إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ۩ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ۩ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ۩ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ۩ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ۩ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ۩ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، الآية الأخيرة آية مُخيفة، فيها جانب من جوانب الترهيب والتخويف بالغ، لأن هذه الآية في ظاهرها تُضيِّق المجال أمام الاعتذار، تُضيِّق نطاق اعتذار ابن آدم، لأنهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، كلٌ منا تقريباً يحسب أنه يُحسِن الصنع ويُحسِن القصد، القرآن يقول هذا شأن الكفّار أيضاً، بِالأَخْسَرِينَ ۩، لم يقل بالخاسرين، قال بِالأَخْسَرِينَ ۩، أي البالغين – والعياذ بالله – في الخسران المبلغ الأبعد، المبلغ الأبعد والأبلغ والعياذ بالله تبارك وتعالى، لكنهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، نيتهم هكذا، يُريدون الخير، يُريدون الحقيقة، وهذا شئ مُخيف جداً.
ولذلك هذا السياق العجيب لم يستثن حتى المُؤمِنين، وبشَّرهم – وهذا من تلطف الله ورحمته بهم – بقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ۩، قال في آخر آية من هذه السورة الكريمة قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩، ليس الأمر كما يُريد وكما يتشهى وكما يظن أنه عمل الصالح، لا! لابد أن يعمل الصالحات وأن يُوافِق في عمله إخلاصها وصوابها، أن تكون مُخلَصةً لله تبارك وتعالى، ليس فيها حظ للنفس، هذا أصعب شيئ، وأن تكون على وفاق الشرع، قال الفضيل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في قوله – سُبحانه وتعالى من قائل – لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩ – هناك قال يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩ وهنا قال أَحْسَنُ عَمَلًا ۩ – أخلصه وأصوبه، لا يُقبَل العمل ولا يكون حسناً حتى يُقبَل إلا أن يكون خالصاً صواباً، خالصاً لله وحده.
وسبب نزول هذه الآية أن صاحباً من الأصحاب – رضيَ الله تعالى عنهم – سأل الرسول – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وصحبه – قائلاً يا رسول الله إني أُحِب أن أُقاتِل في سبيل الله – أي معك – وأُحِب أن يُرى موطني، فما لي؟ يُشرِّك في النية، أُحِب هذا وأُحِب هذا، أُحِب الجهاد ولكن أُحِب أن يراني الناس، أنني جريء مقدام شجاع مُجاهِد، فسكت النبي عنه ولم يُجِبه، حتى نزل قول الحق – سُبحانه وتعالى – قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ۩… نعت الله هذه النية بالشرك، قال هذه نية شركية، لا تقل هذا وهذا، لا! لا يصلح، إن كان يصلح في دنيا الناس فعند الله لا يصلح، إذا عملت العمل لله قبله الله، إذا لم تعمله لله أو عملته لله ولغيره فهو أغنى الأغنياء عن الشرك، كيف تجعله كغيره؟ كيف تجعله مع غيره؟ مَن هو هذا الغير؟ لو كان هذا الغير هو جُملة النبيين لما استحقوا أن يُشرَكوا مع الله تبارك وتعالى، وليس الناس أمثالنا، وأوغاد الناس أحياناً يُشرَكون مع الله تبارك وتعالى، شيئ عجيب! لكن مَن يتوقَّى مِن هذا؟ ومَن يتنقَّى؟ ومَن يتشحَّر؟ ومَن يخلص؟ الله المُستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا أمر مُخيف، فكأن السياق دار على معنىً واحد، يشترك فيه الكافر والمُؤمِن، معنى الإخلاص والشرك في القصود والنوايا والأهداف والغايات، أولئكم كانوا يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، لماذا؟ لأنهم لم يُفتِّشوا نواياهم، لم يتفقَّهوا، لم يتفقَّهوا في النفس، لم يكونوا من علماء النفس، المُؤمِن الصادق من أكبر علماء النفس، أعظم عالم نفس وأعظم مُحلِّل نفسي المُؤمِن الصادق، نعم! وهو يدري من نفسه ويُفتِّشها ويُحاسِبها حساب الشحيح شريكه ويُحاقِقها ويُحرِّج عليها ويُشدِّد، حتى يقف على دقائق زوائلها وعلى خبايا دخائلها، فيكون بلا شك من أدق ومن أعظم علماء النفس، طبعاً يعرف هذا، وهو يعيش مع هذا عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين سنة، ويتقلَّب – كما قال أحد العارفين وهو الجُنيد – في اليوم أربعين مرة، قال سُفيان الثوري – قدَّس الله سره، الرجل الذي بال الدم من خشية الله، الرجل الذي لم يكد أو لم يكن يكد ينام الليل، يقوم لله، إمام من أئمة الإسلام العظام فقهاً وتحديثاً – ما عالجت شيئاً أشد علىّ من نيتي، لأنها تتقلَّب علىّ.
وما يُثير العجب أن هذا كان شأن العظام من الأئمة والصُلحاء والعُرفاء، لكنك لا تكاد تجد مُسلِماً عادياً من عُرض الناس – والعياذ بالله – إلا وهو ظاهرٌ انحرافه عن شرع الله، ظاهرٌ بل واضحٌ فوّاحٌ – والعياذ بالله – مُقارَفته للكبائر وإصراره على الصغائر ومُعنادَته للحق – والعياذ بالله -، ثم يأتيك ويقول لا والله، والله ما نيتي إلا الحق والحمد لله، هو عند نفسه مُمتاز جداً، انتبه! ولا يكاد يُحاسِب نفسه، ودائماً يعمد إلى ما يُعرَف بالحيل النفسية، أي ميكانيزمات – Mechanisms – الدفاع في علم النفس، مثل التبرير، أي الــ Rationalization، يُبرِّر ويُضفي القداسة على المُدنَّس، ويُضفي المنطقية والمعقولية على ما ليس بمعقول بالمرة أو البتة، شيئ غريب! وهو مُسلِم.
ولذلك فعلاً تأكَّد لدى العقلاء ولدى الحصفاء من الناس أن الوعظ أضعف شيئ تأثيراً في النفوس، الوعظ – مثل هذا الذي أقوم به – أضعف شيئ تأثيراً، يُؤثِّر في الناس لحظياً ووقتياً، ثم تزول آثاره، كأنك ما قلت وما سمعوا، ونستغرب! ويأتيك مَن يصرخ ويصيح، ماذا استفادوا؟ ماذا تعلَّموا؟ عشرون سنة وهم يسمعون! وهذا صحيح، هذا حال الناس، عشرون سنة أو ثلاثون سنة وهم يسمعون، هم كما هم، لا يتغيَّرون، لماذا؟ لم يتفقَّهوا في النفس، هذا فقه الأنبياء، وفقه الصحابة والصُلحاء والعُرفاء الكبار، الفقه في النفس، الفقه في النية، كما قلت في القصود وفي الدوافع الداخلية، لابد من مُحاسَبة النفس، هذا علم كبير جداً، هذا أُس الخلاص والنجاة في الدنيا وفي الآخرة، مَن شاء أن يكون ناجحاً في دنياه لابد أن يكون فقيه نفس، مَن رغب أن يكون ناجياً – إن شاء الله – في أُخراه حتماً يكون فقيه نفس.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده أكثر شهداء أمتي أصحاب الفُرش، عجيب! أي يقول يوم القيامة سوف يبدو هذا للناس، قائمة الشهداء أو صف الشهداء أو فيلق الشهداء أكثر مَن يُمثِّله – اللهم اجعلنا منهم أجمعين – أولئكم الذين قضوا وماتوا على فُرشهم، وليسوا في ساح الوغى ماتوا، لم يموتوا في ساح الوغى، عجيب! سنعرف لماذا، قال – تتمة الحديث – ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، الله أكبر! شيئ مُخيف، ليست القضية أن تحمل السلاح وأن تُقاتِل وأن تُقتَل في سبيل الله كما يبدو للناس، المُهِم النية، ما هو الباعث؟
بعض الناس يُقاتِل استيئاساً من الحياة، يئس من الحياة وفشل، فشل في حياته الزوجية أو الدراسية أو الاجتماعية، يقول ما بقيَ إلا الجهاد بإذن الله، جهاد ماذا يا أخي؟ أنت تنتحر باسم الجهاد، انتبه! انتبه فأنت على خطر عظيم، أن تذهب تُجاهِد وأنت في هذه الحالة النفسية خطر عظيم جداً، الجهاد جهاد الناجح المُتفوِّق في حياته الاجتماعية والزوجية وربما الدراسية أو المهنية والاقتصادية، ناجح لا ينقصه شيئ، ينزع نفسه من كل هذا النجاح، ويذهب مُضحياً بنفسه في سبيل الله، لا لكي يُقال ولا لكي يُرى.
حديث الإمام مُسلِم طرحناه أو ذكرناه وذكَّرنا به غير مرةً، من رواية أبي هُريرة، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الحديث الذي يقول فيه – صلى الله عليه وسلم – أول مَن يُقضى عليه – هنا بصيغة عليه – من الخلائق رجل قاتل في سبيل الله حتى قُتِل، هذا أول – من أمة محمد طبعاً، من الخلائق أي من أمحمد – مَن يُبدأ بحسابه، ولا أُحِب أن أذكر الحديث بطوله لطوله، ومعروف لديكم حتماً إن شاء الله، فيُؤتى به، يُوقَف بين يدي الله، يُعرِّفه الله نعمه عليه فيعرفها، ألم أُؤتك كذا وكذا وكذا؟ فيقول نعم، وبعد ذلك يقول له فماذا عملت؟ يقول يا رب قتلت في سبيلك حتى قُتِلت، فيقول كذبت، كذّاب! المسكين قُتِل، أعدم أهله نفسه، أعدم أهله وزوجه وولده نفسه، وترحَّل، وسيُبعَث كذّاباً، داهية ومُصيبة عظيمة، بائقة من بوائق الآخرة، يُبعَث كذّاباً، يُكذِّبه رب العزة، والحديث في الصحيح، يقول له كذبت، بل فعلت ذلك ليُقال جريء، شجاع، مقدام، مُقاتِل شرس، مُلتزِم، والعياذ بالله هناك أشياء أُخرى في نيتك، وتقول الملائكة كذبت، الملائكة أيضاً تقول نعرف هذا، أنت كذّاب، لم تكن من أهل الإخلاص، يُؤمَر به، فيُسحَب على وجهه، فيُطرَح في جهنم، الله أكبر!
