إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۩ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ۩ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۩ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ۩ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأخواتي:
بيعُ الروح أو بيعُ النفس للشيطان فكرةٌ نمطية تردَّدت في الثقافات شرقاً وغرباً حول العالم وعبر التاريخ، وهذه الآيات الكريمات من سورة الأعراف تُوشِك أن تكون تجسيداً لأنموذجٍ مُكثَّف ومُوحٍ لهذه الفكرة النمطية، فيما يذكر السادة المُفسِّرون أن هذا الذي أُوتيَ الآيات ثم انسلخ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩ أنه كان رجلاً من بني إسرائيل، وهذا قول أكثرهم ، وفي قولنا أنه كان من العماليق، من القوم الجبّارين.
على كلٍ أياً كانت خلفيته الأقوامية – هذا لا يعنينا كثيراً – كان عابداً مُتألِّهاً، أُوتيَ الإسم الكبير أو الإسم الأعظم كما يُعرَف الذي إذا دُعِى به الله أجاب وإذا سُئل به أعطى وإذا استُنصِرَ به نصر سبحانه وتعالى، وفيما يُقال أيضاً ولم يقع اتفاقٌ على هذا وإنما الجُملة التي اتفقوا عليها أن الرجل – والعياذ بالله – فُتِنَ – نعوذ بالله من الحور بعد الكور – وأطفأ مصباحه بيده، ضلت سبيله وزلت قدمه والعياذ بالله، هذه الجُملة اتفقوا عليها، ولكن فيما يُذكَر أن موسى – صلوات الله عليه وتسليماته – أرسله إلى مدين يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، فقرَّبه ملكُ مدين وأقطعه – أي أقطعه أرضاً من أرضه ومن ملكه – وأدناه وأكرمه ففُتِنَ – الرجل فُتِنَ بالدنيا – وترك دينه – دين موسى، دين التوحيد – وصار إلى ديانة الشرك والعياذ بالله، فأنزل الله فيه هذه الآية، وتُذكَر قصص وحكايا أخرى بصدد تفسير هذه الآيات نضرب عنها الذكر صفحاً لأن المُراد هو المعنى وليس هاته التفاصيل التي لم يقع عليها اتفاق، قال الله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ۩، ثم ضرب المولى الأجل الأعز له مثلاً وساء من مثل، عياذاً بالله من أن نكون مصداق هاته الأمثال، قال فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ۩، الله أكبر، من وليٍ لله مُقرَّب مُدنَىً إلى كلب، حتى أن آخر السياق مُشعِر أنه أدنى من كلب، قال تعالى أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ۩، الكلب أشرف منه، لأن الكلب لم يُؤت الحس الأخلاقي، وهذا ما يُميِّزنا كخليقةٍ بشرية من الحيوان ومن الملائكة ومن الشياطين جميعاً، هذه ميزة الإنسان، تستطيع أن تتحدَّث حديثاً مُسهباً مُطوَّلاً عن الفروقات بين هاه العوالم المُختلِفة – عالم الأملاك، عالم الشياطين، عالم الحيوان وعالم الإنسان – لكن الخلاصة بكلمة واحدة أننا الخليقة التي أُوتيت الحس الأخلاقي، الخليقة المُعَدة لتفعل الشر وتهفو إلى الخير، فمهما تعالت عن الشر ومهما قاومته ومهما نزعت إلى الخير وجاهدت في سبيل تعزيزه وتقويته حققت إنسانيتها، هذا ما يجعل الإنسان إنساناً، وإلا التحق إما بالحيوان وإما بالشيطان، لكن مُحال أن يلتحق بالأملاك، قال الله وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ۩، الأرض مهاد الحيوان، الأرض مهاد الدود ومهاد الثعابين والعقارب، الأرض مهاد الشياطين وهم في الأرض في عالمٍ أسفل، لذلك هم سكان العالم السُفلي في الأدبيات وفي الشعور والمخيال العام في كل الثقافات، هم سكان العالم السُفلي المُظلِم، قال الله وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۩،هنا هذا الذي باع نفسه للشيطان هلك ولم يتخلَّص، لم ينج وإنما هلك وحاقت به اللعنة الأبدية، ماذا يُعِد الله لرجلٍ هوى من صفيح الولاية إلى وهدة الكلبية بتعبير القرآن نفسه؟ قال الله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ – إذا اشتددت في أثره وجريت وراءه – يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ – في مكانه – يَلْهَث ۩،الكلب يلهث على الدوام، يُبرِّد بلهاثه هذا حر فؤاده وحر جوفه، فهو يلهث على الدوام، وهذا الكائن أصبح كائناً لهَّاثاً، وراء ماذا؟ وراء الشهوات والرغائب والنزوات، وراء المناصب ووراء السُمعة ووراء الشُهرة ووراء الأموال ووراء الحيثيات، وراء كل هاته الأستار التي يستر بها عورته، لأن نفسه عورة، بأثخن من الثياب وأسمك من الأسمال التي نرتديها لتستر عورتنا الجسدية نستر عوراتنا النفسية ونفوسنا، النفس التي تحتاج إلى مُواجَهة أو عند مُواجَهة الغير إلى أسمال وأثواب هى عورة، هى بحد ذاتها عورة، نفسٌ عورة، ولو قد بلى الله سريرتها – يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩- وأعرب عن مكنونها وفضح ضمائرها لبدت للناس عورة وأي عورة، نار تتأجج، حقد، كره، حسد، غش، كذب، رذيلة، فاحشة، حرص، طمع، كلَب ورغبة في التشفي وفي الثأر وفي الانتقام، عورة وأي عورة، ما أقبحها من عورة، ما أقبح وصفها ونعتها، ما أبشع ريحها، ما أسوأ فعلها وأثرها، أما النفس التي يُمكِن أن تُواجِه العالم – الآخر أو الناس أو الغير – عارية كما خلقها الله هذه ليست بعورة، هى الجمال نفسه والطهر ذاته والفضيلة بعينها، الله أعطنا نفوسنا ووفِّقنا لكي تكون نفوسنا على هذا الوصف وعلى هذا النعت – نفوس ليست بالعورة – يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، إن لم تكن مُتسامِحاً واستبدت بك رغبةٌ في الانتقام والتشفي من خصم لدود عنيد خير وسيلة لتُحقِّق مُبتغاك وتقضي وطرك أن تدعو الملك الأجل عليه أن يُبلي الله في الدنيا قبل الآخرة سريرته فقط، قل اللهم افضح سريرته، اللهم أخرج للناس نيته، هو يتكلَّم بإسم الدين ويتكلَّم بإسم الإسلام ويصرخ بإسم الأمة وبإسم الفضيلة وبإسم الروح، لا مُشكِلة فهذا يُتقمَّص ويُلبَس، كل هذه الأشياء تُلبَس، لكن إن لم تكن مُتسامِحاً وإن لم تُرِد أن تغتفر له خطيئته في حقك وفي حق غيرك ادع الله في الأسحار أن يفضح الله وأن يُبلي الله للناس سريرته، فقط هذا يكفي، أما أن نُخدَع بالظاهر فلا، انتبهوا يا إخواني، إياكم وحذاري أن تُخدَعوا بالظاهر، لن أُخدَع بمظهرك وحذاري أن تُخدَع بمظهري، مظهر ديني أو مظهر قدسي أو مظهر مشائخي، إياك وحذاري أن تُخدَع بالمظاهر، فكم من مظهر جميل مُريح وسيم يستر باطناً قبيحاً آية بل غاية في القبح، أليس كذلك؟ لذلك قال الله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩،أحسن الله بنا أن ستر علينا ولم يجعل لبواطننا ريحاً وإلا لافتُضِحنا، لن أُخدَع أيضاً بخلفيتك الاجتماعية أو الثقافية أو العرقية أو حتى الأيدولوجية والدينية، هل أنت مُسلِم؟ هل أنت مُسلِم سُني أم شيعي أم إباضي أم زيدي؟ هل أنت مسيحي؟ هل أنت يهودي أو بوذي أو هندوسي؟ لن أُخدَع بهذا، حتى هذا لن أُخدَع به، وسوف نرى لماذا، ولن أُخدَع بخلفيتك – كما قلنا – الاجتماعية، هل أنت من المياسير؟ هل أنت من الذوات ومن علية القوم أم أنك من المُعدِمين ومن الفقراء المُعدَمين؟ لن أُخدَع بهذا، لماذا؟ لأن الوقائع لا تزال تترى وتقذف بألف دليل وألف برهان على أن كل أنماط الشخصية وكل ألوان وتلاوين السلوك تنتج من كل خلفية، خُذ أي خلفية، خُذ خلفية المياسير، خلفية الأغنياء والذوات، منهم الفاضل ومنهم السافل، منهم الأمين ومنهم الخوَّان، منهم الصادق ومنهم الكاذب، منهم العفيف ومنهم الداعر، وهكذا وهكذا على أنهم جميعاً أغنياء، هذا أمر عادي وهو موجود، خُذ خلفية الفقراء، وسوف تجد نفس الشيئ، في الفقراء هذا وهذا، هذا وهذا، وهذا وهذا، إذن لن أُخدَع بخلفيتك، انتبه لأن خلفيتك لن تقول لي شيئاً، وهنا قد يقول لي وماذا عن الخلفية الدينية؟ لن أُخدَع بها، كيف أُخدَع؟ هل أُخدَع بكونك مسيحياً أو يهودياً أو مُسلِماً أو بوذياً؟ كلا، من المسيحيين كما من البوذيين والمُسلِمين وإلى آخره نفس الشيئ، الفضلاء والحقراء، الصادقون والكاذبون، والداعون السلاميون والمُجرِمون العنفيون الإرهابيون، وكل التلاوين والأنماط من كل الخلفيات، إذن خلفيتك حتى الدينية لن تقول لي شيئاً، انتبه إلى هذا، لن أُخدَع، لن أكون مُغفَّلاً، لأن هكذا يُخدَع الناس وهكذا تتم السيطرة عليهم وضبطهم كما تُضبَط – أكرمكم الله – بهائم الحظيرة، لن أُخدَع بهذا، هل تُخدَع بآرائي أو بفلسفاتي أو بأفكاري أو بكتاباتي أو بمقالاتي؟ لن أُخدَع، لن أُخدَع بآرائك، لن أُخدَع بكتاباتك وبالمُقابَلات الصحفية والمُتلفَّزة معك، لن أُخدَه بهذا كله، وقد جرَّبنا هذا، وكأين من رجل وصل إلى مرتبة مُفكِّر ومُنظِّر يُبشِّر بفكرةٍ ما مما يستحليه الذوق العام وخالفها، فكرة المُصالَحة – مثلاً – وفكرة التسامح وفكرة الليونة الفكرية ومُحارَبة التعصب والانغلاق والإقصائية وإلى آخره، أفكار جيدة طيبة في المُجتمَعات المُتحضِّرة الآن، لكن انتبهوا إلى أن في العصور الوسطى كانت هذه المعاني تُعتبَر سُبة، كان إذا سُب المرء يُسَب بأنه مُتسامِح، هذه كانت سُبة حقيقية، كان يُسَب هنا الملوك كما حدَّثتكم مرة ذات خُطبة بسبب هذا، وقد ذكرت لكم ذات خُطبة أن الملوك حدث معهم هذا، مثلاً ألفونسو العاشر Alfonso X de Castilla y León في إسبانيا سُب سباً ذريعاً من رجال الدين ومن أدباء النصرانية اليسوعية، لماذا؟ لأنه كان مُتسامِحاً، هذه كانت سُبة، يقولون أنه مُتسامِح بمعنى أن هذه سُبة، هذه بحد ذاتها سُبة، لكن اليوم اختلف الأمر، هذا تقدم بشري، هل هو سريع أم بطيئ؟ هذه مسألة أخرى، لكن يُوجَد تقدم كبير الآن، حين يُقال مُنغلِق مُتعصِّب فهذه سُبة، لكن مُتسامِح وليِّن منقبة، هذه منقبة وليست مثلبة، يكتبون في هذه المسائل، ولكن ما هو إلا أن يُثتثار وإلا أن يُوضَع الواحد منهم في سياق مُختلِف – أن تختلف مُفرَدات السياق قليلاً – حتى يُثبِت أيضاً ببرهان ومائة برهان أنه الضد النوعي عملياً لما يقول ولما يكتب، وأنت لا تكاد تُصدِّق!
تتصل بي سيدة كريمة أول أمس وربما حتى أمس – على كل حال أمس القريب – تقول لي لا يُمكِن أن يُصدَّق، أحد مَن تعرفهم – ولم تُسمه لأنني لا أُحِب التسميات ولا أُحِب فضح الناس – محسوب على الوسطية والتيار المُعتدِل ويُنظِّر ويكتب لكنه انقلب شرساً إقصائياً، تقول السيدة كفَّرني أنا بذاتي، حكم عليها بالكفر، جريمتها أنها تسمع لمَن كفر بالتعصب وبالتكاره وخطاب الكراهية وخطاب الإرهاب وخطاب العنف وخطاب التكفير، تقصد العبد الفقير، قالت ذنبي أنني أستمع إليك وأنصح بك، كفَّرني على أنه مُفكِّر ومُعتدِل ويُنظِّر للاعتدال، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، لذلك لن أُخدَع بآرائك أو بفلسفاتك أو بتنظيراتك لألف سبب وسبب، من بينها أن الآراء إنما تُعبِّر عن زاوية النظر التي تُطِل منها، أي تُطِل من خلالها على العالم وعلى المعنى وعلى الأشياء، وهذه الزاوية مُتحرِّكة وليست ثابتة، إذن يُمكِن أن تتغير آراؤك بسرعة، بدليل إذا غيِّرنا بعض مُفرَدات السياق تتغيَّر الزاوية ويتغيَّر الفكر تماماً، رأينا المُبشِّر بالتسامح والسلامية أصبح من دعاة العنف والكراهية والتكفير، هكذا في ضحوةٍ واحدة وفي غدوةٍ واحدة، ثم أن الآراء والأفكار والفلسفات والخيارات والتفضيلات الفكرية والعقدية والأيدولوجية عموماً ليس لنا منها إلا أقل القليل، هذه ليست تفضيلاتنا الشخصية للأسف، في مُعظم الأحوال هى تفضيلات المُجتمَع، هى خيارات المُجتمَع، ألا يلفتكم أن هناك أذكياء وأذكياء جداً مُبرِّزين على مُستوى العالم وعلى مُستوى البشرية خياراتهم الدينية والعقدية مُختلِفة؟ عباقرة هندوس وعباقرة بوذيون وعباقرة مسيحيون وعباقرة يهود وعباقرة ماركسيون وعباقرة ملاحدة وبلا دين وعباقرة مُسلِمون وكلهم أذكياء، هذا شيئ عجيب، كيف يكون هذا الذكاء الذي حاز جائزة نوبل Nobel؟ الذكاء الذي لمس القمة وتاخم الأحلام – أحلام النجاحات الفكرية – يتظاهر بتفضيلات عقدية مُختلِفة تماماً أحياناً إلى حد التناقض، كيف هذا؟ صدِّقوني لأنها ليست تفضيلاتنا الشخصية بنسبة مائة في المائة، وبخاصة نحن المُجتمَعات المُتخلِّفة، نحن مُتخلِّفون جداً، إذا أردنا أن نتحدَّث عن السياق الإنساني وسياق القيم التي يُمكِن أن نُبشِّر بها عالمياً فنحن غارقون في التخلف، وأنا أتحدَّث عن العرب والمسلمين اليوم، نحن غارقون في التخلف، ولا يُناقِشني أحد في هذا، أنا الآن مُتعصِّب فلا تُناقِنشي في هذا، أمة يذبح بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً، يحتاج ليُقتَل فيها شخص إلى ألف شخص يأتون ليذبحوه، ألف شخص ليذبحوا شخصاً واحداً، هذه الأمة لا يُمكِن أن تتحدَّث عن قيم تُبشِّر بها على مُستوى كوني، دعونا من هذه البهرجة ومن هذه العجرفة ومن هذا التزييف، واجهوا وجابهوا الحقائق، جادلوها بشجاعة وبصدق بعيداً عن كل ألوان الزيف، أقول لكم بالذات في أمة مُتخلِّفة مثلنا اليوم – نعشنا الله مما نحن فيه – من الصعب أن يقول المرء خياراتي وآرائي، هذه ليست لك، هذه ليست آراءك، هذه آراء أنت زُقِّقتَ بها وحُقِنتَ بها حقناً فأنت تجترها وتُكرِّرها، إياك أن تُفهِّمني عكس هذا، كما يُكرِّر بعض الناس الآن، ترى الواحد منهم لا علاقة له – مثلاً – بالفن ولا بالنقد الأدبي ولم يقرأ حتى مقالة صحفية في هذا الباب ومع ذلك يقول لك هذه اللوحة الفنية تعبيرية وأنا وجهة نظري كذا وكذا، لكن هو مسكين، هو قرأ شيئاً أو سمع شيئاً ويُكرِّره، ما هى وجهة نظرك؟ مَن عرِّفك هذا؟ هو يُكرِّر فقط، ونفس الشيئ يحدث في الدين وفي الاجتماع وفي السياسة، يسمع لقاءً في التلفزيون – Television – أو يقرأ كلاماً ثم يعود وكأن هذا رأيه السياسي مثلاً وكأنه الآن أصبح قادراً على أن يُقيِّم الأوضاع السياسية، مسكين يا رجل، نحن في مُجتمَعات إلى عهد قريب جداً جداً كان كل شيئ يلبسنا ولا نلبسهويختارنا ولا نختاره ويعيشنا ولا نعيشه، وما زالت أشياء كثيرة إلى الآن تلبسنا ولا نلبسها، كما تلبس أنت زياً مُعيِّناً الآن، أنا لم اقتنع في حياتي مرة أن ألبس زي المشائخ، أنا غير مُقتنِع به ولا أُحِبه، لا أُحِب زي المشائخ، وهنا قد يتهمني أحدهم بأمور لكن أنا يا حبيبي درست الشريعة وعندي شهادات عُليا في الشريعة لكن الكثير من الناس لا يعلم هذا، فلا تقل لي لابد أن ألبس هذا الزي، أنا لا أُريد أن ألبسه ولا أُحِبه، هل تعرفون لماذا؟ لأنه عكس السُنة تماماً، النبي كان يلبس كما يلبس أصحابه كما يلبس قومه، وقومه هم العرب، فالنبي لم يختط خُطة جديدة في لبسة إسلامية غير لباس حتى أبي لهب وأبي جهل، هذا نفس الشيئ، هذا لباس العرب، يُناسِب بيئتهم وهو ساتر وانتهى الأمر، فهو كان يُناسِب البيئة، لكن اليوم جعلوه من الدين، لكن أنا أقول لكم أنه ليس من الدين، هذا من ضرورات المهنة ومن ضرورات العمل من أجل أن نعمل طبقة – Schicht أو Class – رجال الدين، شكلهم مُختلِف ولباسهم مُختلِف، وطبعاً هذه اللبسة وهذه الزية وهذه الأزياء والرسوم تُعوِّض النقص المعرفي والالتزام العملي وما إلى ذلك، كل الكوارث تُعوِّضها هذه اللبسة، لذلك أنا كرهت هذا اللباس، لن ألبسه بإذن الله تبارك وتعالى، لن ألبس هذا لكن نحن عموماً نلبس كما يُلبِّسنا المُجتمَع، المُجتمَع يُريد هذا، هل أنت عالم دين؟ فإذن هذه لبستك، انتبه إلى هذا، إياك أن تلبس كراڤته يا زنديق، هل ترتدي كراڤته على منبر رسول الله؟ نعم أرتديها، سألبس كراڤته يا حبيبي، رضينا بهذه الزندقة، إذا هذه زندقة – أي ارتداء الكراڤته – فقد رضينا بها، لن ألبس ما تقوله لي أنت، أنا سأعيش خياراتي أنا وتفضيلاتي، أُريد أن أكون حراً، لماذا؟ أنا لست عبداً لديك، لا أُحِب أن أكون أداة بيدك، فرداً كنت أو مُجتمَعاً، انتبهوا إلى هذا، فأنا ابن خياري وابن تفضيلاتي الشخصية، لكن نحن أدوات إلى الآن، وهكذا الأزياء المُختلِفة، تُلبَس بحسب ما يُريد المُجتمَع، وكذلك نفس الشيئ مع اللغة، هل أنت تلبس اللغة؟ هى تلبسك، أنت لا تستطيع أن تعيش اللغة، اللغة هى التي تعيشك، وقد ذكرت هذا في الجمعة المُنصرِمة لإخواني بعد الصلاة، اللغة هى التي تعيشنا، ما معنى تعيشنا؟ نتحدَّث بلغة مُحنَّطة، هذه لغة متاحف، مومياء اللغة، ما معنى أن تتحدَّث عن خرط القتاد وعن قرب المعنى الفلاني منك كالثمام؟ ثمام ماذا؟ وقتاد ماذا؟ وعوسج ماذا؟ وطبعاً أنا أقع في هذا أيضاً، تستطيع أن تقتبس وتستشهد بمئات المواضع في لغتي وهى لغة خشبية أيضاً في مرات عديدة، أُحاوِل أن أتعالى على هذا قليلاً وأن أعيش عصري فأتكلَّم لغة لها علاقة حية نابضة بعصري وبمُفرَدات عصري وبمُفرَدات حياتي، يقولون لك على سبيل التشبيه هذا أسرع من الريح، لكن هناك أشياء أسرع من الريح الآن مثل الكونكورد Concorde، يجب أن نُدخِل هذا في لغتنا، سواء كنا علماء دين أو حتى أدباء وشعراء ومسرحيين وإلى آخره، ينبغي أن نقول أسرع من الكونكورد Concorde ونكتب هذا، هذا الشيئ جميل لأن هذه حياتنا، فالكونكورد Concorde أسرع من الريح مثلاً، الصاروخ أسرع من الريح، سفينة الفضاء أسرع من الريح، فالريح ليست أسرع شيئ، في البيئة العربية قديماً وفي البيئات كلها لم يكن هناك أي تقدم تقني فقالوا أسرع شيئ الريح، ومن ثم كانوا يقولون أسرع من الريح، ومن المُمكِن أن نقول طبعاً أسرع من البرق، فإلى الآن لا يزال هو الأسرع، لا بأس أن نستخدم هذا لأنه لا يزال هو الأسرع، فحتى اللغة تخدعنا، لغة قبل ألفي سنة، لغة العرب التي هى قبل حتى الإسلام، وهى لغة المسلمين ولغة الأئمة والعلماء والأدباء الإسلاميين قبل ألف ومائتين سنة وألف وثلاثمائة سنة وألف ومائة سنة، لا تزال هذه اللغة تُعيد إنتاج نفسها عبرنا ومن ثم تخدعنا لكنها تُحنِّطنا، نحن مُحنَّطون ونتكلَّم لغة لا تنبض فينا، لا نشعر بنبضها، لأنها تتوسَّل مُفرَدات وتشبيهات ومجازات واستعارات لا تمت إلى حياتنا بصلة، إذن هى تعيشنا، نحن لا نعيشها، والتراث شرحه كما يُقال بالعامية، التراث يعيشنا ولا نعيشه، تراثات ابن تيمية والطبري والطبراني والمُفيد وفلان وعلان والجاحظ تُقرأ كتراث، لكن يُوجَد إصرار على إعادة إنتاج التراث للمُعاصِرين وقد جعلوه مرجعية ومرجعية نهائية، لأن هؤلاء أئمة ومُقدَّسون وعلماء وأذكياء وعباقرة فمَن أنت يا صعلوك؟ ومَن أنت يا رويبضة؟ لكن هذا كلام فارغ، هذا تحنيط للحياة، تلك كانت معارف عصرهم وكانت استجاباتهم لتحديات عصرهم، لم تكن تراثات في وقتها، لما ورثناها نحن عبر الزمان : أصبحت تراثات، لابد أن تُباشَر وأن يُتعاطى معها كتراثات لا أزيد من هذا، أما أن تُجعَل مرجعيات تامة ونهائية وأقصوية يحرم الخروج عليها وينتهي الأمر فهذا تحنيط للحياة، ولذا نحن المُحنَّطون، نحن أمة مُحنَّطة اليوم، نحن أمة مومياء، حتى تراثنا بنفس الطريقة ولغتنا بنفس الطريقة.
