إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه المجيد بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ۩ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۩ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
ما من شيئ بعد القلب أحوج إلى ضبط وتحكم ومُراقَبة من اللسان، ولذلك قال – سُبحانه وتعالى – على ما سمعتم اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩، والتقوى محلها القلب، ألا إن التقوى ها هنا، إذن هو – سُبحانه وتعالى – يُشير إلى أمرين خطيرين، أمر القلب وأمر اللسان، اتَّقُوا اللَّهَ ۩ هذا شأن القلب، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩ هذا شأن اللسان، فمَن تم له التحكم في قلبه وفي لسانه بحيث لا يجول فيهما ولا بهما إلا ما يُرضي الله فقد قطع المفازة وضمن – بإذن الله والله هو الضامن – النجاة والسعادة إن شاء الله تعالى.
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩، والجزاء يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ۩، إذن استقامة سائر الأعمال رهن بهذين الأمرين، بتقوى القلوب وسداد القول أو الأقوال، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ۩، سُبحانه من إله كريم عفو غفور علم أننا وإن اتقينا وقاربنا وسدَّدنا فلسنا بمعصومين ولنا سيئات، إلا أنه وعدنا بأنه يغفرها ما التزمنا هذين الشرطين، أن نتقي بقلوبنا وأن نُسدِّد في القول، فلا نقول إلا رشداً، لا نقول إلا صالحاً، لا نقول إلا سداداً.
وقد قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، وبأبي هو وأمي، ما أفقهه وما أحسن ترجمته عن رب العزة سُبحانه وتعالى! كثيرٌ جداً من الأحاديث إذا أنعمنا فيها النظر ودقَّقنا يضح لنا أنه إنما يُترجِم عن قول رب العالمين سُبحانه وتعالى، فهذا هو قوله، تقوى القلوب وسداد الألسنة، ثم صلاح الأعمال، والنبي عليه السلام يقول الآتي – إنه لن يستقيم عمل امرئ حتى يستقيم قلبه، ولن يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، نفس الشيئ! هذا مأخوذ من الآية، وتحدَّث عن الأمرين، صلى الله عليه وآله وسلم، إنه لا يُكثِر الكلام، لا يُكثِر القول، لكن يُحسِنه جداً، لأنه إنما ينضح من كتاب ربه، وإنما يُفرِغ عن هذا الكلم العُلوي الجليل، فالعمل استقامته رهنٌ باستقامة القلب، القلب هو المصدر والمنبع، لكن القلب بدوره استقامته رهن باستقامة اللسان.
ولذلك قال يونس بن أبي عُبيد – رضيَ الله عنه وأرضاه، الصالح الشهير والعابد الكبير – لا أجد امرأً ينطق بالحق إلا عرفت ذلك صلاحاً في سائر عمله، هذا المرء الذي يحبس لسانه ويكف لسانه ولا يتكلَّم إلا بما هو حق وفي الحق وبنية الحق، يقول يونس – رضوان الله تعالى عليه – لا أجد امرأً ينطق بالحق إلا عرفت ذلك صلاحاً في سائر عمله، ولابد أن يكون سائر عمله صالحاً، القرآن يقول هذا والنبي قال هذا، وهذا الرجل أيضاً إنما يمتح وينضح من الكتاب والسُنة، رضيَ الله عنه وأرضاه، وله عبارة أُخرى أجزل وأجمع من هذه وأعجب، يقول – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لا تجد شيئاً من البر واحداً يتبعه سائر البر غير اللسان، عجيب! كيف؟ قال شيئ واحد يتبعه سائر البر فإن صلح صلح العمل كله، قال إلا اللسان، اللسان! ثم فسَّر – رحمه الله – فقال وذلك أن الرجل قد يصوم بالنهار ثم يُفطِر على الحرام، هذا عابد صائم، يتطوَّح حتى بالصوم، ويُفطِر على حرام! الصوم جُنة وحصن من النار حصين ما لم يخرقها، خرقها بالمعاصي، وهذا يصوم عما أحل الله ويُفطِر عما حرَّم الله، لأن كسبه من شُبهة أو من مال خبيث، لا يتورَّع في كسب! ومثله كما قال أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – كمَن يبني قصراً ويهدم مصراً، قال الذي يصوم عما أحل الله ويُفطِر على ما حرَّم الله كالذي يبني قصراً أو بيتاً ويهدم مدينة كاملة، ما هذا؟ هذا لم يأت بشيئ، كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً، أي قطراً، قطراً من الأقطار!
وقد تجد الرجل يقوم بالليل ثم يشهد بالزور في النهار، بماذا عاد من صيامه؟ يكذب، يشهد بالزور، وهو من أهل قيام الليل! ولكنك لن تجد مَن ألزم نفسه الحق وقول الحق ثم خالف ذلك عمله، مُستحيل! اللسان شيئ خطير جداً على ما يبدو، هذا اللسان! هذا الأجوف الصغير الذي قال فيه مولانا المُصطفى – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلام – أكثر ما يُدخِل الناس النار الأجوفان: الفم والفرج، قال العلماء عنى بالفم اللسان، عنى بالفم هنا اللسان! أكثر ما يُدخِل الناس النار – والعياذ بالله – الأجوفان: الفم والفرج والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ولذلك – وليس مُبالَغةً وإنما تقريراً لخطورة هذه الجارحة – ورد في حديث مُعاذ – الحديث الطويل الجليل، ولا بأس أن نسوقه بطوله، والذي أخرجه الإمام أحمد، وأخرجه ابن ماجة، وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وهذه سياقة الترمذي عن مُعاذ رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يُدخِلني الجنة ويُباعِدني من النار، قال لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على مَن يسَّره الله عليه، تعبد الله ولا تُشرِك به شيئاً، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فدله على مباني الإسلام الخمسة.
أيها الإخوة:
دخول الجنة رهن بالإتيان بهذه المباني الخمسة، هذا هو الطريق أو هذه هي الطريق، أُحِب هنا فقط أن أُشير إلى معنى يغفل عنه أصحاب الأماني من نوكى المُسلِمين ومن حمقى المُسلِمين الذين يقضون ويُمضون سنواتهم وأيامهم في الأمل الكاذب من غير عمل، من غير عمل والعياذ بالله! هذه هي الطريق، كم مرة ذكر الله في كتابه السبيل! هناك سبيلان: سبيل الجنة وسبيل النار، كما قال الشاعر:
أمامك فانظر أيَّ نهجيك تَنْهُج طريقان شتى: مُستقيم وأعوجُ.
