إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ۩ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ۩ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۩ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ۩ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الإخوات الفاضلات يقول الله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، ففُسِّرَ الظلم هنا بالشرك ومن هنا يُصبِح معنى الآية أن الله – تبارك وتعالى – ما كان ليُهلِك أمةً من الأمم أو شعباً من الشعوب بشركه لأن الله لا يُعاجِلهم ما داموا مُصلِحين، وفُسِّر الإصلاح هنا بالعدل، ولذلك الدولةُ الكافرة تقومُ مع العدل وبالمُقابِل الدولة التي تدّعي الإسلام والدين لا تقوم مع الظلم، فالله يتأذَّن – سبحانه وتعالى – بإهلاكها وتقويضها إذا كانت قائمةً على الظلم، وقد توالت حلقات الظلم ولا تزال من وقتٍ مُبكِّرٍ على هذه الأمة، فهذه الأمة إلا مَن رحم الله تخوَّضت في مظالم وفي ظلماتٍ بعضها فوق بعض فظلمت أحق الناسِ بأن يُتقرَّب إلى الله ببرهم وتوقيرهم وإجلالهم، فظلمت آل محمد، أبناء رسول الله – صَلَىَ الله عليه وسَلَّمَ – علماً بأنني أقول هذا لأن بعد يومين من يومنا هذا وهو الثامن من شهر الله المُحرَّم ستعود ذكرى أبي الشهداء وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه وسلام الله عليه – والذي من أسفٍ شديد نجد أننا لا نتناوله إلا لمُاماً ومَن أراد أن يتناول ذكراه وأن يتناول شهادته ومن أجلنا استُشهِد لابد أن يُقدِّم بمُقدِّمات ولابد أن يعتذر ولابد أن يكون مُتقلّقِلاً ومُتوجِّساً حتى لا يُتهَم بالتشيع مثلاً، وكأن حظ أهل السُنةِ أن يكونوا مُناصِرين للظلمة وأن يكونوا صامتين خانعين مُستخزين أمام الظلم الفاقع الواضح، ولذلك نجد أن مَن يتكلَّم عن هذا الإمام أبي الشهداء وسيدهم للأسف قلة قليلة ودائماً تفعل ذلك على استحياء، لكن كثيرون من كتّاب الشرق والغرب من المسيحيين وغير المسلمين اعتبروا شهادته وملحمته أعظم ملحمة وأرقى شهادة على الإطلاق شهدها التاريخ الإنساني، إلا أننا لا نجد إلا مِن علماء المسلمين مَن يجرؤ على القول: لقد قضى شهيداً – رضيَ الله عنه – والشهداء كثير فلماذا نُبديء ونُعيد في هذه الشهادة؟!
ما شاء الله على الفهم العميق، ما شاء الله على الإنصاف، الشهداء كثير ولكن من أمثالكم الذين كنزتم الكنوز وارتفعت أرصدتكم في حساباتكم البنكية بسكوتكم على الظلمة وعلى الظلم وعلى الطُغيان ثم تُريدون أن تُقزِّموا شهادة أبي عبد الله الحسين.
رحمة الله على أمثال الأستاذ عباس العقاد الذي لم يكن إسلامياً على هذا النحو الذي نراه من إسلامية الإسلاميين اليوم ولكنه ألَّف كتاباً أكثر من رائع وعنّوَنه بأبي الشهداء، ورحمة الله على القلة التي سارت في هذا الدرب من أمثالنا شيخنا وشيخ الدُعاة في العصر الحديث محمد الغزالي الذي كتب فصلاً ضافياً كأنه قطعٌ من كبده عن شهادة أبي عبد الحسين في صور من كفاحنا المُعاصِر، والأستاذ الكبير والمُناضِل الثائر خالد محمد خالد – رحمة الله تعالى عليه – كما أُسميه أنا كان رجلاً قوَّالاً بالحق وهو الذي كان عبد الناصر ورجال الثورة يشترون كتبه من حسابهم الخاص ويُوزِّعونها بين الناس فلما قامت الثورة كان اللسان الوحيد مِن أحبابهم ومِمَن أحبوه الذي تصدّى لهم بالنقد والنقد المُر، فضلاً عن أن خالد محمد خالد انتقد الإخوان المسلمين كثيراً فلما صاروا في قبضة الطاغية كفَّ عن نقدهم فطُلِبَ إليه ذلك فرفض قائلا “نقدتهم ابتغاء الحق وابتغاء النُصح وهم في عافية، فلما صاروا في بلاء ليس من الشرف الإجهاز على الجريح”،علماً بأنه كتب كتباً كثيرة ومن بينها كتاب أكثر من رائع وأكثر من شامخ عن أبي عبد الله وعن هذه الأرومة الطيبة، ورحمة الله على أخطب خُطباء القرن المُنصرِم الميلادي طبعاً وإلا فالقرن الخامس عشر الهجري لا يزال جارياً وهو الشيخ القوَّال الصدَّاع بالحق عبد الحميد كشك – رحمة الله عليه وجزاه الله خيراً – الذي له خُطبة كأنها نفحةٌ سماوية عن ليلةِ وعن يومِ استشهادِ أبي عبد الله الحسين، وهذا أمرٌ عجبٌ لأن في هذه الخُطبة الروح هى التي تتكلَّم وليس اللسان، ولكن أمثال هؤلاء قليلون فلا أُريد والوقت بيننا هذه الأيام وبين أيدينا منزورٌ ومحدود أن أُطوِّل بهذه المُقدَّمات وسأعمد إلى موضوعي مُباشَرةً، كما أنني لن أتكلَّم اليوم عن الفاجعة علماً بأنني أُسميها فاجعة وليس كارثة، لأن ما وقع لم يكن كارثةً بأي مقياس من المقاييس وإنما فاجعة، وهذه الفاجعة لها وجهها الآخر وهو وجه البطولة والفداء والتضحية والقدسية، قدسية الحق.
