إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۩ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۩ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لاحظتُ انتشار نفسٍ غير حميد بين بعضِ الشباب المسلم، إنه لونٌ من التأثر البالغ بالقيم المادية وبالفتوح البعيدة التي أحرزها العلم الحديثُ والمُعاصِر جعلهم يميلون ميلاً ظاهراً فيه جنفٌ عظيم إلى منطق المادة ويجفون منطق الروح والمعنى، وهذه بدايةٌ خطيرةٌ جداً وينبغي على أهل الذكرِ وأهل الفكرِ أن يكون لهم نظرٌ مُتغلغِل في أمداء بعيدة قد تستشرف قروناً من الزمان، فالأمر قد ينتهي بعد مائة أو مائتين أو ثلاثمائة من السنين إلى نهاية زرية جداً كالتي انتهى إليها الدين في الغرب المسيحي هنا، نبدأ بدايات نُبرِّر لها بإسم الفلسفة وبإسم العلم وبإسم عقلنة الدين وبإسم التفكير المنطقي فإذا بالدين يفرغ شيئاً فشيئاً من حقيقته وجوهره وينتهي الناس بعد قليل أو كثير – حتى لو بعد مئات السنين كما ألمحت وألمعت – إلى أن يقولوا كما قال الأولون أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ۩، فلكي نُؤمِن به لابد أن نراه محسوساً، وهذا شيئٌ خطيرٌ جداً، فلست أستوعب ولست أفهم من إسلامي أو من شابٍ مسلم أو من شابة مسلمة أن تقول لي “لا أستوعب هذه الأشياء لأنها خوارق، هذه الأشياء لا تخضع لقانون علمي”، وهل العلم وقوانين العلم هى قوانين الدين والإيمان؟!
هذا شيئٌ عجيب، فجوهر الدين هو الإيمان بالغيب، لكنهم يبدأون من إنكار كل كرامة لأولياء الله الصالحين لأنها لا تنسلك في نظام الأسباب، وهى أصلاً لم تكن في يوم من الأيام ولا في لحظة من اللحظات لتنسلك في نظام الأسباب، إنها بمعنى ما خروجٌ على هذا النظام تماماً كما كانت المعاجز خروجاً على هذا النظام، على نظام العادة وعلى مُعتاد الأسباب وليس على نظام العقل، وإلا فيم يُحدِّثنا الله في كتابه ويُكثِر عن كرامات هؤلاء المُكرَمين من عباده وإمائه الصالحين والصالحات؟!
لم يُحدِّثنا الله عن هذه الكرامات الباهرة الظاهرة لامرأة لم تكن نبية في رأي جماهير علماء المسلمين خلافاً لمَن شذ كابن حزم وغيره وهى السيدة مريم؟!
مريم – عليها السلام – لم تكن في رأي الجمهرة نبيةً فضلاً عن أن تكون رسولةً، ولها كراماتٌ ظاهرة وآياتٌ باهرة اختصها الله بها كالتي تلوت عليكم من سورة آل عمران، فعن عبد الله بن عباس وعن مُجاهِد بن جبر سعيد بن جبير وأبي صالح وعطية العوفي وسفيان الثوري وغيرهم كثير قالوا “كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف من غير سبب”، وهو نبيٌ يتعجَّب ويقول أَنَّى لَكِ هَذَا ۩، فقالت المرأة الصالحة وولية الله المُكرَمة هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، أي بغير أسباب وبغير تعاطي أسباب مألوفة للناس، فهذه هى الكرامة، لكن علينا أن ننتبه إلى أن بعض الناس لا يُنكِر عن عقل ولا عن علم ولا عن نقل إنما يُنكِر نفاسةً وحسداً فيقول “شيئ لم يثبت لي أنا لا أُثبِته لأحد”، ومن هنا قال الإمام ابن السُبكي رحمة الله عليه “أخشى على مثله المقت من الله تبارك وتعالى”، أي شدة الكره من رب العزة لأمثال هؤلاء، فليس يسع مُؤمناً أو مُؤمنة أن يُنكِر ما لم يتفق له بل عليه أن يتواضع وأن يُبالِغ في الصلاح والصدق وتخليص النية والقصود والعزائم لعل الله يُكرِمه ببعض ما أكرم به عباده الصالحين في كل زمانٍ ومكان بفضل الله تبارك وتعالى، وبعضهم ليسوا أقل في الرقاعة والحمق فيُثبِتون الكرامات للأموات لكنهم لا يُسيغون إثباتها لحي حسداً ونفاسة أيضاً لأنه من جُملة الأحياء فيقول أحدهم “فإذا لم تثبت لي لماذا تثبت لغيري؟”،أما الأموات فلا مُعوّل عليهم ولا تحاسد معهم، فلا أحد يحسد الأموات، لأن الموت حلَّال المشاكل كما يُقال، فإذن هو يُثبِتها للأموات ولا يُثبِتها للأحياء من غير بينة ومن غير دليل!
مريم – عليها السلام – حبلت من غير مسيس زوجٍ، لكننا لا نقول أن هذه مُعجِزة، فهذه ليست مُعجِزة لأنها ليست نبية، وإنما نقول أن هذه كرامة لها عليها السلام، فحبل مريم كرامة لها ولا دخل لعيسى بالمسألة، فلا تقل لي أن هذه مُعجِزة لعيسى، لكن الصحيح هو أن هذه كرامة لمريم، فكان حبلها من غير مسيس رجل، أي من غير أن يمسها رجل، وهذا شيئٌ عجيب جداً وهذه كرامة وأي كرامة؟!
مريم – عليها السلام – وهى تُمخَض – أي وهى في لحظة المخاض وفي لحظة الطلق والوضع – كانت امرأة واهنة ضعيفة زاوية مُستوحِشة خائفة وفي حالة استحياء فقالت يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ۩ لكن الله كان يقول لها وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ۩، فكيف تهز جذع النخلة؟!
لا يستطيع هزها خمسة أو عشرة من الرجال الأقوياء أصلاً لأن هذه نخلة، لكن الله كان يقول لها وَهُزِّي ۩، فهزتها فاهتزت وتساقط الرطب الجني، واهتزازاها هذا كرامة من أعجب الكرامات!
امرأة في حال المخاض والطلق تهزُ النخلة، ولعلها كانت مُستلقية على جنبٍ أو على ظهرها لكنها هزتها فاهتزت بإذن الله، فهذه كرامةً لها.
يقول القرآة الكريم قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ ۩، ونحن نستروح أن سليمان – عليه السلام – هو الذي قال هذا، ولذلك فهى مُعجِزة له، ولكن رأي جماعة غير قليلين بل أن هذا هو الرأي المشهور وهو رأي ابن عباس أن الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ۩ ليس سليمان وإنما كاتبه آصف بن برخيا، وقال بهذا كثيرون، فإذن هو ليس نبياً بل هو كاتب سليمان، وكان من الأنس وليس من الجن وكان امرأً صالحاً، لكنه أتى بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان إليه، أي في عشر ثانية، فقط دعا الله بالإسم الأعظم كما أُثِر فأتى بالعرش من اليمن إلى بيت المقدس، وهذه ليست مُعجِزة وإنما كرامة لولي صالح ذكرها القرآن، وهذا إن رجَّحنا قول ابن عباس وغيره رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.
أصحابُ الكهف لم يكونوا أنبياء ولا رسلاً لكن أكرمهم الله بكرامة تنقطع دونها الأعناق، ثلاثمائة وتسع من السنوات ينامون في خيرٍ وعافية من غير بأسٍولم يجر عليهم الزمان بل بقوا في شبوبيتهم شباباً كما هم، لم تطل لحاهم ولا أظفارهم ولا شعور أبشارهم ولا أي شيئ وذلك طيلة ثلاثمائة وتسع سنة، وهم ليسوا أنبياء وليسوا رسلاً، فهذه كرامة لم، علماً بأن القرآن يتوسَّع في ذكر كرامات هؤلاء المُكرَمين.
أم موسى – عليها السلام – كان يوحي الله إليها ويُلهِمها ويُكسِبها علماً ضرورياً لا تستطيع أن تُعنادِه، فألهمها أن تُلقي بابنها في صفطٍ وتُلقي بهذا الصفط في البحر، وينجو ابنها كرامةً لها وهى لم تكن نبية.
أما الرسول عليها الصلاة وأفضل السلام – صلى الله على رسول وآله وأصحابه إلى أبد الآبدين – كان يُعنى بهذه الأشياء كثيراً جداً لأن هذا هو دينه، وكان الرسول كل صباح كما في الصحيح يسأل أصحابه: هل منكم مَن رأى رؤيا؟!
فهو كان يهتم بموضوع المرآي، وكان يقول ذهبت النبوة ولم يبق إلا المُبشِّرات، فقالوا ما المُبشِّراتُ يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة يراها المُؤمِن أو تُرى له.
لكن الآن يسخرون من المرآي ويسخرون من الكرامات ويسخرون من كل هذه التأييدات، فماذا بقى لكم من الدين؟!
علينا أن ننتبه إلى أن من أعظم الأدلة على الله – تبارك وتعالى – أولياؤه الصالحون، فمَن اتفق له أن رأى شيئاً من كرامات أولياء الله – ليس سمع أو قرأ وإنما رأى ذلك بنفسه – يعظم ويربو الإيمان في قلبه بشكل غير مسبوق، لأنه يعلم أنه لا يُحدِث هذا إلا الله – تبارك وتعالى – ولم يُكرِمه بهذا إلا الله الذي يعلم السر وأخفى وهو على كل شيئٍ قدير، وفي مسجدنا هذا اتفق لبعض إخواننا مع بعض مَن نظن – إن شاء الله – أنهم من أولياء الله – والله العظيم – الشيئ العجب العاجب الذي لا يُقضى منه العجب، ولن أذكر الأسماء ولكنهم موجودون وأحياء يُرزَقون، فأحد إخوانكم – نسأل الله أن يكون عنده من الصالحين لأن ظاهره الصلاح بحمد الله – يرى رؤيا ليلة الجمعة – ليلة مثل هذا اليوم – وكانت نفسه تشوفت إلى الحج وليس عنده النفقة ومن ثم لا يستطيع أن يذهب، فيرى في الرؤيا أنه يُدعى إلى التأذين وإلى أن يرفع النداء في مسجد ليس هو الحرم ولكنه مسجد جميل وكبير، فيأبى ويقول “صوتي ليس بالحسن”، فيُعزَم عليه فيشرع في النداء فإذا بصوته حسنٌ جداً، قال “حتى صرت أتنغم وأُنغِّم في الأذان”.
هذا الرجل هو أخٌ لكم في هذا المسجد ويُوجَد في إدارة مسجدنا، والشخص الثاني أو الولي الصالح لا يزال حياً – مدَّ الله في فسحته -، يقول صاحب الرؤيا “لم أحك حكاية المنام لأحد من خلق الله، لا لزوجي ولا لأحد لأنها ليلة الجمعة، وأتيت وصليت خلفك، وإذا بهذا الرجل الصالح بعد الصلاة يأتي ويضع يده على كتفي ويقول لي يا أخي يا أبا فلان ضروري حين تُؤذِّن أن تُنغِّم، فسُقِطَ في يدي ولم أدر ما أقول”، هذا شيئٌ عجيب، فما هذا؟!
هذا حدث في مسجدكم مع الأخ أبي أنس – أحمد الطاهر – فسلوه حين يعود من مصر، وقولوا له: يا أبا أنس ما الذي اتفق لك ومع مَن وكيف؟!
قال “وضع يده علىّ وقال لي يا أخي يا أبا أنس ضروري حين تُؤذِّن أن تُنغِّم”، فما هذا؟!
وطبعاً هناك مئات الوقائع الحاصلة لذلك شيخ مشائخ المسلمين الإمام النووي – قدَّس الله سره – وهو من كبار أولياء هذه الأمة ولعله بلغ الرُتبة الأعظم في ذلك في زمانه ردَّ على مَن منع بلوغ الكرامة حد انقلاب الأعيان، ومعروف طبعاً مَن هو الإمام النووي الذي مات شاباً ولم يُكمِل الخمسين من عمره لكن نفع الله بعلومه مثلما لم ينفع بعلوم كثيرين من السابقين واللاحقين من الأئمة.رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين وأمتع الله بعلمائنا.
إذن النووي ردَّ على مَن منع بلوغ الكرامة حد انقلاب الأعيان، فمن المُمكِن تنقلب العصا حية حقيقية لكن هناك مَن ردَّ هذا، ومن ثم رفض هذا النووي وقال “في إنكار هذا إنكارٌ للحس”، قال “هذا مذهب غير مرضي عند المُحصِّلين، فالكرامة تبلغ هذا المبلغ بإذن الله تبارك وتعالى”، فهناك أشياء مُحَسة وقعت – بفضل الله تبارك وتعالى – وتقع لمَن أكرمه ويُكرِمه الله عز من مُكرِم – لا إله إلا هو – ولذلك يقول النووي رداً على مَن أنكر هذا “في إنكار هذا إنكارٌ للحس”، ولكنه الحرمان، فهذه قلوب محرومة وعقول مادية مقطوعة، لأن ليس لها أحوال حقيقية مع الله، لو كان لها أحوال حقيقية لصدَّقوا بهذه الأشياء، ولكن لا يتفق لهم شيئٌ منها لا من قريب ولا من بعيد ولذلك هم يُنكِرونها ويدّعون العقلانية والمنطقية والعلم، ونحن نقول لهم “أبقوا على هذا العلم، لا كثَّر الله من مثل هذا العلم لأن هذا العلم يُؤذِن بطي بساط الدين، ولكن أمثال هذه الأشياء – والله العظيم – من أكبر الأدلة على وجود الله – لا إله إلا هو – ولذلك يربو بها الإيمان حقاً”.
هناك كرامة مشهورة لعثمان بن عفان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حيث كان يجلس ذات مرة وكان وقتها خليفةً وأميراً للمُؤمِنين – رضوان الله تعالى عليه – فدخل عليه أحد الصحابة فقال “يدخل أحدكم وأثر الزنا في عينيه”، يقول هذا الصحابي “وقد كنت رأيت امرأةً فتأملت محاسنها في الطريق، فنظر إلىَ وقال يدخل أحدكم وأثر الزنا في عينيه”، فهاله هذا وقال يا خليفة رسول الله أو يا أمير المُؤمِنين أوحيٌ بعد محمد؟!
الرجل كان مُستغرِباً، فكيف يحدث هذا؟!
