إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ۩ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ۩ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ۩ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ۩ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ۩، كم يصح ويصح لهذا القلب أن يُسنَد إليه من صفات ومن مزايا وخصائص! هذه اللطيفة الربانية – قبضة من لحم ودم كما يُخيَّل إلينا – هي موضع اللين والإخبات والخشية والخوف والوجل والمحبة والتألف، وهي موضع الفكر، وموضع العقل والإدراك، وموضع الكسب – وهذه صفة حيادية، تكسب الأعمال الصالحة أو تكسب الأعمال الطالحة -، وموضع الهداية، وموضع الإيمان، وموضع التقوى، وموضع الامتحان والابتلاء أيضاً، كما أنها بالإزاء وفي المُقابِل موضع الفظاظة والغِلظة والقسوة، ومكان الطبع والختم ورين الذنوب والعياذ بالله، وهي موضع الزيغ، وموضع الضلال، موضع الجُبن، وموضع الشرود.
كل هذه الصفات وغيرها كثير قام عليها البرهان من قول الحق – جل مجده – في كتابه العزيز، ولا أُريد أن أُطوِّل بسرد الشواهد، لأنها معلومة لكل تالٍ لكتاب الله سُبحانه وتعالى، لكن أعجب ما في هذه الصفات والخصائص مما قد يبدو مُناقِضاً لنموذجنا العلمي المُعاصِر في فهم القلب والتعاطي معه صفة العقل، صفة العقل! فإذا ذُكِر العقل ذهب وهمنا وخاطرنا مُباشَرةً إلى الدماغ، وليس إلى القلب، كما يُؤكِّد الشعراء وكما تُؤكِّد الكُتب السماوية وتُراث البشرية القديم كله، يُؤكِّد أن هذا القلب هو موضع التصديق والكذيب، هو موضع الأحاسيس وموضع التفضيلات، التفضيلات الجمالية، التفضيلات الموسيقية، التفضيلات العلائقية، الأحكام التقويمية على الأشخاص وعلى المواقف، القلب! ومن هنا صح قولهم أعرني قلبك، كما يقولون أعرني عقلك، وأعرني أُذنك، حتى أحس بمثل ما تحس به، حتى أشعر بذات المشاعر التي تجتاحك والتي تنطوي عليها جوانحك وأضلاعك.
هذه أعجب صفة! وسنخص هذه الصفة مع صفة أُخرى وهي صفة الكسب والإرادة بالذكر، القلب هو الذي يكسب وهو الذي يُريد، وليس الدماغ، لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۩، قال إذن بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۩، وإنما الأعمال بالنيات، وأين هو موضع النية؟ القلب، بإجماع العلماء وأهل الذوق من المُتصوِّفة والعارفين والواصلين إلى الله – تبارك وتعالى – القلب، الإثم ما حاك في صدرك، والمُراد هنا خصوص القلب، مما يتضمنه ويشتمل عليه الصدر، لقوله في الحديث الآخر الشهير ألا إن التقوى ها هنا، ثلاثاً قالها وأشار إلى قلبه، ألا إن التقوى ها هنا!
وسأبدأ بالثانية هذه لأنها أسهل وأوفق وألأم بمِزاجنا الديني، وسأتكلَّم فقط عن نُقطة واحدة لأن الموضوع طويل وكثير من ذيوله وشعوبه معروف لكم جميعاً – إن شاء الله تعالى – ولكن، لكن سأتكلَّم عن نُقطة بسيطة، وأسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُوفِّقنا إلى قول الحق وكشفه والاعتقاد به والعمل به.
الله – تبارك وتعالى – يقول يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، إنه ليس يوماً دنيوياً، يوم أُخروي تُبلى فيه – تُختبَر وتُكشَف وتُفتضَح أيضاً، وتُفتضَح! – السرائر، مهما تحصنا بــ ومهما اختبئنا وراء المبادئ الأخلاقية والأوامر الدينية والدعاوى الضميرية – مهما فعلنا ذلك – في نهاية المطاف لابد أن يأتي يوم ولابد أن تحين ساعة يُواجِه فيها الواحد منا حقيقته، لا تكلَّم عن حقائق الآخرين، الله كفيل بهم، وإنما عن حقائقنا نحن أنفسنا، لابد أن نُواجَه بحقائقنا، لابد أن تسقط زيوفنا، دعاوانا، ودفاعاتنا، كل واحد يُقيم من نفسه مُحامي دفاع عن نفسه، ويُبرِّر مسالكه وأفعاله بما ذُكِر، بالمبادئ الأخلاقية، بالأوامر الدينية، وأمثال هاته المُبرِّرات والمُسوِّغات، وأحياناً يقتنع، من فرط تمثيله، من فرط صدقه، ومن فرط تزييفه يقتنع حتى هو، ويقع ضحية لنفسه، يقع ضحية لنفسه كما حكى الله – تبارك وتعالى – عن المُنافِقين الذين يُبعَثون يوم القيامة ويحلفون لله – تبارك وتعالى – ويُقسِمون له كما يحلفون لكم، الله يقول يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۩، ثم يقول وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۩، لفرط الكذب، لفرط التدليس، لفرط التدجيل، ولفرط ما عانوا من التمثيل المُستمِر في حياتهم حتى اغترب واحدهم عن نفسه، في نظري هذا هو الاغتراب الحقيقي، أي الــ Alienation، ليس اغتراب ماركس Marx – اغتراب إنسان عن عمله أو عن ثمرة عمله – أبداً، الاغتراب الحقيقي ما يُعرَف بالتفصم، بعدم الانسجام، بعدم التكامل، أي Disintegration، هو هذا! أن تغترب عن نفسك بمُخادَعة النفس.
لذلك هذا كان أسوأ الأمراض وأخطر الأدواء، هناك جُملة من الأدواء والأمراض تنطوي كلها تحت عنوان واحد، وهو مُخالَفة الظواهر للبواطن، مُخالَفة الظواهر للبواطن! ما يُسمى بلُغة الشرع النفاق، أخطر شيئ! إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۩، حالهم أسوأ وأتعس من حال ومصير الكفّار المُلحِدين الجاحدين والعياذ بالله، لماذا؟ لأن ضحايا هؤلاء الناس الذين خُدِعوا ودُلِس عليهم وهم أنفسهم فجريمتهم أكبر، حتى هم أيضاً ضحايا أنفسهم، رقعة فسادهم أكبر بكثير، وللك كانوا فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۩، يستوفي هذا النفاق العقدي والنفاق العملي، لأن النفاق العملي الذي للأسف لا يخلو أكثرنا منا – وأعني إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر، هذه هي الخلال أو الخصال الأربع السيئة التي إن اجتمعت في عبد والعياذ بالله تم وخلص نفاقه كما في حديث عبد الله بن عمرو، كان مُنافِقاً تاماً، كان مُنافِقاً خالصاً – كله يدور على ماذا؟ على مُخالَفة الظاهر للباطن، هو يُحدِّثك ويُظهِر أنه صادق وأنه يصدقك، ويعلم في باطنه أنه يكذب عليك، خالف ظاهره باطنه، إذا وعد أخلف، يعد وفي نيته أنه لا يُريد أن يُوفي بعدته، مُنافِق! طبعاً الذي يعد ثم تحول ظروف قاهرة وعوامل خارجية لا يداً له فيها ولا يدين بينه وبين إنفاذ ما وعد لا شيئ عليه بالإجماع، هذا ليس مُنافِقاً، ولا يُقال إنه وعد فأخلف، إنما وعد فأخلفته الظروف، الظروف قهرته واضطرته إلى هذا، ومن ثم لا شيئ عليه، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ۩، وعدك عدة خير وهو مُحسِن بهذا الوعد وبهذه النية، لكن حال الجريض دون القريض، حالت الظروف كما يُقال، لا شيئ عليه! أما الذي يعد وفي نيته أنه لا يُريد أن يُوفي مُنافِق، خالف ظاهره باطنه، وهكذا إلى آخر هذه الخصال، مبنية كلها على مُخالَفة الظاهر للباطن والعياذ بالله.
