إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على عبدك ونبيك النبي العربي الأمين وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – من قائل في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۩ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۩ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ۩ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ۩ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۩ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۩ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ۩ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۩ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۩ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ۩ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ۩ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ۩ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ۩ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ۩ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ۩ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ۩ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ۩ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأخواتي:
يحتفل المسلمون في هذه الأيام المُبارَكات بذكرى الإسراء والمعراج، تلكم المكرمة التي فاقت جل المكرمات والمُعجِزة الباهرة – إن جاز التعبير – والتي بذت كل المُعجِزات والخارقات، وقد اختلف السادةُ العلماء أهما حدثان مُنفصلان وكرامتان اثنتان أم حدثٌ خارقٌ واحد ومكرمة واحدة، ورجَّح بعضهما أنهما حدثان والمعراج سابق على الإسراء وذلكم أن سورته وهى سورة النجم تقع في المرتبة الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين في ترتيب نزول سور القرآن العظيم، على حين تقع سورة الإسراء أو سورة بني إسرائيل في المرتبة السابعة والأربعين، ورجَّح أكثر العلماء أنهما حدثٌ واحد في ليلةٍ واحدة أوله الإسراء وأعقبه المعراج الشريف، فكان الإسراءُ أولاً ثم تلاه المعراج، والإسراءُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج من الأقصى إلى ما فوق السماء السابعة العلية وكما يُقال إلى مُنقطَع الأين.
كرامةٌ وأي كرامة، لم تأت عن طلب ولا إجابة لسؤال، فأين منها كرامة سليمان الذي قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ۩؟ لقد سأل وطلب، أما محمد الأحمد صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم دائماً أبداً والعود أحمد فما سأل ولا طلب، ولكن الله ابتدأه كرامة له وإظهاراً لمثابته وإشعاراً بعلو كعبه ومنزلته، ومَن كان خادم دولته؟!
جبريل، جبريل في تلكم الليلة كان خادم دولته وحامل غاشيته ومُقدَّم حاشيته، ما مُهِّدَ الصفيح الأعلى إلا لوفادته وما كان شراب القدس إلا لشربه فهو صفوةُ كأس المحبة، لأنه شمس المعارف وبدر اللطائف ومالك أزمة النبيين ومُقدَّم المُرسَلين، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم في الأولين والآخرين دائماً إلى أبد الآبدين.
وأرسل سبحانه وتعالى إليه البراق ليكون ركوبته على عادة الملوك الفخام الجلة إذا استقدموا حبيباً أو استزاروا قريباً أرسلوا إليه أعز خدامهم وأشرف نوابهم، وهكذا أرسل الله – سبحانه وتعالى – جبريل ومعه البراق في إشارةٍ لا تخفى على أن تلكم الرحلة الربانية العلوية الشريفة كانت بالروح والجسد معاً لأن الأرواح لا تحتاج إلى ركائب، فلو كانت للروح مُجرَّدةً لما احتاجت الروح إلى ركوبة، فلماذا الركوبة إذن؟ لماذا البراق؟ ليحمل جسده الشريف عليه الصلاة وأفضل السلام.
ومن عجبي أن بعض المسلمين والمسلمات يُردِّد في غفلةِ أهل السهوات والجهالات مُشكِلاً أو شاغباً على هذه المُعجِزة الإلهية الكريمة، فيُدخِل حديث العقل وربما توسَّل حديث العلم في المسألة وهذا شيئٌ عجيب، وكأن النبي المُحمَّد – صلوات ربي وتسليماته عليه – هو الذي أكرم نفسه وهو الذي أسرى بها وهو الذي عرج بها، وهذا باطلٌ من القول ومين وسخفٌ وقاعة وحماقة، ألم يقرأوا هولاء المُوحِّدون قوله سبحانه وتعالى من قائل سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩؟
فالله هو الذي أسرى به، إذن المسألة تتعلَّق بالقدرة الإلهية، فهل يُعجِز القدرة هذا
وهى التي أنشأت السماوات ورفعتها بغير عمدٍ نراها؟ هذا شيئٌ عجيب ورقاعة ومين وصفاقة وضعف إيمان وتهافت في حُجته ومنطقه تقليداً ببغاوياً للمُرتابين وللعامهين والعياذ بالله رب العالمين، قال الله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۩، ومعنى قوله لِنُرِيَهُ ۩ أي أن الله هو الذي أراه وهو الذي أسرى به وهو الذي عرج به، فلم يفعل شيئاً من ذلكم وذلكن بنفسه ولنفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام – وبالتالي انحلت العقدة إذا كان ثمة عقدة أصلاً، ولا عقدة عند المُؤمِن لأن هذه مسائل إيمان، فاللهم اجعلنا لنا نوراً تهب به كمال الإيمان والتسليم.
إذا كنت تُؤمِن بالله – تبارك وتعالى – وبأن هذا القرآن كلامه انتهت المشاكل كلها، فلا مشاكل لدى المُؤمِن بفضل الله تبارك وتعالى، أما إذا كنت تمتن على الله بإيمانك وإسلامك وتريد أن ينسلك كل فعلٍ له في ذهنك وعلمك وقوانينك أنت وهو مُطلَق الإرادة ومُطلَق المشيئة وكلي القدرة – لا إله إلا هو – فالله ليس مُحتاجاً إلى إيمانك أصلاً، قال الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ۩، فهكذا بعض المسلمين يُريد أن يُشعِرنا ويُشعِر نفسه أنه يمن على الله إيمانه وإسلامه لذلك يُريد من البراهين ما هو مُفصَّل على قد العلم المُعاصِر والحديث وعلى قد عقله الصغير المُنجحِر في مطمورة أو في مطامير الحس، لكن كيف يسوغ له هذا؟ أنّى له أن يسوغ هذا؟
المُؤمِن لا يستسيغ هذا المنطق الرقيع السخيف المُتهافِت، إنما هو الإيمان والتسليم، فهذا شيئٌ من قدرة الله – لا إله إلا هو – وهذا قبسٌ من قدرته، والكون كله أقباسٌ وآيٌ تدل على بعض قدرته وعلى شيئ من قدرته لا إله إلاهو.
قال الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩، فلماذا ابتدأ باسم المصدر؟ كأنه يقول سبِّحوه – تبارك وتعالى – لأن الأمر خارق ولأن الأمر آية من آيات الله التي يُسبَّح عندها تبارك وتعالى ويُقال جلَّ وتقدَّس وتنزَّه عن الضعفِ والعجزِ والقصورِ والعياء – لا إله إلا هو- من هذا بعض فعله ومن هذا بعض آياته.
قال الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ۩، فلماذا قال أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩؟ السُرى هو السير ليلاً، وقيل من أول الليل، فما أعظم موقع هذه الكلمة! قال الله أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩، فإذا أردت أن تنهال عليك الكرامات والعطيات وأن تُرفَع زُلفى إلى رب الأرض والسماوات درجات عليات ودرجات عليك أن تتحقَّق بالعبودية، أي العبودية بإزاء الربوبية والعبودية يإزاء الألوهية، فمحمد هو سيد العبَّاد وهو الذي كمُلَت عبوديته إلى الله – تبارك وتعالى – لأنه لم يشك ولم يبطأ ولم يفخر ولم يغفل – عليه الصلاة وأفضل السلام – ولم يُعجَب ولم ينس ولم يله ولم يلعب، وإنما عاش عبداً كاملاً لله، لذلك هو المُؤمِن الكامل ولذلك هو الإنسان الكامل، وفي تصور المسلمين الإنسان الكامل هو المُؤمِن الكامل، فالمُؤمِن الكامل حقاً هو الإنسان الكامل.
قال الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩، ولكن هذا الإسراء يعقبه معراج، فبعض الناس قد تختلط عليه الأمور وتمتزج في ذهنه ملامح العبودية بخواص الربوبية كما حدث عند النصارى، فربما لهج نورٌ من نور وحقٌ من حق وفرعٌ من مصدر وأصل فأشرك وتجاوز وتعثَّر، لذلك يقول الله: هو – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُجرَّد عبد لا أكثر، وهو مَن هو، منظورٌ إليه من زاوية هذه الكرامة الخارقة وهذه المُعجِزة الفائقة لكنه يظل عبداً، فالله يقول نحن الرب ونحن الإله ونحن مَن بيدنا ملكوت كل شيئ وأزمة كل شيئ ونواصي كل أحد ومصائر كل شيئ، فالعبد عبد والرب رب، فلا يمتزجان ولا يختلطان ولا تذوب الحدود بينهما.
