إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۩ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ۩ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ۩ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ۩ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ۩ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
هل صحيحٌ أن الجمّاء الغفير من علماء المُسلِمين وأهل الفكر والذكر والنباهة فيهم في عصرنا الحاضر الذين يُوافِقون مُعظَم علماء العالم في شتى البُلدان والدول ومن شتى الأعراق والأجناس على حقيقة كروية الأرض، هل صحيحٌ أن هؤلاء المذكورين من نُبلاء المُسلِمين عملاء لوكالة الفضاء ناسا NASA في أسوأ الظروف، وفي أحسن الظروف أنهم مُنهزِمون أمام العالم (الغربي الزائف الكافر المُلحِد)، مُنهزِمون عقلياً ومُنهزِمون نفسياً؟ هل صحيحٌ هذا؟
طبعاً أعلم أن هذا السؤال غريب، وغريب جداً، وقد يصدم مُعظَمكم، لأنكم أو لأن مُعظَمكم بيقين يعتقدون بأن الأرض كروية، لكن هناك مِن الناس – مِن أبناء المُسلِمين وبنات المُسلِمين – مَن شاءوا أن يُشايعوا فئةً منزورةً قليلة العدد في الغرب والشرق، ارتأت أن كروية الأرض أكذوبة كُبرى، ومُؤامَرة عُظمى، خب فيها وأوضع علماء ومُؤرِّخون ودول وسياسات ورجال دين ووكالات فضاء وطيّارون وملّاحون بحريون وملّاحون فضائيون، إلى آخر هؤلاء، كل هؤلاء مُتآمِرون مُجرِمون كذّابون، لأهداف دينية وأيديولوجية ومالية وهيمينة تسلطية، على أنهم قلة.
للأسف صرنا في السنوات الأخيرة نرى مَن يتجاسر ويتجارأ على أن يتهم مَن ذكرت مِن نُبهاء ونُبلاء أهل الفكر والعلم والذكر مِن المُسلِمين بأنهم إما عملاء لناسا NASA وإما مُنهزِمون أمام العلم (الكافر الغربي)، وكأن العلم يُوصَف بكفر وإيمان، وهذا علم زائف.
لكي لا نُطوِّل بمُقدِّمات أُحِب مُباشَرةً أن أُسارِع إلى تسجيل حقيقة أن فكرة كروية الأرض ليست من بنات أفكار العلم الغربي الحديث، الذي بدأ قبل زُهاء أربعمائة سنة، كلا! بل هي فكرة ترقى على الأقل إلى ألفين وخمسمائة من الأعوام، هناك ألفان وخمسمائة سنة!
ولعل الفيلسوف والمُهندِس والرياضي اليوناني الكبير فيثاغورس Pythagoras في القرن السادس قبل الميلاد أول مَن أيَّد هذه الفكرة وعضدها واحتج لها على طريقته، على طريقته التي لم تكن علمية بالتمام والكمال كما يُقال، إنما كانت إلى حد ما فكرة جمالية، فقد رأى فيثاغورس Pythagoras أن الآلهة لابد أن تكون صاغت الأرض على أبدع الأشكال وأبعثها على المُتعة، أبدع الأشكال وأكمل الإشكال إطلاقاً، وهو الشكل الكروي أو الكوري، فقدَّر أن الأرض كرة.
ثم جاء مِن بعده في القرن الخامس قبل الميلاد الفيلسوف الأغريقي الشهير أناكساغوراس Anaxagoras، أناكساغوراس Anaxagoras بذكاء – بذكاء شديد، وكان هذا الرجل من أذكياء البشر – لاحظ أن الأرض مُستنتِجاً يجب أن تكون كروية الشكل، كيف؟ من ظاهرة الخسوف أو الكسوف القمري، الــ Lunar eclipse، ظاهر خسوف أو كسوف القمر، وطبعاً هذه الظاهرة كما أدرك هذا العبقري الكبير تحدث كما تعلمون وتعلمن جميعاً وجمعاوات حين تتوسَّط الأرض بين الشمس وبين القمر، فتحجب شعاع الشمس أو ضوء الشمس عن ماذا؟ عن القمر، لأنها أكبر من القمر.
ويبدأ هذا الكسوف القمري بماذا؟ بظهور ظل مُقوَّس، على ماذا؟ على جِرم أو جسم القمر، مُقوَّس! الأرض لو لم تكن كرة يستحيل أن تُلقي بظل مُقوَّس، الظل الذي يأتي بشكل مُقوَّس لابد أن يُلقيه جسم كروي، هذا ذكاء، ذكاء هندسي، مُلاحَظة بارعة، إلى الآن هذه المُلاحَظة صحيحة مائة في المائة، الظل الذي يأتي بشكل مُقوَّس لابد أن يُلقيه جسم كروي، يستحيل أن يُلقيه جسم ماذا؟ مُسطَّح، قرص – مثلاً -، مُستحيل! وهذا واضح، فاستنبط هذا العبقري الكبير – هذا هو العقل – أن الأرض لابد أن تكون كروية.
أتى مِن بعده في القرن الرابع قبل الميلاد أفلاطون Plato وتَلميذه أرسطو Aristotle الهائل، أعجوبة الذكاء البشري أرسطو Aristotle، أرسطوطاليس كما يُسميه العرب، أي Aristotle، فهناك أرسطو Aristotle أيضاً وأفلاطون Plato، أفلاطون Plato وصف الأرض بطريقة شاعرية، بأنها أيضاً كوكب، وهذا صف مشهور في الكُتب الفلسفية، وأما أرسطو Aristotle فقد شاد هذا الرأي وعزَّزه وأيَّده ونوَّره بمزيد من الأدلة، اعتمد بُرهان أناكساغوراس Anaxagoras.
في الحقيقة الذين ينسبون إلى أرسطو Aristotle وخاصة في كتابه عن السماوات – On the Heavens – أنه هو أول مَن استدل بظاهرة الخسوف القمري على كروية الأرض مُخطئون، وظالمون لمَن؟ لأناكساغوراس Anaxagoras، مِن الحق أن يُعزى الفضل لأهله، إنما أرسطو Aristotle أيَّد هذه الحُجة، أي حُجة الكسوف القمري، وزاد عليها حُجتين على الأقل أُخريين، حُجة لم تزل صحيحة – إلى اليوم هي صحيحة -، وحُجة يُمكِن لكل منا أن يُلاحِظها بنفسه.
يُمكِن أن تقف على شاطئ البحر، وأن ترى سفينةً تبتعد عنك في عُرض البحر ماخرةً، حين تبدأ تختفي هذه السفينة ما الذي يختفي منها أولاً؟ جسمها الأسفل، جسمها السُفلي يبدأ يختفي، وهذا لا يكون إذا كان البحر سطحاً مُستوياً بالتمام والكمال، العين لا تستطيع أن تُدرِك التقوس، ترى الاستواء دائماً، أليس كذلك؟ لكن إذا كان مُنحنياً فلابد أن تحدث هذه الظاهرة، أول ما يختفي منها أسفلها، وآخر ما يختفي منها أشرعتها أو صواريها، أي أعاليها، هذا هو، الإنسان من قديم لاحظ هذه الظاهرة، والعكس حين تأتي السفينة مُقبِلة علينا، أول ما يلوح منها للنظر ما هو؟ أعاليها، الصواري والأشرعة، إلى أن نرى جسمها السُفلي، وهذا مُؤكِّد بحد ذاته على حقيقة أن الأرض مُقوَّسة، هناك قوس، أي كرة، أرسطو Aristotle ذكر هذا وهذا لا يزال صحيحاً إلى اليوم، لا يزال صحيحاً إلى اليوم!
