ذنبا من أشنع الذنوب، وليس هذا فقط؛ بل كان من الواجب في نظر الكنيسة أن يفرض على الناس اعتناق الدين الحق الأوحد لكي يستنقذ الناس بذلك مصالحهم في الآخرة، ويمنعوا الضلالة من الإنتشار في الأرض، وكانت جريمة الإلحاد أو ” الهرطقة” أفظع وأشنع من أية جريمة أخرى، ومهما ألحق الإنسان بأولئك الملحدين من الأذى فإن هذا الأذى الدنيوي نعيم إذا قيس بما ينتظرهم من تنكيل في الجحيم.
وفي القرن الرابع ميلادي رأى قديس النور بميلاده، هذا القديس الذي يعتبر شخصية بارزة في عصره، ورجلا ذو مكانة علمية مرموقة، وأوفرهم حظا على الأقل من الإحترام وأوسعهم نفوذا وسلطانا.
من هو؟
هو القديس أوغسطين، الذي رسم للأجيال من بعده مبدأ ” الإضطهاد” وإستند فيه على أساس ثابت من الإنجيل، وهو الآية التي وردت على لسان “المسيح” عليه الصلاة والسلام في أحد أمثاله: ” أجبروهم على الدخول في حظيرتكم”، فما كان من الكنيسة إلاّ أن ظلت تعمل في هذا السبيل وتحارب ما تسميه ” فساد العقيدة” إلى غاية القرن الذي هاجر فيه المسلمون الكبار أمثال ابن رشد إلى الأندلس ليصبح معلما لطلاب أوروبا من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
لم تنتج أوروبا في تلك الفترة أفكارا حسب ما نعتقد، رغم توفر كل العوامل والأسباب التي تؤدي إلى ذلك، فقد حدث في تلك الفترة تعذيب وإضطهاد غير قليل ولكنه لم يكن إضطهاداً منسقا، لأن الكنيسة كما يقول جون بانيل بيورى: ” كانت مدفوعة في مطاردة الإلحاد بإعتبارات مصلحتها الدنيوية، ولم تكن ثائرتها تثور إلا إذا هدد انتشار مذهب جديد إيرادها بالنقصان أو عرض المجتمع المسيحي لخطر محقق”، وهو ما جعل الجميع يقبع بفكره في حدود المعمول به آن ذاك، ألا وهو قوانين الكنيسة وليس دين المسيحية كما يظن البعض.
ومن المواقف التي تبعث على السخرية في تلك الفترة نذكر على سبيل المثال تحريم التفكير والبحث العلمي خارج إطار الدين، وكل من يفعل ذلك يعتبر من الملحدين، ولعل الكيمياء كانت أبرزها، حيث تم وصفها بأنها صناعة شيطانية، لينتهي بها الأمر إلى أن حرّم البابا الإشتغال بها، وأبرز من ذلك، هو تلك الصورة التي سادت العصور الوسطي لإنكار العلم، تتجلى في سجن ” روجر بيكون” زمنا طويلا في القرن الثالث عشر رغم إيمانه الديني لأنه كان شغوفا بالبحث العلمي الذي كان يقلق الكنيسة.
وبعد كل ذلك تهيأت الأوضاع لبروز عالم جديد، يبعث على التفاؤل، من خلال الصراع بين الكنيسة والعقل، ليذهب ضحية تلك المعركة الكثير من الشخصيات البارزة، ولعل أبرزهم غاليلو غاليلي، لم يكن بالشيء الهين أن ينقل هذا الصراع من السكون إلى الحركة، إلا بعدما تم الكشف عن غطاء العقل، وإستيقاظه، وفك قيود الفكر، وكسر حواجز القوانين التي سنتها الكنيسة في العصور الوسطى، وهنا يبيّن لنا هشام صالح كيف إنتقلت أوروبا من حالة إلى حالة، وذلك في قوله: ” ينبغي أن نعلم أنّ العلم الحديث كان قد تولّد عن طريق نزع أغلال القدسية عن الواقع على عكس المعرفة السائدة في العصور الوسطى والتي كانت تغطي كل مظاهر الواقع والطبيعة بأسدال كثيفة من التقديس؛ ولذلك أعتبرت الإكتشافات العلمية في البداية بمثابة تجديف أو كفر أو فضيحة لا تحتمل”، وحسب إعتقادي أن واقعنا لا يختلف على واقع أوروبا ذلك الزمن، ليصبح حُماة الدين المزيفون – بالطبع ليس كلهم – يعبثون بنا بإسم الدين.