فما أعظم موقع هذه الكلمة إذن، قال الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩، إذن يبقى عبداً، لذلك لا يجوز له أن يدّعي شيئاً من خواص الربوبية أو مزايا الإلهية فيظن في نفسه أو يُظَن فيه أن يُحيي ويُميت وأنه يعلم الغيوب وأنه يرزق مَن يشاء ويمنع رزقه عن مَن يشاء، قال الله ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩، فالذي يفعل هذا كله هو الله، وليس النبي وليس الرسول ولا غير الرسول، وإنما الله وحده، وهؤلاء مُجرَّد عبيد، لذا قال الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ۩ وقال أيضاً فَأَوْحَى إِلَى عَبْده مَا أَوْحَى ۩، فهو عبدٌ وهو مُسرىً به، عبدٌ وهو وقد عُرِجَ به إلى مُنقطَع الأين، فهوعبدٌ هنا وعبدٌ هناك وعبدٌ بينهما – أي بين هنا وهناك – طبعاً، فالآن هو عبد، وبالأمس كان عبداً، وإلى يوم الدين وإلى أبد الآبدين هو عبد، والربُ ربٌ لا إله إلا هو، فهذا هو القرآن وهذه عقيدة المسلمين بفضل الله تبارك وتعالى.
قال الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، فمن لطائف القرآن الكريم العظيم أن الله – تبارك وتعالى – مهَّد لخارقة الإسراء والمعراج – لهذه المُعجِزة العجيبة – بقصةِ عرش بلقيس، فسورة النمل سبقت في ترتيب النزول سورة بني إسرائيل، أي أنها سبقت سورة الإسراء، وبينهما سورة القصص، ففأنزل الله النمل ثم أنزل القصص تقريباً بإجماع مُرتِّبي نزول السور في القرآن ومَن قرأنا لهم، فقد جعلوا النمل سابقةً على سورة الإسراء وبينهما سورة القصص، لكن لماذا؟!
في النمل عجيبة وخارقة تُقرِّب هذه المُعجِزة الإلهية، تقول الآية الكريمة قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۩، أي أنه سوف يُؤتى بعرش ملوكي عظيم من اليمن إلى بلاد فلسطين التي باركها الله في العالمين، لكن هل هذا مُمكِن؟ هل هذا داخل في حيز الإمكان؟ نعم، تقول الآية الكريمة قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ۩، لكن لم يُعجِب سليمان هذا العرض، فهل هناك مَن هو أحذق ومَن هو أقدر على إحضاره؟ تقول الآية الكريمة قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ ۩، فالذي قال هذا هو ذاك الرجل الصالح الذي كان يعرف إسم الله الأعظم لا إله إلا هو، والإسم الأعظم لله هو الذي إذا سُئل به أعطى وإذا سُئل به أجاب وإذا استُنصِرَ به نصر وإذا استُغِيثُ به أغاث وإذا استُفتِحَ به فتح من غير تأخير، وهذه هى ميزة الإسم الأعظم الذي يجب أن ننتبه إليها، فكل هذا يحدث بدون تأخير وإلا الله دائماً وأبداً إذا دُعيَ أجاب – لا إله إلا هو – ولكن على نحوٍ من أنحاء ثلاثة كما ورد عن رسول الله، أما الإسم الأعظم فتتم الاستجابة به من غير تأخير، أي في الحين والتو والساعة وفوراً، فتكون إجابة فورية، وهذه هى الميزة إذن!
يُقال أن هذا العبد هو آصف بن برخيا – عليه السلام – ويُقال أيضاً أنه سليمان نفسه – عليه السلام – علماً بأنني مُرتاح إلى هذا الرأي الأخير، فأنا أميل إلى أنه سليمان، وهذا ما رجَّحه الفخر الرزاي في التفسير الكبير – رحمة الله تعالى عليه – واستروح إليه بعض المُعاصِرين، أظن منهم العلَّامة العارف بالله الشيخ الشعراوي – رحمة الله تعالى عليه – لأنني على ما أذكر أنه استروح أيضاً إلى رأي الفخر الرازي، تقول الآية الكريمة قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ۩، فسليمان الآن وفقاً لهذا القول يُخاطِب مَن؟ العفريت، ليُظهِر مزية المُؤمِن العارف، فصحيح هو رسول ولكنه بشر إنسي وأنت جني عفريت وصاحب قدرة هائلة، لكنه يتفوَّق عليك بلطف الله وبكرامة الله كنبي ورسول وعارف بالله، فسليمان كان يُخاطِب العفريت وفقاً لما أتى في الآية التي تقول قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ ۩، أي في أقل من عُشر ثانية، لأن العين تطرف في عُشر ثانية، أي في واحد على عشرة من الثانية، فالعين تطرف في Decisecond، وهذه مسألة معروفة علمياً، لذا قال قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ ۩، فهل نجح في التحدي؟!
قال الله فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ ۩، فسليمان يقول هذا ما تفضَّل الله به علىّ وهذا ما أقدرني عليه القدير الخبير اللطيف – لا إله إلا هو – الوهَّاب الكريم.
فهذه القصة العجيبة مهَّد الله بها لمُعجِزة الإسراء والمعراج، فأنزلها الله قبل سورة بني إسرائيل – أي أنزلها قبل سورة الإسراء – في ترتيب النزول، لكن في ترتيب المُصحّف سورة الإسراء قبل سورة النمل، أما في ترتيب النزول سورة النمل قبلها بسورة لأن بينهما القصص، فهذه آية من آيات الله وعجيبة من عجائب الله مثلما حدث مع موسى وأخيه هارون – عليهما السلام – حين قال الله لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ۩، فالعصا تنقلب حية واليد البيضاء تشعشع بنورٍ إلهي في غير بهقٍ ولا برص، حيث أنه ضممها إلى إبطه ثم أخرجها وهى تتشعشع، ثم ضمها إليه فعادت كما كانت من غير برص كما قال الله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۩، فهاتان آيتان من آيات الله الكُبرى، فالله أراه من آياته الكُبرى ثم بعد ذلك جاء التكليف الغليظ الباهظ المُتمثِّل في قوله اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ۩ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ۩ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ۩ قَالَ لَا تَخَافَا إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى ۩ هذا تمهيد إذن، فالآيات الكُبرى جاءت تمهيداً للتكليف الباهظ الغليظ الثقيل الضخم الهائل، في سورة الشعراء فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ۩ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ۩، وهذا ما حدث مع النبي محمد عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وصحبه وأتباعه، قال الله لِنُريَه من آياتِنَا ۩ ثم كانت الهجرة حيث قال الله إِلاَّ تَنصُرُوهُ – هناك تقول الآية الكريمة قَالَ لَا تَخَافَا إنَّني مَعَكُمَا ۩ – فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ – فالله هو الذي ينصر العبدَ بالتجلي،لا بجيشٍ وعدد – إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ۩، وهناك تقول الآية الكريمة قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ۩، وتقول الآية الأُخرى أيضاً إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى ۩، فهذا هو نفس الشيئ إذن، فبعد الآيات الكُبرى تأتي النُصرة والمعية الخاصة لأولياء الله وأحبابه وخلصائه، تقول الآية الكريمة لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ۩، فهذا إذن تمهيدٌ مُقارِب أيضاً!