إلى وقتٍ قريب كان كل شيئ في حياتنا يُختار لنا، ولا يزال هذا يحدث مع أكثر من هذه الأشياء، طبعاً هناك أشياء مُشترَك بشري وتُختار للإنسان بما هو إنسان، هل اخترت إسمك؟ لأ طبعاً، لقد اختاروه لك، هل اخترت دينك؟ لأ، من أول يوم كُتِب في شهادة الميلاد، أنت لم تختر دينك فانتبه، هم اختاروه لك، وطبعاً من المُؤكَّد أنك لم تختر مذهبك، هل اخترت بعد ذلك لون الثقافة التي غُزيت بها؟ لم يحدث هذا أبداً، ثقافة المُجتمَع فُرِضَت عليك عبر مُؤسَّسات المُجتمَع المُختلِفة من الأسرة انتهاءً بالكُلية، هل اخترت مدرستك؟ كلا، هل اخترت مدرسيك؟ هل اخترت مناهجك الدراسية؟ لم تختر شيئاً من هذا، هل اخترت زيك وعاداتك وتقاليدك؟ علماً بأن هذه العادات والتقاليد فيها أشياء حسنة وجميلة جداً لابد أن تُستبقى وأن يُعاد إنتاجها، وفيها أشياء كارثية لا إنسانية ولا أخلاقية، في المُجتمَعات التقليلدية – ونحن لا زلنا تقليديين – والمُجتمَعات المُتخلِّفة الجامدة المُحنَّطة تفعل التقاليد وتفتك بالناس أكثر مما يفتك الطاعون وأكثر مما يفعل الهيروين والكوكايين لأنها تُخدِّر الناس، قبل يومين أيضاً أستمع إلى عالم كبير – لن أقول من أي مُؤسَّسة دينية لكنه عالم كبير وقد ألَّف كتباً وهو أستاذ أكاديمي جامعي كبير – يتحدَّث قائلاً لو أحد سب أمي – طبعاً لا يُوجَد سب ألعن من القذف، أي أن تقذف أمها، وحاشاها وحاشاها – أقتله، فقلت هنا الجهل يتحدَّث، التقاليد تتحدَّث وليس الدين، يا رجل أنت عالم شرعي كبير ومُؤلِّف لكتب في الدين وفي الشريعة وفي الفقه، إذا سب أمك أو سب أم إي إنسان – وتباً للساب طبعاً وتباً للفحش والتفحش والبذاء – هذا فيه حدٌ شرعي مذكور في الكتاب الكريم، وهو ثمانون جلدة، وهذا إن قذف طبعاً، أما إن سب بأنها قصيرة أو دميمة أو حمراء أو سوداء أوكذت فهذا شيئ آخر وفيه تأديب آخر لا يبلغ الحد، لكن إن قذفها في عرضها – وحاشاها – يُجلَد ثمانين جلدة، ومع ذلك قال أقتله، طبعاً تقتل لأنك لا تتكلَّم بإسم الدين وأنت عالم دين، هذه التقاليد والعادات تفعل فيك فعل هيروين، أنت مُخدَّر يا مسكين، أنت مُخدَّر يا عالم، ويقول هذا في التفلزيون Television وعلى الفضائيات دون أن يخجل، والمُذيع يهز رأسه بالمُوافَقة، أن نعم طبعاً، نقتله لأنه يسب الأم طبعاً، يا أخي أي شرع وأي دين هذا؟ في هذه الثقافة – كما قلت – وفي هذه العادات والتقاليد أحياناً يُذبَح الأخلاقي، يُداس بالقدم الأخلاقي، تقاليد لا أخلاقية ولا إنسانية، جريمة الرجل الخُلقية تُغتفَر وتُدفَن سريعاً وتُغتفَر بل أحياناً يُفتَخر بها فيُقال هذا الذي هتك عرض فلان، أي أنه رجل وسبع، سبع ماذا؟ هذا الفحَّاش – هتَّاك الأعراض السابح في الدنس والواغل في الخطيئة – هل هو سبع؟ هل هذا رجل؟ تباً لهذه التقاليد، تُغتفَر وتُدفَن سريعاً خطيئة الرجل، وخطيئة المرأة – خطيئة الأنثى وليس المرأة، الأنثى امرأةً كانت أو فتاة بكراً – القتل، تُدفَن لتُدفَن معها خطيئتها، وحين تسأل المُجتمَع العربي اليوم – مُجتمَع جرائم الشرف ما شاء الله – لماذا هذا الموقف المُتناقِض اللأخلاقي؟ يقولون لك كيف تقول لا أخلاقي؟ كيف؟ هذا موقف عقلاني، علِّمونا العقلانية، قالوا لأن المرأة تحمل ثمرة خطيئتها معها، ولد يُدخَل على الأسرة ليس منها، وهل هو – ما شاء الله – حين يُخطيء لن يُوجَد ولد ويُدخَل على الأسرة؟ قالوا هذه أسرة غيرنا، إذن لستم أخلاقيين، هذا كلام يستحق الشنق، يستحق مَن يقوله أن يُشنَق لا أن يتفلسف، لما كانت خطيئة الذكر خطيئة الرجل تُدخِل ولداً نغلاً – النغل Bastard، أي ابن الـ …. ولن نقول أكثر من هذا – على أسرة ليس منها قالوا هذه الأسرة لما كانت ليست أسرتنا فالأمر لا يعنينا، بل يبعث على الفخار أحياناً، تباً لهذه الأخلاقية، لا يُمكِن الآن لمُفكِّر عبر العالم أن يُعطي إشارة مرور – تصريحاً أخضراً – لمثل هذا الفكر المُنحَط، هذا ليس أخلاقاً، وعند العرب هذا من جوهر الأخلاق، يتحدَّثون عن الشرف العربي وشرف الرجولة وشرف العائلة، ما هذا يا رجل؟ أنت غير أخلاقي، النبي من أول يوم قال أترضاه لأمك؟ فقال لا، قال فكذلك الناس لا يرضونه، أترضاه لأختك أو لعمتك أو لخالتك؟ أين نحن من أخلاقية الإسلام؟أين نحن من أخلاقية البشر؟
حدَّثتكم أيضاً ذات خُطبة عن القاعدة الذهبية التي عرفتها الكونفوشيوسية في الصين من خمسة آلاف سنة والبوذية واليهودية والمسيحية الإسلام، وجاء وفلسَّفها – صاغها في قالب فلسفي مُكثَّف ومُتقَن وحكيم – إيمانويل كانط Immanuel Kant، أي عمانوئيل، بمعنى عطية الله، الألماني كانط Kant تحدَّث عن القاعدة الذهبية، تصرَّف أي تصرُّف ناظراً فيه إلى مجموع البشر واضعاً نفسك مكان أي واحد منهم، تخيَّل الآن الكذب مثلاً، أنت تتوسَّل الكذب لأنه أقصر سبيل لتُنقِذ نفسك من الملام والعتب مثلاً، لكن تخيَّل لو أن كل البشر أيضاً توسَّلوا هذه الوسيلة، كيف ستكون حياتك أنت؟ جحيم، وهنا قد يقول أحدهم أنا أكذب وهم يصدقون، يا رجل أنت حين تكذب سيفشو الكذب، سيتعلَّم ابنك منك الكذب وابنتك وزوجتك وخادمك وصديقك، أليس كذلك؟ وستُلجيء الآخرين أيضاً إلى أن يكذبوا حتى لا يكونوا دائماً هم المغبونين في كل صفقة، ستُصبِح الحياة جحيماً، تخيَّل لو أن كل أحد يلغ في أعراض الناس، إذن سنصل إلى مرحلة يُولَغ فيها في عرض كل أحد والعياذ بالله ، ما هذا المُجتمَع الحيواني البهيمي؟ لذلك هذه هى القاعدة الأخلاقية، أن تُحِب لأخيك – أخيك الإنسان – ما تُحِب لنفسك، كل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه لغيرك من البشر، يا سلام، هذه هى الأخلاقية، لكن قواعدنا الاجتماعية ليست أخلاقية، هذه التقاليد غير أخلاقية، يُقال لك هذه أسرتنا غيرنا، أما أسرتنا لا نسمح لولد ابن حرام أن يدخل فيها، نذبح المرأة ومَن أتت به، لكن حين نُدخِله على غيرنا فهذه ليست أسرتنا وإنما أسرة غيرنا، يا سلام، علماً بأنني استمعت قديماً قبل زُهاء ربع قرن إلى بعض المشائخ وهو يقول تبقى خطيئة المرأة أكثر فحشاً، يا أخي الشرع لم يقل تبقى خطيئة المرأة أكثر فحشاً، الشرع حاسب المرأة كما يُحاسِب الرجل تماماً وسواء بسواء، حاسب المرأة كما يُحاسِب الرجل سواء بسواء، ومع ذلك قال لك تبقى خطيئة المرأة أكثر فحشاً، لماذا؟ أتى بنفس العبارة التالية، قال لأنها تأتي بثمرة خطيئتها، هى تأتي لنا بولد من زنا، يا رجل هل أتت به من الهواء؟ ها أتت به من الهواء أم أتت به من هذا السافل الخسيس؟ دائماً يُوجَد الطرف الآخر الخسيس المُتمثِّل في الذكر، لماذا هى جريمتها أفحش في حين أن جريمته أخف قليلاً؟ هذا منطق جاهلي.
