إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، الْلَّهُم صَلِّ وَسَلِم وَبَارِك عَلَيه، وعَلَى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ۩ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ۩ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
نُكمِل اليوم الحديث العطر عن سيدة نساء العالمين، البتول الزهراء، أم أبيها، عن سيدتنا فاطمة – عليها السلام والرضوان والرحمات -، البضعة النبوية، والشُجنة المُصطفَوية، وأحب الخلق إلى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وأشبههم به سمتاً وهدياً ودلاً في مشيها وقعودها كما قالت أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، والسيدة الكريمة الجليلة التي يرى بعض العلماء والمُؤرِّخين أنه لم يدخل أحد بعد أبيها – عليه الصلاة وأفضل السلام – التاريخ الإسلامي كما دخلته هي، فلها ولذُريتها – أيها الإخوة والأخوات – من الأثر البالغ وقوى التحريك في هذا التاريخ ما لا يُجحَد، وما يعلمه كل دارس وكل مُطلِع ولو لُماماً على تاريخ هذه الأمة المرحومة، إنها الزهراء – عليها السلام، ورضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -.
أصغر بنات أبيها، وكل أولاده ذكوراً وإناثاً – عليه الصلاة وأفضل السلام – إنما وُلِدوا له قبل البعثة، إلا إبراهيم – عليه السلام – من مارية القبطية – رضيَ الله عنها -، ومشهور أنها أسلمت، أعني مارية، وقيل بغير ذلك، على كلٍ وفاطمة أيضاً وُلِدت قبل البعثة كما تعلمون بخمس سنين، وهو الأرجح لدى علماء ومُؤرِّخي الإسلام، وهي أصغر بناته – عليها السلام -، هي أصغر بناته، أي فاطمة الزهراء.
تحدَّثنا عن زواجها، وعن جهازها، وعن الشدة التي كانت تُعانيها في عيشها، والشظف الذي ابتُليت بها – عليها السلام -، تماماً حالها من حال أبيها – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لأن الله إذا أحب عبداً أصاب منه، وإذا أحب عبداً وفَّر له أجراً، ولم يشأ له – سُبحانه وتعالى – أن يُذهِب طيباته في حياته الدنيا وأن يستمتع بها كل استمتاع في هذه الدار الفانية.
ونُكمِل شيئاً يتصل بسبب أيضاً بهذه المسألة، يقول الصحابي الجليل عمران بن الحُصين – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، من الأنصار – كنت أمشي مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – ذات يوم، فقال لي يا عمران إن فاطمة مريضة، فهل لك أن تعودها؟ فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي، وأي شرف أكرم من هذا الشرف؟! طبعاً، أعودها معك يا رسول الله.
قال فانطلقنا، فطرق عليها الباب، فاستأذن، فقالت أدخل يا أبتِ، فقال أنا ومَن معي؟ قالت والذي بعثك بالحق ما علىّ إلا هذه العباءة، ليس ستري كاملاً، يقول عمران وكان معه ملاءة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فدفعها إليها، وقال يا بُنية شُدي بها رأسك، ففعلت، ثم أذنت لنا، قال عمران فدخل رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – على الزهراء – عليها السلام -، فقعد عند رأسها، وقعدت قريباً منه، ثم قال لها يا بُنية – وقد مسح رأسها – كيف تجدينك؟ فقالت يا أبتِ والله إني لوجعة، ويزيدني وجعاً أن ليس عندي ما آكله، فبكى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يقول عمران وبكت، قال وبكيت ببكائهما، ثم قال لها – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا بُنية تصبَّري، يا بُنية تصبَّري، مرتين أو ثلاثة.
بنت رسول الله، بنت أشرف خلق الله، بنت سيد العالمين، وجعة وليس عندها ما تأكله، ليس عنده ما تتبلَّغ به، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ۩، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يقول عمران قال لها يا بُنية تصبَّري، يا بُنية تصبَّري، مرتين أو ثلاثة، ثم قال لها يا بُنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ قالت يا ليتها ماتت، أي عن نفسها، وهذا من أدب نقل الحديث، إذا قال شخص يا ليتني مت فمن أدب نقل الحديث أن تقول قال يا ليته مات، لا تقول قال يا ليتني، فقال عمران فقالت يا ليتها، تقول فاطمة – عليها السلام – عن نفسها، أي يا ليتني، تقول فاطمة هكذا، قال فقالت يا ليتها ماتت، وأين مريم بنت عمران؟! كيف أكون سيدة نساء العالمين ومرين ابنة عمران هي السيدة؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا بُنية تلك سيدة نساء عالمها.