أخطر الأدواء هذه، أفتك الأمراض! وتذكَّروا أن هذا المُنافِق، هذا المسكين، وهذا المريض – الله سمى هذا مرضاً، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۩ – هو ضحية لنفسه، لأنه مُغترِب عن نفسه، وأعماله الصالحة فيما يبدو لنا بعيدة عنه تماماً، لا تُخصِبه، لا تُثريه، لا تُغنيه، لا تُعطيه سكينةً ولا هدوءً ولا تماميةً ولا راحةً ولا استكمالية، وإنما تُعطيه مزيداً من الشعور بالبهاظة والثقل والعبء، أتعرفون ما الذي يُخِف أو يجعل العمل خفيفاً مهما كان شاقاً، مهما كان عسيراً، مهما تواصل وامتد واستمر، وأحياناً يكون مُمتِعاً ولذيذاً؟ اتساق ومُواءمة الظاهر بالباطن، أن أعمل العمل وأنا مُريد حقاً لهذا العمل، أنا مُريد ومُنبعِث حقاً لهذا العمل، يغدو العمل خفيفاً جداً، لذلك بعض الناس يستغرب، كيف أُوتيَ بعض مَن نسمع عنهم قدرة عجيبة جداً جداً على اللهج بذكر الله؟ لا تفتر ألسنتهم عن ذكر الله! لأنهم يفعلون هذا عن محبة، عن محبة! لا يستطيعون أن يتوقَّفوا، كما تُلهَم أنت النفس، لا يستطيعون! يُصبِح طبيعة ثانية لهم، كيف يُؤتَون قدرة على العبادة؟ فنقرأ عن الإمام زين العابدين – عليه السلام – مثلاً أنه كان يركع في اليوم والليلة ألف ركعة، شيئ غريب، لا يُصدَّق! لكنه صدق وحق بحمد الله، كيف سهل وخف عليه هذا العمل المُبهِظ الثقيل؟ بعضنا لا يستطيع أن يقوم بحق الفرائض الخمس، لذلك يُفرِّط، يُفرِّط في العشاء، يُفرِّط في الصبح، يُفرِّط في الظهر، يُفرِّط في العصر، كيفما اتفق! هو يُصلي كيفما اتفق، والصلاة عبء عليه وهي ثقيلة، فينتبه! هذا مُؤشِّر خطير جداً جداً على مرض يجتاح الشخصية، يُشظِّيها، يُقسِّمها، ويفصمها!
ولذلك مثل هذه الشخصيات يحدث معهم الآتي، وهذا الذي نعجب له، وحُقَّ لنا العجب، نعجب أن شخصاً يكون – مثلاً – منسوباً إلى حقل العبادة أو حقل العلم أو حقل الدعوة – مثلاً نقول من أبناء المساجد، مِمَن نشأ في طاعة الله – يكبر وتسوء أخلاقه، يكبر ويزداد كذباً، يكبر ويزداد نفاقاً، يكبر ويزداد حرصاً ونهازية ومصلحية كما نقول، شيئ لا يُصدَّق! المفروض أن الإنسان كلما تقدَّمت به السن يزيد هدوءاً ويقيناً وجمالاً ظاهرياً وباطنياً، اتساقاً مع نفسه، مُصالَحةً لنفسه، مُصالَحةً لإخوانه وللناس وللمُجتمَع، يكتسب حكمة، يكتسب غنىً داخلياً، يقل حرصه على الدنيا وعلى مغانمها، لا يُقاتِل من أجلها، بالعكس! هو يأخذ منها ما رُزِق وما قُسِم له بهدوء ورضا وطمأنينة، ولا يُمكِن أن تُحرِّك الدنيا كلها بكل غناها وثرائها ذرةً في بدن يقينه وإيمانه، لا يُمكِن! ومثل هذا لا يُفاوَض أصلاً على إيمانه وعلى موقفه وعلى شخصيته، إنه كالجبل الآن، انتهى! فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ وقد فعل، لقد اقتحم العقبة، لقد تخطى الحد الحرج، هذا لا يكون إلا أن يكون إنساناً مُتكامِلاً ومُتوائماً ومُنسجِماً ومُتصالِحاً ذاتياً، هذا الذي يستوي سره مع علانيته وعلانيته مع سره، هذا الذي يقوم بالأعمال وينبعث فيها وإليها عن محبة، عن تلذاذ، وعن تنعم، يتنعَّم بالمشقة، في سبيل الله، في سبيل الخير، في سبيل إخوانه، في سبيل أمته، وفي سبيل مُجتمَعه، يتنعَّم مهما تراه دائباً، وقد تحسب أنه شقيان – كما يقولون – أو تعس، بالعكس! هو سعيد وراضٍ، يُتعِب البدن وترتاح النفس ويرتاح الروح، أما الآخرون فلا.
إذا وضحت هذه المُقدِّمة أُحِب أن أُدلِف من خلالها إلى فهم جديد – مُقارَبة جديدة – لكلمة شائعة جداً عند السادة العارفين بالله، وهي مُستمَدة من صحيح حديث رسول الله، صلوات ربي عليه وتسليماته، يقولون الخواتم تتبع السوابق، أي الخاتمة تتبع السابقة، الخواتم تتبع السوابق! وهم إنما يُشيرون إلى سابق علم الله في العبد، أخذاً بظاهر الحديث الصحيح فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة أو يعمل بعمل أهل النار في الحالة الثانية، قالوا هذا! طبعاً نحن لا نُناقِش أن كل شيئ سابق في علم الله، علم الله سبق كل شيئ ونفذ في كل شيئ، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ۩، لا ريب، لا جدال، ولم نأت بجديد! وإنما الذي نُريد أن نتلمحه هنا أن خواتم أعمال العباد أو العبيد إنما تأتي لتتوافق مع سوابق أعمالهم، قد تقولون هذا بدهي، ونحن نعرف هذا، لكن هذا ليس بدهياً، المعنى هنا جديد تماماً، كيف؟ يضح لنا بإمكان نقضه على طريقة بوبر Popper، يضح لنا هذا المعنى – إن صح عندنا – بإمكان نقضه، يُمكِن أن يُنقَض! كيف؟
سيبرز لنا أحدكم وهو مُحِق ليقول لنا ولكن يا أخي كيف؟ كيف تُحدِّثني عن خاتمة تأتي لتنسجم وتتواءم مع سابقة أو سوابق، وها هو امرؤٌ – ذكراً كان أو أنثى – قضى أشطر عمره في المعصية ثم اهتدى؟ ليس شطر عمره وإنما أشطر عمره، قضى تسعين في المائة من عمره، وأحياناً تسعة وتسعين في المائة! أحياناً يعيش أحدهم ثمانين سنة، وفي آخر ثلاثة أشهر يهديه الله سواء السبيل، قضى أكثر من تسعة وتسعين في المائة من عمره في الضلال، في التنكب، في الشرود، وفي الجحود، وأعماله في ثمانين سنة هي مُجرَّد سيئات مُتراكِبة ومُتراكِمة، كان فقط يرتكب السيئات والمُوبِقات، الصغير منها والكبير، ولا يُبالي! فكيف؟ أين سوابقه التي جاءت لتشفع له الآن في آخر شهر أو ثلاثة أشهر؟ أحياناً في آخر أسبوع!