إذن أنت – يا أخي المسلم ويا أختي المسلمة – أيضاً لا تختار لا عاداتك ولا تقاليدك ولا مفاهيمك الاجتماعية وإنما تُختار لك، انتبه وأعِد النظر فيها، استبق ما كان فاضلاً منها خيِّراً وطيباً، وانبذ نبذ النواة وازدري واحتقر ما كان منها غير أخلاقي وغير عادل وغير إنساني وغير قابل للكوننة وللعولمة – أن نُعمِّمه على البشرية كلها – واحتقره، انبذه نبذ النواة وإن أطبق المُجتمَع عليه من عند آخره، إلى عهد قريب الزوجة كانت تُختار لك، وهذا شيئ لا يُصدَّق، لكنه كان يحدث إلى عهد قريب، آباؤنا وأمهاتنا يُحدِّثوننا عن هذا، ومنهم من تم اقترانه بشريك حياته على هذا النحو، تُختار له الزوجة ولا يراها إلا ليلة يبني بها، أي بعد أن تقع الفأس في الرأس، فإذن ما الفائدة؟ ما الفائدة من هذه الرؤية؟ ممنوع عليه وهو خطيب أن يراها، هذا كان قبل ستين أو سبعين سنة في بلاد العُرب، ممنوع أن يراها، الأم تراها والأخت تراها والعمة تراها ثم يصفونها، أليس يكفي يا أخي هذا؟ هل بنت الناس معرض؟ لكن أين الدين؟ قال النبي أنظرت إليها؟ قال لا، قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً، لكنهم قالوا لك دين ماذا؟ هذا يُغطى عليه، نحن لا نُريد هذا، محمد هنا يسكت الآن، أهم شيئ العادات والتقاليد، تقاليد المُجتمَع العروبي البدوي، وهذا أمرٌ عجيب، لكنهم يختارون لك حتى زوجتك، ولا تراها إلا ساعة تدخل عليها للبناء بها، وطبعاً تكون مثل البطيخة، هل هى حمراء أم بيضاء أم قرعة؟ الله أعلم، أنت وحظك يا أبا الحظوظ، والقدرُ خلاف الظنون كما يٌقال، ما هذا؟ كل شيئ يُختار لك يا مسكين، وهم -كما قلت لك – يلقون في فمك التقييمات السياسية والنقادات الفنية والأدبية والدينية والشعرية ثم تلوكها وتأتي تتكلمَّ كما لو كانت آراؤك، يا رجل صدِّقني فقط المُبدِعون الخلَّاقون المُنتِجون الذين يُنتِجون فكراً وأدباً وفناً وتنظيراً هم وحدهم مَن يحق لهم أن يقول الواحد منهم هذا رأيي وهذه وجهة نظري وهذا فيما أرى وفيما أفهم، على أن في هذه الحقية قولاً، يُوجَد قول هنا أيضاً، ألبرت أينشتاين Albert Einstein يكتب مرة قائلاً ما هو الإبداع؟ الإبداع أن تعرف جيداً كيف تُخفي مصادرك، علماً بأن أينشتاين Einstein كان مصداقاً مُمتازاً في مقولته، أنا في مُحاضَرة قديمة لي قبل سنوات بعيدة تحدَّثت عن هذا وتساءلت هل يغش العلماء؟ وحين بحثنا عن مصادر أينشتاين Einstein في النسبيتين كانت العملية كارثية، تقريباً ما من فكرة ذكرها أينشتاين Einstein إلا وسُبِقَ إليها، ما رأيكم؟ ما من فكرة إلا وسُبِقَ إليها، لكنه قام بنوع من التجميع الذكي الشاطر من غير أن يُشير إلى المصادر، وأصبح – ما شاء الله – صاحب النسبيتين، ولذلك تأثَّر بحالته الشخصية، قال الإبداع هو أن تعرف جيداً كيف تُخفي مصادرك، لأن الرجل على ما يبدو غلب عليه ظن أو وهم أو فكرة أن ما من إبداع بالمُطلَق، وهذا صحيح، ما من إبداع بالمُطلَق، لا يُوجَد هذا، لكن طبعاً يُوجَد نوع من الابتعاد عن المصادر – مط وبسط المصادر – ويُوجَد نوع من الاتساق الغاش المُزيِّف بالمصادر، فهذا غش وليس إبداعاً، وعلى كل حال المُبدِعون – فلنوافق على هذا – عندهم الحق أن يقولوا آراؤنا، لكن نحن ليس عندنا هذا الحق، وهذه – والله – مُصيبة، هذا الشيئ غير مُبشِّر إذا كل شيئ يُختار لنا ونحن ملبوسون، كما قلنا حتى اللباس نحن لا نلبسه بل هو يلبسنا كما يُريد المُجتمَع، فأنت تلبس كما يُريد المُجتمَع، يُعطونك هامشاً ضيقاً تتحرَّك فيه مثل اختيار اللون وما إلى ذلك، لكن كيف يكون شكل اللباس؟ كما يُريد المُجتمَع، أليس كذلك؟ أحياناً قد تحتاج المسألة إلى قتال وعراك من أجل فرض لبسة مُحدَّدة على الرجل وعلى المرأة، هذا هو فقط ولا يُقبَل إلا هذا، فكل شيئ يلبسنا وكل شيئ يعيشنا، كما قلنا في الخُطبة السابقة حتى الدين ينطبق عليه هذا، الدين لا نعيشه بل هو يعيشنا للأسف، ونُستغَل به ومن خلاله، وطبعاً السياسة أكبر شيئ يعيشنا ولا نعيشه، السياسة أكبر شيئ في حياتنا اليوم يعيشنا ويستهلكنا يمتص دماءنا ويُرهِق أعصابنا ويتركنا ركاماً من عظام دون أن نعيشها، هى التي تعيشنا للأسف الشديد، ودائماً طبعاً في كل حالة يحدث هذا لصالح جهات مُعينة كما قلنا في الخُطبة السابقة، مرة لصالح الكهنوت ومرة لصالح السُلطة ومرة لصالح الاستعمار ومرة لصالح المُجتمَع – الوحش الذي له ألف رأس – وإلى آخره، فهذا يحدث لصالح شيئ، إذن إذا كان ذلك كذلك وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكون غير نفسه – الإنسان لا يستطيع إلا أن يكون نفسه – فأين نفسي هذه التي لم اختر لها ولا من أجلها شيئ تقريباً؟ كل شيئ مُختار لها وكل شيئ معيش عنها فأين إذن نفسي؟ كأن ليس عندي حتى الحق أن أقول أنا أو أن نقول نحن، لا تُوجَد أنا حقيقية ولا تُوجَد أنا حقيقية، إذن نحن نعيش كآلات وكائنات آلية ميكانيكية يسهل تماماً التحكم بها – الآن بدأنا نُشارِف ما أحببنا أن نذكره – وضبطها والسيطرة عليها، ومن ثم يتم استخدامها كأدوات، كأدوات للعمار وأدوات للخراب، تُستخدَم كأدوات للجريمة، هذا يُمكِن حتى مع جريمة القتل وجريمة الحرب الأهلية، بعد أن وضعت ثوراتنا أوزارها قُلت مُباشَرةً في أول أشهر من على هذا المنبر وزعمت أن افتعال حرب أهلية في أي بلد عربي خاصة فيه تنوع ديني وملي يُعَد عملية أسهل من السهولة، هكذا قلت على هذا المنبر ولا أزل أذكر هذا، هذه عملية سهلة جداً، فقط حين يُقرِّر المُؤتمِرون – مَن يتآمر بنا في الداخل والخارج – أن يقدحوا شرارة هذه الحرب الأهلية ستنقدح وستُحرَق الأخضر واليابس، وهذا ما يحصل اليوم بسهولة، هل تعرفون لماذا؟ لأننا لسنا بشراً مُستقِلين، لم نتعوَّد الاستقلال، نحن لسنا بشراً حقيقيين، نحن آلات أو أشبه بآلات الضبط والتحكم والسيطرة على تمامه وعلى أحسن وجهه معها وبها، نحن آلات إذن.