قد يقول لي أحدكم هذا صعب، وهو صعب، نعم! ولذلك الجنة غالية، ورضاء الله عزيز وشريف، والعمل وتخليص النوايا صعب جداً، كما قال يوسف بن أسباط – قدَّس الله سره – ما وجدت شيئاً أصعب علىّ – قريب من سُفيان الثوري في كلمته هذه، قال ما وجدت شيئاً أصعب أو أشق أو أشد علىّ – من تخليص نيتي من حظ النفس ومن فسادها، قال أن أُشحِّر النية وأن أجعلها فعلاً لله عملية صعبة جداً، قال هذا أشد شيئ، إذن إذا كان هذا الأشد على هؤلاء فما باله علينا أسهل شيئ؟ الكل يزعم أنه سهل جداً، بالعكس! الحمد لله يا أخي، لماذا قلت هذا؟ قلت هذا لله يا أخي، هل أنت مُتأكِّد؟ نعم، لله، لماذا صدر عنك هذا السلوك؟ لله يا أخي، ألله هذا السلوك؟ ألله؟ هل أنت مُتأكِّد من أن هذا لله؟ هل هذا ليس بدوافع أُخرى يا رجل؟ واضح أنه بدوافع أُخرى فائحة مفضوحة، لا، لله يا أخي، ما شاء الله!
لماذا تتغيَّظ على العُصاة؟ هذا عاصٍ، فاسق، مسكين، مُبتلىً بالسُكر أو بالفاحشة أو بكذا، تتغيَّظ عليه وتهتك سره، لماذا تهتك أسرار الناس؟ لماذا تفعل هذا حتى وإن كان زانياً فاسقاً شارداً تائهاً عن سبيل الله؟ يقول يا أخي هذا غضباً لله، أهذا غضباً لله؟ لو كنت تغضب لله لبكيت عليه ولدعوت له في الأسحار، هل تقوم في السحر؟ وهل تدعو له؟ النبي كان يبكي على الكفّار، يضربونه ويسبونه ويسخرون من إلهه ودينه، ويكاد يبخع نفسه، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ۩، الله يقول له يا حبيبنا، يا صفوتنا، ويا خيرتنا، أنت ستُهلِك نفسك، ستتقطَّع نفسك حسرات عليهم، دعهم وما اختاروا لأنفسهم، لكن هذا هو الصادق، هذا الذي يُحِب أن يُعبِّد الناس لله، يبكي عليهم، يبكي! لا يذهب يفضح أسرارهم ويهتك أسرارهم وهو يقول لله، هذا فعلته غضباً لله، كذب يا رجل! أنت تكذب على نفسك وتكذب على الدين وتكذب على الله، وهكذا تُباعِد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، ليست هذه طريقة الصادقين، ليس هذا من الدين، نحن نخدع أنفسنا!
في الحقيقة أحببت أن أجعل هذا مُقدَّمةً بين يدي هذا الحديث الخطير والمُفزِع بلا شك والمخوف والمُخيف، بعض الناس حتى لا يُحِب أن يسمع هذه الأشياء، لماذا؟ لأنها لا أقول تفضحه وإنما تجعله ينظر في المرآة، تجعله يقف أمام نفسه، يُحاوِل أن يقف أمام نفسه عارياً كما هو، النية مُجرَّدة عارية، وهو لا يُحِب هذا طبعاً.
كنا نُردِّد لسنوات طويلة ولا يزال العارفون يُردِّدون وأهل الذكر وأولو الألباب مع أفلاطون Plato أن ثلاثة أرباع الخلاف كان سيرتفع لو أن الناس حرَّروا مقاصد الألفاظ، أي مقاصدهم من ألفاظهم، دلالات الألفاظ! وهذا كلام فارغ، ما رأيكم؟ هذا فيلسوف عظيم وهذا كلام فارغ، هذا الكلام كان سيصح أو كان سيكون صحيحاً لو أن الإنسان مُجرَّد آلة مُفكِّرة، مثل الكمبيوتر Computer أو الحاسوب، تُعطيه الأدلة والشواهد فيستنبط ويشتق النتائج مُطمئناً، الإنسان ليس كذلك، عمره ما كان هكذا الإنسان، النبي نعم، النبي يكون هكذا، هذا النبي، ومَن يقتربون منه يقتربون مِن هذا المُستوى الرفيع جداً، مِن الصدّيقين وأعاظم الصالحين والعارفين، مُمكِن! أهل أدلة هؤلاء وأهل استدلال، فيما عدا ذلك ليس الأمر هكذا، أنا وأنت وهي لسنا أهل دليل، مساكين نحن، نحن أهل أهواء ومُحاسَبات شعورية ولا شعورية، وفي مُعظَمها لا شعورية، لا نشعر بها، لا نشعر بدوافعنا، ونظن أن القضايا قضايا أدلة، أي إذا كانت هناك أدلة وشواهد فسنصير إلى ما تقتضيه، وهذا غير صحيح.
باختصار – مثلاً – سأُعطيكم مثالاً سيكون صادماً في البداية، لكن بعد ذلك في تضاعيف الخُطبة سيضح المقصود – إن شاء الله – بدليله، ونعود إلى مسألة الدليل دائماً، على كل حال سنفترض – مثلاً – الآتي، هناك الإنسان الذي يُعاني من شيئ، يُعاني من فشل مُعيَّن من حياته، لأنه لم يختط الخُطة السليمة في سلوك السبيل الكذائي، يأتي هذا بعد ثلاثين سنة وقد تولت فُرصته وانتهت وانتهت حظوظه في الاستدراك والبداءة من جديد – انتهى كل شيئ، انتهى! راح عليه كل شيئ -، يأتي ليسمع – مثلاً – مُحاوِراً أو عالماً في حلقة علمية أو مُحاضَرة أو خُطبة أو أي شيئ، يتكلَّم عن هذا الموضوع وعن الأسلوب الأمثل والصحيح للتعاطي في هذه القضية، لن يرغب حتى في سماع هذا في مُعظَم الحال، وسيسخط على هذا الخطيب أو المُحاضِر، سيقول ما هذا؟ ما علاقتنا بهذه الموضوعات؟ طبعاً لأنك تُعاظِم الحسرة في نفسه، تقول له أنت فشلت، حياتك كلها مُسلسَل من الفشل، كان يُمكِن أن ينقلب ويئيض مُسلسَل نجاح لو كنت تعرف هذه الحقائق البسيطة ولو امتلكت هذا المفتاح السهل البسيط، سيقول لك آلآن تأتي وتقول هذا؟ لماذا لم تقل هذا قبل ثلاثين سنة؟ كان عمري عشر سنوات يا حبيبي، لم أكن خطيب منابر، سيسخط عليك، سيسخط على خُطبتك أو مُحاضَرتك، وسيخرج وهو غير واعٍ بالدوافع الحقيقية التي جعلته يتنكَّر لهذه الخُطبة، الدوافع هي فشله، لا يُحِب أن يعترف، انتبه! لا يُحِب أن يعترف، لكن أنت الفاشل كخطيب، جئت مُتأخِّراً! لا علاقة للخطيب بحياتك الشخصية، وليس مسؤولاً عن رسم قدرك، أليس كذلك؟ ولم يكن مكانك ليختار اختياراتك، ما علاقته؟ لماذا تسخط عليه؟
أذكر أنه اتفق لي أنا شخصياً هذا حين كنت أدعو بنُصرة العراق والعراقيين على الأمريكان ولا أزال، وإن شاء الله أعيش وأموت ولن أنحاز يوماً إلى أعداء الأمة تحت كل الظروف ومع كل المُبرِّرات الفارغة، التي سأراها دائماً فارغة، وأقول هذا مرة أُخرى أيضاً لأن بعض العراقين سيُخالِفونني، هم أحرار وهذا طبيعي، ولكن أقول لهم الأمة الحية، الأمة القوية، والأمة الثائرة هي التي تحل مشاكلها بنفسها، لا بالمُستعمِر، لا بالأجنبي، الأجنبي لن يُفكِّر في مصلحتك، افهم يا رجل، والأجنبي لابد أن يكون له مُعظَم الكعكة، افهم يا عبد الله، ما هذا؟ هل أنت تُناقِش في البدهيات؟ أتُناقِش في البدهيات؟ لم يعرف تاريخ الدُنى استعماراً جاء ليحل مُشكِلة شعب ويُقدِّم له الحل الذهبي، هذا الحل سيكون طائفياً، سيكون لطائفة مُعيَّنة، من مصلحتها أن يصير الوضع هكذا، لأن هذه الطائفة أضيق من أن تُفكِّر في مصلحة الوطن، أياً تكن هذه الطائفة، لا يعنيني الآن التفصيل، على كل حال هذه بدهيات، كنت أدعو بنُصرة العراق والعراقيين على الأمريكان، وحين وقعت الهزيمة جاء مِن أقرب الناس مَن يلذعني ويسوطني بسياط النقد المُر، كأنني أنا الذي أوقعت الهزيمة بالعراق، ماذا تُريد إذن؟ هل كنت تتوقع مني أن أدعو بنُصرة الأمريكان على العراقيين؟ يا رجل فكِّر، هذه العقلية غير الناضجة، انتبه! كثيرون من الناس هكذا،وقد يحمل الواحد منهم شهادات عُليا حتى في الفلسفة، ويكون غير ناضج عقلياً، نفسياً، انفعالياً، وعاطفياً، وهو لا يفهم، لم يتلق ما يجعله يرتقي إلى هذا المُستوى، لم ينشأ هذه النشأة، مسكين! يلوم أشياء لا يُمكِن أن يقع عليها اللوم، ليس على خطيب اللوم يا رجل، اللوم على عوامل موضوعية كثيرة جداً جداً، اذهب حلِّلها وادرسها أنت، فكِّكها! نحن ما قمنا إلا بما ينبغي علينا، هكذا! على الأقل إن لم ننصر أهل الحق فنحن لم ندعم أهل الباطل، انتبه! مَن هم أهل الحق؟ هذه قضية خلافية، لكن لم ندعم الباطل الصريح، هذا باطل صريح، وهذا حق مُشبَّه، اترك! اترك الأيام والظروف تقضي لبعض على بعض، لكن أنا لن أنصر الباطل الصراح، هكذا ينبغي أن نكون واضحين.
على كل حال نعود لنقول هذه القضية قضية هامة ومخوفة ومُخيفة وخطيرة، مثال آخر ربما تضح به أطراف المسألة، هناك مُفكِّر أو عالم – بعض الناس يقول هذا عالم شرعي، مُجتهِد هذا، عالم أزهري كبير فاضل، يحمل شهادات عُليا، وهذا جميل – نُريد أن نعرفه رأيه واجتهاده في المسألة الكذائية، ولتكن – مثلاً – حد الردة، هل يُرجَّح أن هناك حداً للردة – مع الجمهور طبعاً، مع المذاهب الثمانية – أم أنه يأخذ باجتهاد آخر يُخالِف هذا؟ هذا لا يتوقَّف على الأدلة فقط، هو يتوقَّف عليها طبعاً من جهة بلا شك، لكنه يتوقَّف عليها وعلى موقفه الشخصي هو، على قدراته هو، بمعنى أنه بلا شك كعالم وكمُفكِّر وكمجُهتِد ربما اتفقت له مُناظَرات كثيرة مع الملاحدة ومع غُلاة العلمانيين والليبراليين، أليس كذلك؟ ومع المُشكِّكين، ومع الساخرين، هذا سيُشكِّل عاملاً حاسماً في تحديد موقفه من مسألة فقهية اجتهادية، وهي مسألة حد الردة.
إن كان ذا قدرات فائقة وبارزة واستطاع دائماً أن يُرجِّح كفته في النقاش وأن يُفحِم الأخصام من أقرب سبيل – أنا أقول لكم – فسيكون أميل إلى التسامح، سيقول لا، المُرتَد لا يُقتَل، لماذا؟ يُوجَد جانب شخصي، اتركوهم لنا، نحن نفضحهم، نحن نُعرِّيهم، وإنا على ذلك لمُقتدِرون، أليس كذلك؟ وهكذا طبعاً تزداد الصدقية العلمية له، ولا يخشى من هؤلاء، ولا يُمكِن أن يهزه أو يُقلقِله رجحانه العلمي ورسوخه العلمي، بالعكس! كلما اتفقت مُناظَرة كلما علا في نظر الناس، يقولون هذا هو، هذا عالم، هذا شيخ ومُفكِّر وفيلسوف وعلّامة كبير يا أخي، شيئ عجيب هذا، وهو يفرح بهذا ولو لا شعورياً، عكسه تماماً – واختبروا هذا في أنفسكم، أنا مُتأكِّد أن هذه زاويا نظر ربما لأول مرة بعضكم يسمع بها، وهذه مُعتادة بالذات في الطرح الإسلامي، وأنا أعرف هذا، وحتى في الطرح الإنساني عموماً، لكن هذه زاويا حقيقية في الفكر والثقافة، انتبهوا! نحن نُغفِل عنها، وهذه مُشكِلتنا – شخص آخر كلما وقع نقاش أو مُناظَرة أُفشِل وفشل وخزي، يُلقِمه هذا العلماني أو المُلحِد الحجر، فيلوذ بالتسليم، يقول هذه قضايا إيمان يا أخي، لكن حتى المسيحي يقول هذه قضايا إيمان، وحتى اليهودي يقول هذه قضايا إيمان، وكذلك البوذي والهندوسي والماركسي، مسكين أنت، هذا ليس أسلوباً في النقاش، قضايا إيمان! هل أنت مُؤمِن أو غير مُؤمِن؟ لا، هو غير مُؤمِن يا سيدي، مُرتَد! جيد، هيا تابع النقاش، ماذا ستفعل؟ سيُسقَط في يدك، سيقول أهذا غير مُؤمِن؟ انظروا إلى كذا وكذا، ويُسارِع إلى التذكير بماذا؟ بمصير غير المُؤمِنين – أي المُرتَدين من المُؤمِنين – في مُجتمَع المُسلِمين، ويُذكِّر بالمذاهب التسعة وليس الثمانية حتى في حد الردة وتخليص المُجتمَع من هؤلاء، وطبعاً بلا شك يتحيَّز هذا لنُصرة حد الردة، يُوجَد جانب سيكولوجي، انتبهوا! هناك جانب سيكولوجي.
هناك سيدة – مثلاً – فشلت في حياتها الجنسية والنفسية طبعاً وعانت شديداً، انتبهوا! مثل هذه الخُطبة أرجو ألا تُؤخَذ من جانب أخلاقي، لسنا هنا في مقام الوعظ الأخلاقي، نحن بالذات اليوم نقول هذا كمُقدَّمة لتصفية نفوسنا في مقام التحليل العلمي والتوصيف العلمي الدقيق، ممنوع الشماتة، ممنوع السُخرية، ممنوع الهُزء، هذا ليس من العلم ولا من الدين، هذا للفهم، وكلنا ذلكم الرجل وأنا أولكم وكلهن تكلم المرأة، كلنا نتعانى هذا النقص وهذه المشاكل النفسية وعدم وضوح البواعث عندنا وعدم وضوح الدوافع حقيقةً، ولا نفهم حتى مُحرِّكات سلوكنا، أحياناً لا نُدرِك أهدافنا من السلوك الذي نسلكه، مساكين نحن وضعاف، كلنا ذلك الضعيف، ذكراً كان الواحد منا أم أُنثى كان.
هذه السيدة المسكينة فشلت على مدى ثلاثين سنة في حياتها الزوجية وحياتها العاطفية وحياتها التوافقية، بسبب أنها خُتِنت وهي صغيرة، الختان الفرعوني دمَّر حياتها بالكامل، هذه ستنقم على أمثالنا حين نطرح هذا الموضوع، أنا مُتأكِّد وهذا يحدث، لماذا تطرحون هذا الموضوع؟ أليس في هذا الموضوع قلة أدب؟ ما علاقتك بالأشياء التي تتعلَّق بالنسوان؟ لكن هذا فقه يا سيدتي، لا! ولماذا تطرحه أمام النصارى؟ لماذا تقول عنه FGM؟ هذا مُصادَرة على المطلوب، هذا خضوع للغرب ولضغوط الغرب، وتغضب غضباً شديداً، الغضب ليس للفقه ولا للدليل وما إلى ذلك، الغضب لحالتها الشخصية، هذه المسكينة لو كانت واعية لموقفها لما اتخذت هذا الموقف، لو كانت واعية تماماً! وطبعاً لن نعتب عليها، هي تُعاني، لكن نُحِب أن نفتح هذه الزاويا أو نُؤشِّر إليها حتى نُيسِّر لأنفسنا آفاقاً جديدة للرؤية، ومن ثم ستسهل علينا الأمور بالمُناسَبة، بالعكس! وأنا دائماً أُنادي بأن المعرفة والعلم الواعي والعلم اليقظ يُؤدي ليس دوراً تحليلاً بل دوراً إنقاذياً بإذن الله، إن لم يُنقِذك أنتَ أو أنتِ فسيُنقِذ أجيالاً أُخرى، أليس كذلك؟ على الأقل أنا عانيت كامرأة، فلا تُعاني بُنياتي، لا تُعاني صديقاتي، لا تُعاني قريباتي وأخواتي، لابد أن أكون إنسانة ناضجة، انتهى! هذا قدري، عانيت بطريقة أو بأُخرى، لماذا يُعاني الآخرون؟ أم أننا سنعود إلى قصة الثعلب الذي قطَّع ذيول إخوانه لأن الحشر مع الجماعة عيد والمصير واحد والمُشترَك جميل جداً جداً؟ طبعاً يرتاح إذا قُطِّعت ذيول الجميع، إذا خُتِن الجميع أو الجمعاوات فستقول نعم، أهلاً وسهلاً، لكن أن تبقى هي تُعاني كنفر لا، لا تُريد، غلط هذا، لابد أن نكون واعين تماماً بدوافعنا.
هناك الرئيس – مثلاً -، ما الذي يُمكِن أن يجمع بين رئيس مُستبِد أو بين حاكم مُستبِد – سُلطان مُسلَّط مثلاً – وبين زوج؟ أشياء كثيرة بالمُناسَبة، الإنسان هو الإنسان في الأخير، هذا الذكر وتلكم الأُنثى، هذا الرئيس وهذا المرؤوس، هذا العالم وذاك الجاهل، هذا الغني وذلكم الفقير المُعدم، إلى آخره! كلهم في نهاية المطاف الإنسان، كلهم الإنسان! والألف واللام للجنس، كلهم – آحاد هذا الجنس، أبناء هذا النوع باللُغة العربية طبعاً وليس بالتصنيف المنطقي، وحتى بالمنطق نوع هذا وليس جنساً – الإنسان، على كل حال كلهم هكذا، ولذلك المشابه بينهم جد قريبة وكثيرة جداً.
الحاكم الذي ليس على ثقة بل ثقته معدومة تقريباً في حُب شعبه له وولائهم له ماذا سترونه؟ هل سيتعاطف مع طروحات ديمقراطية؟ استحالة، هل سيتعاطف مع نظريات شوروية مُلزِمة؟ هل سيقول الشورى مُلزِمة؟ أكثر ما يُمكِن أن يتعاطف معه وأن يقوله – كالمسرحيات في بعض الدول العربية – نعم، سنعمل شيئاً اسمه مجلس كذا أو هيئة كذا، وسيتشاورون بين بعضهم وسيقومون بعمل أشياء بين بعضهم، لكن تبقى الشورى في نهاية اللُعبة – ليس المطاف وإنما اللُعبة، لأن هذه لُعبة، أي Game – مُعلِمة وليست مُلزِمة، وحتى لو كانت مُلزِمة لن تكون مُلزِمة للرأس، مُلزِمة لمَن دونه، لا تُوجَد مُشكِلة، كل يوم نُقيل وزيراً ونضع وزيراً، هناك دول تُقيل وزارات كاملة، أليس كذلك؟ رأيتم كيف حدث هذا في التلفزيون Television، تُقيلها كلها! لكن الرأس تبقى هي الرأس، مهما تعفنت ومهما أنتنت، انتبهوا! فمثل هذا السُلطان لا يُمكِن أن يتعاطف مع نظريات الشورى المُلزِمة، لا يا أخي، لا! الشورى مُعلِمة، لا ديمقراطية ولا كفر، يُمكِن أن يُصبِح حزب تحرير بعد ذلك، ويُكفِّر حتى مَن يُنادي بالديمقراطية حرصاً منه على شرع الله، لأنه خائف، فهذا طبيعي، لأنه فاقد الثقة بنفسه.