قال عثمان بن عفان “لا وحي ولكنها فراسة صادقة”، قال العلماء “وهذا من أكرم الكرامات”، لكن لماذا إذن؟!
لأن للذنوب آثاراً كدرة وظلمة وسواداً وكدوراتٍ في القلب بقدرها، فعلى قدر ما يكون ذنبك يتكدَّر قلبك ويسود – والعياذ بالله – ويُظلِم، وهذا الذنب الذي اقترفه هذا الصحابي من صغار الذنوب، فالنظر إلى مثل هذا الشيئ بإجماع الأمة من الصغائر ولا يُخالِف إلا جاهل، ولذلك لابد أن يكون أثره ضئيلاً جداً، وهذا لا يتلمحه إلا مثل مَن نوَّر الله بصيرته بنورٍ عظيم كعثمان ذي النورين رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وإلا كيف تلمح وأحس عثمان بهذا الأثر الصغير والضئيل جداً جداً جداً؟!
لغلبة النورانية على عثمان الذي كان لا يشبع من كتاب الله والذي كان يختم كتاب الله كل يوم وليلة، ويختمه ختمة خاصة في ركعة الوتر، فمَن يقدر على هذا؟!
هل منكم مَن فعل هذا؟!
أنا لم أفعل هذا في حياتي قط، لم أختم القرآن في ركعة لأن هذا الشيئ لا يُستطاع، لكن عثمان كان يفعل هذا كل ليلة، فكان يقرأ ثلاثون جزءً أو ستون حزباً وهو واقف في ركعة واحدة، ومع ذلك قتلوه – قتلهم الله – خوارج هذه الأمة.
على ذكر عثمان – رضوان الله عليه – كان هناك رجلاً يُدعى جهجاه الغفاري، وكان مِمَن أخذ مخصرة عثمان – عصا قصيرة يتخصَّر عليها – فكسرها على ركبته، فهذا الغبي لم يقتل عثمان ولكنه كسر مخصرته، فوقعت الآكلة في ركبته فقُطِعَت كرامةً لعثمان، وكأن الله يقول له مَن أنت يا أبله، يا أحمق لكي تكسر عصا عثمان؟!
كيف تكسر عصا الرجل الذي كان يختم كتابي كل ليلة في ركعة واحدة؟!
رضيَ الله تعالى عن عثمان وأرضاه، يقول الشاعر:
ضحّوا بأشمطَ عنوانُ السجود بِهِ يُقَطّع الليل تسبيحاً وقرآنا
النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُكثِر من تحديث أصحابه بهذه الحكايا والقصص الصحيحة عن الصالحين في الغابرين، فلماذا يفعل هذا وهو ليس حكواتياً وليس قصَّصاً، بل هو سيد العقلاء وسيد العارفين بالله رب العالمين؟!
لا يُريد أن يغلب علينا العقل المادي والعقل الحسابي الذي ترونه الآن يغلب على بعض الإسلاميين مِمَن فيهم جفافٌ غريب وقسوة وغلظة، ولذلك لا يُوجَد حتى أي بركة في العمل وإنما يُوجَد وتشانؤ وتباغض وتناحر بإسم الدين، فكل أولئكم يقع بإسم الدين، ومن هنا نكذب ويكذب بعضنا على بعض بل ونكذب على أنفسنا وعلى الحقائق وعلى الوقائع من أجل مغانم حقيرة دنيوية، لأن لا روحانية لدينا ولا صدق في تديننا،ف من أين يُبارَك فينا وفي أعمارنا؟!
من أين يُنفَخ في أعمارنا التي تبقى ميتة أجداثاً أشباحاً؟!
من أين يُستجاب لنا إذا دعونا؟!
نسأل أن يُخلِّصنا من هذه الورطة وهذه العماية، فالنزعة المادية عماية، وهى على طول الخط ضد نزعة التدين الروحية، لكن بعض الناس فقد هذا المعنى، ولذلك سلوه وقولوا له كيف وجدت دينك حين فقدت هذا الحس الروحاني؟ وسوف يقول “لا دين عندي أصلاً، فأن أُصلي كالميت وأصوم كالميت أو كالجثة”، لا يُوجَد لديه دين أو تنعم أو لذة أو علاقة حقيقية بالله تبارك وتعالى، فهذا دين جثة أو دين فطيس كما كان يقول عبد القادر الجيلاني، فهذا أشبه بالميتة و بالنَتن.
النبي عليه الصلاة وأفضل السلام – علماً بأن الحديث مُخرَّج في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما، ولن أذكر القصة بطولها لأنها معروفة لكم ولكن جميعاً وجمعاوات – تحدَّث عن الثلاثة النفر الذين خرجوا فأصابهم المطر فأووا إلى غار، فوقعت صخرة فسدت عليهم فم الغار فأيقنوا بالهلكة، فقال أحدهم وكان ذكياً “ليتوسَّل كل منا إلى ربه – تبارك وتعالى – بأصدق عمل عمله لله”، أي بعمل يعلم أن الله قبله لأنه ما عمله إلا لله، فتوسَّل الأول بعمل فانفرجت، والثاني توسَّل أيضاً فانفرجت لكنها لم تسمح لهم بالخروج، ثم توسَّل الثالث فانفرجت وخرجوا يمشون بإذن الله كرامة لهم، والحديث في الصحيحين، قالنبي يتحدَّث عن كرامة لثلاثة رجال عاديين ولكنهم كانوا من الصالحين وكانت لهم أعمال صالحة، لكن لماذا يُحدِّث الصحابة والناس بهذا الحديث؟!
هل كان النبي يُضيِّع الأوقات بهذا الحديث؟!
النبي كان يفعل هذا لكي يبني الروح ويبني المعنى ويبني العلاقة بالله.
هناك حديث مُخرَّج في الصحيح أيضاً عن رجل إسرائيلي استلف ألف دينار من أخيه، فقال “ائت بكفيل”، فقال “كفى بالله كفيلا”، قال “ائت بشهداء”، فقال “كفى بالله شهيداً”، قال “قبلت” وأسلفه الألف الدينار إلى أجلٍ، فلما حان الأجل خرج الرجل يُريد سفينةً – قرقوراً أو قارباً – فلم يجد، فقال “يا رب اللهم إنك تعلم أن فلاناً قد أسلفني ألف دينار وطلب كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً وأنت الكفيل، وطلب شهداء فقلت كفى بالله شهيداً وأنت نعم الشهيد، اللهم فابلغ عني”، وأخذ خشبةً – قطعة خشب – فحفرها ونقرها ووضع فيها الألف دينار ثم قيَّر عليها – أي وضع القار وهو الزفت. أكرمكم الله – وسيَّرها في الماء حتى غابت عنه وعاد إلى مكانه وبلغت الخشبة إلى الرجل -الحديث في صحيح البخاري – الذي خرج يصطاد لأهله فإذا بخشبة أمامه، فأخذها لكي يُؤجِّج بها ناراً – لكي يطبخ عليها طبيخه أو يشوي سمكه – لكنه لما شقها وجد فيها الألف دينار ورسالة من أخيه، ثم إن أخاه مع ذلكم عوَّل على كرم الله وأخذ بعد ذلك سفينة وأتى بألف دينار أخرى وقال “هذا دينك”، فقال “يا أخي هل بعثت إلىّ بشيئ؟ فقد أدى الله عنك”، أي أنه قال أن المال بلغه لأن الخشبة جاءت عنده دوناً عن كل الناس، فكيف تأتي عنده وحده إذن؟!