ويُؤيِّد هذا ما أخرجه الحافظ الأصبهاني عن ابن عباس مرفوعاً إلى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قال سيدات نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وهي سيدة نساء عالمها، وآسيا بنت مُزاحِم، وهي سيدة نساء عالمها، وخديجة بنت خويلد، وهي سيدة نساء عالمها، وفاطمة بنت محمد، ومَن مثل محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟!
لو شرَّقَ القومُ الكبارُ وغرَّبوا فإليك حتماً مُنتهى الخطواتِ.
إنه الأشرف والأكرم والأعظم والأجل – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وفاطمة بنت محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام، وسلام الله ورضوانه ورحماته على فاطمة بنت محمد -.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأفضلهن عالماً فاطمة بنت محمد، لأن العالم الذي بُعِث فيه رسول الله بلا شك هو أفضل العوالم، وصحب رسول الله هم أشرف الأصحاب، وأهل بيته هم خير آل وأهل – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ما عرف التاريخ ذُرية كذُرية محمد، لا أشرف ولا أكرم ولا أروع ولا أحسن من هذه الذُرية! إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ۩، عليه الصلاة وأفضل السلام.
إذن هي سيدة نساء العالمين، وهناك حديث آخر أخرجه الحافظ ابن عساكر في الأربعين الطوال، وأنا أسوقه هنا مُختصَراً، أخرجه بنحوه الإمام الحافظ أبو يعلى الموصلي في مُسنَده، عن أبي سعيد، أن الإمام عليّاً – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – دخل على فاطمة الزهراء يوماً فقال لها هل لديك شيئ تُغدينه – أي تُغديني به، من الغداء، وليس من الغذاء، قال تُغدينه -؟ فقالت لا والذي بعث أبي بالحق، ما أصبح عندنا شيئ، ولا أكلنا من بعدك شيئاً، ولا عندنا شيئ، إلا ما يكون من شيئ أؤثرك به على نفسي وعلى هذين الصبيين، الله أكبر! حُسن تبعل المرأة لزوجها، هذا هو البر، بر المرأة بزوجها، فلتتعلَّم هذا الأخوات المُسلِمات المُؤمِنات الكريمات – إن شاء الله تعالى -، تُؤثِر زوجها على نفسها وعلى ولدها، لأنها تعلم أن زوجها أعظم حقاً من ولدها، وهم أولادها وفلذات أكبادها، وبلا شك هم أحب إلى قلبها، دائماً الولد أحب إلى قلب الأم من الزوج، ولكن أيهم أعظم حقاً: الولد أو الزوج؟ الزوج، أعظم الخلق حقاً هو الزوج، يأتي مُباشَرةً بعد حق الله ورسوله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، مُباشَرةً! وهذه فاطمة بنت رسول الله، تعلم هذا الحق، أؤثرك به على نفسي وعلى هذين الصبيين.
فخرج الإمام أبو الحسن مهموماً محزوناً، فاقترض ديناراً، أراد أن يبتاع به شيئاً لأهله، فبين هو يمشي ومعه الدينار، إذ عرض له المقداد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وقد لوَّحته الشمس من فوقه في يوم شديد القيظ، فقال له يا مقداد ما الذي أخرجك؟ قال والله يا أبا الحسن ما أخرجني إلا الجهد، الجوع والحاجة والفقر، ليس في بيتي شيئ، هكذا كانوا يعيشون، رضيَ الله عنهم وأرضاهم، هؤلاء الذين قدَّموا لنا الإسلام كما يُقال على طبق من ذهب، فماذا فعلنا بالإسلام؟! ما أخرجني إلا الجهد، قال وأنا والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك، فخُذ إليك هذا الدينار، وعزم عليه بالله أن يأخذه، الكرم الهاشمي، الكرم النبوي! أعطاه الدينار وقصد إلى مسجد رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فصلى مع رسول الله الظهر والعصر والمغرب، وهو يطوي بطنه – عليه السلام -، وكان في الصف الأول قريباً من رسول الله، فلما انصرف الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – من صلاته، قام فمشى إليه وغمزه برجله، أن اتبعني، غمزه برجله، كان أخاه، هو الذي واخاه في المدينة، انصرف كل أحد بأخيه، وانصرف الإمام عليّ برسول الله أخاً، هذا هو الشرف الباذخ، فهو أخوه في الدنيا والآخرة، وكان يُلاطِفه، وهو ربيبه، رباه في بيته، أليس كذلك؟ رباه وضمه وشمله بعطفه وحنانه حين كان صبياً يدرج، فهو بمثابة الأخ والابن والصديق أيضاً، وسيكون الصهر، وقد كان، سيكون الصهر بعد ذلك، وقد كان.
