من القديم الجديد، دعواتٌ إلى رفض علوم الحديث قاطبةً، ومقالاتٌ تشكّك بجدّية هذا العلم وفوائده، ودعواتٌ إلى نقد متن الحديث، من دون نظرٍ في الأسانيد، ودعواتٌ إلى عرض الروايات الحديثية على القرآن العظيم… إلخ!
تصدر هذه الدعواتُ في بعض الأحيان عن أناسٍ لهم بعضُ معرفةٍ بهذا العلم.
بينما تصدر في أكثر الأحيان عمّن يهرف بما لا يعرف.
وبعدما كتبتُ أكثرَ من عشرةِ آلاف صفحة في علوم الحديث.
وبعدما انتهيت من تخريج الصحيحين وأكثر من نصف صحيح ابن حبّان، أقول الآن: (لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ؛ لجعلتُ تخصّصيَ التخصّص الدقيق في التفسير وعلوم القرآن، ولما صرفتُ (45) سنةً من عمري في خدمة الحديث وعلومه.
ولو كنتُ صرفتها في خدمة كتاب الله عزّ وجلّ، وأنا مؤهّل لذلك عربيّةً وأصولاً؛ لكانت خدمتي أرقى وأعلى، ولما تطاول عليّ السفهاء والجهّال، ممن لا يعرف كوعه من بوعه!).
لو تفتح عمل الشيطان!
لكنّ كلامي هذا؛ هو من تبدّل الاجتهادِ، وليس ذمّاً لعلوم الحديث، التي هي أعوص وأصعب من جميع العلوم التي تعلّمتها وعلّمتها.
بل يسعني القول: (لو لم أصرف عمري في خدمة علوم الحديث؛ لما توصّلت إلى هذه النتيجة الحزينة).
كنت في شبابي أظنّ بأنني سأعيد النظر في سائر علوم الشريعة، بل وحتى علوم اللغة العربية، التي دخل على دلالاتها ومعانيها كثيرٌ من المعاني الطائفيّة والمذهبيّة، فلم تعد ساحة الدلالات عربيةً صرفةً!
لكنني اليوم أقول: لو عُمّرت (500) سنة أخرى، وكنتُ في مثل قوتي الجسمية والعقلية ما بين الثلاثين والأربعين من عمري؛ لما استطعتُ أن أنهي تراكمات علوم الحديثِ المذهلة!
فمن رأيتموه تفلسف وزعم أنه أتقن علوم الحديث، وسبرَ غَوْرها؛ فاعلموا أنه جاهل جهلاً مركّباً في هذا العلم!
ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ؛ لما صرفت عشرَ سنوات في (تخريج الصحيحين) وكان الأفضل من هذا العمل للمجتهد تخريج ونقد كتاب (المنتقى من أحاديث الأحكام) لابن تيمية الجدّ، وتخريج زيادات (نصب الراية) عليه، أو (جمع وتخريج ونقد أحاديث الموسوعة الفقهيّة الكويتية).
فهذا يحتاجُه المتفقّهُ منّي، أكثرَ من حاجته إلى تقويم أحاديث التفسير والفضائل والمغازي والسياسة!
رغمَ كلّ ما تقدّم ذِكره من (المستغربات) فيبقى الاجتهاد الفردي والجماعي والإسلاميّ، والطائفيّ، والمذهبي حِكراً على نقّاد الحديث!
و(مَن لا يتقن نقدَ الحديث بنفسه؛ فليسلك سبيل الدعوة إلى الله، وليبتعِد عن دعوى الاجتهادِ، خشيةَ أن يُفتضح أمرُه).
والذين يظنون جميعَ أحاديثِ الصحيحين صحيحةً؛ هم جهال في هذا العلم!
والذين يظنون جميعَ (أحاديث الأحكام) في الصحيحين صحيحةً، وصالحةً للاحتجاج بها على الأحكام المرتبطة بها؛ هم جهّال أيضاً!
والذين يحتجّون بما أطلقوا عليه (الصحيح لذاته، والصحيح لغيره، والحسن لذاته، والحسن المرقّع لغيره).
هؤلاء ليسوا جهّالاً جهلاً مركّباً، بل هم مقلّدة، قلّدوا الشافعيّ وأحمد والبخاريَّ ومسلماً والترمذيّ وغيرهم!
توضيح ذلك أنّ عددَ الأحاديث الحسنةِ في الصحيحين أكثرُ من عدد الأحاديث الصحيحة.
ونظرةٌ سريعة في الأحكام التي بناها هؤلاء الأئمة على تلك الأحاديث؛ تدلّ على أنهم كانوا يحتجون بدرجات الحديث الثلاثة على وجه الاستغراق، ويعتبرون بالحديث الحسن لغيره في أمورٍ غير العقائد والأحكام غالباً.
هم لم يقسموا الحديث تلك القسمةَ الرباعية، إنما كانت قسمتهم إياه ثنائيّة: صحيح وضعيف!
