– كم من مواقف جرحت صبانا فكشفت لنا قُرَح التضليل في أغوار بعض نفوس البشر الآسنة.
– هل سأنسى يوماً هذه الرواية التي سمعتها في صباي من سيدة روت بأسى كيف تكفل زوجها بمصروفات زواج ولدَيهما فيما ضنّ عليها بشراء خاتم ماسيّ أسوة بكنّاتها رغم إلحاحها، ثم شرحت بنبرة علا فيها صوتها حِدةً، كيف أنها تحيّنت الفرص، فتمكنت من ادخار مبلغ من مصروف البيت، فاشترت الخاتم وتساوت بكنّاتها.
– ثم التقيت بالهانم في محفل يَضُم هذه المرة صفوة المجتمع، فإذا بها تَزُج برواية مختلفة للخاتم الماسيّ، وقد رفعت صوتها ونطقت بنبرة أنثوية رقيقة تختلط فيه الباء العربية بنظيرتها اللاتينية: “بنات، زوجي أهداني هذا “السوليتير” ليشبكني من جديد بمناسبة عيد زواجنا”!
– يوم أرادت أن تبدو قوية استعانت برفع الصوت لرسم رتوش شخصيتها بريشة المناضلة لتبدو ثورية، على أنها حين ارتأت لعب دور الأنثى المرغوبة، استعانت بخفض صوتها وتصابت لتبدو كما المرأة التي يتودد إليها زوجها بالقرابين!
“ماك جايفر”
– ولكم صادفت سيدات مُدّعيات للإنهاك على أنه متى قيل لهن: “هيا شوبينغ”، “هَلُم سفرة”. هنا يتحولن لـ”ماك جايفر”، فتجول الواحدة منهن بعدة “مولات” بيوم واحد (أبالغ).
– ويَلُح عليّ ذكر واقعة إصابة والدتي بورم في المخ إبّان دراستي وفي ليلة اشتد عليها الألم، فاستدعيت الطبيب المناوب وكان شاباً قصيراً.
ولا أعلم كيف سألته: “هل حضرتك طبيب أطفال أم جراح مخ وأعصاب؟”.
فامتعض الرجل وذهب مُغاضباً كما ذهبت معه جهوده في رسم مظاهر الهيبة على محياه، فالكلام بالقطارة والخطوات المثقلة والحركات المدروسة، والنظرات المحدقة واللفتات المفتعلة مع نبرة الصوت المخنِّفة، كل هذا ثم تأتي طالبة غريرة لتتعامى عن هذه التجليات وتسأله: أجرّاح مخ وأعصاب أم طبيب أطفال؟
هذه المواقف وأخرى جعلتني أدرك أن النجاح الزائف ليس في الطريقة الحقيقية التي ترى بها نفسك، لكن بحسب الأسلوب الزائف الذي تصدر به صورتك للآخرين.
– إن سر النجاح الزائف كما وصفه الدكتور أحمد خالد توفيق “ليس أن تكون، بل أن تبدو”.
أما أنا فأقول:
– ليس أن تكون ناجحاً بل أن تبدو مطلوباً.
– ليس أن تكون خبيراً بل أن تبدو عالماً.
– ليس أن تكون حراً بل أن تبدو منطلقاً.
– ليس أن تكون جراح مخ وأعصاب، بل “ألا” تبدو طبيب أطفال.
– ليس أن تكون خيراً بل أن تبدو نبيلاً.
– ليس أن تكون ورعاً بل أن تبدو مُنسباً.
– ليس أن تكون عطوفاً بل أن تبدو منكسراً.
– ليس أن تكون مثالياً بل أن تبدو قريباً من الكمال.
– ليس أن تكون جميلاً بل أن تبدو فاتناً.
– ليس أن تكون قوياً بل أن تبدو صلباً.
– ليس أن تكون ذكياً بل أن تبدو أريباً، لبيباً، حاذقاً، ألمعياً، ولوذعياً.
– ليس أن يكون محتواك مُثقلاً، لكن أن يكون مظهرك براقاً، مترفاً.
– ليس أن تكون نزيهاً بل أن تبدو عفيفاً.
– ليس أن تكون متحضراً، لكن أن تبدو مدنياً، ولو كان قاعك قحّاً ريفياً، وقناعاتك مصكوكة بالبداوة، وفكرك مُسَمداً بالضيق وأفقك مُسَمماً بالانغلاق، وقلبك مُسَبَخاً بالصد وثوابتك مُسَمرةً بالتماثل بالموروث.
– ليس أن تكون شخصاً مُهماً، بل أن تبدو واسع العلاقات، غير قادر على إتمام محادثة.
– ليس أن تكون مفكراً بل أن تبدو ملماً، قوالاً مهما كنت اعتسافياً، اعتباطياً أو محض تويفه.
– ليس أن تكون بطلاً بل أن تبدو فارساً.
– ليس أن تكون غنياً بل أن تبدو عليك مظاهر الثراء، ومنها ألا تظهر اكتراثاً بالثمين بل بـ”النادر” مع التظاهر بالبساطة؛ لتبدو مميزاً عن سائر الأثرياء.
– ليس أن تكون خلوقاً بل أن تبدو خدوماً مهما أسهمت بسهام همزك وطعنات لمزك وطلقات استهزائك ومناورات تسفيهك وعسعسات فضولك.
– ليس أن تكون طيباً، بل أن تبدو وديعاً، فتُعَنوَن أليفاً.
– ليس أن تكون عاقلاً بل أن تبدو صموتاً، تعلوك أمارات الحكمة وتكسوك بشت الشيوخ.