إخواني وأخواتي:
حذاري وانتبهوا وكونوا أيقاظاً، كل مَن يُلقي في روعكم أنكم أعجز من أن تفهموا وأعجز من أن تروا وأعجز من أن تستشرفوا وأعجز من أن تقدروا على شيئ ويقول لكم أنتم لا شيئ وتحتاجون مَن يرى عنكم ومَن يُفكِّر بالنيابة عنكم ومَن يختار لكم ومَن يفرض عليكم الطريق والغاية والوسيلة فهذا – والله – يُريد أن يستعبدكم استعباداً حقيقياً، يُريد أن يُحيلكم إلى أدوات، إلى خنجر أو إلى سيف أو إلى قنبلة أو إلى صاروخ أو إلى سيارة مُفخَّخة، يُريدكم أدوات يستخدمها أحياناً لينتهي بكم المطاف أو بأحدكم قاتلاً مُجرِماً، يقتل نفسه ويقتل غيره معه، وطبعاً أُبشِّرهم من الآن إلى الجحيم وبئس المصير، حاشا لله أن يُدخِل أداة الجنة، الله لم يخلقك لكي تكون أداة، الله خلقك لكي تكون خليفته في الأرض، ولا تقل لي لقد ضحكوا علىّ، أنا أُعطيك كلمة وأُقسِم بالله عليها، والله العظيم لن يضحك عليك أحد وعزة جلال الله لن يخدعك أحد – هذه أصعب كلمة تسمعونها مني – ما لم تخدع أنت أولاً نفسك وما لم تضحك أولاً أنت على نفسك، وأنا أقسمت على هذا، ما رأيك إذن؟ لا تقل لي يُوجَد مخدوع ولا تقل لي يُوجَد شخص مضحوك عليه أبداً إلا مَن آثر أن يضحك على نفسه وأن يُعمِّي على نفسه الحقيقة وأن يُغبِّش الرؤية، هل تعرفون ما الذي أوحى إلىّ بهذا المعنى؟ الآيات الكريمات في سورة الأعراف، ما أعظم القرآن، الله – تبارك وتعالى – قبل أن يتحدَّث عن الذي أُوتيَ الآيات فانسلخ منها وأنتهى به الأمر كلباً من الكلاب البشرية ووحشاً من الوحوش ماذا قال؟ قال وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا – إذن هو حذَّرَّهم، كأنه يقول حذاري – أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ۩ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ۩، كُبراؤنا وساداتنا هم الذين أضلونا السبيل هم الذين خدعونا وهم الذي غرَّرونا بنا، الله يقول إياكم أن تقولوا هذا، إياك أن تقول هذا وإلا أنت تكذب، قال الله بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ۩، والله العظيم أنت لا تبيع نفسك لشيطان من الأنس ومن الجن إلا وتعلم أنك تعقد صفقة مع الشيطان، ولكن حبك للمال وحبك للسُلطة وحبك للظهور وحبك لرفع خسيستك هو الذي جعلك تأتي بألف مُبرِّر ومُبرِّر وبألف تأويل وتأويل وبألف عذر وعذر، وأزيدك من الشعر بيتاً وأقول قبل أن تُفتَن وقبل أن تنطمس عين بصيرتك كنت ترى الأمور بوضوح كما أتحدَّث عنها الآن وتسمعون بوضوح، فالأمور واضحة جداً، وبعد أن تُفتَن تفقد القدرة على أن ترى وأن تستبصر، الآن أنت تعمى، ولذلك لن تشعر بأنك فُتِنتَ ودائماً سوف تجتر التأويلات والأعذار وتقول وضعك مُمتاز، وتُواصِل السير في طريق الفتنة بل في طريقة الجريمة أحياناً، تُواصِل الفتنة والجريمة!
يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالحَسَنِ.
تُصبِح المحنة منحة، تُصبِح امتيازاً وتُصبِح من فتح الله عليك، ومن ثم تقول الحمد لله، على ماذا؟ أنه مكَّنك من قتل المُوحِّدين ومن قتل المسلمين ومن تمزيق الأوطان ومن هدر قيم الأديان ومن سحق الإنسان، تقول الحمد لله وتتقرَّب إلى الله بهذا، ما شاء الله عليك، أنت خدعت نفسك أولاً وضحكت على نفسك أولاً، لماذا صدَّر الله هذا السياق الكريم بآيات الميثاق؟ قال الله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۩، لماذا؟ ليقول ليس لبلعام بن باعوراء المذكور في الآيات والمُنسلِخ من الآيات أي عذر، وهذا من أكبر الأدلة في كتاب الله على برهان الفطرة، برهان الفطرة لا يعني فقط أن الله موجود، برهان الفطرة يعني أن الله موجود وأنه ضمانة الأخلاق، الله – لا إله إلا هو – موجود وشعورنا بالله وعيشنا بالله وفي الله هو الذي يقول لنا هذا إثم وهذا حسن، هذا صح وهذا غلط، هذا حق وهذا باطل، القلب يشعر بهذا، قال صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً الإثم حزَّاز القلوب، النفس لا ترتاح، قال يا وابصة بن معبد جئت تسأل عن البر والإثم، قال والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتاك المُفتون، أفتاك الشيخ العلَّامة والشيخ الفهَّامة ومفتي البلد ومفتي الجماعة ومفتي الطائفة، هذا كلام فارغ – والله العظيم – ولن يُجديك عند الله شيئاً، لأنك أسقطت هذه الضمانة المرجعية الإلهية، قال الله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۩، إياك أن تقول هذا، لذلك أنا أقول لكم أن الله ضمانة الأخلاق، الله – لا إله إلا هو – ضمانة الأخلاق، هذا ضمير الإيمان، لا يُمكِن لضمير الإيمان أن تشتريه بكل أموال الأرض، إلا في حالة واحدة وهى إذا كان هناك مال يُمكِن أن يشتري الإيمان بالله، أسأل سؤالاً بديهياً وسهلاً، أنت كمُؤمِن الآن هل هناك شيئ يُمكِن أن تبيع به إيمانك بالله ومن ثم تقول الله غير موجود ولا أعترف به ولا بشرعه وأنا أتحداه إن كان موجوداً؟ هل يُمكِن أن تفعل هذا؟ طبعاً لا أحد يُمكِن أن يتورَّط ويفعل هذا، ولكننا عملياً – كثيرٌ منا ولن أقول مُعظمنا – نفعل هذا، مُعظَمنا يفعل هذا ولكن بعد أن يضحك على نفسه ويُخادِع نفسه ويُفهِم نفسه أن هذا أفعله بإسم الله وبإسم الدين وخدمةً للشريعة وأخذاً بالفتية – أخذاً بالفتوى – وما إلى ذلك، وهذا كذب طبعاً، لقد كذبت يا رجل، تُوجَد مرجعية في القلب، يُوجَد الضمير الصاحي اليقظ، الضمير غير النايم وغير المُخدَّر، لا تشتريه – والله العظيم – أموال العالمين إلا بعد أن تشتري إيمانه بالله، حبه وخوف ورجاؤه في الله لا إله إلا هو، ولذلك أنا أقول لكم إغراء المليون عند صاحب الضمير اليقظ كإغراء المليار، حين تُغريه بمليون يقول لك لا، أعوذ بالله، معاذ الله ، مليون ماذا؟ اجعلهم ألف مليون، يا سيدي اجعلهم ألف مليار ولن أبيع إيماني، لا يُوجَد شيئ يُساوي عندي إيماني بالله وعلاقتي بالله، لا يُوجَد شيئ يُمكِن أن يكون ثمناً لهذا، أنت مسكين، لكن ضمير المُجتمَع دائماً ينتهي بكوارث، ينتهي بمجازر وبمذابح وبدمار والعياذ بالله، لأنه ضمير المُجتمَع، وسأشرح لكم ما هو ضمير المُجتمَع، ضمير الإيمان فهمناه لكن ما هو ضمير المُجتمَع الذي ينتهي بالكوارث؟ سنشرحه، نعود – عوداً على بدء – ونعطف على أول الخُطبة.
إذن لن أُخدَع، لن أُخدَع، لن أُخدَع، لن أُخدَع بآرائك، لن أُخدَع أيضاً بوجدانياتك وبانفعالاتك وبحماسياتك، كما أنا مُتحمِّس الآن، لا تنخدعوا بحماسياتي، لا تنخدعوا بدموعي، لا تنخدعوا بالدموع أبداً، هل تعرفون لماذا؟ لأن القلب ما سُمى قلباً إلا لأنه يتقلَّب، حيلة مَن لا حيلة له الوجدانيات والانفعاليات والدموع، هذه حيلة النسوان والأطفال والرجال العجزة الكبار، تقول الآية الكريمة وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ۩، رموا أخاهم في البئر وجاءوا يبكون، هذه حيلة مكشوفة ومفضوحة، إياكم أن تغتروا بالحماسيات وبالوجدانيات وبالزعيق وبالصراخ وبالأيمان والأقسام، لا تغتروا بهذا كله، هذا أقرب إلى منطق الغريزة منه إلى منطق العقل، والعقل – كما رأينا – مُتذبذِّب نسبي ويعتمد على الزاوية والسياقات، فكيف بالقلب؟ لا تغتروا بهذه الأشياء، وكم ذا يُخدَع بها الناس، الناس يُخدَعون بالدموع والأيمان والأقسام والحماسيات وانتفاخ الأوداج وإحمرار الوجنات، فحسبنا الله ونعم الوكيل، لا تغتروا بهذا، وهنا قد يقول لي أحدكم لقد جننتنا يا رجل، بماذا نُخدَع إذن؟ أنا أقول لك بشيئ واحد فقط، ينبغي أن تعرفه أردت أن تختبر نفسك، أنا الذي يهمني أن تختبر نفسك، وهذا وصل لخُطبة أيضاً الجمعة السابقة في الوعي بالذات، الحكم على الناس خطيئة ولذا أنا لا يهمني أن أحكم على الناس، ولكن يهمني ألا يخدعني المُخادِعون من الناس، هذا يهمني كثيراً،يهمني جداً ألا أكون أداة بأيديهم وألا يُضحَك علىّ، لكن – كما قلنا – لن يُضحَك عليك – والله – إلا بعد أن تضحك على نفسك، علماً بأن هذه مُصيبة، هذه الكلمة صعبة جداً جداً، قال الله بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ۩، الله قال اذهب اعتذر لكنك تكذب، أنت تعرف نفسك ، تعرف أنك عقدت صفقة لا مع الرحمن ولكن مع الشيطان، أنت تعرف هذا، قد تقول لي هو كان شيخاً ورجلاً صالحاً، لكنك تعرف أيضاً أنه ليس في سُنة الله أن الشيطان يُواجِهنا، هل رأى أحدكم إبليس الذي أغوى آبانا آدم؟ لم يره أي أحد، ليس له سُلطان علينا ولا يُروِّعنا – أي بمنظره – أبداً، لكن كلنا يعلم أن إبليس يُواجِهنا كل ساعة وكل حين – والله العظيم – عبر مراكبه وعبر من استعمَّر عقولهم وسكن قلوبهم واستعار ألسنتهم، هذا هو إبليس، فحذاري من الأبالسة المراكب، سموا مَن يفعل هذا مركب إبليس، هذا الممسوس بالشيطان سموه هكذا، يا ليتنا نُعيد النظر في المس الشيطاني، هذا هو الممسوس، هذا المُفكِّر وذاك الصحفي وهذا العالم وهذا الشيخ مراكب الشيطان، ليس الإنسان المسكين الذي يتخبَّط وعنده مُشكِلة كيمياوية عصبية بدماغه مَن تقولون عنه أنه ممسوس وتذبحونه، ليس هذا الممسوس، بل ذاك هو الممسوس، هؤلاء مراكب الشياطين، هذا فاوست Faust مارتن لوثر Martin Luther الذي يُمكِن أن نتحدَّث عنه اليوم، هذا هو إذن، فالشيطان يُواجِهنا كل يوم وعبر ساعة عبر هؤلاء فحذاري من هذا، ويوم تعقد صفقة معه أنت تعلم أنك تعقد صفقة مع إبليس نفسه، لأنه أحد مراكب إبليس، أليس كذلك؟ وأنت كنت تعرف هذا، لا تقل لي أنا ظننته شيخاً أو داعية يُريد مصلحة الأمة، كيف يُريد مصلحة الأمة؟ هل يُريد مصلحة الأمة عبر التكفير وعبر القتل؟ يقول هؤلاء مُشرِكون وكفار، لماذا أشركوا؟ لماذا كفروا؟ قال الشيعة يقولون يا حسين ويا عليّ، في شهر يونيو في ألفين وثلاثة عشر اكتشفنا أن الشيعة يقولون يا عليّ فأصبحوا مُشرِكين، اكتشفنا هذا لأول مرة في الشهر السادس من عام ألفين وثلاثة عشر، لكن الشيعة من أول يوم يقولون يا عليّ، والصوفية لدينا من أول يوم يقولون يا سيدي الجيلاني ويا سيدي الدسوقي ويا سيدي عبد القادر ويا سيدي ويا سيدي، أليس كذلك؟ هيا احكم عليهم جميعاً بالكفر، هيا قل أن أمة محمد كلها من الكفار، يا رجل ما هذا؟ ما هذا اللعب؟ ما هذا التضليل؟ ما هذا الغثاء الذي نعيشه؟ إنا لله.