وعموما، هذا ما يوضح لنا عمل الفكرة في صنع الواقع، فالأفكار هي أشبه بالكائن الحي، تعيش وتنتشر عندما تجد إستعدادا لتقبلها وإحتضانها، وهذا ما يستلزم له تهيئة الظروف وتشخيص الأزمة قبل إنتاج الفكرة لأن القبول لا يكون إلا إذا كانت وليدة ذلك الواقع، وتموت وتندثر عندما تواجه مناعة ترفضها وتقطع تواصلها، وهو ما يبرز لنا أن الأفكار التي ماتت ليست وليدة تلك الظروف ولا تنتمي لتلك البيئة، أو أن هناك قوى أخرى أسميها “القوى المضادة” تحجب حقيقتها وتضعف قوتها، وهو مايجب علينا توضيحه قبل الإنتقال للعنصر الآخر.
فالأفكار – بصرف النظر عن مضمونها – تتسرب إلى العقول وتتغلغل في النفوس عندما تطرح في مجتمع ضعيف المناعة أو فاقد لها وغير محصّن ذاتيا ضد ما تحمله من قيم ومبادئ.
كيف تقضي القوى المضادة على الفكرة الثورية؟
الحديث عن الأفكار الثورية برمتها، وكيفية مواجهتها من قبل القوى الرجعية أو المضادة، يجب أن نعتمد على المفكر مالك بن نبي، الذي كانت له رؤية حقيقية في هذا الموضوع ، وكل ما سأطرحه هنا إما مقتبسا من كتابه “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”، أو ملهما من كتاباته، إذاً البحث عن الأسباب التي تقضي عن الأفكار لا تعد ولا تحصى، ولكن مقصدنا هنا هو كيفية القضاء على الفكرة الثورية وحجبها، أو تغييرها عن مسارها، وذلك عن طريق وسائل ملائمة، فمثلا يسد مدارك المثقفين عن مقصد شعاراتهم ليضيفوا عليها طابعا سياسيا، حينها يتم تغييب الوعي اللازم لفهم القضية المطلوبة.
وعلى جانب آخر يتم إستعمال الدين، كوسيلة لها مصداقية عند الشعوب، لأن إضفاء الطابع الديني على قضية ما سيجعل لها حراس، دورهم حماية تلك القضية، وينصرون ناصرها، والحراس بطبيعة الحال هم الشعب، فلغة الدين تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة في هذا المستوى.
فالقوى المضادة للفكرة تحاول تطبيق ما يسميه مالك بن نبي إستراتيجية الألعاب الإسبانية: “إنهم يلوحون بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك، وبدلا من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر الذي يلوح به حتى تنتهك قواه.
عندما يقوم أحد المفكرين أو المثقفين بإنتاج فكرة، من شأنها تبليغ رسالة، أو تغيير واقع، أو حل لقضية ما، تسارع تلك القوى المضادة لتطبيق إستراتيجية الألعاب الإسبانية، فهي تحاول تحريف مقصد الفكرة، عن طريق طرح بديل برؤية دينية وبإسم شخصية من الثقات إما براءة ذلك الشخص الثقة لطرح الموضوع، أو عميلا لتلك القوى، فيعصر المُستهدفون – أي الشعوب- ويرسم في أذهانهم صورة مغايرة مختلفة عن القصد الحقيقي للفكرة، هنا بالضبط تقع الحيرة، ويغيب الإدراك والوعي عن الشعوب، فيكون للفكرة ممانعة والإعراض عنها، أو التشكيك في مدى صحتها، ليفقد بصيرته العقلية، ويبدأ العمل العاطفي ويصب كل غضبه على صانع الفكرة، دون أن يحقق معها.