هناك رب كريم عظيم يُسيِّر الكون، فالأمر لا يقتصر على الأسباب والمادة والعلم والقوانين التافهة، هذا الرب – لا إله إلا هو – أُقسِم بعزة جلاله لا تنزل قطرة مطر إلا حيث أراد أن تنزل، فهذه كرامة لرجل إسرائيلي من عباد الله الصالحين وهذا الحديث في الصحيح، فلماذا يُحدِّث النبي الصحابة بهذا؟!
لكن هم يُشبِّهون بتشبيهات ويشغبون بمُشاغَبات ويقولون “لو كان شأن الكرامات حقاً لكان أولى الناس أن تكثر فيهم وأن تبزغ وأن تظهر فيهم هم أهل الصدر الأول الذين هم وشاش الإسلام وصفوة الأنام وخيرُ الخلقِ بعد الأنبياء – عليهم السلام – وهم أصحاب رسول الله”، ونحن نقول لهم “من جهلكم أوتيتم، وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها”، فمَن قال لك يا أيها المُتعالي أن الصحابة لم يكن لهم كرامات؟!
كرامات الصحابة أكثر من أن تُذكَر، فيتعنّى مَن أراد أن يُحصيها لأن هذا مُستحيل، ومع ذلكم هم كانوا حريصين على ألا يُظهِروها، فهم لا يُريدون إظهارها ولكن ما ظهر منها وما بلغنا كثيرٌ جداً، وسوف نضرب لكم أنماطاً ونماذج فقط.
في الصحيحِ من حديثِ أنس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أن أُسيد بن حُضير وعبَّاد بن بشر – رضيَ الله تعالى عنهما – كانا عند رسول الله – سهرا عنده – في ليلةٍ مُظلِمةٍ حندس كما يقول أنس – مُظلِمة شديدة الظلام والحلكة – ثم إنهم انطلقا من عند رسول الله عائدين إلى بيوتهما، يقول أنس “فأضاءت لهما عصا أحدهما – أي أصبحت مثل القنديل لأن الليلة مُظلِمة حندس – حتى مشيا يتحدَّثان في ضوئها،فلما افترقا أضاءت عصا الآخر”، أي أن هذا عاد إلى بيته بقنديل والآخر عاد إلى بيته بقنديل آخر، وهذا الحديث في الصحيح.
أُسيد بن حُضير – رضيَ الله عنه وأرضاه – من أندى الصحابة صوتاً – أبو موسى الأشعري وأُبي وأُسيد – بكتاب الله، وسوف أختصر لكم قصة طويلة في الصحيح، حيث كان يتلو هذا الصحابي سورة البقرة ذات ليلة، قال “فرأيت مثل الظُلة فيها مصابيح قد تنزَّلت فهالني ذلك”، فأغلق صحائفه وأخذ ابنه يحيى ودخل الدار، ولما أصبح أو غدا غدا على رسول الله، فقال له النبي الصادق المصدوق والمعصوم الأبر الأطهر صلوات ربي وتسليماته عليه وتبريكاته وتشريفاته إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – أول ما رآه “اقرأ أبا يحيى، اقرأ أبا يحيى”، فالنبي عرف ما حدث لأن الله أحاطه علماً بهذه الواقعة، فقال له هذا ثلاث مرات، ولما قصَّ على النبي القصص قال “تلك الملائكة يا أبا يحيى تنزَّلت تستمع إلى قرائتك – أي لهذا الصوت الندي الخشوع الجميل الذي يُطلَب به وجه الله لا للمُبارَزة ولا للمُراءاة، فهذه هى قراءة المُخلِصين المُخبِتين -، ولو ظللت تقرأ حتى أصبحت لأصبح الناس يرونها”، أي لما ارتفعت الملائكة ومن ثم كان سيراها كل الصحابة لكنه انقطع فارتفعت، والحديث في الصحيح.
عمران بن حُصين – رضيَ الله عنه وأرضاه – كما في الصحيحين كان يُسلَّم عليه وعلى أهل بيته من أنحاء البيت وزواياه، أي أن الملائكة كانت تُسلِّم عليه وتقول له”السلام عليكم ورحمة الله”،وهو يسمع تسليم الملائكة وأهله يسمعون تسليم الملائكة، وهناك تفاصيل في مسلم وغيره لكنه يقول في آخر حديث طويل “حتى اكتويت فانقطع عني السلام، فلما تركت الكي عاد إلىّ”، أي عادت الملائكة تُسلِّم عليه، والحديث في الصحيحين، فهل هذه خُرافات وأساطير أيضاً؟!
هذه كلها نصوص صحيحة لأصحاب رسول الله رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم، وصلى الله على عبده ومُصطفاه ووليه ومُجتباه.
في الصحيحين من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال “وإن كنا لنسمع تسبيح الطعام في الصحاف وهو يُؤكَل”، وهذا في البخاري ومسلم، فهذه ليست روايات مُنقطِعة لا تستند وأحاديث لهيان بن بيان وخُرافات، وإنما هذا حديث في الصحيحين يقول فيه ابن مسعود “وإن كنا لنستمع إلى تسبيح الطعام في الحصاف وهو يُؤكَل”، فأصحاب رسول الله كانوا يأكلونه ويسمعون تسبيحه!
بعض الناس يظن أن الصحابة كانوا أُناساً أشداء أقوياء وأنهم كانوايحملون السيوف دائماً ويُقاتِلون فقط في سبيل الله، وأنهم يُكفِّرون الناس دائماً ويقولون “هذا كافر وهذا مُشرِك وهذا مُبتدِع، اذبحوا هذا ولا تتركوا هذا”، وهذا غير صحيح، إنهم صفوة الأولياء، فهم ليسوا هكذا بالمرة بل كانوا أبر عباد الله وألين عباد الله وألطف عباد الله وأصدق وأخلص وأجمل وأعذب وأرق عباد الله رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم.