– ليس أن تكون فصيحاً بل أن تبدو مفوهاً. مفرداتك ناصعة وعباراتك لامعة ومنطوقك رنان، مقلقلاً لقسمك، معطشاً لجيمك ولو كانت معانيك خواء.
– ليس أن تكون واثقاً، بل أن تمشي واثق الخطوة، متثاقلاً، متجاهلاً، غير مكترث، فتبدو خبيراً ببواطن الأمور.
– ليس أن تكون قنوعاً، بل أن تبدو للناس راضياً، زاهداً، رومياً، تبريزياً، متصوفاً ولو لم تكتفِ بمكانة الأخ الأكبر بل ارتضيت سحب البساط من تحت أقدام أبيك الذي خرج على المعاش أو أمك، وبتَّ تؤمن باستحقاقك لمكانتهما، مستمرئاً تفضيل أخواتك لك عنهن، وترى بديهية في ذلك لعطاءاتك، فتروج لسفه والدك وتتسامر بنوادر مصائب والدتك.
– ليس أن تكون محبوباً، بل أن تبدو محاطاً، مع يقينك أن محيطك هذا جاهل بجرائمك يوم هددت والديك بالاتصال بمستشفى الأمراض العقلية لتخيفهما من ممرضي المشفى وصعقات الكهرباء المؤلمة ليكفّا عن عصبيتهما.
– ليس أن تكون شجاعاً، مصاولاً، مغواراً، بل أن تبدو للناس جسوراً، ولو كنت رعديداً، خواراً، تعجز عن الدفاع عن عرض أبنائك لو انتهك مَن ذو منصب كبير.
– ليس أن تكون حيياً بل أن تبدو للناس خجولاً، ولو كنت صفيقاً، متواقحاً، سيما مع أهلك ومن طالتهم يداك.
– ليس أن تكون نقياً، بل قد تكون من الغيارى، على أنك تبدو للناس طفولياً، فيما تشتاط لو بُعث لأخيك ببرقية عزاء ولم تبعث باسمك.
– ليس أن تكون مهيباً، بل أن تبدو فخيماً، جليلاً، مُفتخراً، غائباً، شاهقاً، قصياً.
– ليس أن تكون سهلاً بل أن تبدو موطئاً للأكناف، فتحرص على المشي حاضناً سائقك تحت جناحيك لإظهار تعاطفك مع المهمشين على أنك تصهين صهينة صهيونية عن حقوق شقيقاتك، ولهن عقود بالمحاكم للمطالبة بنصيبهن من ميراثهن.
– ليس أن تكون كريماً بل أن تبدو جواداً تتيه لتخصيصك لأنصاف الجنيهات، تمنحها للسائلين لاسترضاء ضميرك بمسكنات شلنات الفضة. على أنك من أكابر المناعين للماعون بدعوى أن الصيف خلص ولا داعي لشراء مكيف لقريبك المحتاج، كما أنك من هؤلاء المتهربين من دفع مهر زوجاتهم أو نفقة مطلقاتهم أو متغافل عن زكاة تهرباً كونها هبرة كبيرة، سيما بعد أن نبّشت عن شيخ فصل لك فتوى على قياسات خصر ضلالاتك!
– ليس أن تكون مُتديناً، بل أن تروج لوردك ولتُسمع من حولك “صوصوات” تسبيحاتك ولتنبئ عن تمظهرات التزامك مهما كنت كويفراً، صنديداً تبارز رب العالمين على فرس المعاصي أمام سبوحات سبحانه، لكن خفية عن الناس.
أو أن تُسقط أخاك في غياهب بئر مصارع الحياة وحده ليلتقطه بعض السيارة في دروب المسير، بل لربما يبلغ بك الصلف أن توهمه أن نجاته كللتها دعواتك له مع تهاونك في معاونته كونك بِعته بدراهم معدودة وكنت فيه من الزاهدين ثم تتهمه بأنه لا يُكبرك رُغم أن حتى اتصالك به يكون أحد أهدافه تمرير أخبار أو استنطاقه للتقصي عن معلومات يعنيك معرفتها، على أنك تنتوي “أن تستغفر لاحقاً وتكون من الصالحين”.
– ليس أن تكون ذاتك الحقيقية، بل ذاتك الخيالية التي تختال بها على الآخرين بل لربما على نفسك. هذه الذات المصنوعة من مئات اللبِن كما وصفها العلامة عدنان إبراهيم “لبِنة المال، الجمال، القوام، الصحة، اللقب، العلاقات.. إلخ” وكلها حجارة خيالية تؤسس هيكلك الوهمي، بأهوائه العاصفة المفرقة التي وصفها “الحلاج” بالتالي:
كانت لقلبي أهواء مُفرقة ** فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
وصار يحسدني من كنت أحسده ** وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم** شُغلاً بحُبِك يا ديني ودنيائي
وستحقق لك هذه الهيبة الزائفة وهذا الهيكل الخيالي نجاحاً زائفاً، لكنه ليس ببراعة عصا الكليم تلك التي تلقف ما يؤفكون.
وفي نهاية المطاف، ستتربع أنت نفسك، وبنفسك على عرش مَن خدعتهم.
وقد سطر الرومي أبياتاً لإيقاظ الواهمين من خبراء فن صناعة الهيبة:
” اللهم إني سجين قبري بدني
هلم يا إسرافيل.. فانفخ في صوري
من أجلي، حتى توقظني”.
لا أحيا الله خبراء فن صناعة الهيبة ولا أيقظهم وليتمتعوا في سباتهم وليعمهوا.
كاتبة مصرية
أضف تعليق