طبعاً سيرد علينا مَن أُحِب أن أُسميهم المُسطِّحين، وهم في الحقيقة مُسطِّحون، وربما مُسطَّحون أيضاً، والعجيب أن بعضهم للأسف – ولم يُصِب المحز بالمرة – نسب المُعتقِدين والقائلين بكروية الأرض إلى أن أدمغتهم مُكوَّرة، أي والله طبعاً، بلا شك أن أدمغتنا مُكوَّرة، الدماغ – الدماغ نفسه، أي الــ Brain – فعلاً مُكوَّر، والعقول أيضاً المُلازِمة لهذه الأدمغة – بفضل الله – هي عقول مُكوَّرة ومُعقَّدة، أما العقول المُسطَّحة التي تتبع أدمغة ربما تكون مُسطَّحة فهي تذهب إلى أن الأرض أيضاً مُسطَّحة، هذا ليس شرفاً! وأما أن عقولنا وأدمغتنا مُكوَّرة فتلك شكاة ظاهر عنك عاهرها، فتلك – كما تقول العرب – شكاة ظاهر عنك عاهرها، هذا من حسناتنا، أننا مُركَّبون ومُعقَّدو التفكير، ولا نقع فيما تُمليه أوهام الحس المُشترَك أو الــ Common sense، أشياء كثيرة الإنسان يُلاحِظها ويعتقد أنها كما يُدرِكها حسياً، وفي الحقيقة ليست كما تُدرَك حسياً، العلم لا يقوم أساساً على تأكيد البداهة أو الحس المُشترَك في كل شؤونها، غير صحيح طبعاً، وإلا ما توصَّلنا إلى شيئ ذي قيمة.
هؤلاء يردون في العالم الغربي والشرقي بقول ماذا؟ لا، هذه الظاهرة ليس لأن الأرض مُقوَّسة، وإنما لأن العين لا تستطيع أن تُدرِك وأن ترى بعد أُفق الرؤية، وهذا كلام غير قوي، لماذا؟ لأن لدينا كاميرات Cameras مثل هذه الكاميرا Camera – مثلاً – ذات قوة زووم Zoom كبيرة، يُمكِن أن نأتي بكاميرا Camera وأن نُلاحِظ، وسوف نرى السفينة قريبة جداً، لكن سوف نرى ماذا؟ سوف نرى الأشرعة لا تزال باقية إلى أن تغيب، لن نرى جسم السفينة كله، إذن ليست القضية قضية أُفق الرؤية، غير صحيح!
طبعاً العلماء – وحصل هذا في أكثر من تجربة – يأتون ليس بكاميرات Cameras ذات قوة زووم Zoom كبيرة، إنما بتلسكوبات Telescopes، وقد أتوا بتسلكوب Telescope مُصغَّر، غير مُعَد لإدراك الأجرام الفضائية البعيدة، لكن مُعَد لإدراك الشواخص والأجسام البعيدة على الأرض نفسها، أتوا بهذا التسلكوب Telescope، ووقعت الظاهرة نفسها، سترى السفينة تغيب على النحو نفسه، القضية ليست مُتوقِّفة على أن العين عاجزة عن أن ترى ما بعد أُفق الرؤية، غير صحيح، هذا غير صحيح فانتبه، وهناك تجارب أيضاً تُؤكِّد صحة هذه المُلاحَظة، ربما نعود إليها إن اتسع لها الوقت، هذه تجارب، تجارب علمية، ويُمكِن لأي علماء أو حتى باحثين ودارسين أن يُعيدوا إجراء هذه التجارب، وهي مُتاحة لمَن أرادها وابتغاها.
ثم أيضاً أرسطو Aristotle فيما يُقال كان له رحلة إلى مصر، وأيضاً أفلاطون Plato ارتحل إلى مصر، وأنصف المصريين – هؤلاء العباقرة -، وتحدَّث عن فلاسفة وعلماء اليونان، ووقتها طبعاً لم يكن هناك علم، كان هناك فلاسفة، لأن الفلسفة كانت أم العلوم، سواء أنت اشتغلت بوظائف الأعضاء أو بالتشريح أو بالنبات أو بالحيوان أو بالطبيعة أو بكذا أنت فيلسوف، الفلسفة كانت أم العلوم، انفصلت عنها العلوم بالمعنى الصُلب للعلوم في العصر الحديث، وآخر العلوم انفصالاً البيولوجيا Biology، قبل ذلك انفصلت الكيمياء، وقبل الكيمياء الطبيعة أو الفيزياء، أي الــ Physics، على كل حال أفلاطون Plato كان يرى أن فلاسفة اليونان بالقياس إلى حُكماء أو فلاسفة مصر بمثابة أطفال، هكذا عبَّر تماماً في مُحاوَراته، قال أطفال، نحن بالنسبة للمصريين أطفال.
هذا مُهِم لكي نستعيد قليلاً الشعور بأنفسنا، لسنا أقل منهم، لم نكن أقل منهم، وليس بالضرورة أننا أقل منهم يا إخواني، من المُمكِن أن نكون أكسل، نكن كسلى، ونحن عققة، عققنا أجدادنا وآباءنا وأسلافنا، وعبثنا حتى بالتراثات أو المواريث التي تأدت إلينا وأُلقيت إلينا عَبَثَ الوَلِيدِ بجانِبِ القِرْطاسِ كما يُقال للأسف الشديد، وسيتأيَّد هذا بُعيد قليل حين نعرض للموقف الإسلامي من قضية كروية الأرض أو تسطحها.
لاحظ أرسطو Aristotle لدى عودته من رحلته المصرية أن نجوماً كان يراها في مصر ورآها في قبرص لا تُرى في الأسقاع الشمالية إذا صاعدت في شمال الأرض، لا تُرى! وفسَّر هذا على نحو ذكي جداً في كتابه On the Heavens أو عن السماوات، فسَّره بطريقة ذكية جداً، هي كان من أول ما ألهم كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus رحلته حول الأرض، طبعاً لم يُتِمها، هو أراد أن يذهب غرباً، قال ليس بالضرورة إذا نظرية أرسطو Aristotle صحيحة والأرض مُكوَّرة أن نذهب من جهة الشرق لكي نصل إلى الهند، وطبعاً ليس أرسطو Aristotle فقط مَن تحدَّث هنا، فهناك علماء اليونان الآخرين، وهناك علماء المُسلِمين، الذين اعتمد كولومبوس Columbus على أرقامهم وتقديراتهم، وستأتي الإشارة إلى بعض هؤلاء، وهذا مذكور ومُوثَّق، أنه اعتمد هذه الأرقام والتقديرات، خاصة بمُحيط الأرض، أو ما يُعرَف بدور كرة الأرض عند المُسلِمين، دور كرة الأرض، أي المُحيط.
فهذه الإشارة القديمة جداً لأرسطو Aristotle في كتاب السماء أو السماوات ألهمت كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus رحلته، قال ليس بالضرورة أن نذهب من جهة الشرق لكي نصل إلى الهند، يُمكِن أن نأخذ من جهة الغرب، أي المُحيط الهادي، وذهب إلا أنه عثر على العالم الجديد، ظاناً أنه وصل إلى الهند، ولذلك إلى اليوم يُسمونهم ماذا؟ الهنود الحمر، هم ليسوا بهنود، لكن هو قال لك هذه الهند، وهذا نوع من الغطرسة أيضاً والمركزية الغربية، انتهى! هي هند كما نُسميها، وكما قال نيتشه Nietzsche التسمية سُلطة، التسمية سُلطة!
على كل حال فأرسطو Aristotle لاحظ ماذا؟ أن هذه النجوم لا تُرى في الأسقاع الشمالية كلما صاعدت شمالاً في الأرض، وفسَّر هذا على نحو ذكي جداً جداً، بأن الأرض كرة، وبأنها مُقوَّسة تقويساً كبيراً، ولولا ذلك ما لوحظت هذه الظاهرة، وهي مُلاحَظة في مكانها.
أرسطو Aristotle تجاوز يا إخواني في القرن الرابع قبل الميلاد تقرير حقيقة كروية الأرض، إلى ماذا؟ إلى مُحاوَلة قياس مُحيطها، وبالفعل قدَّر أن مُحيطها يُساوي أربعمائة ألف ستادين Stadion، العرب يُسمونه ستاديون، لكن هو ستادين، الستاديون Stadion يُساوي تقريباً عُشر ميل Mile، الميل Mile المُعاصِر المُعتمَد حالياً في القياسات، أي أربعمائة ألف تُساوي ماذا؟ أربعين ألف ميل Mile، تقدير بعيد هذا، تقدير بعيد كثيراً من التقدير المُعتمَد حديثاً، التقدير المُعتمَد الآن كم هو؟ مُحيط الأرض أربعة وعشرون ألف وتسعمائة، أقل من خمسة وعشرين ألف ميل Mile، قريب من أربعين ألف كيلومتر Kilometre، ليس أربعين ألف ميل Mile، أي أربعمائة ألف ستادين Stadion.