سبيل المسعودين وسبيل الأشقياء – والعياذ بالله – المحرومين، لو أن إنساناً أخذ في سبيل وأمعن فيها بحيث لا يعود أليس بدهياً ومنطقياً – أيها الإخوة والأخوات – أن تنتهي به إلى غايتها؟ هذا بدهي، وهذا عادل، وهذا معقول! الذي يأخذ في طريق – مثلاً – مدينة لينتس Linz ويُمعِن فيها سينتهي حتماً إلى المدينة، إلى لينتس Linz من هنا! يستحيل أن ينتهي إلى غراتس Graz، يستحيل! مهما تأمل، مهما تعاطى السحر، ومهما تعاطى الخُرافات والأماني الكاذبة، أنت سرت في طريق لينتس Linz وأمعنت فيها أخذاً وسيراً وضرباً، ستنتهي بك حتماً إلى لنتس Linz، المعنى ببساطة – وهذا معنى مُخيف مع أنه بدهي والصبي يفهمه، لكن عملياً أكثر الناس يجهلونه ويُخالِفون عنه، يُخالِفون عن مُقتضاه وعن لوازمه، كيف؟ – أنهم يأخذون في سبيل جهنم، يُمعِنون في سبيل أهل النار، ثم يُؤمِّلون أن ينتهي بهم السبيل أو تنتهي بهم السبيل إلى أين؟ إلى الجنة، هذا غير مقبول، غير معقول هذا! أليس كذلك؟ أنت يا أخي أو هو الأبعد يُمعِن في سبيل الأشقياء، كيف يُؤمِّل أن ينتهي إلى نهاية السعداء؟ صعب جداً، والعكس صحيح!
طبعاً هناك استثناءات وهذا شيئ آخر، نحن نقول أما أن ولم يعد، لو عاد في آخر لحظة الله يقبله إن شاء الله تعالى، وهنا تطوي الرحمة الإلهية ويطوي الكرم الإلهي ما لا يطويه الزمان، كان المفروض أن تسير أنت في سبيل السعادة ستين سنة، لكنك لم تسر إلا سعادة، وستصل إن شاء الله، لكن بالتوبة الصادقة.
بعض الناس يغره إبليس عن نفسه ويغره بربه، فيقول جميل، هذا الذي أعتقده، وسأبقى مُمعِناً في سبيل الأشقياء، ثم أتوب في آخر لحظة، مسكين يا أخي! أنت تُناوِش المُستحيل، وأنت فعلاً مغرور بربك، هل تعرف لماذا؟ مَن الذي يضمن لك أنك تتوب؟
وصدِّقوني يا إخواني كل معصية جديدة إنما تعمل على تعمية القلب وتقسيته، يقسو القلب ويعمى! وليس بعيداً أن ينتهي المرء إلى حال من الزندقة والإلحاد، يُنكِر معها حتى وجود رب العالمين، فيقول هذا كله خُرافات وكلام فارغ، وأنا في السيئات وفي الكبائر وفي الفواحش والعياذ بالله، بعت ضميري، بعت شرفي، بعت ديني، بعت كلمتي، وخُنت أماناتي، فعلت كل شيئ! ولم أقض حقاً من حقوق الله، واغتلت وتغوَّلت حقوق العباد، ولم أر إلا الخير، أنا مُوفَّق، مسكين! لأن الله مد لك، وأخبرك في عشرات الآي أنه يمد لهؤلاء المخذولين ويُمتِّعهم، مِمَن يُجاهِرون حتى بالكفر والإلحاد، قال وَمَن كَفَرَ ۩، حتى مَن كفر! وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ۩، لكن العبارة بالخواتيم هناك، ليست هذه الدنيا هي نهاية المطاف.
فيا إخواني استحضروا هذا المعنى دائماً، حتى تكشفوا شيئاً من تغرير إبليس أو تلبيس إبليس، الذي يسير في سبيل النظر ويُمعِن قد تنتهي به – والعياذ بالله – إلى غايتها، إلى النار! يجد نفسه – والعياذ بالله – مُصوَّباً على رأسه في جهنم، إياكم والغرور بالله، إياكم وأماني الحمقى والنوكى، خُذوا في سبيل أهل السعادة، لماذا؟ ولا تضمن شيئاً، وقد تُفتلَت نفسك، أليس كذلك؟ ألا تسمع بموت الفُجأة أو الفُجاءة؟ كثيرون يموتون فُجأةً، مَن الذي يضمن لك أنك تمرض وتعتل حتى تتوب؟ قد تُفتلَت نفسك، أليس كذلك؟ الله – عز وجل – إذا عافص عبده بميتة كهذه فهذه أمارة الغضب، هذه أمارة الغضب! أما إن أخذ عبده المُؤمِن المسعود بميتة فُجاءة فهذه أمارة الرضا، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ميتة الفُجأة أو الفُجاءة أخذة أسف للكافر ورحمة للمُؤمِن أو قال راحة للمُؤمِن، لأنه – الحمد لله – موت في سبيل أهل الجنة حتى قبل أن يُغيِّر أو يُبدِّل أو يُفتَن أُخِذ على غِرة، ومن ثم ينتهي إلى الجنة، المُهِم أنه سائر في سبيل أهل الجنة، انتبهوا! هو – الحمد لله – يصوم، يُصلي، يُزكي، يحج، يبتعد عن المُحرَّمات، لا يتعدى حدود الله، لا ينتهك حُرمات الله، لا يعصي الله عمداً مُصِراً، وكلما عصاه ركع وتاب، ثم هو يُكاشِف نفسه ويُصارِحها، وأكثر ما نُؤتى إنما نُؤتى من الكذب على أنفسنا، نُبرِّر لأنفسنا أشياء كثيرة كذباً وزوراً، وسوف نرى!
نُكمِل حديث مُعاذ، إذن هذه مباني الإسلام الخمسة، ثم قال ألا أدلك – أي يا مُعاذ – على أبواب الخير؟ هنا سيُؤشِّر – عليه السلام – إلى النوافل، بدأ بالفرائض، والله لا يقبل النافلة حتى تُؤدى الفريضة، هكذا! بدأ بالفرائض ثم أشار إلى النوافل، قال ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت بلى يا رسول الله، ما أجمل هذا الحديث! وما أجمعه! بالله تحفَّظوه وعلِّموه أولادكم، ما أحسن هذا الحديث! ألا أدلك على أبواب الخير؟ وما أعظم حرصه – صلى الله عليه وسلم – على بذل الخير لأصحابه ولأمته! ما هذا التعليم؟ تعليم راقٍ، ليس فوق تعليم، ليس قبله ولا بعده تعليم، ألا أدلك على أبواب الخير؟ طبعاً يا رسول دلنا، بلى يا رسول الله، قال الصوم جُنة، الصوم! الصوم مثل المجن، مثل الدرع، يحميك من ماذا؟ من حر الشهوات الدُنيا، من بؤس المعاصي في الدنيا، ومن نار جهنم في الآخرة، الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصوم يا رب منعته طعامه وشرابه بالنهار فشفِّعني فيه، يقول القرآن يا رب منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان! أي يُشفَّعان فيشفعان، فيشفعان! الصوم جُنة، يحميك إن شاء الله تعالى، يحميك من جهنم في الآخر، ويحميك من حر الشهوات، ومن بؤس ونكد المعاصي في الدنيا، المُهِم فمَن لم يكن الصوم له جُنة من المعاصي في الدنيا – انتبهوا – لن يكون جُنة له من النار في الآخرة، إذن أتعب نفسه، انتبهوا! هذه علامات، وكلها مفهومة، إذا صام ولم يكن الصوم له جُنة من المعاصي – صام ويكذب، صام ويغتاب، صام ويقرض أديم الناس، يهتك أعراض الناس، يُفشي أسرارهم، يأكل حقوقهم، يعتدي عليهم، لم يكن الصوم له جُنة – فلن يكون له جُنة من النار في الآخرة، انتبهوا! لأن الرسول هو أصدق خلق الله قيلاً، فإن قيل لك هو جُنة ولم يكن جُنة علمنا أنك لم تصم، إذن لن يكون لك جُنة في الآخرة!
