كلمة الدكتور عدنان إبراهيم التي ألقاها في مؤتمر الأئمة الذي انعقد بمدينة فيينا يوم 24 أبريل 2005
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير)
(يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبا)
(لاينهاكم الله عن الذين يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون)
منذ قرون ولقرون خلت فرغ الإسلام من طرح أنموذجه المعجب وتجربته الفريدة في التعايش والتعاطي مع الآخر، وبرهن المسلمون على مقدرتهم الاستثنائية –إبانه- على أن يعييش الآخرون بينهم بسلام و إنصاف ، والمسلمون اليوم بإزاء تحد مقابل يتقاضاهم البرهنة على قدرتهم على العيش بين الآخرين بإيجابية وسلام .
وفي الوقت الذي سجّل فيه الإسلام سبقا تاريخيا هائلا في طرح أنموذجه ذاك، فقد تأخّر الغرب في بلورة نموذج مشابه إلى منتصف القرن السابع عشر وتحديدا في أمستردام وبعد ذلك بقليل في إأنجلترا، ولم يتمكن مفكر كبير من وزن كوندرسيه أن ينادي بتحرير اليهود في فرنسا إلا في نهاية القرن الثامن الثامن عشر، أما الأقليات الطائفية في أوروبا فلم يتحسّن وضعها إلا في النصف الثاني من القرن العشرين . وليس صعبا على الدارس ملاحظة أنّ الإسلام لم يشكّل في هذا الصدد تواصلا مع الماضي، بل شكل في الحق قطعا هائلا مع ماض شهد أفظع ممارسات إقصاء الآخر وإلغائه. جاء الإسلام والعالم يضجّ بصخب التصنيفات والتمييزات العنصرية الاستعلائية من قبيل: البرابرة، والجنتايل والأممين …الخ ليقول من أوّل أيامه: الربّ واحد والأب واحد، إن أول ما يطالعنا المصحف الشريف بهذه الآية (الحمد لله ربّ العالمين) وآخر ما ضم بين دفتيه (قل أعوذ بربّ الناس) , وقد ظلّ النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم يردد في مناسبات شتى: (أيّها الناس إنّ أباكم واحد وإنّ ربكم واحد)، بل لقد بلغ من تأكيده على هذا المعنى الإنساني العظيم أنّه كان يناجي ربه في جوف الليل (اللّهم إني أشهد أنّ العباد إخوة).
ولئن ارتقى إنسان العصر إلى مصاف الحديث عن المساواة ولكن بالمعنى الحقوقي فقد سبق الإسلام في هذا الصدد سبقا بعيدا حين قرّر المساواة بالمعنى الحقيقي، أي الطبيعي، فالمساواة في نظر المسلم ليست مقولة إنشائية بل مقولة خبرية، فليس يسوغ أن نعبّر عن المساواة بين شقيقين مثلا بلغة الإنشاد كأن نقول: ينبغي أن نساوي بينهما وأن نعتبرهما شقيقين، هذا غير وارد أصلا، ما يمكننا قوله هو قضية خبرية وحسب: هما أخوان.
إنّ المعنى الحقوقي يترسّخ ويقوى حين يتأسّس على المعنى الحقيقي ومن ثم يكون الحقوقي بمثابة إطار للحقيقي ، صحيح أنّ الإنسان لم يتسنّ له في مسيرته التاريخية الطويلة أن يظل كائنا طبيعيا فطريا وهذا هو الشرط الوحيد (لكن المستحيل) ليظل نقيّا بارئا من كل أشكال التصنيف والتمييز لقد كفّ عن ذلك وصار كائنا اجتماعيا، الأمر الذي يعني تقابل توازنات و مصالح ,عقائد وثقافات، إنها دراما الإنسان الكبرى عبر التاريخ.
وقد تعامل القرآن مع هذه الحقيقة على أنّها إرادة قدرية للخالق سبحانه (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (كذلك زيّنا لكل أمة عملهم) ومن هنا مُنيت – كما سُتمنى- كل محاولات تنميط العالم وتوحيد طابعه وطمس فسيفسائه وبتعبير آخر: العمل على تشويهه وجعله قبيحا باهتا، فقيرا مدقعا , مُنيت بالفشل الذريع .
وعلى ضوء مثل هذه الخلفية العقدية للمسلم فهو يرى أنّ حساب المخالفين في الدين والمعتقد ليس عليه ولا إليه (إن حسابهم إلا على ربّي) ( ما عليك من حسابهم من شيئ ) ( و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيئ ) (ثمّ إنّ علينا حسابهم) وبالتالي فظهور الحقيقة المطلقة العارية لن يكون في هذا العالم وفي هذه النشأة بل سيتّم في النشأة الأخرى وفي العالم الآخر .