الأمثال كثيرة على هذا، ونأخذ أحدها كإثبات رياضي، المفكر مالك بن نبي حين أصدر كتابه “شروط النهضة” لاقى فيه الكثير من الإعتراضات، وإتهموه بسرقته من جرائد فرنسية، وكانت تلك الأفكار والردود التي تنشر على الجرائد الجزائرية يتابعها أغلب المواطنين الجزائريين، مما أدخلت بعض الشكوك في شخصية الكاتب، وزعزعة الثقة بينه وبين بني جلدته، وبين الشعب المستهدف والفكرة المطروحة في الكتاب، ليصبح الكتاب شيئا يعبر عن عار السرقة الفكرية من الكاتب نتيجة التهمة، بدلا من أن يعبر عن مقصده المتمثل في فكرة التغيير والنهوض، أما أنت أيها القارئ إذا أردت المتابعة في شخصيات أخرى لها نفس القصة، فيمكنني ترشيدك إلى شخصيتين إثنين، أولهما الدكتور ” مصطفى محمود” الذي عاش حياته مطاردا من قبل الإخوان والسلفية في مصر، وثانيهما “عدنان إبراهيم”، ولك أن تتحرى كيفما شئت، لأن طرق الوصول للحقيقة متعددة، والحقيقة واحدة؛ وبالتالي أنصحك بالمواصلة في البحث لأن هذا العالم الذي نعيشه، لا شيء يسير فيه بعفوية، فكل شيء مخطط له بإحكام، وما نحصده اليوم ما هو إلا نتائج لتلك الخطط.
والهدف الأساسي الذي تسعى إليه كل القوى المضادة – الداخلية منها والخارجية – للحقيقة وللأفكار الصحيحة كما يحددها “بن نبي” تكمن في عزل صاحب الفكرة من ساحة الفكر وفق جانبين إثنين:
1- أن ينفر من أفكاره الرأي العام، بجميع الوسائل الصالحة لذلك.
2- أن ينفره هو نفسه، من القضية التي يكافح من أجلها بأن يشعره بعبث كفاحه.
فالعنصر الأول سبق وشرحناه، أما الثاني يكمن مقصده في زرع الشك في نفسية صاحب الفكرة، بأن فكرته غير صالحة، وما يؤكد له ذلك هو إعراض الجمهور المستهدف عنها، لهذا نجده يحاول الهروب أو التملص منها، دون أن يلجأ إلى الرد عليهم، والدفاع عن الفكرة، وإذا لم يتم الدفاع عن الفكرة وهي مازالت بويضة فلن تفقص، وبالتالي تموت وهي مازالت جنين، وهو ما نشهده اليوم حقا من إعتزال بعض الكتاب عن ساحة الفكر لأنهم لم يكونوا مجهزين بأسلحة تفوق أسلحة القوى التي يود محاربتها.
هكذا فقط تكسب القوى الرجعية والمضادة المعركة أمام منتجي الأفكار، ويحرفون مقصدها، من كاتب يدافع عن قضية، أو باحثا عن حل لمشكلة ما، إلى معركة بين الكاتب أو صاحب الفكرة وبين من يدعون بأنفسهم أصحاب الحق في إصدار الحقيقة، ويضعون لنا قوانين مقيدة يجب أن لا نتجاوزها، كل وفق ما ينصه قانونهم، لا وفق ما تتطلبه قضيتنا، وهكذا يعجز الكتاب ومنتجي الأفكار عن مقاومة هؤلاء المتكالبون عليهم.
والفكرة إذا إنحرفت عن مقصدها، ستفقد بطبيعة الحال طابعها، ويزول هدفها قبل أن تتحقق كمشروع على أرض الواقع، وتفقد معها معنوياتها، وتُحجب قدسيتها عن الأنظار نتيجة الغضب الذي لاقته من المُستهدفين، لتموت في نهاية المطاف دون أدنى شك.