اختلف السادة العلماء قديماً وحديثاً من بدء عهد الصحابة في هل رأى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ربه ليلة المعراج إم لم يره، علماً بأن المسألة كبيرة وهائلة وخطيرة وشريفة، فهل رأى ربه؟ لأن الله تبارك وتعالى يقول لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى ۩، فإما أن تكون كلمة أو لفظة الكُبرَى ۩ صفةً للآيات، بمعنى لقد رأى آياتٍ من الآيات الكُبرى لله، فهناك آيات كُبرى رأى جماعةً منها أو رأى مجموعةً أو رأى عدداً منها، وإما تكون صفةً لمحذوف هو مفعول، بمعنى لقد رأى الآية الكبرى من آيات الله، وما هى أكبر آية إذن؟ قالوا ينبغي أن تكون أكبر آية هى رؤية الحق لا إله إلا هو، فالآية تحتمل هذا المعنى، وهذه عجائب القرآن الكريم، وقد اختلف في هذه المسألة الشريفة الصحابة أنفسهم، ففي صحيح البخاري عن أبي عائشةَ – التابعي الجليل الذي لُقِّبَ بأبي عائشة لأنه كان تلميذاً لأم المُؤمِنين عائشة رضوان الله عليها التي كانت تُقرِّبه وتحترمه ومن ثم تعلَّم منها الكثير – مسروق بن الأجدع الهمداني – رضوان الله تعالى عليه – أنه قال: دخلت على أم المُؤمِنين عائشة – رضى الله عنها – فقلت يا أمتاه هل رأى محمد ربه؟ أي ليلة الإسراء والمعراج، فقالت “لقد قف شعري مما قلت – أي أنها تقول أن شعر بدني وقف من عظم وجسارة وجرأة هذا السؤال وتعديه كل حد، فكيف تتجارأ وكيف تتجاسر على أن تطرح مثل هذا السؤال؟ كيف تقول هل رأى ربه؟ فهل لله جسم حتى يُرى؟ هل الله محدود حتى يُرى؟ – أين أنت من ثلاث مَن حدَّثكهن – أي من حدَّثك بهن – فقد كذب، مَن حدَّثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب”، ولعلها تُريد – وهذا الأرجح – فقد أخطأ، لأنها تعلم أن ابن أختها عروة بن الزبير يقول أنه رأى ربه وتعلم أن عبد الله بن عباس يقول أنه رآى ربه، ويُوجَد آخرون أيضاً قالوا بهذا، فهى تعلم هذا وتعلم أن لبن عباس كان يُقسِم أن محمداً رأى ربه، فما معنى كذب هنا؟ كذب هنا بمعنى أخطأ، فكذب في العربية تُطلَق بإزاء معنيين، فهناك الكذب الذي نعرفه وذلك إذا زوَّر وزيَّف وأخبر بخلاف الواقع والحق، وهناك كذب بمعنى أخطأ، كما قال النبي في الحديث الصحيح “كذب أبو السنابل”، أبو السنابل بن بعكك الذي قال لإحدى الصحابيات “لا يحين لكِ أن تنكحي الآن حتى تمر عليكِ أربعة أشهر وعشرة أيام” وقد تعلَّت من حملها ونفاسها، فقال لابد أن تعتدي بأبعد الأجلين، أي أربعة أشهر وعشرة أيام، فقال النبي “كذب أبو السنابل”، فما معنى أن أبا السنابل بن بعكك كذب؟!
أنه أخطأ ولم يُصب الحكم، لأن هذا الحكم غير صحيح، فينبغي أن تعتد بأول الأجلين، إن كان أول الأجلين أربعة أشهر وعشرة أو غير ذلك، فمسألة الأجلين خلافية على كل حال، لكن المُهِم هو أن النبي قال “كذب أبو السنابل”.
أبو طالب يقول “كذَبْتُمْ وبيتِ اللَّهِ نَتْركَ مكَّة ً”، فما معنى كذبتم هنا؟!
معنى كذبتم أخطأتم، فكلامكم غير صحيح ومن ثم لن نفعل لأنكم لم تُقدِّروا الأمور تقديراً صحيحاً.
فالكذب إذن يأتي بإزاء معنيين حتى نعرف العربية فلا يُقال لنا غير هذا، لأن بعض الناس لا يروقه من التراث إلا الأشياء التي يُستعان بها على قلة الأدب، بعض الناس من طلَّاب العلم الذين يدّعون العلم والمشيخة يُحِبون الأشياء مثل هذه التي يعتقدون أنها تُعينهم على قلة أدبهم، فيقول الواحد منهم “حتى الصحابة كذَّب بعضهم بعضاً، والإمام أحمد قال هذا عندي مثل البعر”، فهم – سبحان الله – يأتون بهذه الأشياء ويجمعونها فلا تسمع منهم إلا كل قبيح، ثم يجعلون هذا سُنة السلف ويقولون لك هذا هو السلف، لكن هذه ليس من السلف وإنما هو الذي أُوتيَ من جهله ووهمه على السلف وكذبه عليهم.
إذن كذب بمعنى أخطأ في قول السيدة عائشة “أين أنت من ثلاث مَن حدَّثكهن فقد كذب، مَن حدَّثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب”، ثم قرأت قول الله تعالى في سورة الأنعام لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، فهى ذكرت هذه الآية ثم اقتبست قوله تبارك وتعالى في آخر الشورى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۩، والقرآن واضح جداً، فأين الرؤية إذن؟ لا يُوجَد رؤية، الله يقول لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ۩، وقالت السيدة عائشة “مَن حدَّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب”، وقال الله – تبارك وتعالى – في آخر لقمان وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۩، فالغيب لا يعلمه إلا الله.
قالت السيدة عائشة “ومَن حدَّثك أنه – تعني الرسول صلوات ربي وتسليماته عليه – كتم فقد كذب”، أي أن مَن حدَّثك أن محمداً كتم شيئاً من الدين أو الرسالة فقد كذب، مثل بعض الفرق الباطنية الضالة الزائفة الذين يزعمون أن محمداً ما بلَّغ الرسالة كلها، وإنما بلَّغ أشياء وغضَّ عن أشياء وسكت عن أشياء، وهذا غير صحيح، حاشاه وكلا!
قالت السيدة عائشة “قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩، أي أنها قالت “محمد لم يكتم شيئاً من الإسلام”وصدقت!
أما ابن عباس فكان يُؤكِّد أن محمداً رأى ربه ويُقسِم على هذا ويحلف ويتأوَّل، فالمسألة اجتهادية لأنها ليست ضمن نص قاطع، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن مسألة الرؤية هنا ليس فيها نصٌ قاطع لا من كتاب ولا من سُنة، ولذلك كانت ساحةً وباحةً للاجتهاد، فاجتهدوا واختلفوا، مثل الإمام الزهري وابن سيرين والحسن البصري الذي كان يُقسِم على هذا، وكذلك كعب بن الأحبار كان يُقسِم على هذا، وقد لقيَ مرةً ابن عباس فسأله فأجابه فقال له ابن عباس “إنا بني هاشم – للأسف في الكتب “إن بنو” وهذا خطأ في العربية لأن يجب أن يُكتَب “إن بني” فهى منصوبة على التخصيص – نقول نا محمداً رأى ربه”، إي ليلة المعراج، فكبَّر كعب الأحبار وقال “لقد قسم الله الكلامَ والرؤيةَ، فكلَّم موسى مرتين، ورأى محمد ربه مرتين”، قال الله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى ۩، أما ابن عباس – رضوان الله تعالى عليهما وعنهما – فتأوَّل قوله تبارك وتعالى لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ۩، لكن كيف هذا؟!
الإدراك هو الإحاطة، فالله – لا إله إلا هو – لا يُحاط به، قال الله وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ۩، وقال أيضاً وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ۩، فالله لا يُحاط به أبداً، فهو يُحيط بكل شيئ ولا يُحاط به، ولكن نفي الإحاطة لا يستلزم بالضرورة نفي الرؤية، ومن هنا سُئل ابن عباس مرة عن هذه الآية: أنت تقول محمد رأى ربه، فأين أنت من قوله لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ۩؟ فقال هل ترى السماء؟ قال نعم، فقال هل تدركها؟ قال لا، حسبي.
أي أنه يقصد أنه فهم وأن قول ابن عباس كان صحيحاً، فنحن نرى السماء ولا نُدرِكها ولا نُحيط بها لأنها أكبر، وهذه السماء مخلوقة فكيف برب الأرض والسماوات؟ فكان رأيه أن الله يُرى دون أن يُدرَك، إذن أنا لم أُصادِم الآية، علماً بأن الإمام النووي مع عبد الله بن عباس، لأنه أشعري رضوان الله تعالى عليه، فهو شافعي أشعري، والإمام أبو الحسن الأشعري وأغلب أتباعه على إثبات الرؤية، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل على إثبات الرؤية وكثيرٌ من أتباعه.