ويأتي الجانب التشريعي في الإسلام ليلتئم وينسجم مع الجانب العقدي وذلك بتأكيده على إعطاء الآخر الحق في أن يدين بما شاء وأن يعتقد ما يشاء، وتوفير الفرصة كاملة له ليمارس خياره دون إزعاج أو تخويف، نعم أنا أختلف معك وأختلف عنك ولكنني في الوقت ذاته أحترم اختيارك وأؤكد على حريتك، فهذا العالم مخلوق للاختلاف والتنوع، وحدها هي العقول الصغيرة التي يروعها ويخيفها الاختلاف، إنّ الإختلاف هو فزع العقول الضئيلة لكنّه إغراء العقول العظيمة.
ومن عجب أنّ القرآن قد ترجم عن موقفه الرائع المتفتح من المخالفين لا في مرحلة الاستضعاف التي مرّ بها المسلمون فقط، بل في مرحلة الظهور والتمكين أيضا (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم…) الآيات وهو موقف معجب من كلا طرفيه فضعف الضعيف هو ما يلجئه في أحيان كثيرة إلى العدوانية والمغالاة , كما أنّ قوة القوى هي التي تزيّن له استباحة الضعيف.
يقول القرآن بوضوح حاسم: ما لم يتورط المخالف في عدوان سافر فأنت مدعو إلى بره والإقساط إليه والبرّ كما يقول العلماء لفظ جامع لأعمال الخير ووجوهه والتوسع فيها أما القسط فهو العدل في المشهور بل إنّ من أئمتنا من لم يقنع بهذا التفسير في هذا الموضع كأبي بكر بن العربي المالكي معللا قوله بأنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل قال: “والمعنى أن تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة” إهـ.
وأيّا ما كان فالمسلم يرى العدل قيمة مطلقة لا تنسّب ولا تنصّف، فبالعدل قامت السماوات والأرض (والسماء رفعها ووضع الميزان) وهو المقصد من إرسال الرسل وإنزال الشرائع (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) وهكذا فالمسلم لايجد صعوبة في التعامل الهادئ مع الآخر وهو في قيامه بدوره يدرك أنّ عليه دوما المساهمة في جعل العالم أكثر طيبة وخيرية غير قانع بأن يكون هو في نفسه خيّرا طيّبا، وإنّ هذا بعض ما فهمه أسلافنا من قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) أي كنتم للناس خير أمة، روى البخاري عن أبي هريرة فيها قال: خير الناس للناس، كما أخرج ابن المنذر عن ابن عباس بإسناد حسن قال: خير الناس للناس. فخيرية المسلم لا تتبرر إلا بالعمل.
وعلاوة على ماسبق فالمسلم يستشعر قربى من نوع خاص حين يعيش بين قوم لهم دين وكتاب سماوي وقد أمن على نفسه وعرضه و دينه وماله، ما يشعره بالجميل ويدعوه إلى الامتنان. إنّ مهاجرة الحبشة من المسلمين لما رأوا حماية النجاشي لهم وإنصافه ثم ظهر رجل ينازعه الملك ما كان منهم إلا أن تعاطفوا معه و دعوا له تقول أم سلمة: “فدعونا للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين في بلاده”.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه لما أرسل كتابا إلى كسرى و آخر إلى قيصر، فمزّق كسرى كتابه أمّا قيصر فلمّا قرأه طواه ثم رفعه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كسرى: (مزّق الله ملكه) وقال في هرقل:( ثبّت الله ملكه) فهل يدعو له بالتمكين إلا و هو يؤكد حقيقة أن هذا العالم سيبقى معرضا للاختلاف و التنوع ؟
إنّنا لا نجد أدنى حريجة في أن ننظر إلى مواطني الجمهورية هنا على أنهم إخوان لنا و إن إختلفت عقائدنا فمن وراء إخوة الإنسانية على عمومها هناك إخوة الوطن ( إذ قال لهم أخوهم نوح/ هود / صالح / لوط ألا تتقون )، ولئن عانى ويعاني بعضنا التباسا في مشاعره – قد ينعكس بدوره على سلوكه – إزاء هذه الديار الطيبة بحيث يجد صعوبة في النظر إليها على أنها وطنه ، ذلك أنه يكابد مشاعر نوستالجية تشده إلى ماضيه البعيد وحنينا إلى مسقط الرأس و مثوى الإباء مما يجعله فريسة لأحلام العودة وأوهام النقلة ، فإنّ أولادنا الذين ولدوا في هذه الديار وبها نشأوا لايعرفون لهم وطنا غير هذا الوطن، هؤلاء المقيمون على الحدود المشتركة بين عالمين وثقافتين الذين سيضطلعون منهم بالنهوض بنجاح بأعباء تنوعهم سيكونون همزة الوصل بين هذين العالمين وتينك الثقافتين وسيعملون حتما على تعزيز الروابط داخل المجتمع هنا، أماّ الفاشلون منهم فهم المرشحون بدرجة أولى للمغالاة في مواقفهم والهجوم بضراوة على أولئك الذين يمثلون جزءا منهم يريدون نسيانه , ما يدعى( كره الذات).
