إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۩ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۩ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

شرع الله – سُبحانه وتعالى – عدل كله، ورحمة كله، ومصلحة كله، لا يبرز شيئ من أضداد هذه المعاني ويُنسَب إلى شرع الله إلا على وجه غالط أو اجتهاد مُتعجِّل، وإن أكثر ما يُوجَّه فيه النقد إلى هذا الشرع الحنيف أو هذه الشريعة السمحاء – أيها الإخوة والأخوات – نظامها العقابي، فيشغب كثيرون خاصة في هذا العصر على هذا النظام في شرع الله – سُبحانه وتعالى – لجهة قسوته وشدته وتشوفه كما يزعمون إلى تعذيب الناس وإعناتهم، فإذا ذُكِر أمام هؤلاء وأشكالهم وضربائهم مُصطلَح الحدود اقشعرت واشمئزت جلودهم، وظنوا أن هذا الشرع ما شرع هذه العقوبات إلا تشفياً وانتقاماً من عباد الله – سُبحانه وتعالى -، وهذا الظن لا يقع فيه إلا جاهل أو ضاغن، ضاغن مُبغِض مُعادٍ لشرع الله وأهله، فهذا تقريباً لا حيلة لنا معه ولا حيلة في دائه، لأن الغرض مرض، وهذا مُغرِض فيما يقول وفيما يأخذ وفيما يذر، أما الجهل فدواؤه يسير، إنه التعريف، أن يُكشَف الستر عن وجه الحقيقة، أن يُكشَف الستر واللثام عن وجه الحقيقة، فإذا لاح وجهها – إن شاء الله – وضح السبيل، ليحيا من حي عن بيّنة ويهلك مِن بعد مَن هلك عن بيّنة.

وأول ما نُحِب أن نُدلي به دفعاً عن شرع الله الكريم في هذا المقام أن الشرع له أوليات وله سوابق من يومه، أي من يوم كان، سبق بها الشرائع الحديثة والمُعاصِرة والتي لا تزال إلى يوم الناس هذا تلهث لكي تلحق به في شأوه البعيد، وما نخالها تصل، فمن ذلك – مثلاً – القاعدة الشرعية التي اتفق عليها جميع الأئمة وأطبقوا عليها دون نكير ودون شذوذ، وهي الأصل براءة الذمة، هذا مبدأ من مبادئ الشرع، وقاعدة عظيمة، الأصل براءة الذمة، ويُقابِل هذا الأصل في القانون الجنائي الحديث أو في النُظم القانونية المُعاصِرة قولهم المُتهَم بريء حتى تثبت إدانته، ثم يُفصِّلون بمُحاكَمة عادلة تتوافر فيها له جميع شروط وظروف الترافع والدفاع العادل والمُستوفي لشروطه عن ذاته.

على كل حال أصلها مُختصَراً المُتهَم بريء حتى تثبت إدانته، وهذه القاعدة حديثة نسبياً، لم تكن من يوم كان القانون، أما في الشرع فهي مبدأ مُؤصَّل، أجمع عليه السادة الفقهاء والأئمة الأعلام من يوم كان الشرع، من يوم كان هذا الشرع الحنيف! حتى قال الإمام العلّامة جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر – طيَّب الله ثراه -، قال هذا الأصل يدخل في كثير جداً من فروع الشريعة، أما الإمام العز بن عبد السلام – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فقرَّر مع إخوانه ومع السابقين واللاحقين أيضاً من العلماء والمُجتهِدين أن هذا الأصل يدخل فيه حتى التكليفات الدينية المحضة والكفّارات، بمعنى أن الشريعة هنا سجَّلت سبقاً حقيقياً وواضحاً إذا ما قورنت بالقانون أو القوانين الجنائية الحديثة بل والمُعاصِرة، لماذا؟ لأن هذه القوانين المُعاصِر منها وليس الحديث فقط إلى يوم الناس هذا تقصر هذا المبدأ في النطاق الجنائي، فقط في النطاق الجنائي! فالمُتهَم بريء حتى تثبت إدانته في النطاق الجنائي وحده، أما في شرع الله فهو في جميع النُطق، الجنائي وغير الجنائي، حتى التعبدي، فتظل الذمة فارغة، لا يُحال عليها، ولا يُقتضى منها شيئ، حتى يثبت شغل هذه الذمة بطريق اليقين.

ولذلك يتعلَّق بهذا المبدأ أو بهذه القاعدة قاعدة أُخرى، هي من أوليات ومن سوابق هذا الشرع العظيم، وهي اليقين لا يزول بالشك، اليقين لا يزول بالشك يُقابِلها إلى حد ما مع أنها أنفذ وأقوم وأقعد وأرسخ في بابها وفيما تدل عليه، يُقابِلها في القوانين المُعاصِرة قولهم الشك يُفسَّر لصالح المُتهَم، الشك يفسَّر لصالح المُتهَم! بمعنى ماذا الشك يُفسَّر لصالح المُتهَم؟ بمعنى أن الأصل هو تيقن عدم نسبة الجريمة، عدم ثبوت الجريمة، فإن طرأ شك هذا الشك لابد أن يخدم ماذا؟ المُتيقَّن، ولا يُثبِت مشكوكاً فيه بتلقائه، التعبير الشرعي أوضح وأقعد وأرسخ، اليقين لا يزول بالشك، اليقين أن هذا لم يسرق، لا تثبت عليه جريمة السرقة إلا بيقين مثله، ولذلك الشُبهات ليس لها دور هنا، نعم القرائن تُساعِد ويتبصَّر ويتنوَّر بها القاضي أو الحاكم باللُغة الشرعية، ولكن لا تستقل في هذا الباب، لكن هذه مسألة خلافية، فاليقين لا يزول بالشك.

بخصوص هذه القاعدة بالذات قال الإمام السيوطي في أشباهه – رحمة الله تعالى عليه – هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، ليس فقط في الجنائيات، في جميع أبواب الفقه! عباديات وعاديات ومُعامَلات وأخلاق وجنائيات ومدنيات، في كل الأبواب، قال حتى أن ثلاثة أرباع مسائل الفقه – ثلاثة أرباع الشريعة – تتخرَّج على هذه القاعدة، شيئ غريب، ثلاثة أرباع! أي خمسة وسبعون في المائة، تتخرَّج على هذه القاعدة، وواضح جداً أن هذه القاعدة إنما جاءت لصالح مَن؟ لصالح المُتهَم، مَن تدور حوله تُهمة، وطبعاً أما البريء الذي لا تدور حوله تُهمة فلا شأن لنا به أصلاً، في هذا النطاق الجنائي مثل هذه القواعد إنما تخدم المُتهَم، فلا يصح أن يُقال إن الشريعة تنكَّبت أو تنكَّرت للمُتهَمين في أغلب أوضاعها، غير صحيح! لأنها شريعة عدل، لا يُمكِن أن تجعل نظرها إلى إنصاف – مثلاً – المجني عليه على أساس ظلم الجاني أو مَن يُظَن أنه جانٍ، حاشا لله، هذا ليس عدلاً، قال تعالى لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ۩، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، بالعدل قامت السماوات والأرض، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۩، كل الناس! القسط لابد من إعماله في كل الحالات والظروف ومع كل الناس، ذلك العدل – كما نقول دائماً ونُكرِّر ونُبدئ ونُعيد – قيمة مُطلَقة لا تُنسَّب ولا تُشرَّط، لا تُنسَّب ولا تُشرَّط لأنها قيمة مُطلَقة، مع مَن نُحِب ومع مَن نُبغِض، مع القريب ومع البعيد، وحتى مع الوالدين والأقربين كما قال – سُبحانه وتعالى من قائل -، فهذا أيضاً من سوابق الشريعة.

نعم لا يُنكَر أن الشريعة تجعل عنوها أكثر إذا ما تعلَّق الأمر بمصلحة المُجتمَع، لكن هذا العنو لا يعود على الجُناة أو المُتهَمين بالجنايات بالظلم، كلا! نعم لا يُنكَر أنها تجعل عنوها ولحاظها أزيد وأكثر إذا ما تعلَّق الأمر بمصلحة المُجتمَع، بنظام المُجتمَع، وبأمنه واستقراره، فيما يبدو على حساب الجُناة، وهذا ما يُعرَف بالمُصطلَح الفقهي أو باللُغة الفقهية الاصطلاحية بحقوق الجماعة، التي هي حقوق الله، طبعاً لا يُمكِن أن نُعلي من حق الجماعة بطريقة أبعد وأزيد وأبلغ من أن نجعلها ماذا؟ حقوق الله – سُبحانه وتعالى -، وطبعاً لا يستطيع أحد أن يفتئت على الله، لا يستطيع أحد أن يتكلَّم بلسان الله، لا يستطيع أحد أن يُصادِر صلاحيات الله، فيقول هذه حقوق الله وأنا أُساهِم فيها، لا تستطيع أبداً، ولذلك حقوق الجماعة لا يُمكِن لأحد أن يُساهِم فيها، كما يُقال في اللُغة القانونية المُعاصِرة حقوق غير قابلة للتصرف، باللُغة القانونية حقوق غير قابلة للتصرف، لماذا؟ لأن التصرف فيها نوط أو منوط بماذا؟ منوط بأخذ رخصة في العفو والتسامح من جميع المعنيين، أي من جميع أبناء وبنات المُجتمَع، تفضَّل! ائتنا الآن بتنازل من ثمانين مليوناً، يستحيل هذا، ولذلك هي حقوق غير قابلة للتصرف، ما هي هذه الحقوق؟ هي ما يُعرَف بلسان الشرع بالحدود، إنها حدود الله – تبارك وتعالى -.

وجرائم الحدود على ما عدَّدها السادة الفقهاء سبعة، حد الزنا، حد القذف، حد السرقة، حد شرب الخمر – على اختلاف في بعضها طبعاً، كحد شرب الخمر مثلاً -، حد الردة، حد الحرابة، وحد البغي، البغي هو الخروج المُسلَّح على صاحب السُلطان أو صاحب الزمان كما يُقال، أي على إمام الوقت، على إمام الوقت الشرعي! الخروج المُسلَّح عليه بعدد ذوي شوكة في ظروف مُعيَّنة هو ما يُسمى بجرائم البغي، الخروج العسكري أو الخروج المُسلَّح بثورة أو بمشاكل، وله شروطه مُعيَّنة، أو ما يُعرَف باللُغة الحديثة بالجرائم السياسية، والجرائم السياسية طبعاً مُصطلَح قانوني دقيق، تقريباً يُوشِك أن يُعادِل جريمة البغي، وإن كان أكثر الناس لا يفهم المُراد منه على وجه صحيح، بعض الناس يظن – مثلاً – أن الجريمة التي تكون فعلاً بقصد سياسي تُعتبَر جريمة سياسية، وهذا غير صحيح، حتى قتل رئيس ما لتغيير هذا الرئيس يعتبره البعض جريمة سياسية، وهذا غير صحيح، يُمكِن أن يُقتَل الرئيس، وطبعاً القتل القتل، وهذه جريمة، لكنها ليست جريمة سياسية في كل الأحوال، هناك شروط مُعيَّنة في القانون، في الأحوال العادية أي جريمة وإن بدت سياسية وكان دافعها سياسياً لا تُعتبَر جريمة سياسية، أي جريمة كان غرضها سياسياً لا تُعتبَر جريمة سياسية في الأحوال العادية، هذه لُغة القانون، تُعتبَر جريمة سياسية إذا وقعت في حال حرب أهلية  – أي Civil war – أو في حال ثورة، هذه تُعتبَر جريمة سياسية، في الأحوال العادية بلُغة القانون لا تُعتبَر جريمة سياسية، ومن هنا الخلط العجيب حتى في القانون العربي وتطبيقه، ويُصوَّر للناس أن هذه هي الجريمة السياسية، والآن هناك برامج في الجزيرة تقول هذا مثل الجريمة السياسية، فقتل أي سياسي يُعَد جريمة سياسية، وهذا غير صحيح، هذا كذب على القانون، وليس على الشرع، في القانون هذا غير صحيح، هذه جريمة عادية، حتى إن كان الباعث سياسياً والهدف سياسياً، ولكنها وقعت في ظروف عادية، ليس في ظرف حرب أهلية ولا في ظرف ثورة مُهتاجة، هنا فقط تُعتبَر جريمة سياسية، على كل حال هذه جرائم البغي أو جرائم السياسة، الجريمة السياسية!

هذه هي الحدود، جميل! لماذا نذكر هذا؟ نذكر هذا لكي نُقارِنه بما يقف إزاءه أو بما يُقابِله من الجرائم الشخصية، تُعرَف بالجرائم الشخصية، والجرائم الشخصية هي الجرائم في حق الأفراد، ومعنى كونها جرائم في حق الأفراد أو الفرد أن المقصود من العدوان هو الفرد المجني عليه، هذا الفرد بعينه، إذن وضح الآن أن جريمة القتل العادية طبعاً هي جريمة في حق الأفراد، أليس كذلك؟ لأن مَن قتل يُريد أن يقتل فلاناً المخصوص، وليس يُريد أن يقتل أي إنسان، ووقع على فلان فقتله، لا تقل لي هذه جريمة في حق المُجتمَع، والآن سأُبسِّط هذا، أذكر هذا لأن بعض الناس يبدو أن هذه الأمور غير واضحة عنده بشكل قانوني، أي لا يستطيع أن يُفرِّق بدقة علمية بين الجرائم في حق المُجتمَع والجرائم في حق الأفراد، الجرائم الشخصية! كجرائم القصاص والديات، تُسمى جرائم القصاص والديات، أي الجريمة بإزهاق النفس أو الجريمة والعدوان على ما دون النفس من الأطراف والأعضاء بالضرب أو الجرح غير المؤدي إلى الموت، غير المؤدي إلى الموت في العادة، قد يُؤدي بالسراية كما يُقال وبتمادي الجُرح، لكن هذا شيئ آخر، هذه تداعيات الجُرح، لكن في الوضع المُعتاد لا يُؤدي مثل هذا الجُرح أو مثل هذا الضرب إلى الموت، فهذه جناية على ما دون النفس، جناية على ما دون النفس باللُغة الفقهية.

هذه جرائم في حق الأشخاص، فالقتل – مثلاً – ليس جريمة في حق المُجتمَع، وطبعاً في نهاية المطاف بالتدقيق ما من جريمة في حق المُجتمَع إلا تمس ماذا؟ الأشخاص، وما من جريمة في حق الأشخاص إلا تتأدى إلى المُجتمَع، لأن في نهاية المطاف هذا الفرد ابن هذا المُجتمَع، أليس كذلك؟ لكن المقصود لدى التكييف القانوني كما الفقهي أيضاً – أي في التكييف الفقهي – مُلاحَظة الجانب الأغلب، لأُبسِّط هذا وأُنوِّره بشكل بسيط لأي إنسان – إيها الإخوة والأخوات – سأضرب مثلاً، حين نسمع الآن – هنا في فيينا مثلاً – أن شخصاً لخلاف شخصي مع رجل آخر سواء في مافيا Mafia أو في غير مافيا Mafia قتله، لا نخاف ولا نرتاع، قتله! قتله لأن هناك خلافاً يُصفى بطريقة مُعيَّنة، والقانون بعد ذلك يأخذ مجراه، العدالة تأخذ مجراها، لا نخاف، لا نرتاع، لا يُصاب المُجتمَع بحالة الهلع أو الــ Panic، شخص قتل آخر لأن بينهما مشاكل، وهذا حتى طبعاً لو قتله بطريقة غير قانونية – وهي غير قانونية في هذه الحالة بالمرة – من أجل مثلاً نزاع على شيئ من مال، تغاير بالنسبة لشيئ يتعلَّق بالنساء، إلى آخره، لا ندري! لكن لا نرتاع، بخلاف ما لو بدأنا نسمع أن هناك سرقات تدور في الشوارع، تُسرَق النساء أو الرجال، تُسرَق البيوت في وضح النهار أو في الليل، نرتاع جميعاً، هذا صحيح!

الآن بدأنا نفهم ما هي الجريمة الاجتماعية وما هي الجريمة في حق المُجتمَع وما هي الجريمة في حق الأفراد، هل تعرفون لماذا؟ لأن السرقة بلا شك جريمة اجتماعية، لا تقل لي في نهاية المطاف هو سرقني أنا، طبعاً هو لابد أن يسرق واحداً من الناس أو أكثر، ولكن هو لم يقصدك أنت بالذات لأنك فلان ابن فلان المُنحدِر من الأصل والعرق الفلاني ليأخذ مالك، هو يُريد المال أنى وجده ومن حيث أتى، هو يُريد المال أنى وجده ولذلك الفقهاء كانوا دقيقين جداً، طبعاً! هناك عقلية أصولية فقهية دقيقة وذكية إلى نهاية الشوط، يعرفون ماذا يقولون وعن ماذا يتكلَّمون، حين عدوا القتل جريمة شخصية، وهو أفظع بكثير من غيره، هو أفظع الجرائم بعد الشرك بالله إن عُدت جريمة، وأفظع الكبائر بعد الشرك بالله، أفظع الجرائم على الإطلاق هو القتل، ولكنه جريمة شخصية، ولذلك لا تستقر العقوبة إلا بعد تحريك الدعوى، بلُغة القانون بعد تحريك الدعوى، بلُغة الفقهاء بعد مُطالَبة المجني عليه أو أوليائه – بعد مُطالَبة أوليائه – بحقهم، أي في إنزال أو توقيع كما يُقال العقوبة على الجاني، إذا لم يفعلوا فسينتهي الأمر، الدولة لا علاقة لها، وهذا عكس القانون الوضعي، لأن في القانون الوضعي كل جريمة تُنشئ للدولة حقاً في إيقاع العقاب، تُنشئ للدولة حقاً في إيقاع أو توقيع العقوبة بمَن تثبت عليه الجريمة أو الجناية.

إذن نعود، إذن السرقة وضح الآن أنها جريمة ماذا؟ اجتماعية، وليست جريمة شخصية، ليست جريمة فردية، بمعنى أن السارق حين يسرق لا يهمه البتة أن يسرق هذا المليون أو المائة ألف من مليون، لأن المائة ألف من فلان تكون قيمتها أكبر، كلا! هو كل ما يهمه أن يحصل على هذه المائة ألف، من فلان، من زيد، من مُؤسَّسة حكومية، من مُؤسَّسة خاصة، من شخص عادي، من شخص ضعيف، من شخص قوي، المُهِم أن يأخذ، وهو طبعاً يأخذ أيسر السُبل، وأقربها إلى النجاح أو النجح في جريمته هذه، ولذلك يرتاع الناس، هل هناك سرقات؟ هل هناك كذا وكذا؟ يرتاعون، ويشعرون أنهم مُهدَّدون الآن، كلهم مُهدَّد، لأن الذي يسرق يُريد أن يسرق أي مال، كيفما اتفق ومن حيث أتى، لكن الذي يقتل لا يقتل وفق هذه الكيفية، الذي يقتل يقتل لأن بينه وبين مَن قتله مُشكِلة مُعيَّنة، أو وقعت هذه المُشكِلة، فحُلت بالقتل، فالإنسان يقول أنا آمن، ليس عندي مشاكل، ليس عندي ثارات، ليس عندي أي نزاعات مع الناس، فأنا آمن، لا يخشى على نفسه، متى يخشى على نفسه؟ إذا وقعت وتكرَّر وقوع جرائم الحرابة، انتبهوا! الحرابة، ما هي الحرابة؟ هنا تُوجَد تفصيلات واختلافات كثيرة جداً بين السادة الفقهاء، وأنا في الحقيقة طيلة هذا الأسبوع أجلت النظر في هذه المسألة وانتهيت – هكذا على عجل طبعاً، وهذا يحتاج إلى تكريس وقت أكثر – إلى التعاطف مع المنظور المالكي في جريمة الحرابة، فالمالكية يعدون القتل غيلة – القتل بالغدر والاستدراج – جريمة حرابة، وليس جريمة شخصية، فلا يُعاقَب صاحب هذه الجريمة على النحو الذي يُعاقَب به مَن؟ القاتل عمداً، لا! ذاك أمامه فُرصة أن يعفو عنه مَن؟ ولي الدم، هنا لا، الدولة هنا تقتضي حقها، تقتضي باللُغة القانونية حقها، تقتضي حقها في توقيع العقوبة، لا تستطيع أنت أن تعفو، لأن الجريمة ليست شخصية، الجريمة ماذا؟ مُجتمَعية، إنها حرابة، أي القتل غيلة، وعندهم السطو المُسلَّح – وهذا ما سرني جداً – يُعتبَر من جرائم الحرابة، حتى ولو قام به شخص واحد، مع أن الذي كان يتجه لنا أن الحرابة من خلال سياق الآية هي جريمة فيها شركة، فيها معنى الاشتراك، المالكية قالوا لا، ونحن الآن نسعد بهذا  النظر ونتعاطف معه، طبعاً تأميناً للمُجتمَع وإحقاقاً فعلاً للحق، المالكية قالوا مَن سطا على أحد أو على بيت أحد لأخذ ماله – لكن سطواً مُسلَّحاً، بحيث يُمكِن أن يُهدِّد حياته أو حياة أهله أو حياة حرّاسه – لا تُعتبَر جريمته هذه جريمة سرقة عادية، وإن وقع قتل فلن تكون جريمة قتل عادية، إنها جريمة ماذا؟ حرابة، هذا مُمتاز، وهذا التطبيق الآن أصبح دقيقاً، لكن على طريقة المالكية، جريمة حرابة!

الآخرون يُخالِفون وعندهم شروط شديدة جداً، لا نُحِب أن نتوسَّع بذكر هذه الشروط، خاصة كالأحناف، هذا موضوع آخر، فما هي عقوبة جريمة الحرابة؟ قال الله تعالى في سورة المائدة إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۩، ما هذه الــ أَوْ ۩؟ قال  أَوْ ۩… أَوْ ۩… أَوْ ۩… هل هذه للتفصيل والترتيب؟ ما معنى التفصيل والترتيب؟ تفصيل العقوبة على قد الجريمة، هذه جريمة مُعيَّنة تقتضي هذه العقوبة، جريمة أُخرى أبشع وأشنع تقتضي عقوبة أشد، وهكذا! أَوْ ۩ هنا – أي هذا الحرف – للتخيير، فالإمام مُخيِّر بين هذه أو هذه، بين تلك أو تلك من العقوبات، رأي المالكية على تفاصيل أيضاً دقيقة لا تجعلهم بعيدين جداً من رأي الجمهور أنها للتخيير، ولكن ليس التخيير على إطلاقه، أيضاً هناك تفاصيل كثيرة عندهم، رأي الجمهور – الحنفية والشافعية والحنابلة – أنها للتفصيل والترتيب، واسمعوا إلى تفسيرهم، فهو في غاية الجودة.

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ۩، يعني الجماعات المُسلَّحة، العصابات، وقطّاع الطريق، انتبهوا! باختصار هذا هو، قطّاع الطريق، الجماعات المُسلَّحة، العصابات التي تقوم بالسطو المُسلَّح، إلى آخره! ترويع الناس قد يقع فيه طبعاً قطع الطريق، قد يقع فيه الإخافة والإذعار، أي التسبب في الذعر وفرار الناس، التسبب في حالة الذعر والهلع والخوف، وطبعاً تتعطَّل بعض مصالح الناس أو حتى كثير منها في بعض الأوقات وخاصة في وقت الليل – مثلاً -، أو في الأماكن المُنقطَعة، في مُنقطَع العُمران، في الأماكن النائية البعيدة، في أطراف المُدن والقُرى والنجوع و… و… و… إلى آخره، أَنْ يُقَتَّلُوا ۩، قال الجمهور – الأحناف والشافعية والحنابلة -، قالوا الآن مَن قتل وكان مُحارِباً – ليس حربياً، هذا اسمه مُحارِب، وهو غير الحربي، ذاك يكون في حالة الحرب ويكون كافراً، أما هذا فهو مُسلِم، أي منا، منا وفينا، من أهل المِلة، لكنه من العصابات وقطّاع الطريق، أي إنه مُجرِم مُروِّع والعياذ بالله – يُقتَل، قالوا مَن قتل قُتِل، هذا هو! هذا عدل، هو قاطع طريق، وقد قتل، إذن يُقتَل، ولكن هو قتل ولم يأخذ المال، فماذا عنه؟ انتبهوا! فإن أخذ المال وحده ولم يقتل قُطِّع، السارق العادي تُقطَع يده، هنا لا، تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ۩، هذه جريمة حرابة، لماذا؟ الاحتمال واقع وغالب أن يضم هذه الجرائم إلى بعضها، أليس كذلك؟ طبعاً! حين نُريد أن نُقاضي وأن نُحاكِم مَن تورَّط في وهدة هذه الجرائم إنما نُحاكِمه على ما قد حصل، ولكن حين شرع الرحمن الرحيم شرع لكل المُحتمَلات، أي لكل الحالات الاحتمالية في هذه الجريمة الحرابية، الشريعة دقيقة جداً! وطبعاً هذا يُحيل أن تكون هذه من لدن بشر، يستحيل أن بشراً يُفكِّر بهذه الطريقة، كما قلنا وخاصة إذا كان هذا البشر محمداً، الذي قضى حياته في الجهاد وفي الغزوات وفي السرايا ومُكامَعة الكفّار، وعمره كان ضئيلاً، أي العمر التشريعي، مُستحيل! خاصة بالنظر إلى مجموع الشريعة ومجموع ما جاءت به في كل الميادين والنُطق، شيئ عجيب! هذا لا يستقل به قرن كامل، قرن كامل من المُشرِّعين والعقول والفلاسفة، أن يُشرِّعوا عُشره حتى، وليس فرداً واحداً في بضع سنين، يستحيل هذا، يستحيل!

على كلٍ قالوا فإن أخذ المال ولم يقتل قُطِّع، وإن أخذ المال وقتل قُتِّل وصُلِّب، هذا يُقتَل ويُصلَّب، أو يُقطَّع ويُصلَّب، فإن أخاف الطريق دون أن يقتل ودون أن يأخذ مالاً – انظروا إلى هذا العدل، يُوجَد عدل، وهذا التفسير عادل فعلاً، وهذا رأي الجمهور – قالوا نُفي من الأرض، والجزاء من جنس العمل، فعلاً هنا تفصيل وترتيب، كل جريمة لها ما يُلائمها من العقوبة، هذا أخاف السبيل، لم يقتل ولم يسرق، لذا يُنفى من الأرض، وطبعاً النفي هنا قد يكون نفياً حقيقياً وقد يكون بالسَجن – السَجن مصدر، وليس السِجن، السِجن اسم -، قد يكون هذا بالسَجن، أي أن يُودَع في السِجن، بسَجنه! 

هذه جريمة الحرابة، ولذلك يُمكِن أن يُعاد النظر الآن في بعض هذه الجرائم التي تحتقبها بعض العصابات المُسلَّحة والخارجة على القانون كما يُقال، وتُوصَّف وتُكيَّف قانونياً وشرعياً على أنها جرائم ماذا؟ حرابة، وطبعاً واضح أن عقوبة الحرابة عقوبة شديدة، أيسرها السجن، عقوبة شديدة لأنها تُهدِّد أمن المُجتمَع.

موضوع القذف مُتعلِّق سُمعة الإنسان وعرض الإنسان، موضع المدح والذم منه، وهذا هو العرض، العرض هو موضع الذم والمدح من المرء، ذكراً كان أم أُنثى، هل هذه الجريمة جريمة اجتماعية أو جريمة شخصية فردية؟ هناك اختلاف، الحنفية والظاهرية قالوا هذه جريمة اجتماعية، جريمة اجتماعية! كأنهم نظروا إلى أن الشخص الذي يُرسِل لسانه ساطياً على أعراض الناس مُقرِّضاً أديمهم لا يبقى أمامه معصوم من تقريض أديمه، اليوم فعلاً يسب فلاناً، وغداً يسبني ويسبك، اليوم يهتك عرض فلان بلسانه، وغداً يهتك عرض علان وزيد وعمرو أيضاً من الناس، فنظروا إلى هذا الجانب، أي الحنفية والظاهرية، الشافعية والحنابلة قالوا لا، هي جريمة شخصية، يستطيع صاحب الحق – أي المجني عليه – أن يعفو إن شاء، وأبو حنيفة قال لا، لا يستطيع، هذه جريمة تُنشئ للدولة حقاً في العقاب، فحتى لو عفا المقذوف عند أبي حنيفة لابد أن تأخذ الدولة حقها، ما هو؟ ثمانون جلدة، ثمانون جلدة بحسب سورة النور.

الإمام مالك له تفصيل عجيب، قال هي حق شخصي، هي حق شخصي، أي هي في الأصل الجريمة، والمُطالَبة بالعدالة وبإيقاع العقوبة هذا حق شخصي، هي جريمة شخصية قبل تحريك الدعوى، أي قبل الترافع إلى الحاكم أو إلى القاضي، قبل أن نترافع تبقى ماذا؟ شخصية، وتستطيع أن تعفو، وبعد الترافع إلى الحاكم – أي تحريك الدعوى بلُغة القانون – تصير ماذا؟ جريمةً اجتماعيةً، حقاً للمُجتمَع، وحقاً لله، لا تستطيع أنت المجني عليه أن تعفو عنها، هذه جريمة القذف، وهناك تفاصيل في هذه المسألة.

هذه مُقدِّمة، ماذا عن طُرق الإثبات؟ الجريمة في الشريعة الإسلامية لا تثبت هكذا بأي طريقة وبأي صورة وكيفية، بالعكس! والمُلاحَظ أن الشريعة حرَّجت وضيَّقت وشدَّدت جداً إلى الأمد الأقصى لعلها في موضوع إثبات الجريمة، قد يأتي الإثبات عن طريق الإقرار، المُجرِم يعترف، يقول الأبعد أنا الذي فعلت كذا وكذا وكذا، هذا يحصل، والعجيب أنه حصل تقريباً كثيراً، تقريباً أنا لا أستحضر جريمة أيام رسول الله أو في عهد رسول الله أُقيم فيها حد الله – تبارك وتعالى – ثبتت إلا بطريق ماذا؟ الإقرار، كماعز والغامدية والرجل الذي اعترف على نفسه في حديث المُغيث أو الذي يُسمى بحديث المُغيث والذي أخرجه بعض أصحاب السُنن، أعتقد من حديث وائل بن حُجر الحضرمي، إلى آخره! بالاعتراف، هذا يعكس لنا درجة يقظة الضمير الإسلامي، ويعكس نجاعة التربية الرسولية النبوية – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، فحديث المُغيث هذا حديث عجب، أخرجه بعض أصحاب السُنن، امرأة كانت تقصد إلى مسجد رسول الله لتُصلي صلاة الصبح، فعدا عليها رجل – والعياذ بالله – ووقع عليها أو وقع منها على ما لا تُحِب الحُرة، فجعلت تصيح وتستغيث، وذلك في لحظة كان فيها الليل لا يزال موجوداً، هذا كان في أول الفجر، فجاء رجل يُغيثها، وفر الذي سطا بها، فر! ثم شاهدت جماعة من الناس فاستغاثت أيضاً، كانت تستغيث لأنها في حالة صدمة، يبدو أن هذا المسكين الذي أغاثها خاف أن يُتهَم بها فاشتد، اشتد أي فر، فأدركوه فأمسكوا به، فأتوا به إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وقصوا عليه الحكاية، فقال لست بصاحبها يا رسول الله، لست بصاحبها، أي لست أنا الذي فعلت هذا، الصاحب هنا لا تعني الصاحب الذي نعرفه، انتبهوا! هذه لُغة عربية فُصحى، إنما كنت الذي أغاثها، استغاثت بي فأغثتها، فأدركني هؤلاء، فأخذوني، قالت كذبت، وقالوا كذب يا رسول الله، إنما أدركناه يشتد، كان يجري، أكيد هو! وهي قالت كذب، هو! فكيف هو؟ هل رأيتيه؟ فهم الرسول بإيقاع الحد به، يُريد أن يرى! فإذا برجل من بين الجلوس يقول يا رسول الله لا تحده، ليس بصاحبها، الله أكبر! هو الذي أغاثها، وإنما أنا صاحبها، هذا ضمير، الله أكبر يا أخي، هؤلاء الصحابة، وانظر إلى هذا الصحابي، هو زنى، لكن هناك ضمير يقظان صاحٍ، هذا الرجل كان عظيماً فعلاً، فعل هذا من بعد ذنبه، سُبحان الله! فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۩، انظر إلى هذه الجريمة، أصبحت حسنات له، لماذا؟ ليس سهلاً أن تفدي أخاك بنفسه، هو فدى أخاه الذي لا يعرفه، واستبقى مُهجة هذا المرء النبيل الذي أغاث المرأة المُستصرِخة بتقديم نفسه، قدَّم روحه أو قدَّم نفسه، وهو يعلم أنه إن كان مُحصَناً ربما يُقتَل.

قال ليس بصاحبها، إنما أنا صاحبها يا رسول الله، قال هو الذي أغاثها، لماذا يُقتَل هذا؟ فقال النبي – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – قولاً حسناً للمرأة، قال أما أنتِ فغفر لكِ، مُغتصَبة! اغتُصِبت المسكينة، ذهبت لكي تُصلي فاعتُدي عليها، وقال قولاً حسناً للذي أغاثها، أي طيَّب خاطره، أخافوه وذعروه المسكين! كاد يذهب فيها وهو رجل نبيل وطيب، فقال عمر يا رسول الله فلنحد هذا، أي المُجرِم هذا، فقال النبي لا يا عمر، لقد تاب إلى الله، أسقط الحد النبي، عجيب! بالتوبة، فهنا مسألة لابد إذن أن نقف عندها.

هناك حالات في القانون المُعاصِر تُعرَف بحالات الإعفاء من العقوبة، تنحصر ربما في أربع حالات على الأكثر، هناك التقادم – التقادم طبعاً على تفصيلات -، وهذا مبدأ روماني من أيام جستنيان Justinian، وقبل جستنيان Justinian، لكن هو في مُدوَّنة جستنيان Justinian موجود، إذن هناك التقادم، وموقف الشريعة منه أيضاً فيه تفاصيل عندنا، لا تُنكِره بالمُطلَق ولا تقبله بالمُطلَق، وإن كانت أقرب إلى إنكاره، لكن فيه تفاصيل، أي موضوع التقادم.

الموضوع الثاني هو موضوع العفو الشامل، ما يُعرَف بالعفو الشامل أو العفو العام، العفو الشامل بلُغة القانون هو عفو ليس فقط عن العقوبة، بل عن الجريمة، هناك عفو عن الجريمة، كيف يُعفى عن الجريمة؟ يُعفى عن الجريمة بتعفية جميع آثارها بالمُطلَق، أي كأن لم تكن، وهذا ما يُعرَف بالعفو الشامل أو العفو العام، وأكثر ما يكون من السُلطة العُليا، من رئيس الدولة، في حق الجرائم بالذات السياسية، يُعرَف بماذا هذا؟ بالعفو الشامل أو بالعفو العامل.

هناك حالات الصُلح، ويكون للمجني عليهم في الجرائم الشخصية دخل كبير فيها، دخل كبير! على كل حال إلى آخر ما هنالك، في الشريعة الإسلامية هناك حالتان كُبريان، وهما التوبة والعفو، العفو أعتقد معروف لأكثرنا، هناك التوبة خاصة في الجرائم الشخصية، في الحدود بعضنا ربما لا يقف على تفاصيلها، لكن ماذا عن التوبة -والتوبة بشكل عام الآن – وخاصة في جرائم الحدود؟ هل تنفع التوبة؟ في جريمة الحرابة – وكما رأينا عقوباتها من أشد العقوبات وأوكدها – قال الله تعالى في الآية الرابعة والثلاثين الآتي، بعد الآية الثالثة والثلاثين قال إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۩، أي قبل أن يقعوا في يد ماذا؟ السُلطة الرسمية، في يد الدولة، تابوا! وضعوا السلاح وتابوا وقالوا هذا انتهى، تركنا هذا الشيئ، الله يقول فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، ولذلك اتفق الفقهاء من عند آخرهم – أي جميعاً، كلهم – على إسقاط عقوبة المُحارِب إذا تاب قبل القدرة عليه، هذه مسألة وفاق، لم يختلف فيها العلماء، لكنهم اختلفوا في سائر الحدود، ونحن ذكرنا لكم كم؟ سبعة حدود، الآن هذا مُستثنى، أي الحرابة، وماذا عن الحدود الستة الأُخرى؟ طبعاً على الخلاف الذي ذكرته لكم قُبيل قليل في حد القذف، هل هو من الحدود أو من الجرائم الشخصية؟ هناك خلاف، ذكرناه الآن ونسبناه إلى أصحابه، فالحديث عن سائر الحدود، هل تُقبَل هذه التوبة ويُدرأ بها الحد عن المُجرِم أو تُرد ولا أثر لها؟ لا أثر فيما بين العبد وربه، لكن بالنسبة إلى أثرها في إسقاط العقاب أو العقوبة هذا غير موجود، وهناك آراء، رواية عن الإمام أحمد وصحَّحها بعض الحنابلة وهو الثابت تقريباً من مذهب الإمام الشافعي، بمُراجَعة الأم للإمام الشافعي – كتابه العظيم والأبرك – وجدنا أن الشافعي يذكر قولين، القول الأول أنه لا أثر للتوبة في إسقاط عقوبة الحدود عدا الحرابة، وذكر له دليلاً واحداً فقط، وهو في الحقيقة له أكثر من دليل، لكن الشافعي اجتزأ أو اكتفى بدليل واحد، وهو قصر الاستثناء على ماذا؟ على الحرابة، قال الله استثنى فقط ماذا؟ الحرابة، لم يستثن مثل هذا الاستثناء – إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۩ – في حق مثلاً الزُناة، في حق القاذفين، في حق السرّاق، إلى آخره! فقط في حق المُحارِبين، قالوا فعلمنا أن هذه الحالة مُستثناة، وقفوا عندها ولم يطردوها بطريق القياس، سواء قياس الأولى أو قياس المثل أو المُماثَلة، وقفوا عندها، هذا هو.

وبعد ذلك توسَّع الشافعي أكثر – رحمة الله عليه – في الاستدلال للقول الثاني، مما يُظهِر أنه يعتمد هذا القول، توسَّع في الاستدلال له، وإن ظن بعض العلماء كالربيع المُرادي وهو تَلميذه أن الأول مذهبه، قال هو الذي أظن أنه يذهب إليه، لا! هذا ظنك، بعض الشافعية يقول لا، المُعتمَد هو الثاني، ابن حزم ذهب مع الربيع المُرادي، على كل حال سوف نرى.

إذن المُعتمَد تقريباً من منهج الشافعي وهي رواية عن أحمد وهو أيضاً ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتَلميذه النجيب ابن قيم – رضيَ الله تعالى عن الجميع وأرضاهم – ورأي لبعض العلماء أن هذه التوبة لها أثر في إسقاط عقوبات الحدود جميعها، ليس فقط الحرابة الثابت بالنص حُكمها، واستدلوا بحديث رواه الشيخان البخاري ومُسلِم، من حديث أنس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ جاءه رجل، وهذا قُبيل الصلاة، فقال يا رسول الله قد أصبت حداً، فأقمه علىّ، بالإقرار! يطلب تطهير نفسه المسكين، حتى وإن كان ذلك بالقطع أو بالجلد أو بغير ذلك، فأعرض عنه النبي ولم يسأله، بمعنى بقيَ الحد ماذا؟ مُبهَماً، بقيَ الحد مُبهَماً، ولذلك يُندَب للقاضي في الشريعة أن يُعرِّض له بالعدول، هذه شريعة رحمة، خاصة الإنسان الذي أقر وجاء تائباً، إقراره دليل ماذا؟ دليل توبته، قال العلماء – انتبهوا، هذا عكس ما يفعل العامة والطغام – مَن جاء مُقِراً بحد لم يُستفصَل، ما معنى لم يُستفصَل؟ لا نقول له أي حد؟ ماذا أصبت؟ نظل ساكتين أبداً، وبالعكس! يُندَب للقاضي – الحاكم كما يُسمونه هو القاضي – أن يُعرِّض له بالعدول، ما هو العدول؟ النكور والتراجع عن الإقرار، كأن يقول لا، تراجعت، لا، لم أفعل هذا الشيئ، فيقول له توكَّل على الله، لفعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لما جاءه ماعز، ماعز جاء مُقِراً، والذي دفعه إلى الإقرار قريب له اسمه هزّال، قال له لا، اذهب، هذا أحسن لك، حتى لا تهلك، حتى لا تدخل في جهنم، أخاف هذا المسكين، وقد تاب – أي ماعز -، فجاء وأقر، فالنبي عرَّض له بالعدول، أي كأنه يُلقِّنه، وهو ليس تلقيناً، لو كان تلقيناً لصرَّح، التلقين فيه صراحة، كأن يقول له قل يا ماعز لم أفعل، قل يا ماعز لم أزن، هذا اسمه التلقين، ولكن التعريض يختلف، وفي التعريض مندوحة بل مناديح من الكذب كما يقول العرب والمُسلِمون، في التعريض مندوحة، كأن يقول له – وقد قال له – يا ماعز لعلك لم تزن، قال بلى يا رسول الله، قال لعلك قبَّلت، لعلك لمست، لعلك غمزت، أي دفعاً هكذا بيدك في أي مكان، وهو في كل أولئكم يقول لا، وصرَّح بالزنا، الآن الرسول نهج له سبيلاً جديدةً، سبيل الحد موجودة، هذا ثابت وطُبِّق على غيره من قبل ربما، وهذا سبيل جديد، وهو ماذا؟ سبيل النجاة بنفسه بالتوبة، لاحت بوادر توبته الصادقة، كأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول له هذا انتهى، وهو لا يُريد، ولذلك هذا مذهب رابع في المسألة، المسألة فيها ثلاثة مذاهب وهذا رابعها، أن الإمام يُندَب له التعريض لما ذكرنا، ولكن مُخيَّر بحسب وزنه للأمر وتقديره للظروف – ظروف الجريمة وظروف المُجرِم -، مُخيَّر أن يُقيم الحد أو أن يعفو بالتوبة إن لاحت له أدلة أو دلائل صدق هذه التوبة، هذا المذهب ورجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه -، المسألة فيها منادح للنظر.

على كل حال نفس الشيئ فعله مع الغامدية، عرَّض لها بالتوبة، وهناك الذي جاءه في حديث أبي أُمية، جاءه مُعترِفاً بالسرقة، يا رسول الله سرقت فاقطعني، وليس معه متاع، أين المتاع إذن؟ لا يُوجَد متاع، أين هو؟ قال سرقت، ولم يقل له شيئاً آخر، قال ما إخالك سرقت، أي قال له لا، لا أظنك سرقت، يُعرِّض له ليترك هذا الشيئ، انتهى الأمر، تاب الله عليك، لكنه قال بلى، سرقت يا رسول الله، قال ما إخالك سرقت، ما إخال أي ما أظن، ما إخالك سرقت، قال بلى يا رسول الله، فأمر به فقُطِع، ماذا نعمل له إذن؟ يُحاوِل النبي أن يقول له اذهب، انتهى، انتهى الأمر! لكن المسكين يُريد هذا، هو حر، وطبعاً هذه منزلة عظيمة من الله – تبارك وتعالى -، انتهى! هذه المنزلة أكيد عظيمة، وربما تُرفَع له الدرجات – بإذن الله – حتى رُغ هذا الذنب، لأنه تاب توبة نصوحة، كلَّفته قطع يمينه، فيُندَب هذا للإمام، يُندَب هذا!

غير الإمام وقبل التقاضي يُندَب لمَن رأى ولمَن شهد ماذا؟ الستر، مَن ستر على عبد ستره الله في الدنيا والآخرة، ما من عبد يستر على عبد في الدنيا – في صحيح مُسلِم، هذا حديث آخر – إلا ستره الله يوم القيامة، في موطأ مالك هناك حديث مشهور جداً، قال – صلى الله عليه وسلم – مَن ابتُليَ بشيئ من هذه القاذورات – ماذا سماها النبي؟ القاذورات، هذه وسائخ، هذه زبالات، أي الذنوب! لا يُوجَد ما هو أقذر من الذنوب، والله لا يُوجَد ما هو أوسخ من الذنوب، على شكل الإنسان، على قلب الإنسان، على مصير الإنسان، على مقام الإنسان، وعلى عاقبة الإنسان، لا يُوجَد ما أوسخ ولا أقذر ولا أحقر من الذنوب، والله العظيم! تُورِث الإنسان مهانةً وذلاً، باطناً وظاهراً، دنيا وأُخرى، نعوذ بالله منها، ونسأل الله التسديد والحفظ في كل أحوالنا، اللهم آمين، فقال صلى الله عليه وسلم إذن مَن ابتُلي بشيئ من هذه القاذورات – فليستتر بستر الله، فإنه مَن يُبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله، النبي يقول هذا! يندب الآن مَن النبي؟ يندب مَن؟ وإلى ماذا؟ يندب حتى الجُناة والمُجرِمين، يقول لهم مَن ابتُليَ بشيئ من هذا فستر الله عليه – النبي يقول أنا أدعوه، أنا أندبه إلى وأحثه على ماذا؟ على أن يستر على نفسه، استر على نفسك، وتُب إلى الله توبةً نصوحاً، يُعفّي الله على آثار جُرمك، وإلا قال مَن يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله، أخرجه مالك في الموطأ – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، كل هذا مندوب، كل هذا مندوب إليه!

إذن نعود مرة أُخرى إلى حديث التوبة، فالنبي أعرض عنه، لم يستفصله، لم يقل له أي حد أصبت؟ زنا أو سرقة أو كذا أو ماذا؟ لا، سكت النبي، ثم أُقيمت الصلاة، أُذِّن للصلاة وأُقيمت، فصلى النبي، وصلى الرجل مع الناس، ثم آتى النبي – يُوجَد ضمير يقظان صاحٍ – وقال يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علىّ، غير قادر المسكين على أن ينام، تعبان! ليس كبعض الناس اليوم، يكون أحدهم مُسلِماً وقد يكون حتى مِمَن يُصلي الصلوات الخمس والجُمع والجماعات، ومع ذلك يأكل أموال الرسول وهو مُرتاح الضمير، كأن هذا بعض حقه، هو يرى أن هذا بعض حقه، شيئ عجيب يا أخي! يفعل الكبائر مع الصغائر، وينام ملء جفونه، الضمير ميت – والعياذ بالله -، هذا المفروض أن يخاف على نفسه، أنه ليس لله فيه حاجة، ولذلك وكله لنفسه وخذله، لا يُحِب حتى الله له أن  يتوب – والعياذ بالله -، هذا مُؤمِن صالح، يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علىّ، والنبي يُعرِض عنه، ولم يستفصله، ثم التفت إليه وقال ألم تُصل معنا آنفاً؟ كانت هناك صلاة جماعة، فهل صليت معنا؟ قال نعم، قال اذهب، فقد غفر الله لك بصلاتك، توكَّل على الله، أخرجه البخاري ومُسلِم.

بعض الناس قالوا الحد كلمة عامة، حتى في أصل الوضع الشرعي كلمة عامة، قد تطال بعض الذنوب التي ليس فيها عقوبات مُحدَّدة، المُسماة بعقوبات جرائم الحدود، هذا احتمال قائم، لكن يُبعِده ماذا؟ يُبعِده التصريح في رواية أُخرى، ذكر ابن حزم في فتحه أن إسنادها على شرط البخاري، اعتراف الرجل نفسه بأن الحد الذي أصابه الزنا، قال الأبعد يا رسول الله زنيت فطهِّرني أو أقم علىّ حد الله، قال زنيت، الحد زنا، والنبي قال له ما ذكرت، إذن هنا بماذا وقع العفو يا إخواني؟ بالتوبة، بالتوبة! تاب إلى الله وجاء مُقِراً، فللإمام أن يعفو عنه إذا قدَّر ما ذكرناه، وهذا المذهب – كما قلنا – هو المُعتمَد على ما هو ظاهر من مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد ورجَّحه بعض العلماء والأئمة، ونحن – والله – مُطمئنون إليه، حتى في جرائم الحدود! هذا المذهب يُؤكِّد أن ليس من غاية ولا أهداف ولا مقاصد الشريعة لا تشويه الناس ولا الانتقام منهم ولا التشفي بهم أبداً، إنما ماذا؟ إنما حفظ استقرار وأمن وصلاح المُجتمَع بأفراده ونُظمه، وهذه التوبة دليل على أن هذا الإنسان ماذا؟ أصبح مُتباعِداً جداً من هذه الجريمة، وربما أكثر من أي إنسان عادي، بدليل أنه جاء مُقِراً مُعترِفاً، لكن هل تُقبَل توبة مَن ثبت عليه الجُرم بالبيّنة؟ 

العلماء لم يتعرَّضوا إلى هذا بشكل واضح، والذي ظهر لي – والله أعلم – هو الآتي، ولكن هذا يحتاج أيضاً إلى بحث مُركَّز ومُفصَّل، لم نصل إلى غايته بلا شك، الذي ظهر لي أنه في كل هاته الأحوال الذين جاءوا إنما جاءوا مُقِرين هم بأنفسهم على أنفسهم، ليس بالبيّنات، هم أقروا، هم الذين أقروا على أنفسهم، مُجرَّد إقرارهم يُؤكِّد صدق توبتهم، ويجعل للإمام مندوحة عن ماذا؟ عن إيقاع العقوبة، أي يجعل له مناصاً ومخرجاً ومدفعاً في ترك العقوبة، في ترك توقيع العقوبة، وهذا يتماشى مع الأصل الشرعي، نعم هي قاعدة فقهية، ولكنها ليست نصية، لأن الحديث لم يصح، وإن كان رواه الترمذي من حديث عائشة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – موقوفاً عليها، ومرفوعاً من حديث رسول الله، قال الترمذي والموقوف أصح، ولكن الموقوف في حُكم الضعيف، هذا لو صح إسناده، فكيف وإسناده فيه مغمز؟ هذا لا يصح، الحديث هذا لا يصح، ولكن على كل حال هو موجود، والأمة تلقَّته بالقبول، وأصبح قاعدة فقهية، هي قاعدة فقهية وليست قاعدة نصية كما يقول علماء الأصول، قال – صلى الله عليه وسلم – ادرأوا الحدود عن المُسلِمين ما استطعتم، وفي رواية ادرأوا الحدود عن المُسلِمين بالشُبهات ما استطعتم، فإذا وجدتم أو قال مَن وجدتم له مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لئن يُخطئ في العفو خيرٌ – أي وأحب إلى الله – من أن يُخطئً في ماذا؟ في العقوبة.

ورُويَ عن الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – أنه قال ادرأوا الحدود، هكذا! بماذا ندرأها؟ أي بالشُبهات، ما معنى الشُبهات؟ الشُبهات هي الشك الذي يحوم حول ماذا؟ حول ثبوت الجريمة على الشخص المُتهَم، يجعل في ثبوتها شكاً، يُسمى ماذا؟ شُبهةً، هذه الشُبهة، ويُروى عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنه – أنه قال ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً، ويُروى هذا المعنى عن عُقبة بن عامر وعن عبد الله بن مسعود وعن مُعاذ بن جبل – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، كما يُروى عن الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قوله لئن أدرأ الحدود بالشُبهة أحب إلىّ من أن أُقيمها بالشُبهة، هذا هو طبعاً!

على كل حال بعض الناس يتنطَّع من غير تحقيق علمي ويقول ابن حزم الظاهري طعن في هذه الآثار، ومعه الحق، في الحقيقة فيها مطاعن، قال هذا لم يصح عن رسول الله، لا في نص ولا في كلمة، وإنما هي آثار عن أصحابه، لا خير فيها، كلها – قال – آثار فيها مطاعن، من جهة الإسناد وليس من جهة المعنى، ثم انتصر ابن حزم إلى أن الحدود لا تُدرأ بالشُبهات، الحدود لا تُدرأ بالشُبهات! فبعض الناس يتنطَّع وينتصر لمذهب ابن حزم، في الحقيقة أنا أقول لكم هذا خلاف شكلي صوري، وابن حزم مع الجمهور، كيف؟ ابن حزم ما مذهبه؟ ابن حزم يقول لا نُقيم الحدود بالشُبهات، لأن الأصل براءة ماذا؟ الذمة، واستشهد بحديث حجة الوداع – خُطبة حجة الوداع -، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم – جلودكم، أي الضرب والجلد أيضاً – حرام عليكم… الحديث، قال هذا هو الحديث، وهذا صحيح، ولذلك لا يُقام حد إلا بيقين، إذن إذا وُجِدت شُبهة في إثباته يُقام أو لا يُقام هذا الحد؟ لا يُقام، وهذا يعني أن ابن حزم وهو يُصرِّح يقول نحن لا نُقيم الحدود بالشُبهات، لكن لا ندفعها بالشُبهات، طبعاً ونحن أيضاً، هل تعرفون لماذا؟ لأن الحد إذا قام أو ثبت بيقين لم يُدرأ بعد ذلك، لكن من أين تأتي الشُبهة؟ أين تأتي؟ في ثبوته، فابن حزم هو تماماً كالجمهور، إنما هو خلاف عرضي، وخلاف صوري، خلاف صوري لا يجوز لبعض الناس أن يتنطَّعوا فيه، وقد فعل الصحابة تقريباً الخُلفاء بمُقتضى هذه المعاني من غير نكير.

نجتزئ لأن الوقت أدركنا بحكاية أو حكايتين، عمر بن الخطاب أوتيَ برجل سرق من بيت مال المُسلِمين، فسأل ابن مسعود، قال ماذا نفعل بهذا الرجل وقد سرق من بيت المال؟ وطبعاً هو له حق في الجُملة في بيت مال المُسلِمين، مثل أي مُسلِم عادي، هو مواطن، له الحق في راتب شهري أو في عطية شهرية، إذن هناك تُوجَد شُبهة، أنه سرق شيئاً من ماله، يُسمونه شُبهة المِلك أو المُلك، يُقال مُلك أو مِلك، نفس الشيئ! شُبهة المُلك أو المِلك، فسأل ابن مسعود، فقال ابن مسعود لا قطع عليه، خله، ما من أحد من المُسلِمين إلا وله حق في هذا المال، فتركه!

وهذا يُؤيِّده ما رواه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، أن عبداً من رقيق الخُمس – أي خُمس الغنائم، خُمس الغنيمة، لأنه تُخمَّس خمسة أخماس – سرق من مال الخُمس، فقال النبي اتركوه، لا تقطعوه، مال الله سرق بعضه بعضاً، فهذا نفسه الخُمس، وهو سرق من الخُمس، فاتركوه، أخذ من ماله، يُدرأ الحد بالشُبهة، أي شُبهة، ولكن طبعاً الشُبهات يُحدِّدها المُشرِّع المُسلِم، يُحدِّدها القانوني أو الفقيه، أي ليس أي واحد، الشُبهات تدرأ الحدود.

تعرفون شُراحة الهمدانية، هذه كانت امرأة أوتيَ بها الإمام عليّ – عليه السلام -، اعترفت على نفسها بالزنا، فقال لها لعلكِ لم تفعلي، فقالت بلى فعلت، فقال لعل سيدك زوَّجك منه وأنتِ تكتمين، لعل… لعل… لعل… لعله استكرهكِ، لعله أتاكِ وأنتِ نائمة، أي ذلك ثبت يُدرأ الحد، ولذلك حين أوتيَ بامرأة أُخرى إلى الإمام عمر – رضوان الله عليه – وعليّ في المجلس – كرَّم الله وجهه – أمر عمر بحدها، فقال عليّ يا أمير المُؤمِنين ألا ترى أنها تستهل بها استهلال مَن لا يعلم؟ عمر سألها هل زنيتِ؟ فقالت نعم بكل بساطة، نعم، زنيت، فعليّ قال هذه يبدو أنها جاهلة، فتُعذَر بماذا؟ بالجهل، يبدو أنها جاهلة مسكينة، لا تعرف أن هذا من المُحرَّمات، قال يا أمير المُؤمِنين ألا ترى أنها تستهل بها استهلال مَن لا يعلم؟ اتركها، فتركوها! قالوا هذه جاهلة لا تفهم، لا تفهم شيئاً هذه.

امرأة أُخرى جاءت مُقِرةً على نفسها بالزنا، فأمر عمر بحدها، فتصدى عليّ – عليه السلام – وقال له لا، ولذلك كان عمر يقول لا أبقاني الله بأرض لست فيها يا أبا الحسن، طبعاً! هذا أبو الحسن عليّ، فقال عليّ لا، انتبه يا عمر، ما هذا؟ أمُباشَرةً هكذا؟ قال سلها، لماذا زنت هيَ؟ هي جاءت لتعترف، لماذا زنت؟ فسألها عمر لماذا فعلت هذه الفاحشة؟ فقالت له كان لي خليط، والخليط هو الشريك، شريك في المال وفي الإبل، قالت كان لي خليط، في إبله ماء ولبن، وليس في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت نفسي يوماً، ظمئت في يوم شديد القيظ والهجير، فظمئت نفسي يوماً، فاستسقيته فلم يسقني، وطلب مني أن أُمكِّنه من نفسي، قال لا أسقكِ إلا أن تُمكِّنيني – والعياذ بالله – من نفسك، فأبيت عليه ثلاثاً، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج عطشاً – ستموت هذه المسكينة، وليس عندها ما ذكرت، هي في الصحراء – أمكنته من نفسي، فقال عليّ خلها، الله أكبر! فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩.

هذه رحمتهم وهذا حرصهم وتشوفهم إلى درء الحدود ما استطاعوا حتى بأدنى الشُبهات.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور رحيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                 (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات:

ومن الشُبهات التي يُدرأ بها حد السرقة عمَن اتُهِم بها سرقة الأصل من فرعه أو الفرع من أصله، أي أب من ابنه أو ابن من أبيه، وهكذا! الأصول والفروع، سرقة أحد الزوجين من الآخر يُدرأ بها حد السرقة، سرقة أحد الشريكين من شريكه يُدرأ بها حد السرقة، انتبهوا طبعاً الآن، لأن بعض الناس قد يفهم أنه في هذه الأحوال السرقة ليست حراماً، هي حرام وهي كبيرة من أكبر الكبائر، وليس يعني عدم إقامة الحد أن السرقة صارت حلالاً، انتبهوا! بعض الناس عنده عقلية عجيبة، عنده فهم عجيب غريب، يقول نعم، إذا لم يُوجَد فيها قطع فهذا يعني أنها حلال، ومن ثم سنسرق، لا! أعوذ بالله، الحُرمة شيئ ويُقطَع أو لا يُقطَع شيئ آخر، الحُرمة هذه حُكم تكليفي، يُقطَع أو لا يُقطَع هذا حُكم مُختلِف يا جماعة، انتبهوا! على كل حال سرقة أحد الشريكين من شريكه، سرقة المرء من بيت مال المُسلِمين إذا كان له فيه نصيب، إلى شُبهات أُخرى، حتى أن الإمام الشافعي قال اللص الظريف – واسمعوا واحفظوا هذا المُصطلَح الظريف اللطيف – لا يُقطَع، مَن هو يا إمامنا، يا عبد الله؟ قال اللص الظريف مَن إذا سرق قال كنت أظنه مالي، إذا كان هناك احتمال أن يكون صادقاً فإنه يُترَك ولا يُقطَع، طبعاً هناك تسوية حقوقية، وربما أيضاً يكون هناك تعزير، هناك تعزير في حالات مُعيَّنة، ولكن هذا يحتاج إلى تفصيل.

اللهم إنا نسألك أن تُعلِّمنا وأن تُفقِّهنا في الدين وأن تُعلِّمنا التأويل، اللهم افتح علينا فتوح العارفين بك، اللهم علِّمنا ما جهلنا، وذكِّرنا من العلم النافع ما نُسّينا.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك رحمةً واسعةً، ترحمنا بها في الدنيا والآخرة، وتهدي بها قلوبنا، وتجمع بها أمورنا، وتلم بها شعثنا، وتُزكِّي بها أعمالنا، وتُبيِّض بها وجوهنا ونواصينا، وتُثقِّل بها موازيننا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 (27/2/2009)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: