إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – وقد عز من قائل في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۩، وفي ظل هذا القول الإلهي الكريم نستعين الله – تبارك وتعالى – ونسترفده ونستهديه ونستمده أن يُفيض علينا شيئاً من علمه – سُبحانه وتعالى – في تدبر هؤلاء الآيات الجليلات التي سمعتم من سورة البقرة.
وهذه الآيات الكريمات تتردَّد كثيراً في سياق تساؤل العامة عن مغزى اعتراض الملائكة – إن جاز أن يُسمى اعتراضاً – على مُراد الله – سُبحانه وتعالى – الذي أخبر به، وفي الواقع لا أُريد في هذا المقام أن أدخل في هذه القضية المطروقة، والتي تفاوتت أقاويل العلماء في الجواب عنها تفاوتاً قريباً وبعيداً، إنما أُريد أن ألج باباً آخر أو أفتح باباً آخر من أبواب التدبر في هؤلاء الآيات الكريمات، إنه باب فلسفة الأسماء – أيها الإخوة والأخوات -، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ۩، وسترون أنه لدى التدبر في هذه الآيات الكريمات، سترون أن تحت ظاهرها معاني وإشارات ودلالات بالغة وأي مبلغ! ولنبدأ دون تطويل المُقدِّمات، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩.
أيها الإخوة:
هذا القول أو هذا القيل من الملائكة مُشعِر بأحد أمرين، وهذا مُتوقِّف على طريقة توجيهنا لهذا القول الملائكي، إما مُشعِر باعتقادهم بلياقتهم واستحقاقهم وتأهلهم لهذه الخلافة دون هذا المخلوق، وإما مُشعِر بأنه لا يستحق هذه الخلافة، وبين المعنين بون واضح.
إذا قلنا بالمعنى الأول فما يشفع لهذا المعنى هو أن نقف عند قولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، بعد نعتهم إياه بأنه مُفسِد سفّاك للدماء، فمَن كان هذا حاله لم يكن لائقاً بالخلافة، وهي أليق بمَن استغرق وتخلى – بمَن استغرق وقته، وتخلى أي تفرَّغ – للتسبيح والتقديس، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩.
والمعنى الثاني لا يُشعِر بأنهم كانوا يطمعون أو كانت لديهم طماعية أو تشوف إلى منصب الخلافة – الخلافة في الأرض -، وإنما كل ما هنالك أنهم اعترضوا على تنصيب مَن هذا حاله مِن الفساد وسفك الدماء، على تنصيبه خليفةً في الأرض، ويكون حيئذ أو حالة إذ قولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩ قد خرج مخرج التفويض، أي فالله – تبارك وتعالى – أن يفعل – أن يفعل ما يشاء، وهذا معنى التفويض -، وأما شأننا نحن فهو تسبيح وتقديس يُخلينا من شائبة الاعتراض.
وهكذا إذن يتفاوت التفسير على وجهين، يتفاوت التفسير على وجهين بحسب توجيهنا نحن لهذا القيل الملائكي، على كلٍ ليست هذه القضية، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، قال وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، يتبادر إلى ذهننا أنه علَّمه – سُبحانه وتعالى – دُفعةً واحدةً، مع أن الذي يستقري موارد هذه اللفظة في الكتاب العزيز يجد غير ذلك، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۩ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۩ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۩ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۩، المُتعلَّم منا عُلِّم بالقلم، ولم يُعلَّم دُفعةً واحدةً، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، لم يُعلِّمه دُفعةً واحدةً، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۩، لم يُؤت هذا العلم دُفعةً واحدةً، كل موارد لفظة التعليم في الكتاب العزيز تدل على التدريج، كل موارد لفظة التعليم استقراءً تدل على التدريج، لماذا يقع في وهلنا وفي وهمنا بالذات في هذا المورد أنه علَّمه دُفعةً واحدةً؟ يقع هذا في وهلنا مع أنه جاء بصيغة التفعيل، وَعَلَّمَ آدَمَ ۩، لم يقل وأعلم آدم الأسماء، قال وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء ۩، وصيغة التفعيل لها معانٍ كثيرة، من أشهرها التدريج، ولذلك يُقال أنزل الحمل ونزَّل الحمل، أي الحمولة، حين نقول أنزل نعني أنه فعل هذا دُفعةً واحدةً، وحين نقول نزَّل نعني أنه فعل هذا بالتدريج، أي على مراتٍ، وهنا قال وَعَلَّمَ آدَمَ ۩.
وهذا يُرشِّح لتفسير ليس مشهوراً بين العامة للأسف، أن آدم إنما تلقى هذا التعليم بكيفية اقتضت زمناً، وأنا أميل إلى هذا الرأي، مع أن الصيغة صرفياً – صيغة التفعيل أيضاً – يُمكِن أن تكون بلا تدريج، حتى نكون بمصداقية علمية كاملة نتكلَّم، يُمكِن أن تأتي هكذا، وهذا وارد أيضاً في الكتاب العزيز، لكن لا في صيغة التعليم، في صيغ أُخرى، كــ نَزَّلَ ۩، يأتي نَزَّلَ ۩ بمعنى أنزل جُملةً، لكن صيغة التعليم لم تأت إلا على التدريج في كل مواردها.