ولكي تُجسد كل هذه الأفكار من أجل إستيعابها، فتخيل معي أن الفكرة كائن حي، نشير إليه كما نشير لشخص قريب منا، نراه بالعين المجردة، وآخر يحمل سلاح موجه نحو ذلك الكائن المسكين، ويطلق عليه الرصاص، فهل يبقى ذلك الكائن على قيد الحياة؟
ماذا يجب على المثقف والمفكر لفهم دور الفكرة؟
بعد إستيعابنا للفكرة كجانب مستقل، وكعنصر من عناصر النهوض بالأمة، نتطرق الآن لجزئية أخرى مهمة، وهي آخر مرحلة من مراحل صنع الأفكار، والتي تتمثل في فهم الواقع من أجل إنتاج الفكرة، وفهم الفكرة لتغيير الواقع، علما بأن منتجها يجب أن يدافع عنها ويحميها من كيد القوى المضادة إلى أن تتحقق، وتبلغ هدفها.
ولا يجب على مثقفينا ومفكرينا أن يظلوا مسجونين ومنشغلين بحراسة الأفكار، ومعنى الحراسة كما يقول علي حرب هو: ” التعلق بالفكرة كما لو أنها أقنومُ يقدّس أو وثن يعبد، على ما تعامل المثقفون مع مقولاتهم وشعاراتهم؛ مثل هذا التعامل هو مقتل الفكرة بالذات، إذ هو الذي وقف حائلا دون تجديد العدة الفكرية واللغة المفهومية، بقدر ما جعل المقولات تنقلب إلى أضدادها في ميادين الممارسة ومجالات العمل…ذلك أن الأفكار ليست شعارات ينبغي الدفاع عنها، أو مقولات صحيحة ينبغي تطبيقها، بقدر ما هي أدوات لفهم الحدث وتشخيص الواقع؛ إنها حيلنا في التعقل والتدبر للحياة والوجود، بإجتراح القدرات التي تتيح لنا أن نتحول عما نحن عليه، عبر تحويل علاقتنا بالأشياء أو بِنَسْج علاقات مغايرة مع الحقيقة؛ وبقدر ما ننجح في تغيير أنفسنا وواقعنا، تتغير أفكارنا ذاتها، ذلك أن ما نصبوا إليه أو ما نصير إليه يتغير بقدر ما نتغير نحن بالذات، بمعنى أن الهدف الذي نبلغ نحوه، يتغير خلال المسعى نفسه، بما هو اشتغال على النفس والفكر؛ بهذا المعنى، يجري صنع الأفكار وإعادة ابتكارها، بقدر ما يصار عبرها إلى صناعة العالم وتكوين المشهد أو إلى تغيير الواقع ورسم المصائر”.
والتغيير لا يكون إلا إذا توفرت شروطه، ففيما تكمن تلك الشروط؟
أول تلك الشروط هو حدوث أزمة، وثانيها، فهم الأزمة، وثالثها هو قناعة التغيير، ولهذا نجد أن الشرط الأول والثاني متوفرين في عالمنا، ولكن الثالث غائب تماما، لأن منتج فكرة التغيير لم يكن مقتنعا ذاتيا لكي يقنع من حوله، تأمل معي هذه الآية الكريمة، في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ – سورة الرعد: 11، فالله سبحانه وتعالى لن يُحدث تغييرا ما لم نوفر له كل الشروط، ستقول كيف لك أن تدخل القرآن هنا في قضية لا تحتاج أصلا لكل هذا؟ نعم! معك حق!، هو قول رب البرية ولا جدال فيه، قد نختلف في مقولات علي حرب، ومالك بن نبي، لكن لن نختلف في مثل هذه الآية الصريحة و لن نختلف – أنا وأنت – في كلام الحكيم، فلنعد مجددا ونقول بأن التغيير يجب أن يحدث من داخلنا، رغبة فيه، وقناعة منا.
وآخر ما يلزم هو تلك القراءة النقدية للأزمة أو المشكلة المطروحة، لأن النقد من شأنه أن يصقل أفكارنا، ويحميها من الموت في حربها مع أفكار القوى المضادة، ولولا النقد لما إستطعنا تشخيص حالة الركود والعجز الذي يعيشه المفكر والمثقف، وأصحاب الفكر عموما، ويؤكد علي حرب على دور النقد في قوله: ” إن النقد هو الذي يفسر لنا عجز أهل الفكر عن الإضطلاع بمهمة تغيير الواقع المجتمعي على الأرض وفي الميدان، لأنه يبين أن المفكر هو الذي يغير العالم بالفكر وعلى صعيد الفهم بالدرجة الأولى، بإثارته مشكلة فكرية ننشغل بها، أو بإفتتاحه حقلا للتفكير نشتغل فيه، أو بإبتكاره مفهوما نشتغل عليه؛ والمفكر الذي لا يستطيع تغيير العالم، فكريا، بتجديد أفكاره أو بتغيير طريقته في التفكير أو بإبتداع ممارسة فكرية جديدة، لن يغير شيئا، ذلك أن المفكر هو فاعل إجتماعي لكونه فاعلا فكريا قبل أي فِعل آخر”.
هذا ما يجب على المفكر القيام به في خضم كل هذه الأحداث التي تحيط بنا، وفي عصر كثرت فيه الأزمات دون أن تجد من يبعث بالحلول لها، أو من يعبث معها، وهذا هو العمل الذي ينبغي القيام به لصنع فكرة، وبناء واقع، دون أن ينحرف عن مساره وهدفه، متمسكا بمبادئه، لا أن يبقى في تلك الحفرة التي يُنَصِّبُها له من يريدون الهلاك له وللأمة.
أحيانا أشكك في نفسي وأتردد في التكلم عن بعض القضايا، ليس خوفا ولكن آملا أن أكون مخطئا في ذلك، ومن بين تلك القضايا هي إنعدام المثقف والمفكر الحقيقي، بكل ما تحمله هاتان الصفتان من معانٍ في بلادنا العربية الإسلامية، فكل ما هنالك هم أناس بسطاء يشتغلون على قراءة الفكر وإجترار الأفكار المسبقة الميتة، وهذا العامل يكشف مأساتنا، ويحدد مستوياتنا الثقافية أمام العالم برمته، يقول أحمد عائل فقيهي: “ولعل أكثر القضايا التي تهمني وأنحاز لها هي قضية الفكر من حيث كونها تعبيراً عن مدى وصول المجتمع إلى مستويات رفيعة ومتقدمة وترجمة عن تطور الثقافة في أي مجتمع، وفي بلادنا وعلى كثرة الأدباء والمثقفين لا يوجد برأيي مثقف حقيقي يمكن أن أقول عنه بأنه مفكر، هناك مشتغلون بالفكر لكن لا يوجد مفكرون كما نجد ذلك ممثلا في أسماء كبيرة عند المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي أنتج مشروعه “تكوين العقل العربي” وغيرها من كتبه العميقة، أو عند المفكر المصري حسن حنفي صاحب المشروع الفكري “من العقيدة إلى الثورة” ، أو عند أدونيس الذي قدم مشروعه الفكري المبكر والمتمثل في كتاب ” الثابت والمتحول” وغيرها من كتبه، والمفكر السوري طيب تنزيني أو نجد مفكرا بحجم إدوارد سعيد الذي يعد واحد من أبرز المفكرين في العالم الذين أحدثوا تحولاً حقيقياً في الفكر الإنساني خاصة كتابيه “الإستشراق” و “الثقافة والإمبريالية” وآخرين”.
كنت أعتقد ذلك سابقا، ولكن حين عزمت على قراءة واقعنا وإنتاجه الفكري مقارنة بالإنتاج الفكري في الحضارة الإسلامية، وجدت الكثير مما كان متسترا وراء بساطته، أنهم لا يريدون شهرة ، ولا يبتغون مالا، وأنا شخصيا تواصلت معهم فمنهم من مازالت علاقتي به في البداية، ومنهم من تعمت معهم في قضايا لا حصر له، وهو ما يحتاج لكتاب كامل من أجل توضيحه، وهنا سأذكر فقط إثنين: الدكتور أسامة عكنان، والباحث الأردني هاشم نصار.
