إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم – سُبحانه – في كل حالة ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله وقد عز من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۩ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ۩ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، اللهم تقبَّل عنا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يُوعَدون، اللهم بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
اللهم أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم ألهِمنا رُشدنا وأعِذنا من شر نفوسنا، اللهم إنا نشكو إليك نفوساً تضعف في طاعتك وتنشط لدى معصيتك، اللهم فذلِّلها لنا في طاعتك، اللهم إنا ضعفاء، فقو في رضاك ضعفنا، وخُذ إلى الخير بنواصينا يا رب العالمين، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب:
هذه الآيات هي آيات الصدقة، هي آيات النفقة، آيات الإنفاق في سبيل الله – سُبحانه وتعالى -، ونحن في شهر رمضان، شهر الصيام والقرآن والنفقة والصدقات، فلرمضان اختصاص بالقرآن واختصاص بالإنفاق، والعلاقة بينهما واضحة في نصوص الشارع الحكيم، فالصيام والصدقات لهما مدخل في كفارات الأيمان، ومدخل في كفارات محظورات الإحرام، ومدخل في كفارة الظهار، وكفارة القتل الخطأ، وكفارة الجماع في رمضان، إلى غير ذلكم، والعلاقة وثيقة.
ولذا كان مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أجود ما يكون في شهر رمضان، وهو الأجود في كل حالة، كما في الصحيحين عن ابن عباس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال كان رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، حين يلقاه جبريل يُدارِسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة ويُدارِسه القرآن، فلرسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أجود بالخير من الريح المُرسَلة، هذا الحديث الجليل رواه الإمام أحمد، وزاد في آخره وكان لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، لو سأله السائل أي شيئ لا يبخل ولا يرد ولا يمنع – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
وللحرص على الجود ومزيد الإنفاق والصدقة في شهر رمضان لحكم وعبر، قد لا تخفى عليكم – أيها الإخوة الأفاضل -، من هذه الحكم والعبر أن اجتماع الصيام والصدقة من مُوجِبات الجنة، بلَّغنا الله إياها، الدرجات العالية منها، كما في حديث الإمام عليّ – عليه السلام – المشهور، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن في الجنة غُرفاً، يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، قالوا لمَن هي يا رسول الله؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – هي لمَن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام.
هناك غُرفٌ يُرى بواطنها من ظهورها وظواهرها من بطونها لمَن طيَّب الكلام، الكلام يكون طيباً، وصدِّقوني – أيها الإخوة – أن أكثر الكلام في غير ذكر الله وفي غير مُذاكَرة أحكام الله لا يكون طيباً، خاصة في هذا الزمان، حتى المُباح من الكلام، يجر إلى كثير من الإثم، لذا على الإنسان إذا أرد أن يُركِّن أركان السلامة أن يفقه هذا، فأركان السلامة كما حصرها السادة العلماء مُنذ أزمان بعيدة على رأسها وفي مُقدِّمتها الصمت، أن تصمت، إلا عن خير، هذا اللسان أكثر ما يُدخِل الناس نار جهنم – والعياذ بالله -، فنسأل الله ألا يُنطِقنا إلا بما فيه خيرنا ورضوانه.
لمَن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، أي النفقة والصدقة وإطعام المساكين، وأدام الصيام، ليس فقط شهر رمضان، نُديم الصيام في الأيام المُستحَبات الشريفات، قال – عليه السلام – لعائشة أم المُؤمِنين يا عائشة أديمي قرع أبواب الجنة بكثرة الصيام، فكانت عائشة كثيرة الصيام جداً، لا تكاد تُفطِر، إلا في الأيام المنهي عن صيامها – رضيَ الله تعالى عنها -.