أما الكيفية التي علَّم الله بها – تبارك وتعالى – آدم فأمر آخر، وطبعاً لماذا نحن أميل إلى هذا الرأي الأول – أن المسألة اقتضت زمناً -؟ لأسباب كثيرة، من أشهرها أن خلق آدم نفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد اقتضى زمناً طويلاً، وتم بالتدريج، من مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة، وظل مُجدَّلاً في الطين مُدةً طويلةً، يُقال أربعين سنة، كما في بعض الآثار، والله أعلم بحقيقة ما هنالك، إلا أن ظواهر الآيات الكريمة أن خلقه اقتضى مُدداً زمنيةً، ولم يتم دُفعةً واحدةً، نعم تم بكلمة كُنْ ۩، لأن كل شيئ في الوجود يتم دُفعةً أو يتم دفعات لا يتم إلا بكلمة كُنْ ۩، أليس كذلك؟ وعيسى نفسه – عليه السلام – تم بكلمة كُنْ ۩، لكن أمه عند أهل المِلل جميعاً – خاصة عند المُسلِمين وعند النصارى – حملت به تسعة أشهر كاملة، إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ۩، كل شيئ دُفعةً يتم أو على دفعات إنما يتم بالكلمات التكوينية، كُنْ ۩! هذا لا علاقة له بأنه يتم دُفعةً واحدةً دائماً، هذا ليس صحيحاً، هذا الفهم ليس صحيحاً، فآدم خلقه تم على دُفعات، تم في مُدد زمنية.
والسبب بالثاني استخدام الكتاب العزيز للحرف ثُمَّ ۩، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ ۩، إلا أن يُقال إن ثُمَّ ۩ هنا للتراخي الرُتبي، وهذا تفسير مُحتمَل أيضاً، لكن الظاهر المُتبادِر أن ثُمَّ ۩ هنا للإشارة إلى مُدة، للإشارة إلى مُهلة، ويُمكِن أن تكون أيضاً للتراخي الرُتبي، فلا تُشير إلى مُهلة، كما هو معروف في عطف الجُمل على الجُمل، وهذا مبحث آخر، لكن نحن أميل إلى القول الأول.
وَعَلَّمَ آدَمَ ۩، كيف كانت كيفية هذا التعليم؟ هذا يُفيد الآن علماء اللُغة، والعلماء الباحثون في أصول اللُغات ومناشئها معنيون جداً بفهم هذه المسألة، كيف نطق الإنسان الأول؟ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، الأمر لا يُقطَع فيه بوجه، وهو أيضاً مُحتمِل، يُمكِن أن يكون هذا التعليم قد تم بكيفية التلقين، والله – تبارك وتعالى – وحده عنده العلم، بمعنى أن الله – تبارك وتعالى – يُحضِر الشيئ – أي المدلول – أمامه، يُحضِر المدلول أمام ناظريه وأمام حواسه، ثم بعد ذلك يُنطَق بصوت ملفوظ طبعاً ومخلوق، يُنطَق باسم هذا الشيئ، فيحصل الربط، وبعد ذلك بالتكرار يحصل التداعي، تماماً كما عند الطفل الصغير.
نحن نُعلِّم أولادنا أو هم يتعلَّمون منا تلقائياً النطق بكيفية التلقين، أليس كذلك؟ بكيفية التلقين! نقول لأحدهم هذا تلفاز، احذر أن يقع التلفاز، أغلق التلفاز، افتح التلفاز، فيفتح التداعي بين الدال والمدلول، بين كلمة تلفاز أو لفظة تلفاز وبين هذا الجِرم المعروف من المصنوعات الحديثة.
فيُمكِن أن تكون الكيفية تمت بالتلقين، ويُمكِن أن تكون تمت بالإلهام، أن الله – تبارك وتعالى – ألهم آدم، أي نفس آدم، أحضرها وألهمها الأسماء جميعاً، ثم بعد ذلك إذا سُئل آدم بإزاء مدلول عن اسمه استخرج هذا من باطنه، استخرج هذا من باطنه ومن نفسه بطريق الإلهام ضرورةً، على كل حال الأمر يحتمل هذا الوجه وهذا الوجه، وربما يحتمل ما لا نعلمه ولا تطاله أفهامنا من الكيفيات.
ولذلك فالصحيح المُعتمَد أنه ليس في هذه الآية وليس في هذا السياق الجليل ما يقطع بأن اللُغة منشأها توقيفي، أي أن الله أجراها على لسان آدم وبدوره آدم علَّمها أبناءه، هكذا بطريقة عُلوية، ليس في الآيات ما يُؤيِّد هذا المعنى على جهة القطع، لأن كيفية التعليم – كما بان لكم – مُحتمِلة، مُحتمِلة للتلقين، ومُحتمِلة للإلهام، ولا يتم القول بالتوقيف إلا إذا أخذنا بالإلهام، أي إلا إذا أخذنا بقول الإلهام.