نأتي إلى الصديق الأكبر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أبي بكر الصديق، علماً بأن الحديث رواه مالك في الموطأ وابن سعد في الطبقات وإسناده صحيح من حديث عروة بن الزبير رضيَ الله تعالى عنهما، عن عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – أنها قالت: قال لي أبي أبو بكر في مرضه الذي تُوفيَ فيه يا بُنية إنه ما من أحدٍ أحب إلىّ غنىً بعدي منكِ، ولا أعز علىّ فقراً بعدي منكِ – أي أنه يقول لها بلغته الفصيحة العالية أنتِ أكثر إنسان أُحِب أن يكون غنياً بعدي بعد موتي، وأنتِ أكثر إنسان يشق علىّ فقره بعد موتي -، وإني يا بُنيةُ كنتُ قد نحلتكِ جادة – أي مجدود – عشرين وسقاً من نخلٍ – أعطاها مجزوز النخل بما يُعادِل عشرين وسقاً، وهى طبعاً تعرف أين هو-، فلو كنتِ جددته وخزنته لكان لكِ، ولكنه اليوم مالُ وارث”، وهذه أول كرامة له طبعاً، فقد صح عنه أنه عرف – رضوان الله عليه – أنه سوف يموت في مرضه ذاك، ولكن سيأتيني بعض مَن شدا في العلم حرفاً أو حرفين، من بعض المُتنطِّعين ليُنكِروا هذا، وهذه هى المُشكِلة، فلو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف، يأتي إلينا شباب صغار حدثة أسنانهم لم يقرأوا ولم يتعلَّموا ولم يتفقهوا ولكنهم تعلَّموا أن يُطيلوا ألسنتهم في العلماء والصلّاح في كل مكان ومن ثم يقولون “هذا باطل وكلام فارغ لأن الله يقول وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۩”، وأنا أقول لمَن يقول هذا “ارجع أيها المُتفقِّه الكبير إلى كلام المُفسِّرين وفي رأسهم العلَّامة السلفي الإمام الحافظ ابن كثير، واقرأ ماذا قال ابن كثير في تفسير هاته الآية خاتمة لقمان، فعليك أن تقرأ وأن تتعلَّم حتى تفهم الدين لا تُقدِّم بين يدي العلماء والأئمة، فتُضلِّل وتُخطّيء وتُصحِّح وتبطل وأنت لم تقرأ أصلاً”، يقول ابن كثير “لا يعلمُ ذلك إلا الله ومَن شاء الله أن يُعلِمه به”، ومع ذلك تجد مَن يعترض ويتكلَّم دون أن يقرأ شيئاً، فيُخطّيء الإمام مالك ويُخطّيء ابن سعد ويُخطّيء أبا بكر لأنه لم يقرأ ولم يفهم، ومع ذلك يظن أنه فقيه في كتاب الله، وهذا شيئ عجب يا أخي.
المُهِم هو أن أول كرامة هى أنه علم أنه يُتوفى في مرضه ذاك، ثم قال “وإنه اليوم مال وراث، وإنما هم أخواكِ وأختاكِ”، هذه كرامة أخرى، وأخواكِ هما عبد الرحمن ومحمد رضيَ الله عنهما، أما ابنه الثالث عبد الله فقد تُوفيَ في حياة أبيه ودفنه أبوه في خلافته بعدما تمادى به جرحع على إثر أُصابته في الطائف مع رسول الله وهذا أمر معروف، فعبد الله ذن ميت وبالتالي بقيَ من أبناء الصديق عبد الرحمن ومحمد، قال أبو بكر “وإنما هما أخواكِ وأختاكِ”، إذن عائشة وأسماء، فمَن الثلاثة؟!
قالت “يا أبتي والله لو كان كذا وكذا لتركته”، فعائشة – رضوان الله عليها – الصديقة بنت الصديق كانت من أكرم النساء في تاريخ الدنيا، اقرأوا عنها لتعرفوا هذا الشيئ العجب، فكرم عائشة وجود عائشة بالخير شيئ لم يُسمَع بمثله، ولا تُجاريها في ذلك ربما إلا أسماء أختها، شيئ عجيب في الكرم، وأبو بكر كان كريماً بل كان من أجود عباد الله على الإطلاق، ولذا قال النبي “مَن كان له علينا فضلٌ جزيناه به في الدنيا إلا أبا بكر له علينا يد لا يجزيه بها إلا الله يوم القيامة”، أبو بكر أعطى كل شيئ لله ورسوله، وأبناؤه كانوا مثله وكذلك بناته عائشة وأسماء رضيَ الله تعالى عنهما .
المُهِم أنها قالت “ولكن يا أبتي مَن هى الثانية؟”، إن هى إلا أسماء بحسب الظاهر، لكن اسمعوا الآن الكرامة العجيبة والقلوب المُكاشَفة التي تمتح من الغيب بلا حجاب، قال الصديق “يا بُنية إنها ذو بطن – أي الحَبل – بنت خارجة أُراها جارية”، وستقرأون في بعض الكتب “ذو بطن بنتٌ جارية”، ما شاء الله على الفقه في العلم، فيُوجَد مُحقِّقون ودكاترة كبار لكن بعضهم للأسف الشديد لا يفهم حتى ماذا يقرأ.
معنى قوله “بنت خارجة أُراها جارية” أن حبيبة زوجه – أي إحدى زوجاته الأربع وهى حبيبة بنت خارجة الخزرجي – التي كانت تسكن بالسُنح على أطراف المدينة حُبلى وما في بطنها – بإذن الله – جارية، وهذه كرامة له رضيَ الله عنه وأرضاه، وإلا كيف عرف هذا؟!
مَن أنبأه بهذا؟!
الله عرَّفه بهذا بطريقته الخاصة، ولا ندري هل حدث هذا برؤيا أو بإلهام أو أن رأى ذلك وكُوشِف به كما يرى بعض الصالحين هذه الأشياء!
أعرف مَن كان سيدة كانت بإذن الله، وهذا كشف لهذه الأرواح الصافية، المُهِم هو أن الصديق تُوفيَ ووضعت حبيبة بنت خارجها حملها فإذا هى أُنثى كما قال الصديق رضوان الله عليه، وأسمتها عائشة أم كلثوم وهى التي أرادها عمر بن الخطاب زوجةً له فأبت، عائشة وافقت لكن أم كلثوم رفضت، ثم تزوجها أبو محمد طلحة بن عُبيد الله – رضيَ الله تعالى عنه – وهو أحد العشرة المُبشَّرين، قال أبو بكر الصديق في آخر الحديث “وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ بَيْنَكُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى”.
هذه القصة هاجت في نفسي حزناً وألماً، هذا هو الصديق – رضيَ الله عنه وأرضاه – وما أدراكم مَن الصديق؟!
هذه القصة تُؤكِّد صدق مسلكه وعظم ورعه وثبات محبته لرسول الله بعد أن تولى رسول الله حميداً سعيداً على عكس ما يشغب بعض الناس، هناك مَن ألَّف قصة في مُجلَّد كبير وقال فداك وفداك وأن أبا بكر ظلم الزهراء البتول فاطمة – سلام الله عليها إلى يوم الدين – أرضها، فلم يُعطها الأرض في حين أن النبي أعطاها إياها، وهذا غير صحيح، فتباً لكم.
أبو بكر – رضوان الله عليه – عامل ابنته بنفس المنطق، وقال لعائشة “لو كنتِ جددته وخزنته لكان لكِ” لأنه يعلم من فقهه الثابت أن الهبة لا تتحقَّق بها المملوكية إلا بالقبضِ، فهذه قاعدة علمية فقهية وأبو بكر كان مُستوثِقاً منها، فلو أن فاطمة الزهراء البتول – عليها سلام الله ورضوان الله وكراماته إلى يوم الدين – كانت قبضت فدكاً فصارت في ملكها لصارت ملكاً لها، ولكن النبي وهبها فاطمة أو وهبها إياها لكنها لم تقبضها، واختُلِسَ من بينهم رسول الله – أي تُوفيَ سريعاً – فجاءت فاطمة تُطالِب به، فبكى أبو بكر وقال لها “والله يا بنت رسول الله لقرابة رسول الله أحب إلىّ من أن أصل من قرابتي – أي أنك أحب إلىّ من عائشة وأحب إلى من كل أولادي – ولكن سمعتُ النبي يقول نحن معاشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا فهو صدقة”، أي أنه يقول أنه يخاف من أن يحيد عن خط النبي، وهذا شيئ تقشعر له الأبدان – والله – ويدل على صدق الصديق، وبنفس المنطق عامل – رضوان الله عليه – أولاده، ومع ذلك يدَعون أن أبا بكر قد تغيَّر، والسؤال هو تغيَّر على مَن الصديق؟!