أتى بعد أرسطو Aristotle يا إخواني مُباشَرةً في القرن الثالث قبل الميلاد عبقريان آخران، هناك أرشميدس Archimedes صاحب قانون الطفو، يوريكا يوريكا Eureka Eureka، يوريكا يوريكا Eureka Eureka أي وجدتها وجدتها، وحدث نفس الشيئ، آمن بكروية الأرض، وقدَّر أن مُحيطها يُساوي ثلاثمائة ألف ستادين Stadion، قال ثلاثمائة ألف ستادين Stadion، أي يُساوي كم؟ ثلاثين ألف ميل Mile، وهذا قريب من التقدير المُعاصِر، وهناك كلاوديوس بطليموس Claudius Ptolemy في القرن الثاني الميلادي، انظر إلى هذا، بعد خمسة قرون، قدَّر أن مُحيط الأرض يُساوي ثمانية عشر ألف ستادين Stadion، هذا ما قدَّره هذا الجغرافي الكبير، صاحب المجسطي Almagest الإسكندراني، وصاحب طبعاً نظرية ماذا؟ النظرية المشهورة جداً جداً في أفلاك التدوير، ونظرية مركزية الأرض، أي Geocentric theory، قدَّر أن مُحيط الأرض يُساوي ثمانية عشر ألف ستادين Stadion، أي ثمانية عشر ألف ميل Mile، هذا بفارق حوالي كم؟ سبعة آلاف ميل Mile، وهذا فارق كبير أيضاً، هذا فارق كبير إلى حد ما، جميل جداً!
هذا أرشميدس Archimedes، لكن لدينا في عصر أرشميدس أو أرخميدس Archimedes صديق أثير له، وهو العبقري المشهور إراتوستينس Eratosthenes، كل مَن باحث ودرس مسألة كروية الأرض أو تسطح الأرض لابد أن يصطدم بهذا الاسم الكبير، وهو الرجل الــ Polymath كما يُقال، والــ Polymath تعني مُتعدِّد الثقافات ومُتعدِّد المواهب، فقد كان فيلسوفاً وشاعراً وناقداً مسرحياً ومُؤرِّخاً وجغرافياً وفلكياً وغير ذلك، شيئ مُذهِل! وعمل في نهاية حياته في مصر حين أتى إليها، هو وُلِد في الشحات، أي في مدينة قورينا في ليبيا، وهي مدينة الشحات حالياً، وعمل في آخر حياته في مصر رئيساً لأمناء مكتبة الإسكندرية المشهورة في مصر، هو رأس هذه المكتبة الشهير في مصر، أعني إراتوستينس Eratosthenes، اسمه هكذا، إراتوستينس Eratosthenes.
إراتوستينس Eratosthenes في القرن الثالث قبل الميلاد بين هو ذات يوم في مكتبة الإسكندرية يقرأ في كتاب لأحد مَن سبقه إذ وقع في هذا الكتاب على هذه الحقيقة، أن الشمس في يوم الانقلاب الصيفي لا تُلقي بظلال على الشواخص وأعمدة المعابد في سيين Syene، نحن لدينا انقلاب شتوي، في الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين من ديسمبر من كل سنة، وتكون الشمس في الانقلاب الشتوي أدنى ما تكون إلى ماذا؟ إلى الأرض، فوق الرؤوس، عند وقت الظهيرة تماماً، لكن في الانقلاب الصيفي تكون أبعد ما تكون، هذا هو المعروف بالانقلاب الشمسي الصيفي، وذاك الانقلاب الشمسي الشتوي، انقلابان! في الحادي والعشرين من يونيو كل سنة، كل سنة! هذا انقلاب صيفي وهذا انقلاب شتوي.
وقع إراتوستينس Eratosthenes على أن الشمس يوم الانقلاب الصيفي لا تُلقي بظلال على الشواخص وأعمدة المعابد في سيين Syene، العرب يقولون سين، وهي أسوان حالياً، أي سيين Syene، سيين أو سين Syene هي أسوان حالياً، في جنوب ماذا؟ مصر، هي في جنوب مصر، قرأ هذه الحقيقة – وهو عقل كبير، Polymath الرجل هذا، أي مُتعدِّد المواهب، وهو عالم كبير – وقال جميل، هل تفعل الشمس هذا في كل البقاع؟ هذا في الجنوب، ماذا لو صاعدنا إلى الشمال؟ الإسكندرية – مثلاً – ماذا عنها؟ هل نفس الشيئ يحدث؟ هل الشمس لا تُلقي بظلال، أي تكون فوق رأسك تماماً؟ الشمس حين تكون فوق سمت الشاخص أو رأس الإنسان تماماً الظلال أين تكون؟ تحتك تماماً، أي لو كان لدينا بئر، أين ستقع هذه الأشعة؟ في وسط البئر، وبالتالي لن تظهر أي ظلال لحواف البئر، التي يُحفَّف بها البئر، لا تُوجَد ظلال، لأن الشمس تماماً في قعر البئر.
طبعاً كلَّف مَن يرصد له هذه الظاهرة، قال له لا، هناك ظلال، في أسوان أو سييين Syene لا تُوجَد ظلال، تمام؟ لكن في الإسكندرية تُوجَد ظلال، حُسِبت زاوية الظل فإذا بها سبع درجات فاصل ثنتين من عشر من الدرجة، طبعاً هناك كامل الدورة، وهو طبعاً استنبط مبدئياً أن سطح الأرض ماذا؟ ليس مُطلَق وليس تام الاستواء، بل ماذا؟ مُنحنٍ، فيه Curvature، وهذا يعني أن الأرض ربما تكون كرة، هذه الكرة – أي الدائرة في الأخير، المُحيط دائري – كم درجاتها؟ العدد هو ثلاثمائة وستون درجة، هناك ثلاثمائة وستون درجة، سبع درجات تُساوي كم؟ تقريباً تُساوي واحداً على خمسين، أو سبع فاصل ثنتين من عشر، تُساوي واحداً على خمسين، جميل!
يُقال إنه كلَّف رجالاً أو رجلاً بأن يقيس له المسافة من أسوان أو سييين Syene في الجنوب إلى الإسكندرية في الشمال بماذا؟ بالخطو، أي بالخطوات، فإذا بها خمسمائة ميل Mile بالقياس المُعاصِر، أي ثمانمائة كيلو متر Kilometre، خمسمائة تُضرَب في كم؟ تُضرَب في خمسين، نحن قلنا سبع فاصل ثنتين من عشر درجة تُساوي من ثلاثمائة وستين درجة كم؟ تُساوي واحداً على خمسين، إذن نضرب في خمسين، خمسمائة ميل Mile في خمسين تُساوي خمسةً وعشرين ألف ميل Mile، شيئ غريب، دقة غير طبيعية، هذه دقة غير طبيعية
التقدير المُعتمَد حالياً كم؟ التقدير المُعتمَد هو أربعة وعشرون ألف وتسعمائة ميل Mile، بفارق كم؟ مائة ميل Mile فقط، عبقرية رهيبة، ومن هنا شُهرة إراتوستينس Eratosthenes، لأنه عبقري كبير، لكن طبعاً علماء تأريخ العلوم والأفكار يُشكِّكون في أشياء كثيرة تتعلَّق بهذه الواقعة العلمية، لا نُريد أن نُطوِّل بذكرها، مَن شاء أن يعود إلى الكُتب المُطوَّلة ليقف عليها، ومن أقربها كتاب للبروفيسور Professor المشهور جداً في بريطانيا جيم الخليلي Jim Al-Khalili، وهو Pathfinders: The Golden Age of Arabic Science، كتاب مشهور جداً يُؤرِّخ فيه للعلوم العربية، اسمه Pathfinders، أي الروّاد أو الرادة، يذكر فيه جُملة مُؤاخَذات سجَّلها العلماء على تجربة إراتوستينس Eratosthenes، لكن لا علينا من هذا، هذا شيئ آخر.