ولما سُئل ماذا نفعل بقول عائشة وهى أم المُؤمِنين؟ أي هل أكبر من قولها؟ قال نرد قولها بقول رسول – الله صلى الله عليه وسلم – رأيت ربي، فقوله أكبر من قولها.
وطبعاً الإمام النووي – رضوان الله تعالى عليه – تأوَّل كابن عباس وردَّ على عائشة بلطف وأدب طبعاً يليق بالأئمة العظام الجلة من أمثاله بأن عائشةَ اجتهدت في المسألة وتأوَّلت ولكن ليس بين يديها نص عن رسول الله في نفي الرؤية، فهى لم تُخبر أنه قال أنا لم أر ربي، وإنما تأوَّلت الآيات وفهمت منها أن الله لا يُرى، فقد قال الله لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ۩ وقال أيضاً وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ ۩، وهذا وهمٌ عجيب من النووي لم أُنبِّه عليه أنا بل نبَّه عليه الحافظ ابن حجر، وجدير بأي إنسان مُتيقِّظ أن يتنبَّه لهذا الوهم، ولذلك لا يُوجَد إنسان معصوم إلا المعصوم، لا النووي ولا ابن حجر ولا ابن تيمية ولا أحد، فكل العلماء يغلطون وكل العلماء يُخطئون، ولكن أخطاؤهم قليلة في شمس صواباتهم، فلهم صوابات كثيرة جداً ولكنهم يُخطئون، ولابد أن يُخطئون لأنهم ليسوا معصومين، فالنووي قال هذا في شرحه على مسلم “المنهاج”.
في صحيح مسلم نفسه أن عائشة حين سألها مسروق ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَة أُخْرَى ۩ – لأن واضح من قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَة أُخْرَى ۩ أنه رأى ربه، وهكذا يفهم ابن عباس وآخرون – قالت: كنتُ أول الأمة سؤالاً عن هذه الآية – أي أنني سألت الرسول – فقال “لم أر ربي – وهذا صُرِّحَ به في رواية أبي بكر بن مردويه لكن الأصل في الصحيح لأن هذا موجود صحيح مسلم، وعلى كل حال هو نفى هذا – إنما رأيت جبريل مُنهبِطاً”.
وهذا في الصحيح لكن النووي غفل عنه وقال “عائشة ليس عندها نص”، وهذا غير صحيح لأن عندها نص، لكن – سبحان الله – العالم حتى حين يشرح وحين يتكلَّم لا يستحضر كل ما قرأ، بل ينسى دائماً هذه الأشياء، ثم أنه بعد شهر أو بعد شهرين قد يشرح حديثاً آخراً وينسى ماذا كتب عند شرح الحديث الأول، بل ربما نسيَ ما قاله بعد يوم أو أقل حتى، وهكذا لأن هذا هو الإنسان.
حدَّثني أحد طلَّاب العلم قبل فترة قائلاً “هناك أمرٌ عجب، فعلاً ربي وحده الذي لا ينسى كما قال لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ۩، فقلت لماذا؟ قال “رأيت كتاباً في معرضٍ للكتب فأحببته جداً وكنت حريصاً على اقتنائه، فدفعت ثمنه وأخذته إلى البيت فرحاً به، فإذا بالكتاب في مكتبتي، فتصفحته فإذا به مقروءاً، فقد قرأته وعلَّقت عليه، ولكننيلا أذكر أنني قرأته ولا أذكر ماذا علَّقت ولا أذكر شيئاً عن الكتاب”، فالإنسان فعلاً ينسى، قد ينسى كتاباً ربما قرأه في يوم أو في يومين أو في ثلاثة أيام وقد علَّق عليه واستفاد، فهو ينسى كل شيئ، وهذا أيضاً يحدث للعلماء، فالعالم ليس نبياً والعالم ليس ملكاً ولذلك يُخطيء ويغلط ويغفل.
هذا هو، فالنووي يُنكِر أن بين يديها نصاً وفي الحقيقة النصُ بين يديها، وعلى كل حال الحافظ ابن حجر – رضوان الله تعالى عليه – استطاع كغيره من العلماء أن يجمع بين القولين، ويُمكِن الجمع بينهما – الجمع بين قول مَن أثبت وقول مَن نفى – طبعاً، فعائشة نفت، وابن عباس وأشياعه أثبتوا، ولكن كيف هذا؟!
الذين أثبتوا يُقال أنهم أرادوا رؤية القلب وليس رؤية العين الفانية، فالفاني لا يرى الباقي، أما أننا على اعتقاد أهل السُنة والجماعة نراه – إن شاء الله تعالى – يوم القيامة فذلك لأننا باقون حيث لا موت، وفي الحديث الشريف يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، فتُصبِح الأعين والحواس لدينا باقية، فالباقي مُهيّأ بلطف الله وكرامته أن يرى الباقي، أما الفاني الذي يأكله الدود فلا، فالفاني لا يرى الباقي، ومن ثم مُستحيل أن يُرى بالبصر في الدنيا، وهذا مُستحيل حتى في حق رسول الله، ولكن يُمكِن ذلك بالفؤاد، وهذا ما صُرِّحَ به في سورة النجم، قال الله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ۩، فإن قلنا أنها رؤية فؤادية – أي بالفؤاد – قلبية فلا بأس، وهى غير العلم، فالعلم حاصل عنده ويقِنٌ في قلبه، لكن هذا شيئ زاد على ضروريات العلم الذي مثله عندنا جميعاً أو قريب منه أو من جنسه، إذن الذي نفى نفى الرؤية البصرية ولم ينف القلبية، لم يُذكَر عنها هذا نصاً، والذي أثبت أثبت القلبية ولم يُثبِت البصرية، إذن انفكت الجهة كما يقول المناطقة ولا تناقض بين الأمرين.
نعود وقد بقيَ لدينا قليل من الوقت لكي نُجيب على كلمة في الآية التي تقول سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ۩، فلماذا قال الله لَيْلًا ۩؟ ما موقع هذه الكلمة الكريمة؟ ولماذا أُوتيَ بها هنا رغم أن الإسراءُ لا يكون إلا ليلاً؟ فلماذا يقول سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ۩ والإسراءُ لا يكون إلا ليلاً؟ لماذا لَيْلًا ۩ مرة أخرى إذن؟
ليس في القرآن حشوٌ، ليس في القرآن زيادات لا موقع لها أبداً، لأنه مُحكَم ومُفصَّل، قال الله كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ۩، وهنا أهل البلاغة وعلماء البيان يُسعِفوننا بالجواب، ومَن لديه الذائقة في العربية على طريقة السليقة القحة يعرف موقع هذه الكلمة ويستطيع أن يفهم، فحين تسمع قول الله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ۩ تفهم أن ذلكم تم في جزءٍ من الليل وليس في الليل بطوله، وإنما في جزء من الليل، فلو قال الله “سبحان الذي أسره بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى” لقلنا سرى الليل بطوله، وربما كان بداية السُرى في هذا الليل ثم امتدت الرحلة إلى ما بعد ذلك فاستغرقت نهاراً وربما ليلاً آخر وهكذا، فلا ندري لأن قد يقع هذا في وهم واهم أو في خاطر خاطر، لكن الله لم يقل هذا وإنما قال لَيْلًا ۩، أي في جزء من الليل، وهذا ما وقع، فالنبي ذهب وعاد وفراشه كان لايزال دفيئاً، أي أن المسألة استغرقت دقائق أو ثوانٍ، لا ندري تحديداً، وهذا شيئ عجيب.
وأنا سأقول لكم والله تبارك وتعالى أعلم – هو عنده وله العلم والحكم كله وحده لا إله إلا هو – أن ربما هذه الدقائق – أربع دقائق أو ثلاث دقائق أو خمس دقائق – التي انقضت إنما كانت في خروج الرسول وانسلاله من فراشه وتوجهه إلى أمام بيته وامتطائه البراق ثم بعد ذلك في نزوله وعودته، أما الرحلتان – الإسراء والمعراج – فربما تمتا لحظياً في لا زمن، ولكن كيف هذا؟ هل هذا مُمكِن؟ بقدرة الله مُمكِن جداً، هل هذا مُمكِن فلسفياً؟ نعم مُمكِن، هل هذا مُمكِن عقلياً؟ نعم مُمكِن وليس مُستحيلاً، هل هذا مُمكِن علمياً؟ نظرياً نعم أم فنياً لا، لأن فنياً حتى الآن لا يُوجَد سفر لحظي في الزمان.