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، الأَسْمَاء۩ جمع مُحلى بألْ، والجموع المُحلاة – كما تعلمون، وبالذات الإخوة الذين يُتابِعون دروس أصول الفقه، أو الذين لهم قدم راسخة في العربية، أو حتى قدم غير راسخة – تدل على الاستغراق، الجموع المُحلاة بألْ تدل على الاستغراق، هل هو استغراق حقيقي أو استغراق عُرفي بمعنى أسماء الوجود في ذلكم الزمان وفي تلكم الدورة التاريخية لما خلق الله آدم وجرى هذا التبرير وهذه البرهنة على لياقته بالخلافة؟ الله أعلم، قد يكون شمولاً حقيقياً، وقد يكون شمولاً أو استغراقاً عُرفياً، أي الأسماء التي كانت موجودة، كما نقول أحضر الأمير الصاغة، أي صاغة بلده طبعاً، وليس صاغة العالم كله، ليس صاغة العالم، فهو يشمل، لكن هذا شمول عُرفي، ويستغرق استغراقاً عُرفياً، أيضاً الأمر هنا مفتوح، الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، إلا أن الله – تبارك وتعالى – جاء بهذه الدالة على الشمول، مُؤكَّداً شموليتها بقوله كُلَّهَا ۩، ولو لم يقل كلها لعلمنا أنه علَّمه الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، لماذا؟ لأنه قال الأَسْمَاء۩، جمع مُحلى بألْ، لكنه أكَّد فقال كُلَّهَا ۩، الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، فيبقى الأمر أيضاً مفتوحاً، أنه ربما علَّمه فعلاً الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، فيستغرق اللفظ هنا مدلولاته ومصاديقه استغراقاً حقيقياً، فما من شيئ من أشياء هذا الوجود يُبدَع ويخرج إلى عين الشهادة إلى يوم الدين إلا وعُلِّمه آدم، وهذا شيئ عجيب، سينبني عليه شيئ أعجب، أُشير إليه بعد قليل – إن شاء الله تعالى -.
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، هنا – هنا بالذات – أُريد أن أقف عند هذه المسألة، قد يسأل سائل ويقول ما هي الميزة أو ما هي مزية آدم في أن الله – تبارك وتعالى – علَّمه الأَسْمَاء۩ فتعلَّم؟ وهل هذا شيئ كبير؟ كل طفل الآن – كل طفل صغير الآن – يستطيع أن يتعلَّم الأسماء! لكن هذا غير صحيح، نحن طبعاً بحُكم الإلفة – لأننا نأنس هذا الشيئ من أنفسنا ونأنسه من أبناء نوعنا وجنسنا – نرى أنه شيئ مُعتاد، شيئ طبعي، شيئ سهل، لكنه ليس سهلاً، ومن هنا التدبر، يجب أن تتدبَّروا، يجب أن تُحاوِلوا أن تسبروا فلسفة علم الأسماء، بالذات من خلال تدبر هذا السياق الكريم.
تعرفون الملائكة الجوّابة، التي تجوب أقطار السماوات وأقطار الأراضين، ذوات الأجرام الضخمة جداً، بعضها – كما تعلمون وكما ورد في الأحاديث – رأسه في السماء السابعة، وقدمه في الأرض السابعة، مُدبِّرات، تُدبِّر الأمور، تُصرِّف الأمور بأمر الله – تبارك وتعالى -، من أمور الأرزاق والأعمار والرياح والزوابع والطوفانات والأعاصير والأمطار والزلازل وكل شغل الكون، هذه هي الملائكة، كائنات عجيبة، مُسخَّرة بأمر الله – تبارك وتعالى -، لكنها ليست مُهيأة لما هُيأ له هذا الإنسان الصغير، الصغير في جِرمه، الكبير بالاختصاص الإلهي، كبير بما اختصه الله – تبارك وتعالى – به، الملائكة ليس لديها القدرة أن تتعلَّم الأسماء، ليست لديها القابلية أن تتعلَّم الأسماء، ما معنى تعلم الأسماء بالذات؟ هذا هو المبحث اليوم، ما معنى تعلم الأسماء؟ وما هي دلالة أن يتعلَّم المرء الأسماء؟ مبحث طويل جداً جداً، وفيه قضايا فلسفية في مُنتهى التعقيد.
تصوَّروا أن هذه الآية لو مشينا إلى آخر الشوط كما يُقال في تدبرها لأفضت بنا – وقد فعلت معي على الأقل، مع هذا العبد الفقير الضئيل – إلى فلسفة ما بعد الحداثة الآن، وقد فعلت مُباشَرةً بطريقة تلقائية عجيبة، الآية غريبة، من أغرب الآيات في كتاب الله، وكله عجيب، كتاب الله كله عجيب، لكن أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۩، لابد من تدبره.