أين العقول يا أخي؟!
كيف يتغيّر الصديق على فاطمة – عليها السلام – وهى بنت حبيبه وخليله وأحب الخلق إليه من نفسه؟!
كيف يتغيَّر الصديق على رسول الله مُباشَرةً بعد يومين أو ثلاثة أيام من وفاة رسول الله فيُبطِل جهاده وهجرته وعطاءه ورضخه من أجل أن يعيش بمُرقَّعة ويُدفَن مُكفَّناً بثوبه؟!
أُقسِم بالله هذا – والله – مُحال، أين العقل يا أخي؟!
هذا شيئ مُؤلِم، فنسأل الله أن يكشف عن أبصارنا وبصائرنا، وأقول نصيحةً لإخواني – والله – من باب حُب الخير، فلا أقولها – أُقسِم بالله وأنا في رمضان – تشفياً لأنني لا أُحِب الفتن وهذا معروف عني “اتقوا الله وفكِّروا بعقل الإيمان، لا تُفكِّروا بعقل البُهتان والظلم والشنآن”، رضيَ الله عن أبي بكر الصديق.
هناك حديث في الصحيح من رواية عبد الرحمن بن أبي بكر رضيَ الله عنهما قال النبي فيه يوماً أهل الصفة “مَن كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومَن كان عنده طعام أربعه فليذهب بخامس”، وفي الحديث أن أبا بكر أخذ ثلاثة من أهل الصفة وذهب بهم إلى بيته، ثم أنه تركهم وعاد فتعشى عند رسول الله، ولبث حتى صلى معه العشاء ثم انقلب إلى بيته فقالت له زوجه “يا أبا بكر ما الذي أبطأ بك عن ضيفك أو ضيفانك؟”، فقال “أوما عشيتهم؟”، فقالت “أبوا حتى تحضر” وهذا يدل على أدب هؤلاء الناس، فوُضِعَ لهم الطعام، يقول قائلهم “فوالله ما كنا نأخذ لقمةً إلا ربا تحتها أزيدُ منها”، كان الطعام يزيد كلما كانوا يأكلون منه – علماً بأن الحديث في الصحيح – حتى أكل الثلاثة من عند آخرهم وشبعوا، ثم أُعيدَ الإناء إلى زوج أبي بكر فإذا هو قد تضاعف، وفي رواية “ثلاثة أضعاف”، فقال أبو بكر “يا أخت بني فراس ما هذا؟”، فقالت “وقرة عين والله يا أبا بكر لقد ربا وتضاعف ثلاث مرات”، فهل هذه كرامة أم ليست بكرامة؟!
هذا ليس بالظنون ولا بالتخرصات ولكنه ثابت في الصحيح، فهذه كانت كرامات عجيبة لأبي بكر الصديق!
أما الفاروق – رضوان الله تعالى عليه – فقد قال فيه النبي فيما صحَّ من حديث عائشة ومن حديث أنس وغيرهما “قد كان في مَن كان قبلكم مُحدَّثون فإن يكن في أمتي أحدٌ منهم فهو عمر بن الخطاب”، فهو مُحدَّث هذه الأمة والمُلهَم الصادق الفاروق بين الحق والباطل، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه وأنعم الله بحبه عيون المُؤِمنين والمُؤمِنات.
عمر قصته عجيبة جداً يوم زُلزِلت الأرض زلزالها وخاف الناس وفزعوا فضربها بدرته الكريمة وقال لها “قري، ألم أعدل عليكِ؟” فقرت الأرض من وقتها، ما هذا الفقه؟!
ما هذه الكرامة العجيبة؟!
يُؤدِّب الأرض – رضيَ الله عنه وأرضاه – ويقول لها “قري، ألم أعدل عليكِ؟” فتقر الأرض، قال العلماء: ما أحسن هذا الفقه وما ألطفه وما أدقه؟!
من أين أخذ الفاروق أن الأرض إذا زُلزِلت فيكون بسبب الظلم؟!
كالظلم الحاصل في بلاد العرب الآن مثل ليبيا وسوريا واليمن، حيث ذبح الناس وهتك الحرائر وسفك الدم في الشهر الكريم، فاللهم اشدد عليهم وطأتك وأرنا فيهم يوماً قريباً بحق لا إله إلا الله.
فهكذا يعلم الفاروق أن هذه الزلزلة بسبب الظلم، ولكنه ليس ظالماً فقال “ألم أعدل عليكِ؟”، قال العلماء “لعله أخذه من قوله تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ۩”، فالظلم والإلحاد والعقائد الفاسدة المارقة هى التي يُزلزِل الله بها الكوكب من تحت أرجل الناس، ولكن بالعدل والإيمان والعمل يحدث العكس، فتثبت به أركان كل شيئ وتثبت به أركان العزة للأمة وأركان الكرامة للعبد الصالح وللأمة الصالحة المُهتدية.
وهناك قصة عمر وسارية التي تعرفونها جميعاً، فهى قصة من أعجب العجب وهى كرامة له أيضاً، وهذه القصة قال فيها الحافظ عماد الدين بن كثير صاحب التفسير والتاريخ في البداية والنهاية “إسنادها حسنٌ جيد”، فهى ليست قصة موضوعة، وقال فيها الحافظ ابن حجر في الإصابة “إسنادها حسنٌ”، حيث سيَّر عمر سارية بن زنيم الخلجي أميراً على جيش إلى بلاد فارس – نهاوند – وهناك اكتظت عليهم الأعداء وكثروا حتى داخل المسلمون شيئٌ من يأس وتطاول بهم الزمن، فمرت أسابيع طويلة، وعمر كان مهموماً لشأنهم، فبين هو يخطب ذات جمعة – مثل هذا اليوم المُبارَك الأغر بحول الله وفضله – انقطع والتفت وجعل يقول “يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ، ومَن استرعى الذئب الغنم فقد ظلم”، فقيل لعليّ بن أبي طالب – عليه السلام – يا أبا الحسن ما باله؟ أي ماذا يقول؟ لأن بعضهم ظن أنه تخبَّل أو حدث له مكروه، فقال “دعوا عمر – أي اتركوه – فإنه مادخل في أمر إلا خرج منه”، فعليّ – عليه السلام – يعرف مَن هو عمر، فهو أخوه وحبيبه، وأنا قلت مرة – وهذا يُغضِب السُنة والشيعة – أن أقرب الخلق إلى عمر هو عليّ، وأقرب الخلق إلى عليّ هو عمر، وأبعد الخلق من عمر هو مُعاوية، وهو أبعدهم من عليّ، رضيَ مَن رضيَ وسخط مَن سخط، فأنا أُدافِع عن الحق، فإذا كانت تُريد أن تتحدَّث فلتتحدَّث عن علاقة عليّ بعمر، هما أخوان شقيقان في طريق الصلاح والكرامة وهما الأمينان على هدي محمد ودين محمد وشرعة محمد.رضيَ الله عنهما وأرضاهما.
إذن قال علي “دعوا عمر فإنه مادخل في أمر إلا خرج منه”، ثم بعد ذلك تبيَّن الأمرُ، فإذا بسارية بن زنيم والجيش معه في تلكم الساعة من ذلكم اليوم يسمعون صوت أمير المُؤمِنين بآذانهم “يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ، ومن استرعى الذئب الغنم فقد ظلم”، قال “فانحازنا إلى الجبل، فمنحنا الله أكتافهم وفتح علينا”، فما هذه الكرامية العجيبة المُدهِشة؟!