أبو عبد الله علَّمنا – إن كان هناك مَن يتعلَّم أو يُحسِن أن يتعلَّم – أن الحق قيمةٌ في ذاته، انتصر أو هُزِم يبقى الحق حقاً، فكم مرةً انتصر الباطل وانتفش؟!
مرات كثيرة، ولكن هذا لا يُحيل الباطل حقاً ولا الحق باطلاً، يبقى الحقُ حقاً والباطلُ باطلاً، وهذا منطق قرآني ومنطق مُحمدي، هذا منطق عمَّار بن يسار خرّيج مدرسة النبوة وهو الرجل الذي وقف يُقاتِل تحت إمرة الإمام أبي الحسنين عليّ – كرَّم الله وجهه – يوم صفين وقد جاوز التسعين والذي تواتر عن رسول الله أنه قال عنه كما يقول علماء الحديث مُحدِّثوننا وحُفّاظنا “ويح ابن سُمية تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار”علماً بأن الحديث في الصحيح وهو مُتواتِر، فدعوة عمَّار وهى دعوة عليّ إلى الجنة، ودعوة الآخرين ما شاء الله بشهادة رسول الله فيما تواتر عنه إلى النار، فهذا ليس سياسة أو فلسفةً أو تحليلات وإنما أحاديث مُتواتِرة إن كنا نريد الحق، فالرسول هو الذي يقول “يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار” – والعياذ بالله تبارك وتعالى من الفتن – فضلاً عن أن عمَّار بن ياسر الذي نيَّف على التسعين وقف تحت راية عليّ في صفين وقال” أيها الناس والذي نفسي بيده لقد قاتلت تحت هذه الراية مع رسول الله – صَلَىَ الله عليه وسَلَّمَ – وها أنا ذا اليوم أُقاتِل تحتها، لقد جاء هؤلاء يزعمون أنهم يطلبون ثأر عثمان، فلا والله ما ذاك قصدوا – هذا كذب، لأن ثأر عثمان أكذوبة – إنما هم أُناس استمرأوا الدنيا وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما تمرأوا فيه من شهواتهم، والذي نفسي بيده لو أنهم هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ما وهن يقيني أننا على الحق وأنهم على الباطل”.
الله أكبر يا عمَّار، الله أكبر يا فقيهاً في دين محمد، يا أميناً على تراث المُصطفى، فهو يقول ليست المسألة في مَن ينهزم ومَن ينتصر، بل أن المسألة تتعلَّق بمَن يُشايع أغراض الحق ومَن يثأر للحق ومَن يبقى مُعتصِماً بالحق في مثل هذه المُدلهِمات الحالكة والحنادس المُظلِمة وهكذا، فالحق يبقى حقاً سواء انهزم أو انتصر والصدق يبقى صدقاً أيضاً، هناك أنبياء قُتِّلوا وفُصِلَت رؤوسهم عن أبدانهم، أليس كذلك؟!
حدث معهم هذا وهم أنبياء، فلم ينتصر كل نبي وهذا شيئ مُهِم يجب ان نفهمه جيداً وأن نتنبه إليه، ولذلك لن أتحدَّث عن الفاجعة فهم يتحدَّث كثيرون عن الفاجعة وكتبوا الكثير الكثير فسالت أودية من مداد في الكتابة عن الفاجعة، ولكن هذه الفاجعة لها وجهها المُشرِق الذي سأتحدَّث عنه، فالفاجعة لم تكن كارثة ولكنها كانت ستكون كارثةً لو لم يكن الحسين ولم تكن شهادة الحسين، كانت – والله – ستكون كارثة حقاً، وأقرأ صفحات التاريخ حيث أنني أرى الكارثة تكاد تُطل برأسها ولكن قطع هذا الرأس أبو عبد الله الحسين، فالكارثة هى أن أمةً من عند آخرها استخزت للظلمة وتواطأت مع الظلّام وجبُنَت وكعَّت ونكصت وقُطِعَ ألسنتها فلم يبرز منها مَن يقول للظالم يا ظالم، فالكل سكت والكل برَّر لأنهم نظروا إلى الموضوع من زوايا مُختلِفة الله أعلم بها وبهم، ولكن الحسين أبى ذلك وقال لا، علماً بأن بعض الناس يُصوِّر القضية على أنها قضية ثأر جاهلي وصراع بين أسرتين ينميهما نسبٌ واحد إلى عبد مناف، كلا فالأمر ليس كذلك ويستحيل أن يكون الأمر كذلك وخاصة من جهةِ الحسين وأنصار الحسين، فضلاً عن أن بعضهم يرى أن الحسين كان يُطالِب بالخلافة وهذا غير صحيح، فلماذا يُطالِب بالخلافة؟!
ماذا يُريده من الخلافة؟!