كيف تم ذلك؟ ما هي الدلالة؟ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، أولاً ما هي الأسماء؟ الأسماء هنا بحسب هذا السياق القرآني أوسع من أن تكون الألفاظ التي تُطلَق على كائنات بغض النظر عن رُتبتها في الزمن كما يُعرِّف النُحاة، لا! أوسع من ذلك، أوسع من ذلك فعلاَ، ولكن القرآن الكريم عبَّر بلفظ أو بلفظة الأسماء بإزاء المُسميات وكان واضحاً في ذلك فيما قاله – تبارك وتعالى -، وطبعاً بعض العلماء كالإمام محمد عبده ورشيد رضا أخطأ بلا مرية – في ظني أخطأ بلا مرية – حين قال وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء ۩ أي المُسميات، جعل الاسم بمعنى المُسمى، وهذا غير صحيح، لأن القرآن ظاهر في إبطال هذا الرأي، حين قال ثُمَّ عَرَضَهُمْ ۩ هل عنى ذلك أن الأسماء تُعرَض؟ الأسماء لا تُعرَض، الأسماء معانٍ، أليس كذلك؟ لا تُعرَض، التي تُعرَض هي الذوات، والأمر نفسه حين نقول طاولة، اسم طاولة أو لفظة طاولة لا تُعرَض، مُستحيل! لكن الطاولة ذاتها تُعرَض، فحين قال ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ۩ عنى ذلك أنه عرض المُسميات، هنا المُسميات، فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء ۩، أي بِأَسْمَاء ۩ هذه المعروضات، واضح أنه جعل الأسماء بإزاء ماذا؟ المُسميات، فكيف تقول إن الله – تبارك وتعالى – أراد بالأسماء المُسميات؟ هذا من قلة التدبر، من التسرع في التفسير ومن قلة التدبر، السياق واضح جداً، أنه نصب الأسماء بإزاء مُسمياتها، نصب الدوال بإزاء مدلولاتها، نصب المُؤشِّرات بإزاء ما تُؤشِّر إليه أو ما تُؤشِّر عليه، وهذه كلها مُصطلَحات في علم اللُغة الحديثة، الدال والمدلول، المُؤشِّر والمُؤشَّر إليه أو المُؤشَّر عليه، نفس الشيئ! أو الأسماء والمُسميات، لكن الدال والمدلول أعم وأوسع من اسم ومُسمى، لأن الدال قد يكون صورةً، وقد يكون إشارةً، وقد يكون بنيةً مُعيَّنةً في التخاطب، كل هذه دلالات، والأسماء دلالات، فالأسماء أخص من الدلالات في علم اللُغة الحديث، والدوال أعم من أن تكون خصوص الأسماء فقط، لكن تدخل فيها الأسماء بلا شك، فهي دوال، لكن ليست كل الدوال، ليست كل الدوال!
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، ما هو الاسم؟ أيضاً كي لا نقع في ورطة الأسماء والصفات والفرق بينهم وندخل في علم الكلام وفي علم النحو وفي علم أصول الفقه باختصار – أيها الإخوة الأفاضل – أنا أرى أن أقرب ما يُوضَّح به الحق في هذه المسألة أن الفرق بين الاسم والصفة هو كالآتي، الاسم ما وُضِع وضعاً أولياً لتمييز الشيئ، والصفة ما وُضِعت وضعاً ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً أو حتى مئوياً لتمييز خاصة من خواص الشيئ أو أكثر من خاصة، ولذلك أي شيئ لكي نُميِّزه لا بأس أن نختار له أي اسم، حتى ولو كان هذا الاسم في ذاته كلفظة ليس له معنىً، لكن نضعه مُؤشِّراً على هذا المُؤشَّر عليه أو إليه، هذا هو الاسم، انتهى! ميَّز هذا الشيئ من غيره.
بعد ذلك نأتي إلى الصفات، الصفات تدل على ماذا؟ على تناول زائد علمياً ومعرفياً لهذا الشيئ، لهذا المُسمى، فكلما سبرناه وخبرناه وأدركنا أطرافاً من جوانبه أو من بواطنه فلابد أن نستنبط له ماذا؟ صفات جديدة، وهذا ما يفرق بين الاسم وكل الصفات، الاسم يُوضَع وضعاً أولياً لتمييز الشيئ، والصفة تُوضَع وضعاً ثانياً أو ثالثاً أو أكثر من ذلك – كما تعلمون – لتمييز خاصة أو أكثر من خواص الشيئ.
وقد يقول قائل وهذه مسألة بدهية، لكنها ليست بدهية، هذه مسألة في مُنتهى التعقيد، وفي مُنتهى الصعوبة، المعرفة الإنسانية برمتها – وهنا فلسفة علم الأخلاق – تقوم على هذا المبدأ، مبدأ ماذا؟ مبدأ تمييز الأشياء بأسمائها، الملائكة يبدو عُرِضت عليها هذه الأشياء عرضاً إجمالياً، وهذا الذي ذهب إليه أكثر من مُفسِّر، أي بعُمق حتى بعض مُفسِّرينا فهموا هذه الحقيقة، ولكن من بعيد أشاروا إليها، وقاربوها، ولم يصلوا إليها، لم يهجموا عليها، لكن أشاروا إليها، قاربوها مُقارَبةً، بعض المُفسِّرين فهم أن الله – تبارك وتعالى – عرض هذه المدلولات، هذه الأشياء، وهذه المصاديق على الملائكة عرضاً إجمالياً ، الأشياء نفسها عرضها على الملائكة عرضاً إجمالياً، كما هي، دون أن تتدخَّل فيها القدرة الترميزية والقدرة الدالة، دون أن تتدخَّل فيها ماذا؟ اللُغة، دون أن يتدخَّل فيها علم الأسماء، كما هي! فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء ۩، أي ميِّزوا بينهم، فلم يستطيعوا، عضل بهم السؤال، عضلت بهم المسألة، كيف؟ لا نستيطع، صعب جداً، لا يستطيعون!
وعلى ذلك نقول الآتي، لأن هذه الملائكة هي أنوار – من النور – وهي كائنات بسيطة، الإنسان كائن مُركَّب، تأملوا الآن، الإنسان كائن مُركَّب، إنه قبضة من تراب الأرض، وفي نفس الوقت نفحة عُلوية من روح الله – تبارك وتعالى -، من سر الله! فيه منزع حيواني، فيه منزع شيطاني، وفيه منزع رحماني عُلوي، كائن مُثلَّث، ثالوثي! كائن مُركَّب، أما الملائكة فنورانية، من مبدأ واحد، من عُنصر بسيط واحد، ولذلك هي أقرب إلى ماذا؟ أقرب إلى التقديس، وأقرب إلى التوحيد، وأقرب أن تلحظ الوحدة السارية في الوجود كله، ومن هنا انبهام الوجود أمام الملائكة، إنها تلحظ الوجود كله، ككتلة واحدة، شيئاً واحداً، تسري فيه الوحدة، وحدة المخلوقية، وحدة الشهادة على الخالق الواحد، لا إله إلا هو!
ومن هنا لا يستبين لها الوجود بأجزائه، إلا ما بيَّن الله لها، بحسب مُراده من تسخيرها في أعمال مخصوصة، تخص كلاً منها على حدة أو بحدته، وأما الإنسان فوضعه مُختلِف، إنه كائن مُركَّب، ولذلك لديه قدرة الميز وقدر التفريق، وهذه القدرة أكثر ما تتجلى وأكثر ما تتمظهر في المنشط اللُغوي للإنسان، إنه يستطيع أن يُميِّز بين الأشياء، وبالتالي يستطيع أن يُدرِكها، هنا سأُفلسِف هذه النُقطة، هذه النُقطة هي محور خُطبة اليوم، كيف؟
في بداية القرن العشرين أتى العالم اللُغوي الكبير إدوارد سابير Edward Sapir، ثم بعد ذلك تَلميذه بنيامين لي وورف Benjamin Lee Whorf، وقد أثبت شيئاً هاماً في نظرية عجيبة، هزت الوسط العلمي، ثم بعد ذلك جرت عليها اعتراضات، وهناك مَن نافح عنها، وهناك مَن نافح ضدها، إلى آخره! لكن هذا في الثلاثينيات من القرن العشرين، أكَّد الآتي، والحس المُشترَك أو التفكير السليم يشهد لمبادئ هذه النظرية، ولا نُريد أن ندخل في تفاصيلها، كما فعل الإخصائيون اللُغويون، تقول هذه النظرية الإنسان لا يعيش في عالمه الاجتماعي وحده، ولا في عالم المُدرَكات المحسوسة أو الحسية وحده، بل يعيش تحت رحمة وتحت سُلطان اللُغة التي يتواصل بها، مع المُجتمَع ومع أشياء الوجود، تقول حت رحمة اللُغة! كيف؟
بالتجربة ثبت هذا، شعب الإسكيمو Eskimo يعيش دائماً في الثلج وفي الصقيع وفي عالم مُلوَّن بلون واحد أو اثنين على الأكثر – الأزرق والأبيض – في أغلب فصول السنة، وأحياناً يرى لون الشفق ويكون شيئاً نادراً وعجيباً، على كل حال هذا الشعب – شعب الإسكيمو Eskimo – لديه من الكلمات التي يصف بها الثلج ما ليس لدى أي أمة أُخرى، قد يُقال هذا الشيئ بسيط، وهذا الشيئ عادي جداً جداً، الآن أي طفل في الشعب الياباني يعلم من أسماء المُخترَعات الإلكترونية والتقنيات ما لا يعلمه ربما عالم في بلد مُتخلِّف، هذا شيئ طبيعي، لكن هذه المُقدِّمة فقط، بعد ذلك هذه المُقدِّمة تُفضي إلى ماذا؟ تُفضي إلى أن إنسان الإسكيمو Eskimo يستطيع أن يعي كل التغيرات التي تحدث في الثلوج أكثر من غيره، إنه مُتيقِّظ ومُتنبِّه لكل التغيرات التي تحدث في الثلوج أو في الثلج ما لا يستطيعه حتى عالم من دولة أُخرى.
إذن الإدراك مُرتبِط بالأسماء، إذا استطعت أن تُميِّز الأشياء بأسمائها مُنذ البداية فهذا يُكسِبك قدرة على وعيها أكثر وأعمق، إذن بداية المعرفة بالتمييز، والتمييز لا يكون إلا بالأسماء، من غير الأسماء يبقى حالنا ملائكياً، كالملائكة! الأشياء مُنبهِمة، الأشياء شيئ واحد.
خُذوا هذه النُقطة، ولننتقل إلى مُقارَنة قرآنية، خَلَقَ الْإِنْسَانَ ۩ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۩، وقفت أنا البارحة عند هذه الكلمة، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۩، ما هو البيان؟ هو الكشف، بان الشيئ أي انكشف، وأبانه أو أبان عنه أي كشفه، جميل! والبيان الذي بمعنى الكشف كيف يكون؟ يكون بالتمييز، لابد أن يتميَّز شيئ من شيئ، لا ينكشف الشيئ إذا كان مُدمَجاً، إذا كان ممزوجاً، وإذا كان مُنبهِماً في جُملة، لابد أن يتميَّز، لابد أن تُعرَف حدوده، إذا تميَّز وُعرِفت حدوده فقد بان، ولا يتميَّز و تُعرَف حدوده إلا إذا بان، أي إلا إذا انفصل، وهذه صلة البيان بهذه الكلمة، كلمة بان، ومن هنا البينونة، إذا طلَّق زوجته فبانت منه، أي انفصلت عنه، بينونة صُغرى وبينونة كُبرى، والله بائن من خلقه، أي مُنفصِل عنهم، الله ليس جُزءاً من الخلق، ولا الخلق جُزءاً من الله – تبارك وتعالى -، بيَّن الصبح لذي عينين، يُقال بيَّن الصبح، وبينهما بون بعيد، أي مسافة، مسافة بعيدة عنهما، تجعل هذا في مكان وهذا في مكان، إذن هما مُتمايزان، لكل حدوده، انظروا إلى فلسفة اللُغة العربية، لُغة عجيبة وغريبة، لكن العجيب أن حتى في اللُغات الأُخرى يُوجَد نفس الشيئ، حتى في اللُغات الأُخرى!
