في البدء كانت المعلومة: كيف تُعيد ثورة المعرفة تشكيل فهمنا للكون والحياة؟

standard

مقدمة: المعلومة قبل المادة

في الكتاب المقدس نجد العبارة الشهيرة: “في البدء كانت الكلمة”، لكن الطرح الذي قدمه الدكتور عدنان إبراهيم في خطبته “في البدء كانت المعلومة” يفتح أفقًا جديدًا حول أصل الوجود. إذ يشير إلى أن المعلومة هي الأساس الحقيقي للكون، قبل المادة والطاقة. في عالم تُدار فيه الاقتصادات الكبرى بالمعرفة وتتحكم المعلومات في مجالات العلم والتكنولوجيا، يصبح التساؤل عن الدور الأساسي للمعلومة في نشأة الكون والحياة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

الكون بين المعلومات والطاقة

يؤكد العلم الحديث أن الكون ليس مجرد مادة وطاقة، بل نظام معقد من المعلومات المشفرة. نظرية التشابك الكمي (Quantum Entanglement) والنقل الآني (Teleportation) تدعمان فكرة أن المعلومات تسبق المادة، فالجسيمات يمكن أن تنقل حالتها الكمومية دون انتقال فيزيائي. وكما جاء في الخطبة: “الموجود – Being – يساوي المعلومة، وفي نهاية المطاف أنت في حقيقتك مجرد معلومات متراكبة ومشتغلة بشكل ما”.

إذا نظرنا إلى الفيزياء النظرية، نجد أن المادة والطاقة تخضعان لقوانين دقيقة تحكمها معادلات رياضية ومعلومات مخزنة في نسيج الزمكان نفسه. وإذا كانت المعلومات أساس كل شيء، فهل يمكن أن تكون هي المفتاح لفهم نشأة الكون؟

الانفجار المعلوماتي: من الإكسا بايت إلى الزيتا بايت

يعيش العالم اليوم انفجارًا معلوماتيًا غير مسبوق، حيث قُدر حجم المعلومات المخزنة عالميًا عام 2000 بـ 12 إكسا بايت (Exabyte)، بينما قفز هذا الرقم إلى 988 زيتا بايت (Zettabyte) في عام 2010، وفقًا لتقرير “IDC Digital Universe Study”. هذا النمو الهائل يوضح أن المعرفة تتراكم بمتواليات هندسية، وليس بخطوات ثابتة، مما يعكس طبيعة توسع الكون نفسه. وفقًا لعالم الفيزياء ميتشيو كاكو، فإننا ندخل عصر البيانات الضخمة الذي ستتحكم فيه المعلومات بشكل أكثر عمقًا في حياتنا وقراراتنا. ويشير تقرير صادر عن “International Data Corporation” إلى أن حجم البيانات العالمية قد يتجاوز 175 زيتا بايت بحلول 2025، مما يعزز فكرة أن المعلومات أصبحت المحرك الرئيسي للتطور العلمي والتكنولوجي. وكما جاء في الخطبة: “المعلومات لا تتطور أو تتضخم فقط، وإنما تقفز قفزات انفجارية أو تنمو نموًا أُسيًا”.

المعلومات والخلق: جدلية الكون العاقل

يطرح الدكتور عدنان إبراهيم فكرة أن المعلومات لا يمكن أن تأتي من العدم، وأن المصدر الوحيد لها يجب أن يكون ذكاءً واعيًا. فالقرآن يقول: “أفمن يخلق كمن لا يخلق؟”، وهو تحدٍ فلسفي وعلمي للداروينية التقليدية التي ترى أن العشوائية قادرة على إنتاج التعقيد. يؤكد الباحث ديفيد بيرلينسكي في كتابه “The Deniable Darwin” أن العمليات الداروينية تفشل في تفسير التعقيد البيولوجي الهائل، مشيرًا إلى أن المعلومات الجينية منظمة بشكل يفوق قدرة العمليات العشوائية على توليدها. يذهب عالم الأحياء ستيفن ماير في كتابه “Darwin’s Doubt” إلى أن التعقيد المعلوماتي في الخلايا الحية، خاصة في الـ DNA، لا يمكن تفسيره بالطفرة العشوائية فقط، إذ أن احتمال نشوء سلسلة DNA عن طريق الصدفة يساوي “واحدًا من 10 أس 74”، وهو رقم مستحيل رياضيًا. من جانبه، يوضح عالم الفيزياء الفلكية بول ديفيز في كتابه “The Fifth Miracle” أن المعلومات الحيوية لا يمكن اختزالها إلى تفاعلات كيميائية بحتة، بل تشبه برمجيات دقيقة تحتاج إلى مبرمج ذكي، مما يفتح المجال أمام فرضيات تتجاوز التفسيرات المادية الصرفة.