سألني أحدهم على الهاتف قبل أيام سؤالاً فعلاً يُحزِن، يُحزِن كل مُؤمِن وكل مُؤمِنة! قال ها هو ذا أخ – طبعاً لم يُسم لي ولا نعرف مَن هو، نسأل الله الستر على الجميع – إلى جانبي يُجادِل عن نفسه، لماذا يا أخي؟ لماذا المُجاهَرة؟ أليس قد ستر الله عليك؟ ألا تستر على نفسك؟ وكل أُمتي مُعافىً إلا المُجاهِرين، مَن المُجاهِرون يا رسول الله؟ يبيت أحدهم في كنف الله وفي ستر الله، يعصي! يبيت على معصية والله يستره، ثم يُصبِح يفضح نفسه، هذا تواقح مع رب العزة، تواقح وقلة أدب، قلة أدب مع رب العالمين الذي يسترك ويرعاك ويكف عنك ألسنة الناس، الناس بالباطل يتكلَّمون، فكيف بالحق؟ للأسف يُجادِل عن نفسه، يُجادِل عن نفسه أنه يُصلي ويرتكب الفاحشة، شيئ غير معقول! ويُجادِل عن نفسه ويعترف، يقول نعم، فقال له هذا الأخ السائل كيف يا أخي؟ كيف يجتمعان؟ قال هذا شيئ وهذا شيئ، قلت له قولي هكذا، قل له إنه يُصلي ولكنه لا يُصلي، لأن الله أصدق منه، الله – تبارك وتعالى – قال إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۩، فإذا لم ينته عن الفحشاء والمُنكَر علمنا أنه لم يُصل الصلاة التي أرادها الله، انتهى كل شيئ! أنت تلعب، أنت تقوم بتمارين رياضية، أنت تُريد فقط أن تضحك على نفسك وأن تقول لأنني أُصلي صلاتي ستشهد لي، ستشفع لي، ستُرضي ربي عني، ستُبرِّر خطيئتي، وهذا خطأ! تضحك على نفسك، غرَّرك إبليس يا مسكين، لبَّس عليك الحق بالباطل إبليس، انتبه! الله يقول إذا كنت تُصلي فهذا شأن الصلاة، أنها تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۩، ويُذكَر بها الله، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۩، لا يُمكِن أن تنسى الله – تبارك وتعالى – وأنت تُصلي، ولا يُمكِن أن تدّعي أنك ذاكر له وأنت تزني، لأن النبي قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن، لم يقل وهو ذاكر لله، قال وهو مُؤمِن، لو بقيت عنده بقية من إيمان حق ما زنى، كيف وهو يعلم أن الله مُطلِع عليه؟ أين الإيمان؟
هؤلاء – قلت هذا مرة وأستغفر الله من هذا التعبير – يظنون أنهم يرشون الله بعباداتهم، أي كأنها رشوة لرب العالمين، يُصلي حتى يرضى الله عنه ويتجاوز عن قلة أدبه وتواقحه وعن ارتكاب هذه الفواحش، قلت له هل هو مُزوَّج؟ قال المُصيبة أنه مُزوِّج وعنده أطفال، قلت أسأل الله له الهداية، اللهم اهد قلبه وحصِّن فرجه.
لماذا يا إخواني؟ لماذا؟ هذا يُؤكِّد أننا ما فهمنا الدين، ليس هذا الدين، نُصلي وليست هذه الصلاة، هذا لعب، هذه حركات رياضية، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى ۩، لو صلى لانتهى، إذن هذا ما تكامل ولا استكمل شيئاً من كمالاته المعنوية المرصودة والمقدورة والمُمكِنة له، بالصلاة! أكبر ما يُعين العبد على استكمال حظه وقسمه من الكمالات الروحية والمعنوية الصلاة، أكبر معراج للعارفين الصلاة، لكن هذا لم يتكامل، بالعكس! زادته الصلاة بؤساً، زادته معصيةً، قامت مقام التبرير للفواحش التي يرتكبها، مسكين هذا، مسكين!
طبعاً لا نقول له اترك الصلاة، نقول له تعلَّم كيف تُصلي، تعلَّم! استح من الله وتعلَّم كيف تُصلي لله، استحضر عظمة الله حين تقول الله أكبر، اعلم بين يدي مَن أنت تقف الآن، وستسفيد من هذه الصلاة بإذن الله تعالى، والله من فرض واحد ستسفيد، ستتحوَّل حياتك، لكن لو تعلَّمت كيف تُصلي، لا أن ترشي الله كما تزعم بصلواتك هذه.
قال الصوم جُنة، فمَن لم يكن له الصوم في الدنيا جُنة فليس له في الآخرة جُنة بالصوم، انتبهوا! الصوم جُنة، ولذلك قال النبي ما لم يخرقها، جُنة ما لم يخرقها، بالرفث، بالفسوق، وبالمعاصي، لذلك في الصحيحين – وهذا المعنى ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، أي الصوم جُنة، ثابت في غير هذا الصحيح – قال الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم احدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن سابه أحدٌ أو شاتمه فليقل إني امرؤ صائم، وفي رواية إني صائم، لن أفسق، لن أرفث، ولن أشتم كما يشتم هو، لأنني صائم والصوم جُنة، حماية! لن أنظر إلى ما حرَّم الله، مُستحيل!