في اللُغات الأُخرى إذا أرادوا أن يتحدَّثوا عن التحديد الحقيقي للشيئ ماذا يقولون؟ Define، يُقال – مثلاً – To define him or them، يُحدِّده أو يُحدِّدهم، وإذا أرادوا أن يتحدَّثوا عن تحديده لُغوياً ترميزياً قالوا أيضاً To define، هناك Definition، وهناك Definitly، أي تحديداً، وهناك Definity، أي الإيضاحية، ما هي الإيضاحية في علم الفلك؟ هي قدرة المقراب – أي التلسكوب Telescope – الفلكي على أن يُعطي صورةً واضحةً بحدودها ومعالمها، هذه هي الإيضاحية، وهذه أيضاً هي الإيضاحية في اللُغة، أن تُعطي حدود الشيئ ترميزياً، نفس الشيئ!
هناك تشابه في البنية اللُغوية لدى البشر جميعاً، لأن أباهم واحد، ولأن الأصل في فعل الترميز واحد عند البشر جميعاً، بدءاً من اللحظة التي كانت لدينا، اللحظة الأولى، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، اللحظة الأولى لتبرير الاستخلاف، إنها لحظة إبستمولوجية، إنها لحظة معرفية.
إذن الاستخلاف بُرِّر قرآناً معرفياً، ولم يُبرَّر بأمر آخر، كان يُمكِن أن يُبرَّر ميتافيزيقياً، أنني أُريد هذا وما كان لكم الخيرة، كان يُمكِن وله ذلك، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ۩، لكنه – تبارك وتعالى – شاء أن يُبرِّر استخلافه لهذا الإنسان إبستمولوجياً، أي معرفياً، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩.
إذن بان، أي انكشف، ولماذا يقول العرب بيَّن الصبح لذي عينين؟ هل تعلمون لماذا؟ لأن الأشياء كلها في الليل تكون شيئاً واحداً، لا يتميَّز منها شيئ من شيئ، تنبهم! تنبهم الأشياء، أليس كذلك؟ تُصبِح كُتلة واحدة، شيئاً واحداً، لا نُميِّز شيئاً من شيئ، فإذا أرسل الله الضياء وسرت أشعة النور تميَّزت الأشياء بحدودها، فيُقال بيَّن الصبح لذي عينين.
من هنا إذن المُستوى الدلالي الأعمق لكلمة بيان، خَلَقَ الْإِنْسَانَ ۩ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۩، ليس فقط النُطق كما يُمكِن أن نحسب، حتى لو قلنا إنه علَّمه النُطق هكذا ببساطة – بحسب الظاهر وبحسب الحرف للآية – فالنطق هنا أعمق من أن يكون هذا المنشط الصوتي، أي الــ Verbal، أعمق من ذلك، إنه يُؤشِّر ويرتبط وينشبك – يُؤشِّر إلى ويرتبط بي وينشبك مع – مع ماذا؟ الوعي، القوة الدرّاكة، القوة على إدراك الأشياء، وهذه القوة شرطها الأول ماذا؟ شرطها الأول – أيها الإخوة والأخوات – تمييز الأشياء ترميزياً، علم الأسماء!
جان بياجيه Jean Piaget العالم النفسي التطوري السويسري الكبير قضى تجربةً امتدت أزيد من نصف قرن – من التجارب النادرة التي تمتد أكثر من نصف قرن -، هو وزملاؤه طبعاً، لكن كان هو القائد والرائد، أجرى تجربةً امتدت أكثر من نصف قرن، كان يدرس فيها تطور المفهومات أو المفاهيم لدى الأطفال، معروف! هو رائد الدراسات التطورية، وبالذات في عالم الطفولة، ثم ميَّز بعد ذلك بين أربع مراحل تطورية.
هناك المرحلة الحسية الحركية، أي الــ Sensorimotor stage، وهذه المرحلة تمتد من الشهر الأول إلى الشهر الثامن عشر، ماذا يقول جان بياجيه Jean Piaget؟ الإنسان هنا يتعامل مع الأشياء حسياً، ليس ترميزياً، ولذلك في مرحلة نسبياً طويلة في هذه المرحلة أو ضمن هذه المرحلة يحدث الآتي، الشيئ إذا غاب عن الطفل هو يعتبره قد عُدِم، انعدم! لكن لو كان تعامل معه ترميزياً لما انعدم، لأن الترميز اختصار إدراكي وأيضاً بياني للأشياء، ولذلك أنت يُمكِن الآن أن تستحضر في هذا المجلس وحدك أو مع إخوانك آلاف الأشياء صوتياً وبيانياً، ولو أردت أن تستحضر ذواتها ربما لم تسعك مدينة فيينا، أحياناً تستحضر نجماً عظيماً، لكن صوتياً.
ولذلك الترميز الصوتي أو الترميز البياني اختصار صوتي للأشياء، أنا أُسميه فِهرسة أو فَهرسة للوجود صوتياً، الوجود كله مُفهرَس صوتياً، وهذه الفَهرسة ليست مُجرَّد فَهرسة، إنها باب للإدراك، إنها باب للمعرفة، وهذه نُقطة أُخرى، لن تستطيع للأسف اليوم أن نُفصِّل فيها، كيف تكون هذه الفَهرسة الصوتية باباً للإدراك – الإدراك الحقيقي وأحياناً الإدراك الإمبريقي والإدراك التجريبي -؟ هذا سيُثبَت أيضاً في مرحلة لاحقة.
