-
إنّ ممّا يستنبطه المتفكر المدقق ويتوصل إليه المتدبّر المحقق بالتتبع والاستقراء، أنّ بمقارنة حصيفة رزينة بين السابق واللاحق والغابر والحاضر مصحوبة بإلقاء نظرة فاحصة على أحوال عصر الوحي والاتباع، وظواهر العصر الراهن من حيث مسالك العلماء وسلوكيّاتهم إضافة إلى ما كان عليه الولاة المنقرضين الدارجين، يتجلّى أنّ ثمّة بونا شاسعا بين عصر الوحي والاتباع الذي كان فيه بصيص المعرفة والاعتراف، وبين عصرنا الراهن الذي خُلِط فيه بين القضّة والفضة، وسوّي بين الثرى والثريّا، وتكاثفت الأوهام والتناقضات العمياء، فظنّ الناس أن الشعرة والشعيرة سواء.
من المعلوم ضرورةً وجودُ الفرق بين عصر تحلّى علماؤه وقوّاده بالتقوى والحلم والاعتراف بجهود الآخر، وبين عصر تألّه علماؤه وأُلِّهُوا وَولِه ولاته وولّهُوا، فكأنّ لسان كلّ عالم يقول لغيره :
ما أنت بالحكم الترضى حكومته * ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
مسندا في ذلك إلى ما يراه صوابا وإن باين الحقَّ وخالف الحقيقة وانكشف له زيفه وخطأه، وهذا الداء الذي قد ناب أكثر الطلبة والمتعلمين، فإذا هم ينتصرون لمشايخهم ومدارسهم المذهبية أو الطائفية مع تعصب جارف وتنطع حاذف ولسان حالهم يقول :
إذا قالت حذام فصدقّوها *فإن القول ما قالت حذام.
وهذا ندّ ما ورثناه عن الأئمة الراسخين وعلمائنا المتألقين السابقين، فلنرجع البصر كرّة إلى الإمام القرشي الشافعي واضع اللبنة الأولى لعلم الأصول الذي كان في ذروة خرو الفهم وقمّة سرعة الاستيعاب، فطار صيته مسير الشمس وأطبق أعداؤه على تمكّنه وعبقريّته فضلا عن أودّائه، قال للإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله جميعا : ” أنتم أعلم بالحديث مني،فإذا صحّ عندكم الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فقولوا لنا حتى نأخذ به”.
ولنرجع البصر كرّتين إلى قطرب علم الحديث الحميديّ رحمه الله تعالى حيث يقول : ” صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل ويستفيد مني الحديث” وأمثلة هاتين الحادثتين مع هؤلاء النجوم البرّاقة أكثر من أن تذكر وأشهر من أن تظهر، إذ كان هذا ديدنا لهم مع ما منحهم الله من حظّ وفير وفهم غزير.
لنعد عيوننا كرّة ثالثة إلى علماء العصر ومتعّلميه، وفقهائه ومتفقّهيه، وأدبائه ومتأدّبيه مع ما تنضوي عليه أضالعهم من تعصّب وحسد وحقد وجحود للحقوق والحقائق وعادات يذوب لها القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان، نلفي أنّه قد تصدى الأديب للفتوى، وتنصّب الفقيه لسرد الأسانيد، وصار الطبيب يعدّ خبيرا في معرفة الهندسة؛ فهلك الحرث والنسل واختلط الحابل بالنابل.
وقديما قالوا : ” من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب” ومن اللطائف والطرائف في هذا الصددّ أنّه حكي عن عوض بن نصر ــ وكان من الراسخين في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله ــ أنه أخذ كتاب المفصّل لوحيد عصره وفريد دهره جار الله الزمخشريّ ونظر فيه، فقال لما وصل باب الترخيم : لماذا ما قال باب التبليط ؟ ولما قرأ باب العلم، قال : لماذا ما قال باب السنجق ؟ يظنّ أن الراية هو العلم،وأنّ الترخيم من الرخام ثم شرع في تعليل ذلك بتعليلات تضحك الأجنّة في بطون أمّهاتها. فعالمنا الإسلاميّ الحاضر عالم الغرائب التي تجعل الولدان شيبا.
وإذا حلّت مثل هذه الحالة الكارثيّة بأيّ أمّة من الأمم فإنّها تبقى في العويل والاشتكاء، وتلوح فيها فجوات غير مسدودة، ويلمّ بها الضعف والخور؛ فمعوّلها الذي عليه تعتمد حينئذ هو الرجوع إلى الكتاب وما صحّ ورجح من السنّة النبويّة المطهّرة فإنّهما شفاء كل داء.
اللّهم أصلح أمرنا، واجبر كسرنا، وافتح علينا فتوح العارفين.
أضف تعليق