هل يُريد أن يتكثَّر بالخلافة وأن يزداد شرفاً إلى شرفه وإلى شرف نسبه إلى محمد؟!
هل يُريد ابن بنت محمد أن يزداد شرفاً أو أن يتغوَّل أموال المسلمين أو أن يتحكَّم في رقابهم ويدوس على أعناقهم ويُصادِر حرياتهم ويُرخِص دماءهم ويُهدِر حقوقهم؟!
كلا، أولئكم بنو أُمية، الذين كانوا كذلك بنو أُمية كما قال عمَّار في خُطبته العصماء “إن يُريدون إلا أن يكونوا جبابرةً وملوكاً” فهم كذبة ولا يُريدون ثأر عثمان مثلما قال عمَّار وصدَّق طبعاً التاريخ بعد سنين عديدة مقولته، لكن لماذا؟!
لأن الأمر لما صار إلى مُعاوية لم يأخذ بثأر عثمان من أحد بل قرَّب بعضهم وأعلى مراتبهم وأغدق عليهم، اقرأوا التاريخ واقرأوا أي مصدر لأنهم يضحكون علينا، فهناك مَن يضحك علينا لأني أسمع بعض المشائخ وبعض المُتخصِّصين في التاريخ يتحدَّث إنشائيات في هذه الأيام، إنشائيات فارغة – والله العظيم – تُمرِّر الإنسان وتكذب على التاريخ وعلى الوقائع، فليس عندهم مُستنَدٌ ولا مُتكأ إنما هى إنشائيات فارغة لأن على ما يبدو أنه يُراد لهذه الحالة من البلاهة والغباوة أن تستمر معنا إلى يوم الدين.
قد كنتُ وكنتم بمكانٍ نطلب فيه العذر والمُسوِّغ أو المُسوِّغات لهؤلاء الذين تناولوا المسألة من زوايا مُختلِفة غير زاوية أبي عبد الله، فلا بأس أن يتناولوها هكذا لأن ربما التبست عليهم الرؤية فلم يضح السبيل جيداً وهذا شأنهم، ولكن بعد خمسة عشر قرناً تقريباً هل نبقى فاقدي ومُلتبِسي الرؤية بعد الذي ذقناه ولا نزال نذوقه من ظلم الحكّام الذين هم في خط بني أُمية سائرون؟!
ففي الفكر الأُموي والخط الأُموي الحاكم لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ومع ذلك لا نزال مُلتبِسي الرؤية ولا نزال نقرأ القرآن ونخر عليه صُماً وعُمياناً، فالله يقول وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، فلماذا نُهلَك إذن؟!
لماذا نحن هلكى الآن؟!
وأنا دائماً ما أقول ليس حال أهل فلسطين شراً كثيراً بمراحل من حال عرب كثيرين، بل لعل حالهم من بعض الزوايا أفضل من حال عُربان كثيرين يعيشون الهون والمذلة والعذاب والفقر ويتقمَّمون أرزاقهم على المزابل فعلينا أن ننتبه إلى أننا هلكى، أمة هالكة، أمة جاهلة، أمة مطحونة مسحوقة يبيع فيها ويسوم كل مَن أراد وهى لا تتساءل لماذا صارت إلى هذا المصير ولماذا هوت من حالقها بل أنها تحسب أن انتسابها إلى محمد وإلى دين محمد وقرآن محمد وسُنة محمد يجديها كثيراً وهى لا تفقه من هذا لا قليلاً ولا كثيراً، علينا أن ننتبه إلى أن الذين قتلوا الحسين وأهل بيت الحسين وأخذوا بنات رسول الله سبايا فساقوهن سبايا إلى يزيد القرود والكلاب في دمشق كانوا مسلمين وينتسبون إلى القرآن وإلى السُنة وإلى الجماعة وإلى لا إله إلا الله، ولذلك – سُبحان الله – هذه الفاجعة الحمراء وهذه الأسطورة وهذا المهرجان الفريد الفذ في تضحية النفس والنفيس والأهل والولد والأقربين والذاوين في سبيل الحق وقداسة الحق وجلال الحق يلزنا ويضطرنا أن نعيد النظر في مقولات كثيرة في رأسها ومُقدَّمها مقولة الإيمان، فما هو الإيمان والإسلام؟!
هل هو عنوان نستخفي وراءه أو لافتة نرفعها ثم نفعل ما شئنا؟!
إذن اقرأوا كتاب الله واقرأو كيف عرَّف الله الإيمان في مئات الآي – أي مئات الآيات – ومن ثم لا تسألونا عن شيئ، لا تسألوا الأشاعرة والماتريدية والوهابية ولا غيرهم، فقط سلوا القرآن دون أن تسألوا سُنياً أو شيعياً أو إباضياً عن الإيمان، ما هو الإيمان؟!
