تطاولت القرون.. والعالم الإسلامي يرخي آذانه لدعاة من الببغاوات التقليدية، لا تجاوز في مداركها لهوات الأحناك، وذوائب الألسن. ولما أراد الله انتشال الأمة من وهده اجترار النص التقليدي الأعمى، قيض الله لأصلاحها رجلاً خلع عن كاهله عباءة التمشيخ الزائف، وغيَّر بخطابة المنفتح كثيراً من مضامين الوعظ الديني العتيق.
إنه د. عدنان إبراهيم.. ذاك الخطيب المصقع، والداعية الملهم، والمصلح الأريب، والفيلسوف العاقل، والعلَّمة النحرير.. أعمَل عقله في التحقق من أحداث مطافيح كتب التراث، التي جعلتها نقول الأهواء على مسلمات لا مرية فيه. فأثارت تجديداته الفلسفية والدينية، ونقوده الإيجابية، ودعواته المتكررة لاستخدام العقل الفلسفي في إثبات الحقائق، ونفض غبار الوهم عن تراثنا التاريخي والديني، إعجاب ملايين المشدوهين بعظمة الشيخ، وجودى طرحه.
إلا أن هناك من عجز عن فهم مطاريحه العميقة، إما بسبب قصور الإدراك، وإما لدغل النفس.، فأخذ يكيل للشيخ سيل التهم الجزاف، ويكفر، ويزندق، ويشيع، والله الخصيم يوم اللقاء.
وأقلهم شراً من اتهمه بالتناقض.. والشيخ يرى أن “شرف المفكر أن تجد تناقضات في آرائه وأطروحاته، لأن ذلك دليل على نموه وتطوره.. ومن ذا الذي يصيب الحقيقة من أول رأي”. . وكأنه يقول للناس: أن ما أطرحه ليس شيئاً معصوماً عن الزلل، وهو رأي اتضح لي من خلال البحث الفلسفي العميق، وليس من سطحياتكم الباهتة.
وأنا هنا لا أريد أن أجول في صوابية آراء الشيخ وجودة تحليلاته، وأبعاد فكره الديني الحديث، وشجاعته في خوض غمار مالم يتجرأ عليه غيره من علماء التقليد. وإنما أرديد أن ألفت النظر إلى بعض مزايا الرجل، وهباته الطبيعية.
فهو عالم في غاية الذكاء، متكلم لَسِن، أحاط بعلوم العصر، وأوغل في الفلسفة والمنطق، وحفظ النصوص والمتون، فكان مجدد القرن الحادي والعشرين، ونافض غبار الوهم عن تراثيات التخلف والانحطاط الأيديولوجي، التي جعل منها خطاب مشائخ العصر الحجري مقدسات لا يخاض لها مخاض، ولا ينبس فيها بحرف.
والواقع أن كل من عرف د. عدنان إبراهيم، رأى فيه ظاهرة استعصت على التقييم، وأبت أن تندرج تحت ملصقات التنميط والاختزال، فإن أردته فقيهاً فهو كذلك، وإن شئته فيسوفاً فقد جاوز القنطرة، وإن رأيته مفكراً ومصلحاً دينياً فما جانبت الصواب، وإن رمته علَّامة متضلعاً فهو بحر العلوم وجامع الفنون، ومن الصعب أن يُعَنْوُن، أو يخنزل متسعه.
أضف تعليق