حدَّثني أحدهم بقصة قصصتها مرة عليكم، قصة شاب كان مُولَعاً بالعصيان – والعياذ بالله – والمعاصي وارتكاب الكبائر، ثم هداه الله على حين غِرة، هكذا! تأذن الله بهدايته في أول شهر رمضان، وتُوفيَ في آخره في يوم جُمعة خلف الإمام وهو ساجد، رحمة الله عليه، وهو رجل ليبي، حدثت هذه في ليبيا، هذه قصة حقيقية، والرجل يعرفه شخصياً، أي هذا شهر واحد فقط من أربعين أو خمسين سنة، كيف؟ والعكس صحيح! كما في حديث مولانا رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، العبد الذي يقضي ستين سنة أو سبعين سنة في طاعة الله، في المساجد، في التسنن، في الالتزام، في الدعوة، في القرآن قراءةً وإقراءً وعلماً وتعليماً، ثم – والعياذ بالله، لا إله إلا هو، اللهم غفراً، اللهم عصمةً – يهوي على أمه كما يُقال، على أم رأسه! ويُختَم له بشر خاتمة، وقد يموت كافراً، قد يموت مُلحِداً مُنكِراً، قد يموت خائناً لوطنه، لدينه، لربه، لأمته، ولمبادئه هو التي كان يلهج بها، ما الذي حصل؟
هنا نُقِض تماماً ما قدَّمنا، أليس كذلك؟ من المفروض إذن لو صح ما قلنا إن السوابق هنا تشفع له ألا يحدث هذا، بالعكس! يُختَم له بالخير، إذن كيف يجوز أن نقول إن الخواتم تتبع سوابق العمل؟ ومع ذلكم هذا صحيح، وصحيح بالمرة، صحيح جداً كما نقول، كيف يا إخواني ويا أخواتي؟ كيف؟ هنا النُقطة الخطيرة.
طبعاً في نفس السياق – ولعلنا جلبنا طرفاً مما يخص هذا المقام في خُطبة المشروطية، مشروطية الإنسان! وهي مُناسِبة تمام المُناسَبة لهذا الموضوع، لكن ما ها هنا جديد، ويُضيف ويُكمِّل ويُثري أيضاً الموضوع القديم – أو في هذا السياق أيضاً تأتينا أحاديث كثيرة، كحديث البغي، وقلنا إبانه إن هذا الذنب – والعياذ بالله – ذنب مُمتَد، تعيش في دنس مُمتَد، في معصية مُستمِرة، لكن الله – تبارك وتعالى – تأذن أن يغفر لها بسقياها كلباً رأته يلهث عطشاً، فغفر الله لها، شكر لها فغفر لها، انتهى! نفس الشيئ، أين السوابق؟ أين السوابق إذن؟ إن جاز أن يُسمى هذا الفعل سابقة فهي سابقة واحدة في آلاف السوابق السيئة، أين السوابق؟ بالعكس! السابقة هنا شكَّلت خاتمة، هذه خاتمة! كانت هذه الخاتمة، فعلت هذا الفعل فشكر الله لها فغفر لها، هذه خاتمة، وليست سابقة، السوابق على عكس هذه الخاتمة تماماً، أليس كذلك؟
حديث البطاقة المشهور، الرجل الذي يُنشَر له على رؤوس الخلائق يوم القيامة تسعة وتسعون سجلاً ليس فيها حسنة واحدة، يا لله! كم احتقب هذا من المُوبِقات! كما ارتكب من الجرائم والسيئات! ما لا يعلمه إلا الله، ما ملأ تسعة وتسعين سجلاً، كتاباً عظيماً! لكن الله يتأذن في استنقاذه على رؤوس الخلائق، ومن ثم يتأذن في إدخاله الجنة، من غير سبق عذاب، وهذا عجب! كيف؟ أين سوابق هذا؟ قالوا هو مات على التوحيد، نسأل الله عز وجل ونبتهل إليه أن يُميتنا جميعاً على التوحيد، على لا إله إلا الله، محمد عبده ورسوله، اللهم آمين، فأين سوابق هذا؟
هذا الذي ينبغي أن يُجاب عنه بدقة، وهو سيكشف عن شيئ من رحمة الله ومن عدل الله ومن عظمة الله – لا إله إلا هو – ومن حكمة الله، يبدو كما تلمحت – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم والحُكم – أن المسألة مفتاحها – أي مفتاح الجواب – في قوله – عليه السلام – إنما الأعمال بالنيات، ومن قبل في قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، كما في قوله إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ۩، للكفّار! لأسرى الكفّار، يقول لهم إِن يَعْلَمِ اللَّهُ ۩، أنتم كفّار ومُلحِدون وسدنة الشرك والوثنية وحاربتم نبيي وصفيي وأمته في مدينته وأردتم تقويض هذا المشروع الإلهي، ومع ذلك أقول لكم وأنا أرحم الراحمين إن علمت في قلوبكم خيراً فسأُوتيكم خيراً مما أُخِذ منكم وسأغفر لكم، إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، الله أكبر! ما المسألة إذن؟ ما المسألة؟ كما قال فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ – عن أصحاب رسول الله يوم الرضوان – فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ۩، قال فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ۩، وفي حديث عبد الله بن المُبارَك الشهير، الملائكة التي تصعد بعمل عبد فتستهوله وتستكثره وتبلغ به ما شاء الله – عز وجل – من سُلطانه، فيقول الله – تبارك وتعالى – لها يا ملائكتي أنتم حفظةٌ على عمل عبدي، وأنا الرقيب عليه من ورائكم، إن عبدي هذا لم يُرِد بعمله هذا – أعمال طيبة ومُمتازة – وجهي، ولم يُخلِصه لي، اكتبوه في سجين، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۩، وكما قلنا ستسقط كل الدعاوى، كل التبريرات، كل التسويغات، وكل التزييفات والزيوف، ستسقط! سيُصدَم الإنسان بنفسه، يبدو أن هذا الذي مرد على التمثيل سيُصدَم هو بنفسه قبل أن يُصدَم به مَن أحسنوا به ظناً في الدنيا، والعكس يحدث، تصعد الملائكة بعمل عبد تحتقره، عمل صغير قليل، أعمال حسنة بسيطة جداً، وتبلغ به إلى حيث شاء الله – عز وجل – من مُلكه، فيقول لهم المولى – تبارك وتعالى – يا ملائكتي أنتم حفظةٌ على عمل عبدي، وأنا الرقيب عليه من ورائكم، ارفعوا كتاب عبدي في عليين، فإنه أراد وجهي، يُقبَل منه القليل ويُجازى عليه بالكثير!