لو كان واثقاً من قدراته ومن لياقاته كحاكم وكسائس لقال لا، أنا أول واحد يُشايع الخُطة الديمقراطية، ونحتكم إلى الصندوق النزيه، لأنه يعرف نفسه ويعرف أنه في مُعظَم الحال سيفوز وفي مرة ومرتين، عنده مُقوِّمات الفوز، انتبهوا! تماماً الصورة المُصغَّرة من هذا الزوج مع زوجه، هناك أُناس يأتون يُناقِشون ثم يزعلون، لماذا تتحدَّث عن نظريات تُبالِغ في نظره في الحث على توفية المرأة حقوقها؟ هل نحن ظلمناها؟ أتظن أنك ظلمتها فقط؟ أنت سحقتها سحقاً، ومُجتمَعك سحق المرأة سحقاً، وليس فقط ظلمها، يقول لك لماذا؟ ما الذي ينقص المرأة؟ ما الذي ينقصها؟ لا! ثم إنكم تُبالِغون، ثم إن الله قال الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ۩، هو لا يحفظ من كتاب الله إلا آية الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ۩، هذا في فقه العلاقات الزوجية يفهم هذه الآية فقط، فهل آية نشوز الرجل يحفظها؟ لم يسمع بها مرة بالمُناسَبة، مع أنه يقرأ القرآن كل رمضان مرتين أو ثلاث مرات لكنه لم يسمع بها مرة، وفعلاً موجود في كتاب الله هذا، أن الرجل ينشز، وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا ۩، والله لم تمر عليه تقريباً هذه، المُخ غير قادر على أن يستقبلها بالمرة، الرجل ينشز، وهناك أحكام تترتب على نشوزه، على قلة أدب ومُشاكَسته ومُعانَدته، لا يُحِب هذا هو، دائماً هناك ثقافة اصطفائية كما نقول.
على كلٍ يقول لك فلماذا تُبالِغون في الحديث عن حقوق المرأة وأوضاع المرأة واستقلالية المرأة وذمة المرأة المالية الكاملة – إلى آخره -؟ لا يا أخي، هذا تأثر بالغرب، أنتم مُحبَطون أمام الغرب، هذه القضية! يا أخي هذا قرآن وسُنن صحيحة وفقه مُدوَّن من ألف ومائتي سنة في الكُتب، بالمُناسَبة المدى الذي ذهب إليه فقهاؤنا – الذين هم في نظر بعض العلمانيين مُتخلِّفون وما إلى ذلك – والله العظيم لا يذهب إليه حتى كثير من علمانيي اليوم، ولن آتي بأمثلة حتى لا يُساء استخدامها، أنا مُتأكِّد – أنتم مُسلِمون وأنا منكم – ستقشعر أبدانكم، هل الفقهاء قالوا هذا؟ نعم قالوا هذا، شيئ عجيب، منازع تحررية غريبة جداً جداً في النظر لقضايا المرأة، أعجب مما تتخيَّلون، أبعد بكثير مما يُمكِن أن يسمح به نطاق أي واحد منا الثقافي والنفسي، ولا يسمح به، أنا شخصياً لا أستطيع أن أسمح به، تخيَّلوا! لا أستطيع، هذا الفقهاء يُقرِّرونه مكتوباً ومزبوراً في كُتبهم، انتبهوا! هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا الزوج ببساطة ضعيف الثقة بنفسه إزاء زوجه، فقط! لماذا؟ هو حر، لينظر إلى السبب، قد يكون هذا بحُكم السن أو بحُكم الجمال أو بحُكم العلم والجهل أو بحُكم الغنى والفقر أو بحُكم الرُتبة الاجتماعية أو بحُكم الضعف الجنسي، ليس لي علاقة، هذه قضية مُعقَّدة جداً، انتبهوا! لكن الرجل قوي الثقة إزاء زوجه والرجل الذي يعرف ما الذي عنده وما مُتطلَّباته وما كذا وكذا لن يكون على هذا النحو، بالعكس! سيكون مُنادياً رقم واحد بحقوق المرأة وإنصاف المرأة، انتبهوا! فالقضية هنا ليست قضية ثقافية أو قضية علمية تتعلَّق بالأدلة، وكأن هناك أدلة هو رجَّحها وارتاح، والله ليست حكاية ارتاح أو لم يرتح بالأدلة، نعم هو ارتاح، هذا مضبوط، لكنه ارتاح نفسياً، ليس عقلياً، وليس استدلالياً، ارتاح نفسياً لهذا المنزع الذي يُخفِّض ويختزل قيمة المرأة، ويحكم عليها ويقضي عليها بالحبس وبالسجن، ويسلبها مُعظَم حقوقها، ويُحيلها في النهاية شخصية مهزوزة ضعيفة شبحية، لا تتمتع باستقلال حقيقي.
مثل هذه يُمكِن أن تُقاد، يقدر على أن يقودها وهو مُرتاح، انتبهوا! على عكس تلك التي استوفت حقوقها وعندها حق في أشياء كثيرة وهي مُستقِلة الشخصية وواعية، بعض الناس يرتعد من فكرة أن زوجته تطلب أن تتعلَّم – مثلاً – تعليماً جامعياً، هذه الفكرة تُرعِبه، يقول لك حين تتعلَّم تتمرَّد، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، هذا موجود، هذا صحيح في حالات كثيرة، إذا تعلَّمت تمرَّدت، لكن السؤال الآن على ماذا ستتمرَّد يا أخي؟ على ماذا ستتمرَّد هذه الزوجة؟ مُمكِن جُزء كبير من قائمة المُتمرَّد عليه فعلاً لها الحق في أن تتمرَّد عليه، وأنت مُرتاح لاستبقاء الوضع واستصحابه على حاله.
هذه القضايا كلها لها بواعثها ومُحرِّكاتها النفسية، ليس العقلية والأدلة والشواهد، طبعاً مثل هذه الأمثلة منثورة كل يوم في حياتنا الاجتماعية بالآلاف أو بعشرات الألوف، كثيرة جداً! فأنا عند نفسي حذر حريص وبعيد النظر، وفي نظر مَن لا يستهويه أمري جبان ورعديد، عجيب! كيف يكون هناك شخص واحد أو سلوك واحد ويُوصَف مرة بالمُحاذَرة والحرص وبُعد النظر ويُوصَف في الوقت ذاته وعينه بأنه جُبن ورعدة وخوف؟ هذه مُشكِلة لا يُمكِن أن تُحَل في اللُغة، أفلاطون Plato المسكين كان يظن أن اللُغة تحلها، أي لو ذهبنا إلى المُعجَمات والمُعجَمات المُتخصِّصة وحرَّرنا دلالات الألفاظ – ما هو الجُبن؟ ما هو الخوار؟ ما هي المُحاذَرة؟ ما هو الحرص وبُعد النظر؟ – سوف تُحَل، والله لن تُحَل يا أفلاطون Plato، مسكين أفلاطون Plato، لن تُحَل يا رجل، القضية أن كلاً منهما يستطيع أن يُقدِّم تعريفاً دقيقاً للحذر وللجُبن، لكن هنا الهوى النفسي والزاوية النفسية.
أنا عند نفسي لطيف وراحم – أو رحيم – ورقيق ورؤوم وصاحب لياقة، وعند مَن لا يُحِبني مُرائٍ وملق ومُداهِن وضعيف الشخصية، أنا أُسميها لطفاً ورقةً ورحمةً ولياقةً في التعامل، وهو يُسميها ضعفاً وخواراً ونفاقاً ورياءً ودهاناً وملقاً – على المفعولية -، عجيب! أليس كذلك؟ هو يُسمي نفسه المُقتصِد الذي يحسب حساب الأيام السود، وأنا لا أرى أنه هكذا، وبعد ذلك طبعاً في كل هاته الحالات يا إخواني وأخواتي الشواهد جاهزة مُقولَبة وتُسعِف، تُسعِف لأنها دائماً موجودة، ما عال مَن اقتصد، القصد نصف العيش، وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۩، وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ۩، كل هذا ليُبرِّر ماذا؟ حالة يراها الآخرون مُوغِلة في الكزازة والبُخل، يقولون هذا بخيل، كزّاز هذا يا أخي، شحيح! وهو يراها ماذا؟ اقتصاداً وتدبيراً وعقلاً، عجيب! وتُسعِفه الآيات والنصوص التي سقتها، وأما الآخر فيقول العكس، الآخر يصفه مُباشَرةً بأنه البخيل، البعيد من الله، البعيد من الجنة، البعيد من الناس، والقريب من النار – والعياذ بالله -، يقول لك هذا البخيل، وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۩، ويأتي له بنفس الآية من سورة الإسراء، ويقول له ماذا؟ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ۩، هذا أخذ أولها، وذاك أخذ تاليها، قال له وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ۩ يا أخي، يلعبون! هذه ليست حكاية لعب، لكن هو هذا، وهذه الألعاب النفسية كلنا نُمارِسها كل يوم بل كل لحظة، نُمارِسها كل لحظة دون أن ندري في مُعظَم الحال.
ما الذي يحصل؟ نُريد أن نفهم هذا علمياً، بعد ذلك يُمكِن أن نتفقَّه فيه دينياً بعُمق، أي بعُمق فقهي ديني، أما الفقه الديني المواعظي – كما نفعل – فأنا أرى أنه لا ينفع، هذا غير نافع، حين تتحدَّث الكل يهز رأسه ويقول لك أنا ذلك الرجل بحمد الله، الذي تتحدَّث عنه – أي هذا المثالي – هو أنا، في نفسه يقول أنا هو، لكن هم ليسوا مثله، كل هؤلاء ليسوا جيدين، الكل غلط، أنا الصح الوحيد، هداهم الله، هذ اسمه الــ Projection، أي هذا اسمه الإسقاط، كل هؤلاء البُعداء كذّابون – حاشاكم – وأنا الصادق الوحيد، كلهم عندهم رياء وعندهم كذا لكن أنا الوحيد الذي يُخلِص، أُحاوِل كثيراً أن أُخلِص والحمد لله، كلهم عندهم كذا لكن أنا ليس عندي كذا، هذا اسمه الإسقاط، هذه حيلة نفسية، هو مُتورِّط فيما نُريد أن نُحذِّر منه اليوم، في الحيلة النفسية هذه، وهي تُهلِك الإنسان، المسألة مُعقَّدة جداً، وكما قلنا لا نُريد أن نُوظِّفها الآن توظيفاً أخلاقياً، لا! نُريد إلى الآن أن نتكلَّم كلاماً علمياً.
