في الحلقة الثانية عشرة من سلسلة “العلم والدين” للدكتور عدنان إبراهيم، أُثير موضوع القيم الغربية المتأصلة في العلم الحديث وكيفية تأثيرها على تشكيل المعرفة العلمية. رغم أهمية هذا الطرح، إلا أن الحلقة لم تتوسع بما يكفي في توضيح كيفية تشكّل “حقائق” العلم وتوجيهاته ضمن السياقات الاجتماعية والسياسية، وهو ما يطرحه “علم الاجتماع العلمي”. يقدّم علم الاجتماع العلمي إطارًا لفهم تأثير المؤسسات والمصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية على العلم، ما يُعمّق النقد الموجه للعلم الغربي باعتباره ظاهرة اجتماعية تخضع لتأثيرات عديدة.
علم الاجتماع العلمي: تعريفه وأهميته
يعد علم الاجتماع العلمي فرعًا من علم الاجتماع يركز على دراسة العلم كجزء من النسيج الاجتماعي. يرى هذا الحقل أن المعرفة العلمية لا تتشكل في فراغ، بل هي نتاج تفاعل بين الأفراد والمؤسسات الاجتماعية، وتتأثر بالسياقات السياسية والاقتصادية والثقافية. على عكس النظرة التقليدية للعلم كعملية موضوعية ومحايدة، يطرح علم الاجتماع العلمي منظورًا يعتبر فيه العلم نتاجًا ثقافيًا مشبعًا بالقيم المجتمعية.
فيما يلي نقاط توضح كيفية تأثير السياقات الاجتماعية على تشكيل المعرفة العلمية وأهميتها في نقد العلم الحديث.
1. دور المؤسسات العلمية والتمويل في توجيه الأبحاث
تعتمد المؤسسات العلمية على التمويل من الحكومات والشركات الخاصة، والذي غالبًا ما يأتي بشروط تتماشى مع مصالح الجهات الممولة. مجالات مثل الطب أو الأبحاث العسكرية تحظى بدعم كبير نظرًا لتحقيقها أرباحًا عالية أو لخدمتها أهدافًا استراتيجية. هذا يوجّه الأبحاث العلمية نحو أولويات محددة ويجعل بعض المجالات أقل استكشافًا بسبب عدم توافقها مع مصالح الجهات الممولة.
2. الضغوط السياسية وتأثيراتها على نتائج الأبحاث
تؤثر السياسة على المؤسسات العلمية، حيث يتم توجيه بعض الأبحاث لخدمة أجندات الدولة. خلال الحرب الباردة، ركزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على الأبحاث التي تدعم التفوق العسكري أو الفضائي كجزء من الصراع بين القوتين. وفي بعض الأحيان، قد يتم قمع أو تعديل نتائج الأبحاث التي تتعارض مع الخط السياسي السائد.
3. تأثير الثقافة والقيم الاجتماعية على توجيه العلم
يؤثر السياق الثقافي على الأسئلة العلمية وتفسير النتائج. في المجتمعات التي تقدر الفردانية، قد تركز الأبحاث على علم النفس الفردي، بينما في المجتمعات الجماعية، تميل الأبحاث إلى دراسة التفاعلات الاجتماعية. هذه التأثيرات تجعل العلم جزءًا من الثقافة والقيم الاجتماعية، ما يحدّد مجال البحث ويوجه تفسيراته.
4. الإعلام والرأي العام في تشكيل الحقائق العلمية
يلعب الإعلام دورًا رئيسيًا في نشر الأبحاث وتوجيه استقبال الجمهور لها. غالبًا ما يتم نشر الأبحاث العلمية بطرق تتوافق مع اهتمامات الجمهور أو الأجندات الإعلامية. يُضخم الإعلام نتائج معينة، كالأبحاث المتعلقة بالمناخ أو التكنولوجيا الحيوية، وفقًا لما يخدم مصالح معينة، مما يؤثر على تصور المجتمع للعلم.
5. النظريات العلمية كنتاج للتوافق المجتمعي
يطرح توماس كون مفهوم “البارادايم” حيث تتشكل النظريات العلمية ضمن أطر نظرية مسيطرة تحظى بقبول المجتمع العلمي. يُبقي المجتمع العلمي على هذه الأطر حتى تظهر بيانات جديدة تدحضها، ما يؤدي إلى “ثورة علمية” تطرح إطارًا جديدًا يتماشى مع المعرفة الحديثة. هذا يعني أن النظريات العلمية ليست حقائق مطلقة، بل هي قابلة للتغيير وفقًا للتوافق المجتمعي.
6. التوجهات الاقتصادية واحتكار التكنولوجيا والمعرفة
تتحكم الشركات الكبرى والمؤسسات الصناعية في توجيه الأبحاث لخدمة مصالحها الاقتصادية. يتجسد هذا في احتكار براءات الاختراع والتقنيات، حيث يتم التركيز على الأبحاث التي تحقق أرباحًا كبيرة، مثل الأدوية أو التكنولوجيا، بينما تُهمل المجالات التي لا تخدم هذه المصالح.
الخاتمة: علم الاجتماع العلمي كأداة لفهم السياق الاجتماعي للعلم
يكشف علم الاجتماع العلمي أن العلم ليس ظاهرة مستقلة، بل هو جزء من شبكة التأثيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. تتأثر توجهات البحث العلمي وطريقة فهم الحقائق العلمية بهذه العوامل، ما يجعل من الضروري النظر إلى العلم كظاهرة اجتماعية، وليس فقط كنتائج محايدة للتجارب.
إدراج هذا الجانب في نقد العلم الحديث، كما في الحلقة الثانية عشرة من “العلم والدين”، يُضيف عمقًا لفهم تفاعل العلم مع المجتمع، حيث تتشكل “الحقائق” العلمية وفقًا للعوامل المحيطة بها، وليس كمعرفة مستقلة خالية من التأثيرات الخارجية.
أضف تعليق