ولأن الإمام عليّاً – عليه السلام – كان يعلم مكانته من رسول الله فقد أخذه أو حمله الدلال يوماً على أن سأل النبي يا رسول الله أينا أحب إلى قلبك: أنا أو فاطمة؟ لأنه يعلم أن فاطمة هي الأحب، فقال النبي – وانظروا إلى حُسن التصرف، إلى حُسن التسلك في الجواب – قال فاطمة أحب إلىّ وأنت أعز عندي، الله أكبر! المعزة شيئ والحُب شيئ، فاطمة أحب، إنها أحب خلق الله، إنها فلذة منه، قطعة من كبده ومن فؤاده – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يبسطه الذي يبسطها، ويقبضه الذي يقبضها – عليها السلام -، قال هي أحب وأنت أعز، أحب إلى قلبي وأنت أعز عندي – عليه السلام -، هذا الإمام عليّ.
المُهِم، فقال له يا أبا الحسن، هل عندك شيئ تُعشينا به؟ فلم يعد إليه بجواب، وسكت، وانطلق برسول الله حتى أتيا بيت الزهراء – عليها السلام -، فطرقا واستأذنا، فإذا هي في مُصلاها تُصلي، والقدر تفور خلفها، تفور بماذا؟ برائحة اللحم، فعجب الإمام أبو الحسن، من أين هذا اللحم؟ هو لم يبعث بشيئ، ولا الرسول أنفذ إليها بشيئ، فسلَّم النبي، فلما سمعت سلام والدها – عليه الصلاة وأفضل السلام – وكانت قد قضت صلاتها قامت، جاءت فصافحته، وبالحري قبَّلته وقبَّلها، وقد بلغ من معزتها ومحبتها الآتي، تقول أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – في الحديث الذي سُقت طرفه في الخُطبة السابقة – إنها كانت أشبه الخلق سمتاً وهدياً ودلاً في قعودها ومشيها برسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، تقول أمنا عائشة وكان الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا رأى فاطمة أقبلت قام إليها، لا يبقى جالساً، يقوم، يستقبلها قائماً، من شدة المحبة، الله أكبر! في بيئة كانت تئد البنات، كانت تقتل البنات، ولا ترى للبنت أي ميزة أو مزية، النبي كان يُولي بناته هذا الحُب كله وهذا الإعزاز، وهي رابعة البنات، ليست الأولى، هي الرابعة، ومثلها مكروهة للأسف عند الجاهليين من العرب إلى اليوم، نحن فينا بقايا جاهلية كثيرة، إلى اليوم كثيرٌ منا – من المُسلِمين ومن العرب – يكرهون البنات، لِمَ؟ لأنهم يكرهون قضاء الله، لأنهم لا يُؤمِنون بحكمة الله، طبعاً هذا ليس له معنى إلا أنه كفرٌ بقضاء الله، ردٌ على الله حكمته وخلقه واختياره، كيف يقع هذا من مُؤمِن؟ أنا لا أفهم، بالذات هذه المسألة لا أستطيع أن أستوعبها والله، هذا جهل، جهل غليظ، صغار في الفكر وفي النفس.
النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقوم لها، ويقول مرحباً بابنتي، ويأخذها، يُعانِقها ويُقبِّلها ثم يُجلِسه مكانه، يأبى إلا أن تجلس مكانه الذي كان جالساً فيه، تقول أم المُؤمِنين عائشة وكانت هي إذا رأت رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُقبِلاً تقوم إليه، وهكذا تُعانِقه وتُقبِّله وتُجلِسه مكانها، الله أكبر! ما هذا الحُب؟ ما هذا الكرم؟ ما هذا الدلال؟ ما هذا الأدب؟ ما هذا اللُطف؟ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ما ذكره الذاكرون وما غفل عن ذكره الغافلون، وسلام الله على الزهراء وبنيها إلى يوم الدين.