الذي يحصل يا إخواني كالتالي، أن الإنسان لا يعيش إلا وهو راضٍ عن نفسه، إذا لم يرض عن نفسه صعب أن يُواصِل العيش، يُصاب بإحباط، ثم باكتئاب، وربما في النهاية ينتحر، وربما يُخالِطه أو يُخالَط في عقله، أيضاً هروباً من الواقع، هذا نوع من الجنون المرضي، لكي يهرب من كل الأحوال هذه ومن كل هذه الدنيا التي لا يقدر على التواؤم معها، فيُسمونها حالة التوازن، أي الــ Balance state هذه، حالة التوازن! لابد أن يتوازن، يختل التوازن أحياناً بعوامل قدرية، اجتماعية، نفسية، عرضية، إلى آخره! حين يختل التوازن – يُسمونها Imalance state، أي حالة اللا توازن، اختلال التوازن – لابد مُباشَرةً أن يُعاد إلى حاله الأولى، وإلا لن يستطيع أن يمشي، انتبهوا إلى هذه المُقدِّمة البسيطة.
هذا صادق على المُستوى الكوني، على المُستوى الفيزيفي، وعلى المُستوى البيولوجي – أي الحيوي -، وعلى المُستوى النفسي أكثر صدقاً، على المُستوى الحيوي يحدث هذا إذا دخل جُسيم مُمرِض كما يُقال أو جُسيم غريب في الكف – نفترض مثلاً -، مُباشَرةً تُهرَع إليه كُريات الدم البيض، تُقاوِمه وتتظاهر العملية بجُهد يُعبِّر عن نفسه بارتفاع الحرارة، يحمر المكان ويتورَّم، مُباشَرةً! لإعادة ماذا؟ الوضع على ما كان عليه، ومُقاوَمة الدخيل، الجسم هنا يتوازن.
تمشي وتصطدم سواء في نهار أو في ليل، تكاد تترنح ثم تقف، أنت لم تقف هنا اختياراً، الجسم يقوم بهذا تلقائياً، جهاز التوازن في الجسم يفعل هذا، فتقول الحمد لله، لم نقع، تتذوَّق شيئاً، فإذا بملحه كثير جداً، مُباشَرةً يسيل اللُعاب، يسيل اللُعاب! لماذا يسيل اللُعاب بهذه الكثرة؟ حتى يُذيب الملح وتخف حدة هذا الطعم الملح الأُجاج، في لحظة! هذه توازنات.
تدخل مكاناً مُظلِماً فتتسع مُباشَرةً حدقة العين، أي الــ Iris، طبعاً هذا حتى لا تتضرَّر، هناك كمية هائلة من الضوء قد تضر بها، تخرج منه إلى مكان مُبهِر شديد الضياء والتشعع فتضيق مُباشَرةً الحدقة، إذن حين تدخل في المُظلَم تتسع الحدقة، وحين تخرج إلى المُشِع تضيق الحدقة، عملية عكسية! هذا كله توازن، مُباشَرةً يحدث هذا، لأنه تلقائي، يتم بطريقة ماذا؟ تلقائية.
تجلس في مجلس مُغلَق النوافذ والأبواب، ويجري حديث مع شلة من خمسة عشر زميلاً أو أخاً، وبعد قليل تبدأون في إطلاق النكات، نكات عجيبة! وكل شيئ مهما كان بالغاً في التفاهة يُضحِككم، هناك نكات سمعتها مائة مرة ولم تُضحِكك، الآن تُضحِكك حتى تُغرِق في الضحك، لماذا؟ إعادة التوازن، كيف؟ يحدث نقص في الأكسجين Oxygen طبعاً لأن هذا المكان مُغلَق، فيتم التوازن فسيولوجياً حين يُصبِح الأكسجين Oxygen فيه ناقصاً، والــ CO2 – أي ثاني أُكسيد الكربون Carbon dioxide – طبعاً يزيد في الدم، وهذه حالة مُخيفة، لو استمرت إلى فترة أطول بكثير يُمكِن أن يموت الإنسان، يُغمى عليه ثم ينتهي، فكيف يُعيد الجسم التوازن؟ بالضحك، يضحك ويشهق كميات أكبر من الهواء بما فيها الأُكسجين Oxygen، فيُعوِّض الأمر، هذه حالة توازن بالمُناسَبة، وأنت لا تستطيع أن تُفسِّرها، قد تقول لي ربما نحن زهقنا، لكن هذا غير صحيح، نحن لم نزهق، هذه عملية فسيولوجية، تحدث تلقائياً.
هذا كله مفهوم، في المجال النفسي نفس الشيئ، فتاة – مثلاً – ترى من نفسها أنها أقرب إلى الدمامة، طبعاً هي لا تعرف أو لا تُريد أن تعرف ولا أن تعترف بهذا، لكن هي ترى كلما نظرت إلى نفسها حتى وهي صغيرة – حتى الصغير يعرف هذا – أنها أقرب إلى الدمامة منها إلى الجمال المقبول فضلاً عن الوسامة، تعرف هذا، وتسمع كلمات من الجارات ومن بنات العمة وبنات الخالة ومن بعض لداتها، إلى آخره! فتسمع هذه الأشياء، وهذه حالة صعبة جداً جداً، من الصعب أن يتوازن الإنسان وأن يتصالح مع فكرة أنني قبيح، أنا القبيح الحلو! مُستحيل هذا، لا يُوجَد شيئ اسمه القبيح الحلو، لا! فيبدأ الآن في بناء فلسفة جديدة لإعادة التوازن، تبدأ هذه الفلسفة بإنكار حتى المُسلَّمات.
حين نسمع الآن بالجمال ونقول فلان – والله – جميل لا يخطر على بال أي واحد منا أنه جميل القول أو جميل الملافظ، لا أحد يخطر هذا على باله، ولا يخطر على باله أنه جميل الخُلق والعشرة، لا! حين نقول فلان – والله – جميل يعني هذا أنه جميل الوجه وجميل القد، أليس كذلك؟ أي إنه وسيم، هذا هو! هذا الجميل، هي تضرب صفحاً عن هذا وتقول لا، الجمال في حقيقته ليس الجمال الحسي، لأن أولاً – ما أولاً؟ هذا الأول – الجمال الحسي زائل، وكل شيئ يزول أيضاً، حتى العقل والذكاء يزولان، تكبرين غداً ويزولان، ما هذا؟ لا يُوجَد شيئ في الدنيا لا يزول، لكن هذه فلسفة، وغلط أن آتي أنا أو أن يأتي شخص مثلي لكي يُناقِشها بالأسلوب هذا، هذا سيُعتبَر غبياً جداً، ممنوع أن تُناقِشها هكذا، دعها تفرغ من بناء فلسفة العزاء، أنا أُسميها فلسفة العزاء والسلوان، دعها! تُريد أن تعيش المسكينة هذه، وهذا من حقها يا أخي، وكُن أنت إنساناً، أليس كذلك؟ اعلم لو كنت مُغتراً بجمالك أن فيك جوانب نقص أُخرى أيضاً وهي قبيحة جداً، انتبه فأنت تقوم بتخبئتها، هذا عيب، فدعها تفرغ من بناء فلسفتها، ممنوع أن تُناقِشها مثل نقاشي هذا الفارغ وتدّعي أنه منطقي، هذا ليس نقاشاً منطقياً، لأن كل هذه الحيل كما سيأتيك هي حيل لا منطقية – انتبه – لكنها تتلبَّس بلبوس المنطقة والعلمية، هي لا علمية ولا منطقية، كلها غير معقولة، لكن هذه الحيل اللا معقولة تجعل حياتنا ماذا؟ أكثر معقوليةً، فنتقبَّلها، نقدر على أن نتقبَّل حياتنا، نقدر على أن نتقبَّل الدمامة مثلاً، رجل دميم أو امرأة دميمة بالذات تتقبَّلها، تقول لك نعم، الجمال ليس كل شيئ، هذا أولاً.
ثانياً الجمال زائل، الجمال غر الكثير من أصحابه، هذا صحيح والله، لكنه لم يغر الكثير أيضاً، يغر الكثيرين وخاصة النسوان – تقول – لأنني أعرف الكثير مِمَن شعرن بالغرور بسبب جمالهن، ويُمكِن رؤية هذا، ثم إن الجمال جمال القول وجمال العشرة، الجمال جمال العقل والوزن والرأي، وتبدأ تجتهد، ويُمكِن أن تُصبِح مُمتازة في المدرسة هذه طبعاً وتتفوَّق، لو عندها خامة صوت لا بأس بها تبدأ تصقلها وتُهذِّبها، وفي الأخيرة تُصبِح ماذا؟ كأم كلثوم وكمَن مثلها.
لذلك بعض الناس يقول أنا استغرب فعلاً، لماذا أكثر المُغنيين والمُغنيات دميمو الخلقة وأقرب إلى الدمامة؟ ليسوا حلوين، فعلاً ليسوا حلوين، رغم كل هذا الــ Cosmetics والمكياج Makeup وما إلى ذلك، هم ليسوا حلوين، وهم معروفون، وخاصة الأصوات الرائعة جداً منهم، هم ليسوا حلوين، ليس لأن أصواتهم حلوة، وطبعاً يُوجَد أسلوب – رحمة الله على توفيق الحكم – التعادلية، أنا تبنيته ولا زلت أتبناه أيضاً، أن المسألة – نعم – تقوم على حساب إلهي عادل، الصوت الحسن – في المُعادَلة نفسها – ناقص الجمال، لابد أن ينقص من جمالك يا أخي مُباشَرةً، الجمال الفائق ناقص الصوت الحسن، يكون صوته غير حلو – صوته عادي جداً – لكن عنده جمال فائق مثلاً، هذه التعادلية، لكنها أحياناً لا تصلح، قد تجد مَن عنده جمال فائق وصوت فائق يا سيدي، موجود هذا! لكن هذا قليل، لماذا هذا قليل؟ ليس لأنه في الطبيعة وبقدر الله قليل، لا! لأن صاحب أو صاحبة الجمال الفائق عنده عزاء من جماله، لا يجد أنه مُحرَج ومُضطَر إلى أن يلتفت إلى صقل موهبته الحنجرية هذه، لا يهتم بها، يقول لك ماذا سأحتاج منها؟ لأنه يدل أو تدل بالذات هي بجمالها، لا تحتاج إلى الصوت، الجمال هذا يُسكِر الناس.