والصحيح مراتب بعضها أعلى من بعض نظريّاً، والحسن لذاته داخلٌ في الصحيح.
والضعيف مراتبُ، بعضها أدنى من بعضٍ، فأفضلها الحسن لغيره، وأدناها الموضوع والمكذوب على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم!
وعدد الأحاديث الصحيحة والحسنة لذاتها (4000- 50000) حديث، نصفها في الصحيحين، ونصفها الآخر في بقية الصحاح.
وعدد الأحاديث الضعيفة والموضوعة (60000- 70000) حديث!
ومن الجميل حقّاً أنّ الأحاديث الضعيفةَ ليس عليها كبير خلاف، إنما الخلاف في استخلاص هذه الأحاديث الصحيحة، وجمعها في كتابٍ واحدٍ، ثم يغدو البحث في علوم الحديث نظرياً، شأنه شأن علم الأصول!
فالناس يعلّمون الأصولَ اليوم للاطّلاعِ على (تاريخ العلم) لا أنهم يضيفون إليه، أو يصححون بعض ما فيه من أخطاء!
واستخلاص هذه الأحاديثِ الصحيحة ليس بالأمر المستحيل، بل يمكن أن تقوم به لجنة متخصصةٌ مكوّنة من عشرة علماء شباب أكفاء، وتعمل لمدة (5) سنواتٍ، فتنهي هذه المسألة في تقديري.
توضيح ذلك:
إنّ جميع كتب السنة الأصول (الموطّأ، مسند أحمد، صحاح البخاري، ومسلم وابن حبان وابن خزيمة وابن الجارود ومستدرك الحاكم …إلخ) كلها مخرّجة تخريجاً عامّاً، والتخريج النقديّ الموثوق به، فيها قليل!
لكنّ تخريجها عمل علمي هائل!
إنّ عددَ أحاديث البخاريّ ومسلمٍ من دون تكرار (4000) حديث.
فإذا قام بنقدها العلماء العشرة، فينتهون من نقدها في سنة واحدة!
ونقد زوائد ابن حبان وابن خزيمة وابن الجارود على الصحيحين معاً؛ ينتهون منه في سنة واحدة أيضاً.
ونقد زوائد مسند أحمد ومستدرك الحاكم والضياء المقدسي في المختارة على الكتب المتقدمة، ينتهون منه في سنة واحدة.
ثمّ يمرون مروراً سريعاً على زوائد السنن، والمسانيد وهي كلها تقريباً من الضعاف في سنة أيضاً.
ثم يراجعون العمل كلّه في سنة واحدة أخرى، أو سنتين؛ فنكون بذلك قد أنجزنا تخريج ونقد كتب السنة، وفق منهج نقديّ محكم.
ثمّ يقوم هؤلاء العشرة، مع خمسة من علماء الأصول،، وخمسة من علماء الفقه، فيرصدون لنا مواضع الإجماع لدى الأمة المحمدية، ثم يقومون بعرض الأحكام الفقهية على مراتب الأحاديث.
فيمكن أن ينتهوا من ذلك في عشر سنين أيضاً.
وبذلك تنتهي نظريا مشكلة (تراكم المعرفة المكرّرة والمتناقضة) في معارفنا الحديثية والفقهية.
ولو تبنّت دولة من الدول الإسلامية مثلَ هذا العمل، وجانبَت وضعَ أنفها في مسيرة العمل تماماً، فتكون قد قدّمت لأمة الإسلام أفضلَ مما قدمته دولُ الإسلام على مدى تاريخها الطويل.
ونتيجة هذه المسيرة العلمية التي لا تتجاوز ربع قرن من الزمان؛ يكون بين أيدي الناس:
كتاب الله تعالى مع تفسير يسير واحدٍ، يعتمد مواطن الإجماع في التفسير.
كتابٌ واحد في السنة الصحيحة، موزعةً أحاديثُه على مراتب الأدلة النقلية بوضوح.
كتاب واحد في الفقه المشترك.
ثم تلتزم تلك الدولة في ثقافتها العامة وفي تصنيفاتها المدرسية بهذه الكتب الثلاثة، فنكون بذلك قد أنهينا مشكلة عصرنا.
وعلى الأجيال التالية أن تكمّل وتسدّد وتجتهد حسب ظروفها المتجددة.
لكننا نكون قد وضعها بين أيديها نقداً علميّاً جماعيّاً، وعليها أن ترتقي أكثر في مسيرتها المستقبلية.
ويصبح مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد وابن حزم.
ويصبح مذهب زيد وجعفر وابن إباض من المصادر المعرفيّة التاريخيّة.
فكفانا تمزّقاً وتمزيقاً، سببه الأكبر هو:
الجهل بصناعة نقد الحديث!
والتعصب المذهبيّ.
وإنفاق المال الثقافيّ في غير ما ينبغي أن تنفق فيه الأموال!
والله تعالى أعلم
والحمد لله على كلّ حال
أضف تعليق