على كلٍ فقامت وهكذا فعلت بأبيها، وقال يا فاطمة بنت محمد هل عندكِ شيئ تُعشينا به – غفر الله لكِ وقد فعل -؟ أنتِ مغفور لك، لكن أدعو لك زيادة، قال غفر الله لكِ وقد فعل، قالت نعم يا أبتِ، وأتت بالقدر فوضعتا في جفنة، قدر تفور باللحم والمرق، ثم وضعت ذلك بين يديهما، فنظر الإمام عليّ إليها نظراً شحيحاً، أي هكذا بُربع العين، إنه نظر الغضب، النظر الشحيح هو النظر الشزر، النظر الذي يكون صاحبه مُغضَباً، نظر الغضب، فنظر الإمام عليّ إليها نظراً شحيحاً، فأفهمته أنها لم تعد الحق في كل ما قالت له، أي ما كذبت في حرف واحد، ولا كان عندهم شيئ، لكن من حقه أن يتساءل، إذن من أين هذا اللحم؟ فقام الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ووضع يده على كتف أبي الحسن، وقال له يا أبا الحسن لا تعجب، هذا جزاء الدينار، النبي يعلم، وَحْيٌ يُوحَىٰ ۩، قال إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ۩، لقد آثر على نفسه، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۩، قال يا أبا الحسن لا تعجب، هذا جزاء الدينار، هذا ثواب الدينار، ثم استعبر الرسول، بكى! لم يملك عبرته، بكى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقال الحمد لله الذي صنع بكما مثل الذي صنع بزكريا ومريم، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۩، الله أكبر! مِنْ عِندِ اللَّهِ ۩، ليس بأسباب الدنيا، ليس من الناس، إنه من عند الله.
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، وهكذا رزق الله فاطمة بغير حساب، إنها فاطمة، إنها لا تقل عن مريم، إن لم تزد عليها، لأن عالمها أفضل من عالم مريم، ومريم بنت عمران، وهذه فاطمة بنت محمد، ومَن مثله؟! ومَن مثلها؟! عليهما السلام، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، هكذا كانوا يعيشون في جهد وفي فقر.
وجانب آخر من حياة الزهراء – عليها السلام -، الجانب الأسري العائلي، ليس بدعاً أن يقع النزاع وأن نرى وجوهاً من أوجه الخلاف والمُشادة بين مثل هذين الزوجين الكريمين، بين فاطمة وبين عليّ، وهما مَن هما! وهما أحب الخلق إلى رسول الله، أما فاطمة فقد عرفنا جانباً من فضائلها، وأما الإمام أبو الحسن فمشهور ومعروف، لكنها ذكرى، هو الذي قال له الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنت يا عليّ ولي كل مُؤمِن من بعدي، وعاهده الرسول، أعطاه عهداً، أنه لا يُحِبه إلا مُؤمِن، ولا يُبغِضه إلا مُنافِق، وهو سيد، في هذا الحديث – في آخره، أعني حديث عمران بن حُصين في مرض فاطمة وعوده والرسول إياها – قال لها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ وجاء الحديث عن مريم، ثم قال والذي نفسي بيده لقد زوَّجتكِ سيداً في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الصالحين، لماذا قال النبي هذا؟ هي مريضة، وتشتكي الوجع، وتشتكي العُدم، الفقر! فلماذا يذكر هذه الميزة لأبي الحسن؟
طبعاً لأن من لوازم العيش مع رجل فقير أن تكون الحياة هكذا، لأن هذه الحياة من لوازم العيش ومن مُقتضيات العيش مع زوج فقير، وقد كان أبو الحسن فقيراً، ليس فقيراً لأنه كان ضعيفاً لا يستطيع أن يكسب، لكن لأنه جعل كُليته للإسلام، الإمام عليّ كيانه كله كان للإسلام، ليل نهار! وإلا لو أراد أن يستفرغ عقله ووسعه في جمع المال لأصبح من المُتأثلين المُتموِّلين، لكنه وهب كيانه ووهب وجوده بكُليته للإسلام، سلام الله عليه.