هذا حال هذا المسكين وهذه المسكينة، والأحسن أن نُسميه المُطرِب وأن نُسميها المُطرِبة، ما رأيكم؟ هذا أحسن من مُغنٍ ومُغنية، لأن المُغني قد يُغني لنفسه، أما المُطرِب فهو يُريد أن يُطرِب غيره، يقول لهم أنا حلو، اعترفوا لي بهذا، اعترفوا لي بأنني حلو، وسوف نعترف له طبعاً، ومنهم مَن انتحر بعد ذلك، هؤلاء ينتحرون كثيراً، أليس كذلك؟ انتحار! فهذا المطرب سوف يرتاح، وفي الحقيقة هو يُغني لكم، لا يغني هذا المسكين له، أكثر شيئ يُغني لكم، لذلك الأحسن أن نُسميه المُطرِب، لأنه يُطرِب غيره، ليس هو المُطرَب – أو الطربان كما يُقال -، لكن المُغني يُغني حتى لنفسه، فالأحسن أن نُسميهمها المُطرِب والمُطرِبة، لكي نقدر على أن نفهم آليات هذا ومُتلزماته في التوافق مع المُجتمَع ومع القدر.
على كل حال تصقل الصوت وتُصبِح فعلاً ذات صوت باهر، هناك الكثير من الحسناوات، لو صقلن حناجرهن لئضنا مُطرِبات فائقات، لكنهن – كما قلنا – للسبب المذكور لم يلتفن إلى هذا، هذا يحدث، ويحدث كثيراَ! وبعد ذلك – كما قلنا – هي تُواصِل هذه الفلسفة في الحياة.
العجيب أن هذه الفلسفات يا إخواني سريعة التبدل، متى؟ مهما ارتبطت بأشياء غير لازمة، فهناك الفقير – مثلاً – الذي حاول أن يشتغل، وفتح شركة ثم أفلس، وفتح شركتين وثلاث وأربع شركات ثم أفلس، فقال بعد ذلك أحسن شيئ أن نقرأ كتاباً في الزُهد لأبي حامد الغزّالي، ونشتق فلسفة في الفقر والزُهد مُمتازة، وهي صوفية عرفانية، ثم بدأ يعظ بها على المنابر وفي المجالس والمحافل العامة والخاصة، وهو مُرتاح، وأنت تُصدِّق لو أن الله – تبارك وتعالى – أنعم على هذا بثروة الدنيا كلها لما بقيت عنده ساعة، وفي يوم من الأيام صاحب الفلسفة الضائعة هذا يأتي إليه خبر، يُقال له إن قريبك هذا الذي أقام أربعين سنة في الأرجنتين مات، وليس له وارث إلا أنت وثلاثة آخرون، فأنت تُصيب رُبع ثروته، غير مُمكِن! رُبع ثروته سوف تُغنيه إلى ولد الولد كما يقولون، سُبحان الله بين عشية وضُحاها تختلف الفلسفة، يقول نعم المال الصالح للرجل الصالح يا أخي، المال لم يكن يوماً عيباً، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، قال الإمام عليّ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، هذه الدنيا لا تُلعَن، هذه كذا وكذا، جيد! وهذا صحيح، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، وحين تقول له أرنا صلاحك – هو بالمُناسَبة هكذا، أنا أتكلَّم بلسانه – يقول لك سأُريك – بإذن الله تعالى – الصلاح الخاص بي، لكن عملياً يُترجِم لك عن عكس هذا، كأنه يقول لست الآن مُستعِداً لإنفاق المال، أمس وأنا فقير كنت مُستعِداً لإنفاق كل ثروات الكون، اختلفت! بسرعة اختلفت الفلسفة، انتبه!
طبعاً – كما قلت في أكثر من خُطبة – هناك مَن يقول هذا الرجل لا يستهويني – مثلاً – ولا أُحِبه وعندي مواقف علمية منه ومواقف دينية مُؤسَّسة على أصول ومبادئ لا تزحزح، ويبدأ يقول هذا الكلام كثيراً، وهو مُستعِد أن يعمل فيه مُجلَّدات وفي تثمينه، مُمتاز! بكرة أو بعد بكرة تعرض له حاجة حقيقية – حاجة كبيرة مُهِمة – عند هذا الرجل فيقول لا يا أخي، لابد أن نعترف بالحقائق، صحيح أن هذا الرجل فعل كذا وكذا، لكن مَن منا كامل؟ كلنا نقصة، نعم فيه بعض الجوانب السلبية البسيطة لكن يا أخي أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، حقيقةً لو أردت أن أكون من المُنصِفين لقلت ربما أنا شخصياً حتى ظلمته، والله هذا الرجل لو وضعنا سيئاته إلى جانب حسناته لذبنا وانمحينا يا أخي، يا ما شاء الله! ما الإنصاف هذا؟ ما هذا الإنصاف الذي هب عليك هبة واحدة هكذا ونزل من السماء؟ انتبه! هذا الإنسان.
الأمر نفسه مع ذلك الكبير – مع احترامنا لكل آبائنا، وهو ليس هنا، هذا للتمثيل فقط – الذي يجلس ويقول انتهى الأمر، نحن كبرنا، نحن شخنا وكبرنا يا جماعة، لماذا؟ لا يُوجَد إنسان يُحِب أن يقول عن نفسه إنه كبر، لا أحد يُحِب هذا – أتحدى وأنا أولكم -، يفرح الإنسان حين يقول له أحدهم ما شاء الله عليك يا رجل، يا سلام! هيئتك تُوحي بأنك أصغر من سنك بعشر سنوات، والله يفرح، يقول له لا، كم تُعطيني؟ وهذا طبعاً يعرف الحقيقة، لكن الكل يلعب بضعف البعض، هذا بضعفه يلعب، وذاك يُلاعِبه بضعفه، هو فاهم الأمر وينبغي أن يُعطيه سبعين، لكنه يقول له ليس أكثر من خمس وأربعين، وهو بقلبه يُعطيه سبعين، لأن هذا بلغ سبعين سنة، لكن لا يهم، هذا جيد، وهكذا تسير الحياة أيضاً، لكننا نُريد أن نرى الخيوط الذهبية الدقيقة، كم تُعطيني؟ فيقول له ليس أكثر من خمس وأربعين، فيقول له لا، لا يا رجل، لم أُكمِل حتى الخمس والستين، وهو قارب الثماني والستين، لكنه قال إنه لم يحسبها بشكل صحيح، والنساء بالمُناسَبة يُقال عنهن في علم النفس إنهن أقدر خلق الله على الحساب، عندهن قدرة غير طبيعية على الحساب، أي النساء، لكن هذا الحساب عجيب من نوعه، عجائبي! تستطيع المرأة أن تطرح في لحظة خمس سنوات من عمرها وأن تُضيفها إلى عمر عدوتها، في لحظة! في لحظة واحدة، تصير أصغر خمس سنوات وهذه أكبر خمس سنوات، وتستطيع أن تطرح مائتي جنية من سعر هندام صاحبتها وأن تُضيف ثلاثمائة جنية إلى سعر هندامها، في لحظة! وهي تعرف كم سعره، عجيب! عندها قدرة على الحساب هذا، مع احترامنا لهن وللرجال، لكن هذا الإنسان، مسكين الإنسان!
هذا يُعطينا قدرة على مُحاوَلة فهم آلياتنا، فهم هذه الآليات هام، لكن للأسف الوقت يُدرِكنا، نُريد أن نرى من هذه الآليات، وربما نشرح واحدة منها، علماً بأن هذه الآليات كثيرة جداً، ولها أصل في النصوص الدينية والنصوص التراثية في كل حضارات الأمم وفي الأمثال والحكم السائدة، في المثل السائد لها أصل، مثلاً هناك حيلة الإسقاط، وهذه كلها يُسمونها حيلاً، العرب يُسمونها حيلةً، والأجانب يُسمونها آليةً، أي ميكانيزم! ميكانيزمات الدفاع – مثلاً – كما يقول أحدهم لك، ميكانيزمات الدفاع اللا شعوري، لأنك لا تكون شاعراً بها، مثل الإسقاط، أي الــ Projection، الإسقاط! ما الإسقاط؟ تطرح ما في نفسك على غيرك، حتى لا تنساه هو رمتني بدائها وانسلت، فقط هذا هو! المثل يُفسِّره، الإسقاط هو رمتني بدائها وانسلت، تطرح عيوبك على شيئ خارج، المُهِم أنه ليس فيك، العيب في الخارج.
مثلاً هناك الذي يأتي ويُريد أن يُخطِّط، يدّعي أنه مثل حامد الآمدي، نقول له أنت لست خطّاطاً يا أخي، لكنه يُريد أن يُخطِّط، فيخرج منه كلام فارغ، وينكسر سن القلم الحبر، ثم يقول لا، أنا أُريد ريشة، فيأتون له بريشة، ثم تنكسر الريشة، فيقول لك مرة إن العيب في الريشة، وهذا صحيح ومضبوط، لكن حامد الآمدي يُخطِّط بالفحم وبأي شيئ، بإصبعه يُمكِن أن يُخطِّط، وهذا الخطّاط الحق، يقول لك مرة إن العيب في الريشة، فتأتي له بريشة، فيقول لك لا، العيب في الورق، هذا الورق ليس مصقولاً وليس جيداً، ثم يقول لك العيب في الحبر، طبيعة الحبر يا أخي مُختلِفة، حبر الخطّاطين هذا يُصنَع صناعة مُختلِفة، هم يصنعونه ويُدخِلون فيه جلود الماعز المحروقة وأشياء، هذا ليس أي كلام، ليس كالحبر اللبرو، فالعيب في الحبر، فأتيت له بالحبر الخاص بحامد الآمدي، فقال العيب في المُعلِّم، الخبيث المُخبَّث لم يُعلِّمه التخطيط على أصوله، لكن هو عنده موهبة بالمُناسَبة، إلى الآن أيضاً هو عنده موهبة، ولو تلقى كذا وكذا وكذا وكذا وكذا الصحيح أو الصحيحة لخرج منه خطّاط عظيم، ما هذا؟ ما الكلام هذا؟ هذا اسمه الإسقاط، لابد أن يكون العيب في فلان.