تحدَّثت أكثر من مرة عن الزمن، لأن الحديث عن الزمن وعجائب الزمن من الأحاديث القليلة التي تلذ وتشوق، أنا شخصياً تلذني جداً وتُقرِّبني من الله ومن قدراته – لا إله إلا هو – ومن طلاقة قدرته ومشيئته، فمن خلاله نستطيع أن نفهم أشياء لا نستطيع أن نفهمها بالعقل العادي الحسي – كما قلنا – المُنجحِر والمُنطمِر في مطمورة الزمان والحدود.
في خُطبة ربما قبل أشهر يسيرة حدَّثتكم عن تفسير قوله تبارك وتعالى وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ ۩، فالله يقول هنا أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ ۩ وهناك قال وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ۩، واليوم استمعتم إلى أن لمح البصر يتم في عُشر ثانية، فهذا هو لمح البصر، لكن هل من المُمكِن أن تتم أحداث في واحدة على المائة من الثانية؟ نعم، مثل الطائر الطنان أوالعصفور الطنان الذي يعيش في الغابات المطيرة، يخفق خفقة بجناحيه في واحد على مائة من الثانية، أي أنه يستطيع أن يخفق في الثانية الواحدة مائة خفقة، ففي الوقت الذي تقول فيه أنت “الله” يكون قد خفق هذا الطائر مائة مرة بجناحيه في الثانية الواحدة، وهذا شيئ عجيب، فما هذه الأعصاب لدى هذا الطائر؟ كيف زوَّده الله بهذه الأعصاب والقدرة؟ هذا شيئ عجيب، علماً بأنه طائر صغير الحجم، يملأ الكف أو لا يكاد يملأها من صغر حجمه، لكنه يستطيع أن يفعل هذا في واحد على مائة من الثانية!
وهناك أحداث تقع في واحد على الألف من الثانية،
وانظر لبرق الكاميرا Camera أي فلاش Flash أو Blitz الكاميرا Camera حين يشتعل ويطفئ، فإنه يفعل هذا في كم؟ يفعل هذا في واحد على ألف من الثانية طبعاً، يعني واحد ملي ثانية، أي أنه يفعل هذا في ملي ثانية!
بعد أن تحدَّثنا عن الواحد على عشرة والواحد على مائة والواحد على ألف نُريد أن ننتقل إلى الميكرو ثانية Micro Second، أي إلى الواحد على مليون، أي عشرة أس ناقص ستة Second، يعني واحد على عشرة أس ستة من الثانية، أي واحد على مليون من الثانية، فهل هناك أشياء تقع في واحد على مليون من الثانية؟ طبعاً، يُوجَد هذا في الأعصاب، فحين تلدعك نار مُباشَرةً تُوجِّه الأعصاب رسالة إلى الدماغ تُفيد بأن النار لدعتني في واحد على مليون من الثانية، وهذا معروف في الفسيولوجي Physiology أو في علم وظائف الأعضاء، والذين يقرأون في الطب ويعرفون المشابك Synapses يعرفون كيف تتم هذه العملية المُعقَّدة جداً، فهذه أشياء عجيبة ولا تُصدَّق لكنها موجودة في علم وظائف الأعضاء.
إذن هذا يحدث في واحد على مليون من الثانية، وهناك ما يحدث في واحد على مليار، أي النانو سكند Nano Second، فهل تسمعون عن النانو Nano؟!
هناك أشياء تقع في الميكرو Micro وفي النانو Nano، أي في عشرة أس ناقص تسعة Second، فهذا هو النانو Nano، وهناك البيكو Pico، وو عشرة أس ناقص إثني عشر، أي واحد على تريليون من الثانية، فهذا هو البيكو Pico وهذا هو النانو Nano، والنانو Nano كما قلنا واحد على مليار، أي عشرة أس ناقص تسعة، المُهِم أن هناك أشياء تتم في هذا الوقت، فهل تعرفون ما هى هذه الأشياء؟!
العمليات في الحاسوب – في الكمبيوتر Computer – تتم في النانو سكند Nano Second طبعاً، وإلا كيف هذا يتم؟ هذا شيئ رهيب رغم أن كل هذه الأشياء بشرية.
فالآن يُوجَد واحد على بيكو Pico أو البيكو ثانية Picosecond، والبيكو ثانية Picosecond عشرة أس ناقص إثني عشر، أي تريليون.
قسِّم الثانية الواحدة أو قسِّم الوقت الذي تقول فيه كلمة “الله” إلى تريليون جزء، أي إلى ألف مليار جزء، علماً بأن المليار عشرة أس تسعة، فلك أن تتخيَّل معنى الألف مليار، ثم لك أن تتخيَّل معنى عشرة أس ناقص إثني عشر، فهذا إسمه البيكو ثانية Picosecond.
الروابط التي في جُزيء الماء – يد 2 أ أو H2O – تتفكَّك وتتراكب في ثلاثة أجزاء من البيكو ثانية Picosecond، وهذا معروف لمَن درسوا الكيمياء Chemistry، فهذا يحدث في ثلاثة أجزاء من البيكو ثانية Picosecond!
ثم أن بعد البيكو ثانية Picosecond يُوجَد الفيمتو ثانية Femtosecond، فهناك البيكو Pico وهناك الفيمتو Femto، وهذه التي تبغ فيها طبعاً العلَّامة المصري الكبير أحمد زويل وحصل بسببها على جائزة نوبل Nobel في الكيمياء Chemistry، والفيمتو ثانية Femtosecond هى عشرة أس ناقص خمسة عشر من الثانية، وهذا إذا قسَّمنا الثانية إلى ألف تريليون جزء، أي قسِّم التريليون – الألف مليار – إلى ألف تريليون، وهذا شيئ لا يُصدَّق ويُصدِّع الدماغ تماماً، وهذا ليس مُجرَّد كلام كما قد يعتقد البعض، فالحياة تتم هكذا، وهذا يحدث في جسمك وفي النباتات وفي الحيوانات، فالعمليات الحيوية كلها والكيمياوية هذه تتم في الفيمتو ثانية Femtosecond، أي أنها تتم في جزء من ألف تريليون جزء من الثانية، يعني في عشرة أس ناقص خمسة عشر Second، فهذا معنى جزء من ألف تريليون جزء من الثانية،
كثَّر الله زواويلنا إن شاء الله لأنه أنشأ لنا مدينة علمية، وهذا أجمل شيئ عمله حقيقة، ومن ثم سوف نرى عطاءات مصر في العالم الإسلامي بعد ذلك، وسوف نرى العبقرية العربية والمصرية بالذات بعد ذلك، فأحمد زويل ظل يُقبِّل إيدي مُبارَك لمدة سنوات من أجل أن يخدم مصر ومن أجل أن يخدم الأمة لكنه كان لا يُريد ذلك، هو أصلاً غير مُتفرِّغ له، هو مُتفرِّغ فقط لارتداء البدل التي كُتِبَ عليها حسني مُبارَك، لكنه لا يُريد أن يفعل أي شيئ لأمته، وبعد أن ذهب فعلها زويل – الحمد لله – في أول شهر، حيث تمت الموافقة وحصل على الدعم ولم يبق إلا أن يعمل، هذا هو العبقري أحمد زويل، هو أينشتاين Einstein العرب، أدامه الله وحفظه وكثَّر في الأمة من أمثاله حقيقةً!
زويل نجح في تصوير هذه العمليات الكيمياوية بكاميرا Camera ليزرية – نسبة إلى الليزر Laser – خاصة وبلغة عبقرية جداً، فتُصوِّر العمليات الكيمياوية والحيوية في فيمتو ثانية Femtosecond، أي في جزء من ألف تريليون جزء من الثانية، وذلك لأن العمليات الكيمياوية والحيوية تتم فعلاً في فيمتو ثانية Femtosecond.