بالأمس تفكَّرت فيما بيني وبين نفسه في قوله – عز من قائل – وَالْعَصْرِ ۩، وعلمت ما تعلمون أن الله حين يُقسِم فالأمر جد والأمر مهول والأمر كبير وعظيم، فحين يُقسِم الله علينا أن نصيخ السمع جيداً إلى موضوع القسم وليس إلى المُقسَم به الآن، الله يقول وَالْعَصْرِ ۩ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۩، فأنتَ إنسان وأنتِ إنسانة وأنا إنسان وكلنا خاسرون، ولكن لعلنا ندخل في الاستثناء حيث قال الله إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ۩، لأنه لا يُمكِن أن يتهيّأ بالحق ما لم يدعمه صبرٌ قدير، فالتواصي بالحق يكون أولاً بكشفه وإيضاحه وبيانه دون جمجمة ودون جُبن ودون حسابات مصلحية ودون مُدغدَغة لأهواء الجماهير أو أهواء الحكّام والحاكمين أو أهواء الأوصياء على عقل الأمة وعواطف الأمة مِمَن قد يُسمّي نفسه عالماً أو مُفكِّراً، فالذي نستشعر أنه حق لابد أن نصدع به ولابد أن نتوسَّده حين نموت شهادةً لنا فنقول “يا رب قد عرفناه وصدعنا به وتقطَّعت بنا الأسباب وعُودينا وتُنكِّر لنا ووُصِمنا ولُقِّبنا بألقاب ما أنزل الله بها من سُلطان، فلا بأس ولكننا صدعنا بما ترضى، بما اطمأنت به النفوس وانثلجت به الصدور، بالحق الفاقع الواضح ودليه من نفسه”، فهذا هو لأن التواصي بالحق تواصٍ بالدعوة إليه والزود عنه والذب عنه والدفاع عن حياضه بكل ما أُوتينا من قوة ظاهراً وباطناً حتى يصل الأمر إلى بذل النفس والروح في سبيل هذا الحق، ومن هنا الله يقول أن مَن كان على هذه الشاكلة سوف يدخل في المُستثنَين وإلا هو من الخاسرين، نعوذ بالله ونُعيذكم بالله أن نكون من الأخسرين أعمالاً.
أُريد بين يدي موضوعي أن أعمد إلى ذكر المُقدِّمات التي أعلم أن مُعظَم المسلمين لا يعرفونها، فسأذكر المُقدِّمات البعيدة نسبياً والقريبة نسبياً للفاجعة، فما الذي حدث؟!
الذي حدث باختصار أن بعد فتنة قتل الشهيد المظلوم عثمان ذي النورين – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – بايع كل رجال ونساء وإماء الأمة الإمام عليّاً – كرَّم الله وجهه – إلا ما كان من أهل الشام وكان على رأسهم مُعاوية بن أبي سُفيان، أي أن الأمة كلها بايعت عليّاً مثل أهل العراقين وأهل الحرمين وأهل اليمن وأهل مصر، وعليكم أن تنتبهوا لهذا حتى تعرفوا الحقيقة، فالأمة كلها من عند آخرها بايعت عليّاً – ونِعم البيعة – إلا مُعاوية زعم أنه يُريد الثأر لعثمان فهو لا يُعطي بيعته ولا صفقة يمينه حتى يُثأر لعثمان، وهذا كذب طبعاً، فهل أنت الذي تثأر أم الخليفة؟!
مَن السُلطان ومَن الباغي إذن؟!
الله يقول فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ۩، فمَن الباغي؟!
حيث وقعت حروب وكانت صفين وكانت الجمل وتعلمون ما كان حتى قضى الإمام عليّ – عليه السلام – بضربةِ غادر لئيم وهو ابن مُلجم – لعنة الله عليه إلى يوم الدين وأخسأه الله حيث ذُكِر، لعنة الله على الإسم والمُسمّى – فسقط الإمام شهيداً، وانظروا وصاة الإمام لأولاده – علماً بأنني لا أُريد أن أذكرها لأنها طويلة – وخاصة للحسنين، حيث دعا بالحسنين فأوصاهمها “أي بني اتقيا الله – يتحدَّث عن التقوى – ولا تبغيا الدُنيا وإن بغتكما – يُريد أن يقول نحن لسنا أهل دُنيا، لقد اذهب الله عنا الرجس وطهَّرنا تطهيراً، فأكبر رجس هذه الدُنيا ومن ثم نحن لا نُريد الدُنيا – وافعلا الخير وكونا للظالمِ خصماً وللمظلوم عوناً”،ومن هنا ستقولون من فوركم “بدأنا نعرف الآن ما سر الوقفة الحسينية”، فنحن لا نقول الوثبة الحسينية بل الوقفة التي تزول الجبال ولا تزول منها، وذلكم لأن حسيناً ابن عليّ، وانظروا كيف عاش عليّ وكيف مات عليّ وبماذا أوصى عليّ، لأن محمداً عاش كذلك وعاش لذلك وبذلك، فكان للظلمِ خصماً وكان للمظلوم خصيماً أي نصيراً مُدافِعاً ومحامياً مِدْرهاً، فهكذا هى الروح المحمدية، وهكذا يُوصي الأب أبناءه وهو يعلم أنه يُعرِّضهم للهلاك في أمة قلَّ فيها مَن يصدع بالحق لأنها تعرف كيف تجبن وتتأخَّر ومن ثم تخاف لأن الضريبة هى قطع الرؤوس بسرعة حيث أن هناك ظلم فاقع مُخيف مُدمدِم وحشي مُجرِم، ولكن الإمام عليّ أوصى أولاده رغم كل ذلك قائلاً “كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً”، الإمام عليّ الذي يوم كان خليفة قال له بعض الناس: يا أبا الحسن ارفق بنفسك، ما هذا اللباس؟!
ما هذا المأكل؟!
ما هذا المركب؟!
لأنه وهو أمير المُؤمِنين كان يركب على حمار وتخط رجلاه على الأرض، فيقول: أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المُؤمِنين ولا أُشارِك الناس في مكاره الزمان؟!