إذن الصيام مع الصدقة يا إخواني من مُوجِبات الجنة، قال السادة العارفون بالله – عرَّفنا الله به، ودلنا عليه، وسلك بنا سبيلهم، ونهج بنا نهجهم – الصلاة تصل بك إلى مُنتصَف الطريق، والصيام يُوصِلك إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيدك وتُدخِلك عليه، لماذا؟ لأن الصدقة تُطفئ غضب الرب، هذا في الحديث الصحيح، ولا يُمكِن ولا يتسنى لأحد أن يدخل على الرب الجليل – لا إله إلا هو – في حال غضبه، فإن يغضب يوم القيامة غضباً لا يقوم له أحد، ولا يجرؤ نبي أن يشفع للأمم بين يديه، إلا ما يكون من سيد الخلق والأمم محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
إذن الصدقة تُطفئ غضب الرب، ومُقتضى هذا أنها تُوجِب رضوانه، تُوجِب رضوانه على العبد، اللهم ارض عنا بفضلك ومنّك يا كريم، وقد صح أيضاً في صحيح مُسلِم أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – سأل أصحابه ذات يوم أو ذات صباح – لأن السياق يدل على أن السؤال كان في وقت الصباح -، قال لهم مَن أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر أنا يا رسول الله، قال مَن أصبح منكم اليوم وقد أطعم مسكيناً؟ قال أنا يا رسول الله، قال مَن أصبح منكم اليوم وقد شيَّع جَنازة أو جِنازة؟ قال أنا يا رسول الله – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال مَن أصبح منكم اليوم وقد عاد مريضاً؟ قال أنا يا رسول الله، قال ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة، إذن الصدقة أيضاً – إطعام المساكين والصدقات بعامة – مع الصيام من مُوجِبات دخول الجنة ورضوان الله.
وهكذا كان الأصحاب الكرام – رضوان الله تعالى عليهم – حريصين جداً على أن يتوسَّعوا في هذا الباب، وأن يتقلَّلوا من ذخر المال وادخاره وجمعه ومنعه، فقد ورد هنا وعيد شديد، سيما أن مَن كان هذا دأبه وديدنه انتهى به الأمر إلى الشُح – والعياذ بالله -، وإلى أن يقبض يده، وإلى أن يحبس الحقوق عن مُستحقيها وأن يحبس حقوق الله – سُبحانه وتعالى -، وهذا فيه الهلكة وأي هلكة!
روى الإمام الطبراني في الكبير أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عاد بلال بن رباح – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، عاده فأخرج له بلال صُبراً – أي مجموعات هكذا، صُبراً أي أكواماً صغيرةً – من التمر، فاستنكر النبي هذا، أي معنى هذا أن بلالاً يدخر هذه الأشياء، تمر! فقال له يا بلال ما هذا؟ قال له يا رسول الله ادخرته لك، قال يا بلال أتود أن يكون لك بُخارٌ في نار جهنم؟ قال كلا يا رسول الله، قال إذن يا بلال أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، قال إذن يا بلال أنفق، أو قال أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، لا تدخر هذه الأشياء.
لما زار ابنته وبضعته وحبيبة قلبه فاطمة – عليها السلام والرضوان والرحمات – ذات يوم أخرجت له طائراً، قال من أين هذا الطائر يا فاطمة؟ قالت من الطيور الثلاثة التي كانت عندنا أمس، فغضب النبي ونهاها أن تدخر شيئاً إلى غد، لم يكن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُحِب أن يدخر شيئاً إلى غد، فانظروا إلى كم ندخر نحن! أحياناً ندخر لما يكفينا أكثر من خمسين سنة، والله بعضنا عنده من المال ما يذخره ويدخره وربما يكفي أبناءه وذراريه إلى جيلين أو ثلاثة، يا ويله، يا ويحه!
ولذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لبلال مرة، قال له يا بلال مُت فقيراً، ولا تمت غنياً، حتى لا تُسأل، حتى لا تُسأل عن كل درهم تدعه وتتركه من ورائك، تُخلِّفه! يا بلال مُت فقيراً، ولا تمت غنياً، قال يا رسول الله وكيف لي بذلك؟ هل أستطيع؟ هل أستطيع أن أختار إحدى الحالتين من الفقر أو الغنى؟ هذا أمر مُقدَّر! كيف لي بذلك؟ فقال – عليه الصلاة وأفضف السلام – ما رُزِقت فلا تخبَأ، وما سُئلت فلا تمنع، فلا تخبَأ من خبَأ ومنه الخبء، الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، الخبء هو كل شيئ مستور، هو كل شيئ مُكتَن ومستور، خبَأ أي خبَّأ، بالتخفيف خبَأ يخبَأ، ما رُزِقت فلا تخبَأ، وما سُئلت فلا تمنع، أي شيئ يأتيك من رزق الله أنفق منه، أنفق وأعط لوجه الله – سُبحانه وتعالى -، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ۩، وارضخ وانفح، ولا تخش تضييقاً، ولا تخش تقتيراً، فإن لله ملائكة تُنادي بالأصابح والأماسي وتدعو اللهم أعط مُنفِقاً خلفاً وأعط مُمسِكاً تلفاً، تلفاً في صحته أو تلفاً في ماله أو تلفاً في كل ما خوَّله الله، هكذا عامة، تلفاً – والعياذ بالله -، تتلف صحته أو تتلف أمواله أو تتلف ذُريته، لأنه مُمسِك شحيح بخيل، يبخل برزق الله وقد وسَّع الله عليه.
أراد الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أن يختبر أعلام الأمة، وهؤلاء الأعلام بالذات لهم حالة تخصهم، ولا تعم العوام، لا تعم عامة الناس، لأنهم أئمة هُداة، منظور إليهم، وهم بمنزلة الأسوة من الناس، وبمثابة الاعتبار من الخلق، عن مالك الدار كما أخرجه الطبراني في المُعجَم الكبير، قال دعا الفاروق – رضيَ الله عنه وأرضاه – ذات يوم بغُلام، وأعطاه صُرة فيها أربعمائة دينار، وقال له يا غُلام اغد إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح في بيته، فأعطه هذه الدنانير الأربعمائة، وتلهى في البيت ساعةً حتى تنظر ماذا يفعل بها، قال وتهلى في البيت – أي في بيت أبي عُبيدة – ساعةً حتى تنظر ماذا يفعل بها.
فجاء الغُلام وقال له يا أبا عُبيدة إن أمير المُؤمِنين يدفع إليك بهذه الصُرة، ويقول ضعها في بعض حاجتك، فقال أبو عُبيدة وصله الله ورحمه، دعا له، قال وصله الله ورحمه، هذه آداب طيبة يا إخواني، لا أقول نستخف بها بل قد لا تخطر على بالنا، وأنا في طريقي إلى المسجد أوسعت في الطريق – في طريق العربات -، أوسعت لأحد هؤلاء، فقال بيده هكذا يشكرني، قلت يا ليتك كنت مُسلِماً فدعوت لي، فقلت جزاك الله خيراً، خيرٌ لي من هذا، فالدعوة شيئ كبير، إذا دعا المُؤمِن لأخيه بظهر الغيب بصدق وإخلاص فهذا شيئ كبير، قد يأتيك يوم القيامة خيرٌ كثير من حيث لا تحتسب، وإنما هو دعاء إخوانك لك بظهر الغيب، فاطلبوا الدعاء من إخوانكم، وادعوا بصدق لإخوانكم، ليس شقشقة اللسان، كأن يُقال ادع لنا يا أخانا وبارك الله فيك، هذا شقشقة لسان أو من باب المُراءة، لا! ندعو بصدق من قلوبنا بكل خير لأنفسنا ولإخواننا – إن شاء الله -.
قال وصله الله – أمة ربانية – ورحمه، يا غُلام – أبو عُبيدة يقول لغُلامه، وغُلام عمر يتلهى في البيت – تعال، فجاء الغُلام، فقال خُذ هذه السبعة الدنانير، أعطها لفلان، وهذه الخمسة الدنانير، أعطها لفلانة، وهذه السبعة، أعطها لفلان، وهكذا! حتى أنفقها من على آخرها، ولم يترك شيئاً لأهله، أمين هذه الأمة! أبو عُبيدة بن الجرّاح أمين هذه الأمة، كيف لا يكون أميناً وهذا هو صنيعه وهذا هو فعله؟! رضوان الله تعالى عليه.