يا الله، وهذه العمليات كلها طبعاً تُدار بحرفي كُنْ ۩، فالذي يُديرها هو رب العالمين لا إله إلاهو، فهذا كله يجري بـ كُنْ فَيَكُونُ ۩، فالله لا يعُطي الأوامر لك فقط لكي تجلس – مثلاً – أو لكي تتربَّع أو لكي تضع رجلاً على رجل أو لكي تكلَّم أو لكي ترفع إيدك، وإنما يُعطي الأوامر أيضاً للجزيئات وللذرات وللإلكترونات Electrons وللبروتونات Protons ولأي شيئ، مثل تفكَّك أو تركَّب أو اذهب أو تعال أو غير ذلك، ولكن هذا يحدث في كم؟ في الفيمتو ثانية Femtosecond!
ويُوجَد عندنا أيضاً الأتو ثانية Attosecond، والأتو ثانية Attosecond يُساوي عشرة أس ناقص ثمانية عشر، ولك أن تتخيَّل هذا، يعني جزء من مليار تريليون جزء، يعني إذا قسَّمنا الثانية إلى تريليون مليار مرة سيكون لدينا الأتو ثانية Attosecond، لأن الأتو ثانية Attosecond عشرة أس ناقص ثمانية عشر.
ثم أن هناك الزيبتو ثانية Zeptosecond، والزيبتو ثانية Zeptosecondهى عشرة أس ناقص واحد وعشرين، وسيكون عندنا أيضاً في نهاية المطاف عشرة أس ناقص أربعة وعشرين، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، وهذا أمر غير معقول، لكن هكذا يُدار الكون في هذه الأجزاء الدقيقة جداً جداً جداً التي لا يُمكِن للعقل أن يتخيِّلها، لكن هل هذه العملية تمتد إلى ما لا نهاية؟ العلم يقول لا، عملية انقسام الزمن – علمياً وليس فلسفياً – لا تمتد إلى ما لا نهاية، لكن لماذا لا تمتد إلى ما لا نهاية؟ في ذكاء هنا، هذا في نهاية المطاف سوف يُوصِلنا إلى قاع مفهوم الزمن علمياً وفيزيائياً، فما هو الزمن في علم الطبيعة بالضبط؟ علماً بأن العلماء – علماء الطبيعة – يُفكِّرون على هذا النحو الذكي جداً، فأنتم الآن تركبون الطائرات وتُشاهِدون الفيديو Video والتلفيزيون Television والستالايت Satellite والمحمول، وهذا كله بفضل علماء الطبيعة وأفكارهم ومبادئهم العبقرية ورسالاتهم العجيبة المُدهِشة، فحتى الصوت الذي تسمعونه مُكبَّراً الآن من الميكروفون Microphone يخرج هكذا بفضل علماء الطبيعة، فهؤلاء العلماء عباقرة وهم نعمة هم وأمثالهم في كل العلوم على البشرية.
هؤلاء العلماء قالوا أرادوا أن يروا أقل بُعد عندنا، أي أقل بُعد يتعلَّق بالجُسيمات – Particles – والدقائق الذرية، فقالوا أن أقل بُعد هو عشرة أس ناقص خمسة عشر متر، علماً بأن المتر يُساوي مائة سم، أي عشرة أس ناقص سبعة عشر سم، لكن سنتحدَّق الآن عن عشرة أس ناقص خمسة عشر متر لأن هذا هو قطر الإلكترون Electron أو قطر البروتون Proton في الذرة الواحدة، ورأس الدبوس يحتوي على تريليون ذرة – أي على ألف مليار ذرة – في الفيزياء، ورأس الدبوس هذا الذي تراه كبيراً بالميكروسكوب Microscope إلى حدٍ ما هو نُقطة صغيرة جداً جداً جداً بل هو أقل من نُقطة قلم ومع ذلم هذا الرأس يحتوي على تريليون ذرة، أي على ألف مليار ذرة، يا الله، وفي كل ذرة بحسب نوعيتها يُوجَد إلكترونات Electrons ويُوجَد بروتونات Protons، لكن عموماً كل بروتون Proton يُقابِله إلكترون Electron، وهذا الإلكترون Electron أو البروتون Proton قطره من عيار عشرة أس ناقص خمسة عشر، يعني جزء من ألف تريليون جزء من المتر، قسِّم المتر إلى ألف تريليون جزء لكي تحصل على هذا الجزاء، علماً بأن التريليون ألف مليار، يعني جزء من ألف تريليون جزء هو قطر الإلكترون Electron أو قطر البروتون Proton، أي عشرة أس ناقص خمسة عشر.
نأتي الآن إلى أكبر سرعة نعرفها إلى الآن وهى سرعة الضوء، فأعظم سرعة هى سرعة الضوء، لكن الضوء الآن يقطع قطر الإلكترون Electron في كم؟!
هذه عملية سهلة الحساب، سوف نقسم عشرة أس ناقص خمسة عشر على سرعة الضوء، أي على ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، ثم نُحوِّلها لمتر فيكون الناتج عشرة تقريباً أس ناقص ثلاثة وعشرين Second في نهاية المطاف، يعني جزء من مائة زيبتو Zepto من الثانية، فالضوء يقطع قطر الإلكترون Electron أو البروتون Proton في جزء من مائة زيبتو Zepto – علماً بأننا علمنا أن الزيبتو Zepto تُساوي عشرة أس ناقص واحد وعشرين – من الثانية، أي في عشرة تقريباً أس ناقص ثلاثة وعشرين، وهذا يُسمى في العلم الكرونون Chronon، وهذا يحدث عملياً كما قال العلماء طبعاً!
هل هناك شيئ أصغر أو أقصر من عشرة أس ناقص خمسة عشر متر وهو قطر الإلكترون Electron وقطر البروتون Proton؟!
هم قالوا الثوابت في الطبيعة معروفة مثل الجاذبية وسرعة الضوء وثابت بلانك Planck، فنحن عندنا ثوابت مُعيَّنة ومن ثم لابد أن نُؤسِّس لعلاقة بينها، فتحدَّثوا عن الطول – الـ ℓ أو الـ Length الذي أسموه فيما بعد بطول بلانك Planck’s Length، وقالوا أن هذا الطول – الـ ℓ – يُساوي الجذر التربيعي لثابت الجاذبية ضرب ثابت بلانك Planck – الـ H – على مُكعَّب سرعة الضوء، فيكون الناتج عندنا عشرة أس ناقص أربعة وثلاثين متر.
هذا إسمه طول بلانك Planck’s Length، وهو أصغر طول مُمكِن تسمح به الطبيعة، وهو غيموجود الآن لكنه أصغر شيئ من المُمكِن أن يُخلَق أو أن يُوجَد، وهذا طبعاً يدل على عظم قول علماء الفيزياء!
قالوا هذا جميل جداً، سوف نجعل الضوء الآن يقطع طول بلانك Planck، وسوف نُقسِّم عشرة أس ناقص أربعة وثلاثين متر على سرعة الضوء بالمتر، ومن ثم سيكون الناتج عندك هو عشرة أس ناقص ثلاثة وأربعين Second، وهذا الزمن إسمه زمن بلانك Planck Time، وهو أصغر زمن مُمكِن للعقل البشري أن يتوصَّل إليه حتى الآن، فلا يُمكِن أن يُوجَد ما هو أصغر منه أبداً، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فأنت من المُمكِن أن تأتي برقم عشرة أس ناقص ثلاثمائة وخمسين ثم تُقسِّمه على سرعة الضوء وتضربها في نفسه وإلى آخره لكن كل هذا لن يكون موجوداً في الطبيعة، لأن أصغر شيئ يُمكِن أن يُوجَد في الطبيعة وفي الكون هو هذا الزمن الذي يُسمى بزمن بلانك Planck Time، علماً بأنكم تستطيعون أن تحسبوا الناتج الذي يُساوي عشرة أس ناقص ثلاثة وأربعين Second بسهولة.
الآن السؤال العجيب جداً هو: إذا كان الله – تبارك وتعالى – ويُدير خلقه ويُدير مملكته في حدود زمن بلانك Planck Time فماذا يُمكِن للعقل أن يقول هنا؟!