في حديث الطبراني والبيهقي في الشُعب والبزّار – رحمة الله عليهم – من حديث عدي بن حاتم الطائي يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ليُؤتين بأُناس من الناس يوم القيامة – يبدو أنهم من المُسلِمين أو الذين كانوا يتظاهرون والعياذ بالله بالإسلام والإيمان وحُسن العمل – فيُدنون من الجنة، حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا قصورها وما أعد الله – تبارك وتعالى في عليائه – لأهلها نُودوا – أي الملائكة التي تُدنيهم نُودوا – أن أصرفوهم عنها، فليس لهم فيها حظ ولا نصيب، فينصرفون بأعظم حسرة رجع بها الأولون والآخرون، حسرة رهيبة! يقولون أي ربنا، لو أنك أدخلتنا نارك وأذقتنا عذابك قبل أن تُرينا الجنة لكان أرحم وأرفق بنا، لكننا رأينا كل هذا النعيم ينقلب إلى جحيم – والعياذ بالله – وإلى جهنم، فيقول ذلك أردت بكم، ذلك أردت بكم! فقد كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالمعاصي، وتُظهِرون للناس خلاف ذلك منكم، هبتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تُجِلوني، وعملتم للناس ولم تعملوا لي، فاليوم أُذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من جزيل ثوابي، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، عدل إلهي!
فالمسألة إذن يبدو – حتى لا نُطوِّل بمُقدِّمات – ترتكز على هذا، على النية! فالإنسان قد يعلم الله – تبارك وتعالى – منه – وهذا يعود بنا إلى المشروطية – ما لا نعلمه نحن منه، نعم! إنه يرتكب الأعمال السيئة، يُسارِع في المعاصي، لماذا؟ لأن ظروفاً اكتنفته مُنذ نعومة أظفاره، عوامل وشروط وفواعل كثيرة فعلت فيه، لم يتيسَّر له معها الهُدى ولا تبين الحق من الضلالة، نشأ هكذا جاهلاً مُجهَّلاً، ولو قد أُوتيحت له نعمة أن يتنوَّر بأنوار الهداية وأن يستضيء بمعالم الصراط المُستقيم لكان له شأن آخر مع المعصية والطاعة، ثم إن – أكثر من ذلك، وأيضاً هذا معنى أو بعض معنى المشروطية – الله – عز وجل – يعلم حجم وثقل بواعثه ودوافعه ومُحفِّزاته على المعصية، يعلم هذا! مثلاً شخص آتاه الله قوةً وحيويةً، بفعل زيادة هرمونات – مثلاً – فيه، تجعله – والعياذ بالله – يتشوَّق إلى الجنس الآخر، لا يستطيع أن يُقاوِم هذه الغريزة، لا يستطيع إلا في حدود ضعيفة طبعاً، هو يستطيع في حدود ضعيفة جداً! هذا سيقوم له شيئ من عُذر عند الله، لا يقوم لآخر ضعيف المُنة، ضعيف القوة الحيوية، لكبر السن، لمرض، لخلل هرموني، لخلل وراثي جيني، يختلف هذا عن هذا عند الله تبارك وتعالى، في نظرنا هذا زانٍ وهذا زانٍ، كلا! عند الله ليسا هكذا، هذا يختلف عن هذا تماماً.
ولذلك ورد في الحديث وإن الله – عز وجل – يُبغِض الزاني، وبُغضه للشيخ الزاني أشد، معنى هذا أنه يُبغِض الشاب الزاني، لكن بُغضه للشاب الزاني أقل، لأن دافع هذا الشاب أقوى من دافع ذاك الشيخ، أنت شيخ كبير! فأنت عندك إرادة الشر وإرادة المعصية مُتبلوِرة ومُتجسِّدة تماماً، فالقضية – كما قلنا في درس السبت لمَن حضر – يبدو أنها ليست محصورة – هذا بعض القضية ورُبع أو نصف الحقيقة، لكن ليس كل الحقيقة – في الفعل ذاته، تماماً ليست محصورة أقول، الفعل مُهِم والحُكم عليه مُهِم، ولكن محصورة أكثر من ذلك وقبل ذلك في الباعث!
هنا يثور إشكال فلسفي عميق جداً جداً، ولا أستطيع أن أقول أو أدّعي أنني أمتلك جواباً حاسماً أو نهائياً عنه، موضوع عميق جداً ولا يزال خلافياً لدى المُفكِّرين، وهو أن هذا الحديث المِلي الذي نتحدَّثه نحن على أضواء آيات قرآنية وفهم للدين الحنيف قد يُفهَم منه أننا نتحدَّث عن الإرادة كشيئ تام وناجز بعيداً عن المُحيط والظروف والعوامل والفواعل، وهذا اعتراض في مكانه، مَن ذا الذي يزعم أن الإنسان يُولَد بإرادة تامة ناجزة وبعد ذلك الظروف تدخل على الخط؟ لا أحد، لِمَ لا يُقال إن الإرادة نفسها إن هي إلا مُجرَّد بذرة، بذرة بسيطة جداً جداً، أشبه باللا شيئ، أشبه بالعدم! لكن هي موجودة، لكن هذه البذرة أين تُطرَح؟ تُطرَح في أرض الظروف، في أرض الشروط، تُغذى بعد ذلك بماء هذه الظروف، بغذاء هذه الشروط، فهي بنت الظروف وربيبة الشروط بمعنى أو بآخر، هكذا! فلا تستطيع أن تُحدِّثني عن إرادة – هذا اعتراض أسوقه ضد نفسي، ضد طرحي هذا – معزولة عن شروطها وعن ظروفها، ويُمكِن لها أن تنمو بشكل أو بآخر بحسب اختلاف الظروف، لأنها في النهاية بنت الظروف والشروط، هل مُمكِن أن يُقال هذا الاعتراض؟ سوف نرى!
هناك – مثلاً – اعتراض آخر لأبي الفلسفة الروحية الوجودية الدنماركي سورين كيركغور Søren Kierkegaard، كيركغور – أو كيركغار كما يقول العرب – Kierkegaard يقول لا يُمكِن أن نظن ولا ينبغي أن نسمح لأنفسنا أن نظن أن الطفل قدّيس غلبته الظروف وغلبته الأوضاع فأحالته إلى كائن مُدنَّس، لا! لأن هذا يتضمن أنه طاهر داخلياً، وإنما تسرَّب إليه الشر من خارج وتقبَّله الداخل، وهذا ليس بصحيح يقول كيركغور Kierkegaard، الصحيح أن هذا الشر وهذا الدنس معجون في طينته، إنه شيئ داخلي، ومن هنا مأساته.