فالنبي يقول لها إياكِ أن تخطري لنفسك هذا الخاطر، أن هذه الشدة وهذا العوز وهذا العُدم بسبب هذا الرجل السيد الصالح المُبارَك الكامل، أي الإمام عليّ، كلا! هكذا، وهذا تأديب لنا، وبالذات تأديب لأزواجنا وأخواتنا وأمهاتنا، المرأة الصالحة لا تشكو فقر زوجها، وبالذات لا تشكو العوز والفقر والحاجة إلى الرجال الآخرين، تسكت وتصبر.
استأذن إبراهيم – عليه السلام – على ابنه إسماعيل فأذنت له زوجه وكان إسماعيل غائباً، فسألها كيف أنتم؟ فشكت الفقر والحاجة، وأنهم لا يكادون يجدون شيئاً، قال لها حسنٌ، إذا عاد إسماعيل فقولي له سأل عنك رجل كبير، صفته كذا وكذا – لم يُخبِرها أنه أبوه -، وهو يقول لك غيِّر عتبة بابك، أي طلِّقها، فطلَّقها على الفور، أي إسماعيل، امرأة كافرة بنعمة الله، زوجك فقير مُعدِم ولا يجد شيئاً، الأدب يقتضي أن تصبري معه، أن تعيشي معه الحياة بحلوها ومُرها وببأسها وضرائها ونعمائها معه، هذه هي المرأة المُؤمِنة، هذه هي المرأة التي تنشد الكمال، وتنشد رضوان الله وقُربانه، لا التي تُريد أن تعيش دائماً في نعماء، وهل الحياة كلها نعماء؟! ولذلك أفهمها النبي هذا المعنى – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
أبو الحسن – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – الذي قال فيه سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله عنه وأرضاه، خال رسول الله – الآتي، وقد أمره مُعاوية بن أبي سُفيان يوماً كما في صحيح مُسلِم أن يسب عليّاً، روى الإمام مُسلِم في صحيحه أن مُعاوية قال لسعد يا سعد قُم فسب أبا تراب، فقال سعد أما وأنا أذكر ثلاثاً، قالهن له رسول الله، فلن أسبه، أي لن أُطيعك، ولن أسب هذا السيد الجليل، هذا الإمام العلم المُفرَد الخطّار، ثلاثة أشياء سمعتها من رسول الله، قالها في أبي الحسن، كيف أسبه؟! قال مُعاوية وما هي؟
قال سمعته يوماً يقول له وقد خلَّفه في غزاة الآتي، النبي ذهب مع الصحابة يغزون، وخلَّف الإمام عليّ في الحراسة، فحزن الإمام عليّ وقال يا رسول الله أتُخلِّفني مع النساء والصبيان؟ وأنا فارس الإسلام! فقال يا عليّ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ لأن موسى استخلف أخاه هارون، وقال وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ۩ كما في الأعراف، وأنا أستخلفك كما استخلف موسى هارون، إلا أنه لا نبي بعدي، ولو كانت نبوة بعدي لكنت كهارون نبياً، الله أكبر! وهذا في مُسلِم، حديث صحيح، ليس بالأغاليط، وليس بالأحلام، إنه في الصحيح، قال إلا أنه لا نبي بعدي، الله أكبر! أعظم شرف للإمام أبي الحسن.
والثانية ما هي يا خال رسول الله، يا سعد بن أبي وقاص، يا مُجاب الدعوة؟ قال الثانية يوم خيبر، إذ قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقد استعصت عليهم خيبر، قال لأدفعن بالراية غداً إلى رجل يُحِب الله ورسوله، وفي رواية ويُحِبه الله ورسوله، وهذا في الصحيح، حديث الراية، فاستشرف لها كل الصحابة، حتى أبو بكر وحتى عمر، الكل يُريد أن يفوز بهذه الكرامة، أن يكون رجلاً مشهوداً له بحُب الله ورسوله، وبأنه يُحِبه الله ورسوله، وأن يفتح الله عليه خيبر، دمَّر الله اليهود في كل زمان ومكان، ولعنهم الله بلعنته الشاملة، يهود خيبر!
وهذه – أي هذه الراية – كانت مصنوعة من ثوب لأم المُؤمِنين عائشة، أيضاً حتى الراية لها مزية، راية خيبر هذه من ثوب أم المُؤمِنين عائشة، فدعا النبي بالإمام أبي الحسن، وكان يشكو عينيه، بهما رمد، فتفل فيهما، تفل فيهما فعادتا كأحسن ما كانتا، وفتح الله عليه.
هذه شهادة، يُحِب الله ورسوله، ويُحِبه الله ورسوله، ولا يُبغِضه إلا مُنافِق، أبو الحسن لا يُبغِضه إلا مُنافِق، لا يجد في قلبه شيئاً على الإمام عليّ وذُريته إلا مُنافِق، لا يُحِب الله ولا يُحِب رسول الله وأهل بيته، اللهم اجعلنا من أحبابهم، وتوفنا على ذلك، وابعثنا معهم، بفضلك كرامتك يا رب العالمين.
والثالثة ما هي يا سعد؟ والثالثة – قال – حين نزل قول الله – تبارك وتعالى – فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ۩، قال سعد دعا رسول الله فاطمة وعليّاً وحسناً وحُسيناً، وقال هؤلاء أهل بيتي، الله أكبر! هذا شرف، هذا هو الإمام عليّ، وهذه هي فاطمة، ومنهما نسل الله هذه الذُرية الشريفة المُبارَكة، ذُرية محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه الإمام الترمذي عن حُذيفة، يقول هذا ملك نزل من السماء، لم ينزل قبل اليوم قط، استأذن الله بالنزول، ليُسلِّم علىّ، وليقول لي إن ربك – تبارك وتعالى – يُبشِّرك بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن حسناً وحُسيناً سيدا شباب أهل الجنة، الله أكبر! ملك يُريد أن يحظى بهذه البُشرى، بشرف تبليغ هذه البُشرى، أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسنين – عليهما السلام – سيدا شباب أهل الجنة.
اليوم تساءلت، قلت ماذا لو عاش إبراهيم – عليه السلام – ابن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ قلت والله ما كان بعيداً أن يقتلوه، كما قتلوا حُسيناً، وما الفرق بين الحُسين وبين إبراهيم؟ وهذا ابنه وهذا ابنه، لقتلوه! من أجل الكرسي، من أجل السُلطة، من أجل المال، ومن أجل الدنيا – والعياذ بالله -، لكن شاء الله ألا تعظم هذه الفتنة، وقبض إليه إبراهيم ولما يُتِم السنتين – عليه السلام -، ابن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول لفاطمة يوماً يا فاطمة إن الله يرضى لرضاكِ ويغضب لغضبكِ، ولذلك كان الصحابة يخافون جداً من غضب فاطمة، أن تغضب على واحد منهم، يخافون جداً، أفلا ترونها تغضب على مَن قتَّل أولادها وجرجر بناتها من شعورهن من بلد إلى بلد؟ أي والله، إنها لغاضبة في جنتها، لغاضبة في مثواها مع أبيها – عليهما الصلاة وأفضل السلام -، وسنأتي على طرف من ذلك سريعاً.
أيها الإخوة:
الحديث طويل، تقول أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله عنها وأرضاها – الآتي، وهو بقية الحديث الذي قدَّمت صدره في الخُطبة السابقة أيضاً، لما جاءت تمشي وهي في مِشيتها لا تُخطئ مِشية رسول الله، ونساؤه جميعاً – أمهات المُؤمِنين – لم يُغادِر واحدة منهن، قد تحلقن حوله، واجتمعن عنده – عليه الصلاة وأفضل السلام – في مرضه الذي قبضه الله فيه إلى كرامته ورضوانه وقُربانه – صلوات ربي وتسليماته عليه -، جاءت فاطمة – عليها السلام – فأسر النبي إليها – عليه الصلاة وأفضل السلام – شيئاً فبكت، جزعت وبكت، ثم سارها بشيئ آخر فضحكت، فعجبت أم المُؤمِنين عائشة، وقالت ما رأيت ضحكاً أقرب إلى بكاء من اليوم، ما هذا؟ بكاء ثم ضحك مُباشَرةً في نفس الدقائق! ثم تُوفيَ رسول الله، قبل أن يتوفى سألتها أم المُؤمِنين عائشة بماذا أسر إليكِ رسول الله؟ قالت لا والله، ما كنت مُفشية سر رسول الله، هذا سر، وأنا لا أُفشي سر أبي رسول الله.