أيُمكِن أن نطمع أن نلتحق بهؤلاء وهذا صنيعهم وتعلمون ما هو صنيعنا؟! لا يُمكِن أن نلتحق بهم إلا إذا ائتسينا واقتدينا وحاولنا أن نكون أمثالهم، حاولنا! بالذات في موضوع العطاء، الصلاة قد تهون على كثير من الناس – أي قد تيسر وتسهل – فيُصلي، لأنها لا تُكلِّفه كثيراً، ولكن هذا خيرٌ كثيرٌ أيضاً، إلا الصدقة، إلا العطاء، وإلا المال، لا يهون على أكثر الناس.
ولذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده، قال لا يُخرِج المرء صدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً، أي صدقة، حتى مائة شلن، ليس شرطاً أن تكون بالآلاف وما إلى ذلك، مائة شلن يُخرِجها لله، لا يستطيع حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً، واللحيان هما عظما الفكين، ومعنى الحديث أن هناك سبعين شيطاناً يرصدونه ويقعدون له بالمرصاد، كلهم يُخوِّفه وينهاه عن إخراج الصدقة، مُباشرَةً أول ما يُفكِّر، حين يُقال صدقة يا إخوان يأتيه سبعون شيطاناً، وليس القرين فقط، وإنما يأتيه سبعون شيطاناً، يقولون لا تُخرِج، تحتاج كذا، عليك ديون، زوجتك، أبناؤك، لعبة لابنتك، وما لا أعرف، خمسون ألف عذر – والعياذ بالله -، لكن إن غلبه الإنسان وأخرج الصدقة فقد أرغم وأذل سبعين شيطاناً، اللهم يسِّر ذلك لنا واجعلنا منهم.
في ضوء هذا الحديث العجيب نستطيع أن نفهم بعُمق قوله – تبارك وتعالى – وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، إذن هناك قلقلة، النفس تكون قلقة، تكون مُهتَزة، لا تستطيع! أُعطي أو لا أُعطي؟ أُعطي أو لا أُعطي؟ فإذا أعطى ثبَّت نفسه، وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، لم تقل الآية وتثبيتاً للإيمان، قالت وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، لأن النفس كل النفس تكون في حالة اهتزاز وقلق واضطراب، لا تُريد! كما يقول العلماء في حالة توتر، في توتر شديد جداً بين الطرفين، مُتوتِّرة بين الطرفين، فإذا أعطى غلب هذه الشياطين اللعينة، وثبَّت نفسه، فثبت الإيمان في قلبه – إن شاء الله -، وعما قليل يزداد هذا الإيمان شيئاً فشيئاً.
المُهِم عاد الغُلام إلى عمر، وأخبره بما كان من صنيع أبي عُبيدة، فوجده قد أعد مثلها لمُعاذ بن جبل، فقال خُذ هذه واغد بها إلى مُعاذ بن جبل أيضاً، وانظر ماذا يصنع، ففعل مثلما فعل في الأول، وفعل مُعاذ كما فعل أبو عُبيدة، هذه لفلان، هذه لعلان، هذه لفلانة، هذه لزيد، وهذه لعمرو، حتى أنفقها، فخرجت زوجته – يقول الغُلام – وقالت يا عبد الله – تقول لزوجها يا عبد الله – ونحن والله مساكين، أي نحن أيضاً فقراء، نحن عائلة فقيرة، أي نحن نُريد أيضاً، اترك لنا شيئاً، فنظر، فلم يبق في الصُرة إلا ديناران، فدحا بهما إليها، قال خُذي، هذا ما بقيَ، أنفق أربعمائة ولم يبق إلا ديناران، ولو لم تسأله ما أعطاها، ينسى نفسه، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۩، وقد لا يكون نسيَ نفسه، لكنه يُؤثِر على نفسه ويُريد الخير، هو في الحقيقة لا ينسى نفسه – والله – يا إخواني.