ثم استتلى قائلاً “والله الذي لا إله إلا هو لو أردتُ لكان لي من صفو هذا العسل ولباب هذا البُر ومناعم هذه الثياب، ولكن أعوذ بالله أن أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى – جائعة – وأكباد حرّى”، فهكذا كان نُسكه يوم كان خليفة وأمير الدُنيا، كان يستعيذ بالله من هذا، وانظروا إلى الآخرين كيف عاشوا وكيف ماتوا وماذا أكلوا وماذا شربوا وماذا طعموا وماذا سُقوا، انظروا واقرأوا التاريخ حتى يكون لنا عقل وقلب نفقه به، ولكن هكذا عاش الإمام على الضد تماماً من معيشتهم.
أبو الحسن قبل ذلك الذي لم يكن نصيبه ونواله من المغانمِ والفيء بالمنزور اليسير بل كان كثيراً طائلاً كان يعيش هو وفاطمة وبنوه وبناته عيش الفقراء، كان يتبلَّغ من هذه المغانم والفيء بمثل حسو الطائر، أي يأخذ القليل الذي يُمسِك الرمق ثم يقول في سائره هكذا وهكذا – الله أكبر – في المُحتاجِين والمعاويز، وأنزل الله فيه آيات وهذا ليس هذا مقام التفصيل فيها ولكنها آيات عن هذا الكرم الهاشمي النبوي المُصطفوي، وهذا شيئ غريب بل أنه أحياناً كان يعمد إلى ما يتبلَّغ به بنوه وزوجه البتول الزهراء بنت محمد – بُلغة مثل حسو الطائر – فيأخذه يدفعه إلى شيخٍ واهٍ أو أرملةٍ مُفرَدة أو يتيمٍ كسير، يفعل هذا ويبيتون هم على الطوى، يبيتون على الطوى بجوع، فكانوا جائعين غرثى.
هذا هو أبو الحسن، هذا عليّ بل هذا قبسٌ من أقباسه، نفحة من نفحاته، قطرة من مُحيطه العُباب .
وفي الأثر سار أبو محمد الحسن بن عليّ، فهو السيد – قال الرسول إن ابني هذا سيد – الذي أُوتيَ خُلق محمد وجمال محمد روحاً ونفساً، الحسن أبو محمد أخو الحسين الذي يكبره بنحو سنة، الذي يقول فيه أحد مَن عاصره “لم يستمع إليه أحدٌ وأحب أن يسكت” أي يقول يا ليته لا يسكت من حلاوة منطقه وتقواه وورعه وعفافه في كلامه، أصعب كلمة سُمِعَت منه حين غضب من أحدهم مرة هى أنه قال “ليس له إلا ما رغم أنفه”، هذه هى أعظم كلمة وأصعب كلمة وأقسى كلمة فاه بها فم أبو محمد الحسن – عليه السلام – حين قال “ليس له إلا ما رغم أنفه” لأنه الرجل العف، هو عف اللسان ونزيه اليد وطاهر النفس وسليم القلب وباريء السريرة، فهذا بعض وصفه ونعته، وحين تنازل عن الخلافة بعد أن قضى أبوه – عليه السلام – شهيداً أيضاً بايعه الناس، ولكن مُعاوية يُريد المجد ويُريد الكرسي، وكتَّب الحسن كتائبه – يُقال زُهاء مائتي ألف – لأن عنده جيش يصل عدد أفراده إلى ربع مليون، فمَن مُعاوية أو غير مُعاوية؟!
أي أنه بهذا الجيش الضخم يُمكِن أن يحصد الشام بمَن فيها ولكن سيقع عشرات آلاف القتلى في الفريقين، فهنا يقف أبو الحسن مُتفكِّراً ويُلقي بطوق النجاة لمُعاوية، لأن مُعاوية كان غريقاً ويعلم أنه غريق وليس أمامه فرصة ولكن الثمن جماجم الناس، وأبو محمد الحسن لم يُرد هذا، فهو الذي قال فيه الرسول “إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يُصلِح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”، وقد فعل وحقَّق الله نبؤة جده المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وصحبه أجمعين – ولذلك تراجع الحسن وغضب أكثر أصحابه بسبب هذا التراجع، وكان أكثر وأول مَن غضب الحسين أبو عبد الله حتى قال له الحسن “لتُمسِكن أو لأوشِكن أن آمر بك فتُحبَس في بيت حتى أقضي من أمري هذا الذي أُريد”، وأنا أرى أن التاريخ صدَّق حدس الحسين – عليه السلام – وصوَّب تصرّف الحسن، علماً بأن حدس الحسين هو أن بني أُمية – ومُعاوية خصوصاً لأنه كان رأسهم – ليس لهم إلٌ ولا ذمة وليس لهم عهد لأنهم قومٌ كذبة فيكتبون ويعقدون العقود ومن فورهم يُمزِّقونها، وسوف نرى كيف مزَّق مُعاوية العهد طبعاً، هذا هو التاريخ ومع ذلك يُدافِعون بالقول “صحابي جليل قاتل تحت لواء رسول الله وصلى مع رسول الله”، وكأن الصحابي يُصبِح معصوماً، علِّمونا هذا لو كان صحيحاً، فإن كانت الصُحبة تُساوي العصمة هذا شيءٌ آخر، هذا أصبح مبحثاً عقدياً نتناقش فيه، فما هذا؟!