هذا هو عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الذي يقول فيه أحد التابعين “ما رأيتُ عمر يقول لشيئ أظنه إلا كان كما ظن”.
عثمان حدَّثناكم عن بعض كراماته، أما عليّ بن أبي طالب – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – فقد حدَّثه أحد الحمقى بحديث، فقال له “ما أراك إلا كذبتني”، أي أنك تكذب، فقال الرجل “لا، ما كذبت عليك”، فقال له “أدعو عليك إن كنتُ صادقًا” كاختبار له لأنه يزعم أنه لم يكذب ومن ثم سوف يدعو عليه لكي يرى هل هو صادق أم كاذب، فقال الرجل “ادع”، فلم يبرح إلا وقد عمي، أي أن الرجل عمي الرجل في مكانه، فهو لم يكن مُصدِّقاً بكرامات أوليات الله لأنه يرى عليّاً أمامه فلا يكاد يُصدِّق هذه الكرامات، فهل هو نبي لكي يُصدِّق بها؟! ولذلك قال “ادع” فدعا عليه فلم يبرح إلا وقد عمي، فهو عمي في مكانه على إثر هذه الدعوة!
عليٌ – كرَّم الله وجهه وعليه سلام الله – كان ذات مرة هو والحسن والحسين – ريحانتا رسول الله من الدنيا عليهما السلام ورضيَ الله عنهما وأرضاهما – جلوساً بالقرب من الكعبة المُشرَّفة – شرَّفها الله وزداها بهاءً وقدساً – إذ سمعوا رجلاً يقول بصوت محزون أسيف ندمان:
قد نام وفدُك حول البيـتِ وانتبهـوا وعينُ جُـودِك يـا قيّـومُ لـم تَنَـمِ
هَبْ لي بجودِك فضلَ العفوِ عن زللي يا مَن إليه رجاءُ الخَلْقِ فـي الحـرمِ
إن كان عفوُك لا يرجـوه ذو خطـاً فَمَن يجود على العاصيـن بالنِّعَـمِ؟!
فقال عليّ “اطلبا لي الرجل، فإن له شأناً وحكاية”، فأتيا فقالا “أجب أمير المُؤمِنين” لأن هذا كان في خلافة عليّ عليه السلام، فقال له “قد سمعت مقالتك فما هى حكايتك؟”، قال “يا أمير المُؤمِنين قد كنت رجلاً مُسرِفاً على نفسي، أتعاطى المُسكِرات والمُوبِقات فلا أرعوي، وكان لي أب صالح يعظني ويزجرني فلا اتعظ ولا انزجر، فقال لي يوماً وبالغ في موعظته يا بُني إن لله سطواتٍ ونقمات وما هى من الظالمين ببعيد، فأغضبني فضربته – والعياذ بالله الشقي ضرب أباه لأنه يأمره وينهاه -،فآل على نفسه أن يدعو علىّ عند بيت الله، فركب وأتى الكعبة المُشرَّفة ودعا علىّ، فقمت من نومي وقد جف شقي”، أي أنه أُصيب بالشلل النصفي، فشقه كله كان مشلولاً من فوق إلى تحت، فقال له عليّ “ثم؟”، قال “فلم أزل به أترضاه حتى رضيَ، وضمن لي أن يدعو لي حيث دعا علىّ”، فقال له عليّ “آالله”، فقال “يا أمير المُؤِمنين والله ما كذبت عليك،هو أراد ذلك”، قال “يا أخي رضيَ الله عنك إن كان أبوك رضيَ عنك”، وهذا نقوله لمَن يعق أمه وأباه أو أحدهما، فبر الوالدين سبب من أعظم أسباب التوفيق والإسعاد في الدنيا على الإطلاق – والله العظيم – بعد رضا الله تبارك وتعالى، ويكمن رضا الله في شطر عظيم منه في رضا الوالدين، فرضاه في رضاهما خاصة إذا كان مسلمين صالحين كريمين.
يقول الراوي “فقام الإمام عليّ فتوضأ ثم صلى ركعات – تعلَّموا هذا يا إخواني وأخواتي وأنا معكم أيضاً، فإذا أردتم أن يُستجاب لكم لا ينبغي أن تدعوا هكذا كأن ما شاء الله السماء برسم فقط أن تُلبي لكل مَن هب ودب، وقبل قليل كنا في معصية وبعد قليل في معصية، ولكن لابد من التوبة الصادقة ثم ائتوا من الأعمال الصالحة كالصدقات وكالصلاة وكالقرآن ما تشعرون أن القلب رقَّ معه، فإن أردت أن يُستجاب لك صل ركعتين فإن رقَّ القلب ادع، فإن لم يرق زد إلى أربع أو إلى ست أو إلى ثمانٍ أو إلى عشر أو إلى عشرين أو إلى أربعين حتى تشعر أن القلب رقَّ، تذلَّل إلى الله، فهذا معنى أن عليّ عليه السلام صلى ركعات الله أعلم بعدتها – ثم رفع يديه يدعو بدعواتٍ يُسرها إلى الله تعالى، ثم قال له “يا ميمون قم”فقام الرجل ليس به شيئ، والرجل كان لا يستطيع أن يقوم لأنه مشلول، فقال له عليّ عليه السلام “لو لم تحلف لي أن أباك رضيَ عنك ما دعوت لك”، أي كأنه يقول له أنت تستحق ما أصابك ولكنني دعوت لك بما أن أباك رضيَ عنك، وهذه كرامة من أبهر وأعجب الكرامات لأبي الحسن رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين.
الخُطبة الثانية
الحمد لله ، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة:
لماذا نتحدَّث بهذا الحديث؟!
لماذا نُذكِّر بهذه الأشياء التي يعرفها كل عالم وكل طالب علم؟!
للمعنى الذي ذكرته في أول الخُطبة، حتى نُحذِّرَ مَن غلبت الغفلة على قلوبهم، وأيضاً ضناً بديننا هذا أن يُفرَغ من روحه وجوهره وأن يستحيل إلى عقلنة ومنطقة وفلسفة وبعد ذلك يزول هذا الدين ونندم حيث لا ينفع الندم، وطبعاً دين الله محفوظ فلا يُمكِن أن يزول بالكلية، ولكن يُمكِن أن يزول عن كثيرين من هذه الأمة فيرى نفسه في النهائية خائباً، ولا أُحِب أن أُطوِّل عليكم لكن كأين من حكاية حصلت مثل هذه، يتصل بي أخ أو أخت فيُقال لي “كنت في البداية كذا كذا كذا، فلم أزل وأنا الآن شاكٌ في أمر ربي”، إي والله قيل لي هكذا، فما زدت عليها، أحدهم من قريب بدأ بأشياء بسيطة ثم قال لي “وبعد سنة انتهيت الآن إلى أن أشك في ربي، فلا أعلم هل هو موجود أو غير موجود”، فهذا هو دين المنطق والعقل والفلسفة والمادة والإنجاز – ما شاء الله – والتفكير العلمي المُنضبِط، لكن الدين الذي يكون برهانه فيه ومنه لا يزول بل يزداد بإذن الله تبارك وتعالى، وهو دين الولاية والعلاقة الخاصة بالله، قال الله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا ۩، أي بُشرى؟!