والله سمعت العجب، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، ذكرت هذا مرة في خُطبة، الآن السياق أذكرني، لم أكد أُصدِّق! قيل لي هذا في رمضان، بعض الناس يصوم في رمضان ويُفطِر على الفاحشة والعياذ بالله، على الفاحشة يُفطِر! أهذا صائم؟ أهذا مُسلِم؟ ما الذي تعلَّمه من الصوم هذا المسكين؟ لا أعرف! مَن الذي أفهمه الدين بهذه الطريقة؟ أين إجلال الله؟ أين توقير الله؟ أين خشية الله؟ أين؟ ألا يستحق – لا إله إلا هو – أن يُبجَّل وأن يُعظَّم؟ مساكين نحن! ولذلك وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا أجمع على عبدي خوفين، مَن أمنني في الدنيا – في أمان هو، يفعل كل ما يُريده في أمان، لأن الله يُحِبه، الله بعث له جبريل بورقة وأكَّد له أنه ناجٍ، عنده عهد عند الله، مثل بني إسرائيل أصبحنا، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۩، لكن هو القول على الله بغير علم والغرور والتلبيس الشيطاني – أخفته في الآخرة، مَن الذي يُخيف الآن؟ الله، ليس جنياً يخرج لك، رب العالمين سيُخيفك وهو يعرف كيف يُخيفك ويقطع نياط القلب منك، انتبه! هو يتوعَّدك، كما هو رحيم هو الآن يتوعَّدك، لأنه لا يليق بجانبه أن يُعصى ولا يُخشى هكذا، لا! ومَن خافني في الدنيا – اللهم اجعلنا منهم يا رب بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا – أمَّنته في الآخرة، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩، يجب أن نكون هكذا، لكن قبل أن نخاف مقامه لابد أن نعرف شيئاً عن مقامه، لابد أن نعرف الله تبارك وتعالى، لا أن نُردِّد فقط اسمه وذكره عن قلوب لاهية وغافلة وملأى طافحة بالشهوات والقذورات والعياذ بالله.
قال الصوم جُنة، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، ولذلك أيضاً قال – صلى الله عليه وسلم – إن صدقة السر – فقيَّدها بالسرية، أما هنا فقد أطلقها، ونسأل الله أن تكون مُطلَقة – تُطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء.
كان الإمام زين العابدين – عليه السلام وقدَّس الله سره – يحمل الصدقات على ظهره بالليل، يطوف بها على أبيات المحاويج، ويقول لأهله صدقة السر تُطفئ غضب الرب تبارك وتعالى، تُطفئ غضب الله!
قال الله – تبارك وتعالى – إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۩، تُطفئ ماذا؟ الخطيئة، هذه هي! هذا قرآن كريم، النبي يتحدَّث بالقرآن دائماً، كل شيئ من القرآن، كل حديث رسول الله من القرآن لمَن كان يفقه، النبي قال أيضاً تُطفئ الخطيئة والله قال تُكفِّر السيئات، نعم تمحوها الصدقة! ولذلك علينا أن نتعلَّم هذا الشيئ، مَن أذنب ذنباً ومَن احتقب معصيةً أو ارتكب فاحشةً لا يكفي فقط أن يتوب وأن يستغفر، الأفضل أن يضم إلى ذلك التصدق، انتبهوا وتعلَّموا هذا، فلنتعلَّم هذا، إذا أردنا أن يُكفِّر الله عنا وأن يغفر لنا فلنتب ولنُكثِر الاستغفار والصدقات، فالصدقات تُطفئ الغضب الإلهي وتمحو الخطايا، هذا أحسن، هذا أفضل، ولعل هذه الطريقة أن تكون أنجع، ولذلك قال الفاروق عمر – قدَّس الله سره الكريم، هذا سيدنا عمر بن الخطب – فلا أستغفر وأتصدق لعل الله يغفر لي ما كان من تلك الكلمة، وأصله في الصحيح، أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، ثم ذكر قصته مع رسول الله في الحُديبية، وكيف أنه لم يكن راضياً ولا قانعاً بخُطة رسول الله في الصُلح والهُدنة، وظل يُجادِل النبي، ثم آب وعاد إلى نفسه وظن أنه هالك، كيف أرد على رسول الله أمره؟ كيف أرد رأيه؟ يقول عمر فلا أزال أستغفر وأتصدق، ظل يستغفر ويُخرِج صدقات إلى أيام خلافته، قبل أن يُستشهَد، وهو يقول هذا، سنوات! عن ذنب بسيط، رد فقط على رسول الله، كم وكم نرد على رب العزة أمره ونهيه! كم وكم! كم وكم يُجادِل بعضنا في كلام الله! يقول أحدهم لا يا أخي، لكن قد يكون معناه كذا وكذا، وهو جاهل، لا يعرف معنى ولا يعرف مبنى، لا يعرف شيئاً، جاهل! إنسان جاهل، لا يستطيع أن يقرأ الآية على وجهها، ثم يُجادِل في معناها، لكي يُبرِّر المُخالَفة، الله أكبر يا أخي! أترد على رب العزة؟ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۩، مُباشَرةً! سمعاً وطاعةً لرب العزة، سمعاً وطاعةً لنبي رب العزة.
قال والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف – وفي رواية في جوف – الليل، قال هذا باب الخير الثالث، أفضل ما يُتطوَّع به من العبادات بعد الفرائض – هذا تطوع – صلاة الليل، وعلى هذا أكثر علماء الأمة، قال مُعاذ ثم تلا قوله – تبارك وتعالى – تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩، والآية التي ولتها، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩.
تفكَّروا في هذا المعنى، قد يبدو جديداً على أحدنا مع أنه مُقرَّر ومعروف، أنا بدا لي كأنني لأول مرة أفهم هذا الشيئ وهو عادي، لا يحتاج إلى فهم، ما معنى أن أجرهم وقرة عينهم – أي الأجر الذي تقر به أعينهم سروراً وفرحاً ورضاً – لا تعلمه نفسه؟ أي لا يعلمه لا جبريل ولا محمد! حتى محمد لا يعلمه، حتى جبريل – الناموس الأكبر – لا يعلمه، الله أكبر! ألهذه الدرجة يا رب العزة مَن يقوم بالليل في مرضاتك ولمرضاتك له عندك مثابة وكرامة؟ نعم، حتى محمد لا يعلم أجرك، حتى جبريل لا يعلم أجرك، الله أكبر! إذن شيئ أكبر مما نتخيَّل يا إخواني، شيئ أكرم وأجزل مما نتخيَّل.