على كل حال كل هؤلاء إذن سبقوا إلى تقرير كروية الأرض، هذه ليست ناسا NASA، ليست ناسا NASA أبداً، ليست ناسا NASA وليسوا عملاء لناسا NASA، اتضح أننا وغيرنا عملاء لناسا NASA، وربما يُدفَع لنا لكي نقول الأرض مُكوَّرة، شيئ غريب يا أخي، شيئ غريب! لا أُريد أن أُعلِّق بأكثر من هذا، لكن هذه الخُطبة فقط حقيقةً للإيقاظ والتنبيه، وأنا محزون من هذا الموضوع وأمثال هاته الموضوعات، هذا حرام، حرام أن يُقال هذا والناس فعلاً فجَّروا الذرة، ولا أحد يُشكِّك في أنهم فجَّروا الذرة، أم أنكم تُشكِّكون أيضاً في هذا؟ اسألوا اليابان، هيروشيما وناجازاكي، فجَّروا الذرة ومخروا عُباب المُحيط ووصلوا إلى قعره ووصلوا إلى القمر وحطوا عليه، ثم يُشكِّكون في هذا، لكن لا يُشكِّكون طبعاً في المحمول والتلفزيون Television وفي هذه الكاميرا Camera وفي كل هذه المُنجَزات الخارقة، ونحن للأسف الشديد ما زلنا ماذا؟ ليس نُعيد صناعة العجلة، بالعكس! نُعيد صناعة ما قبل عصر التفكير وعصر التفلسف وعصر العلم، وباسم ماذا؟ باسم الدين، فيا لها جناية على الدين وأهل الدين! يا لها جناية على الدين وأهل الدين! ويا لها إضعاف للدين! ويا لها إضعاف للدين وفت في عضده!
فلذلك أنا هذه الخُطبة أردت أن تكون من أجل فقط أن تُوقِظ وأن تُنبِّه الشباب والشواب – من أبنائنا وبناتنا، إخواننا وأخواتنا – حقيقةً، ماذا أقول؟ لا تستعجلوا، لا تتبعوا كل ناعق، اركزوا، ارصنوا، ابحثوا بعُمق، ابحثوا بدقة، وتواضعوا، تواضعوا لأن في القلب من هذه المسألة كلها هناك نوع من العجرفة والادعاء، هناك مئات ألوف العلماء حول العالم من الشرق والغرب، من كل الجنسيات والثقافات، وينتمون إلى مِلل ونِحل – بما فيها الإلحاد واللا مِلية – كثيرة جداً جداً جداً، وألوف منهم حاصلون على نوبل Nobel في العلوم، وعندهم عقول جبّارة في الهندسة والحساب والرياضيات والطبيعيات، كل هؤلاء لا يفهمون، نحن فهمنا ما لم يفهمه هؤلاء!
طبعاً وإن أردت إلزامه بمثل هذا الجدل يقول لك لا، أنا لا أتهم ذكاءهم، لكن أتهم ضمائرهم، من ناحية ماذا؟ هم مُتآمِرون، أكل هؤلاء مُتآمِرون؟ من أجل ماذا؟ من أجل ماذا؟ لماذا يتآمر الهندي والبنغالي والماليزي والعربي والأمريكي والاسكتلندي والكندي والنمساوي والألماني والصيني؟ كل العلماء لماذا يتآمرون؟ من أجل ماذا؟ ومَن الذي يدفع لهم؟ ومَن الذي يُغريهم بالتآمر؟ لا! ما مِن مُؤامَرة، هذا نوع من الهذيان، صدِّقوني! هذا أقل شيئ يُوصَف به، هذا هو من الهذيان، وسوف ترون هذا الهذيان حين يبلغ أقصاه، هذيان! يدخل في التخريف وافتراض أجرام وكائنات غير مرئية وغير قابلة للرصد، كيف آمنت بها؟ نحن على الأقل نتبنى أشياء كلها قابلة لماذا؟ للحساب والتدقيق والتجريب والرصد، ثم تدّعي أنك أولى بالعلم، شيئ غريب جداً جداً!
فيا شبابنا حرام، حرام! نحن لا نحتاج إلى تعويق، هذا أكبر تعويق، مرة عُوِّقنا باسم الإعجاز العلمي في الكتاب والسُنة للأسف الشديد، بدل أن نستوعب العلم ونُنتِج العلم ونُضيف إليه جعلنا نجلس هكذا مكتوفي الأيدي أربعين سنة، وجعلنا نقول هذا سبقنا إليه، وهذا موجود عندنا، هذا نوع من التخدير، والآن نُعوَّق بطريقة أبشع بكثير من طريقة الإعجاز العلمي، على الأقل الإعجاز العلمي ومُحاوَلات الإعجاز العلمي تحترم نتائج ماذا؟ هذه العلوم، وخاصة العلوم الصُلبة والهندسية والحسابية والرياضية، تحترم هذا! أما هذا فهو يُشكِّك في كل شيئ، ويصم هذه العلوم بماذا؟ بالمُؤامَرة والتحيز والإلحاد والكفر، وأن وراء الأكمة – أكمة العلم – ما وراءها، قضية تغييبة هوسية هذيانية فظيعة، آخر ما نحتاجه كعرب ومُسلِمين مثل هذا الهذيان، سأقولها بكل بساطة، هكذا!
الآن لننتقل إلى نُقطة مُهِمة جداً جداً، ماذا كان موقف المُسلِمين؟ وبلُغة إمامنا أبي الحسن الأشعري ماذا كان موقف الإسلاميين؟ حتى لا تقل لي ابن سينا غير مُسلِم، والبيروني مطعون في عقيدته، والمقدسي وابن خرداذبة أو ابن رسته مغموزو الاعتقاد، دعنا نقول (الإسلاميين) بلُغة أبي الحسن الأشعري – مقالات الإسلاميين واختلاف المُصلين -، ونعني المُنتَمين إلى الإسلام، والمُنتسِبين إلى الإسلام.