أنا أقول هناك موقف قرآني وسط بين الاعتراض الأول والتصور الثاني، ويبدو أنه الصحيح، يُصوِّر الإرادة على أنها بذرة، ولكن – انتبهوا – هنا سأفتح مُزدوَجين لأُسجِّل حقيقة علمية مُهِمة جداً، تهمنا في حياتنا الاجتماعية كما الثقافية والفكرية: (قلت مرة كثيراً ما تُضلِّلنا المجازات، كثيراً ما تُضلِّلنا الاستعارات، وخاصة العقول العامية والعقول البسيطة التي لم تبلغ درجة من التجريد تسمح لها أن تأخذ من الاستعارة والمجاز ما يسمح به مقام التمثيل فقط، مقام الاستعارة، مقام التجوز، فقط لا أكثر! مثلاً أحدهم شبَّه الكفر بالسرطان، هذه استعارة، يجوز! يجوز لي أن أُشبِّهه بما أُريد، بالمرض مثلاً، بالسرطان! لو ذهب مع استعارته إلى آخر الخط سيقول ويجوز لنا كأطباء روحانيين أن نستأصل هذا السرطان، وطبعاً نحن أطباء روحيون، المشايخ والعلماء في السياق الإسلامي، والمُفتِّشون – أي الــ Inspectors – في السياق الغربي، في محاكم التفتيش مثلاً، المُفتِّشون هناك والعلماء والروحونيون عندنا في الشرق الإسلامي، فهو سيقول يجوز لنا كأطباء روحانيين أن نستأصل هذا السرطان، وطبعاً أنت حين تستأصل العضو المُسرطَن أنت تقضي عليه، أنت تُدمِّره، فيجوز أن نُدمِّر هؤلاء المُسرطَنين بقتلهم، بتحريقهم! وهذا يُؤيد حد الردة، كافر يُقتَل، مُهرطِق عند المسيحيين يُقتَل بل يُحرَق، ويُقطَّع! لماذا؟ الخطأ هنا أننا ذهبنا مع الاستعارة إلى آخر الشوط، هذا خطأ، خطأ مُدمِّر، فانتبهوا! الاستعارات تُضلِّل، انتبهوا لأن لا يُمكِن أن تذهبوا مع الاستعارة إلى آخر الشوط، حين نقول الإرادة بذرة سنُضطَر أن نقول أيضاً احترازاً لكنها بذرة من نوع مُختلِف تماماً، لأن كل بذرة لا يُمكِن إذا أُعطيت كل الشروط والظروف إلا أن تنمو على وجه واحد فقط، أليس كذلك؟ طبعاً! بذرة الزيزفون ستُنتِج فقط زيزفون، بذرة الليلك أو التوليب ستُنتِج هذا الليلك أو التوليب، بذرة السنديان ستُنتِج فقط السنديان، لكن بذرة الإنسان ليست كذلك، مُؤهَّلة أن تُنتِج القدّيس وأن تُنتِج الإبليس، في الحقيقة هي تُنتِج الاثنين معاً، صدِّقوني! كل واحد فينا ينطوي على إبليس وقدّيس ما عدا المعصوم، لأنها قالت حتى أنت يا رسول الله؟ قال نعم حتى أنا، لكن الله أعانني عليه فأسلم، وفي رواية فأسلموا، والأولى أقوى، أي فأسلم من شره، الأولى أقوى! ما عدا هؤلاء المعصومين كلنا ننطوي على إبليس وقدّيس، كلنا! والاختلاف في ماذا؟ في التفاوت، تفاوت النسب! إبليس أكبر أو قدّيس أكبر، يختلف! هذا هو، فهذه بذرة مُزدوَجة، بذرة مُخنَّثة! بذرة مُخنَّثة فيها الدسم وفيها السُم، فيها العلقم وفيها العسل، وفيها الظلام وفيها الضياء، وهنا لا يصح التفسير المانوي، التفسير المانوي للخير والشر في ساحة الإنسان هنا يبطل تماماً، هذا شيئ بعد التفسير المانوي، أقوى منه! قال – تبارك وتعالى – وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا ۩… هل قال فجورها أو تقواها؟ لا، أستغفر الله، هذا خطأ طبعاً، كنا نظن هكذا! هو لم يُلهِمها فجورها أو تقواها، قال فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، هي مُلهَمة الشيئين معاً، لأنها بذرة مُخنَّثة، بذرة مُزدوَجة).
وشرحنا مرة في خُطبة جُمعية أيضاً السر العجيب جداً والمُعجِب للتنكير، قال وَنَفْسٍ ۩، والسورة من أولها إلى هذه الموضع إنما ذكرت المُقسَم به مُعرَّفاً، قال وَالشَّمْسِ ۩، لم يقل وشمس، قال وَالشَّمْسِ ۩… وَالْقَمَرِ ۩… وَالنَّهَارِ ۩… وَاللَّيْلِ ۩… وَالسَّمَاءِ ۩… وَالْأَرْضِ ۩… وَنَفْسٍ ۩… الله أكبر! لأنه يقول هذه عوالم من الجمادات المُسيَّرة ناجزة، ناجزة! لا خيار لها، لا إمكانات مفتوحة، إمكانات مُبرمَجة سلفاً ومُغلَقة، أما أنت أيها الإنسان فالخيارات مفتوحة أمامك، إنك أمام خيارات كثيرة مفتوحة، إنك ما تصنع بنفسك وما تصنع من نفسك، قال وَنَفْسٍ ۩.
بالله العظيم كلام كهذا لا يُمكِن إلا أن يكون كلام رب العالمين، يستحيل أن محمداً الأُمي العربي في جزيرته كان على هذه الدراية الفلسفية وإلى هذا العُمق، مُستحيل! لأنه لم يكن أيام محمد شيئ اسمه الفلسفة الوجودية حتى التي تهتم بالإنسان وبهذه المقولات بالذات، كانت هناك فلسفات ميتافيزيقية من نوع مُختلِف، تبحث وتُهوِّم في عوالم أُخرى، أما هذه المباحث فلم تُعرَف إلا في القرن التاسع عشر، لعل البداية كانت مع كيركغور Kierkegaard هذا كما هو معروف، أي مع أبي الفلسفة الوجودية.
قال وَنَفْسٍ ۩، وكان بوسعه أن يقول والنفس وما سَوَّاهَا، لكنه لم يقل هكذا، قال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، هذه البذرة المخناثة المُزدوَجة موجودة!
هذه الوجهة من النظر مُتوسِّطة بين الاعتراض الأول وبين الفهم الثاني لكيركغور Kierkegaard، وهذا هو الصحيح، وبعد ذلك الظروف تدخل على الخط، ويكون لها فعلها لا ريب!
الذي نُحِب أن نخلص إليه هو تصوير بسيط ديني – على أُسس دينية – لما يُعرَف بقضية الحُكم الأخلاقي، أي الــ Moral Judgement، الحُكم الأخلاقي! طبعاً هذه قضية أيضاً فلسفية خلافية، إذا أردنا أن نحكم على فعل ما بالخيرية أو بالشرية هل نحكم عليه استناداً إلى نتائجه أو نحكم عليه استناداً إلى بواعثه؟ طبعاً الصحيح الثاني وليس الأول، إذا أردنا أن نحكم عليه استناداً إلى نتائجه فعلينا أن نفعل هذا استناداً على الثاني وليس الأول، كثير جداً – وانظروا إلى الناخبين وإلى المُرشَّحين – من هذا يحدث، الناخب المسكين – صحيح – يكون هدفه أكثر ما يكون مصلحة المُجتمَع، مصلحة الدائرة الانتخابية، مصلحة بلده، مصلحة حيه، ومصلحة مدينته! فعلاً هذا يكون في أغلب الأوقات، أما المُرشَّح ففي الأغلب الأعم تكون مصلحته هي المصلحة الشخصية، أن يفوز هو! تذهب المبادئ إلى الجحيم، لكنه يتوسَّلها ويتحصَّن بها، يتحصَّن بما يحتقرهم، الفقراء والضعفاء والمساكين! هو دائماً يترفَّع عليهم، لكن ساعة الانتخابات يتقرَّب منهم ويجعل برامجه مُفصَّلة على قدهم، رغبةً في أصواتهم، لذلك انتبهوا إلى هذه القاعدة المُهِمة، وهي عكس القاعدة الجُومترية أو الهندسة الإقليدية، دائماً نحن نقول – وأيضاً هذا يُضلِّلنا، هذا تعميم مُضلِّل – أقصر المسافات بين نُقطتين أو أقصر الخطوط هو الخط المُستقيم، هل هذا صحيح في السياسة؟ غير صحيح مُطلَقاً، مُطلَقاً! أطول خط بين نُقطتين في عالم السياسة الخط المُستقيم، وانظروا إلى تجربة الإسلاميين في الحُكم ومن ضمنهم الإخوة في حماس وغيرهم.