إذن الله يُدير الكون لحظياً في لا زمن، علماً بأن هذه مُقدِّمة للشيئ الذي أُريد أن أصل بكم إليه، فحاولوا أن تُركِّزوا قليلاً لأن هذا الحديث صعب نوعاً ما ولكن في نهاية المطاف سوف تفهمون – إن شاء الله – شيئاً جميل جداً جداً جداً.
سبق وقلت لكم مرة أنني الآن أنا حين أراكم أو أنتم ترونني أو ترون بعضكم البعض فإنكم تُؤكِّدون على أننا نرى أنفسنا لحظياً، فأنا أرى أخي الكريم في نفس اللحظة التي أرى فيها أخي الآخر، ولكن فيزيائياً من المُفترَض أن أرى الشخص الأقرب قبل أن أرى الشخص الأبعد لأنني أراه بواسطة الضوء المُقبِل منه والساقط على شبكية عيني والمُختفياً في دماغي، والضوء ليس سرعة مُطلَقة بل أن سرعته في نهاية المطاف مُحدَّدة، فهى تُقدَّر بثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، لذلك ينبغي نظرياً أن أرى الأقرب قبل الأبعد ولو كان أبعد بنصف متر أو بثلاثين سم، لكن المُشكِلة هى أن عيني لا تستطيع أن تتعاطى مع هذه الظروف الضئيلة جداً، فأرى الشخص الأقرب وأرى الذي يبعد حتى ولو لمسافة ألف متر في نفس اللحظة، لأن العين لا تستطيع إلا أن تكون هكذا، والسؤال الآن: ماذا سيحصل لو أن الله – تبارك وتعالى – زوَّدنا بعين عندها القدرة على أن تستوعب هذا وبدماغ لديه القدرة على أن يُترجِم هذه الفروقات الضئيلة؟!
سيحصل أننا سنراكم أو كل منا سيرى إخوانه في أوقات غير مُتزامِنة، أي في أوقات مُتعاقِبة، فأنا – مثلاً – سوف أرى الأقرب أولاً، ثم في جزء من التريليون جزء من الثانية سوف أرى الأبعد وهكذا، أي أنني سوف أرى مشهداً مُتقطِّعاً.
هذا هو إذن، فالأمور ليست هكذا بالمُطلَق، وإنما الأمور مُنسَّبة ومشروطة ومضبوطة بظروفها، وقلت لك مرة أنك حين تُلقي نظرة على نجم يبتعد عنا سنة ضوئية فأنت لا يُمكِن لك أن تراه، فمن المُستحيل أن ترى النجم نفسه، ولكنك سوف ترى صورته قبل سنة، وهكذا دائماً مهما أوتيت من رغبة ومن قوة ومهما دعوت الله لن تستطيع أن ترى النجم نفسه، محكوم عليك أن ترى صورته، لأن الرؤية – كما قلنا – مشروطة بالضوء، فالضوء حين يصل ويقع على الشبكية نستطيع أن نرى النجم، والضوء هذا يأتي من مسافة سنة، أي أن الضوء سيظل يجري لمدة سنة، ثم يأتي لنا بعد مرور هذه السنة، وبالتالي لن نرى النجم نفسه.
هناك أشياء في الكون تبعد عنا ليس فقط سنة وإنما بليون سنة، بل أن على حافة الكون إذا كنا نحن في المركز أشياء تبعد 13,7 بليون سنة، فإذا أمكن لك أن ترى هذه الأشياء بالتلسكوب Telescope في يوم من الأيام فإنك سوف ترى شيئاً على مبعدة – مثلاً – سبعة بليون سنة لكن عليك أن تتأكد من أنك ترى ماضي هذا الشيئ، أي ترى الشيئ قبل سبعة بليون سنة، فأنت لا ترى هذا الشيئ الآن وإنما ترى صورته قبل سبعة بليون، لأنك لا يُمكِن أن ترى الآني حتى ولو لم يرق لك هذا الماضي، فهذا مُستحيل ولا يُمكِن أن يحدث، فإذا أردت أن نرى الآني الآن عليك أن تنتظر سبعة بليون سنة أخرى لتراه كيف كان الآن، ولكن هذا بعد سبعة بليون سنة يا صاحب العمر الطويل، إفذا عشت سبعة بليون سنة سوف تستطيع أن ترى ما يحدث الآن.
هذا جميل جداً، فلو حَدَثَ حدث في نجم أو كوكب يبعد عنا مليون سنة فإننا سوف نراه بعد مليون سنة، فلو انفجر نجم – مثلاً – الآن ينبغي علينا أن نعلم أن هذا لم ينفجر الآن وإنما انفجر قبل مليون سنة، ولو اقترب أحدهم من هذا النجم مائة سنة فإنه سيراه بعد وقوع الحادث بمائة سنة فقط، أي قبلنا بمليون سنة ناقص مائة فقط، أي بمليون سنة إلا مائة تقريباً، وهذا كثيرٌ جداً، لكن لو اقترب أحدهم من هذا الكوكب أو النجم بسنة واحدة فإنه سوف يراه بعد سنة، أما لو عاش عليه أحدهم فأنه سوف يراه تقريباً لحظياً، أي بعد كسور من الثانية، وهذا جميل لكن علينا أن ننتبه إلى أن الحدث واحد، لكن أحدهم رآه في نفس اللحظة تقريباً، وأحدهم رآه بعد سنة، وأحدهم رآه بعد مليون سنة، وأحدهم رآه بعد سبعة بليون سنة أو حتى أربعة عشر بليون سنة لأنه على حافة الكون، والحدثٌ – كما قلنا – واحد، فهذا مُمكِنٌ جداً.
الآن نقفز إلى القفزة الهائلة: كيف يرى رب العالمين – لا إله إلا هو – هذه الأحداث وهو غير مُقيَّد لا بزمان ولا بمكان؟!
الله لا يُوجَد لديه زمن، ليس عنده ماضٍ أو حاضر أو مُستقبَل، فلا يُوجَد علاقة مكانية تحكم عليه وتحكمه كالعلاقة بينه وبين الكون والأشياء، حاشا لله، فلا تقل لي
أن الله أبعد أو أن الله أقرب، والقرآن أكَّد هذا حين قال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۩ وحين قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، فضلاً عن أن الله قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۩ وقال أيضاً فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ ۩، وقال النبي “إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى”، وقال النبي أيضاً “أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ”، فضلاً عن أنه قال “والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”.
سوف أُقرِّب لكم هذا وقد أطلت عليكم لكن أنا أعتقد أن هذه الفوائد في قمة الأهمية للمُؤمِن وللمُفكِّر وللفيلسوف:
الآن هذا المُسطَّح ثنائي الأبعاد – مثل الورقة أو مثل كف اليد – تعيش عليه كائنات محكومة ببُعدين فقط، فهى لا تعرف البُعد الثالث والعمق الفضائي، ونحن الآن نعيش في عالم بأبعاد ثلاثة – الطول والعرض وفي العمق – لكن هم يعيشون في بُعدين فقط ومن ثم نحن نستطيع أن نتحكَّم في مَن يعيش في بُعدين بسهولة، فلو رسمنا الآن مُربَّعاً فإن أضلاع هذا المُربَّع سوف تكون بالنسبة لمَن يعيش داخل المُربَّع هى الجدران والحوائط Walls، ومن ثم لا يُمكِن لهذه الكائنات المسكينة أن تخرج لأنها تعتقد أن هناك حائط كبير لا تقدر على أن تتجاوزه، لكن أنت تستطيع أن تُدخِل يدك مُباشَرةً من غير أن تأتي عبر الحائط وأن تُخرِجها، ولو كان لهذا المُثلَّث قلب – وهو ليس له قلب لأنه في عالم ثنائي – فإنك تستطيع أن تدخل في قلبه مُباشَرةً بدون أن تشق جلده، وجلده في هذه الحالة هو ضلوع المثلَّث، لكن هو سوف يُصاب بالجنون لأنه لن يرى أصبعك وإنما سوف يرى فقط النُقطة ذات البُعدين التي تُلامِس عالمه ثنائي الأبعاد وسوف يقول: كيف دخل هذا إلى قلبي؟ مَن الذي يستطيع أن يدخل إلىّ بدون أن يشق جلدي؟ لقد دخل علىّ في الحصن الخاص بدون أن يدخل من الحائط، فما هذا؟
لكن أنت فعلت هذا لأنك في عالم ثلاثي، والآن لو افترضنا أن هناك كائنات تعيش في عالم رباعي الأبعاد – مثل الجن أو الملائكة مثلاً – فإنها سوف تستطيع أن تفعل بنا ومعنا ما نفعله في عالم ثنائي الأبعاد، فسوف يستطيع الملك – مثلاً – أن يدخل يده في جيبك أو في قلبك، وهذا يُشبِه حادثة شق الصدر بالضبط طبعاً، فحادثة شق الصدر يُشبِه ما يُمكِن أن يحصل لك في عالم ثلاثي الأبعاد بدون أن يُشَق الجلد أو أن ينهار السقف أو الحيط عليك، فأنت سوف تراه في عالمك لحظياً وانتهى كل شيئ، وسوف تراه على أنه ثلاثي الأبعاد مثلك في حين أنه في حقيقة الأمر رباعي، لكن من المُستحيبل أن تراه على أنه مُربَّع الأبعاد.