قبل يومين سألت نفسي سؤالاً، ما هي أعلى مراتب المسئولية؟ وجدت أن أعلى مراتب المسئولية مسئولية الإنسان عن نفسه، يليها على التو وبالعقب وعلى الولي كما يُقال مُباشَرةً مسئولية الإنسان عن أهله، عن زوجته، عن أبنائه، وعن بناته، ثم عن ذوي قُرباه، أعلى المسئولية مسئوليتك عن نفسك، عن نفسك! أن تُصلِحها وأن تُهذِّبها وأن تُربيها وأن تسعى في فكاكها من نار جهنم، لأن الله قال إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، ثم بعد ذلك مسئوليتك عن أهلك يا رجل، مسئوليتك عن أهل بيتك يا مُؤمِن، يا عبد الله لا تتركهم سُدى، ولا تُفرِّط فيهم هكذا عبثاً، أنت مسؤول عن كل ما يأتيه أهل بيتك، عن أفعال زوجتك، عن أفعال بناتك، وعن أفعال أبنائك، كيف يقضون أوقاتهم؟ ماذا يفعلون؟ هل يُؤدون حقوق الله؟ كيف يتربون؟ كيف ينشأون؟ ما هو حظهم من دين الله؟ وما هو حظهم من التقوى؟ والله إنك لمسؤول عنهم فرداً فرداً سؤالاً عصيباً وصعباً جداً، قد تكون نجوت بنفسك، لكن إن لم تنج بأبنائك وبسعيك وبتوفيق الله لك فأنت مسؤول عن ذلك، فربما أدى هذا إلى هلكتك – والعياذ بالله -.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ۩، أعلى مراتب المسئولية! بمعنى يا إخواني أن مَن لم يستشعر هذه المسئولية حقاً – دائماً وأبداً، في كل ساعة، بل في كل لحظة – ويكون هديه وتصرفه ومسلكه في الحياة على ضوء ووفق هذا الاستشعار النفسي العميق فإنه يكون طفلاً، يكون غير ناضج، يكون مُضيِّعاً لمسئوليته، هو طفل، لا يمتاز بالنضوج النفسي والنضوج العقلي، لا يمتاز بمراتب الرجولية، لو كان رجلاً لابد أن يكون مسؤولاً، لا يُضيِّع ما استودعه الله، فإن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيَّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته، هكذا قال مولانا المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فإنا نرغب إلى الله – والله – وندعوه مُخلِصين صادقين أن يُعيننا على أنفسنا وأن يُعيننا على تربية أهلينا وأولادنا وبناتنا وأن نُحسِن إليهم، اللهم واجعلهم لنا قُرة أعين، واجعلنا من أئمة المُتقين، اللهم آمين.
إذن فعل مُعاذ كما فعل أبو عُبيدة، وعاد الغُلام وأخبر الفاروق بما فعل، فابتسم ورضيَ، وقال إنهم إخوة بعضهم من بعض، إخوة! هم إخوة، هم تَلاميذ محمد، إخوة في الإسلام، نفس الهدي، إنهم إخوة بعضهم من بعض، كما روى الطبراني أيضاً عن سُعدى زوج الشهيد الحي طلحة بن عُبيد الله – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قالت دخلت على طلحة ذات يوم، وإذا به ثقل، فقلت له لعله رابك منا شيئ فنُعتبك، والعُتبى هي الرضوان، لك العُتبى حتى ترضى، أي لك الرضا، نحن راضون، ونطلب برضائنا عن قضائك أن ترضى عنا، هذا معنى لك العُتبى حتى ترضى، وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ۩ أي لا يُعطون الرضا.
فقلت له لعله رابك منا شيئ فنُعتبك، فقال كلا، طلحة قال لزوجته سُعدى كلا، ولنعم حليلة المرء المُسلِم أنتِ، ولكن كثر عندي مال فأهمني وغمني، انظروا إلى هذه النفس الشريفة، أهمه وأغمه هذا المال الذي كثر لديه، فهو يخشى أن يموت عنه، ويسأله الله عن كل درهم فيه، قال ولكن كثر عندي مال فأهمني وغمني…
(ملحوظة هامة) حدث قطع في التسجيل للأسف، ثم عاد بحمد لله مع حديث فضيلته عن رجال قال عنهم الآتي:
لا يصدرون إلا عن رأي نسائهم، وليس في الخير، وإنما في الشر، في البُخل وتجميع المال والإتيان به حتى من شُبهات أو من حرام، لماذا؟ لكي تتباهى به هذه المرأة أمام لداتها وأمام أخواتها من النساء وأنها أكثر مالاً وأكثر مُجوهرات وأكثر ذهباً – والعياذ بالله -، سلوك دنيوي محض، لا علاقة له بالدين، لا علاقة له بخشية الله ومُراقَبته، فللأسف بعض هؤلاء يصدرون عن رأي أمثال هؤلاء النسوة، هذا فيه هلاك للرجال والنساء والأسرة جميعاً، لا! لابد أن نُربي أيضاً نحن كرجال نساءنا على هذه التربية الربانية، لابد أن نزدرع فيهن وفي نفوسهن هذه الأخلاق الحميدة بالتدريج شيئاً فشيئاً، فهذا يُمكِن، ونحن نرى أن النساء والأطفال أقرب منالاً وأطوع قياداً من الرجال والله، أقرب بكثير، لكن الرجال يُفرِّطون، الرجال يُفرِّطون في إيلاء الأزواج القدر المُناسِب من العنو والاهتمام والتربية التي يرضاها الله، يُفرِّطون كثيراً، ويتركون الحبل على الغارب كما يُقال، وهم مسؤولون أيضاً عن ذلك.