لو أردت أن تكون مُستقيماً في السياسة وطهورياً تماماً وتفعل ما تعتقد وتقول ما تعتقد ستفشل تماماً يا حبيبي، سيتمالأ عليك العالمون، ستُحطَّم رأسك! ألأنك مُستقيم؟ لأنك مُغفَّل إقليدي! في الهندسة ليس الأمر كذلك، ينبغي أن تكون إقليدياً – نسبة إلى إقليدس Euclid -، كُن جاوسياً – نسبةً إلى جاوس Gauß – أو مينكوفسكياً – نسبةً إلى مينكوفسكي Minkowiski – أو حتى نسبوياً أينشتانياً – نسبة إلى أينشتاين Einstein -، لكن لا تكن إقليدياً، ستفشل تماماً! كذلك في الفلسفة، يقولون أطول طريق بين نُقطتين في الفلسفة الطريق القصير، كيف مثلاً؟ أنت تُريد أن تفهم – مثلاً – فلسفة كانط Kant النقدية، فتذهب إلى نقد العقل المحض، هذا أطول طريق، ولن تفهم كانط Kant إلى أن تموت، لأن زملاءه المُتخصِّصين في الفلسفة لم يكونوا هكذا، مثل هيرتس Hertz، قضى خمسين سنة في الفلسفة من عمره، وحين أهدى إليك كتابه قرأه ثم أعاده إليه، قال مع كل الاحترام والتقدير لو استمريت في قراءة هذا الكتاب سأُجَن، وقضى خمسين سنة في الفلسفة، لكنه لم يفهم شيئاً، وأنت الآن – ما شاء الله – لست مثل هيرتس Hertz وتُريد أن تفهم كانط Kant بأقصر نُقطة، بأن تذهب إلى كُتبه، لن تفهم! لابد أن تدور وتلف كثيراً على كانط Kant حتى تفهمه، لابد أن تبدأ بأشياء كثيرة، ففي الفلسفة كما في السياسة، اليوم للأسف – يوم تنحط المُجتمَعات، يوم تنحط الثقافات، ويوم تُصبِح العلائق مادية انتهازية مصلحية – سنقول وفي المُجتمَع والعلاقات الاجتماعية أيضاً، يُصبِح أطول طريق هو الخط المُستقيم، للأسف تُضطَر أن تُصبِح نصّاباً تلف وتدور!
حكى أحد الفلاسفة المصريين – الدكتور إمام – قصة، قال النجّار الذي يعمل في العمارة عندي أو في فيلاتي دائماً يكذب علىّ ويحسبني مُغفَّلاً، فيلسوف هذا! عالم وفيلسوف كبير، يعرف أنه يكذب، ذكي جداً، ليس مُغفَّلاً، أنت نجّار وتُريد أن تستغفله! قال حتى طف الصاع فغذبت، قلت له أنت تكذب علىّ يا أخي، أنت تكذب علىّ! فقال صحيح يا بروفيسور Professor، ولماذا لا أكذب؟ قلت كيف؟ قال كل الناس يفعلون، كل الناس يكذبون! حياتنا تمشي بالكذب، هل سأكون استثناءً؟ إذا أراد أن يكون استثناءً – صدِّقوني – سيكون فاشلاً، هذه هي المُشكِلة! وهذه علامة على انحطاط الثقافة، علامة على انحطاط المُجتمَع، وطبعاً في نهاية المطاف الأخلاقي لن يكون هكذا، سيكون صادقاً مهما كلَّفه ذلك، ومن هنا مأساته تعظم في مُجتمَع مُنحَط طبعاً، الإنسان الأخلاقي ستعظم مأساته جداً في مُجتمَع مُنحَط، ولن يُقدَّر في زمانه، وسيكون مرمياً بكل الأحجار وملعوناً على كل لسان، إلا أن يشاء الله غير هذا، هذا هو طبعاً، زسيُرَد له الاعتبار بعد موته بمائة سنة أو بمائتي سنة وأحياناً بقرون، سيُقال نعم، كان أخلاقياً، كان إنساناً طاهراً وطهورياً، للأسف!
بعد هذا نعود، إذن المسألة في الحُكم الأخلاقي ليست فقط بظواهر الأمر، ليس بنتائج الأفعال، لماذا؟ لأن هناك مَن يفعلون أفعالاً طيبة وبواعثهم خبيثة ونواياهم خبيثة، من منظور ديني – من غير نقاش فلسفي – هذا عند الله غير مقبول، هذه الأعمال غير مقبولة، وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ۩، قال العلماء – أكثر المُفسِّرين – هي التي لم يُرَد بها وجه الله تبارك وتعالى، أعمال ليست لله، الله لا يقبلها، بنيت مُستشفيات، عبَّدت طرقاً، سبَّلت مياهاً، أنشأت جامعات وأكاديميات ومدارس ومحاضن ودور أيتام و… و… و… إلى آخره! ولن يُقبَل كل هذا، خسرت أموالك فقط، هل تعرف مثل ماذا؟ طبعاً لأنه عامل الله بعملة لا يعترف بها الله، عامل الله بالحجارة، فقط هو أثقل ظهره، لذلك الله – عز وجل – يُعبِّر عن هؤلاء أنهم يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ ۩، صدِّقوني هؤلاء المُتاجِرون بالحجارة، لماذا أخذت هذه الاستعارة؟ لأن حكيماً قديماً قال مثل هؤلاء كمثل الذي يذهب إلى السوق ومعه كيس، المفروض أن يكون مليئاً دراهم ودنانير، لكنه مليء حجارة، ولا أحد يعرف طبعاً، معه كيس! فإذا رآه الناس قالوا ما أملأ كيسه! يا حيهلاً، هنيئاً له، ما أملأ كيساً! مُمتاز، لكن لو أراد أن يشتري شيئاً يسيراً من السوق هل ينفعه كيسه؟ لا ينفعه، فعاد بماذا؟ عاد بالمحمدة، فقط محمدة الناس! ما شاء الله هذا غني، كيسه مُمتلئ، شيئ مُمتاز! لكن لا يستطيع حتى أن يشتري مصّاصاً لابنه بهذا الكيس، يوم القيامة المُتاجِرون بالأحجار – الذين وفدوا على الله بأحجارهم – لن يستطيعوا أن يأخذوا شيئاً من نعيم الله ولا من رضوان الله، فقط سيئدون أنفسهم ويُثقِلون ظهورهم بهذه الأحجار، هذه عملة غير مُعترَف بها عند الله، غير مُعترَف بالأحجار عملةً عند الله تبارك وتعالى، مُعترَف بعملة الإخلاص!
يُعنوَن لهذه المسألة في الفلسفة الإسلامية بعنوان الحُسن الفعلي والحُسن الفاعلي، في مسألة التقويم والحُكم الأخلاقي المُعتبَر هو الحُسن الفاعلي، وليس الحُسن الفعلي، ومن هنا سنخلص إلى أن نقول – عكس ما كنا نعتقد وعكس ما كنا نُقرِّر ربما لسنوات – لو صدقت نية الإنسان وأخلص الإنسان في عمله وما أراد به إلا الخير وإلا وجه الله ولكن جاءت العواقب على غير ما رتَّب وعلى غير ما ظن – إن شاء الله تبارك وتعالى – بشرط أنه لم يأل جُهداً ولم يُقصِّر في تلمح العواقب واستنفذ الوسائل هو مأجور، هذا مأجور إن شاء الله تعالى، مأجور عند الله مهما كانت العواقب!