على كل حال جان بياجيه Jean Piaget يقول الطفل – انتبهوا إلى هذه النُقطة المُهِمة – في هذه المرحلة الحسية الحركية أشبه بحيوان، أرأيتم؟ ما لم تتعلَّم البيان يبقى الإنسان أشبه بحيوان، يقول نعم، ولكنه حيوان ذكي، نوعاً ما أذكى من الحيوانات العادية، ولكنه يبقى حيواناً، الطفل في هذه السنة إلى الشهر الثامن عشر يبقى حيواناً، أرفع قليلاً من الحيوان بذكائه.
بمعنى – وهذا مثال أيضاً من جان بياجيه Jean Piaget – أنك إذا قرَّبت له كوباً وكان الكوب على سجادة والسجادة أقرب طبعاً من الكوب فإنه يستطيع أن يسحب السجادة ويُدني الكوب، الحيوانات صعب أن تفعل مثل هذا الشيئ دائماً، الطفل يفعله عموماً، إلا المُتخلِّف عموماً، فهو أذكى من حيوان.
على كلٍ يقول بياجيه Piaget وتأتي المرحلة الثانية، المرحلة التي تُسمى مرحلة ما قبل العمليات، أي Preoperational stage، هذه المرحلة – يقول بياجيه Piaget – يقفز فيها الإدراك الإنساني قفزة بعيدة جداً، تمتد من الشهر الثامن عشر إلى السنة السابعة، ما هي هذه المرحلة؟ إنها مرحلة ترميز الوجود لُغوياً، وهنا يصير في مكنة الطفل أن يستحضر الأشياء صوتياً، وأن يتعامل معها شيئاً، وأن يُوصِلها إلى غيره صوتياً، قفزة عجيبة جداً هنا، ثم المرحلة الثالثة وهي مرحلة الحس، ثم المرحلة الرابعة وهي مرحلة المنطقية، وهذا موضوع آخر على كل حال.
إذن انظروا، خَلَقَ الْإِنْسَانَ ۩ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۩، أي الملائكة ليست لديها هذه القدرة، لا تستطيع، ترى الأشياء – كما قلت – والوحدة سارية فيها، إنها منبهمة، كما نراها نحن في الليل، موجودة ونعترف بها، ولكن لا يُمكِن أن نُميِّزها، وبالتالي نحن عاجزون أن نُرمِّزها صوتياً.
يُحكى عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مُرة الهمداني وعن ابن مسعود وأُناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ورضيَ الله عن أصحابه جميعاً وأرضاهم، إذن عن مُرة وعن ابن مسعود وعن ابن عباس من الصحابة، وغيرهم أيضاً – أنهم قالوا لما علَّم الله – تبارك وتعالى – آدم الأسماء خلق له حواء، لتُؤنِس وحشته، وكان نائماً في الجنة، فاستفاق، فرآها، فقال مَن أنتِ؟ قالت امرأة، قال ولِمَ خُلقتِ؟ قالت لتسكن إلىّ، وأرادت الملائكة أن تخبر علم آدم، ما هذا العلم المُمتاز المُتميِّز الذي أوتيه وعُلِّمه هذا الخليفة ولم يُؤت مثله؟ عجب هذا العلم! قالت له يا آدم ما اسمها؟ نفس الامتحان الذي أجراه الله لهم، قال حواء، لأنها خُلِقت من حي، وقد علم أن الله خلقها من ضلعه، خُلقِت من حي.
العجيب هو ما وجدته حين رجعت إلى الموسوعة الأمريكية في الإنترنت Internet، وإلى Collier’s Encyclopedia وهي لدي، فقط رجعت إلى هاتين الموسوعتين، وكان يُمكِن أن نرجع إلى موسوعات أجنبية أكثر، هاتان الموسوعتان تذكران أن أصل كلمة Eve – هذا أصلها، هكذا يكتبون بالضبط في Collier’s Encyclopedia – هو ḥāyâ أو Hay، يكتبون Hay أو ḥāyâ، ويكتبون بين قوسين بالإنجليزية (To live)، هم يُؤمِنون بهذا، حتى في اللُغات الأُخرى هكذا تُرجِمت، لتدل على أنها من حي، طبعاً ثم استشهدوا بعد ذلك استشهاداً خاطئاً – المُستشهد عليه خطأ بلا شك – بسفر التكوين، أنها سُميت حواء لأنها أم لجميع الأحياء، لا! علم الأسماء يُؤكِّد وهذه الرواية التي ذكرتها تُؤكِّد أنها سُميت حواء لماذا؟ لأنها خُلِقت من حي، وبهذا أجاب أبونا – إن صحت الرواية -.
هذا غيض من فيض من فلسفة علم الأسماء في الكتاب العزيز.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة:
لنا أن نخرج بجُملة دروس أو بجُملة دلالات من هذه الخُطبة أو من هذه المفهومات التي طرحناها، منها أن مَن شاء أن يُؤدي واجب الاستخلاف في الأرض لابد أن يتسلَّح بسلاح المعرفة، بسلاح البيان، والمعرفة مبدأها التمييز الدقيق بين الأشياء.