دخل في الامتحان ورسب، فقال هذا بسبب الحسد، والله أنا كنت مُتوقِّع هذا، هم حسدوني، لو لم يحسدوه لحصل على Eins، يقول الحسد هو السبب، فهل الحسد فعلاً هو السبب؟ حسد ماذا؟ أنت ذهبت ولا أحد يعرفك في الامتحان، لم يرك أحد، فكيف وقع الحسد؟ لأن لابد ألا يكون هو الغلطان، لابد أن تكون قدراته مثل قدرات أينشتاين Einstein، هو عبقري الزمان كله، هو ليس إنسان يصعد وينزل، لا! الآخرون هم المُخطئون، هذا كله بسبب العين، أصابته العين، ثم يبدأ للأسف – وأعان الله مَن رآه في ذلك الصباح – يقول لابد أن يكون مَن حسدني هو الشخص الذي رأيته في الــ U-Bahn، أي في قطار الأنفاق، هو هذا والعياذ بالله، يا أخي أنا حين رأيته شعرت أنه يحسدني، رسبت بسبب الحسد، هذا اسمه الإسقاط يا أخي، وهذا أسلوب طفولي.
يُوجَد أسلوب ثانٍ، وهو التحويل، أي الــ Transference، التحويل! وبعضهم يُسمونه الطرح، ما التحويل؟ احفظوا الآتي حتى لا تنسوا، الإسقاط هو رمتني بدائها وانسلت، كل الناس بخلاء وهو ليس بخيلاً، كل الناس خونة وهو الصادق الوحيد، إلى آخره! هذا اسمه الإسقاط، التحويل – أكرمكم الله وحاشاكن جميعاً – هو أنه لا يقدر على الحمار فيقفز على البردعة، هذا اسمه التحويل، لا يقدر على أن يُواجِه زوجته القوية طبعاً – عندها شكيمة حادة، ابنة ناس هي، و(أخت رجال) كما يُسمونها، لذا هو غير قادر على أن يُواجِهها، ربما هي تُنفِق عليه، وهو غير قادر على مُواجَهتها، ويخاف من أن تُطلِّقه، والبيت بيتها أيضاً، هذه مُصيبة المصائب، خاصة إذا كانت أجنبية، فهو غير قادر على أن يُواجِهها وأن يرد عليها – فيسكت، ويُنفِّس المسكين في مَن؟ أول مَن يُنفِّس فيهم هم صغاره، هذا مُمكِن لو كانت هي تسمح بهذا، لو لم تكن تسمح بهذا حتى في الأولاد قد يُنفِّس في أي شيئ، العرب ينُفِّسون في صغارهم مُباشَرةً، حين يتضايق من امرأته أو حين تتضايق هي من زوجها يتم التنفيس في الأولاد، مساكين هؤلاء وضحايا، ضاعوا في الرجلين، هذا اسمه التحويل، ما ذنب هذا الطفل؟ ما مُشكِلته؟ هذا هو!
قد يتم التنفيس في المرؤوسين إذا كان هذا الشخص رئيس دائرة أو مُديراً، يا ويل مَن تحته للأسف، وقد جرَّبناها في الامتحانات في يوغوسلافيا، والله العظيم! في بعض المرات يأتي البروفيسور Professor وهو يشعر بالغيظ، فيرسب الكل، الكل – الذي يعرف والذي لا يعرف – يرسب، وفي بعض المرات يأتي وهو سعيد، كأن زوجته أسعدته، فينجح الكل، هذا إنسان ضعيف، وهو بروفيسور Professor جامعة وأستاذ، والعياذ بالله كان نكبة عليهم، فهذا هو! يتم التنفيس في المرؤوسين للأسف، يُنفِّس فيهم، أو يُنفِّس في الباب، كيف يُنفِّس في الباب؟ وهو خارج يخبطه بقوة، يصفقه بشدة، أي يصفق الباب بشدة، ثم يرجع وتقول له تعال، لماذا فعلت هذا بالباب؟ فيقول والله الباب ذهب بسرعة هكذا حين جاء الهواء، حتى هذا غير قادر على أن يقف عليه.
هذا اسمه التحويل، أحياناً تُمارِسه السيدات أو حتى الرجال بخبث، مثل سيدة عندها حساب تُريد أن تُصفيه باستمرار مع زوجها، لابد أن يكون هو وأصله وفصله لا يُساوون شيئاً، هم لا شيئ، حين يهبها الله ولداً من الأولاد الأذكياء الشاطرين تقول ثلثا هذا الولد لخاله، سُبحان الله، يُذكِّرني بإخواتي، أي حتى هذا لم يأت من طرف الأب، هذا اسمه التحويل، فتكون حوَّلت وحالت بهذه الحيلة دون نسبة هذا الذكاء إلى أرومة الوالد، هذا اسمه التحويل، وهو موجود في علم النفس بالمُناسَبة، هذه القضايا يُعالِجها علماء نفس ويُناقِشونها، يُقيسونها ويروزونها بالروائز والأشياء والوسائل العلمية، هذا اسمه التحويل!
يُوجَد شيئ يُسمونه الكبت والنسيان، هذا يحدث معي ومعك ومعنا كلنا، كيف؟ انتبهوا إلى المثال هذا، كل واحد سوف يقول لي والله بالضبط هذا يحدث، كل يوم يحدث هذا، قد يكون لأحدهم دين على آخر، فيتذكَّر كل تفاصيل الواقعة، سُبحان الخالق، سُبحان مَن أعطاه ذاكرة البخاري، لا يُنسى! يقول قبل ثلاث سنوات – تحديداً في اليوم الثامن من الشهر السابع في عام ألفين وستة كنا عند محطة كذا ومر حتى في هذا اليوم أبو شنب هذا، أليس كذلك؟ – أعطيتك مائتين وخمسة وسبعين يورو، ولن نتحدَّث عن الكسور، مُمتاز! ذاكرة فظيعة هذه، قل له استخدمها في حفظ الأحاديث النبوية بأسانيدها يا رجل، في حين أن هناك رجلاً أعطاه ألفين وسبعمائة وخمسين يورو، لكنه لم يرد له هذا المبلغ إلى صاحبه، وقال له هل فعلاً يا أخي لك علىّ كل هذا المال؟ والله كأنني نسيت، هذا صحيح، نعم يُوجَد دين، لكن أنا أعتقد أن هذا لم يكن كما ذكرت، ألم يكن ألف وسبعمائة فقط؟ يا رجل – قل له – اتق الله، ما عليه ينساه، وبالمُناسَبة هذا ليس كذّاباً وليس نصّاباً وليس آكلاً للحقوق بالحرام، هذه حيل لا شعورية، وهكذا هو الإنسان، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، وما لم تُصبِح فيلسوف نفس وفقيه نفس وتُحاسَب نفسك على الصغيرة والكبيرة ولا تُخادِعها بالمرة – هذا اسمه خداع النفس – لن تصل أبداً في حياتك إلى الوضوح الحقيقي، وضوح البواعث والدوافع، انتبه! هذه مسألة خطيرة، أنا أُشبِّه وأقول هذا الكلام حتى لا تنساه فقط، لكن هذه مسائل حسّاسة جداً جداً، فنحن ننسى ما علينا ولا نكاد البتة ننسى ما لنا، هذه اسمها حيلة النسيان، أي الــ Forgetting.
هناك نسيان مرضي، مثل الــ Amnesia، الــ Amnesia هذه نسيان مرضي، الآن سأضرب مثالاً عليها، ضربته مرة ربما في خُطبة الضحك والبكاء، هناك شاب لم يعد من سنين طويلة يُدرِك أو يستقبل حس اللون الأحمر، هذا الأحمر لا يراه، تقول له ما هذا؟ فيقول لك هذا أبيض، تقول له يا أخي هذا أحمر، فيقول لك أين هذا الأحمر؟ وهو لا يراه، هو لا يكذب، هو لا يرى الأحمر، يرى الألوان كلها إلا الأحمر، هذا مُصاب بماذا؟ هذا ليس مرضاً نفسياً، هذه حيلة بالمُناسَبة، حيلة دفاعية تحول دون انهيار النفس، لو لم يحدث هذا لانهار، يُمكِن أن يُدمَّر ويُجَن، ويُمكِن أن ينتحر أيضاً، لماذا؟ هذا المسكين قبل سنوات بعيدة رأى أمه سقطت في لحظة، فوقع رأسها أو وقعت برأسها على حافة البلاط، فشُج رأسها، فسال دمها، فماتت في مكانها، من تلك اللحظة هذا الشاب ما عاد ذهنه ولا وسائل الحس لديه تلتقط اللون الأحمر، هذا يُسمونه النسيان المرضي، هو نسيه، أكيد هو رآه قبل هذا، لكنه لم يعد يتذكَّره، لم يعد يتذكَّر هذا اللون أبداً ولا كأنه رآه من قبل، هذا يُسمونه النسيان المرضي، حادث مُؤلِم جداً صدم الإنسان، فلابد وأن ينساه، لابد وأن ينساه!
سأضرب مثالين أختم بهما الخُطبة، وهما مثالان علميان لطيفان جداً، هناك مثال يضربه عالم النفس المصري العظيم المرحوم مُصطفى زيور، رحمة الله عليه، هذا من كبار علماء النفس عموماً، وهو مصري، ذات مرة ذهب إلى زميله، دخل عليه فوجده مُغضَباً، المُهِم أن زميله هذا يُعاني من حالة عدم القدرة على تذكر اسم الخادم الخاص به، الخادم عنده في المكتب، يذهب ويجيء دائماً، يقول له هات القهوة، اذهب بالقهوة، هات الماء، يا… يا هو… يا زفت… فيغضب وما إلى ذلك، ثم يقول أستغفر الله، يا أخي سامحني، انظروا إلى قصتي هذه، ما قصتك؟ جاءه مُصطفى زيور- رائد التحليل النفسي المصري، في لحظة سوف يكشف لك كل الخبايا – وقال له تعال، ما قصتك؟ فقال له بالله عليك حلِّل ما يقع لي، هذا الشخض أنا غير قادر على تذكر اسمه، فقال له ما قصة النسيان هذا؟ هذا ليس مُجرَّد نسيان، وهذا ليس عطباً عندك في خلايا الدماغ، وأنت لا تزال شاباً، فقال له ما القصة؟ ما الذي يحصل معك؟ فقال له هذا الخادم بالذات لا أقدر على تذكر اسمه، وهو يقول لي اسمه وأنا دائماً ما أنساه، وحين أراه أو أريد أن أتذكَّره أتذكَّر اسم شخص آخر، لا أتذكَّر اسمه هو، وهذا الآخر اسمه الدكروري، فقال له جيد، هذه البداية، الدكروري!