طبعاً هناك حالات تمثالية يُمكِن أن تكون واضحة، شخص يحرق – مثلاً – ألف يورو، لا تستطيع أن تحكم على هذا الفعل بإنه خير أو شر، مُستحيل! ستقول لماذا حرقها؟ ما الذي الباعث؟ لو حرقها انتقاماً من غيره فهذا فساد، فيُذَم ولا يُمدَح، لو حرقها غيظاً أو إغاظةً لغيره فلا يُمدَح، لو حرقها تكبراً وعُنجهيةً – كبعض مُتعنجهي الأغنياء والعياذ بالله، يحرقون أمام الراقصات آلاف الدولارات هكذا بالسجائر والعياذ بالله منهم – فهذا لا يُمدَح، لكن لو حرقها قاضٍ نزيه أو حاكم نزيه لأنها جاءته من يد مُتعنجه من هؤلاء رشوةً أو من بخيل – حرقها تأديباً له وقمعاً له – قد تُمدَح، يُمكِن أن تُناقَش، لكن قد تُمدَح بلا شك، قد يُمدَح هذا، قد يُمدَح هذا الفعل.
إذن الفعل بحد ذاته من الصعب الحُكم عليه، لكن يُمكِن أن نصف الأفعال بأنها نافعة أو ضارة، هذا صحيح! نقول هذا الشيئ أو هذا الفعل نافع وهذا ضار، لكن نافع وضار غير خير وشرير، ليسا من الأحكام الأخلاقية، كلمتا نافع وضار ليستا من الأحكام الأخلاقية!
ما أُحِب أن أقوله بوضوح – وهو درس اليوم بالذات لي ولكم – هو أن علينا أن نُفتِّش أنفسنا بمصداقية وشفّافية عالية، وهذه قد تُورِثنا الهواجس والوساوس، أحياناً قد تُذيقنا طعم مرارة الحقيقة، سنُواجِه أنفسنا أحياناً على أننا كذّابون، على أننا مصلحيون، على أننا مصلحيون حقاً! نفعل أحياناً ما نفعل من أجل مصلحتنا، ليس من أجل الخير، وليس من أجل الصالح العام، وليس من أجل وجه الله الكريم، لا إله إلا هو! وإنما من أجل مصالحنا نحن.
بعض الناس لا يخطر على باله أن يرفع سماعة – كما يُقال – على أحد أقربائه وأرحامه أو أصدقائه بالشهر والشهرين والثلاثة، وبعد ذلك يخطر على باله أنه مُشتاق جداً لصاحبه، هو هكذا يقول! شعرت بشوق غامر لصاحبي، وفي الحقيقة هذا الشوق الغامر جداً – بسُمك اثنين مليمتر فقط، لا يُمكِن أن يغرق فيه حتى بعوضة، هذا الشوق الغامر بسُمك اثنين مليمتر – إنما يُخفي ماذا؟ مصلحة قريبة عند هذا الصديق أو الأخ، ستظهر مُباشَرةً أثناء الاتصال، لكن هو لا يعترف بهذا، مُمكِن يضع يده على المُصحَف ويحلف أنه ما اتصل إلا شوقاً وحُباً، ما اتصل إلا شوقاً وحُباً وتوافق أن جاء هذا الشوق والحُب الغامر مع طلب هذه المصلحة البسيطة جداً طبعاً من الأخ أو الصديق، انتبهوا! إلى هذه الدرجة نُضلِّل أنفسنا ونكذب على أنفسنا! علينا أن نكون صادقين تماماً، لكي نرتفع إلي أن نكون أخلاقيين.
أحياناً أُفكِّر وأشعر أن مأساتنا أو بالأحرى بعض مأساتنا – لا أُحِب التفسير الواحدي طبعاً، سقط! عهد التفسير الواحدي سقط، لذا أقول بعض مأساتنا – وبعض مشاكلنا – نحن العرب بالذات والمُسلِمين عموماً – تكمن في أن أحكامنا القيمية والأخلاقية مُهتَزة، أصبحت مُهتَزة! مُهتَزة كثيراً وقلقة، بمعنى فلسفي أنها أصبحت نسبية، نسبية كثيراً جداً وتتبدَّل بسرعة، وهذا معناه في نهاية المطاف أننا لسنا أخلاقيين، بعبارة واضحة هذا معناه أننا لسنا أخلاقيين حقاً، لسنا أخلاقيين حقاً! لو أردنا أن نُواجِه أنفسنا بالحقيقة قد نكون فعلاً نفعيين، وقد نكون ماديين، وقد نكون شديدي الحرص على مصالحنا وعلى ملاذنا دون أن ندري، فكفى اتهاماً للآخرين، وكفى تقويماً للآخرين! أكبر تقويم ناجح هو تقويمك لنفسك، هل تعرف لماذا؟ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩، آية الآن استطعنا أن نفهمها فلسفياً، من مدخل علم الأخلاق، كيف؟ لأنه إذا كان الحُكم الأخلاقي الصحيح يستند على ويمتد من معرفة البواعث من أين لي أن أعرف باعث أخي؟ هل شققت عن قلبه؟ لا والله، أليس كذلك؟ ونحن مُغرَمون ومُبالِغون في الحُكم على بواعث الآخرين، سُبحان الله! وزهيدون مُتقشِّفون في مُصارَحة أنفسنا بحقيقة بواعثنا، لذلك أحكامنا الخُلقية كلها قلقة ومُهتَزة وغير صحيحة، غير دقيقة إطلاقاً! أصدق هذه الأحكام ما نُطلِقه على ذواتنا، بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩، لأن دافعي يُمكِن لو أردت أن أكشف القشرة – قشرة الزيف – عنه بسهولة، يُمكِن ذلك إن شاء الله، يُمكِن أن أكشف هذه القشرة بسهولة وأن أُطالِع بحقيقة دوافعي، وبالتالي أن أُصدِر حُكماً على نفسي، حُكماً أخلاقياً! أستطيع ذلك.
في النهاية كيف أعرف أنني خيّر أو شرير؟ استحضروا حديث التسعة وتسعين وحديث البغي وحديث الذي يُختَم له بسوء العمل مع أنه قضى عمره في عمل أهل الجنة، ولم يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع، يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار والعياذ بالله، استحضروا هذه الأحاديث لكي تعلموا خطورة المسألة وأن كل واحد منا مُكلَّف أمام نفسه – ليس أمام أحد وإنما أمام نفسه – أن يسأل نفسه هل أنا خيّر أم شرير؟ هل أنا صالح أم طالح؟ كفت مسائل الظواهر أن تكون حكماً في المسألة، ليس مُجرَّد أنني أُصلي يكفي، انتبهوا! ولا أنني مُلتحٍ، ولا أنني ناشئ في المساجد، ولا أنني أتصدَّق، ولا أنني أُجاهِد، ولا أنني كذا وكذا أبداً! كل هذا الآن غير صالح، انتبهوا! الصالح الحقيقي هو ما في الباطن، هذا مصدر الحُكم!