إذن نعود إلى موضوعنا، قد يقول أحدكم بماذا أُخدَع؟ لا تُخدَعن بما ذكرت، بماذا أُعيِّر؟ بماذا أروز؟ بماذا أقيس؟ بماذا أسبر؟ كيف أعرف؟ كيف أعرف نفسي؟ كيف أعرفك أنت؟ أنا أقول لك الخُلاصة، وهى أهم ما في خُطبة اليوم، تستطيع أن تعرف نفسك ويُمكِن أحياناً أن تعرف غيرك بمُراقَبة النفس أو مُراقَبة الغير في لحظة اختيار حر، هل تعرفون السقوط الحر للأجسام بعيداً عن أثر الضغط والحرارة والهواء وما إلى ذلك؟ هذا السقوط الحر Free Fall، هنا تُوجَد لحظة فعل أو اختيار حر للإنسان، حر من ماذا؟ من رقابة المُجتمَع، من رقابة البوليس Police، من رقابة القانون، من الرغبة ومن الرهبة، لديه حرية تامة، إلا فقط من النظر إلى الله تبارك وتعالى إن كان مُؤمِناً صاحب الفعل الحر، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، مثل ماذا؟ شاب لا يزال في شرخ الشباب، هو ابن عشرين سنة أو اثنين وعشرين سنة، عنده قوة واندفاع وحيوية – Vitality – ويُحِب الحياة ويُقبِل على الحياة، نشأ نشأة دينية في مُجتمَع مُتدين وفي أسرة مُتدينة وله أستاذ مُتدين وإلى آخره، زملاؤه وأصدقاؤه مُتدينون أيضاً على شاكلته، لاحت له فرصة الآن – سنحت له فرصة – وسافر بالطائرة إلى بلدة بعيدة نائية لا يعرفه فيها أحد ولا هو يعرف فيها أحداً، المتع فيها على الرصيف رخيصة، هى بأثمان بخسة، والآن واتته الفرصة مع فتاة غنوج مُفعَمة بالحياة وريَّانة بالفتنة بمبلغ يستطيعه ويستطيع أمثال أمثاله، هذا اختيار حر، فكف نفسه وثنى عنان شهوته وقال إني أخافُ الله، أقول له أنت ولي الله، نسأل الله بركاتك وبركات أمثالك، أنت المُحترَم النبيل، أنت الإنسان، اطمئن، لست حيواناً، لست دجَّالاً، لست شيطاناً،أنت خليفة الله في الأرض، هذا اختيار حر!
حاكم مُسلَّط في بلده، والشعب مثل الشعوب العربية إلى وقت قريب وربما إلى هذا الوقت يُحبونه ويُحِبون من يدوس على رقابهم ويُحِبون مَن يستبد بهم ومَن يسطو بهم، وهذا الحاكم فرعون، فرعنوه فلا مُعقِّب لحكمه ولا خروج ولا خلاف عن أمره،ولكن – سبحان الله – ابنه ظلم أحد السوقة – إنسان غلبان فقير ومقطَّع في الشارع – فسطا بابنه وأنزل به أشد عقاب يُنزَل بأمثاله من الظلمة، الله أكبر، أقول له أنت إمامٌ عظيم، أنت رباني، أنت إنسان، أنت تاخمت حدود الملائكية، أنت من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، لأنه فعل حر، لا يُوجَد أحد يُمكِن أن يفرض عليه أن يُعاقِب ابنه، هذا ابن الرئيس أو ابن الملك، هذا ابن أعظم سُلطة في البلد، لكن ضميره وأخلاقياته تفرض عليه هذا، خوفه من الله – تبارك وتعالى – وإنسانيته تفرض عليه هذا، أقول له تعظيم سلام لك ولأمثالك، كثَّر الله في الأمم من أمثالك، هذا عظيم جداً، هذا فعل حر، لأنه لا يخاف لا من قانون ولا من مُخابَرات، مُخابَرات ماذا؟ هو أعلى سُلطة، هو فرعون لكن بغير فرعونية، هذا لا يكون فرعون – والله – أبداً، هو فرعون اسماً، فرعون في ذهن الناس، أنت جاءك أحد الأثرياء – أحد الأغنياء – وقال لك بالله أنا مرصود وأنا مرقوب، الأعين مُفتَّحة علىّ، أحببت أن أتبرَّع لمشروعكم الخيري الإسلامي الاجتماعي بمليون دولار، ولكن بالله عليك شرطي الوحيد ألا تُحدِّث بهذا أحداً ولا تُشِر إلىّ لا من قريب ولا من بعيد لئلا أُفتضَح ولئلا تُفتَح علىّ العيون، خُذ هذه المليون الدولار وضعها في هذا المشروع دون أن تُشير إلىّ، إياك ثم إياك أن تُشير، أنت الآن في محنة يا حبيبي، أنت في ابتلاء وفي اختبار، أنت الآن في لحظة اختيار حر، تستطيع أن تحتازها، وهذا الغني أتى من بلد بعيد – من بلاد الخليج مثلاً – ولا يراك الآن، وهو لا يُريد أن يسأل عنك ولا أن تسأل عنه أو تُكلِّمه، انتهى الأمر إلى هنا، هذا مُنتهى العلاقة بيك وبينه، هذا آخر العلاقة، إما أخذتها وتغولتها وإما وضعتها وربما زدت عليها، إن فعلت الثانية فأن أقول لك أنت عبد الله، أنت ولي الله، أنت الإنسان، لم أنخدع لا بشكلك ولا بإسمك ولا بدينك ولا بمذهبك ولا بدموعك ولا بهزة الرأس، هذا الذي عيِّرتك به، هذه العظمة الإنسانية هنا.
أعتقد أنه وضح لديكم الآن تماماً المعيار، وبهذا الفهم نستطيع أن ندمغ كل الأفظاظ الغِلاظ القساة المُجرِمين الجزَّارين من كبير وصغير، من المُحقِّق إلى الشرطي إلى السجَّان إلى الجلَّاد، وأشكال هؤلاء كثيرون في بلادنا، نستطيع أن ندمغهم دون وجل أو تهيب أو تردد، لماذا؟ نقول لهم لم كل هذه القسوة في حق المُواطِن وفي حق الناس الضعاف وفي حق الناس الساخطين على أوضاعهم وحق لهم السخط مليون مرة؟ لم كل هذه القسوة؟ لم كل هذا الحيف والظلم واللإنسانية والتوحش؟ يقولون لك الجواب حاضر، هذه القسوة وهذه الوحشية جاءت تنفيذاً للواجب وصدعاً بالأوامر، لكنني أقول لهم خسئتم – والله – وزيَّفتم وكذبتم وافتُضِحتم، هل تعرفون لماذا؟ عشر معشار هذه القسوة كان يكفي إن برَّر القسوة أصلاً في مثل هاته الظروف ولا مُبرِّر، لا مُبرِّر لانتهاك حُرمة الإنسان أبداً، يُمكِن أن تسجنه وفق القانون بطريقة مُؤدَّبة وإنسانية كما يحدث في الغرب هنا وتكفل له حقوقه عن آخرها ومن عند آخرها، لماذا لا نعمل مثلهم؟ هل هم بشر ونحن حجر أم نحن بقر أكرمكم الله؟ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ۩، يتم هتك أعراض الناس في السجون، أنا أقول لكم عشر بُعيشير هذه القسوة – إن بُرِّرَت أصلاً – كان يكفي، فلم كل هذه القسوة؟ هل تعرفون لماذا؟ لأنها لحظة اختيار حر، هو حر، هو يده مُطلَقة غير مكفوفة، يُقال له أخرِج لنا المعلومات منهم، أدِّب لنا أولاد الكذا بالذي تعرفه، وهو – ما شاء الله – وجد فرصته، تماماً كما وجد الذين ذهبوا إلى حسن شحاتة في بيته قبل أيام فرصتهم، قيل شيعي زنديق وعندنا فتوى بتكفيره، يا سيدي تنزلاً وإعتباطاً الرجل كافر، هل أنت تراه كافراً؟ قال العلماء كفَّروه، تنزلاً هو كافر، طعن في عرض أم المُؤمِنين التي برَّأها الله من فوق سبع سماوات، هل أنت تراه كافراً؟ إذن هو كافر يا سيدي ومُرتَد يا سيدي، لكن أنت يا عدنان ضد قتل المُرتَد، ليس لك علاقة بي فأنا لست مُشرَّعاً، ومع قتل المُرتَد يا سيدي على رأي الجمهور، لكن بإجماع الأمة مَن الذي يستوفي هذا الحق؟ الدولة والقانون والقضاء يا سيدي، ليس ألف وحش ووحش، ثم أن لماذا؟ ما هذا الحرص؟ قتل اثنين أو ثلاثة أو أربعة لا يستدعي وجود ألف أو ألف وخمسمائة شخصأتوا وهو يحملون العصي والخناجر والحديد وغير ذلك، حتى أن السقف دُمِّر، دمَّروا السقف من فوق وأحرقوا المكان، شيئ مُرعِب ومُخيف، كيف تقول لي هذا مُسلِم؟ هل هذا عرف الإسلام يوماً؟ هل هذا القلب يشعر بالله؟ يستحيل، مَن مس الله قلبه ومَن مست معرفة الله أو حب الله شغاف قلبه يذوب رقةً وحناناً وإنسانية، وأُقسِم بالله على هذا، يذوب سلاماً وصفاءً وشفافية، لا يُمكِن أن يستحيل وحشاً، لكن كيف استحال ألف من هؤلاء في هذه القرية المُسلِمة إلى وحوش في لحظة وكانوا مُتعطِّشين للدماء ومُتعطِّشين للقربان البشري بمثل هذه القسوة؟ كيف؟ تماماً كما هى الوحوش في سوريا التي قطَّعت حمزة الخطيب من رجال بشار، هذا نفس الشيئ، لا تقل لي هذا كذا أو كذا، أنا أنتقد الجميع، انتبه أن لا يهمني أحداً، لا تقل لي هؤلاء ثوّار أو هذا بشار أو هذا سُني أو هذا شيعي، أنا – كما قلت لكم – مُلتزِم بالأخلاقي وبالإنساني إلى آخر الخط، يسخط مَن يسخط ويرضى مَن يرضى،أكثر ما يُحزِنني بالعكس أكثر ما يبعثني على التحقير والإزدراء دموعك حين تبكي مَن تنتمي إليهم فقط، أنا أحتقر دموعك، دموعك أُسميها دموع الوحش وأقسم بالله على هذا، أحتقر دموع الوحش، ما هى دموع الوحش؟ دموع الوحش التي يعرفها كل وحوش البشر، عرفها الفاشيون والنازيون والشيوعيون، وما مِن وحش بشري إلا يبكي أطفاله حين يُذبَحون، أليس كذلك؟ أنا أحتقر هذه الدموع، أحتقر دموعك يوم تسيل غزيرة صادقة مُرة سخينة لكن فقط على أطفالك وعلى أهلك وأهل طائفتك وأهل دينك وأهل بلدك، أنا أحتقرها، اسمح لي أن أحتقرها، لن أرثي لها بل سأحتقرها، لأنها دموع الوحش مثل دموع النازي والفاشي والقتَّال والمُجرِم، أنا أُريد دموع الإنسان، دموع الإنسان الذي هو حقاً إنسان، التي تُذرَف سخينة وصادقة على كل مظلوم وعلى كل مهضوم وعلى كل ضحية وبريء، أُريد من إخواننا الشيعة أن يبكوا وأن يصرخوا كما أصرخ الآن – مثلاً – على مثل حمزة الخطيب، هو من أبناء سوريا، لا تقل لي أنه مسلم سُني، هذا لا يهمني، هو من أبناء الإنسانية، هذا بشر، حين يُقتَل بهذه الطريقة ويُقطَّع بهذه الطريقة لابد أن تصرخ وإن كنت شيعياً ومن حزب الله ومن حزب كذا وكذا، لابد أن تصرخ، إن لم تصرخ فأنا أقول لك أنت الوحش، وكذلك أنا السُني حين لا أصرخ على أخي الشيعي حين يُقتَل بهذه الطريقة البشعة الوحشية، أطفال شيعة يطلبون الماء قبل أن يُذبَحوا ونسمع مَن يفتخر بذبحهم ويقول ذبحناهم ذبح النعاج كما ذُبِح أبناؤنا ونساؤنا، بالله عليك يا رجل هل هذا الطفل الشيعي الذي ذبحته كما تُذبَح النعاج ذبح أطفالك؟ يا رجل بالله عليك هل هذا الطفل الذي أنت ذبحته كما تُذبَح الفرخة ذبح نساءك؟ حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، أي دين هذا؟ أي عقل هذا؟ أي إنسانية هذه؟ علماً بأن الناس تُهلِّل وتُطلِق الرصاص، يقولون هذا فقيه ونطق بالحق، هذا فقيه وشيخ وأستاذ جامعي، يُقول ذبحناه وذبحنا ابنه معه، وتقول الرواية طفلٌ يبكي إلى حد الرعب ويطلب ماءً قبل أن يُذبَح فلم يُسق الماء وذُبِح، لأنه شيعي نجس، الله أكبر يا إخواني، أي منطق هذا؟ هنا يُذبَح السُني فلا يبكيه إلا السُني، وهنا يُذبَح إلا الشيعي ولا يبكيه إلا الشيعي، أنا أقول لكم برئت منكم الإنسانية جميعاً، وهنا قد يقول لي أحدكم يا عدنان أنت قلت كذا وكذا، لا تُحاسِبني على كل مُفرَدة أقولها، افهم جوهر رسالتي وجوهر فكري، ثم أنا بريء منك إلى يوم الدين، إن لم تفهم أنا بريء منك، لا حاجة لي بأحد فافهم، إن كنت تجد نفسك هكذا وتبكي بحرقة حقيقية على كل ضحية وعلى كل بريء فأنا أقول لك اطمئن، أنت إنسان، لن أقول مُسلِم أو غير مُسلِم، أنت إنسان، أنت لست حيواناً، أنت لست وحشاً، إن لم تفعل إلا على خاصتك وعلى أولادك وأهلك فأنا أقول لك أنت وحش وأُقسِم بالله على هذا، ويُمكِن أن تلعب دور الوحش في أي لحظة يا رجل، جعلوك وحشاً دون أن تدري، ضحكوا عليك بإسم الدين وبإسم الفقه والمشيخة والفتية، لقد ضحكوا عليك، هل فهمتم؟ هذا ما أُحِب أن أقوله فقط، أقول لكم – حتى أُظهِر لكم كم أنا مُوازِن بيني وبين الله وبيني وبين نفسي – يعلم الله أن حسن شحاته – وقد أفضى إلى ربه وأفضى إلى ما عمل – آذانا، أنا شخصياً تأذيت منه، وذكرته هنا من غير إسم قبل ربما يضع سنين، يسبُ أصحاب رسول الله الكرام العظام كأبي بكر وعمر وأمنا عائشة سباً ذريعاً ما سمعت مثله في حياتي، وأنا أُقسِم بالله أنه سبٌ عليّ – عليه السلام – يبرأ منه، يبرأ – والله العظيم – من هذا الإقذاع والسباب والفحش، لكن – كما قلنا – يا سيدي افترضه مُرتَداً يستحق الإعدام، فإن الدولة هى التي تستوفي منه، لستم أنتم وليس بهذا الأسلوب الذي حوَّلكم إلى وحوش، لا تفتخروا بهذا ولا ترفعوا به رأساً، هذا حوَّلكم إلى وحوش، استنزف آخر قطرة من إنسانيتكم دون أن تدروا، فيا ويلكم، يا ويلكم من أنفسكم، قبل أن يأتي ويل من الله يا ويلك من نفسك ومن ضميرك إن بقيَ عندك حس وإن بقيَ لديك شيئ من ضمير، لذلك هذا هو ما يُعيَّر به الإنسان، أي لحظة الاختيار الحر، لحظة الاختيار الحر وليس كل ما ذكرنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا.
وعلم الله والإخوة الذين زاروني في هذا الأسبوع المُنصرِم وقفوا على هذا أن قبل نبأ مقتل حسن شحاتة سمعنا عن نبأ الاعتداء على الشيخ العريفي في لندن، واستنكرت هذا لأول سماعي به، على أنني أختلف مع العريفي في منهجه وفكره وحتى في موقفي الشخصي منه، أختلف معه تماماً، لكن أنا ضد هذه الأساليب التي أُسميها الأساليب الصغيرة والحقيرة، أساليب العنف والإرهاب، فالفكر يُحارَب بالفكر والحُجة بالحُجة والكلام بالكلام والسلاح يُواجَه بالسلاح، انتبهوا وخوضوا كل شيئ بمنطقه، بعض الناس كأنه أتى لكي يُبشِّرني ويقول العريفي هذا الذي يسبك حدث معه كذا وكذا، فقلت لماذا اعتدوا عليه؟ تباً لهم، تباً فهذه حقارة، هذه تُنذِر بالويل والثبور أيضاً، غداً يُعتدى على شيعي قصاصاً، اليوم قُتِل حسن شحاتة، فما يُؤمِّننا أنه في مصر أو في سوريا أو في العراق أو في أي مكان يُقتَل عالم سُني كبير ويُقال انتقاماً لشحاتة؟ هذا نفس المنطق الغوغائي المُتوحِّش، مَن الذي يستفيد من هذا؟ الجواب لديكم طبعاً، الجواب في ساحتكم، هذا هو.