قالت له زوجه سُعدى وما يغمك منها؟ ادع بقومك، فاجعلها فيها، أنفِق هذه الأموال، أي ما المُشكِلة إذن؟ إذا كانت قد ثقلت عليك وهمتك وغمتك فأنفِقها، قال بارك الله فيكِ، هو ذاك، ثم دعا بالخادم، فأوصاه أن يدعو بقومه، فجاءوا فأنفقها ووزَّعها فيهم، قال الراوي فسألتها كم كان ما قسم؟ كم هذه الأموال؟ هل هي ألف دينار أو عشرة آلاف؟ فقالت أربعمائة ألف، أي نصف مليون، أنفقها في مجلس واحد واستراح، انتهى! لو مات لا يُسأل عنها، الله أكبر، الله أكبر، أتلكم أمة كان النصر يجري في ركابها ونحن أمة تبتغي النصر من الله؟! هل نحن أخلاف لهذه الأمة الكريمة؟! لابد يا إخواني أن نُحاوِل، لابد من مُحاوَلة أن نلتحق بهؤلاء وأن نصنع صنيعهم.
الصدقة أخيراً يا إخواني – كما قلنا – تدفع ميتة السوء، وتسد سبعين باباً من السوء، وتُطفئ غضب الرب، وترد البلاء، ولذا ذكرت لكم في الخُطبة السابقة أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حثنا على أن نُباكِر بالصدقة، أي نُخرِجها في وقت البكور، في وقت مُبكِّر، بعد صلاة الصُبح – مثلاً -، لماذا؟ لأن البلاء لا يتخطى الصدقة، فربما كُتِب علينا بلاء في النهار، وأنتم تعلمون أن بعض ما كُتِب يُمحى ويُبدَّل، ودليله لا يرد القضاء إلا الدعاء، والصدقة أيضاً ترد القضاء، فقد يكون قُضيَ على الإنسان ببلاء في أهله أو في ولده أو في صحته أو في عافيته أو في ماله، ثم يُرَد بسبب هذه الصدقة المُبارَكة وإن كانت قليلة، فإن الله – تبارك وتعالى – كما في حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً – أي من كلام النبي عليه السلام – يأخذ الكسرة، أي من الصدقة، كسرة! كسرة خُبز، إنسان ليس عنده إلا كسرة، فيتصدَّق بها، يأخذ الكسرة، هذا إذا تقبَّلها، أهم شيئ القبول، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، إذا تقبَّلها يأخذها ويُبارِك فيها ويُربيها حتى تكون مثل جبل أُحد، الله أكبر! أي ما معنى مثل جبل أُحد؟ أجراً، أي يأتيك عليها أجر مثل جبل أُحد، وأنت تصدَّقت بكسرة، فكيف بمَن تصدَّق بمائة شلن أو بألف شلن أو بعشرة آلاف؟! أصحاب الملايين يتصدَّقون بمئات الألوف، كيف؟ كيف ستكون هذه لهم غداً بين يدي الله؟ ستكون جبالاً – بإذن الله – من الحسنات، جبالاً من الأجزية والمثوبات، تقر بها الأعين وتفرح بها النفوس المُؤمِنة، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ۩ بِنَصْرِ اللَّهِ ۩…
والمُؤمِن يا إخواني إنما يُطفئ عنه لهيب وحر العذاب في قبره وفي حفرته – لأنه قد يُفتَح عليه طاقة من نار جهنم والعياذ بالله، وقد يُعذَّب إن لم يكن كافراً أيضاً على أعماله وتفريطاته أو على بعضها – صدقته، يُطفئ عنه هذا اللهب وهذا العذاب صدقته، هكذا قال المُصطفى، وإنما يستظل المُؤمِن يوم القيامة أيضاً في ظل صدقته، فكل امرئٍ في ظل صدقته، كم كانت عظيمة أو صغيرة لها ظل، فيستظل بظلها، اللهم أظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته المُبارَكين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها الإخوة:
من الشعر الذي يُنسَب إلى حضرة الإمام الكبير أبي الحسنين عليّ – عليه السلام – قوله وهو من أحسن أشعار الزُهديات والرقائق:
النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها.