ولذلك علينا أن نضطلع بالقيام بذلك الجزء المختّص بنا في مساعدة أولادنا على الوصول إلى تلك الصيغة الجامعة القادرة على التعاطي بإيجابية ومرونة مع الثقافتين جميعا وجدير بنا التنبيه في هذا المقام على أنّ الحديث عن نقاء ثقافي وتمايز ماهوي مطلق ضمن الحديث عن المشاركة إنّما هو في حقيقته وهم من الأوهام العقيمة التي ستزيد أوضاعنا فقرا وإجدابا، بل ينبغي الحديث عن تلاق وتمازج وتخصيب، وبكلمة واحدة تآثر: أن تؤثر كما تتأثر، ولا ريب أنّك إذا أردت التأثير في الآخر فإنّ عليك أن تبرز قدرا محترما من تفهمه وتقبله وتقدير ما لديه، أي التأثّر به، إنّ من يتعلّم لغة آخر ليتخذ منها مدخلا لفهم ثقافته والوقوف على مشخصاته ، ينظر أوّلا إلى موقف هذا الآخر من لغته وثقافته، وحين يلحظ أنّ الآخر يحقر لغته ويزدري ثقافته فإنه ينظر الىّ تعلّم لغة هذا الآخر على أنه فعل خضوع وتنقّص للذات، ومن أسف أن يقع أحيانا طرفا المعادلة أسارى وهم مؤذ، إذ يفترض كل طرف في الآخر- بل وينظر إليه – على أنّه صفحة بيضاء قابلة لأن يخطّ عليها ما يجعل منها صورة مستنسخة للذات.
إنّ على الطرفين جميعا إدراك حقيقة بالغة الأهمية وهي أنّ الهوية رغم تركبها من مكونات ومحددات شتّى كاللغة والعرق والدين والجغرافيا واللون و…الخ فإنّ هذه المكونات تتفاعل عضويا، فهي ليست في حالة تساكن و تجاور بل في حالة تفاعل واعتماد متبادل، بحيث يشكّل مسّ أو استثارة أحد هذه المكونات استفزازا للكيان كله ، فحين يشعر المرء مثلا بتهدّد دينه، فإنّ الدين يبرز عندها كمختصر ورمز للهوية كلّها، ومن هنا فإنّ التعاطي المتفهم مع محددات هوية الآخر هو ما يجعله بدوره في وضع طبيعي يتّسم بالهدوء والإيجابية.
إنّ مايجعلني حبيسا في سجون ضيّقة، متشرنقا في ذاتي هو نظرتك أنت إليّ، وما يحرّرني من ذلك أيضا نظرتك.
لا مناص من أن يقبل كلّ منا على أخيه بصدر رحب وذراعين مفتوحتين ورغم اختلافنا في أمور شتّى فنحن نعلم أنّه لامندوحة لنا من إيجاد الصيغة المناسبة التي توفر لنا جميعا أكبر قدر من التفاهم والتشارك، هذا هو التحدّي: تحدّي وعينا ومن ثمّ سلوكنا .
وأحبّ أن أنبّه إلى حقيقة تتعلّق بالحالة الإسلامية وهي تلك المحاولات غير العلمية التي تعمل على إفهامنا أنّ النصوص الدينية هي ما يؤسّس للعنف والإرهاب والتطرّف بكلّ أشكاله،
خطأ مثل هذه المحاولات أنّها اختزالية تبسيطية إلى درجة تفشل معها أن تفسّر أيّ شيئ، إنّ التعصّب والتطرّف كما التسامح والتفتح يصعب أن تفسّر رجوعا إلى النصوص المؤسسة لديانة ما أو آيديولوجيا وحدها، بل لابدّ من الرجوع إلى السياق الحضاري والثقافي والسياسي كما الاقتصادي والاجتماعي الذي تمرّ به الجماعة أو الأمّة، ذلك أنّ النص – أيّ نص- ليس محصنا ضدّ التأويل وإعادة التأويل بما يتلاءم مع ويفي بحاجات التكيّف التي تلح على الجماعة أو الأمّة، وكمثال حي نقول: يمكنك أن تقرأ ألف مجلّد تتعلّق بالإسلام وتاريخ أمّته دون أن تتمكن بشكل سليم من تفهّم الحالة الفلسطينية أو الجزائرية، لكن قراءة بضع مئات من الصفحات تتعلّق بالاستعمار الكائن في المثال الفلسطيني أو الذي كان في الحالة الجزائرية سوف تمكنّك من فهم ما يحصل بشكل مجد تماما، هذا مع ملاحظة أنّ تجربة الإسلام التاريخية ستقف مبدئيا ضد كلّ المحاولات التي ترمي إلى دفعه بالجمود والتطرّف.
بارك الله فيكم و شكر جهودكم و السلام عليكم و رحمة الله.
أضف تعليق