بأي منطق تتحدَّثون؟!
الحسين يعلم أنهم قومٌ كذبة لا عهد لهم، ولكن كيف يتنازل الحسن؟!
قال “تنازلت وشرطت عليه شروطاً فقبلها مُعاوية”، أربعة شروط من ضمنها أن يصير الأمر بعد مُعاوية شورى بين المسلمين فيختار الناس مَن يُريدون، وطبعاً الشورى لا يُمكِن أن تحيف على أهل البيت، دائماً الأمة لو كان أمرها بيدها – والله العظيم – لما عادت أهل البيت ومن هنا تختار أهل البيت لأنها تعلم سيرتهم وترى أفعالهم وسلوكاتهم، ومُعاوية وافق على هذا، فهل وفَّى بما وعد؟!
غضب أكثر جُند الحسن، وتعلمون ما وقع من تفاصيل مُؤلِمة أسيفة إلا أنه قام فقال “أيها الناس إن الله – تبارك وتعالى – قد هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، هذا الأمر إن كان لمُعاوية فقد تركته له، وإن كان لي فقد تركته لله – عز وجل – وحقناً لدمائكم”، فمَن يقوم مثل هذا المقام؟!
ولا مليون مُعاوية، لأن مُعاوية جده لم يكن نبياً، أبوه هو أبو سُفيان بن حرب، ورحمة الله على الصلاح الصَّفديّ الإمام الجليل والمُؤرِّخ الخطير الذي قال أنه وق لبعضهم على قول من بحر الخفيف يقول فيه:
بنو شمس ألهبت حرباً لبني هاشم يشيب منها الوليد فابن حرب للمصطفى وابن هند لعليٍ وللحسين يزيد
فهو صراع مُتصِل الحلقات، فمُعاوية أبوه أبو سُفيان الذي نعلم متى أسلم – ما شاء الله – وما الذي قدَّمه، أما الحسن فيقول “أيها الناس إن الله قد هداكم بأولنا – أولهم هو رسول الله – وحقن دماءكم بآخرنا – أي بي، فأنا أُريد أيها الناس حقن دمائكم علماً بأنني أستطيع أن أحتفظ بالخلافة والكرسي لو كان لي فيهما أربٌ ولكن سيكون ذلك على جماجمكم وعلى جثثكم المُتفحِّمة، وأنا لا أُريد هذا -، هذا الأمر -إن كان لمُعاوية فقد تركته له، وإن كان لي فقد تركته لله – عز وجل – وحقناً لدمائكم”.
الله أكبر، ما هذا المنطق يا أخي؟!
أبو محمد الحسن هذا، وهو لا يتنازل عن المائة ألف يورو أو المليون يورو أو عن دويلة بل يتنازل عن خلافة، يتنازل عن أن يحكم الشام ومصر والعراقين واليمن والحجازين، فهو يحكم كل هذا العالم المُترامي الأطراف ولكنه لا يُريد الحكم لكي يُقال حاكم وإمبراطور، بل لأنه يُريد أن يُقيم معالم الحق وأن يُميت ما أُحيَ من البدعةِ الشنعاء البشعاء، فهذا هو ولذلك عنده موازين مُختلِفة تماماً عن معايير بني أُمية وفقهاء بني أُمية ومن ثم تراجع، ومُعاوية كتب له “نعم، سيكون الأمر من بعدي حين أهلك شورى بين المسلمين”، ولكن أحس مُعاوية بخبو قوته ودنو أجله وأُلقيَ في روعه – ولا نبحث الآن عن مَن الذي ألقى في روعه، ولكن وافق هوىً فتمكَّن هذا الإلقاء – أن يعهد إلى يزيد من بعده، وما أدراكم ما يزيد؟!
اقرأوا التاريخ فهذا حديثٌ آخر، اقرأوا التاريخ حتى تعرفوا ما هو يزيد، والتاريخ شاهد لا يكذب، فيزيد يُصبِح خليفة المُؤمِنين والمسلمين وفي الأمة أبو عبد الله الحسين وفيها طبعاً عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وجماعة آخرون، ولكن يكفى أن في الأمة الحسين الذي من طرازه ليس سواه، مَن قرأ سيرته يعلم فعلاً أن الحسين من طرازه ليس سواه فهو أفضل العالمين في وقته، وأنتم تعرفون هذا بل وكل الأمة تعرف هذا وتكاد تُجمِع عليه إلا النواصب والخوارج – قبَّحهم الله – فهو أفضل العالمين، الحسين حين عاش وحين مات لم يكن في وقته مَن هو أفضل منه – عليه سلام الله – ولكنه قُتِل شر قتلة واقرأوا كيف وقع هذا فهو شيئ مُؤلِم جداً ولا يكاد يُصدَّق، وأنا – والله – كلما عُدت إلى هذا الموضوع – والله العظيم – لا أكاد أُصدِّق ما الذي حدث ولا أكاد أُصدِّق ما الذي يحدث اليوم وكيف تُبرَّر هذه الشناعات والبشاعات والجرائم النكراء بحُجة مُعاداة إيران ومُعاداة الشيعة وضلالات الشيعة وبدع الشيعة، فما دخل هذا بهذا يا جماعة؟!