عوداً على بدء، بلعام بن باعوراء باع نفسه وهلك، فاوست Faust باع نفسه وهلك عند كل مَن تناوله إلا عند جوته Goethe نجا، وسأُفصِّل لكم هذا في دقيقة، الشيخ طنطاوي عند المرحوم مُصطفى محمود باع نفسه لشيطانة إنسية ونجا، لماذا؟ أنا مُوافِق على هذه النتائج، بلعام يهلك، فاوست Faust جوته Goethe يهلك، طنطاوي مُصطفى محمود ينجو، أنا مُوافِق على هذا، مُوافِق على الفلسفية الضمنية في هذا، فاوست Faust باختصار شخصية ألمانية أسطورية، هو عاش حقيقةً إلى حوالي ألف وخمسمائة وأربعين ميلادية في ألمانيا، وكان ساحراً ومُنجِّماً ألمانياً، اتهمه مارتن لوثر Martin Luther بأنه واقع تحت تأثير قوة مس شيطاني لعينة، أحد تلامذة مارتن لوثر Martin Luther كتب عنه أول عمل صيغ صياغة أدبية، ثم بعد ذلك كتب عنه الإنجليزي عصري شكسبير Shakespeare وصديقه كريستوفر مارلو Christopher Marlowe كتابه القصة المأساوية للدكتور فاوستوس Faustus، وفاوستوس Faustus باللاتينية معناها المحظوظ والميمون، وبالألمانية يُقال فاوست Faust، علماً بأنها تعني القبضة أيضاً، على كل حال الذين كتبوا عن فاوست Faust كثيرون جداً، مثل باركر Parker ، كلاوس مان Klaus Mann وتوماس مان Thomas Mann وأوسكار وايلد Oscar Wilde، المُهِم أن كثيرين كتبوا عنه، لكن أعظمهم على الإطلاق هو جوته جوته Goethe الألماني في جزئين في ربع قرن، كل الذين كتبوا عنه قبل جوته جوته Goethe وبعد جوته جوته Goethe جعلوا مصيره الهلاك الأبدي واللعنة الإلهية، إلا جوته جوته Goethe جعل مصيره النجاة لأنه نجَّاه، غلبت عليه ملائكة النعيم وغافلت إبليس الذي يرقبه بحماس شديد حتى إذا ما خرجت روحه قبضها وأخذها إلى الجحيم – إلى أمه الهاوية – لكن جاءت الملائكة أرسالاً كما يُصوِّرها جوته Goethe في مسرحيته العظيمة وهى تحمل الأزهار والأوراد، فأمر إبليس جنده من الشياطين أن تنفخ فيها، فإذا بها تستحيل إلى نيران جعلتها تضج وتهرب، وما هى إلا لحظة يرمق فيها إبليس الموكب العُلوي حتى غافلته الملائكة وأخذت الروح إلى النعيم الأبدي، فنهاية فاوست Faust عند جوته Goethe كانت الخلاص، الشيخ طنطاوي في مسرحية مُصطفى محمود – رحمة الله عليه رحمة واسعة – الشيطان يسكن بيتنا هو شيخ صوفي مُنقطِع للعبادة في كوخ من صفيح على قارعة صحراء، فهو مُنقطِع من الدنيا وما فيها، تعقد معه غانية – غازية كما يُسمونها، أي رقَّاصة – وهى أيضاً مُديرة مسرح كبير – ساقطة من الساقطات من بائعات الهوى – عقداً تُدخِل في روعه أنه لابد أن تنزل من هذه العلياء إلى فاعل في المُجتمَع لإصلاحه، ما حاجة المُجتمَع بصالح إلا أنه يترك الفساد يُعربِّد؟ فيقتنع الرجل ضمن خُطة سباعية ويعقد عقداً على ألا تُكسَّر له أمراً ولا تُخالِف له عن أمر، ويكون وتستمر المسرحية، في الفصل الثالث يكتشف الشيخ طنطاوي أن هذه مُجرَّد شيطان من شياطين الأنس وأنها أرادت أن تختلب لبه وأن ترتهن روحه، ومَن يمتلك روحك يمتلك موتك، ومَن يمتلك موتك يمتلك مصيرك الأبدي، المُهِم باختصار ينجو في النهاية الشيخ طنطاوي وينزع القناع عن وجه الشيطان البشري، طبعاً لا شك أن المرحوم المُبدِع مُصطفى محمود – رحمة الله عليه – كان يستلهم أيضاً فاوست Faust – أسطورة فاوست Faust – وهذا واضح، هذه فكرة بيع النفس للشيطان، الفكرة التي لم يتركها رسول الله حتى من صياغة حديثية نبوية في مُنتهى الروعة أيضاً والتكثيف، في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم قال الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وفي آخره قال كل الناس يغدو – النبي هنا يتحدَّث بلغة تصويرية، يرتفع قرص الشمس قليلاً في ساعة الغدو وإذا بمواكب البشر اللاغبة، مليارات البشر يتحرَّكون، كلٌ في طريق وكلٌ يحمل معه صكه، السبل تفرقتهم وتوزعتهم – فبائعٌ نفسه – كلٌ يبيع نفسه، كل أحد معه صكه، الكل يفعل هذا كل يوم، كل يوم أنا أفعل هذا وأنتَ تفعل هذا وأنتِ تفعلين هذا – فمُعتِقها أو مُوبِقها، قال الشررَّاح بمَن فيهم النووي – رحمة الله عليه – معنى قوله فبائعٌ نفسه أي للرحمن لا إله إلا هو، اللهم اجعلنا منهم، فبائعٌ نفسه أي للرحمن فمَعتِقٌ نفسه من غضب الله ومن الهلاك الأبدي، أو بائعٌ نفسه للشيطان فمُوبِقها في جهنم والعياذ بالله، أي أنه مُدسّيها ومُوبِقها، نفس الفكرة النبي يُكثِّفها في شطر الحديث الآخير بطريقة ولا أروع، أي روعة هذه؟ أي جمال هذا؟ قال النبي كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمُعتِقها أو مُوبِقها، وأختم قائلاً لماذا ينجو فاوست Faust جوته Goethe؟ وأنا مع جوته Goethe في إنجائه، لماذا ينجو طنطاوي مُصطفى محمود؟ لماذا يهلك بلعام بن باعوراء القرآن؟
فاوست Faust جوته Goethe نجا باختصار لأن الرجل تقمَّصته روح إنسانية، روح إنسانية كم هى طُلعة وطمَّاحة إلا أنها مُتواضِعة تواضع البشرية، أدركت نقصها وأدركت ضعفها وأدركت نسبيتها ومحدوديتها فطاقت إلى وهفت إلى المعرفة، فاوست Faust بحسب جوته Goethe هو رجل عالم، ولكن علم الكتب وعلم الدرس وعلم الجماعات لم يكفه، لم ينقع له غلة ولم يشف له علة، فطلب المعرفة خاصة بالخبرة البشرية، المعرفة التي طلبها فاوست Faust جوته Goethe هى الخبرة البشرية والمعرفة بالإنسان – المعرفة بنا كبشر، كما قلنا الوعي بالذات – عن طريق السحر وعن طريق العقد مع الشيطان بعد ذلك، باع نفسه للشيطان أربعةً وعشرين سنة لقاء – في هذه الأربع والعشرين سنة – أن يُمكِّنه الشيطان مما يُريد، وطبعاً أخطأ وزلت به القدم وارتكب جرائم وفحش وقتل مع مارجريت Margaret وما إلى ذلك، هذه قصة طويلة، المُهِم أن في النهاية الرجل غلب عليه طبعه البشري الخيِّر، قال الله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، غلبت عليه التقوى فسخَّر علمه وسخَّر قُدره الإمكانية والفنية والتقنية لمصلحة الناس ولمصلحة البشرية، لن أشرح لكم كيف، لكنه جفَّف المُستنقَعات وأقام الجسور وغير هذا في قصة طويلة عريضة، وبعد ذلك – كما قلنا – نجَّاه جوته Goethe، الله بحسب جوته جوته Goethe أراد له النجاة، الرجل في نهاية المطاف – كما قلنا – تقمَّصته روح بشرية، روح حب المعرفة، أي حب أن أعرف، قال الله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ۩، وهذه روح مُقدَّسة، هذه روح كريمة نبيلة، في نهاية المطاف قد تنتهي بصاحبها إلى النجاة، وهذا ما ينبغي أن يحدث، فالشيخ الطنطاوي عند مُصطفى محمود أحب أن يبسط ظل الإصلاح وظل الخير والمعروف على الناس، لكن أين أخطأ فاوست Faust جوته Goethe؟ لم يُخطيء في الهدف،الهدف نبيل وهو المعرفة، والمعرفة نور، لكنه أخطأ في الوسيلة، اختار الوسلة الغلط وهى أن أتعاقد مع الشيطان، هذا غلط طبعاً، الشيطان لا يُمكِن أن يصفو لك، لا يُمكِن أن يخدم هدفاً نبيلاً، الوسيلة غلط والهدف صحيح ولذا يُمكِن أن تنجو، الأخطاء البشرية مُرشَّحة للمغفرة عند الله، هذه أخطاء بشرية، هذه روح بشرية تقمَّصتني، والشيخ طنطاوي هدفه نبيل أيضاً وكريم وماجد وهو الإصلاح، إصلاح البشر وإصلاح المُجتمَع ومُحارَبة الرذيلة والفسق والسقوط والهوي، لكن الوسيلة أيضاً خاطئة، توسَّل غانية ومسرحها وأسلوبها، فإذا بها تُصِر على نشر الرذيلة والعياذ بالله، يُذكِّرنا بتاييس Thaïs أناتول فرانس Anatole France، الساقطة الغانية التي نشدت التوبة على يد راهب ، وبدل أن ترتفع إلى عليائه عند أناتول فرانس Anatole France هوت به إلى حضيضها، هذا ما كان يُمكِن أن يصير مع الشيخ طنطاوي، ولكن المُبدِع الكبير والروح الكريمة مُصطفى محمود أبى إلا أن يُخلِّصه، أنقذه وختم مسرحيته بتمكينه من نزع القناع عن وجه الشيطان – مركب الشيطان – الغانية سونيا، انتبهوا إلى هذا وهو مفهوم، والأخطاء البشرية – كما قلت بعبارة – مُرشَّحة للمغفرة بإذن الله تعالى، لكن بلعام بن باعوراء الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه لماذا لم يتخلَّص؟ لماذا لم ينج؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الهدف من الأصل غلط، هو ليس خسيساً فقط بل هو هدف شركي مُجرِم، الرجل يعبد نفسه، الرجل لا يعبد الله ولا يطلب الله بالعبادة وبالإسم الأعظم وإنما يطلب نفسه والعياذ بالله، قال الله أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ۩، كل مَن كان رائده وباعثه وهدفه الهوى هو عابدٌ لنفسه من دون الله، هذا تتقمَّصه ليس روحاً بشرية وإنما روح إبليسية، روح الذي قال في قُبال أمر الله أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ۩، إذا قلت أنا إزاء الله فأنت انتهيت، هذا شرك، وهذه الروح التي تقمَّصت بلعام بن باعوراء هى أنا، قال الله اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ۩، وقال أيضاً وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ۩ والعياذ بالله، ولذلك انتبهوا إلى أن أكثر ما تحذرون منه وينبغي أن تحذروا وتحذروا وتحذروا أن تقعوا فريسةً لأنفسكم وأن تعبدوا أنفسكم وأن تدعوا الناس إلى أنفسكم وأن تُعبِّدوا الناس إلى أنفسكم.
بعض أهل الاستقامة وأهل الدين ينتقمون منا، هل تعرفون بماذا؟ باستقامتهم، لأنه مُستقيم لا عن خيار حر ولا بأفعال حرة لكن عن إكراهات ورياءات اجتماعية فإنه يشعر بالحقد على كل الخاطئين وعلى كل الذين لا يتطابقون تطابقاً تاماَ معه، هل فهمتم؟ لذلك يُوغِل في التكفير وفي الحقد وفي الإقصاء وفي الدمغ، هو ينتقم منا، لماذا؟ لاستقامته، يُريد أن يُدفِّعنا ثمن استقامته، كالبكر في مُجتمَع مُنحَل التي يحظى بها زوج كريم فلا تزال تُصِر على تدفيعه ثمن بكارتها، لأنه أخذ بكراً وأخذ شريفة في مُجتمَع مُنحَل، لماذا تُدفِّعينه الثمن؟ إن كنتِ شريفة فشرفكِ لكِ، هذا تاج على مفرقكِ أنتِ، لماذا لابد أن تُدفِّعي الزوج ثمن البكارة وثمن الشرف في مُجتمَع خسيس؟ هذا ابتزاز، كالذي يُدفِّعك أيضاً ثمن حبه لك، هو يبتزك بالحب، وآخر يبتزك بالإحسان، وهناك مَن يبتزك بضعفه وفقره كالذي يقطع يده ويشحذ عليه، هذه أنواع من الابتزاز، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُلهِمنا رشدنا وأن يُصلِحنا ويُصلِح بنا وأن يُعلِّمنا الدين ويُفقِّهنا فيه.
اللهم إنا نسألك أن تُصلِح أمة حبيبك محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً، اللهم جنِّبها الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلِح ذات بينها، اللهم لُم شعثها واجمع شملها ووحِّد صفها وكلمتها واجمعها على خير العمل وعلى عمل الخير وعلى أحسن النوايا بما يُرضيك عنها ويرفع مقتك وغضبك عنها برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، ربنا لا تُشمِت بنا الأعداء ولا تجعلنا مع القوم الظالمين واغفر لنا ما كان وأحسِن إلينا فيما بقيَ من أعمالنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 28/6/2013
أضف تعليق