دعا أحدهم أمام أمين سر رسول الله حُذيفة بن اليمان رضوان الله عليه، قال اللهم أهلك المُنافِقين، فقال له حُذيفة لو أهلكهم ما انتصفتم من عدوكم، الله أكبر! ما هذا الوعي؟ يا أخي كيف ربى رسول الله هؤلاء الناس؟ هذا شيئ مُعجِز! لكننا نُدرِك هذا حين نفهم مقام كلامهم وحقيقة كلامهم، ليس حين نتحفَّظه تحفّظ المحفوظات الإنشائية – علي الجارم ومُصطفى أمين – ونُردِّده بكل طفولية ساذجة، حُذيفة قال لو أهلكهم – لو أهلك الله المُنافِقين – ما انتصفتم من عدوكم، أعرف أنكم تُفكِّرون في معنى هذه العبارة، معنى هذه العبارة أن أكثر الذين يُقاتِلون العدو والكفّار ويُحرِزون النصر هم المُنافِقون، يُريدون أن يقول أكثر الناس مُنافِقون ولكن لا تعلمون، وهؤلاء – ما شاء الله – المُنافِقون عندهم ولديهم أفعال ماذا؟ حسنة، من ضمنها غير الصلاة والصيام والزكاة الجهاد أيضاً، يذهبون ويُجاهِدون! لكن يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ۩، لذلك قال أخوه أيضاً سلمان الفارسي إن الله لينصر المُؤمِنين – بماذا؟ – بقتال المُنافِقين، يُقاتِلون! وإن الله – في البخاري – ليُؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر، يذهب ويُجاهِد معنا! متى قالها النبي؟ في حديث عمر وبلال، قالها حين قتل أحد الصحابة نفسه لأنه لم يحتمل ألم الجرح، قتل نفسه! والنبي بشَّر صبيحتها أنه في جهنم، وشك الصحابة! فلما قتل نفسه قال أشهد أني رسول الله، قُم يا بلال فأذِّن في الناس، إنه لا يدخل ولن يدخل الجنة إلا نفس مُؤمِنة، فكأنه لمَّح إلى كفره والعياذ بالله، لعله كُوشِف بأنه استحل هذا الشيئ، استحل قتل النفس! رأى ذلك حلالاً فكفر، فيموت كافراً – والعياذ بالله – إن فعل ذلك، شيئ خطير جداً! لم يشفع له لا جهاده ولا اصطفافه في الصف الأول ولا صلاته خلف رسول الله.
النية يا أحبابي النية، النية! ماذا تنوي؟ ماذا تُريد؟ ما هو الباعث؟ والنية – كما قلنا – هذه البذرة ضمن الظروف مأخوذة جُملةً وتفصيلاً عند رب العالمين، هو وحده الذي يستطيع أن يزن هذا، وحده! لا إله إلا هو، ووحده مَن يعلم أن هذه البغي ربما لو تغيَّرت ظروفها ولو تحسَّنت أحوالها ما كانت بغياً، ربما تكون سيدة الطاهرات في وقتها، الله يعلم هذا، نحن لا نعلم هذا، وإلى هذا يُلمِّح السيد المسيح – عليه السلام – حين قال مَن كان بلا خطيئة فليرمها بحجر، يُريد أن يُفهِمهم هذا، عودوا إلى أنفسكم، لماذا تُرجِمونها؟ هو لا يُنكِر حد الرجم – وارد في الناموس، ولم يأت لنقض الناموس – لكنه أراد أن يُحرِّر الناس من هذه القشور وهذه الزيوف التي تُحاوِل أن تخدعهم عن أنفسهم وتُفهِمهم أنكم ملائكة في حين أن الآخرين كلهم شياطين، كلا! كلنا شياطين وملائكة – انتبهوا – في نفس الوقت، لكن تختلف – كما قلنا – النسب الغالبة، تختلف كمية الضوء وكمية الظلال، مرة تغلب هذه ومرة تغلب هذه!
إذن هذا هو السؤال، هكذا نحكم على أنفسنا، سلمان الفارسي قال إن الله لينصر المُؤمِنين بقتال أو بجهاد المُنافِقين، وينصر المُنافِقين بدعوة المُؤمِنين، الله أكبر! لأن الله مُؤمِن، من أسمائه المُؤمِن، والمُؤمِن معناها المُصدِّق، فنحن يا ربنا حُسناً مناً أو تحسيناً للظن بإخواننا هؤلاء الذين لم ندر أنهم مُنافِقون دعونا لهم بالنصر، الله صدَّقنا في حُسن ظننا ونصرهم، فالله ينصرنا بقتالهم وهم مُنافِقون وينصرهم بدعوتنا ونحن مُؤمِنون.
نسأل الله – عز وجل – أن يُشحِّر قلوبنا لمجده، وأن يُحبِّب إلينا الإيمان وأن يُزيِّنه في قلوبنا، وأن يُكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:
أذكرتني كلمة حُذيفة – رضيَ الله عنه وأرضاه – بكلمة الإمام الحسن البِصري الذي قال يوماً لو جعل الله للمُنافِقين أذناباً ما وجد الصالحون أرضاً يمشون عليها.
أيها الإخوة:
إنه يُقرِّر كما يفهم من النصوص هو ومن الوقائع حقائق عامة، لكنه لا يُعطي نفسه امتياز أن يحكم على الناس فرداً فرداً فهذا خطأ تماماً، هذا خطأ تماماً! كما قلنا الحُكم الوحيد الذي يُمكِن أن يكون وثيقاً وموثوقاً هو حُكمك أنت على نفسك، يرى أحدكم – النبي يقول، وهذا مروي عن عيسى عليه السلام أيضاً، قال يرى أحدهم وفي رواية أحدكم – القذاة في عين أخيه – يرى القذاة – ولا يرى الجذع – وفي رواية الجزل، خشبة هكذا – في عين نفسه، لا يراها! لكنه يرى القذاة في أخيه.
للأسف نحتاج أن نلتفت إلى أنفسنا قبل أن نلتفت إلى تقويم وتوزين الآخرين، أن نُعنى بمُكاشَفة أنفسنا قبل أن نُحاوِل أن نكشف عن الآخرين، أن نُصارِح أنفسنا قبل أن ندعو الآخرين إلى الصدق والصراحة معنا، أن نُصارِح أنفسنا! أن نُكثِر من حسابنا، نحن أمة تحتاج طويلاً وكثيراً أن تُحاسِب نفسها، ليس بشكل مجموعي فقط، وإنما أيضاً بشكل فردي، أن يُحاسَب كلٌ منا نفسه، هذا ما وفى به مقام اليوم، تبقى النُقطة الأُخرى وهي علمية في جوهرها، علاقة القلب بالعقل، علاقة القلب بالإدراك، هل القلب هو الذي يعقل، هو الذي يُفضِّل، هو الذي يحث، وهو الذي يتذوَّق الجمال؟ سنرى ماذا يقول العلم في هذه المسألة، ولكن في خُطبة آتية إن شاء الله تعالى.
اللهم إنا نسألك أن تُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علَّمتنا، وأن تزيدنا علماً وفقهاً ورشداً.
اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، واهدنا واهد بنا، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.
اللهم إنا نسألك أن تنصر المُسلِمين وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين.
اللهم اذهب عن أمة حبيبك محمد الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احقن دماءها، اللهم وحِّد صفوفها، اللهم شعثها، واجمع شملها، ووحِّد كلمتها، يا رب العالمين.
اللهم انزل عليهم الروح والريحان والسكينة والإيمان والنصر والظفر والتمكين، بقدرتك يا عزيز، يا جبّار، يا عليم، يا حكيم، يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
02/03/2007
أضف تعليق