الكرامات من ضمن المُبشِّرات، لكن بعض الناس يشغبون ويقولون أن هناك مَن لا يُصلي ولا يصوم وليس بالصالح ولا بالمُحسِن ولكن تظهر عليه الكرامات، وهذا غير صحيح، فمَن قال لك إنها كرامات؟!
سأختم بما قاله العلماء هنا، حيث أنهم فصَّلوا من قديم وقالوا “خوارق العادات سبعة”، أي سبعة أنواع أو سبعة ألوان أو سبعة صنوف أو سبعة ضروب أو أضرب.
هناك المُعجِزة، والمُعجِزة مقرونة بدعوى النبوة وبالتحدي وتسلم من المُعارَضة، ولا تكون إلا لنبياً أو لرسول.
وهناك الإرهاص، والإرهاص هو ما يتقدَّم نبوة النبي أو بعثة النبي، كالمُقدِّمة لكي يُطمئنه ويُطمئن مَن حوله مِمَن سبقت لهم من الله السعادة أنه نبيٌ حقاً ورسولٌ صدقاً، فهذا إسمه الإرهاص، مثل حادثة الفيل أيام موت رسول الله فهى من إرهاص بنبوته، ومثل ما يُؤثَر – والله أعلم بحقيقة ذلك – من وقوع بعض الخوارق أيضاً ساعة ميلاده – عليه الصلاة وأفضل السلام – التي تتعلَّق بإيوان كسرى وبحيرة ساوة وإلى آخره، فهذه إسمها إرهاصات!
وهناك الكرامة، والكرامة لا تكون إلا لعبدٍ ظاهر الصلاح على قدم المُتابَعة للمعصوم عليه الصلاة وأفضل السلام، مُتمسِّك بأهداب الشريعة وأذيالها، ولا تقترن بدعوى النبوة، هذا مُستحيل لأن التي تقترن بدعوى النبوة هى المُعجِزة، أما هذه فهى الكرامة، ولا يقع فيها تحدٍ وتكون لحُجةٍ أو لحاجة، فإن لم تكن لحُجة ولا لحاجة كره الأولياء كلهم والعلماء جميعاً إظهارها، فلا تُظهَر بل لابد أن تكتَم، ومن ثم عليكم أن ننتبه إلى هذا، فلا تحسبوا أن الأولياء إذا أكرمهم الله يجلسون ويُحدِّثون الناس بكراماتهم، هذا ممنوع ومن ثم هم لا يتحدَّثون، ولا تظهر هذه الكرامات إلا لمُاماً لحُجة أو لحاجة، بشارةً أو نذارة.
أربعة أو رابعاً هناك المعونة، والمعونة هى أمر خارق للعادة لا يكون لولي ظاهر الصلاح، بل تكون لعموم المسلمين، فتقع لإنسان من عموم المسلمين أو من عُرض المسلمين إنجاءاً له من المعاطب والمهالك مثلاً، فهذه إسمها المعونة وتحصل لبعض الناس لكن للأسف بعض الجهلة يعتقد أنها كرامة في حين أنها معونة فيقول “الله أكرمني بكرمه”، وهذا غير صحيح، فلست من أولياء الله يا أخي، أنت تعرف نفسك وتعرف أنك لا تُحافِظ حتى على الصلوات في أوقاتها بل وتفعل بعض الكبائر وتغتاب الناس، فكيف تقول لي أن هذه كرامة لك وأنت لست من الأولياء؟!
هذه إسمها معونة، والله قد يُعين أي أحد من المُسلِمين والمُسلِمات إذا شاء تبارك وتعالى، فيُنجيه من مُصيبة أو من مُلِمة أو من معطبة أو من مهلكة، فالعلماء فرَّقوا بين الكرامة والمعونة، وهذه إسمها المعونة.
خامساً هناك المكرُ والاستهزاءُ والاستدراج الذي قال فيه الإمام عليّ كرَّم الله وجهه “إذا رأيتم الرجل مُقيماً على معصية الله ورأيتم نعم الله تتوالى عليه فاعلموا أنه ممكورٌ به”، قال الله سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۩، فهذا مكر ومن هنا قد يقول أحدهم “الحمد لله لو لم أكن عند الله مقبولاً رضياً مرضياً من عباد الله الصالحين ما أكرمني الله بهذه الكرمات”، ونحن نقول له “يا مسكين هذا مكر حتى يكبك على وجهك في نار جهنم، فاستيقظ وقُم من غفلتك يا مغرور، لأن هذا غرور”، قال الله مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩ أي ما خدعك، والغرور هو الخديعة، فما الذي خدعك بالله؟
الجهل، أي غرَّه جهله.
فهذه إسمها إذن المكر والاستهزاء والسخرية.
وهناك الاحتقار والإهانة، وذلك حين يدّعي أحدهم أنه نبيٌ رسول كمسيلمة – لعنة الله تعالى عليه – ويشاء – الله تبارك وتعالى – أن يُظهِر خارقة، ولكن هذه الخارقة تأتي على عكس ما ادّعى، فهى خارقة من خوارق العادات فعلاً وهى شيئ غير عادي لكنها على عكس دعواه إهانةً واحتقاراً له، فمُسيلمة جاءه مرةً رجلٌ وقد رمدت عيناه فتفل فيها مثلما فعل رسول الله مرة – النبي كان يتفل في العين فتعود ما شاء الله كما كانت وذلك في حديث عليّ في خيبر في الصحيحين – فعميَ الرجل مُباشَرةً، فهذه خارقة لأن المفروض أن البُصاق لا يُعمي، ولكنه عميَ مُباشَرةً، فكانت خارقة ولكن احتقاراً وإهانةً له.
يقول الإمام الطبري في تاريخه عن مُسيلمة الكذاب أتاه جماعة من بني حنيفة فقالوا له “يا أيها النبي، أيها الرسول، محمد يأتي بالأعاجيب”، فقال “مثل ماذا؟”، فقالوا “محمد يُؤثَر عنه – هذا معروف وثابت ومقطوع به – أنه أتى إلى بئر ناس ليس فيها إلا قليل ماء آسن فأخذ من مائها فمجَّ فيه ثم أعاده ففاضت، فهى من أكثر العيون فيضاناً”، فقال “سأفعل مثله”، ففعل مثله فغارت عيونهم، أي أن كل الماء ذهب، وهذه خارقة من الخوارق طبعاً، فإنسان يبصق في بئر فتغور الماء بالكامل هذه خارقة وليست كرامة لأنها أتت احتقارٌ وإهانة له، فهذا هو النمط السادس إذن.
النمط السابع والأخير مُهِم فاحفظوه، وهو الخوارق الفاسدة، أي مُجرَّد تخييل وإيهام مثل الشعبذة وخفة اليد، وهذا النمط يتعلَّق بأنواع من الخدع مثل خدع ديفيد كوبرفيلد David Copperfield وأمثاله، فهم يعترفون ويقولون أن هذه كلها خدع علمية وأمور تتعلَّق بخفة اليد وإلى آخره، وهذا النمط يشمل أيضاً السحر، قال الله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ۩، وفي الحقيقة هى لا تسعى، فهذه خوارق ولكنها خوارق فاسدة وليست حقيقية، فلم يقع فيها شيئٌ في البين.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (5/8/2011)
بتاريخ 05/08/2011
أضف تعليق