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ يَبنيها.
الدار ليست هنا، الدار هناك، هذه دار الخراب، هذه دار الضيعة، هذه دار الضلال، هناك دار العمار ودار القرار ودار الخلود والأبد – إن شاء الله -.
قال السادة العلماء الدنيا كنهر طالوت، لا ينجو منه إلا مَن اغترف غُرفة بيده، لا مَن شرب على قدر عطشه، أرأيتم نهر طالوت؟ كل مَن شرب منه على قدر عطشه كان من المُتخلِّفين ومن المُنهزِمين، وكل مَن أخذ غُرفةً بيده فقط، بل كما يُقال صداه، بل غُلته فقط ولم يرتو، نجا وكان من الفالحين، وكان من المنصورين، فالدنيا كنهر طالوت، لا ينجو منه إلا مَن اغترف غُرفة بيده، لا مَن شرب على قدر عطشه، هل تعرفون لماذا؟ لأن عطش الإنسان إلى الدنيا لا ترويه مياه البحار كلها والله، ولو أُعطي الإنسان مُلك هذه الدنيا ومثله عشرة أضعافه معه ما كفاه، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب.
فلنتبلَّغ بالأقل، لنتبلَّغ بما يصل بنا إلى الله، وبما يُمكِننا أن نقف غداً بين يدي الله نُدافِع عن قُنيته ونُدافِع عن احتيازه ونعرف من أين أتينا به وفيما أنفقناه وصرَّفناه، اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً، اللهم واجعل رزقنا كفافاً، وليُؤمِّن مَن أراد، فأنا أسأل الله أن يجعل رزقي كفافاً، لا يزيد ولا ينقص حتى يُحوِج المرء إلى الناس وإلى ذُل الطلب، ولكن كفاف – إن شاء الله -، يحفظ الحياء ويحفظ الإيمان وصفاء القلب، اللهم آمين في هذا الشهر المُبارَك.
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها.
أَينَ المُلوكُ الَّتي كانَت مُسَلطَنَةً حَتّى سَقاها بِكَأسِ المَوتِ ساقيها.
أَموالُنا لِذَوي الميراثِ نَجمَعُها وَدورُنا لِخرابِ الدَهرِ نَبنيها.
أيها الإخوة:
وقد كنت نصحت إليكم ولنفسي – إن شاء الله تعالى – أن نُباكِر بإخراج هذه الصدقات على الأقل في هذا الشهر المُبارَك، ولما كنا لا نجد مسكيناً أو فقيراً نُعطيه كل صباح ما تيسَّر من الصدقة فنحن نُخرِجها من جيوبنا ونضعها في مجمع أو في مكان بنية أنها لله، حتى إذا كان آخر الشهر أخرجناها جميعاً لله – تبارك وتعالى -.