تعساً لي وتعساً لنا إذا نقضي الليل في النوم، في البطالة، في الكسل، لِمَ لا نأخذ وهناً من الليل إذن؟ لِمَ؟ ولو عشر دقائق، ولو رُبع ساعة! سُئل – صلى الله عليه وسلم – يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ أي أي الدعاء يسمعه الله أكثر وأسرع؟ أي الدعاء أسمع؟ قال جوف الليل ودُبر الصلوات المكتوبات، في جوف الليل! لو عندك مُشكِلة أو عندك مأساة مع زوجتك أو مع ابنتك أو مع ابنك أو في عملك أو في دراستك أو مع الشرطة أو مع الفيزا Visa أو مع الناس أو مع أي شيئ صل بالليل، صل بالليل وقم وادع رب العزة وابتهل إليه وأنت مُوقِن بالإجابة، هذا أسمع الدعاء.
أحياناً أشعر بالرثاء لمَن يبحث عن بعض الصالحين، والحمد لله نُحِب الصالحين ولسنا منهم ونتبرَّك بهم، تُستنزَل هذه الرحمات بذكرهم وبحبهم وتبجيلهم، لكن أقول هؤلاء طوَّلوا على أنفسهم الطريق، يا أخي لماذا؟ تذهب أنت إلى صالح، تذهب أنت إلى عارف، هذا مشروع وطيب، ولكن عندك طريق أوسع وأعرض ومُتاحة لك دائماً، توجَّه إلى ربك يا عبد الله، منعتك ذنوبك! أليس كذلك؟ ليس عندك ثقة في نفسك، منعتك ذنوبك! شؤم الذنوب أفهمك أن الله لا يقبلك، أقول لك إذا أتعبتك الذنوب دعها واسترح يا أخي، إذا أضنتك الذنوب دعها واسترح، تطهَّر! إذا أحرقتك الذنوب اطفئها.
كان الصحابة يقولون الناس بالنهار يحترقون – نحرق أنفسنا بالمعاصي -، فإذا قاموا من الليل أطفأوا حريقهم، صلاة الليل تُطفئ حريق الذنوب، عندك طريق كريمة وواسعة يا عبد الله، تُب أولاً توبة حقيقية، وقُم من جوف الليل، واسفح الدم السخين الصادق، وكُن واثقاً برحمته، وادعه! والله سترى الفلاح قبل الصباح، سترى الفلاح قبل الصباح أو عند الصباح، جرِّب! جرِّب هذا، لكن بيقين، جرِّب هذا بيقين وسوف ترى، فأشعر بالرثاء من هؤلاء، يطلب بعضهم من بعض، غريق يتعلَّق بغريق، أليس كذلك؟ أنت تستمد مِمَن يستمد مِن رب العزة، لماذا لا تستمد مُباشَرةً؟ هو يُحِب هذا، قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ۩، حتى أسقط هنا قل، لم يقل قُلْ ۩، قال فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، على عكس المسائل الأُخرى، دائماً يقول قُلْ ۩، فَقُلْ ۩، قُلْ ۩، فَقُلْ ۩، إلا هنا قال فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، أي رفع محمداً من البين، حتى محمد – صلى الله عليه وسلم – مرفوع من البين، قال فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، موجود! ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۩، ولا تستكبروا ولا تهلكوا بسوء الظن بالله، لكن توبوا، توبوا! لأن لا يُمكِن أن تُحسِّن ظنك بالله وأنت عاصٍ، أنا أعرف هذا، هذا أيضاً منطقي وهذا طبيعي ومقبول، كيف؟ تقول لا أستطيع، أنا لا أستطيع! نعم صحيح، كلامك صحيح، إذا تُريد أن يحسن ظنك بالله ائت أسبابه، تُب من الذنوب، خُذ في طريق أهل السعادة، وسيحسن ظنك بالله، قل يا رب أتيتك تائباً وتعلم أنني تُبت إليك وأستعين بك على توبتي، ادعه بعد ذلك وسيُلبيك، سيُلبيك لا إله إلا هو! لا ينقصه شيئ سُبحانه وتعالى، أما الناس فتطلب من هذا، تتوسَّل إلى هذا، تُريد ديناً من هذا، وتُريد واسطةً من هذا، الناس الشاعر أراحنا منهم ولخَّص لنا طبيعتهم بكلمة واحدة، قال:
وَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأَوْشَكُوا إِذَا قِيلَ هَاتُوا أَنْ يَمَلُّوا وَيَمْنَعُوا.
الناس نفوسهم ضيقة وأيديهم كزازة، إلا مَن رحم الله وقليلٌ ما هم، حتى التراب لو سُئلوه سيمنعونه!
وَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأَوْشَكُوا إِذَا قِيلَ هَاتُوا أَنْ يَمَلُّوا وَيَمْنَعُوا.
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا – ما النتيجة؟ – لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا ۩، حتى لو خزائن الكون عندك لن تُعطي، رب العزة يُعطي ويدعوك إلى أن تأخذ، هو يدعوك، يقول تعال وخُذ، لماذا لا تأتي؟!
إذن صلاة الليل، ولذلك أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، في الترمذي أيضاً من حديث بلال بن رباح قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل مرضاة لله – عز وجل – ومطهرة من الإثم ومطردة للداء عن البدن وتكفير للسيئات، فلنأخذ ولو وهناً من الليل، أعاننا الله وإياكم على ذلك، اللهم آمين.
ثم قال – إذن هذه أبواب الخير، هذه أعظم النوافل، أي التي ذكرها، ثم قال صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم الآتي – ألا أُخبِرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله، قال رأس الأمر الإسلام، يعني لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بدليل الحديث الآخر، قال رأس الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فسَّرها! إذن الإسلام هو الشهادتان، قال هذا رأس الأمر، وعموده الصلاة، في حديث آخر قال وقوامه الصلاة، قوام الدين الصلاة! أي ما يقوم به وعليه بناء الدين هو الصلاة، هنا قال عموده، عمود الخيمة! لا تقوم الخيمة إلا على عمودها، أليس كذلك؟ فإن نُحي وقعت مُباشَرةً من تلقائها، عموده أو قوامه أي ما يقوم عليه، والفسطاط أو الخيمة إنما تقوم على عمودها، إذن لا إسلام حقيقياً ولا إسلام يُرجى منه شيئ أو به شيئ لمَن لا يُصلي، انتبهوا!
يقول أحدهم أنا أُصلي وأُفرِّط، ما هذه الصلاة يا أخي؟ استكمل دينك، قال يُصلي كلما عن له، تعب في العشاء فذهب ونام دون أن يُصلي، في الصباح قام على صوت المنبه – الــ Wecker – ولم يُصل الصبح، ما هذا؟ ما هذه الصلاة؟ انتبه! هذه قد تكون أمارات النفاق، النبي قال أشد الصلوات على المُنافِقين العشاء والصبح، ولو علموا ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، فمَن يُفرِّط في العشاء والصبح المسكين في خطر أن يكون من المُنافِقين وهو لا يدري، انتبهوا! والنفاق يتسلل، شهادتك لنفسك لا تُقبَل، شهادة الشرع فيك تُقبَل، شهادة النص الصحيح فيك تُقبَل، كلامك ودعاواك وتبريراتك غير مقبولة، كل هذا كلام فارغ، كله من تلبيس إبليس، أنت تضحك على نفسك، انتبه!
فإياكم وترك العشاء والصبح، إياكم! الظهر والعصر والمغرب صلوات جميلة وسهلة مع الناس، العشاء والصبح صلتان ثقيلتان، نسأل الله أن يُيسِّر لنا وعلينا ذكره وشُكره وحُسن عبادته، اللهم آمين.
لذلك علينا أن نزن أنفسنا، ليسأل أحدنا نفسه هل أنا من أهل السعادة أم أنا – والعياذ بالله والعياذ بالله – من أهل الشقاوة؟ الجواب حاضر، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۩ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۩ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۩، هل أنت مُيسَّر لعمل الخير؟ هل العبادة سهلة عليك؟ هل ترك المعاصي – بفضل الله – سهل عليك؟ هل ذكر الله فجع به لسانك؟ هل تُحِب الخير؟ هل تكره الشر؟ هل تُسارِع في الخيرات؟ إن شاء الله أنت من أهل السعادة، إذا كان العكس – لا سمَّح الله ولا قدر – فعليك أن تنتبه، تقول لا، هذا صعب، والله صعب، العبادة صعبة جداً جداً علىّ، أُصلي وكأن جبلاً على كاهلي، والمعصية من أسهل ما يكون، وأحتقب المعاصي الكثيرة، مسكين أنت، انتبه! أنت في خطر، لابد أن تُشعِل علامة الخطر، انتبه! ولن تعيش الدهر، ستموت كالذين تسمع عنهم كل يوم يموتون، ستموت، انتبه! سنُصلي عليك، وربما ستُصلون علىّ، سيترحَّمون عليك، سيدفنونك وتبقى مُرتهِناً بعملك، انتبه! انتبه ولا تلعب، الأمر جد يا إخواني، الأمر جد، لا تلعب، أكثر الناس يلعبون، لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۩، لا مجال للعب، هذا أمر جد، فزِن نفسك بميزان الشرع، هل أنت مِمَن يُسِّر لليُسرى أم هو الأبعد مِمَن يُسِّر للعُسرى؟ والميزان واضح تماماً، والنتيجة وقتية، الآن وهنا ستراها، ستقول أنا أعرف نفسي، أنا والله كذا وكذا، هذا واضح، أعرف نفسي، بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَىٰ – هذا كلام اليوم، سُبحان الله – مَعَاذِيرَهُ ۩، يقول لك لا تعتذر، لا تُبرِّر، ولا تتفلسف، ليس هذا المُهِم، أنت في الباطن تعرف حقيقتك، كل هذه التبريرات للناس، هؤلاء الناس لن يُفيدوك شيئاً عن الله ولن يُغنوا عنك من الله شيئاً، ماذا تُريد؟ لو تزيَّنت لرسول الله وخدعته فلن تخدع رب رسول الله، أليس كذلك؟ لن تخدع الله لو الرسول انخدع بك كما انخدع ببعض الناس، وسيأتي هذا في آخر خُطبة اليوم، صلى الله عليه وسلم.
إذن هذا رأس الأمر وهذا عموده وذروة، سنامه – قمته وأعلى ما فيه، إذن أشرف ما فيه – الجهاد في سبيل الله، لذلك الإمام أحمد وجمع من العلماء يرون أن أفضل الأعمال بعد الفرائض – أي المباني – الجهاد في سبيل الله، هذا رأي الإمام أحمد! ثم قال وهو بيت القصيد – هذا بيت القصيد، أي الشاهد فانتبهوا – ألا أُخبِرك بمِلاك أو بمَلاك – تُفتَح وتُكسَر، بمِلاك أو بمَلاك – ذلك كله؟ ألا تُريد يا مُعاذ أن أُخبِرك بما يقوم مقام كل ما ذكرت؟ عجيب! كل ما ذُكِر من أول الحديث – من الفرائض والنوافل ورأس الأمر وعموده وذروة سنامه – هناك شيئ يقوم مقامه جميعاً، ما هو؟ قلت بلى يا رسول الله، قال فأخذ بلسانه – أرأيتم كيف يكون التعليم؟ تعليم خطير، تعليم نادر، تعليم ليس عادياً، يستحيل أحد أن يُعلِّم مثل هذا التعليم، بعد أن ذهب به في كل هذه الحدائق الغناءة المُورِقة عاد ليقول له سأدلك على شيئ واحد يقوم مقام كل ما ذكرت، مثله في المثابة والأهمية والخطر والشرف، قال بلى يا رسول الله، قال فأخذ بلسانه، هكذا! يُعلِّم بالحركات، ليس كبعض الجامدين، لا! يُعلِّم بالحركات، هو يُحِب فقط أن تصل المعلومة، يُحِب أن يصل الإرشاد بأي وسيلة، فأخذ بلسانه – وقال كفّ عليك هذا، كفّ عليك هذا! أي اللسان كفّه، تحكَّم به، اضبطه، وكفّه عن اللغط، عن اللغو، عن الكذب، عن الغيبة، عن النميمة، عن شهادة الزور، عن الألفاظ الشركية، عن الألفاظ البدعية، عما يُغضِب الله، عن المُبالَغة في المدح، عن ذم الناس، عن الاستهزاء، عن الاستهتار، عن الاستسخاف، عن التغرير، عن كلام الغش، وعن نصيحة الغش، آفات اللسان كثيرة جداً جداً! أكثر مَن أمعن بذكرها ابن الأزرق في بدائع السلك، رحمة الله عليه – وأبو حامد بعده في الإحياء.
المُهِم قال كفّ عليك هذا، مُعاذ صُدِم! أهذا ما يقوم مقام كل ما ذُكِر؟ أهذا مِلاك ما ذُكِر؟ قال قلت يا رسول الله وإنا لمُؤاخَذون بما نتكلَّم؟ هل حتى الكلام هذا سيُكتَب؟ لم يكن يعلم طبعاً، الآن كلنا نعلم ولا نعمل، لكن هم فقط أحال أن يعلموا يأخذون في العمل مُباشَرةً، لكن نحن نعلم ونعلم ونُعلِّم ولا نعمل، الله المُستعان على أنفسنا، والله! الله المُستعان على أنفسنا الغرّارة هذه، قال وإنا لمُؤاخَذون بما نتكلَّم؟ قال ثكلتك أمك، وفي رواية ثكلتك أمك يا مُعاذ، طبعاً هذا دعاء عليه في معرض الدعاء له، العرب إذا استهولوا أمراً أو استحسنوه قالوا لفاعله وهم يُمجِّدونه قاتله الله، ما أفصحه! ما أعلمه! ما أشجعه! كما يقولون تربت يداه، ولا يُريدون حقيقة القول، وإنما الدعاء، وإلا القول في حقيقته ليس جيداً، تربت يداه أي صارت في الرغام وفي التراب، لا يُريدون حقيقة القول، وإنما الدعاء، لكن أكثر ما يُقال هذا للإرشاد والتنبيه والتعليم والتأديب، قال ثكلتك أمك، وهل يكب الناس على وجوههم أو مناخرهم – فتحة الأنف والمُراد بها الأنف نفسه – في جهنم إلا حصائد ألسنتهم، إلا محصودات الألسنة، ما أحسن هذا التمثيل! يقول لك أنت تزرع بلسانك، بما تتكلَّم به تزرع، والحصاد يكون متى؟ يوم القيامة، فإن زرعت بلسانك خيراً حصدت خيراً وكنت من أهل الكرامة، وإن زرع الأبعد به شراً حصد شراً وكان من أهل الندامة، لا جعلني الله وإياكم منهم، اللهم آمين.
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا.
قال حصائد ألسنتهم! قال – تبارك وتعالى – مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ۩، قال إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ۩ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ۩، وقد اختلف السادة العلماء على قولين، هل كل ما نقول يُكتَب أم يُكتَب الخير والشر؟ هناك كلام مُباح، كلام فضول، كلام عادي! فعن عليّ بن أبي طلحة – وهو من أحسن أسانيد ابن عباس – عن ابن عباس – رضوان الله عنهم أجمعين – قال كل ما يُقال يكتب، حتى قوله أكلت، شربت، ذهبت، يُكتَب! كله يُكتَب، ثم بعد ذلك – يقول ابن عباس – يوم الخميس يُنظَر، فما كان من خير أو شر أُقِر، وما كان غير ذلك أُهدِر، لا يُهتَم به، كلام عادي، ليس خيراً وليس شراً، لكن لا يُتوَّسع فيه، قال وهذا قوله – تبارك وتعالى – يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، أي من معاني هذه الآية، من إشارات هذه الآية، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
كان عبد الله بن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، يقول والله الذي لا إله إلا هو ما شيئ أحوج إلى طول سجن – أو قال حبس – من اللسان، قال هذا أكثر شيئ – والله قال – يحتاج إلى أن يُحبَس، وأكثر شيئ يُرسِله الناس اللسان! عكس هذه القضية، أكثر شيئ الناس يُرسِلونه ويستهترون به اللسان! يأتون على ذكر شخص – وربما يكون من أهل الله – فيمدحونه في أول المجلس، ثم يخوضون في الفضول، وهذه طبيعة الإنسان، طبيعة الإنسان! فيصير مدحهم مذمةً له، يقول أحدهم ولكن يا أخي سمعنا كذا، ولكن يُقال كذا، ولكن هو كذا، ولكن كذا، فيُصبِح شيطاناً، وقد كان قبل قليل من أهل الله، ما هذا؟ ما هذا العبط؟ ما هذا العبث؟
سأقول معنى – حتى لا يغيب عني – خطر لي اليوم بفضل الله عز وجل، وهو معنى لطيف إن شاء الله تعالى، الخلق كلهم – انتبهوا – خلق مَن؟ خلق الله تبارك وتعالى، هم خلقه، هم عباده وعبيده، هم مصنوعاته، وهو ربهم، خالقهم ورازقهم، الله لا يُحابي، ولا يتحيَّز، ولا يظلم أحداً، ولذلك خلقه جميعاً – مُؤمِنهم وكافرهم – هو – عز وجل – لا يرضى لهم الظلم، ولن يُعطي أحداً كائناً من كان – حتى وإن كان حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم – امتياز أن يقرض أديمهم – انتبهوا – أو يظلم حقهم أو يغمصهم ظلماً، لن يُعطيه هذا الامتياز وهو سائله عن ذلك وقد فعل، انتبهوا! لماذا أقول هذا؟ بعض الناس يظن الآتي، وهذا أيضاً من تلبيس إبليس، إبليس حياته كلها تلبيس على الصالحين وعلى غير الصالحين، هذا من تلبيس إبليس، قد يظن بعض الصالحين بما له عند الله من كرامة – أي بما يظن، هو يظن أن له عند الله كرامة، بعض الناس يظن هذا، بعض الناس يُذكِّر نفسه ويقول بالعكس، أنا إن شاء الله من أولياء الله، هذا أكيد، مسكين هذا! فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۩، الله يقول فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۩، مَن ضمن لك هذا يا مسكين – أنه من أهل الله، بعض الناس يظن أنه من أهل الله وأن له عند الله كرامة وأن له عند الله شرف ومنزلة، ولذلك يُعطي نفسه رُخصة أن يخوض في عباد الله، لأنهم ليسوا مثله، هم أنذال وأرذال وهم عُصاة وشاردون وتائهون، فيجوز له أن يقرض أديمهم، يجوز له أن يغتابهم، يجوز له أن يسخر منهم، مسكين هذا!
وهذه علامة أنه عكس ما يقول، لو كان صالحاً ما فعل، هذا غير صحيح! لو كان حقاً صالحاً وله عنده الله كرامة ما فعل، هذا من عدل الله يا إخواني، من عدل الله! الله عادل، لا يُعطي الصالحين حقاً وامتيازاً أن يخوضوا في الطالحين، ممنوع! لأنه في نهاية المطاف هو ربهم، هو رب الصالح ورب الطالح، ورب المُؤمِن ورب الكافر، رب الجميع! لا يُحِب هذا، إذا كان هو الخالق والرازق والرب – لا إله إلا هو – والمألوه وحرَّم على نفسه أن يظلم عباده أفيُعطيك أنت أو أنا رُخصة أن نظلمهم وأن نخوض في أعراضهم وأن ننتقص من مكاناتهم وأن نسخر منهم وبهم؟ أعوذ بالله!