بعض الناس يقول هذا ربما فقط مُبالَغة خطابية، لكن هذا غير صحيح، حتى فلسفياً المعرفة – معروف في الأفق الفلسفي – لها مسلكان مشهوران، وهما التحليل والتركيب، التحليل والتركيب! أن تُحلِّل الوحدة إلى أجزائها وأن تُركِّب الوحدة من أجزائها، أليس كذلك؟ معروف من قديم، وإلى الآن هما دربان أو سبيلان مسلوكان، طريقتان مطروقتان، التحليل والتركيب! هل يُمكِن أن تُحلِّل إذا لم تكن لديك قدرة الترميز – أي تفكيك الأشياء بيانياً -؟ لا تستطيع، إذن إذا أردت أن تُحلِّل المُركَّب فلابد أن تُعطي كل جُزء منه لكي يصح لك التحليل اسمه الخاص به، إذن لابد من قدرة الترميز، لابد من علم الأسماء، وإذا أردت أن تُركِّب وحدةً من أجزائها أو مُركَّباً من أجزائه فلابد أيضاً لك من قدرة الترميز، لابد لك من علم الأسماء، فلا يُمكِن لا أن تُحلِّل ولا أن تُركِّب بغير علم الأسماء.
وبذا يغدو علم الأسماء الذي أوتيه آدم – والقرآن أشار إليه في بضع آيات، في آيتين أو في ثلاث آيات فقط – هو البداية الحقيقية لكل علم، هو الشرط الأول البدئي لقيام أي معرفة، لقيام أي معرفة إنسانية!
والغريب أيضاً أن هذه القضية – كما قلت لكم – لها أبعاد فلسفية أعمق وأبعد بكثير جداً، من أعمقها أن علم الأسماء إذا فهمناه فهماً صحيحاً وعميقاً كان أحد الأدلة الباهرة على وجود الله – تبارك وتعالى -، لماذا؟ لا يُمكِن – هذا بالتحليل الفلسفي، ولن نشرحه الآن طبعاً – أن يقوم علم للأسماء إلا إذا آمنا بالمُتجاوِز، أي الرب، لا إله إلا هو! إذا لم نفترض وجود المُتجاوِز للإنسان وقدراته الترميزية لم يكن للترميز معنىً، كيف؟ هذا موضوع فلسفي، وهذا الآن هو أحد موضوعات آنية أو حالية – مطروحة الآن على البساط – في فكر ما بعد الحداثة.
فكر ما بعد الحداثة ألحد بالله – تبارك وتعالى -، وأنكر هذا الوجود العُلوي المُتجاوِز المُفارِق، فماذا حصل؟ مُباشَرةً فقد الثقة في اللُغة، انتهت اللُغة، الآن اللُغة تُعتبَر نظاماً لا يُفيد التواصل، لذلك الآن يُوجَد إلحاد باللُغة، الآن في فكر ما بعد الحداثة – مَن قرأه وتعمَّق فيه يعلم هذا – لا يُوجَد أي نوع من الثقة باللُغة مُطلَقاً، بأي لُغة إنسانية! وبالتالي هو ضياع لمَن؟ ضياع للإنسان، وبالتالي أيضاً تصدق المقولة القديمة القائلة إذا ضاع الله ضاع الإنسان، لا يُمكِن أن تُبرهِن على إنسانية الإنسان أو على قيام هذه الإنسانية بإلحادك بالله، مُستحيل! أنت تفقد نفسك مُباشَرةً، تفقد نفسك مُباشَرةً طبعاً.
إذن بغير افتراض وجود الذات الإلهية العُلوية المُفارِقة كيف سيكون هكذا؟ ربما نشرحه – إن شاء الله – في مُحاضَرة أو في درس بحياله، لمَن أحب أن يتعمَّق هذه الموضوعات اللُغوية والفلسفية، بغير ذلك تفقد اللُغة مُباشَرةً رمزيتها وتواصليتها، تفقد وظيفتها، تغدو نظاماً – تماماً مثلما يُصاب الكمبيوتر Computer بالفيروس Virus – يدور في حلقة مُفرَغة، لا يُؤدي إلى شيئ، لا نعرف له مُبتدأً ولا نعرف له مُنتهىً، وهكذا تحترق كل المعاني الخاصة بالإنسان، المُميِّزة للإنسان، والمُشخِّصة للهُوية الإنسان.
وأخيراً فيما يُفيدنا عملياً في حل بعض مشاكلنا وفي حل بعض الإشكالات إذا أردنا أن نتصدى لأي مُشكِلة ولأي أزمة فلابد أن نُحدِّد أبعادها وأجزاءها بدقة مُتناهية، فالتعميم هو إدراك ملائكي إذن، وهو إدراك إبهامي، مَن أدرك الأشياء إدراكاً تعميمياً – غير تحديدي – هو ينتمي إلى الملائكة أكثر منه إلى البشر، وبالتالي لن يستطيع أن يحل مُعضِلات الإنسان أو مُعضِلات الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، لن يستطيع، سيفشل! لابد من تحديد دقيق، ومن هنا إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ۩، قال كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ۩.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفيض علينا من علمه.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، ربنا افتح علينا بالحق، وأنت خير الفاتحين.
اللهم اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، أصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير ومغاليق للشر.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك ونضرع إليك أن تجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ونسألك ونضرع إليك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(17/1/2003)
أضف تعليق