هذا المفهوم مُعقَّد، لكن على كل حال لو وُجِدَ عالم خماسي الأبعاد فإنه سوف يفعل في الرباعي وفي الثلاثي وفي الثنائي هذه الأشياء بسهولة، لكن ماذا لو كان هناك مَن يعيش في عالم سداسي؟!
هذا هو معنى كلام علماء الكوزمولوجي Cosmology والفيزياء اليوم عن العوالم سداسية الأبعاد، فضلاً عن أنهم يتحدَّثون عن عوالم لها اثنا عشر بُعداً، وهناك مَن يتحدَّث عن عوالم لها اثنا عشر بُعداً بل وستة عشر بُعداً، وهذه أشياء عجيبة جداً، لكن الآن سوف نقفز القفزة الهائلة التالية ونقول:
رب العالمين – لا إله إلا هو – هو الذي بعَّد الأبعاد ومكَّن المكان وزمَّن الزمان، وهو غير محكوم ببُعد، فهو يتصرَّف في كل شيئ حضورياً وآنياً بكل سهولة، ولا يخلو منه شيئ وليس في شيئ، فلا نقول الله حي – حاشا لله – لأنه فوق الأبعاد وفوق الزمان وفوق المكان.
أنا أعلم أن المسألة ليست واضحة تماماً وأنها تحتاج إلى مُحاضَرة وحدها، ولكن سوف أختم باختصار الآن وقد أطلت عليكم فاعذروني:
ما حدث مع الرسول المُحمَّد – صلوات ربي وتسليماته عليه – ليلة المعراج يُؤشِّر إلى هذا العجب العاجب، فالنبي كان مُسافِراً في هذه الرحلة الكونية الإلهية العجيبة التي ليس لها نظير ورأى طوفان نوح كما في بعض الآثار، ورأى في المشهد الثاني موسى وهو يُصلي في الكثيب الأحمر، ثم رأى موسى نفسه مرة أُخرى في السماء، فكيف هذا؟ هل موسى كان هنا في الأرض أم كان في السماء؟ كان في الاثنين معاً، وهذه الظاهرة إسمها الآن في فيزياء الكم Quantum Mechanics ظاهرة التراكب Superposition، وهذا الشيئ يُجنِّن حقيقة وهو ضد قانون التناقض Contradiction، كأن الفيزياء الآن تقول أنها لا تعبأ بأرسطو Aristotle ولا بقانون التناقض، فعلماء الفيزياء المُعاصِرون مُختلِفون، لكن ما معنى التراكب Superposition؟!
وجود الجُسيم في موضعين في الوقت نفسه، وهذا ما رآه النبي في رحلته، فموسى كان حياً في السماء وكان حياً في الأرض، أي أن موسى كان حياً هنا وكان حياً هناك، وكان يُؤدِّي أشياء هنا ويؤدِّي أشياء أيضاً هناك في اللحظة ذاتها، ومحمد رآه وهو يفعل هذا.
إذن محمد رأى أشياء من الماضي، لكن هل تتذكرون أين صلى النبي بالأنبياء؟!
في مكان فيه زبالة وقمامة، لم يكن هناك أي هيكل لليهود أو مُصلى للمسلمين أو أي شيئ، فقط أرض وفيها زبالة وقمامة، ولكن كيف صلى؟ وأين صلى؟ نحن فهمنا والسؤال أُجيبَ عنه، فالنبي كان خارج الزمان، وبالتالي من المُمكِن أن يُصلي في الأقصى حال بنائه وهو غير مبنٍ لأنه خارج الزمان، علماً بأن قديماً كانوا يشغبون على النبي ويقولون “كلام المُسلِمين يُعتبَر كلاماً فارغاً، فليس صحيح أنه صلى بالأنبياء أو أنه ربط دابته في حائط البراق كما يُسميه المُسلِمون”، لكن الآن تم الرد على هذه التشغيبات، فهذه هى الفيزياء وهذا هو العلم والفهم الحقيقي، والأمر لم يقتصر على أن النبي صلى في الماضي المسجد الأقصى حال بنائه أو حين كان مبنياً يوم ما بناه سليمان ولكنه رأى أهل الجنة في الجنة – اللهم اجعلنا من الذين رآهم الرسول في الجنة، اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنك واجمعنا به في أعلى فراديس خُلدك. اللهم آمين – ورأى أهل النار في النار وعرف جماعات منهم.
الآن قلت لكم أن النبي النبي رأى طوفان نوح كما في بعض الآثار، فهو رأى الطوفان ورأى نوحاً في السفينة وهو يدعو الله وبيبتهل، أي أنه رأى المشهد الحقيقي، ولكن هل هذا مُمكِن؟ كيف يُمكِن هذا؟
نُجيب عن هذا ونختم الخُطبة – إن شاء الله – بل الخُطبتين:
لو افترضنا أن العلماء نجحوا في إيجاد طريقة غير عادية للسفر تعتمد على الأبعاد – علماً بأن هذه غير موجودة، لكنهم تكلَّموا عنها وعن آلة الزمن نظرياً لأن الموضوع مُعقَّد جداً – بحيث أننا نقفز من الأرض هنا إلى كوكب يبعد عنا – مثلاً – عشرة آلاف أو عشرين ألف أو ثلاثين ألف سنة ضوئية في لحظة، مثل النقل الآني أو النقل اللحظي Teleportation علماً بأن هذه الطريقة هى التي تم بها نقل عرش بلقيس آنياً، ولو افترضنا الآن أن طوفان نوح وقع قبل عشرين ألف سنة ونحن سافرنا على كوكب يبعد عنا عشرين ألف سنة ويومين وهذا أمر مُمتاز جداً، فكم هى المُدة التي سوف ننتظرها لكي نرى الطوفان؟
سوف ننتظر يومين أرضيين، سوف نضع التلسكوب Telescope ونلف وندور على الأرض حتى نصل إلى الجهة التي كانت فيها نوح، فقد يكون ذلك وقع في الجزيرة العربية – مثلاً -أو في الموصل أو عند تركيا أو غير ذلك، ومن ثم سوف نرى السماء وهى تُمطِر، وإذا كبَّرنا الصورة بالآليات الدقيقة التي لدينا سوف نرى نوحاً بلحيته الجميلة المهيبة والناس والسفينة وكل المشهد كما رآه رسول الله، فما رأيكم؟ بل وسوف نراه في الكون كما لو أنه يقع الآن بالنسبة لنا في حين أنه وقع قبل عشرين ألف سنة، وهذا ما رآه النبي لأنه سافر بطريقة طبعاً أسرع من سرعة الضوء ومن غيرها، فهو سافر بقدرة الله.
هذا كله يحدث من أجل أن يُعلِّمنا الله وأن يحفز همتنا ويبعثها على إحداث مثل هذه العجائب ولكن ضمن الأسباب المقدورة للبشر، لا بمنطق المُعجِزة المُتخطية للأسباب المُتاحة للبشر في وقتٍ من الأوقات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
انتهت الخُطبة بحمد الله
فيينا 24/06/2011
أضف تعليق