انفجار الكامبري: صدمة المعلومات في سجل الحياة

يُعد الانفجار الكامبري أحد أعظم الألغاز البيولوجية، إذ شهد ظهورًا مفاجئًا لعشرات الشعب الحيوانية المعقدة دون أسلاف واضحة في السجل الأحفوري. وكما قال داروين نفسه، فإن غياب السلف التطوري لهذه الكائنات يشكل تحديًا خطيرًا لنظريته. في الخطبة، يُشار إلى أن هذا الحدث يمثل “قفزة معلوماتية ضخمة تحتاج إلى تفسير، وليس مجرد قفزة جينية”. يدعم هذا الرأي عالم الأحياء التطورية سيمون كونواي موريس الذي يؤكد أن الأنماط الحيوانية ظهرت فجأة وبتعقيد واضح لا يمكن تفسيره بالطفرة التدريجية وحدها. كما أن الباحث ستيفن ماير في كتابه “Darwin’s Doubt” يشير إلى أن ظهور هذه الكائنات يعكس تدفقًا هائلًا من المعلومات الوراثية، وهو أمر لا تفسره العمليات الداروينية التقليدية بسهولة. هذه الإشكالية تفتح الباب أمام فرضيات جديدة، مثل دور المعلومات الموجهة أو الأنظمة الحيوية الذكية في تفسير أصل التنوع البيولوجي.

علم الأجنة والمعلومات المشفرة

من أكثر الأمور المثيرة في علم الأحياء هو كيف تعرف الخلايا مكانها الصحيح أثناء نمو الجنين؟ هذا التخصص الخلوي لا تحدده الجينات وحدها، بل هناك معلومات مشفرة في نظام أكثر تعقيدًا، لم يُفك شيفرته بالكامل بعد. وكما أشار الدكتور عدنان: “الـ DNA لا يعطي أمراً واضحاً لإصطفاف الخلايا، فكيف يتم هذا؟ ومن أين تأتي هذه الأوامر؟”، وهو سؤال لا يزال يحير العلماء حتى اليوم.

نحو علم جديد: فيزياء المعلومات

تشير الأبحاث الحديثة إلى أن فيزياء المعلومات (Physics of Information) قد تكون المفتاح لفهم أعمق للكون. يجادل بعض العلماء، مثل جون ويلر في نظريته “It from Bit”، بأن المعلومات هي العنصر الأساسي للواقع، وليس المادة أو الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، يدعم ستيفن هوكينغ في أبحاثه حول إشعاع هوكينغ فكرة أن الثقوب السوداء لا تدمر المعلومات، بل تخزنها أو تعيد توزيعها، مما يعزز مفهوم أن المعلومات تشكل البنية العميقة للكون. فإذا كان الأمر كذلك، فنحن نعيش في كون ليس مجرد فضاء فيزيائي، بل شبكة معلوماتية ضخمة تعمل وفق خوارزميات دقيقة، وهو ما يُستدل عليه أيضًا من نظرية الهولوغرام لخوان مالداسينا التي تفترض أن الكون بأسره قد يكون تمثيلًا معلوماتيًا على سطح ثنائي الأبعاد.

الخاتمة: هل نعيد التفكير في نظرتنا إلى الوجود؟

إذا كانت المعلومة هي اللبنة الأولى للكون، فهذا يعني أننا بحاجة إلى نموذج علمي جديد يأخذ المعلومات كعنصر أساسي في تفسير الواقع. الفيزياء، علم الأحياء، والذكاء الاصطناعي، جميعها تتجه نحو رؤية أكثر ترابطًا للعالم، حيث تتحكم المعلومات في نشأة الحياة، وعمل الدماغ، وحتى تطور الكون نفسه.

يبقى السؤال مفتوحًا: إذا كان كل شيء محكومًا بالمعلومات، فمن أين جاءت هذه المعلومات؟ هل هي نتيجة حتمية للكون، أم أنها دليل على وجود عقل كوني أعظم؟ هنا، يتداخل العلم مع الفلسفة، ليعيد تشكيل فهمنا العميق للحياة والوجود.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: