ما يشد حقا في برنامج “صحوة” أنه يتحدى معلوماتك، يجعلك تراجعها، والأكثر من ذلك تشعر وأنت تتابعه بأن عقلك، بل أدوات التفكير عندك فعلا في حالة اشتعال فوق صفيح ساخن!
تكاثرت هذه الأيام برامج الحوار على الرائي والمذياع، ركزت على الجانب الفني الترفيهي، أو التربوي، أو الثقافي، أو الاجتماعي، أو الفكري، أو الديني، أو السياسي، المهم هنا أن المشاهد أو المتلقي أصبح لديه الخيار في متابعة ما يشده حسب اتجاهاته ومشاعره ورغباته، بيده جهاز “ريموت”، ويستطيع أن يغير القناة متى ما شعر بالملل، أو شعر بأن ما يقدم غير ذي فائدة، أو حتى إذا وجد أنه لا يرتقي إلى مستوى مبادئه وأخلاقه. إذًا الأمر بيده والقرار له، والأبعد من ذلك أن المجال مفتوح أمامه كي يبدي رأيه سواء بالتأييد أو الرفض، بأن يرد من خلال أي وسيلة من وسائل الإعلام الجديد في شبكات التواصل الاجتماعية، أما إن كان كاتبا فمن خلال مقالة أو إن كان مختصا فمن خلال كتاب أو دراسة، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يكون صاحب الاعتراض مستعدا لأن يدعم هذا الرد بالدليل الموثق والحجة المنطقية؛ بمعنى آخر لا يحق لأحد أن يبدي رأيه بإسفاف أو إهانة أو اتهام أو تعدّ، وإلا فليكن مستعدا لدفع الثمن؛ أن يتحمل مسؤولية كلماته!
في البرامج التي تحاور فكر المشاهد أو المستمع، ما يجب أن نركز عليه هنا هو القضايا التي تُناقش وكيفية معالجتها من المقدم أو المتحدث، لنبتعد عن المشاعر والحكم المسبق برفض كل ما سيُقدم لمجرد أننا لا نتقبل أو نرفض مقدم البرنامج أو المتحدث! بما أننا اتخذنا القرار بالمتابعة إذًا فليكن ذلك بموضوعية، وليس لتصيد الأخطاء! ولنتخلص من أي أفكار مسبقة أو على الأقل لنضعها جانبا كيلا تتدخل في حكمنا على ما سنتابعه من حوار أو نقاش. المهم أنه حين نقرر المتابعة، هنالك أمور يجب أن ننتبه إليها، فمثلا إن كان المتحدث قد قُدم إلينا كمختص يجب أن نرى ذلك فيما يقدمه من أدلة وحجج متنوعة؛ منطقية وموثقة، ولننتبه إن كان يعرض وجهات نظر مختلفة أم أنه يعرض كل ما يدعم وجهة نظر واحدة فقط ولا يتطرق إلى غيرها سواء كان يقصد أو لا يقصد؛ بمعنى ليس لنا أن نحكم على النيات بل على ما يتجلى أمامنا من معلومات. ولكن لنعلم أن من لا يعرف سوى وجهة نظر أو زاوية واحدة عن أي قضية، ستكون معلوماته ناقصة! حتى من كانت حججه قوية في قضية ما ويصعب على الكثيرين دحضها، لكنه لا يستطيع دحض الآراء المختلفة أو المعارضة؛ أو غير مطلع عليها أو لم يكلف نفسه حتى بالبحث عنها أصلا لدحضها، لا يحق له أن يدعي صدق أو قوة أي حكم أو قرار توصل إليه، وبثقة؟! الأفضل له هنا ألا يقرر أو على الأقل يجمد إبداء الرأي في القضية إلى أن تكتمل دائرة المعرفة لديه! فإن عدم تكامل ووضوح الصورة أمامه قطعا لا يسمح له بالحوار أو النقاش المنطقي والموضوعي!
ولننظر أيضا إلى الجدل المنطقي الذي يستخدمه المتحدث أو مقدم البرنامج، هل يشمل معطيات (تقدم كمسلمات) هي أصلا موضع خلاف؟ هل يرتكز في حواره على استثارة المشاعر كجاذب للشفقة أو الغضب أو الكراهية، ويجعلها الأساس الذي يبني عليه لشد المتابع ليصدقه ويتفاعل معه؟ أو قد يكون ممن يقدم رأيه على أنه الحقيقة، وبما أنه رأي أو رؤية، بغض النظر عما إذا كان صحيحا أو خطأ، يجب أن تتوفر في حجته نوعية أخرى من الأدلة، لكي نتمكن من الحكم على ما يدعيه! بل يجب أن ننتبه أيضا إلى أنه لا يستخدم دليل أن غالبية المجتمع أو الناس يرون أو يفكرون كما يفكر! إن كلمة الغالبية في الحوار الفكري عادة ما تُستخدم عند الاستدلال بأقوال المختصين مع ذكر المراجع لكي يرجع إليها المتابع ويتأكد بنفسه. ونعم نعترف أيضا بكلمة الغالبية حين تظهر في بعض الإحصاءات للأبحاث والدراسات المعتمدة والمختصة، أو في نتائج استفتاءات للرأي العام عندما يحتاج الأمر لاتخاذ قرارات تخص المجاميع في مجتمع معين. أما أن يدعي المتحدث بقوله: “ما أقدمه يتوافق مع رأي الأغلبية” فهذا دليل ضعيف لا يصح أن يُستخدم ضمن حجة منطقية! هذا ما تسعفني به المساحة لما يمكن أن يساعد المتابع في التوصل إلى حكم موضوعي عند متابعة البرامج الحوارية التي تعتمد على الحوار الفكري.
والآن من هذه البرامج ما شدني هو برنامج “صحوة” الذي يبث يوميا في رمضان على قناة روتانا خليجية، فقد وجدت أنه يسهم في إثراء مخزون المعلومات لدى المتابع، إضافة إلى أنه يقدم الكثير مما يدعو إلى التأمل والتفكير والمراجعة؛ حيث يدفع أصحاب العقول المتشككة والفضولية من المشاهدين إلى العودة للكتب من جديد للتأكد مما يعرض عليهم من معلومات، إضافة إلى أنه يعرض كمية من الآراء المختلفة التي لم نكن نعرف عنها من قبل، أو لنقل لم تمر علينا في الكتب التي درسناها، وخاصة التي تتعلق بقضايا أشعلت في السنوات القليلة الماضية شبكات التواصل الاجتماعي، بل ما زالت تشعلها! طبعا لا أقول إنه يجب أن نتفق تماما مع كل ما يعرض ولا أقول يجب أن نرفضه، فليس لي حق لا بهذه ولا بتلك! ولكن ما أقوله هو وبكل بساطة أنه قبل أن نحكم عليه أو على غيره من البرامج الحوارية الفكرية، يجب أولا أن نُصغي بعقول منفتحة قادرة على التحليل والمراجعة والتأكد. عقول لديها استعداد لأن تعود وتطالع كل ما تستطيع أن تجده من المراجع التي تم ذكرها وغيرها لتتأكد ثم تقرر ما إذا كانت هذه المعلومات صحيحة أم لا، ما إذا كانت تستحق أن تؤخذ في الحسبان أم أنها غير موجودة أصلا ولا تساوي شيئا، المهم سواء وجدتها أم لم تجدها مجرد عملية البحث تثريك وتطور من معلوماتك، بل تزيدك ثقة بما لديك.
في النهاية، أجد أن ما يشد حقا في برنامج “صحوة” أنه يتحدى معلوماتك، يجعلك تراجعها، والأكثر من ذلك تشعر وأنت تتابعه بأن عقلك… بل أدوات التفكير عندك فعلا في حالة اشتعال فوق صفيح ساخن! أن تستمع للرأي والرأي الآخر ومن شخص واحد، أمر لم نتعود عليه! أن تُعرض عليك المعلومات ويترك لك الحكم، أمر لم نتعود عليه! ومن يرى غير ذلك… وله الحق في رأيه طبعا، بيده جهاز “ريموت” فليغير القناة ولا يتابع!
د.ميسون الدخيل
كاتبة سعودية
أضف تعليق