طبعاً أعتقد أنه يهمكم أولاً أن تقفوا على موقف مَن؟ علماء الشريعة، أليس كذلك؟ علماء الدين، لأن القضية تُربَط على نحو خاطئ، وعلى نحو آثم كما قلت، لأنها تُوهي وتُوهِن حبل الدين، تُوهي وتُوهِن حبل الدين وتُضعِف أمره، يُقال لك هذا مُخالِف ومُضاد لقواطع كتاب الله، هل تعلمون القواطع؟ غير معقول، غير معقول أن يأتينا مَن لا علم له حتى بطرق ومناهج تفسير النص الشرعي، أي بعلم أصول الفقه، ليقول لنا هذه قواطع، لا! لست أنت الذي تقول، أنت لا تعرف، نحن الآن سنُعلِّمك من وراء أئمتنا، ونحن لا نتبجَّح، نحن مُجرَّد طلّاب علم صغار جداً، نعيش ونموت نطلب العلم، لكن من وراء الأئمة الكبار بل يا سيدي من وراء كل أئمة الإسلام سوف نُعلِّمك، سوف تقول لي هل تتحدَّث عن كل أئمة الإسلام؟ نعم، أتحدَّث عن كل أئمة الإسلام، أي هل أنت يا عدنان إبراهيم تتجاسر وتتجارأ على أن تحكي إجماع السابقين من علماء الأمة على أن الأرض مُكوَّرة؟ نعم، ليس من لدني، وإنما من وراء شيوخ الإسلام العِظام، مثل ابن تيمية، مثل ابن حزم، مثل ابن الجوزي، ومثل أبي الحُسين بن المُنادي الحنبلي، كل هؤلاء حكوا الإجماع، إجماع علماء الأمة على أن الأرض ماذا؟ مُكوَّرة، ما رأيكم؟
سوف تقول لي يا لها داهية ما لها من واهية! وا كسوفاه! وا فضيحتاه! فقد رأيت شيخاً بلحية كبيرة في اليوتيوب YouTube، ويا لهذا اليوتيوب YouTube! كم هو فضّاح! كما نقول، رأيته يجزم بأن علماء الأمة على أن الأرض ليست مُكوَّرة، وأن مَن ذكر أنها مُكوَّرة يُوشِك أن يُحكَم بكفره، والله هذا موجود، شيئ غريب! ثم يقولون لك هؤلاء علماء، والناس تُصدِّق بحسب حجم لحيته وحجم طول لسانه وجراءته على تقرير ما ليس له به علم، هذا لا قرأ ولا اطلع ولا راجع المصادر ولا يعرف شيئاً أبداً، يقول لك أشياء غير صحيح، فمن أين لك ما تقول؟ الإجماع على عكس هذا، الإجماع! وانقلوها عني، إجماع علماء الأمة على أن السماوات مُكوَّرة وعلى أن الأرض كرة، ما رأيكم؟
أول مَن حكى هذا الإجماع هو شيخ الإسلام أبو الحُسين بن المُنادي، من نُبلاء علماء الأمة، ومن كبار علمائهم بالآثار والأخبار، وصاحب تصانيف في العلوم الشرعية، وهي كبار، أي هذه التصنيفات، أربت تصانيفه على أربعمائة مُصنَّف، مُتوفى سنة ثلاثمائة وست وثلاثين للهجرة، من أعيان الطبقة الثانية، من الحنابلة، أي من علماء الحنابلة، حكى اتفاق علماء الأمة على أن السماوات مُكوَّرة، وحكى إجماعهم على أن الأرض كرة، مَن نقل هذا عنه؟ شيخ الإسلام الحنبلي تقي الدين بن تيمية، رحمة الله على الجميع، نقل هذا عنه في مواضع، في كتاب الأسماء والصفات، وفي كتاب الجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح، وفي مجموع فتاواه التي جمعها ابن القاسم، المشهورة عند الجميع، أي على الأقل في ثلاثة مواضع من كُتبه، حكى شيخ الإسلام هذا!
أكثر من هذا شيخ الإسلام وإمام أهل الظاهر وأحد أذكياء البشر في كل عصر ومصر أبو محمد عليّ بن أحمد، المشهور بابن حزم الظاهري، المُتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة للهجرة، إمام أهل الظاهر! في إسبانيا كل بضع سنوات يعقدون مُؤتمَراً عالمياً – الإسبان أنفسهم – عن ابن حزم، عبقرية نادرة في تاريخ الفكر الإنساني، ابن حزم في كتابه الموسوعي في مُقارَنة الأديان – وهو من مُؤسِّسي علم مُقارَنة الأديان – الفِصل في الأهواء والمِلل والنِحل ذكر الآتي تحت مطلب كروية الأرض، مطلب كامل عن كروية الأرض قال تحته والعامة ترى غير هذا، العامة! نسب القول بتسطح الأرض وأنها قرص أو مُسطَّح أو مُستطيل أو مُربَّع – إلى غير ذلك – إلى العامية، وهذا ظاهر الكتاب المُقدَّس طبعاً، هذا ظاهر الكتاب المُقدَّس، العهد القديم، وهذا الذي قالت به الكنسية وأحرقت وعذَّبت واضطهدت مَن قال بسواه، ما رأيكم؟ إلى مطلع العصر الحديث، قال العامة، ابن حزم كان يقول هذا، انظر إلى أي درجة أصبحت الأمة الإسلامية أمة علم وأمة فكر وأمة بُرهان وحساب وهندسة وفلك، أمة عظيمة، لكن نحن العققة، نحن الآن العققة فقط، وأعني مَن تعلمون طبعاً، ليس نحن نحن، هؤلاء الذين أرادوا أن يُهيلوا التراب على تراث البشرية بما فيه تراثات الأمة المُسلِمة المُوحِّدة.
ابن حزم نسب مَن يقول بهذا إلى ماذا؟ إلى العامية، أنه من العامة، والعلماء يا ابن حزم ماذا عنهم؟ قال والجواب نقول مُستعينين بالله – تبارك وتعالى – لا يُعرَف – يقول ابن حزم لا يُعرَف – عن أحد مِمَن يُنسَب إلى الإمامة بالعلم في هذه المِلة أو في هذه الأمة ولا كلمة في إنكار كروية الأرض، يقول ابن حزم كلهم يُقرِّرونها، يقول كل علماء المِلة وكل المُفسِّرين والمُحدِّثين والفقهاء يُقرِّرونها، كل علماء الأمة من الأئمة يُقرِّرونها، الأئمة وليس عالماً مثل هذا، أعني صاحب اليوتيوب YouTube، ليس له علاقة هذا بالعلم، يقولون لك هذا عالم، عالم ماذا؟ ابن حزم يقول لك الأئمة، أين الأئمة؟ لابد أن تفهم العلم وأن تفهم أصول النظر في كتاب الله وسُنة رسوله، ليس مَن لا يعرف لا النحو ولا الصرف ثم أتى لكي يُفسِّر، نقول له أنت أتيت لكي تُخالِف إجماع المُفسِّرين ومتن العربية، أنت تُخالِف حتى متن العربية وتدّعي أنك تُفسِّر، مُصيبة يا إخواني، هُزِلت، هُزِلت والله.
فمذ أصبحتْ أذْنابنا رُؤُوساً لنا غدونا بحُكم الطبعِ نَمشي إلى الورا.
طبيعي! هذا شيئ طبيعي، وسوف تمشي إلى الوراء، إلى ما قبل ماذا؟ إلى ما قبل فيثاغورس Pythagoras، أي سوف ترجع ألفين وستمائة سنة في الجهل، طبعاً! لماذا؟ لأنك تظن أنك أو يُظنَ فيك أنك من الرؤوس، أنت تُتنِج علماً وتُنتِج فكراً، لماذا؟ لأن هناك شيئاً اسمه الإنترنت Internet أعطاك فُرصة أن تتكلَّم، أين علومك؟ أين تحقيقاتك؟ مَن شهد لك بهذا؟ هل ناظرت كبار العلماء المُتخصِّصين في الفلك وهندسة الفضاء والجغرافيا؟ هل تعرف هذا؟ طبعاً لا، واضح أنه لا، ولم يحصل، ولن يحصل، لأن لا تُوجَد إمكانية لمُناظَرة علماء حقيقيين من أمثال هؤلاء، انس!