هذا موضوع آخر يحتاج إلى نقاش، وعلى كلٍ مُعاوية أحس بدنو أجله فأُلقيَ في روعه أن يعهد إلى يزيد، وبدأ يُرسِل – وله سلاحٌ تقريباً لا يُفَل – الذهب فإن لم يُجد فالسيف مثل ما قيل ” ذهب المُعِز وسيفه ” هذا ذهب مُعاوية وسيفه، وبدأت الوفود تترا من بلاد الإسلام تُبايع ليزيد في حياة أبيه – هذه بيعة وليست حتى بعهد وإنما بيعة – أنه هذا أمير المُؤمِنين يزيد، وطبعاً أُرسِلَ إلى المدينة وفيها أبو عبد الله الحسين وابن الزبير وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر، وكل هؤلاء وفي مُقدَّمهم الحسين أبو عبد الله ثاروا ثورة رجل واحد فدمدموا بكلماتٍ قواطع حواسم كأنهن مُستخرَجات من نار جهنم بل من قعر جهنم وقالوا دون ذلك الموت وأن نُقطَّع ونُمزَّق، ولا يُمكِن أبداً أن يُصبِح يزيد الخليفة علينا فهذه مهزلة، هُزِلتَ حقيقةً، ولم يبق في قوس الصبر منزع عند هؤلاء الكرماء، وبالترغيب وبالترهيب لم يتمكَّن من إقناعهم حتى اضطُرَ مُعاوية أن يأتي إلى المدينة بنفسه ويعقد مسرحية وفيها استخدم سيف الإرهاب ولكنه فشل وهلك الرجل ولم يُبايع أحدٌ منهم، وبعد ذلك جلس يزيد حيث جلس أبوه في كرسي الخلافة وبعث منه فوره – قبَّحه الله وقبَّح ذكره وتاريخه وأيامه السود والله – إلى واليه على المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سُفيان وهو من نفس الأرومة “أما بعدُ احمل على البيعة عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله ابن عمر والحسين وابن الزبير، ولا أرى أن عبد الله وعبد الرحمن يريان قتالاً، ولكن إن قام لك الحسين وابن الزبير فاضرب أعناقهما، والسلام”، أهكذا تقضي يا خسيس يا أنذل الرجال ورجس البشريةِ وعار العالم في ابن فاطمة وعليّ، في ابن رسول الله بضربة سيف هكذا؟!
مَن أنت؟!
لعنة الله عليه، وقُبحاً لأيام شهدت هذا الرجل، والله العظيم قُبحاً لعهود أعطت الأمة مواثيقها لهذا المسخ الضال الفاجر العنيد – والعياذ بالله – ومع ذلك تُؤلَّف كتب فيه الآن ويُقال “أمير المُؤمِنين يزيد بن مُعاوية رضيَ الله عنهما”، لا رضيَ الله عن مَن ألَّف ولا عن مَن رضيَ، وحسبنا الله ونعم الوكيل يا أخي، ما هذا؟!
ما هذه الأمة الحمقاء؟!
ما هذه البلاهة؟!
والآن سيجدون ضالتهم وسيقولون عني: ألم نقل لكم أن الرجل تشيَّع؟!
وهذا يندرج تحت حرب التسميات من قديم، وهذه الحرب جرت ضد الأنبياء حتى فقال القرآن عن هذا اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ۩ – أي المُستضعَفون – وإلى آخره!
وهنا يبدو أن الوليد كان فيه بقية خير وتقوى لله – تبارك وتعالى – فاستشار قريبه مروان بن الحكم الذي سيكون المُوسِّس الثاني بعد أربع سنين من الآن – من خلافة يزيد – للفرع المرواني في الأسرة الأُموية والذي سيستمر زُهاء خمسٍ وستين سنة في الحكم، علماً بأننا لم نشهد منهم مَن شهد له التاريخ بالخيرية والرشدِ إلا ما كان من ابن عبد العزيز – رضيَ الله عنه وأرضاه – لأن باستثناء عمر شطِّب على الجميع فكله كلام فارغ، عمر بن عبد العزيز هو الذي قال فيه أحد القدرية الأوائل “أخذ عمر الخلافة بغير استحقاق – ولّاه وكتب له ابن عبد الملك بغير استحقاق – ثم استحقها حين أخذها بالعدلِ”، وهذا صحيح!
تقدَّموا إخواني بارك الله فيكم .
بقيَ لدينا خمس دقائق سنُلخِّص فيها ما نود أن نقوله، المُهِم أنه استشار مروان الذي أشار عليه – والعياذ بالله – بما أمر به يزيد فقال له ” الحسين وابن الزبير إن لم يُبايعا فاضرب أعناقهما فإنهما إن علما بموت مُعاوية – وإلى الآن خبر موت مُعاوية مدوسوس ومُتكتَّم عليه – طار كل منهما إلى ناحية فتشتَّت الأمر”، أي ربما يذهب هذا إلى اليمن وهذا إلى مكة وهذا إلى العراق فيتسع الخرق على الراتق – على راتقنا – فاضرب أعناقهما، لكن الرجل أجفل من ذلك وتورَّع، والعياذ بالله من هذه الشورى – أي المشورة – الإبليسية، فإبليس نفسه لن يُشير بأقبح من هذا، فيُضرَب أبوعبد الله الحسين ويُقتَل وهو ابن رسول الله، فوالله لو كان الرسول – أُقسِم بالله – حياً لأمر بقتله فنحن نعرف هؤلاء الناس لعنة الله عليه.