ولذلك انتبهوا، انتبهوا واسمعوا ما قاله لنبيه وحبيبه، إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ – ليس بما تهوى أو تشتهي أو تُريد – وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ۩، الخطاب فيه جدة وفيه صرامة، أليس كذلك؟ فيه حزم، صيغة الخطاب شديدة، حتى هذا الاستفتاح شديد، ثم يقول وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۩، استغفر الله! يقول له لقد أخطأت، لنبيه! يقول له تجاوزت، مع أنه غُرِّر به، النبي غُرِّر، النبي لُبِّس عليه الحق بالباطل للأسف، النبي ما عمل هذا عن نية، حاشاه وهو المعصوم، ولكن لُبِّس عليه الأمر، ومع ذلك الخطاب شديد جداً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، ثم قال في الثالثة وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ – عن هؤلاء الكذبة المُنافِقين الذين غرَّروا بك، تُدافِع عنهم أنت – إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۩، إلى أن قال – تبارك وتعالى – وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ ۩، كدت تضل! قال له هذا، لنبيه محمد، الله أكبر! من أجل ماذا؟ مُمكِن أبو بكر تُكلِّم في عرضه، كلا! مُمكِن عمر تُكلِّم في أمانته، كلا! مُمكِن إحدى أمهات المُؤمِنين طُعِن شرفها، لا! مُمكِن أحد الأفاضل الأماثل زُن نسبه، لا! يهودي ائتمر عليه جماعة من المُسلِمين ومن مُنافِقي المُسلِمين، فألصقوا به تُهمة سرقة ترس، يهودي! والنبي صدَّق ما قالوا له، جاءوا وحلفوا، وكان يشهد بعضهم مع بعض وما إلى ذلك، النبي صدَّق! قال اليهودي سارق وسوف نرى هذا، سوف نُحقِّق في المسألة، الله قال له لا، يهودي!
حين نقرأ هذا ونفهمه – أتحدَّث عن نفسي الآن وأنا الخاطئ الكبير – كأننا لأول مرة نسمع هذا، لأن هذا لا نستحضره في يومياتنا يا إخواني، لا نستحضره ولا نصدر عنه! نجلس هكذا – لأمنا الهبل، ويل لينا – فنقرض هذا ونحكي في هذا ونغتاب هذا ونذم هذا ونفتري على هذا ونطعن أمانة هذا! ما هذا؟ ما هذا؟ ماذا نفعل بأنفسنا نحن؟ مساكين نحن! إذا كان هذا محمد – صلى الله عليه وسلم، خيرة عباد الله، رحمة العالمين – وقيل له كل هذه الدمدمة، كل هذا التثريث، وكل هذا التشديد، لأجل أنه غُولِط ولُبِّس عليه في شأن يهودي وليس مُسلِماً من الصحابة العظام الأماثل، فماذا عنا؟
فإذن – أقول لنفسي أولاً، والله لنفسي أولاً، ثم لكم بعد ذلك آخراً وثانياً – على كل واحد منا أن يُواجِه نفسه هكذا بمُكاشَفة ومُصارَحة، ليس عندي أدنى امتياز أن أخوض في أي واحد من عباد الله مهما ظننت الخير في نفسي ومهما ظننت السوء فيه، انتبهوا! كفّوا ألسنتكم، قال كفّ عليك هذا، هذا خير لك من كل ما ذُكِر، هذا هو الدين الحقيقي، وبالمُناسَبة – كما قال يونس بن أبي عُبيد – هكذا يُعرَف صلاح الصالحين، قال الفُضيل بن عياض – قدَّس الله سره – ما جهاد ولا رباط ولا حج – ذكر مشاق العبادات، انتبهوا! هذه أكثر العبادات مشقة، الحج والجهاد والرباط، طبعاً هذا ليس كل الصلاة والصوم، شيئ صعب جداً هذا، قال ما جهاد ولا رباط ولا حج – أشد من ضبط اللسان، وإن امرأً أصبح وهمه لسانه لفي غم شديد، هذا هو طبعاً! حين تُصبِح وأنت همك أن تضبط لسانك ولا تنطق إلا بما يُرضي ستكون في هم وفي غم وفي مُحاسَبة صعبة جداً لنفسك، لكن أنت مسعود إن شاء الله تعالى، أنت تأخذ بالمِلاك، مِلاك الدين كله!
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، مولاي العزيز، لا إله إلا هو! الغفور الرحيم، بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يُعيننا على أنفسنا، اللهم طهِّر قلوبنا، اللهم طهِّر ألسنتنا من اللغو والرفث والفسوق ومن كل هذه الآفات المُهلِكة الردية المُردية يا رب العالمين.
اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم ألهِمنا رشدنا، واغفر لنا ما كان منا، وأحسِن إلينا فيما بقيَ من أعمارنا، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته الميامين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم برحمته وفضله ومنَه أجمعين، اللهم آمين
في الصحيحين – أيها الإخوة والأخوات – إن العبد – أو قال إن الرجل – ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأساً – وفي رواية لا يُلقي إليها بالاً – يهوي بها – أي في جهنم – أبعد مما بين المشرق والمغرب، كلمة! وعند الترمذي يهوي بها في النار سبعين خريفاً، أي سبعين سنة، وهو مُصوَّب على رأسه ينزل في جهنم، بسبب الكلمة! الكلمة قد تكون كلمة كلمة، وقد تكون كأن يقول – مثلاً – فلانة زانية، فلانة… الله يستر على ولايانا، أي هذه زانية، مثلاً كلمة مثل هذه، شيئ مُخيف هذا! أو كلمة كفرية يسخر بها من رب العزة أو من رسوله أو من شرعه والعياذ بالله، كلمة عن رسول الله أو كلمة عن القرآن أو كلمة عن رب العزة، يضحك ويسخر، يقول أنا كنت أمزح وأسخر، مَمكِن يهوي بها في جهنم سبعين سنة والعياذ بالله، فانتبهوا! هذا اللسان خطير جداً.
هذا اللسان يُمكِن أن تذكر به رب العزة، يُمكِن أن تحصد به خير الأعمال، يُمكِن أن تُثقِّل به الموازين، أي هذا اللسان! وبهذا اللسان يُمكِن أن تهدم أنت سُمعة إنسان طيب، يُمكِن أن تكفر برب العزة، يُمكِن أن تتسبَّب في قتل إنسان، يُمكِن أن تمنع نصيب إنسانة تقدَّم لها خاطب كريم وهي كريمة، تمنع نصيبها وتُؤخِّر زيجتها يا رجل، بسبب كلمة تطعن بها في شرفها أو في مسلكها كاذباً أو تطعن بها أهلها، انتبه! هذا اللسان الخطير هو حقير أيضاً، فنسأل الله أن نُوظِّفه وأن يُعيننا على توظيفه في طاعته، فلا يلهج إلا بذكر الله.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم أغننا بفضلك عمَن سواك، اللهم أغننا بفضلك وعطائك وجودك عمَن أغنيته عنا من عباد، اللهم أغننا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك يا رب العالمين.
لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم في هذه الساعة المُبارَكة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا رددته، ولا غارماً إلا قضيت عنه دينه، ولا مهموماً إلا أذهبت همه وأحلته سروراً وأمناً وفرحاً يا رب العالمين.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من عبادك أولي الألباب، الهُداة المُهتدين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم هب لنا من أزواجنا يا ربنا وذُرياتنا قُرة أعين واجعلنا للمُتقين إماماً، اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً وبالإساءة غُفراناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
__________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(25/5/2007)
أضف تعليق