لكن للأسف شبابنا مساكين، يُقال له بارك الله فيك، أنا مُتأكِّد من كذا، أنا كذا وكذا، أنا أُحييك، أنت قدَّمت، مسكين أنت، أنت أيضاً مسكين، تزبَّب قبل أن يتحصرم، يا رجل اذهب واستوف الآلة، تعلَّم في الأول، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۩، انظروا إلى هذا، هذه الأمة – والله – كان يكفيها وهؤلاء يا إخواني كان يكفيهم فقط أن يعلموا وأن يتقرَّر ويتمهَّد لديهم أن مَن تكلَّم بغير علم سيُسأل عن هذا يوم القيامة، وهذا ليس في الفتاوى الشرعية – حلال وحرام ويجوز ولا يجوز – فقط، لا! وإنما أيضاً في حقائق الطبيعة والكون، في العلوم الطبيعية والكونية والحيوية، مَن تكلَّم بغير علم يكفيه أن يعلم أنه سيُسأل عن هذا يوم القيامة، ما رأيكم؟ هو آثم، وخاطئ، الحكاية ليست لعبة، قال تعالى وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۩، قال وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۩، يعم هذا، يعم كل ما يُمكِن أن يكون من مواضيع أو موضوعات العلوم، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ۩، يكفي – والله – هذه الأمة أن تعلم هذا، ستُسأل! حتى يُحجِم الواحد ويتراجع ويتواضع، يقول لا، لو أردت أن أتكلَّم لابد أن أُنفِق مئات أو ألوف الساعات أو ربما حتى عدداً من السنين لكي أفهم هذه الموضوعات، ثم أتكلَّم فيها بعلم، يُوافِقني عليه الأساتيذ، الذين يُمكِن أن أُختبَر عندهم، ويُمكِن أن يُعطِوني إجازة فيها، أي في هذه العلوم، وإلا لا أتكلَّم، لماذا أتكلَّم؟
الأنبياء أعاذهم الله – تبارك وتعالى – وعلَّمهم ألا يتكلَّفوا ما لا يعلمون، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ۩، في قول جمهرة المُفسِّرين أي بالقول والقولة فيما لا علم لي به، الأنبياء لا يتكلَّمون في شيئ لا يعلمونه، أليس كذلك؟ النبي سُئل في مسائل، فقال لا أعلم، لا أعلم! هل هذا واضح يا إخواني؟
نعود، فسوف نرى إذن أن إجماع علماء المُسلِمين على أن الأرض مُكوَّرة كما نقل أبو محمد بن حزم – رحمة الله على روحه رحمات واسعة -، ثم ذكر الآتي، قال وهو نص كتاب الله – قال هذا نص – وسُنة رسوله، قال – عز من قائل – يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۩، قال هذا أوضح شيئ في تقرير كروية الأرض أو كورية الأرض، ما معنى يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ۩؟ النهار والليل عرضان، أليس كذلك؟ ما النهار إذن؟ نور يسقط على ماذا؟ على شواخص وأجسام وأشياء، هذا يُنتِج ظاهرة اسمها ماذا؟ النهار، فلولا هذه الأشياء التي يسقط عليها هذا النور فيُضيئها وتنتج هذه الظاهرة ولولا أنها تقع على سطح مُقوَّس مُتكوِّر ما جاز أن نقول ماذا؟ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ ۩، كيف يتكوَّر؟ هذا عرض من الأعراض، لمَن كان يفهم الفرق بين العرض والجوهر، والنهار أيضاً ماذا؟ عرض، والليل عرض، على الأقل الليل هو انعدام عرض ماذا؟ النهار، إذا انعدم يكون الليل، هو عدم الضياء، عدم الضياء!
هذان عرضان، لولا أن ما يقع عليه ويظهر عليه ويتمثَّل فيه هذان العرضان مُكوَّر – لولا أنه مُكوَّر – ما جاز أن يقول – جل من قائل – يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ۩، هل تُريدون ما هو أكثر من هذا؟ هذا ابن حزم، وابن حزم ظاهري، وابن حزم هذا، ابن حزم هذا وليس أي واحد، مُخيف هذا، أي ابن حزم، انظروا إلى ابن تيمية، كم هو عالم! سواء خالفته أو وافقته – أي ابن تيمية – هو باقعة من بواقع الدهر، بحر علم بلا شك، شهد له مَن خالفه، بل شهد مَن طعن حتى في دينه له بأنه كذلك، تُوافِق أو تختلف الرجل بحر علم، ابن تيمية أمه كانت تقول له إياك وإياك وحذاري وحذاري، فإنك بالغ ما كنت بالغاً، لن تبلغ مقام ابن حزم، وقد جره عُجبه بنفسه واستطالاته بلسانه على العلماء إلى كذا وكذا، فهذا ابن حزم، يُضرَب به المثل، شيئ مُخيف، رحمة الله عليه، قال لك هذا أوضح ما يكون في تقرير كروية الأرض، عودوا على كل حال إلى جُملة كلامه في كتاب الفِصل.
حكى الإجماع أيضاً شيخ الإسلام وإمام الوعّاظ في عصره وربما في كل عصر جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، الحنبلي المُتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة للهجرة، في كتابه المُنتظَم في تاريخ الملوك والأمم، تاريخه الشهير! وهو صاحب تفسير أيضاً زاد المسير.
كل هؤلاء حكوا الإجماع، بعد ذلك – انتبه – إذا أردت أن تُحصي من علماء المُسلِمين وخاصة المُفسِّرين طبعاً – الذين فسَّروا هذه الآيات – مَن قال بكروية الأرض أعياك الأمر، ولو قلت المُفسِّرون تقريباً من عند آخرهم – ربما باستثناءات أنا لم أقع عليها، وهي يسيرة جداً على هذا القول – ما أبعدت النُجعة، ما أبعدت النُجعة ولأصبت الحز، كثيرون جداً جداً في كل عصر ومصر قالوا بهذا، أي هل تُريد الإمام الغزّالي وهو مَن هو؟ في كتاب تهافت الفلاسفة وفي كتاب معيار العلم قرَّر كروية الأرض، وقرَّرها بسرعة شديدة، وقال لك هذا أمر لا يُرتاب فيه، والعجيب أنه – رحمة الله على روحه الطاهرة – في التهافت حين قرَّر كروية الأرض نعى وأنحى باللائمة على مَن يأتي يُشكِّك في مثل هذه الحقائق، لماذا؟ لأن الذين سبقوا إليها يونان، أغارقة، وثنيون، غير مُسلِمين، من غير أهل هذه الملة، قال أبو حامد ويظن أن مُجادَلته في هذه الأمور – أي بالرد والإباء والرفض – خدمة للدين، وإنما هي توهين للدين وتضعيف لأمر الدين، لماذا يا أبا حامد؟ قال – انظر إلى هذا، انظر إلى العقل الجبّار، هذا أبو حامد، قبل ألف سنة من الآن تقريباً – لأن هذه الأمور تقوم عليها براهين ودلائل هندسية وحسابية ينقطع معها الريب، يقينية – قال – هذه، أمور يقينية هذه وحسابية، أتُشكِّك فيها وتقول إن الأرض ليست كروية، الأرض مُسطَّحة، الأرض فراش هكذا؟ أتظن أن كلها هكذا؟
هذا أبو حامد، ومثله أيضاً شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية، تَلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم واسع الدائرة وعلّامة كبير، رحمة الله عليه، في عدد من كُتبه قرَّر هذا، قرَّره في كتاب الفوائد، وفي كتاب مفتاح دار السعادة، وفي كتاب التبيان في أقسام القرآن، على الأقل هذا ما وقعت عليه، في ثلاثة كُتب قرَّر كروية الأرض، ثم ذهب يسير في أثر الإمام الغزّالي، نفس الشيئ أيضاً، ويُنحي باللائمة على الذين يرون أن من ضرورة نُصرة الرُسل وأديان الرُسل مُناكَدة الملاحدة وأعداء الرُسل في أمثال هذه الموضوعات العلمية والهندسية والحسابية، بما أنهم ملاحدة وضد الدين وضد الرُسل فسوف نُكذِّبهم في كل شيئ، قالوا الأرض كروية، وسوف نقول لا، ليست كروية، كلها مُسطَّحة، بساط كلها من أولها إلى آخرها، تخيَّل!
الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية أنحى باللائمة على هؤلاء، وقال هؤلاء يجعلون أعداء الرُسل والملاحدة يثقون مزيد ثقة بما عندهم، طبعاً – سوف يقولون لك – نحن مائة في المائة على صواب، لماذا؟ لأن الرُسل الذين يُوحى إليهم يأتون بهذه الخطرفات وبهذه الخُرافات وبهذه التهريفات، وهي ضد ماذا؟ ضد الحساب، وضد الهندسة، وضد الرياضيات، وضد المُلاحَظات، وضد التجربة، فواضح أن الرسالة كلها باطلة من أصلها، أصلاً وأساساً وفصلاً، فيزداد المُلحِد ضلالاً، وهذا صادق إلى اليوم، هذه مُلاحَظة مَن؟ مُلاحَظة ابن قيم الجوزية، قال انتبه، الحكاية ليست بالعناد وركوب الرأس وأنهم غير مُسلِمين وأنهم كذا وكذا، هذه حقائق، حقائق!
وكما نقول دائماً صدق إبليس في قولة واحدة له لأحد الصحابة، فماذا قال النبي؟ صدقك وهو كذوب، قال صدقك، قال هو كذوب، والأصل فيه وفي شؤونه وفي إخباراته الكذب، لكن هذه المرة – قال – إبليس صدق، قد يقول لي أحدكم هل إبليس صدق؟ النبي قال هذا، صدق! لما علَّمه آية الكرسي وأنها مانعة وأنها كذا قال له النبي صدق هنا، هذا صحيح، نصح لك اللعين على أنه كذوب، هو غير ناصح، وغير أمين، لكن صدق هنا، أليس كذلك؟ هذا العقل المُسلِم، العقل المُسلِم يتبع الحقيقة بالدليل، نحن – كما قال ابن سينا – أبناء الدليل، يقول ابن سينا نحن أبناء الدليل، نحن ننقاد مع الدليل إلى حيث قادنا، أبداً! ولا يتناقض هذا مع الدين.
فعندك الإمام الغزّالي، وعندك الفخر الرازي – رحمة الله عليه – أيضاً، هذا الفخر الرازي، المُتكلِّم والفيلسوف والمُفسِّر، شيئ أيضاً من بدائع الدهر ونوادر كل دهر، أي الفخر الرازي، في التفسير الكبير في مواضع كثيرة استشهد وقرَّر ونصر وأيَّد ماذا؟ مذهب كروية الأرض، ألا يعرف التفسير هو؟ اذهب وعلِّمه التفسير أنت، تفسيره هذا انظر إليه، في بضعة عشر مُجلَّداً، وقد كان هيأ نفسه لما هو أكثر من هذا، ويُقال إنه وضع تفسيراً في مائة مُجلَّد، لم يصلنا، والفخر الرازي يستطيع أن يعملها، بحر علم، مُحيط، أوقيانوس Oceanus علم، اذهب وأفهمه كلامك، قل له يا فخر الرازي Sorry about that، أنت لا تفهم، أنت لا تفهم التفسير، انظر إلى هذا، انظر إلى الجراءة والتبجح والصبينة والولدنة هذه، ولدنة هذه أمام الفخر الرازي والغزّالي وابن تيمية وابن حزم، قال لماذا؟ الله قال وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا ۩ وأنت تقول لي مُكوَّرة، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ۩، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ۩، هذه في الرعد وهذه في ق وتلك في الذاريات، أليس كذلك؟ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ۩، الأرض مُسطَّحة، أي هل الفخر لم يفهم الكلام هذا؟ هو فسَّر القرآن كله يا رجل، فكِّر بعقلك قليلاً، قبل أن تعترض لابد أن يكون عندك تواضع، تواضع! اذهب وانظر كيف وفَّق الفخر الرازي وكيف وفَّق علماء التفسير المُؤيِّدين لكروية الأرض بين ظواهر الآيات، انظر كيف وفَّقوا بين ظواهر الآيات.
الآن سأُعطيكم نمطاً سريعاً، لأن المقام لا يتسع للأسف الشديد، ولعلنا نُكمِل – إن شاء الله – بعد صلاة الجُمعة، فالفخر الرازي من هؤلاء، وكذلك القاضي ناصر المِلة، القاضي ناصر الدين البيضاوي – بيَّض الله غُرة أحواله – في تفسيره الماتع على أنه مُختصَر ذهب إلى هذا القول، ابن جزي الكلبي المالكي الغرناطي صاحب التسهيل لعلوم التنزيل ذهب إلى هذا، ماذا نقول لكم؟ أبو السعود العمادي مُفتي الثقلين في كتابه إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم – هذا كان يُسمى مُفتي الثقلين، شيخ الدولة العثمانية في وقته – قال بهذا، كثيرون جداً، لا تكاد تُحصي أسماءهم، أبو حيان الأندلسي الغرناطي صاحب البحر المُحيط والنهر الماد من البحر والتفاسير المشهورة ذهب إلى هذا، رحمة الله تعالى عليه، هذا المُفسِّر اللوذعي – أبو حيان الغرناطي الأندلسي – والنحوي والصرفي العظيم ذهب إلى هذا.
يُوجَد الكثير من المُتأخِّرين، لكن طبعاً نظام الدين النيسابوري في تفسيره ذهب أيضاً إلى هذا، هؤلاء كثيرون جداً، لا يكاد العقل يتفطَّن لإحصائهم، من المُتأخِّرين أبو الثناء محمود الشهاب الآلوسي، كبير الأسرة الآلوسية، أيضاً أحد مفاخر الأمة الإسلامية، صاحب روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، ورد على الشيخ الأكبر الذي يُفهِم ظاهر كلامه – أي الشيخ الأكبر الصوفي مُحي الدين بن عربي، هذا ما يُفهِم ظاهر كلامه – عدم تكور الأرض، أتى بكلامه، وقال هذا كلام أهل الشهود، أي أشياء يعتقدونها، هذا ليس كلاماً علمياً، قال هذا ليس هندسياً، ليس حسابياً، ليس رياضياً، ليس فلكياً أبداً، وليس جغرافياً، ورد عليه، قال والقلب يرتاح إلى ويطمئن بــ ماذا؟ بالتكور، بالكورية، كورية الأرض، أي كروية الأرض، فهو يقول بالكورية، وقد أتى بالأدلة، وكذلك حفيده محمود شكري الآلوسي، من كبار علماء القرن الرابع عشر الهجري المُنصرِم، عنده كتاب كامل – كتاب لطيف، أي تقرأه في ربع ساعة أو في نصف ساعة إن كنت بطيء القراءة، جميل جداً – اسمه ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البُرهان، كتاب يُوفِّق فيه بين ظواهر آيات القرآن الكريم وبين ماذا؟ بين حقائق الأسترونومي Astronomy أو علم الفلك الجديد – الجديد أو الحديث -، من أيام كيبلر Kepler وجاليليو Galileo إلى اليوم، وأتى بالعجب العُجاب، أيَّد كروية الأرض في مواضع من هذا الكتاب.
وكذلك العلّامة رشيد رضا – رحمة الله عليه – في تفسير المنار أيضا، أما علماء القرن الخامس عشر الهجري فلا تكاد تقع على عالم مُحَترم لا في التفسير ولا حتى في العلوم الأُخرى الشرعية لم يقل بكروية الأرض، فلن نذكرهم، قد يقول لي أحدكم وابن باز ماذا عنه؟ حتى ابن باز – رحمة الله عليه – قال بكروية الأرض، هذا الشيخ السلفي – مُفتي المملكة السعودية – نعم له مقالة رددناها وردها غيرنا في ثبات الأرض وعدم تحركها، إلا أنه قرَّر كروية الأرض، هذا مُهِم حتى لا نظلم الناس الأموات، وحتى الشيخ محمد بن صالح العثيمين – ثاني شخصية علمية في المملكة بعد ابن باز – قرَّر بشكل جميل وجيد بما يليق به كعالم الدين وليس عالم كونيات وطبيعة كروية الأرض – بفضل الله -.
فأصبح الشذوذ النادر الذي لا يُعوَّل عليه ولا يُؤبَه به، بل يُعرَض عنه ويُلقى في كل وعر وحزن، ما هو؟ القول بأن الأرض ليست كروية، وأنها مُسطَّحة تماماً.
الآن قبل أن نُنهي هذه الخُطبة – إخواني وأخواتي – نتساءل كيف أجاب هؤلاء العلماء الأفاضل؟ طبعاً سوف تقول لي هؤلاء علماء الدين، فأين علماء التاريخ والجغرافيا والفلك والميكانيكا وعلوم الطبيعة – أي علماء الطبيعة -؟ إن شاء الله في تتمة الخُطبة سنذكر نماذج، وهؤلاء الأهم، لأنهم احتجوا بأدلة علمية على كروية الأرض، وسأذكر مُجمَل ما احتجوا به، مُجمَل ما احتجوا به سأذكره بعد أن نذكر أشهر هؤلاء العلماء، علماء الطبيعة والكونيات والجغرافيا وما إليها، حتى علماء الرحلة سنذكر أشهرهم.
كيف وفَّق علماء الشريعة – وأعني بالذات المُفسِّرين – بين ظواهر القرآن الكريم التي وصفت الأرض بأنها فراش وبين كروية الأرض؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ۩ في أول البقرة، وصفها الأرض بأنها فراش، ووصف الأرض بأنها ممدودة، في الرعد وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ۩، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ۩ في ق، فهو وصف الأرض بأنها ممدودة، ووصفها أيضاً بأنها فراش، مثل الفراش، أي Mattress بالإنجليزية أو Matratze بالألمانية، مثل قوله – تبارك وتعالى – وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ۩ في الذاريات، وصف الأرض بأنها مدحوة، وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا ۩، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ۩، هذه في النبأ وتلك في النازعات، هل هذا واضح؟ دَحَاهَا ۩ في النازعات، من الدحو، والدحو هو البسط والمد، يقول ابن الرومي – الشاعر الشهير – يَدْحُو الرُّقَاقَةَ مِثل اللَّمْحِ بالْبَصَرِ، جميل! ووصف الأرض أيضاً بالطحو، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ۩، إلى آيات أُخرى كثيرة، كيف إذن؟ سهلة جداً، جداً يا إخواني.
أولاً – هذا أول شيئ – يجب أن تتنبه إلى أن الكرة العظيمة كلما عظمت وكان السائر والساعي والحال – الساعي فيها والحال بها وعليها – صغيراً دقيقاً بدا له كل قطعة منها ماذا؟ مُستوية، ممدودة، مفروشة، ومُسطَّحة، أليس كذلك؟ تخيَّل الآن أنت كرة بحجم هذا المسجد أو حتى بحجم هذه الغُرفة، تسعى عليها نملة، هذه النملة المسكينة تحتاج إلى عقل رياضياتي مثل بوانكاريه Poincaré، مثل أينشتايتن Einstein، ومثل هؤلاء، لكي تفهم أن ما تسعى عليه من سطح ممدود، مفروش، مُمهَّد، مبسوط، ومُنداح، إنما هو ماذا؟ جُزء من كرة، جُزء من قوس، وإلا لن تستطيع هذا، وتدور – تعمل دورة كاملة – وهي تظن ماذا؟ أنها تسير على مُستوٍ، وهذا الذي يحصل معنا، لأننا كائنات صغيرة جداً جداً، نحن رأينا قبل قليل مُحيط الأرض، كم يُساوي؟ أربعين ألف كيلو متر Kilometre، كيف ستُدرِك أنت هذا؟، يستحيل، يستحيل أن تُدرِك هذا.
ولذلك كل مَن ذكرت وغير مَن ذكرت مِن المُفسِّرين قالوا ما ذكر الله – تبارك وتعالى – مِن حقيقة كون الأرض ممدودة مُصحِّح للكورية أو الكروية لا مُبطِل لها، انظر إلى الذكاء هذا يا أخي، أهؤلاء مُفسِّرون؟ مُفسِّرون، ليسوا علماء طبيعة، قالوا لك مُصحِّح، لا مُبطِل، ولا يتنافى معه، لماذا؟ انظر إلى اللوذعي الفخر الرازي – فخر الدين الرازي – في التفسير الكبير مفاتيح الغيب، ماذا قال؟ قال والمد هو البسط إلى غير نهاية، هذا تفسير سورة الرعد، عند قوله وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ۩، قال والمد هو البسط إلى غير نهاية، هذا هو المد، يقول لك مد البصر، ليس أي بسط، هذا بسط بلا نهاية.
أتحدى الآن، يُمكِن أن نسأل أي واحد له خبرة في الهندسة الفراغية عن الآتي، ما هو الشكل – وهناك شكل وحيد – الذي يُمكِن أن يُمَد إلى ما لا نهاية ويظهر باستمرار ممدوداً؟ ما هو؟ الكرة، فقط! أي شكل آخر مُحفَّف أو مُستطيل أو مُربَّع أو مُضلَّع – يُسمونه الشكل المُضلَّع، أي شكل آخر ويكون شكلاً مُضلَعاً – يستحيل أن يكون ممدوداً إلى غير نهاية، لماذا؟ سيُمَد، سيُمَد، سيُمَد، ثم ستصل إلى ماذا؟ إلى الحافة، إلى الــ Edge، ثم ستسقط، أليس كذلك؟ الأرض ليس لها حافة، تسعى! وأنتم تعرفون رحلة البرتغالي ثم الإسباني بعد ذلك فرناندو ماجلان Ferdinand Magellan، العرب يُسمونه ماچلان، اسمه Magallanes بالإسبانية، أي Fernando de Magallanes، عمل Fernando de Magallanes أو Ferdinand Magellan نصف دورة لأنه مات، قتله حاكم الفلبين المُسلِم في معركة ماكتان Mactan لابو لابو Lapu-Lapu.
كان هناك حاكم اسمه لابو لابو Lapu-Lapu، وصار هناك نزاع وما إلى ذلك، فقتل ماجلان Magellan، وكان الرجل أبحر لأول مرة برحلة في خمس سُفن أو سَفائن، وكان هناك مائتان وسبعة وثلاثون بحاراً، كان هو على رأسهم، أبحر من إسبانيا أو البرتغال، ومر بالمُحيط الأطلسي، ثم لأول مرة يُعبَر المُحيط الهادي، الذي سماه هو البحر الهادئ، أي ماجلان Magellan، سماه البحر الهادئ، وعمل فعلاً نصف دورة، طبعاً خرج مستهدياً ومُستضيئاً بماذا؟ بنظرية ماذا؟ كروية الأرض، واستخدم تقديرات يونانية وإسلامية أيضاً، أي ماجلان Magellan، عمل نصف دورة، ووصل لأول مرة في التاريخ البشري إلى شبه جزيرة الملايو Malay Peninsula، ثم لقيَ حتفه هناك، كما قلنا على يد الحاكم الفلبيني المُسلِم لابو لابو Lapu-Lapu، لكن أتباعه بعد ذلك أكملوا الرحلة، ووصل منهم سنة ألف وخمسمائة وثنتين وعشرين ثمانية عشر، في الأول الرحلة انطلقت في سنة ألف وخسمائة وتسع عشرة، أي هناك ثلاث سنوات تقريباً، وفي سنة ألف وخمسمائة وثنتين وعشرين وصل منهم ثمانية عشر، من مجموع مائتين وسبعة وثلاثين بحاراً، إلى ماذا؟ إلى بلدهم الأصلي، بعد أن أكملوا لأول مرة في تاريخ الدنيا دورة كاملة حول الأرض.
أصحاب الأرض المُسطَّحة – المُسطِّحون والمُسطَّحون، يُسمونهم Flat earthers، اسمهم Flat earthers، هكذا هو اسمهم، هؤلاء القائلون بتسطح الأرض – قالوا لك هذا كذب، مُستحيل! كل شيئ عندهم مُزيَّف، التاريخ مُزيَّف، الجغرافيا مُزيَّفة، ناسا NASA مُزيَّفة، والصور مُزيَّفة، كل شيئ مُزيَّف وكذب، والحقيقة معهم هم!
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُزيل العماء والغشاوة عن أعين أبصارنا وبصائرنا، وأن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك، النبي العربي الأُمي الكريم الخليل الصفي الحبيب، رفيع الدرجات والمقامات والذكر، اللهم صل عليه كلما ذكرك الذاكرون وكلما غفل عن ذكرك الغافلون.
اللهم صل عليه في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصل عليه في الملأ الأعلى أجمعين، وصل عليه إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحينا على سُنته، وأمتنا على مِلته، وأوردنا يوم القيامة حوضه، واحشرنا تحت لوائه، وأنلنا وأسعدنا بشفاعته، واسقنا بيده الشريفة الكريمة شربةً لا نظمأ بعدها أبداً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وأكرِمنا ولا تُهينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وانصر على مَن بغى علينا.
اللهم قيِّض لنا الخير وقيِّضنا للخير، واجعلنا من أهل الخير والبر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، يا ولي النعم، يا دافع النقم، يا مُغيث مَن لا مُغيث له، يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(ملحوظة هامة) للخُطبة تكملة مُطوَّلة، أكمل فيها الدكتور ما تبقى من كلام في الموضوع، ننشرها لكم لاحقاً.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (16/2/2018)
أضف تعليق