ما قصة الدكروري هذا؟ قال له الدكروري هذا كان زميلي في المدرسة الابتدائية، انظر إلى العلم، هذا العلم! العلم نور يا أخي، قال له الدكروري هذا كان زميلي في المدرسة الابتدائية، وكان يُنافِسني في الدراسة وفي الرياضة – أي في الــ Sport -، سبقني في الرياضة واكتسحته في الدراسة، فزت عليه فوزاً ساحقاً، مكَّنني من السُخرية اللاذعة التي أشبعت غرور الطفولة عندي منه، سخرت منه إلى أن ذبحته ذبحاً وكنت مبسوطاً، قال له جميل، ولذلك أنت إلى الآن تُصِر على تذكر ماذا؟ اسمه، لأن اسمه يُشبِع لديك ماذا؟ حاجة نفسية، يُشعِرك بالاكتفاء، أنك أنت المُمتاز، أنت المُتفوِّق، أنت الكاسح، أنت الساحق الماحق، مُمتاز يا ساحق، وماذا بعد؟ نرجع إلى قصة الخادم هذا، قال له والخادم ماذا عنه؟ لماذا أنت لا تقدر على أن تتذكَّر اسمه وتتذكَّر اسم الدكروري؟ هذا يعني أنك حين تتذكَّر اسم الدكروري يُشبِع هذا الاسم حاجة لك، فماذا قال للدكتور زيور؟ قال له نعم، لكن هنا يُوجَد لُغز، حاجة بإزاء مَن؟ أنا المُدير هنا، أبإزاء خادم أو مُوظَّف عندي؟ غير معقول، أليس كذلك؟ أنت تُشبِع حاجة بإزاء شخص مثلك، يُساميك في المكانة، أليس كذلك؟ ليس بإزاء شخص خدّام عندك، لا يزال هناك لُغز نفسي أو سيكولوجي هنا، فقال له – الدكتور زيور علّامة – هنا أنا أفترض – افتراض هذا، افتراض وليس مُسلَّمة – أن اسم الخادم هذا لابد أن يكون مُذكِّراً لك باسم يُؤذيك ويُؤذي كبرياءك ويحط من قدر نفسك، فتقوم أنت لا شعورياً بعملية ماذا؟ التبديل هذه، أحذف هذا وأحضر هذا، ومن ثم هذا سيُريحني، عجيب الإنسان يا أخي! فقال له والله هذا صحيح، قال له ما اسمه؟ قال له الملعون الكردي، اسمه الملعون الكردي، ليس الخادم وإنما الكردي المعلون ذاك، شخص ما اسمه الكردي، هو ليس كردياً، فقال له ما قصته؟ قال له قصته كالآتي، هذا كان صاحب سُلطان – يبدو أن هذا كان ضابطاً في المُخابَرات وما إلى ذلك -، فأهانني إهانة شديدة ذات مرة، قال له ومسح بي الأرض، ولم أنج منه حتى وليت الفرار، وبقيت لأيام أشعر بالخزي والهوان منه، لعنة الله عليه، قال له والخادم اسمه ماذا؟ قال له اسمه الكردي، فلابد أن يُنسى هذا الاسم، لأنه يُشعِرنا بالهوان، تخيَّلوا! وهو عنده يشتغل، ولابد أن نتذكَّر دائماً اسم مَن؟ الدكروي، بدل الكردي نتذكَّر الدكروري، وخاصة أن هناك الكاف وهنا الكاف، وهناك الراء وهنا الراء، وهناك الياء وهنا الياء، أي إن الحكاية قريبة، فهذا الاسم يُريحيني، جيد! هذه نظرية عظيمة جداً، لكننا نُريد أن نعترض عليها الآن بالمثال الأخير، ما هو؟
قد يقول أحدهم لك لا، غير سليم هذا الكلام، هذا كلام فنتازيا Fantasy، لماذا؟ يقول لك لأن الإنسان فينا أيضاً يتذكَّر ذكريات مُؤلِمة ولا ينساها، أليس كذلك؟ ليس دائماً يتذكَّر الأشياء الحلوة في حياته والتي تُعلي من قدر نفسه، يتذكَّر أشياء أليمة، لكن هذا يُؤيِّد النظرية ولا يهدمها، كيف؟ فعلاً تتذكَّر أشياء مُؤلِمة جداً، وسوف تستغرب الآن، وأختم بهذا المثال.
سيدة تقدَّمت بها السن وكانت لا تُريد الإنجاب، لا تُحِب أن تُنجِب بالمرة، وبعد ذلك قدَّر الله وأنجبت، فما عتمت أن أنجبت حتى سقطت فريسةً لمرض نفسي خطير، امتنعت معه عن طعامها وشرابها، حتى شرب الحساء واللبن امتنعت عنهما، حتى كادت تهلك، وهذا سيُؤثِّر على حالة ماذا؟ وليدها الصغير، المُهِم خضعت لعملية علاج نفسي على يد عالم ومُحلِّل يفهم جيداً، استُخدِم منهج التحليل طبعاً هنا وليس العلاج العادي المعروف، المُهِم فتبيَّن التالي، أن هذه السيدة حين كانت صغيرة – بنت أربع سنوات – قدَّمت إليها مُربيتها اللبن في إناء مُعيَّن، ثم رأتها تُقدِّم اللبن في هذا الإناء عينه للكلب الصغير، جرو صغير هكذا! فغضبت جداً، هذا يعني أنك يُمكِن أن تُعيدي هذا إلىّ أيضاً بعد أن شرب منه الكلب، فرفصت الكلب الصغير برجلها رفصة قوية، فخرج ينبح في الشارع، فدهمته سيارة فقضى، فشعرت بإثم عظيم، إثم عظيم جداً!
هذه الحادثة لا تزال تُلِح عليها صباح مساء، ولا تُزايل مُخيلتها ولا ذاكرتها، باستمرار تتذكَّرها وتشعر بإثم عظيم، مُؤلِمة أو غير مُؤلِمة هذه الحادثة؟ لم تنسها، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذه الحادثة تُشكِّل في التحليل ستاراً دُخانياً لإخفاء الحادثة الأليمة الحقيقية، والتي هي أشد إيلاماً بما لا قياس معه، ما هي؟ حين كانت صغيرة أنجبت أمها أخاً لها صغيراً، طفلاً ذكراً، فغضبت وغارت، لأنها طفلة صغيرة، كيف يحل محلها على صدر وثدي أمها؟ فغافلت أمها مرة وضربته على يافخوه، الصغير هذا كالصرصار، ضربته على يافخوه، فصرخ وانتهى كل شيئ، بعد أيام اتفق له أن أُصيب بإسهال حاد تأدى به إلى الوفاة، فقر في ذهنها أنها هي السبب بالضربة على اليافوخ، فأورثها هذا ألماً نفسياً فظيعاً، وظلت تعتقد كطفلة أنها هي التي تسبَّبت في قتله.
هذه الحادثة انمحت تقريباً بالكامل من شاشة الشعور، وانزلقت إلى اللا شعور، ولم تسترجعها إلا بعد شهور من جلسات التحليل النفسي ومع الإلحاح على حادثة الكلب التي تُلِح عليها باستمرار، فنحن نتذكَّر أحياناً حوادث مُؤلِمة، لا لأنها الأشد إيلاماً، بل لأنها الأقل إيلاماً، ونستر بها عن أنفسنا وعن الشعور ما هو أشد إيلاماً.
هل لاح لكم أن هذا مُمكِن يُفسِّر لنا قصة ابن الجوزي مع ذلكم المُتورِّع البارد الذي تورَّع عن العزل – لم يعزل – لكنه لم يتورَّع عن الزنا؟ الرجل ليس سخيفاً، وقد يكون حتى من طلّاب العلم، وقد يكون أحد الناس الأكثر ذكاءً، وفعلاً أتى بجدية هو، أتى لكي يحكي عن حُكم العزل، هل تعرفون هذا؟ تماماً هذا مثل الدكتور الذي جاء يستفتيني – وذات مرة تكلَّمت عنه، طبعاً من غير ذكر اسمه، سترنا الله وستره – وتكلَّم معي كلاماً طويلاً في شهر رمضان، عن ماذا؟ عن شدة مُعاناته الضميرية والنفسية والدينية، لا يستطيع الرجل النوم، مسكين! لماذا؟ لأن بعض الناس – وهذا خلاف ما تربى عليه هو والدين المتين الذي تأسَّس عليه – يُلقون بفضلات الطعام في الشارع، بعض الناس في مكة هناك يُلقون بالحبوب في الشارع، الحبوب! نعمة الله هذه، القمح والشعير يا أخي، شيئ مُزعِج جداً، فقلت ما شاء الله وحسدته على ورعه، وبعد المُقدِّمات هذه جاء في الأخير السؤال الرئيسي، يُريد مني رُخصة بالزنا، هل مُمكِن الزنا؟ الآن علَّقنا الزنا هذه – هذا Suspension – في رمضان، لكن بعد رمضان – قال لي – صعب جداً جداً التوقف وأنا تعوَّدت هذا، علماً بأنه مُتزوِّج وعنده أولاد كبار في طوله، ما شاء الله! قد يقول لي أحدكم ما هذا؟ هذه كلها حيل نفسية، فأنت تحرص كثيراً على ماذا؟ على التدقيق على مسائل الحبوب هذه، دين! دين راسخ هذا، من أجل ماذا؟ من أجل أن ترتاح نفسه، أنك لا تزال ماذا؟ مُتديناً، لا تزال الرجل الذي يرعى الله تبارك وتعالى، لكن أين رعاية الله في الزنا يا مُتزوِّج؟ لا تُوجَد، وذاك نفس الشيئ، أين رعاية الله في الزنا؟ لا تُوجَد، لكن تُوجَد رعاية الله في العزل، فابن الجوزي لم يكن عنده هذا الفهم السيكولوجي، ولا نحن كان عندنا، لولا أننا تعلَّمنا ودرسنا، هؤلاء علماء وهذه مدارس علمية، قال له لماذا لم تعزل عنها؟ قال له بلغني أن العزل مكروه، قال له قاتلك الله، أبلغك أن العزل مكروه ولم يبلغك أن الزنا حرام؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم أصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، واجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم انصر الإسلام، وأعِز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم جنِّب أمة حبيبك محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الفتن كلها، ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجمع كلمتها، ووحِّد صفوفها، وارأب صدعها، ولُم شعثها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(26/6/2009)
أضف تعليق