أتأمر بقتل حفيد الرسول يا مُجرِم؟!
وبعث الوليد بن عُتبة بن أبي سُفيان إلى الحسين وابن الزبير، وبين هما في الطريق إليه في دار الإمارة يتساءل عبد الله بن الزبير فيقول: يا أبا عبد الله فيمَ بعث إلينا الرجل؟!
وبحدسه الصائب يقول “أرى أن طاغيتهم قد هلك – أكيد مُعاوية مات – وقد أرسل إلينا لنُبايع وبالقوة”، فانثنى راجعاً ابن الزبير وانثنى الحسين ولكنه عاد بجماعة من أصحابه وأنصاره وأهل بيته وأوقفهم على باب قصر الإمارة وقال لهم “أنا داخل إلى الرجل فإن سمعتم صياحاً وأصواتاً تتعالى فادخلوا وذودوا عني لأنهم قد يقتلونني” لأنه يعرف خستهم ونذالتهم فهم لا عهد لهم!
والآن السؤال الذي ينطرح من تلقائه وينبغي عليكم وعليكن أجمعين وجمعاوات أن تطرحوا هذا السؤال: أين عهد مُعاوية؟!
أنت يا مُعاوية كتبت حين تنازل لك الحسن أبو محمد أن الأمر من بعدك يكون شورى، فأين الشورى؟!
ولكنهم يقولون لك أنه اعتذر – ما شاء الله – ومن ثم قَبِلَ بعض بل أكثر علمائنا – ما شاء الله – وأكثر الفقهاء الكبار العظماء هذا العذر حيث قال “أخشى أنا إن جعلتها شورى أن تثور فتنة ويحصل صراع بين المسلمين”، ما شاء لم يخش من الفتنة بتولية ابنه يزيد القرود والفهود ولكن الفتنة ستثور بالشورى وبالديمقراطية، أما أن يكون يزيد في الأمة وعلى رأس الأمة فليست فتنة، انظروا إلى هذا كلام الكذب، فالكلام هذا – والله العظيم – لا يجوز إلا على المعاتيه والبُله من الناس – والله العظيم – والحمقى لأن الأمور واضحة تماماً!
على كل حال دخل الحسين وصار بينهما كلام، فقال الحسين “يا وليدُ تعلم أن ليس مثلي مَن يُبايع خُفيةً، إنما ادع الناس ليُبايعوا فإن بايعوا بايعت على الملأ”، وهذا نوع من التهرّب الشريف فهو يُريد أن يمتلك أمره، ولكن الرجل بذكائه فطن إلى خُطة أبي عبد الله لكنه تغافل لشيئ من طيبة وتقوى بقيت في نفسه فتركه يمضي إلى حال سبيله، وفي الصباح أبو عبد الله كان في طريقه إلى مكة فأحرز نفسه وأهل بيته وأخذ أولاده وأخواته – بنات عليّ، بنات رسول الله – وأولاد أخيه الحسن ليذهب بكل أهل البيت إلى مكة إلا محمد بن الحنفية آثر أن يبقى في المدينة، فهم ذهبوا إلى مكة لأن مكة حرمٌ لا يُستباح ولا يجوز أن يُستباح فيه أهل بيت النبوة، فعلى الأقل يكون هذا أضعف الإيمان وهو أن يحتموا بمكة حتى لا يُقتَلوا لأنهم إما أن يُبايعوا وإما أن يُقتَلوا، وهذا شيئ عجيب وظلم فظيع جداً يا أخي، والأدهى أنهم يُبايعون مَن؟!
يزيد بن مُعاوية، أي أن الحسين هو الذي يُبايع يزيد بن مُعاوية فهُزِلت والله، والله هُزِلَت ولا زالت مهزولة إلى اليوم فلم تسمن بعدها، وعلينا أن نتنبه إلى هذا فلم يسمن أمر هذه الأمة إلى اليوم ولم يظهر أمرها كما ينبغي، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩.
وجاء الخبيث الأخس الأتعس مروان بن الحكم وجعل يصيح في أميره – أمير المدينة – الوليد قائلاً: لماذا تركتهم وخالفت عن مشورتي؟!
فردَّ عليه الرجل صائحاً: يا رجل أتُشير علىّ بقتل الحسين؟!
كأنه يقول له: هذا الحسين، فهل أنت مجنون؟!
ثم استتلى قائلاً “والله الذي لا إله إلا هو إن رجلاً يُحاسَب بين يدي الله يوم القيامة بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله”، أي يُريد أن يقول له: سأهلك هلاك الأبد إن قتلت الحسين، فهل أنت مجنون لتطلب هذا؟!
إذن هو أراد أن يُوطِّيء له حتى يهرب فهو لا يُريد أن يتورَّط في دمه، سأل الله فيه وفي أهل بيته العافية وقد أُوتيها تقريباً فلم يتورَّط الرجل!
وهذا هو الفصل الأول أو بالأحرى بداية الفصل الأول من هذه القصة، ولعلنا نُكمِل – إن شاء الله – في الجُمعة القادمة ونرى ما كان حتى نقف – كما قلت لكم ولكن – على بعض مُقدِّمات الحدث الكبير لنعرف ما الذي حدث وكيف حدث ولماذا.
أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يجعلنا مِمَن يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أضف تعليق