فلما تُوفيَ الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قالت لها عزمت عليكِ بما لي عليكِ من حق ألا ما أخبرتني بما ساركِ رسول الله، قالت أما الآن فنعم، لأنه تُوفيَ، قالت سارني في الأولى، قال لي يا بُنية لقد كان جبريل يُعارِضني بالقرآن كل عام مرة، وقد عارضني به هذا العام مرتين، وما أرى الأجل إلا قد اقترب، فبكت فاطمة، ومَن لفاطمة؟! لقد تُوفيت أمها وهي صغيرة في مكة، وقد تزوَّجت أخواتها الثلاث، وبقيت هي مع أبيها، وقد أستأثر القضاء بأخواتها الثلاث جميعهن، وبقيت هي، ليست إلا هي، وليس لها إلا أبوها وزوجها، والأعز والأغلى والأحب هو أبوها، رسول الله، حبيب العالمين، وحبيب رب العالمين، فبكت طبعاً جزعاً لفراق رسول الله، مع أنه أمرها بالصبر.
ثم قالت فسارني فقال لي أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ وفي رواية أُخرى أنه قال لها أو زادها – عليه الصلاة أو أفضل السلام – بأنكِ أول أهلي لحوقاً بي، بشَّرها بقُرب موتها، لا تجزعي، ستموتين قريباً بعدي، فضحكت، فرحت لأنها لا تُريد الدنيا من غير أبيها، ولذلك كما ورد في الأخبار وفي التواريخ لم تعش – عليها السلام – بعد رسول الله إلا ستة أشهر على الصحيح، وقيل أقل، وقيل أكثر، وهذا هو الأصح، وكانت تذوب، يقول الصحابة كانت تذوب، كل يوم أضعف من يوم، تزوي باستمرار، تذوب كما تذوب الشمعة وكما يذوب الرصاص، حُزناً وكمداً وغماً على أبيها، رسول رب العالمين، حتى لحقت به مسعودةً – عليها السلام والرضوان -، هكذا!
لما تُوفي رسول الله جاءت إلى قبره، هُرِعت بعد أن دفنوه وحثوا عليه التراب، وقبضت قبضتين من تراب هكذا، وجعلتهما عندي عينيها وبكت، وقالت:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ أَلاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا.
الغَالِيَة نوع من المسك الطيب، قالت:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ أَلاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا.
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّهَا صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا.
فجاءها أنس كما في صحيح البخاري، جاءها أنس فقالت له يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ كيف استطعتم أن تضعوا عليه التراب؟ أي والله، هذا سؤال عجيب، يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ رسول الله الذي غضب قريباً – يوم فتح مكة – لغضبها، لم تنس له هذا الموقف، قالت له كما في البخاري يا أبتِ إن القوم يتحدَّثون أنك لا تغضب لبناتك، وليس له إلا هذه البنت الوحيدة المُفرَدة، قالت له يا أبتِ إن القوم يتحدَّثون أنك لا تغضب لبناتك، قال مِمَ يا بُنية؟ قالت هذا عليّ بن أبي طالب ناكحٌ وفي رواية ناكحاً بنت أبي جهل، يُريد أن يتزوَّج علىّ، أعلمت بذلك؟ ألا تغضب لي؟ فخرج النبي يجر ثوبه مُغضَباً، جمع الناس وخطبهم، قال ألا إن بني هشام بن المُغيرة – أبو جهل عمرو بن هشام، ابنه هشام بن المُغيرة، هو هذا أبو جهل، وابنته جويرية، رضيَ الله عنها وأرضاها، أسلمت وحسن إسلامها، أخت عكرمة بن أبي جهل، كلاهما أسلم، أي جويرية وعكرمة، وجويرية اختُلِف في اسمها، وهذا الأصح الأثبت، المُهِم أنه قال الآتي – قد استأذنوني أن ينكحوا عليّاً ابنتهم، أي على ابنتي، أما إني لا آذن، لا آذن، لا آذن، وفي رواية قال إلا أن يُريد ابن أبي طالب أن يُطلِّق ابنتي ثم ينكح ابنتهم، يأبى الله ورسوله أن تجتمع بنت رسول الله مع بنت عدو الله، وهي أسلمت، مع بنت أبي جهل، فرعون محمد، فرعون هذه الأمة، كيف يُدخِل عليها عليّ – عليه السلام – ضرةً وهي الوحيدة الآن؟ قد أُصيبت بأمها وأخواتها الثلاثة، إدخال الضرة عليها هو إدخال الفتنة والغيرة والبلاء العظيم، الرسول يرعى هذا من ابنته.
قال أما إني لا أُحِل حراماً، ولا أُحرِّم حلالاً، ولكن إذا أراد أن يُطلِّقها فليُطلِّقها، إن فاطمة – وهذا هو موضع هذه الكلمة العظيمة التاريخية – بضعة مني، يريبني الذي يريبها، ما رابها فهو أيضاً يريبني، يرضيني الذي يرضيها، ويريبني الذي يريبها، فلما سمع عليّ بذلك ترك الخِطبة مُباشَرةً، عليّ – عليه السلام – كان في حسابه أنها في ذلكم كسائر نساء المُؤمِنين بل كسائر أمهات المُؤمِنين، ولها في حفصة ولا في عائشة بنتي الصدّيق والفاروق قدوة، هو هكذا في حسابه، ولكن هناك حسابات أُخرى في الموضوع، لم تخطر على باله.
غاضبها يوماً فقالت له الآتي، وكان في الإمام عليّ شدة، لأنها فارس خشن، وكان خشناً جداً، هذا معروف، النبي قال إنه أخشن في ذات الله من أن يُشتكى، لا تشكو إليه عليّاً، فلهو أخشن في الله من أن يُشتكى، كان فيه خشونة، أقرب إلى الغِلظة، حتى مع زوجته، هكذا طبع الفارس الكامل، هكذا! لم يكن فيه دلال أو نعومة، فكان شديداً أحياناً، فقالت له والله يا أبا الحسن لأشكونك إلى أبي رسول الله، فذهبت فانطلق عليّ في أثرها، الشكوى إلى رسول الله أمر خطير، وغضبها أيضاً فيه غضب للرب، أي فاطمة، فجعل يستمع، فبعدما شكت إلى أبيها رسول الله قال لها – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا بُنية إنه لا إمرة – وهنا بمعنى البركة والزيادة، أي لا بركة ولا خير – بامرأة لا تأتي هوى زوجها وهو ساكت، المرأة الكاملة المُبارَكة عليها أن تأتي كل ما يُحِب زوجها وهو ساكت، دون أن يطلب، فسمع الإمام عليّ ذلك فانطلق، فلما عادت قال لها والله لا آتي بعد اليوم شيئاً تكرهينه، انتهى! هذا آخر شيئ.
عن حبيب بن أبي ثابت، قال كان بين فاطمة وعليّ – عليهما السلام – يوماً مُغاضَبة، وعلم النبي بذلك فجاء ودخل عليهما، ففرشا له شيئاً، فاضطجع النبي عليه، وجاءت فاطمة – عليها السلام – فاضطجعت عن جانبه، وجاء أبو الحسن واضطجع عن الجانب الآخر، فأخذ النبي بيد ابنته ووضعها على سُرته المُبارَكة، وأخذ بيد عليّ ووضعها على سُرته، ثم جعل يتكلَّم، ولم يزل بهما حتى أصلح بينهما، ثم خرج والسرور يُعرَف في وجهه، البشر يُرى في وجهه، فقالوا يا رسول الله ما شأنك؟ دخلت على حال، وخرجت والبشر يُرى في وجهك! قال وما لي لا أستبشر وقد أصلحت بين أحب اثنين إلى قلبي، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان هكذا.
للحديث بقية، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعيد علينا من بركاتهم، وأن يُنوِّرنا بأنوارهم، وأن يحشرنا معهم غداً بين يدي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وزعيمنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم، والمُسلِمين والمُسلِمات، معهم بفضلك ومنّك أجمعين.
اللهم اهدِنا واهدِ بنا، اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك يا رب العالمين.
اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ۩.
اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تنصر الإسلام والمُسلِمين، وأن تُعِز بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين، اللهم عليك بأعدائنا، أعداء الدين، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُغادِر منهم أحداً، اللهم أرِنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزِل عليهم آيات بأسك وغضبك وانتقامك، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، اللهم فاكفنا شروروهم يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(3/1/2003)
أضف تعليق