بعد كل هذا، ألا نعتقد بأن للمثقف والمفكر الحر وصف دقيق يحدد معالمه؟ وما المقصود به؟ وعالم فكري وواقعي صراعي يعيشانه داخل بيئة ما، ووسط مجتمع يملؤه الإختلاف والتناقض، محاط بجدران من القوى المضادة، فما الدور الذي يلعبه حتى يخرج من تلك السلطة؟ وما الوسائل التي تمكنه من إيصال رسالته؟ وكيف يمكنهم تحريك كل ذلك الركود الذي يغشى المجتمع؟ وهل لذلك علاقة بإعادة طرح أسئلة جديدة، وإبداع مفاهيم جديدة، وكسر القيود سؤال واقعي بجواب فكري؟ وهل يحتاج إلى كشف جديد لطرق النهوض على غرار الوسائل التقليدية – أوروبا كنموذج – لحل كل الأزمات المستعصية؟
هذا ما بدا لي من أفكار، حقيقة مؤلمة عن واقعنا الفكري، ولم يحتمل القلب كتمانها، فمنكم من سيقول خواطر، ومنكم من سيقول نقدا، ومنكم من سيحترم قلمي ككاتب حر، وكل هذا لا يعنيني، فقط هذه رسالتي إذا لم تفهم فأعد قراءة المقال وستجد ما بين السطور ما لم تره عينك.
هو ذاك مااستخلصته تجسيدا لما يكتنف الباحث،المُجدَد من أحاسيس انهزامية كردة فعل لما يلاقيه من إصابات لاعقلانية،
،والمشكلة ليست في نفاد ما بحوزة الفكر الثاقب من أسلحة،ونتاجات إبداعية ذات إدهاش،
أو حتى يعود السبب فقط لجراثيم شكَ تنساب عبر الأوردة ،بعد صراعات مريرة مع ذوي الجهالة
،ولكن أيضا يكمن السبب في من تتلفع أذهانهم بسلبية مفرطة ممن يسعى جاهدا للأخذ بأياديهم نحو فوهات نورانية ،فلايُحركون ساكنا أويرفعون مكسورا،وقد يُعجبون بما ينثر في دواخلهم ،صباحا ،وإذا غشي المساء أنظارهم، اتخذوا من التنكر لأقواله سبيلا.
.كان الله في عون كل داعية يحمل على كاهله مايبعث التنهيدة من الأعماق طويلة ،حارقة….
لك أيها الفاضل البشير ،وللدكتور عدنان إبراهيم،تحية طيبة وتقدير .
رحم الله المفكر المبدع مالك بن نبي لقد كان ثاقب الرؤية بعيد البصيرة كأنه متنبئ فعلا لواقع أمته وما سيكون فيها من مرجفي الفكر وجهلة العقل. لا يأس لا حزن لا إحباط، فمن يريد أن يبدع فـ (إذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران، ولن يردعه شيء من هؤلاء المرجفين المثبطين، فالعلم نور الله وهم (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم “أقلامهم كتاباتهم إعلامهم” ويأبى الله أن يتم نوره…) التوبة، ولابد للمبدع أن يكون ذا بصيرة وفطنة وحذر ومجاهدة وصبر حتى يصل لغايته ومبتغاه ويكون من (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) الأحزاب؛ والله المستعان على ما يصفون.
السلام عليكم ورحمة الله
انا من متتبعى الدكتور عدنان ابراهيم من ايايام pdf
الشئ الذى لم افهمه هو توقف حلقاته فى رمضان الماضى فى الامرات قبل الانهاء و بالضبط بعد الحلقة العشرون
ثم الموت المفاجئ لمقدم الحصة (ليطمئن قلبى) هل هو مجر قدر ؟؟؟