وقلت واعداً بأنني سأذكر مصرفاً، أسأل الله – تبارك وتعالى – مُخلِصاً وأسأل الله أن يرزقني الإخلاص بسؤالي هذا أن يكون هذا المصرف مما يرضى عنه الله ومما يخدم الإسلام والمُسلِمين، فقد يسَّر الله – تبارك وتعالى – بعد سنين طويلة ولاعتبارات مُتعدِّدة أن نُحاوِل إنشاء جمعية ثقافية إسلامية، ليست مُجرَّد مسجد، فالمساجد كثيرة، ودورها مُبارَك وميمون ومقدور ومشكور – إن شاء الله -، لكنه ليس كافياً وحده، لابد أن نُوسِّع الدائرة، ولابد أن نسد ثُغرات كثيرة مفتوحة، مفتوحة على حمى الإسلام، وعلى حمى الجالية الإسلامية.
لا أستطيع في هذه العُجالة فقد أدركني الوقت، لا أستطيع أن أعرض لأهداف وغايات ومقاصد هذه الجمعية الثقافية الإسلامية، إلا أنها كثيرة، أسأل الله أن تكون ميمونةً مُبارَكةً، وأسأل الله أن تكون أو عساها تكون خير ما يُمكِن أن نتركه وراء ظهورنا إذا ولينا إما بالموت وإما بالرحيل من هذه البلاد لإخواننا وذُرياتنا والجالية الإسلامية في هذا البلاد – إن شاء الله – وأمثالها.
المُهِم أن هذه الجمعية نُريد دعمكم لها، دعمكم لهذه الجمعية، لأنها ليست لنا، هي في الحقيقة للمُسلِمين، لكل مُسلِم في هذه البلاد، نُريد أن ندعمها بما نستطيع – إن شاء الله تعالى -، ومَن لا يستطيع عليه أن يُوصِّل القول، وعليه أن يطلب الدعم مِمَن يستطيعه – إن شاء الله تبارك وتعالى -، وله في ذلك أعظم الأجر، فضلاً عن المصرف الآخر المُهِم، وهو مصرف الساعة كما يُقال أو يُمكِن أن يُقال، وهو إخوانكم المُجاهِدون، إخوانكم المُرابِطون في أرض الرباط، في الأرض المُقدَّسة، لابد أن نجعل نصيباً طائلاً عظيماً من صدقاتنا وزكوات أموالنا في هذا الشهر لهؤلاء الإخوة المُجاهِدين ولا ننساهم، الذين أسقطوا عنا بعض فرض الجهاد في هذا العصر – إن شاء الله تبارك وتعالى -.
أيها الإخوة:
أُذكِّر أيضاً بوجوب أن يُخرِج المُسلِم والمُسلِمة الزكاة المفروضة في ماله، فمَن حال حوله في هذا الشهر أو ربما مَن كان حوله بعد شهر أو شهرين استُحِب له – إن شاء الله – أن يُبادِر وأن يُعجِّل بإخراج الزكاة المفروضة في هذا الشهر المُبارَك، لأن الزكوات والصدقات والأعمال كلها – الأعمال الطيبة كلها – تُضاعَف في رمضان ما لا تُضاعَف في سواه.
اللهم إني داعٍ فأمِّنوا، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راكضين.
اللهم لا تُشمِت بنا عدواً ولا حاسداً يا رب العالمين، اللهم لا تُشمِت بنا الأعداء ولا تجعلنا مع القوم الظالمين، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، سره وعلانيته، قديمه وحديثه، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالإساءة غُفراناً، اللهم إنك تكشف المأثم والمغرم، نعوذ بك من الجُبن والبُخل، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من ضلع الدين وقهر الرجال.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
اللهم لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا رب العالمين.
اللهم اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وارفعنا بالقرآن العظيم، اللهم تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا ودعاءنا وركوعنا وسجودنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تنصر الإسلام والمُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم انصر إخواننا المُجاهِدين في فلسطين وفي الشيشان وفي كوسوفو وفي كل بلاد الله أجمعين، اللهم انصرهم على أعدائهم المُجرِمين نصراً عزيزاً مُؤزَّراً، اللهم أيِّدهم بروح منك، وأنزل عليهم نصراً من عندك، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩.
اللهم أحص أعداءنا، وأهلكهم بدداً، اللهم أحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، اللهم أدر عليهم دائرة السوء، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أرِنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرِنا فيهم يوماً قريباً، خُذهم فيه أخذ عزيز مُقتدِر يا رب العالمين، واشف صدور قوم مُؤمِنين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (2000)
أضف تعليق