أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ۩ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ۩ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا ۩ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ۩ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ۩ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ۩ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ۩ وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ۩ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا ۩ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ۩ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا ۩ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما يُحِب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل:
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، موضوع حديثنا اليوم – إن شاء الله تعالى – كما ذكرت أمس بعد خُطبة الجمعة سيكون نوعاً من التوسيع والبسط – إن شاء الله – لبعض الأفكار الواردة في الخُطبة، وخاصة فيما يتعلَّق بمسألة العلاج بالمعنى، أي بالمعنى الوجودي طبعاً، وتوسيع الأفكار حول هذه المدرسة، الآن طبعاً لم تعد جديدة، لكنها إلى حد ما مجهولة لدى غالبية المُثقَّفين من غير ذوي التخصص طبعاً في علم النفس، ونحن اخترناها طبعاً بلا شك لأنها تتقاطع وتلتقي أيضاً مع الأفكار أو المناهج المِلية والدينية في أكثر من موقع وفي أكثر من نُقطة، وهي مُهِمة بلا شك، وتُشكِّل أحد ركائز علم النفس الإنساني، ونحن مُتعاطِفون مع هذا العلم بالذات أكثر بكثير من تعاطفنا مع المدارس السلوكية أو المدارس التحليلية التي عملت سواء عن حُسن نية أو عن سوء نية على تشويش الرؤية، وطبعاً مُستبعَد في ميدان العلم أو بالأحرى المفروض أن يكون مُستبَعداً في ميدان العلم موضوع سوء النوايا، المفروض أن العلماء أُناس نزيهون يبحثون عن الحقيقة ويُحِبون أن يصلوا إلى الحقيقة، لكن للأسف طبعاً التوظيف الأيديولوجي سواء من العلماء أنفسهم أو من مدارسهم أو من أعداء هذه المدارس العلمية أيضاً على خلفيات أيديولوجية أو مفهومية للأسف يُشوِّش الرؤية، وفي النهاية يغدو الإنسان غير المُختَص أيضاً وغير المُتعمِّق غير دارٍ بحقيقة الأمر، ما الذي يجري هناك؟ طبعاً كنموذج لهذا الشيئ هناك بالذات مدرسة التحليل النفسي، وبالذات لدى الفكر الإسلامي أو لدى الإسلاميين، طبعاً ينظرون إليها نظرة فيها كثير جداً جداً من التحامل وفيها أيضاً كثير جداً من الزعم والدعوى بأنها مدرسة إنما نشأت وإنما دُعِمت وإنما أخذت كل هذا الهيل والهيلمان من أجل تقويض الأخلاق البشرية والمُجتمَع الإنساني ومُؤسَّسة الأسرة والأديان، في الحقيقة ليس الأمر كذلك، الذي يقرأ بتجرد وبحيدة يرى أن هذا يُشكِّل مُبالَغة عُظمى، مُبالَغة كبيرة جداً جداً! وهذا الكلام طبعاً هنا في الدوائر العلمية في الغرب غير مقبول البتة، أي لو قاله أي إنسان في مُحاضَرة أو في بحث علمي قطعاً سيُمنى بالإخفاق وبالفشل الذريع، ولن يستطيع أن يُقيم البرهان على ذلك، مُستحيل أن يُقيم برهاناً على أمثال هذه الأفكار، لكن هذا لا يعني معصومية المناهج ولا معصومية مَن يقوم بتطويع أو باصطناع هذه المناهج، وهم أيضاً لا يدّعون ذلك.
سيغموند فرويد Sigmund Freud نفسه كان يقول بكل تواضع – لكنه للأسف لم يكن صادقاً في تطبيق هذا القول على نفسه، وسنرى كيف هذا ولماذا – أنا رجل حصرت نفسي في الــ Basement من البناء الإنساني، أي في البدروم! أنا – قال – رجل حصرت نفسي في الــ Basement من البناء الإنساني، البناء الإنساني مُكوَّن من طبقات وأيضاً له أساس، وله بدروم، أي Basement، طبقة ما تحت الأولى، قال أنا حصرت نفسي في هذا الــ Basement أو في هذا البدروم الإنساني، مُمتاز! كلام مُنصِف تماماً، كأنه يقول أنا لا تأخذوا مني ولا تأخذوني مرجعاً فيما يتعلَّق بالطبقات العُليا للإنسان، هذا جميل جداً، وهذا يعني أنه لا يجوز لفرويدي – ليس لفرويد Freud نفسه فقط بل لأي إنسان فرويدي من أشياع ومن أنصار هذه المدرسة التحليلية – أن يُطلِق العنان لقلمه أو للسانه أو حتى لخياله حين يتحدَّث عن قضايا القيم – مثلاً -، عن قضايا التدين أو الدين، اترك هذا الشيئ، اتركه لأُناسين آخرين ربما طوَّروا مناهج أُخرى، سوف نرى الآن – مثلاً – في علم النفس الإنساني وبالذات في علم نفس المعنى وبالذات مع فيكتور فرانكل Viktor Frankl الذي تحدَّثنا عنه أمس في الخُطبة كيف فعلاً نجحوا وإلى حد مُمتاز حقيقةً – أي حد مشكور ومقدور – في أن يُطوِّروا منظورات أو مناظير أكثر تعقيداً وأكثر تركيباً وتستطيع أو تُحاوِل – تُحاوِل جاهدةً – أن تتعاطى وأن تتعامل مع الإنسان على أنه مُتعدِّد الأبعاد، وفي نفس الوقت لا يجوز أن يتم فصل هذه الأبعاد ثم بعد ذلك دراسة الإنسان مُختزَلاً من خلال إلقاء منظور على بُعد واحد، لا يجوز! هذا سيُشوِّه الإنسان، وسينتهي بنا إلى حالة التباس، وهذا حقيقي، سوف نضرب أمثلة كثيرة على هذا الموضوع – إن شاء الله تعالى -.
فهو قال أنا محصور – حصرت نفسي وحدَّدت نفسي – في هذا الطابق، في البدروم، جميل جداً! لكن لماذا فرويد Freud نفسه بعد ذلك يأتي لكي يزعم أنه وصل إلى ما اقتنع به تماماً من توصيف للظاهرة الدينية؟ قال الظاهرة الدينية في نظري تُشكِّل عُصاب الجنس البشري، أي الـــ Neuroses الخاصة بالجنس البشري! لكن هذا ليس من تخصصك، أليس كذلك؟ أنت الآن ناقضت نفسك بنفسك، أو خرجت عما حدَّدت نفسك فيه، ضمن حدودك هذا ليس لك، حتى الأنثروبولوجيين قد يتحدَّثون حديثاً أحسن من هذا عن الظاهرة الدينية، هم أكفأ منك، حتى علماء الأنثروبولوجيا Anthropology فضلاً عن علماء النفس الآخرين أكفأ منك، مثل علماء نفس الأعماق، علماء النفس الإنساني، وعلماء النفس الديني، هناك علم النفس الديني، هذا موجود، لكنه للأسف لم يلتزم بهذا الشيئ.
أنا أعتقد في النهاية أن المسألة لها جانب أكثر تعقيداً، المسألة ليست مسألة فقط مناهج وأنني ألتزم بحدود منهجي وما يُمليه بعد ذلك هذا المنهج، لا! المسألة أخطر من هذا، قبل أن يكون لك منهج وقبل أن تصطنع أي نظرية في البحث العلمي لابد أن ترتكز هذه النظرية أو لابد أن يكون لها خلفية في ذهن هذا المُنظِّر أو المُنظِّرين، لابد أن يكون لها خلفية ماذا؟ خلفية رؤيوية أو خلفية فلسفية، مُستحيل غير هذا، الإنسان لا يعيش بلا أفكار، بلا فلسفات، بلا أُطر، بلا نماذج، وبلا قيم، مُستحيل! كل إنسان يعيش هكذا، وهو رهن – في نهاية المطاف وفي التحليل الأخير – لما كان هو ولما هو كائن عليه، مُستحيل غير هذا، حتى خبراته الفردية ستُؤثِّر فيه، خبراته الفردية ومُعاناته الشخصية ستُؤثِّر فيه بشكل أو بآخر.
فرويد Freud نفسه أحس في آخر حياته أن أفكاره ليست فقط قابلة لأكثر من تأويل ولأكثر من تفسير إلى حد العبث، لا تملك إلا أن تُعجَب أنت بالتحليل النفسي من جوانب، وفي جوانب أُخرى لا تملك إلا أن تشعر… ماذا أقول؟ ليس بالإشفاق، ولكن تشعر بالغثيان، شيئ يُغثي نفس الإنسان، لا يُمكِن! لا يُمكِن الأمر على هذا النحو، هذا مُستحيل، مثلاً سأضرب مثالاً ذكره فرانكل Frankl نفسه، وهو مثال مُوحٍ، والرجل لا ينتقص من شأن المدارس الأُخرى، بالعكس! لكن هو يتخطاها، وهو قال أحترمها لكن أنا أتخطاها، لأنه فعلاً طوَّر مناظير أكثر تعقيداً وأكثر تركيباً، مثال لدبلوماسي أمريكي مُثقَّف جداً، قال عنه فرانكل Frankl إنه مُثقَّف جداً وهو دبلوماسي، قال قصدني في عيادتي كمُعالِج طبعاً في فيينا، هو من أمريكا جاء إليه، من نيويورك جاء إليه بعد أن سمع به، وهو على مُستوى العالم معروف طبعاً، أي فرانكل Frankl، قال جاءني إلى فيينا، وقال لي أنا سلخت من عمري خمس سنوات لدى مُحلِّل نفسي، أي على الطريقة الفرويدية، مُحلِّل! مُحلِّل يُعالِج بالتحليل النفسي، ما المُشكِلة؟ طبعاً هو مريض نفسي، المفروض أنه مريض، أي معصوب!
قال مُشكِلتي أنا كما أراها أنني غير راضٍ عن سياسة بلدي والحكومة والخارجية، السياسة الأمريكية غير راضٍ عنها وهذا يُؤرِّق ضميري، هؤلاء أُناس عندهم ضمير يا أخي، سُبحان الله! أنا أحترم هؤلاء الناس، والله العظيم! أحترم هؤلاء الناس جداً، أنا أرى جوهر الإنسان في أمثال هؤلاء الناس، في المُقابِل قد تجد مُتديناً – حاخاماً يهودياً أو شيخاً مُسلِماً أو قسيساً نصرانياً مثلاً – أكبر دجّال، ويستخدم الدين والنصوص وما إلى ذلك لكي يُدجِّل ويُبرِّر أوضاعاً مُعيَّنة ويُطبِّل لكل صاحب عرس كما يُقال، ارقص للقرد في دولته، كل قرد يرقص له في دولته، وهذا حاخام رابٍ وهذا قسيس وهذا شيخ، شيئ عجيب! لكن هذا ليس مُتديناً.
تعرَّفت على رجل، هذا الرجل يرفض منصباً رفيعاً جداً جداً في الدولة، لماذا؟ وهذا الرجل ليس مُلتحياً، ولا يؤم المساجد باستمرار، ولا يدّعي أنه شيخ ولا مُتمشيخ، لكنه طبعاً – بفضل الله – مُقيم للصلوات، وهو وأهله مُلتزِمون، وهذا الجوهر، لكن هنا تقوى الله، يرفض هذا المنصب، لأن هذا المنصب سيُكلِّفه أن يُعاقِر الخمر أو على الأقل يجلس على موائد خمور، وهو يرفض هذا، ضميره الديني لا يسمح له، هذا التدين! هذا التدين الحقيقي يا حبيبي، لكن حين كنت قبل سنة في عمّان في مُؤتمَر – كان مُؤتمَراً رسمياً ودُعينا إليه – جاءني بروفيسور Professor تونسي، وطبعاً هو تعرَّف إلىّ قبل يوم، المُهِم جاءني صباحاً وقال لي أنا لابد – وهو رجل كبير، في العقد الثامن من عمره – أن أُلقي عليك التحية، فقلت له أستغفر الله، وقمت وأنا….
(ملحوظة) حصل قطع في تسجيل المُحاضَرة، ثم عاد التسجيل مرة ثانية مع قول الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا المعصوب في نظر المُحلِّل، منشأ عُصابي هو كراهيتي اللا شعورية لوالدي، مُشكِلتي مع أبي، ليست مع حكومتي ولا سياسات حكومتي، مع أبي! قال له هل هي مع أبيك؟ قال له نعم، ولابد أن تأخذ في الاعتبار هذا، قال له المُشكِلة أنني أخفقت أن أُقنِع نفسي بهذا، ولم تُحَل مُشكِلتي، في الأخير اضطررت أن أتخذ قراراً بترك هذه المهنة، وكان دبلوماسياً وفي وظيفة مُحترَمة، تركها! لكن جئت أبحث عن السبب، فهل أنا معصوب؟ فرانكل Frankl قال والمسألة كانت مُعقَّدة جداً جداً، لأن المُحلِّل لم يُدرِك بساطتها، الرجل ليس مريضاً حتى، الرجل في مُنتهى السوية، شخص سوي تماماً، يحيا بضمير وبعقل يقظ وبنفس بارئة طبعاً، مَن مثل هذا الدبلوماسي المُثقَّف والذكي هذا؟ هو فعلاً ليس قادراً على أن يعيش بلا صدقية.
أُذكِّركم مرة أُخرى بقصة الدكتور مُصطفى الفقي المصري – ذكرناها عدة مرات – التي أبكتني حقاً والله، مصداقية! مُصطفى الفقي هذا مصري، مُصطفى الفقي معروف، وكان سفير مصر هنا لدينا في فيينا، والآن يعمل في الخارجية، المُهِم هذا مُفكِّر كبير وكاتب ناصري الاتجاه، المُهِم هذا الرجل الذي وقف في مجلس الشعب المصري بعد شهرين تقريباً وفجَّر قنبلة، قال لهم أنا غبر علىّ شهران وأنا لا أذوق طعم الطعام ولا النوم ولا احترام النفس، ولا أستطيع أن أنظر في المرآة إلى وجهي، لأنني فقدت احترامي لنفسي، ورأيت – قال – في أعين أقرب الناس إلىّ – من أخصائي وأودائي ومِمَن يُحِبونني، رأيت هذا مع أنهم يتظاهرون باحترامي وبأنهم لا زالوا على احترامي وحُبي – فقدان الاحترام لي، لماذا؟ الناس مُندهِشون في مجلس الشعب! لماذا؟ ما القصة؟ في البرلمان الخاص بهم قال لأنني مُزيّف، أنا هنا ليس بأصوات الناخبين وإنما بالتزييف، طبعاً هو محسوب على الحزب الوطني الحاكم، أنا هنا بالتزييف – قال – ومكاني هذا ليس لي، مكاني هذا لعدوي طبعاً، لعدوي من الإخوان المُسلِمين، للآخر – قال – وليس لي، وأنا أتنازل عنه، شيئ غير طبيعي، أنا هذا الرجل اعتبره أشرف من عشرة آلاف شيخ لا يقدرون على أن يقفوا في موقف مثل هذا، هذا هو! في نظري هذا الشيخ إذا كنت أُحِب كلمة شيخ وما إلى ذلك، هذا الشيخ، هذا المُتدين، هذا الإنسان الذي يُحترَم، هذا الإنسان الذي عنده قدرة على أن يُعلِّمنا يا إخواني، هو يُعلِّمنا طبعاً، موقف مثل هذا يُعلِّمك أحسن من أن تقرأ ألف كتاب، والله العظيم! شيئ عجيب يا أخي، هناك أُناس على هذا النحو، لأن فعلاً عندهم هذه المصداقية، هذا إنسان سوي، هل هذا إنسان مُلتاث؟ كيف يكون مُلتاثاً؟ وطبعاً لو هذا تورَّط – أي مُصطفى الفقي – وذهب وعرض نفسه على فرويد Freud نفسه سوف يقول له لا، هذه القضية ليس لها علاقة بالشيئ هذا، القضية لها علاقة بعُقدة أوديب – Oedipus complex – التي في نفسك وعلاقتك بأمك وأنت صغير وهذا كله ارتكز فيك وما إلى ذلك، ما هذا الكلام الفارغ؟
فالمُهِم قال والرجل لم تُحَل مُشكِلته، لأن لم يكن عنده مُشكِلة، وإنما خلقها هذا المُحلِّل له، كلام فارغ! أعجب من هذا دراسات بعض المُحلِّلين على بعض الناجين من الهولوكوست Holocaust، كان من المُفترَض أن يُحرَقوا في أفران الغاز وأن يُفرَموا فرماً لكنهم نجوا، طبعاً عندهم هلاوس وعندهم أحلام وعندهم فوبيات Phobias وعندهم مشاكل كبيرة جداً جداً، فطبعاً كانت النتائج عند بعضهم غريبة، كل سلوك كان يُفسَّر بالنكوص، أي الــ Regression، عند الواحد منهم نكوص، نكوص إلى المرحلة البولية، ما الكلام الفارغ هذا؟ بعضهم مُشكِلته فعلاً ليست مع السجّان وليست مع أفران الغاز، مُشكِلتهم أيضاً مع آبائهم كما قالوا، هناك مُشكِلة مع الآباء، وطفت الآن، ما علاقة الآباء بالهولوكوست Holocaust يا حبيبي وذبح الناس وحرق الناس؟ ما الكلام الفارغ هذا؟ شيئ عجيب! فيُمكِن أيضاً أن يُؤدي هذا العلم حين يُطلَب منه – للأسف يحدث هذا باسم العلم – دوراً أيديولوجياً أيضاً في تبرير فاشية ونازية وقتل وذبح الناس، هذا مُمكِن باسم العلم، وليس من الضروري أن تُحمِّل الجزّار أي مسئولية، أبوك يتحمَّل المسئولية، ليس الجزّار الذي ذبحك وإنما أبوك هو مَن يتحمَّل المسئولية، هذا كلام ليس له معنى، كلام فارغ كله وتافه فعلاً، في مُنتهى التفاهة.
ولذلك لابد على دارس العلم وعلى مُنتِج العلم أن يحذر من جُملة محاذير بأعيانها، أولاً أن يحذر من الأدلجة، طبعاً لا يُوجَد عالم يُريد أن يُؤدلِج علمه، مُستحيل! هذا حصل في الاتحاد السوفيتي لفترة بسيطة جداً جداً، وتعرفون قصة تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko وهؤلاء الجماعة، لكن بشكل عام لا يُوجَد عالم يُود هذا، أعني العالم الحقيقي، مُستحيل! لكن يحدث هذا أحياناً بطريقة غير مقصودة، أو يقع من أشياع مدرسته ونظريته، ثانياً أن يحذر من التخفيض، أي الــ Reduction، أخطر شيئ الاختزالية والابتسارية، أو يُسمونها الردية أو التخفيضية، التخفيض! طبعاً للأسف هنا أكثر النظريات النفسية وقعت في شرك التخفيضية للأسف الشديد، وهذه التخفيضية تنتهي في النهاية إلى ماذا؟ إلى شيئ أشبه بالعدمية، عدمية – أي نهيلية – مُقنَّعة بالتخفيضية، وذلك حين يقول لي أحدهم ليس الإنسان شيئاً سوى – سوى ماذا؟ ليس الإنسان شيئاً سوى – جُملة أو نظام – مثلاً – كهربي كيمياوي يعمل على التعامل مع نظام أيضاً آخر مُعقَّد لتخزين وتوليد المعلومات – أي حاسوب أو كمبيوتر Computer، ولكم أن تتصوَّروا هذا – ضمن مُحرِّك للطاقة، علماً بأن هذا ليس كلامي، هذا كلام أحد العلماء الكبار، عرَّف الإنسان بهذا التعريف، ما هذا؟ هذا يُعرِّف آلة، هذا يُعرِّف روبوت Robot مُتطوِّر قليلاً، وبالمُناسَبة يُمكِن أن يُوجَد في أفلام الخيال العلمي روبوت Robot يكون مُتطوِّراً أكثر من هذا بكثير، أليس كذلك؟ هناك روبوتات Robots مُتطوِّرة أكثر من هذا التعريف، وبالتالي هي أحسن من هذا الإنسان، أليس كذلك؟
أنا فلسفياً فكَّرت في هذه المسألة، كيف يُمكِن لعالم كبير – وللأسف هو حائز على نوبل Nobel – أن يتورَّط ويُعرِّف تعريفاً مثل هذا للإنسان؟ كيف؟ أنا أقول من ناحية فلسفية طبيعي أن ننتهي إلى هذه النهاية أو ينتهي بعضنا إلى هذه النهاية، وعلى غير وعي أحياناً، وذلك حين تخلينا عن مقولة بل عن حقيقة الحقائق وهي الإيمان، عن الله – تبارك وتعالى -، انتبهوا الآن لكي نرى ما أفيون الشعوب، هل هو العلم أو الدين بحسب هذا المعنى؟ طبعاً أنا – بالعكس – من الناس الذين يحترمون العلم جداً، وأنا أعشقه، لكن ليس مثل هذا العلم، لا! هذا العلم اختزالي ولا أحترمه، بالعكس! وهذا ليس من العلم أصلاً، العلم الحقيقي ليس له علاقة بالكلام الفارغ هذا، هذا ليس علماً، هذا فلسفة فارغة وأيديولوجيا فارغة باسم العلم، وأحياناً بعض الناس – كما قلت أنا، لا أعرف في أي خُطبة للأسف الشديد، ربما في الخُطبة قبل السابقة – يتعاطى مع حُكم المُطلَق، كونه عالم وحائز على نوبل Nobel في تخصصه فكل ما يقوله صحيح، لا! صحيح كل ما يقوله في تخصصه وضمن تخصصه لكن من غير تعميم، وهذا الخطر الثالث الذي أردت أن أُنبِّه عليه، خطر التعميمية، غلط أن يُعمِّم العالم، ممنوع أن تُعمِّم يا حبيبي، تكلَّم في حدود تخصصك، أي ضمن هذه الحدود نفسها، إياك أن تُعمِّم، وطبعاً هناك خطر أكبر من التعميم، وهو الشمولية أيضاً، وهذا أسوأ وأسوأ أيضاً، لأن الشمولية تجور على سائر التخصصات أن تقول كلمتها في الميدان، وهذا طبعاً باسم الشمولية وهو خطير جداً، لذلك – مثلاً – المُتدين الشمولي يرفض علاج أي مسألة من منظور – مثلاً – نفسي، يقول لك لا، هناك الدين، لأنه شمولي، هذا خطير يا أخي.
لذلك أنا أُريد أن أقول شيئاً يا إخواني، أُريد أن أقول شيئاً كتوضيح لهذه النُقطة، الآن – مثلاً – هناك التربية، تربية الإنسان! ما هذه المقولة؟ حين نقول التربية أو أي مسألة تربوية تكون هذه مقولة طبعاً لها بُعدها الاجتماعي، أُريد أن أقول إنها مقولة اجتماعية، لكن في نفس الوقت وقبل ذلك وأهم من ذلك هي مقولة نفسية، أليس كذلك؟ بعد ذلك هي مقولة ثقافية، لأن عندها جانبها الثقافي، وهكذا! تستطيع أن تُحصي عدة أشياء، طبعاً عندها جانبها حتى أيضاً السياسي والاقتصادي، للأسف أحياناً، لكن هذا قليل، جيد جداً! إذا كانت التربية كذلك فإذن حين نُريد أن نُضيء نصاً دينياً يُصنَّف ضمن النصوص التربوية لابد أن نُضيئه من خلال ماذا؟ تعمق هذه المجالات، أليس كذلك؟ لكي نفهم، مُستحيل غير هذا، كيف يفهم المُتدين أنه لا يحتاج إلى هذه الإضاءة؟ لأنه شمولي، يعتقد أن النص بذاته يستطيع أن يقوم مقام كل هذه الإضاءات، لكن هذا غير صحيح بالمرة، غير صحيح أبداً! لذلك حتى أي نص – مثلاً -اقتصادي – أي نص ديني اقتصادي – رُغماً عنا وعنك لابد أن يُضاء أيضاً من خلال ميدان أو حقل الاقتصاد، لأنه أصلاً ينتمي إلى هذا، لأن كل ما هنالك أن النبي – عليه السلام – مثلاً حين تكلَّم في هذه القضية تكلَّم بما يرى، لكن هو يعلم أنه يتكلَّم في قضية تنتمي إلى حقل مُعيَّن، اسمه حقل التربية، وله مقولاته وأُسسه، وهي طبعاً نسبياً مُتفاوِتة حتى أحياناً، لكن الشامل – صاحب التفكير الشامل – أو الشمولي لا يُؤمِن بهذا للأسف، وهذا خطير جداً جداً، فإذا أصاب العالم فإنه يُصيب علمه في مقتل، وهذا يُصيب بعض العلماء للأسف، لكن كتدعيمات وتوظيفات لأفكارهم، ليس في الأصل المنهجي، لا طبعاً، في الأصل المنهجي هذا مرفوض عند كل العلماء.
فنرجع، اللهم صل على سيدنا محمد، نرجع إلى موضوع التخفيض، كيف تم هذا؟ الكلام غير واضح إلى الآن، تم هذا لأن في النظرية الدينية القديمة العرفانية كان الإنسان يرى نفسه إلى حد ما – بالمُناسَبة هذا في اليهودية وفي المسيحية وفي الإسلام، في الثلاثة الأديان أو الشرائع – صورة من الله، معروف هذا، وهذه المقولة موجودة في كل الأديان، أن الإنسان بمعنى أو بآخر هو صورة من الله، عندنا يُوجَد حديث في صحيح مُسلِم يقول إن الله خلق آدم على صورته، هناك أُناس قالوا أي صورة آدم، لكن في لفظ آخر إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، والمفروض لا أشعري ولا ماتريدي ولا صوفي يرفض هذا، لكن لو رفضت أن تكون على صورة الرحمن ستقول نحن فهمنا الصورة بمعنى ماذا؟ الشكل، أي الــ Gestalt، لا! الصورة هنا معناها الصفة، أي على صفة الرحمن، هو سميع بصير وأنت سميع بصير، هو عنده قدرة وأعطاك قدرة، هو عنده مشيئة وجعلك شائياً، هو عنده علم وأعطاك علماً، عنده كذا وأعطاك كذا، يُوجَد هذا، يُوجَد! ولكن طبعاً هذا نسبي وهذا مُطلَق، أرأيت؟ وهذا خالق وهذا مخلوق، وهذا فرق لا يُردَم كما قلنا، هذه هُوة لا تُجسَّر مُطلَقاً، لكن لها دلالة غير عادية، دلالة خطيرة في المسألة هذه، ما هي؟ أن الإنسان في نهاية المطاف يقترب دائماً مع صدق المُحاوَلة ودأبه في السعي من ماذا؟ من فهم خُطة الله في الخلق، لن يفهمها بالكامل – كما قلنا هذا مُستحيل – لكنه يقترب من فهمها، وهذا ما تفعله العلوم والفلسفات والأفكار والأديان، تجعل الإنسان دائماً أكثر قدرة على مُقارَبة فهم الخُطة الإلهية، أن يفهمها بالكامل هذا مُستحيل، لكن دائماً هو يقترب، وهذا شيئ غير طبيعي، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩، الاقتراب ليس فقط بأن تسجد، لا! الاقتراب بكل معانيه وبكل دلالاته وظلاله، وهذا شيئ خطير، وهذا ليس إلا للإنسان، الملائكة ليس عندها هذا، الملائكة قال الله عنها وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩، لا تُناقِش ولا ترى شيئاً آخر، انتهى! أبداً هو هكذا، هل الإنسان مُبرمَج؟ لا، وضعه مُختلِف تماماً، هذا هو المعنى، لذلك عند الصوفية الذين رفض بعضهم هذا الحديث – لم يفموا هذا الحديث بشكل جيد – يُقال نعم، تخلَّقوا بأخلاق الله، أليس كذلك؟ وهذا حديث ضعيف، يأخذونه كلهم ويجعلون أساساً، وهذا أساس بلا شك ومعناه صحيح تماماً، وقالوا الموقف هو هكذا حتى من أسماء الله، ويُوجَد تعلق وتحقق وتخلق أو تخلق وتحقق، وفي النهاية تصل إلى حقيقة العلاقة بهذا الشيئ، بجوهر هذا المعنى الاسمي العُلوي الصمداني! وهذا شيئ عظيم جداً جداً جداً يا أخي، فإذن كيف تقول لي الدين أفيون الشعوب؟ الدين يُعطيك الوعي.
ولذلك رجل مثل محمد إقبال يقول الآتي، وأنا مرة اقتبست هذا الشاهد الخاص به فقام بعضهم ضدي في سويسرا، لم يقدروا على أن يستوعبوا، كيف هذا؟ وقالوا إقبال هذا كذا وكذا، المُهِم إقبال يقول يا رب أنت خلقت الطين وأنا خلقت البُستان، هل يُوجَد في الدنيا بُستان حقيقي كالبُستان الذي تراه الآن؟ لا يُوجَد هذا، الدنيا فيها غابات وفيها أحراج وأحراش، أليس كذلك؟ فالله لم يخلق بشكل مُباشِر – أي Directly – بُستاناً، لا يُوجَد هذا، وأنا قلت هذا عدة مرات، حين تركب سيارتك وتذهب إلى الطرق الزراعية الموجودة هنا وتمر على بعض – سُبحان الله – الأماكن تجد شيئاً عجيباً، يُوجَد فن فعلاً، هذا الإنسان عمله، لا تجد هذا حتى في يوغوسلافيا، هناك يُوجَد نظام مُختلِف، هنا – مثلاً – الناس أكثر تحضراً، حتى الفلاح النمساوي هو فلّاح فنّان، أي Künstler، فنّان هو! غير الفلّاح التشيكي والبولندي وما إلى ذلك، مُختلِف! لأن النظام مُختلِف، ليس مُختلِفاً بنيوياً، وإنما النظام والثقافة للأسف الشديد ليست كالتي لدينا، فهو غير الفلّاح العربي المسكين والمهلوك هذا، ليس عنده أي شيئ، ولا يُولي هذا الموضوع أي أهمية أصلاً، أي أهمية! الفلّاح النمساوي فنّان، ليس مُجرَّد فلّاح يا أخي، وأنت ترى هذا، ألق نظرة – نظر طائرة – وسوف ترى شيئاً عجيباً، هذا الشيئ عجيب وفي مُنتهى الجمال.
قلت لأحد رفقائي في السفر هل ترى هذا؟ أمام كل مشهد ما يحكي ويُترجِم جهوداً جبّارة، وهي آلاف المشاهد التي لا تنتهي، أنت تُسافِر في النمسا كلها وتكون في حالة انتشاء كما يُسمونها، في حالة نشوة غير عادية والله العظيم، وخاصة مَن عنده ذوق جمالي يشعر بهذا، شيئ غير طبيعي! حالة نشوة روحية غير عادية، سُبحان الله! قلت له أمام كل مشهد من هذه المشاهد ما يحكي ويُترجِم جهوداً جبّارة، وهي جهود مُتواصِلة، من أجل أن يُوجَد هذا، هذا لم يأت وحده، اترك هذا الشيئ لسنتين وانظر كيف سيكون، مثلما تدخل في يوغوسلافيا أو مثلما تدخل في التشيك، انظر كيف سيكون، سيختلف تماماً! ستكون هناك أحراش وغابات مُخيفة، ستخاف من أن تنظر إليها، لكن هنا ليس الأمر كذلك، فهذا معنى كلام إقبال، قال له أنت خلقت الطين – لو قال خلقت الأحراج أو الحرج وما إلى ذلك لكان هذا أحسن – وأنا خلقت البُستان، قال له خلقت، انظر إلى كلمة خلقت، هذه خوَّفت هؤلاء السلفويين، رُعِبوا وقالوا كيف هذا؟ فقلت لهم الله قال فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ۩، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ۩، قال تَخْلُقُ ۩، الله قال له تَخْلُقُ ۩ يا أخي، اسكت! لكن أنت لا تفهم، ومَن أصلاً الأهبل الذي يُوجَد في هذا العالم ويفهم أن الإنسان يخلق من عدم؟ لا أحد يقول هذا، لكن أنا خالق بمعنى آخر، وقديماً ونحن صغار علَّمونا أشياء في الكُتب وهلكونا يا أخي، والله في كل شيئ جعلونا مُحرَجين، فأصبحنا مثل المُصابين بالهبل، ليس عندنا حرية أن نجتهد وأن نُفكِّر وأن نُعبِّر، تخاف من أن تقول أي شيئ، وتبدأ دائماً تُحاذِر وتحترز، هذا يُسمونه الاحتراز في البلاغة، تقول لكن إن جاز التعبير، ومع كذا، اللهم غفراً، وأنا لا أقصد، وتظل تتحدَّث كالأهبل، يا أخي المفروض أن هناك مُحكَمات، وهناك مُتشابِهات، انتهى! هذه واضحة، من المُحكَمات أن الذي يخلق من عدم هو رب العالمين، انتهى! حين أقول هذا الخلق الفني أو الإبداع الفني يكون معناها معروفاً، ليس معناها خلق من عدم، خلق من عدم ماذا؟ هو حتى لم يخلق اللوحة ولم يخلق الزيت ولم يخلق الفرشاة، لم يخلق أي شيئ! معناها أنني أقصد بالخلق التقدير، التقدير! وهذا معروف في لُغة العرب أصلاً، يُقدِّر شيئاً في عقله ثم يُترجِمه ويصبه على منظوره وعلى خامته، هذا خلق، خلق فني! لكنهم قالوا لا، الإلحاد في الفكر الغربي حين يُعبِّرون بالخلق الفني وما إلى ذلك، وهذا كله كلام فارغ يا أخي، حتى القرآن قال أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ۩، وَإِذْ تَخْلُقُ ۩، لماذا صار الآن هذا إلحاداً؟ يقولون هذا كنقد، يُريدون فقط أن يُسجِّلوا نقداً، ويا ليتهم حتى سجَّلوه!
لذلك أنا أقول لكم أعمق النقد وأجمله وأقواه للفكر الغربي هو ما صدر من الغربيين للأسف، نقد حقيقي وفي العُمق، والآن سوف ترون أنتم كيف هذا وكيف كان نقد مدارس النفس على يد المدارس الغربية، أنا اليوم قلت يا حسرةً على المُسلِمين! كتبوا آلاف الصفحات بطريقة خبرية طبعاً وشعرية ضد فرويد Freud والتحليل النفسي، ولم ينجح واحد فيهم في أن يُكوِّن مدرسة مثل مدرسة فرانكل Frankl هذا، وانظروا إلى هذا الرجل وكيف هي أفكاره، شيئ غير طبيعي! وتماماً أنت ما تُريده كمُتدين – إذا أردته – موجود عنده، طيلة حياتنا نُناضِل عن وحدة الإنسان ونقول الإنسان لا يُؤخَذ تفاريق ولا يُؤخَذ أجزاء وما إلى ذلك، فرانكل Frankl حكى الكلام هذا، لكن في آلاف الصفحات، في ستة عشر مُجلَّداً يا حبيبي! وأتى بشيئ مُقنِع تماماً، ودارت أفكاره وتدور حول العالم الآن، اعمل مثل هذا يا حبيبي، لكن أنت لست قادراً على أن تنتقد جيداً ولا على أن تُقدِّم البديل، هم ينتقدون جيداً ويُقدَّمون البديل، لأنهم أُناس جادون، جادون في أن يَفهموا وفي أن يُفهِموا وفي أن يصلوا، أليس كذلك؟ نحن أُناس عبثيون – صدِّقوني – واستعراضيون، أنا دائماً أشعر بهذا، أشعر بأن من أكبر عيوبنا – بصراحة هذا من أكبر عيوبنا – أننا استعراضيون ودعائيون فقط، أكثر من هذا لا يُوجَد، ليس الكل طبعاً، هناك استثناءات لكنها قليلة للأسف الشديد.
فنعود، يقول له أنت خلقت الظلام وأنا خلقت السراج، هل يُوجَد سراج في الكون؟ لا، النجوم هذه لا تُضيء بصراحة، القمر يُضيء بالكاد ليومين أو لثلاثة أيام في نصف الشهر وينتهي الأمر، وهو لا يُضيء في كل مكان، في الأماكن المُغلَقة لا يُضيء، لكن حتى في الكهوف وفي المغاوير وما إلى ذلك يُضيء السراج الذي خلقته، أتيت بهذا وحطيت هذا وركَّبته، هذا محمد إقبال، رحمة الله عليه، أرأيت؟ فمحمد إقبال كان يقول هذا، وهو كان عارفاً بالله، رحمة الله عليه، رجل لم يترك قيام الليل في عمره يوماً، كان يقول يا رب خُذ من مالي، خُذ مني شُهرتي، خُذ مني أعضائي، وخُذ مني كذا وكذا، ولا تحرمني أنة السحر، كان يئن، يقوم يُناجي الله ويبكي، يئن في الليل، رحمة الله عليه، هذا الشاعر والفيلسوف محمد إقبال، شيئ غير عادي!
كيف هذا الفيلسوف الكبير والعارف بالله يقول له أنت خلقت وأنا خلقت؟ بالعكس! هذا لأنه عارف بالله وفيلسوف عارف فعلاً قدر على أن يفهم مكانته كإنسان، هذا الإيمان الذي نحن نُريده، ليس الإيمان الذي يجعلنا فئران باسم الإيمان، ليس الإيمان الذي يجعلنا خرافاً وحملاناً وديعة باسم الإيمان، ثم يُقال هذا الدين، الدين هو هكذا، لا! هذا غير صحيح، دين هذا أحسن من ديننا، ولذلك هذا ما حصل للأسف الشديد.
نرجع ونقول – حتى لا نُطوِّل – هذا ما يُعطيه الدين الصحيح للإنسان، يُفهِمك أنك صورة من الله، عندك نماذج مُصغَّرة من صفات الله، هذا هو المعنى، هذا هو! عندك نماذج مُصغَّرة من صفات الله، لكن في حدود النسبي والمحدود، مُقابِل المُطلَق واللا محدود، شيئ عظيم جداً وجداً، شيئ غير طبيعي، ويُوجَد نسب بتعبير الشيخ محمد الغزّالي رحمة الله تعالى عليه، قال يُوجَد نسب إلهي للإنسان يا حبيبي، يُوجَد نسب إلهي لنا نحن، نحن نعم من الطين وهذا الجُزء الراسب فينا لكن هناك نفحة أو نفخة عُلوية من روح الله، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩.
وأُريد أن أقول – ربما بعض الناس يسمعون هذا الكلام لأول مرة طبعاً – أنا على يقين الآن – أو إلى الآن على الأقل أنا على يقين كامل بفضل الله – أن هذه الروح ليست هي النفس التي نحيا بها حياة بيولوجية كما للأسف يعتقد تسعة وتسعون فاصل تسعة من عشرة من المُسلِمين، هذا كلام باطل وغير صحيح، ولم يُذكَر هذا الشيئ إلا بخصوص الإنسان، لا تُوجَد أي آية تقول إن الله نفخ من روحه في البقر وفي الأغنام وفي المن – من النبات – وفي النمل وفي الدواب، لا! أو حتى في الملائكة، فقط الإنسان يختص بهذا الشيئ، فهذا الروح أو هذه الروح – تُذكَّر وتُؤنَّث – شيئ يختلف عن النفس التي نحيا بها حياة الجسم، هذا شيئ مُختلِف، النفس موجودة في النمل وفي النحل، هذه اسمها النفس، ولذلك الله لم يقل مرة إن التي تموت هي الروح، التي تموت هي النفس، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ ۩، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۩، ولا تُوجَد آية واحدة تقول إن التي تموت هي الروح، سوف تأتي لي بأحاديث، وسوف أقول لك ضع هذا على جنب، هذا من خلط الرواة، لأن الراوي لم يكن فاهماً أصلاً للفرق بين الروح والنفس، وانظر إلى كل العلماء تقريباً، فهم لا يُفرِّقون بينهما، ابن القيم عنده كتاب ضخم اسمه الروح، كله عن الروح، قدَّم فيه عدة حُجج سريعة جداً وغير مُتأنية لكي يقول إن الروح هي النفس والنفس هي الروح، وهذا الكلام غير صحيح، والأدلة كثيرة جداً، لعل هذا الموضوع فعلاً يحتاج إلى مُحاضَرة – إن شاء الله -، يُمكِن في السبت القادم أن نعقد مُحاضَرة حقيقية عن هذا الموضوع، ما الفرق الدقيق بين مفهوم الروح والنفس؟ ونأتي بالنصوص ونُحاكِمها – إن شاء الله – إلى بعضها على الأقل ضمن منظورنا، فهذا اختصاص يُؤكِّد أن الإنسان ذو نسب إلهي، قال لك وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، هذا يعني أن فينا شيئ من روح الله يا حبيبي.
(ملحوظة) ذكر أحد الحضور قول الله – تبارك وتعالى – وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ۩، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذه الروح الآن إذا فسَّرتها بأنها ليست هي النفس فيا حيهلاً، هذا صحيح، شيئ غير مفهوم، ولكن أنا أُرجِّح – كما قلت أكثر من مرة – مع مَن رجَّح أن الروح في هذه الآية هي القرآن الكريم، وليست هي الروح بمعنى النفس أو الــ Soul وما إلى ذلك، لا! وإنما القرآن الكريم، لماذا؟ لأن أولاً يُوجَد عندنا في سورة الشورى آية مُناظِرة لهذه الآية، نُسخة منها تماماً مع اختلاف فقط التعبير، الله يقول وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۩، هناك قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ۩، إذن روح من أمر وروح من أمر، نفس الشيئ! مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، وهناك قال وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ۩، هنا قال مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ۩، أي وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، وهناك ماذا قال؟ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ۩، نفس الشيئ! لماذا ذهلنا عن هذا؟ هذا هو! ولذلك هذه السورة – سورة الإسراء أو سورة بني إسرائيل – أكثر سورة ترددت فيها لفظة القرآن، أكثر سورة! هي أكثر سورة في القرآن الكريم وردت فيها هذه الكلمة.
على كل حال نرجع، هذا الفرق إذن بين هذا التصور للإنسان وبين التصور الآخر له، هذا هو الإنسان، ذو النسب الإلهي، الذي خُلِق على صورة الرحمن كما في صحيح مُسلِم، تخلَّقوا بأخلاق الرب، النبي يقول هذا، تخلَّقوا بأخلاق الله، حتى القرآن قال – دعوا هذا الحديث الضعيف الآن – مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ۩، هذا هو! ارجع إلى نسبك، تحقَّق بالربانية، وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ۩، أي إلهيين، يُقال هذا شخص إلهي، لكن الفكر المُسلِم العامي يشعر بالاشمئزاز والاستنكار كأنه أمام نُكر حقيقي – مثلاً – من بعض ألقاب الشيعة، يُقال روح الله الخميني أو آية الله الخميني، يقول كيف هو آية الله يا أخي؟ ما هذا؟ هذا شيئ بسيط، أنت أكبر من هذا، أنت لست آية الله بل أنت يُمكِن أن تكون ربانياً، أنت لست حُجة الله بل أنت يُمكِن أن تكون إلهياً، أنت نفسك يُمكِن أن تكون إلهياً، لكن نحن لا نفهم قدرنا بهذا المُستوى، بالعكس! نحن مُخفَّضون، يُوجَد فكر يُعلِّمنا أننا مجبورون مقهورون، أمام القدر مجبورون، أمام النظام والطاغوت مجبورون، أمام المُعلِّم والشيخ والمُدرِّس مجبورون، أمام البيئة والتقليد والأعراف مجبورون، أمام كل شيئ مجبورون، نحن لا شيئ، نحن مقهورون، نحن فئران، نموذج الفأر كما يُسمونه، أي The rat model، وهو في علم النفس للأسف، نحن هكذا أيضاً، هذا موديل – Model – الفأر، وليس لنا خيار، لكن هذا غير صحيح، في التدين الحقيقي الوضع مُختلِف تماماً – بفضل الله عز وجل -.
أين هذا؟ هذا بفضل ماذا؟ بفضل حفظ المقامات يا حبيبي ومعرفة أن هناك تراباً وأن هناك رب أرباب، لا إله إلا هو! بهذه المقامات تعرف وتحتفظ بهذه المرتبة، لكن نفى الإنسان في الغرب هنا – بعض الإنسان طبعاً – الله وقال لا، هذا كلام فارغ، وهذه الوضعية طبعاً، الاتجاه الوضعي أو الوضعاني بشكل عام قال هذا كلام فارغ، وهذا من مُخلَّفات العهود الغابرة، وهناك نظرية المراحل الثلاثة الخاصة بأوجست كونت Auguste Comte، قال انتهى الكلام هذا، هذا غير موجود، لا يُوجَد إله ولا دين، كله كلام فارغ وخُدعة، فما الذي حدث إذن؟ انتهى! الآن صار الإنسان هو الخالق، هو الذي يخلق وخلقاً حقيقياً، قال لك أنا الذي أخلق، أخلق التلفزيون Television، أخلق الروبوت Robot، أخلق الآلة، وأخلق المُخترَعات، أنا الذي أخلق، لكن أنا في الحقيقة لست مخلوقاً، أنا وُجِدت هكذا، صُدفة! لا يُوجَد خلق، لا تُوجَد خُطة، ولا يُوجَد إله، مُمتاز جداً! في هذه الحالة ما وقع تماماً أن الإنسان أسقط صورة مخلوقه هو على ذاته، خفَّض نفسه إلى صورة مخلوقه، وفعلاً يا جماعة أنا أستغرب من هذا، أنا عندي كتاب من سلسلة علمية، هذا الكتاب ألَّفه أطباء كبار وعلماء فاهمون بلا شك وعندهم أسلوب ساحر، لكن فيه عنوان عجيب، يقولون الإنسان كآلة، علماً بأن هذا طبعاً ستجد مثله مئات العناوين، كذا كآلة، كذا كآلة! هل تقول يا حبيبي الإنسان كآلة أو الآلة كإنسان؟ مَن أو ما أول شيئ؟ حتى زمانياً مَن الأسبق؟ الإنسان، وبعد ذلك حين خُلِقت الآلة هذه – وخاصة آلة الروبوت Robot هذه – هل خُلِقت على نموذج الإنسان أو العكس؟ طبعاً على نموذجه، أنت تُحاوِل أن تُسقِط صورتك عليها، تُحاوِل! ولن تنجح لأنك لا تزال غير فاهم لنفسك بالكامل، أنت تُسقِط صورة مُشوَّهة من ذاتك على هذا الحديد، تنجح نجاحاً نسبياً أيضاً وناقصاً، فلِم إذن تقول هذا؟ أنت – ما شاء الله – تقول لا، هذا معناه عمى أو غفلة، لكن هذه ليست غفلة، لا! هذه نتيجة فلسفية محض ومنطقية للانقلاب الحاصل، انقلاب كوني مُخيف، حين عُزِل الله أو أراد الإنسان أن يعزله، هكذا توهَّم أنه عزله وبقيَ أن نمحوا بقية ظلاله – أي الــ Schattierungen الخاصة به – وينتهي كل شيئ، جميل! صرت أنت المُتوحِّد كما ترى، تظن أنك مُتوحِّد، فللأسف أنت لا تُريد الآن أن تُسقِط صورة الله على نفسك، وإنما تُريد أن تُسقِط صورة مخلوقك – سُبحان الله – على نفسك، وهذا ما حصل.
لذلك نجمت ونشأت عندنا مناهج ونظريات ومدارس فعلاً – بالذات إذا تعلَّق الأمر بعلم النفس ومدارس علم النفس – جعلت الإنسان أحد نموذجين، هناك ما يُسمونه نموذج الآلة وهناك ما يُسمونه نموذج الفأر، هكذا! في علم النفس اسمهما هكذا، The rat and the machine models، أي نماذج الفأر والآلة، الإنسان إما فأر أو آلة، طبعاً النموذج الآلي نموذج ميكانيكي، هذا يتلاءم مع مَن؟ يتلاءم مع المدارس السلوكية التشريطية.
(ملحوظة) ذكرأحد الحضور سكينر Skinner، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم طبعاً، هناك سكينر Skinner وهؤلاء الجماعة، أحسنت، هذا Behaviorist، وهؤلاء عندهم أصول تشريطية طبعاً، هذا هو! هذا نموذج الآلة، وطبعاً هذا نفس الشيئ، كله هكذا، هذا الإنسان، ليس أكثر وليس أقل، هذا نموذج الآلة، وهناك نموذج الفأر، مُتعلِّق بمبدأ اللذة، وهنا يبرز فرويد Freud وجماعته، وداروين Darwin حتى في علم تطور الأحياء، في الأخير يُوجَد أصل واحد ويُوجَد نفس الشيئ، لكن هناك اختلاف في الدرجة وليس في النوع، الاختلاف فقط في الدرجة! فهذا الفأر لو ترقى سوف يصير في الأخير إنساناً، ولو أنت انحططت سوف تصير فأراً، وهذا غير مُمكِن، الإنسان شيئ مُختلِف عن هذا تماماً، وهذا ما يرفضه أصلاً وفصلاً علم النفس الإنساني، بالكامل مرفوض عندهم! وعندهم الإنسان أكرم من هذا، وأكثر عظمة من هذا، وليس بالدرجة، وإنما بالنوع، وهذا شيئ مُمتاز، هذا شيئ يسرنا، ونحن لن نكون طبعاً أكثر حذقاً وأكثر ذكاءً منهم في إثبات هذه المقولة، هذه فردانية الإنسان، أي الــ Uniqueness of Man، هم أحسن منا في هذا بصراحة، لأنهم مُتخصِّصون كما قلت، هناك آلاف الصفحات وآلاف كذا وكذا، فضلاً عن الأبحاث الإمبريقية أيضاً والتجريبية، وليس النظرية فقط.
ونعود إلى هذا الشيئ، فهذا ما ينبغي على العالم أن يحذر منه الحذر كله، إذن التخفيضية، التعميمية، أيضاً الشمولية، والأدلجة، لكن يقع هذا مرة ومرة للأسف، كما قلنا أحياناً بوعي وأحياناً بغير وعي، ونأتي إلى موضوعنا حتى لا نُطوِّل، هذه كلها مُقدِّمات للأسف، وأخذت وقتاً أيضاً، باختصار أنا وعدت أن أُوسِّع وأن أبسط الحديث عن العلاج بالمعنى الوجودي، هذا العلاج وهذا العلم بشكل عام – علم نفس المعنى – له ثلاثة مُرتكَزات، له ثلاثة مُرتكَزات كما وضَّح المُؤسِّس نفسه، أي فيكتور فرانكل Viktor Frankl، هو وضَّح هذا.
المُرتكَز الأول حرية الإرادة الإنسانية، ينطلق من أن الإنسان ليس كائناً محتوماً، ما معنى أنه ليس كائناً محتوماً؟ أي ليس كائناً محكوماً بالحتميات، لا! هو قال لكم أنا ضد الحتيمات، وسوف نُوضِّح طبعاً، هذا الكلام على إطلاقه ويقبل النقاش كثيراً، المُرتكَز الثاني إرادة المعنى، والمُرتكَز الثالث معنى الحياة، هذا هو كل علم نفس المعنى كما وضَّحه المُؤسِّس في أكثر من كتاب من كُتبه، ومن جميل صنيع هذا الرجل أنه وهو الذي كما قلت أفرغ أفكاره في ستة عشر مُجلَّداً ضخماً استطاع أن يُقدِّم للجماهير أيضاً – للمُتخصِّصين وغير المُتخصِّصين – معالم علمه الجديد في أكثر من كتاب في مُتناول الجميع، أي أحد يقدر على أن يقرأه في ثلاث ساعات أو ساعتين، ويقدر على أن يفهمه أيضاً، عبر ثلاثمائة صفحة أو أربعمائة صفحة أو مائتي وخمسين صفحة، هناك كُتب مُمتازة، لخَّص فيها النظرية هذه، وأتى ببعض التطبيقات من خلال أيضاً مُمارَسته الفعلية.
فنأتي إلى حرية الإرادة، طبعاً للأسف هذه المسألة عندها أبعادها اللاهوتية، أبعادها الفلسفية، وأبعادها النفسية، من ناحية نفسية يرى هذا الاتجاه أن الإنسان ككائن محدود لابد في نهاية المطاف أن يكون محكوماً إلى حد ما بماذا؟ بظروف، أي Conditions، هناك ظروف مُعيَّنة، أي هناك شروط، لأنك في النهاية كائن محدود، ما معنى أنك كائن محدود؟ ما معنى المحدودية؟ ما معنى محدودية الإنسان؟ محدودية القدرة على الفهم وعلى الفعل – أي على التصرف -، وبالتالي لن تستطيع أن تتجاوز كل الظروف وكل الحدود، إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ۩، أليس كذلك؟ مُستحيل، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ ۩، حين تتكلَّم سيكون من المُستحيل أن تُمارِس – مثلاً – الغناء في نفس الوقت، مُستحيل! إما أن تُغني وإما أن تتكلَّم، لكن أن تتكلَّم وأن تُغني في نفس الوقت فهذا مُستحيل، فأنت محدود في النهاية، وكما قلنا مرة في خُطبة هنا أنت محدود حتى مع أبسط المظاهر الحسية، هذا الكوب لا يقدر أي واحد منا – لا يقدر أي أحد منا مُطلَقاً – ولا يستطيع أن يراه موضوعياً، وذلك إذا أردنا بالموضوعية رؤية هذا الشيئ – أي رؤية هذا الكوب في هذه الحالة – بما يعكس واقعه الكامل التام – أي الـ Perfect -، فهذا مُستحيل، فأنا حين أراه أرى منه أجزاءً، وتخفى عني أجزاء أُخرى، أنت ترى أجزاءً أنا لا أراها، هذه الأجزاء التي في الأسفل لا يراها أحد، لابد أن يتدلى أحدهم لكي تنظر إليها، لو رأيت هذا الجُزء لن ترى الأجزاء الأُخرى، وهكذا! مُستحيل رؤية كل الأجزاء، ومهما أُوتيت لن تستطيع في نفس اللحظة أن ترى كل الأجزاء.
قد تقول لي لا، أنا سوف أُسلِّط كاميرات Cameras كما يفعلون في الأفلام، لكي أُصوِّره من فوق ومن تحت وما إلى ذلك، وسوف أعكس له عدة صور، لكن هذا ليس الكوب، هذه صور الكوب يا حبيبي، أنا أُريد الكوب نفسه، كما هو هكذا في الوحدة، وهذا الذي حدث في موضوع ماذا؟ العلم أيضاً مع الإنسان، يقول لك أحدهم أنا أدرس الــ Basement، آخر يقول لك أنا أدرس الــ Superego مثلاً، لكن هناك تمظهرات أكثر من التي تُوجَد في نظرية التحليل النفسي، على كل حال نحن لا نُوافِق، وفرانكل Frankl نفسه لا يُوافِق على أن الضمير هو الــ Superego، قال لك لا، الضمير شيئ مُختلِف، وهو أكبر من الــ Superego بالمُناسَبة، فرويد Freud ظن – وهذه حيلة طبعاً علمية، من المُمكِن أنه كان غير واعٍ بها، لم يكن واعياً بها – الآتي، ما دام تكلَّمت أنا عن الــ Superego وتصنيفاته فهذا يعني أنني قادر على أن أتكلَّم عن بعض المسائل الفنية والذائقية والدينية، فرانكل Frankl قال له لا، الــ Superego غير الضمير، وإذا عادلت بين الضمير والــ Superego فهذا سيعني أنك وقعت أيضاً في نزعة تخفيضية، الضمير أعلى بكثير وأكثر تركباً، وسوف نُوضِّح هذا – إن شاء الله – حين نتحدَّث عن الضمير.
على كل حال هذا إذن لأنك محدود، فأنت حتى محدود بإزاء كوب مثل هذا، هذا يفرض عليك إدراكك لمحدوديتك شئت أم أبيت، طبعاً أنت محدود في الزمان، محدود في المكان، وهذا ما كان يُسميه هنري برجسون Henri Bergson – الفيلسوف الإحيائي الكبير، وهو فرنسي يهودي – عُقدة الطبيعة، أنت موجود ضمن مقولات كانط Kant نفسها، أنت موجود ضمن مقولة الزمان والمكان ولا تستطيع أن تتخطاها، العقل النظري الآن يُدرِك أن هناك أبعاداً أُخرى للفضاء – مثلاً – وللمكان، لكن لا يستطيع الإنسان فعلياً أن يتفاعل وأن يعيش وأن يتموضع في أكثر هذه الأبعاد في نفس اللحظة، لا يستطيع! مُستحيل، هذا إلى الآن غير مُتاح للإنسان، فهو محدود!
ما معنى إذن أن الإنسان حر الإرادة؟ قال لك حر ككائن محدود، ولذلك لابد أن تُترجَم هذه الحرية ضمن مفاهيم المسؤولية في الأخير، هي حرية حتى مسؤولة، لأنها تعرف حدودها، وكل ما يعرف حدوده هو مسؤول، أما كل مَن يدّعي أنه لا حدود له فهو طبعاً لا يعترف بماذا؟ بمنطق المسؤولية، لذلك هل ربنا – عز وجل – يعترف فيما يختص بذاته العُليا – لا إله إلا هو – بالمسؤولية؟ لا، لأنه غير محدود، قال لك لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ۩، مَن يقدر على أن يسأله؟ يُطلَب منه ماذا يا حبيبي؟ مَن يُسأل هو المحدود والواعي بمحدوديته، ربنا غير محدود – لا إله إلا هو – وواعٍ بلا محدوديته، ويطلب منا أن نعي ماذا؟ أنه غير محدود، لذلك لا تُوجَد إمكانية لهذا، ولذلك كل ما يقع أحياناً من مُساءلة بعض الناس – هذا حتى في الميدان النفسي، أي في نفسه، في الداخل، في الباطن الجواني، مثل لماذا يا رب؟ ولِمَ لا يا رب؟ وما إلى ذلك – في الأخير يُعتبَر خُطوات عبثية، أي كلام فارغ، وهذه تُحطِّم الإنسان بالمُناسَبة، هذه تُسيء إلى الإنسان، وطبعاً نحن لا نقفل أو لا نُغلِق أو لا نُوصِد الأبواب أمام خُطوات الإنسان، أن يُحاوِل معرفة الحكمة.
بعد الخُطبة السابقة جاءتني أخت فاضلة، أخت مُتعلِّمة وصغيرة في السن، وقالت لي أنا لم أفهم جيداً، الذي أراه وأعتقد أنه الأفضل هو أن نُغلِق هذا الباب، فقلت لها لا يا أختي، بالعكس! خُطبة اليوم أصلاً كانت ضد هذا الشيئ، قالت لي نعم، أنا أفهم هذا، ولكن من تجربتي الشخصية وجدت أن هناك أشياء لن تُفهَم، قلت لها لا تُعممي، تجربتك الشخصية هذه، وقلت لها أنا سأُوضِّح لكِ الموضوع، قالت لي من تجربتي الشخصية وجدت أن هناك أشياء لن تُفهَم، قلت لها وأنا قلت هذا، لكن هذا لا يعني ألا نُحاوِل وألا نُقارِب، سدِّدوا وقاربوا، سدِّد وقارب، حاول! إذا واضح لك شيئ فيا حيهلاً، إذا لم يضح لك شيئ فأنت في نهاية المطاف تُسلِّم، أليس كذلك؟ للأسف!
الفلاسفة اللائيين – أي الملاحدة – يُسميهم محمد الطالبي التونسي النُفاة، وهذه ترجمة دقيقة منه حقيقةً، أخذها من أبي العلاء المعري، يُسميهم النُفاة، أبو العلاء المعري لا يُسمي الملاحدة – أي الــ Atheists هؤلاء – بالملاحدة، لأن كلمة ملاحدة ليس معناها أن هناك أُناساً لا يُؤمِنون بالله، بحسب القرآن الكريم الملاحدة أُناس يُؤمِنون بالله، ولكن يُحرِّفون معاني أسمائه وصفاته ويُشرِكون به، قال تعالى وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، أي هم يُؤمِنون، فهذه ترجمة غير دقيقة، أي أن يُقال الملاحدة، لا! المُلحِد هو المُنحرِف، أي كان في الطريق لكنه انحرف قليلاً، لكن النافي لا يعترف بالطريق أصلاً، هو لا يعترف بالطريق كله، فكيف تُسميه أنت مُلحِداً؟ ليس مُلحِداً، ولذلك هو سماه هكذا، لكن هذا مُصطلَح، والأحسن كما سماهم أبو العلاء المعري أن يُقال النُفاة، أي الــ Atheists هؤلاء هم هؤلاء النُفاة، هذا صحيح، هذا مذهب النفي، يقولون لك هذا غير موجود، لا إله، هذا صحيح، هؤلاء النُفاة.
اللهم صل على سيدنا محمد، هذه الفتاة قالت لي ما ذكرت، فقلت لها لا تُعمِّمي، وحدَّثتكم بعد ذلك عن هؤلاء الملاحدة أو النُفاة، للأسف الشديد يقتنص الواحد منهم بعض المظاهر، مثل البراكين، الزلازل، التسونامي Tsunami، الأطفال المُعذَّبين والمُشوَّهين، وما إلى ذلك، ثم يقول لك أين الحكمة؟ مثلما كان يفعل ابن الراوندي Ibn al-Rawandi، هذا المُلحِد الفارسي كان يجلس في الطريق، وذات مرة مر على رجل مُقعَد مجذوم يتكفَّف الناس، فقال لهم أين العدل؟ وأين الحكمة؟ لا عدل ولا حكمة، تفضَّلوا وانظروا، أين هذا؟ هذا من أسخف ما يكون! فقلت لها يا أختي أنا سأُعطيكِ مثالاً بسيطاً جداً جداً من حالتكِ وحالتي، قلت لها هل فهمتِ كل ما ورد في الخُطبة اليوم؟ قالت لا، فقلت لها أنا أعرف هذا، طبعاً بحسب سن هذه المسكينة وما إلى ذلك سيستحيل أن تفهم كل شيئ، فهمتِ الإطار العام للخُطبة والخط العام، هذا صحيح وهو شيئ جيد، يُمكِن أن تُناقِشي فيها، لكن هناك أشياء أُخرى لم يُمكِنكِ فهمها، هل يُخوِّل لكِ عدم فهمك لبعض الأجزاء من الخُطبة أو التعليقات أو الجُمل أو المُصطلَحات إطلاق القول بأن هذا الرجل مجنون – عني -؟ قالت لا، أعوذ بالله، قلت لها هذا هو، ما الذي يحصل عندك؟ قالت أنا أعترف بكل تواضع بأن هناك أشياء لم أفهمها، لكن قطعاً هي لها معنى، وقد يكون معنىً صحيحاً في ذاته، ولكن أنا لم أفهمها، القصور مني، قلت لها ما الذي أعطاكِ هذا التواضع؟ لم تفهم ولم تُجِب، فقلت لها أنا سأقول لكِ الذي أعطاكِ هذا التواضع هو أن مُجمَل كلامي يشي بماذا؟ بالعقل، أن هذا الإنسان عاقل، ليس مجنوناً الذي يتحدَّث بالكلام هذا، إنسان عاقل الذي تحدَّث بهذا الكلام، الآن ماذا لو بعض كلام هذا العاقل – أي الاستثناء الذي يُؤيِّد القاعدة – لم يُفهَم؟ المعنى أصبح واضحاً لكم إذن.
لو نظرنا في الكون وفي الحياة أو حتى في الإنسان سنجد أن تسعاً وتسعين في المائة من مظاهر الوجود كلها تصرخ بالحكمة، تصرخ بالنظام، وتصرخ بالدقة، وهذا واضح جداً جداً، ونُريد أن نُفرِّق – كما قلت في خُطبة سابقة – بين الشر الوجودي والشر الأخلاقي، الشر الوجودي هذا الذي يُنسَب – أستغفر الله العظيم – إلى الله، أي هذا من صُنع الله، مثلاً هناك البركان، الزلزال، والطوفان، هذا شر وجودي، لكن حتى تسونامي Tsunami الآن هل يُمكِن أن تقول لي عنه إنه شر وجودي؟ أنا أعتبر أنه شر مزيج، أليس كذلك؟ ثُقب الأوزون Ozone هذا شر مزيج، وفي الحقيقة هو لا يُعتبَر حتى من الشر المزيج، لا! هذا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ۩، أليس كذلك؟ تلوث البيئة وهذه المشاكل بسببنا نحن، والطبيعة – كما قال أحد فلاسفة الأركيولوجيا Archaeology الفرنسيين – تُدافِع عن نفسها، قال لك الطبيعة تُدافِع عن نفسها، وهي لكي تُدافِع عن نفسها تُعطيك إنذارات، الآن كل يوم والثاني يحدث عندك تسونامي Tsunami مُصغَّر، كل يوم والثاني! كأنه يقول لك قف Stop، كأنه يقول لك Enough is enough، قف وإلا سوف تُدمِّر نفسك أيها الإنسان الأحمق، لكنه لا يُريد أن يقف، وهذا يعني أنه سوف يُدمَّر إذن، أتعتب على القدر؟ فليس ضرورياً أن تضع كل شيئ أيضاً في هذا السياق، لكن هناك أشياء عبر التاريخ وحتى مع الإنسان البدائي كانت من صنع الله، أين الحكمة فيها؟ غير واضحة طبعاً، صعب أن تقول لي هذه الحكمة.
طبعاً بالنسبة لللاهوتيين المساكين – سواء كان اللاهوتي مسيحياً أو يهودياً أو مُسلِماً – دائماً الأمر محسوم، وباستمرار يقولون لك هذا عقاب يا أخي، وطبعاً يفرح المُسلِم إذا جاء هذا الزلزال أو البركان في بلد غير مُسلِمة، يقول لك انظر، هذا عقاب يا أخي، ولكن هذا طبعاً لابد أن يُنسَج على فمه بنسيج الإفحام أو بلثام الإفحام، حين ينعكس الوضع، طبعاً السُني يقول هناك الضمة الإيرانية، لأن هؤلاء الشيعة زنادقة وكفّار، أرأيت؟ لو كانوا مُسلِمين لما حدث لهم هذا، لكن ماذا عن الذي أصاب الجزائر يا حبيبي؟ يقول لك لأنهم يبيعون الخمر وما إلى ذلك، فماذا لو أصاب في الأخير أُناساً من أحسن ما يكون؟ لو كانوا على طريقتك أنت وحدث لهم ما حدث ماذا سوف تفعل؟ هذا كلام فارغ، المسألة ليست هكذا، المسألة أكبر من هذا، ولذلك هذه النماذج الجُزيئية أو الجُزئية في التفسير – يُسمونها الذرية، يُسميها هاملتون جب Hamilton Gibb التفسير الذري والنظرة الذرية، أي التجزيئية – لا تصلح، كيف تتعامل أنت مع حكمة الله المُطلَقة بهذه التجزيئية الحقيرة؟ لا يجوز يا إخواني، لا يجوز! لكن للأسف هذا ما يحصل.
سلِّم، هنا يأتي ماذا؟ دور الإيمان، اسمه الإيمان، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ۩، فأنا أُسلِّم، لكن تسليمي هذا لن يعني إلغاء العقل، ولن يعني أيضاً عدمية الفكر، بالعكس! لأن إذا كانت أكثر المظاهر تشي بالحكمة وبعضها غير مفهوم الحكمة فهذا لن يُخوِّلك فُرصة أو حق أو صلاحية أن تقول إن الإله غير حكيم، أعوذ بالله يا أخي، هذا يعني أنك ستقول مثل هذا حين تقرأ حتى لكانط Kant، أنا ذات مرة التقيت بعالم مصري كبير، وهو مُفكِّر وقد حدَّثتكم عنه، ألَّف كتاباً في حوالي أربعة آلاف وأربعمائة وكذا صفحة، وهذا الرجل إلى الآن تقريباً أنا أعتبره أكبر مَن التقيت بهم ثقافةً في حياتي، شيئ عجيب، موسوعة الرجل، شيئ عجيب! قارئ في الأدب، في الشعر، في الفلسفة، وفي التاريخ، ويتكلَّم بشكل مُنضبِط، رجل فيه كفاءة، ليل نهار في القراءة والكتابة، شيئ عجيب الرجل هذا، المُهِم دار كلام وهو انبسط جداً بسبب الناحية الفلسفية، دار كلام عن كانط Kant ونظرية كانط Kant، تناقشت معه في النظرية، فقال لي والله يا أخي أنا – سُبحان الله – قرأتها ولم أفهم منه شيئاً، حاولت أن أفهم كانط Kant لكنني لم أقدر على هذا بالمرة، فقلت له لست وحدك مَن هو هكذا، هناك رجل حتى من أكبر أصدقاء كانط Kant وهو فيلسوف بعث له كتابه كهدية فأعاده إليه بعد خمسة أيام مع معذرة جميلة جداً جداً، قال له مع احترامي وتقديري لهذه الهدية المُمتازة – طبعاً كانط Kant مكث خمس عشرة سنة وهو يُؤلِّف نقد العقل المحض، خمس عشرة سنة وهو يُؤلِّفه – أنا خشيت على عقلي إن أنا واصلت قراءة هذا الكتاب، مخي سوف يُصاب بسوء – قال له – بسببه، لم أفهم شيئاً، وسوف ينفجر مخي.
أحياناً يحدث هذا، لكن انتبهوا، كانط Kant عاقل حقيقةً، هو فيلسوف عاقل، وكلامه فعلاً لابد أن يُفهَم في نهاية المطاف، وهو مُمكِن أن يُفهَم، مُمكِن المفهومية! لكن بصراحة أحياناً كلام رجل كهايدجر Heidegger الألماني – مثلاً – أو هيجل Hegel حتى لا يُفهَم يا أخي، حتى هيجل Hegel أحياناً كلامه لا يُفهَم، وأنت تُحاوِل أن تفهم لكنك لا تفهم، أنت تُكرِّر الكلام الذي ادّعى هؤلاء أنهم فهموه، تُكرِّره من غير فهم ومن غير حتى قناعة، ولذلك أنا أُعجِبت بصراحة بما قرأته، ماذا يعني هذا؟ أحياناً هذا يُشكِّل تحدياً لذكائك، تقول لي إما أنا مجنون وأحمق وإما الرجل مجنون وأحمق، لكن هل هايدجر Heidegger أحمق وهم يُسمونه عميد فلاسفة القرن العشرين؟ نعم، لماذا لا يكون أحمق يا حبيبي؟ لماذا لا تكون كل هذه الحكاية (أونطة) كما يُقال؟ لأن هناك شيئاً غير مفهوم بصراحة، ما الكلام الفارغ هذا؟ كلام ليس له معنى بصراحة، هذه سخافات كلها، والله كلام سخيف، وهو مُعقَّد جداً جداً، لكننا ارتحنا بعد ذلك لما حدث.
هناك تجربة قام بها علماء، هي تجربة بريئة جداً، وهم لم يتوقَّعوا ما حصل، التجربة كانت تهدف إلى شيئ آخر، أتوا بنصوص لهايدجر Heidegger وعرضوها على أُناس، على أناس طبعاً من المُثقَّفين والجامعيين، ليسوا فلاسفة لكنهم من الجامعيين، وأتوا بنصوص لشخص Schizophrenic، أي مفصوم، شخص مفصوم، أي مجنون ومذهون، ثم قاموا بعرض هذه النصوص على اثنين، فللأسف النسبة الساحقة – كما قالوا – نسبت نصاً من نصوص هايدجر Heidegger إلى المفصوم، قالوا هذا النص خاص بالمجنون، ونسبت نصاً من نصوص المفصوم إلى هايدجر Heidegger، كان نص المجنون أكثر معقوليةً من نص هايدجر Heidegger عند هؤلاء الناس من المُثقَّفين، أنا التقطت هذا الشيئ، وقلت نعم، هذا يعني أن هذا موجود، لذا قد أُحبَط حين أقرأ للرجل هذا، ما الكلام هذا يا أخي؟ هذا ليس لأنني أهبل أو عقلي قاصر، يُوجَد شيئ غير طبيعي في القصة كلها، على كل حال هذه قصة ثانية.
بعد ذلك قرأت – بفضل الله – لأحد مُترجِمي هايدجر Heidegger إلى الإنجليزية، وهو أحد تَلاميذه الشخصيين، هو إنجليزي وتتلمذ على يديه لفترة طويلة، قال أنا استمعت له واستمعت له عدة مرات ثم أدركت أن الرجل لا يعني ما يقول، وطبعاً هو مُستاء من موقفه الأيديولوجي للأسف ومن تأييده للنازية، معروف انخراطه في الحزب النازي للأسف طبعاً، وأخذ وظائف في الجامعة بسبب أنه انخرط في هذا، وهذه كانت وظائف عالية، لكن هذا ما حصل، المُهِم أن موقفه للأسف كان في مُنتهى السوء من الناحية السياسية وما إلى ذلك، وللأسف أفكاره كانت سيئة وعنصرية، لكن هذا الإنجليزي ماذا قال؟ قال أنا استمعت لخطابه أمام الــ SS وأمام غيرهم، أي لخطاب هايدجر Heidegger، قال أنا أدركت أن الرجل لا يعني ما يقول، قال هذا كلام ليس له معنى، مُجرَّد حذلقة لفظية، ولعب بغموض الألفاظ، للأسف يُوحي للبُسطاء من الناس أنه يُخفي فكراً عميقاً جداً، هناك أُناس هكذا يلعبون بالشيئ هذا.
الدكتور المسيري سألني عن ثلاث شخصيات، ولن أذكر هذه الشخصيات طبعاً، احتراماً لمقامات الناس، قال لي ما رأيك في الدكتور فلان؟ فقلت له الرجل بلا شك مُثقَّف وعالم وقارئ وفاهم، فاهم الرجل، ليس أنه يتحذلق، لا! فاهم، حقيقةً فاهم، ولكن جنى على نفسه وعلى تراثه – وهو تراث ما شاء الله كبير – بكلاسيكية اللُغة التي يُقدِّسها، أتتكلَّم بأسلوب الجاحظ وأبي حيان التوحيدي في القرن الحادي والعشرين؟ وهذا غير مُناسِب لموضوعاتك، أنت تتكلَّم في المنطق الحديث وفي موضوعات بعضها غربي بالكامل بصراحة وفي إطار أحياناً غربي أيضاً بلُغة أبي حيان! والله أنت ضيَّعت نفسك، قال لي تماماً هذا ما حصل عندي، قال لي ما رأيك في أبي فلان الفلاني؟ فقلت له هذا لا أفهمه، وأنا أظن أنه غير فاهم، لأنه غير قابل لأن يُفهَم، أي هذا الرجل.
حين توصَّلت إلى المسيري كان يُريد مني أن أكتب مقالة في الحلولية، وظل المسيري لثلاث سنوات يطلب مني أن أكتب الشيئ هذا في موسوعته، لكنني رفضت لأسباب خاصة بي، المُهِم قال لي أنا لم أقدر على أن أفهمه، لم أفهم منه شيئاً، قلت له اطمئن، هذا لأنه غير مفهوم، حتى الدكتور البوطي حين جاء هنا سألني في الفندق عنه، قال لي يا شيخ هل هذا الرجل تفهمه؟ فقلت له لا، فقال لي الحمد لله، أنا الآن اطمئننت على نفسي، قال لي حاولت – لأن من المطلوب مني أن أرد عليه، وهو يتكلَّم عن الشريعة أيضاً – ولم أفهم شيئاً، فقلت له ولن تفهم، هل تعرفون ما العلة؟ العلة هنا في نظري بصراحة مع احترامي لهذا الرجل – وهذا المسكين يُحاوِل أن يجتهد، ويُتقِن لُغات ويُحاوِل أن يقرأ وأن يُترجِم – أنه هو نفسه غير فاهم، غير قادر على أن يفهم هذا المسكين، ولذلك هو غير قادر على أن يُفهِم غيره، هذه مُشكِلتك أنت يا حبيي، كانط Kant أقل صعوبةً منك، وأنا أقدر على أن أفهمه، بعد مرة أو مرتين تفهمه، أي كانط Kant، عادي! حين تُتِم كتابه تفهمه أكثر، لكن أنت لا أقدر على أن أفهمك لا من قريب ولا من بعيد، تُوجَد مُشكِلة هنا، تُوجَد مُشكِلة! وهذه مُشكِلة هايدجر Heidegger وأمثال هايدجر Heidegger بالمُناسَبة، وهايدجر Heidegger وعد بشيئ لكنه حتى لم يفعله، لكنني لن أتكلَّم عنه كثيراً.
نرجع، اللهم صل على سيدنا محمد، إذن حرية الإنسان، حرية الإرادة، فالإنسان حر، لكن ككائن محدود، ولذلك هذه الحرية تُترجَم بمفاهيم المسئولية، أعتقد هذه الصيغة مُبسَّطة وواضحة وجميلة، تُخرِجنا من تناقض ماذا؟ الحرية العابثة أو الجبرية المحتومة – الــ Determinist، أي يكون الإنسان محتوماً بأشياء مُعيَّنة -، طبعاً كثير من الفلسفات المادية بالمُناسَبة – وهي طبعاً لها جانبها النافي أو الإلحادي – للأسف لا تُؤيِّد الحرية الإنسانية، بالعكس! تُؤكِّد ما هو عكسها، مثل فلسفة بوختر Buchner، تُؤكِّد الجبرية والقهرية بطريقة أو بأُخرى، وهذا مُمتاز، يتناسب حتى مع النُظم الشمولية، التي تتأسَّس على فلسفات مادية، مُمتاز! فتترك الهامش ضيقاً جداً جداً لحرية الإنسان.
فبالنسبة لعلم نفس المعنى أول ما انطلق – طبعاً لن نتكلَّم عن الجوانب الفلسفية للموضوع هذا، الموضوع طويل جداً ومُعقَّد ونحن لا نُريده، وعلى كلٍ هناك الحرية – انطلق من أن الإنسان عنده حرية ككائن محدود، الآن تُوجَد ظروف تُحيط بي، هل يعني هذا – كوني محكوماً بالظروف – أن أُسلِّم دائماً للظروف؟ لا، لأن هناك من الظروف ما يُمكِن تخطيه، وهناك من الأحداث والأقدار ما لا يُمكِن تخطيه، فعلم العلاج بالمعنى وعلم نفس المعنى يُقرِّر بوضوح أيضاً مرة أُخرى أن كل ما يُمكِن تخطيه حين لا يتم تخطيه يُساهِم في اختلال الإنسان نفسياً، تمرض وتُعصَب، لا تقل لي لا لأن هذا كذا وكذا، لا! لكن كل ما لا يُمكِن تخطيه يُساهِم نفس المُساهَمة في تعصيبك وفي إمراضك بشرط واحد، إذا ماذا؟ إذا استسلمت له وخنعت له، دون أن تُحاوِل فلسفته، ما معنى دون أن تُحاوِل فلسفته؟ دون أن تُحاوِل تبريره، ما معنى دون أن تُحاوِل تبريره؟ دون أن تُحاوِل نزع معنى عليه، اجعل له معنى، اجعل له معنى فقد يستحيل ماذا؟ إنجازاً، كموت الابن الوحيد – أي Der einzige Sohn – مثلاً، علماً بأنني أضرب به المثل كثيراً، لأن هذه مأساة كبيرة كما أراها بصراحة، أكبر من موت زوج أو زوجة أو أخت وما إلى ذلك، أب انتظر – مثلاً – ولداً عشرين أو ثلاثين سنة، بعد ذلك جاءه في أعقاب عمره أو في آخر عمره مع غروب شمس حياته، وعاش الولد أربع أو خمس أو ست سنوات، ملأ عليه الدنيا وكان ضوء عينيه كما يُقال، ثم مات الولد، فجأة مات – سُبحان الله – بمرض لم يُعرَف له تشخيص ولا علاج مثلاً، مثلاً نفترض هذا، وهذا يحدث، يحدث كثيراً! وهنا يُوجَد شيئ مُؤلِم، طبعاً هذا يُمثِّل تحدياً أيضاً للعقل اللاهوتي نفسه، لماذا؟ أين الرحمة الإلهية؟ أين الكرم؟ ماذا ينقص الله؟ وما إلى ذلك، الكلام هذا معروف، وقد أجبنا عنه، بالجواب العام طبعاً، وليس بالجواب الخاص في هذه الحالة لأنه صعب، ولكن في مسألة علم النفس الآن – علم نفس المعنى – قال لك هذا لا يُمكِن تخطيه.
طبعاً أنا قرأت كتاباً قبل فترة بسيطة أتى به أبو بلال – بارك الله فيه -، اسمه السعادة والتعليم، وهو كتاب رائع، كتاب رائع لمُربية أمريكية كبيرة، مكثت خمسين سنة في التربية، كتاب رائع وفيه مفاهيم جديدة وثورية، لكن فيه مفاهيم في مُنتهى البساطة للأسف والسذاجة، وهي تُعارِض تقريباً كُلياً اتجاه فرانكل Frankl، وهي طبعاً ذكرت فرانكل Frankl وعارضته، لكن أنا أدركت أنها لم تفهم الرجل، لم تقرأه جيداً ولم تفهمه، لماذا؟ كأنها لا تُريد أن تُسلِّم أن الحياة تدفع بمُعاناة، تدفع بفقد، تدفع بغضب، تدفع بإثم أو بخطيئة، وتدفع بالموت، وهو التناهي الحتمي لحياة الإنسان، كيف؟ قالت لا، أنا لا أُريد هذا، هي لا تُريد أن تُسلِّم بالأشياء هذه، لكن فرانكل Frankl كان واعياً، كان واعياً تماماً، وقال لك أنا أُؤمِن وأُصِر وأدعو إلى أن يتخطى الإنسان كل مُعاناة إذا أمكن، تصوَّر! لكن يختلف الأمر إذا لم يُمكِن هذا، كما قلت أنا في خُطبة قبل أسابيع – سُبحان الله – نحن لسنا دُعاة إلى أن يُخطئ ماذا؟ الناس، بالعكس! بما فيهم أبناؤنا وبناتنا، نحن لا نُريد أن نُحبِّب الناس في الخطأ والخطيئة، ليس هذا هو، ولكن لا نُريد لمَن أخطأ خطأً أو خطيئةً أن يُهشِّشه وأن يُدمِّره الخطأ، بالعكس يا حبيبي، بالعكس! حين أخطأ هل أخطأ وانتهى؟ نُريد أن نُفهِمه أن هذا الخطأ الآن امتياز، الآن أصبح امتيازاً، يُمكِن أن تتعلَّم منه، يُمكِن أن تتكامل، يُمكِن أن تنضج، يُمكِن أن يُشكِّل خبرة لك إيجابية من جهة مُعيَّنة، والله قال هذا، والرسول قال لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم آخرين يُذنِبون فيستغفرون فيغفر لهم، فلماذا الله يُريد هذا؟ هو يُريد هذا طبعاً لأنه يعرف أنك لا تتكامل إلا عبر الصح وعبر الخطأ الواقع عرضاً وعبر الصح الناجم أو الوالد من بطن الخطأ، وهذا صح مُختلِف بالمُناسَبة، وصح لا يُنسى هذا، هذا الصح لا يُنسى أبداً، وله قيمته.
ووفقاً لفرانكل Frankl نفسه – هذا سنذكره فيما بعد – من ضمن القيم التي تُعطي معنى للحياة – أي الــ Values أو الــ Werte – القيم الاختبارية أو الخبراتية كما يُسميها، وهي التي تستند إلى خبرتك الذاتية سواء في الصح أو في الغلط، وهذه مُهِمة جداً جداً، طبعاً هناك القيم الاتجاهاتية وهناك القيم الابتكارية، وسنرجع إلى هذا الثالوث بعد ذلك، هو عنده ثلاثة ثواليث في نظرياته.
فللأسف هي تُساجِل وما إلى ذلك، لكن هي تفعل هذا ببساطة وبسذاجة، في حين أن الرجل كان فاهماً تماماً ما يقول، كل ما يُمكِن تخطيه اخلع عليه معنى، إذا خلعت عليه معنى فهذا سيكون ضرباً نسبياً من التبرير، تصوَّر! يُحيل هذا الشيئ أحياناً إلى شبه إنجاز، يُعطيك دفعة للاستمرار، دفعة حتى لتخصيب حياتك، مُمكِن! هذا مُمكِن، فأنت تقول لي لا، أنا غير قادر، لو قلت لي أنا غير قادر أنت ستدفع الثمن يا حبيبي، انتهيت! مُشكِلتك هذه وستدفع الثمن.
من ضمن الكلمات التي قلتها مرة الكلمة الآتية، في يوم من الأيام كان هناك الطاعون – أي الــ Plague، الموت الأسود هذا – ولم يكن له طبعاً علاج، طبعاً وحصد أرواح الملايين في بعض القرون الوسطى، ذات مرة حصد أربعين في المائة من سكان أوروبا، شيئ عجيب، أي ملايين ذهبت ضحيته، شيئ رهيب، وطبعاً كانت تُطرَح أيضاً مُشكِلة الخير والشر وحكمة الله، وقالوا لماذا وما إلى ذلك، حاصد، منجل! كان يُصوَّر دائماً بــ Skelett أو Skeleton ومعه المنجل هذا، يحصد الأرواح كلها، يقتل البهائم والبشر، الكل! فما أريد أن أقوله مهما اختلف – في تلك الأيام طبعاً وليس الآن – منظورنا إلى هذا المرض أو إلى هذا الطاعون – اسمه الطاعون، سُبحان الله – لم يكن هو ليختلف، هذا صحيح!
بمعنى أن اللاهوتي كان ينظر إليه على أنه غضب من الرب، يقول هناك مُخالَفات له، هناك مُخالَفات وهناك مساوئ كثيرة تقع وهناك خطايا، وهذا انتقام عادل، هكذا كان يُعمِّم هو طبعاً، وطبعاً لو سألته عن حالات جُزئية كثيرة جداً جداً وهي بالملايين أيضاً لن يُجيب، هل حتى الأطفال هؤلاء أخطأوا؟ الفكر الإسلامي المُهترئ طبعاً قديماً وحديثاً – أي المُهترئ منه، وليس أنه فكر مُهترئ، أعوذ بالله، أعني الفكر المُهترئ في الفكر الإسلامي – للأسف برَّرها قديماً، ونحن تربينا على الفكر هذا، يُقال لك نعم، لعنة الله تبلغ سابع ولد، ما الطريقة هذه؟ ما الكلام الفارغ هذا؟ وهذا حديث يُنسَب إلى النبي كما يُقال لك، ينسبون هذا إلى النبي، وهذا كلام فارغ، وأنا قلت هذا، لو وُضِع أيام بني أُمية سيكون من وضع بني أُمية، أعني أذناب بني أُمية، لكي يُفهِموا الناس – على طريقة طواغيت العصر حتى – الآتي، حين يُريد أحدهم أن يغلط سنأخذه ونأخذ بجريرته الأقرباء إلى الدرجة الرابعة، وهذا حتى عدل إلهي، الله يتصرَّف على هذا النحو، وهذا الكلام غير صحيح، وصريح القرآن – لا نقدر على أن نقول صحيحه، القرآن كله صحيح، وإنما صريح القرآن كله في عشرات المواضع – يُؤكِّد العكس، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، أليس كذلك؟ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۩.
ولذلك في القرآن الكريم ابن نوح كافر، في النار! أليس كذلك؟ أبو إبراهيم أو عمه في النار، ذهب إلى ستين داهية، زوجة فرعون في الجنة، ولو كان له ابن لدخل في الجنة إذا آمن، مُؤمِن آل فرعون – اسمه من آل فرعون، يبدو أنه كان في الأسرة الحاكمة، هكذا اسمه! اسمه مُؤمِن آل فرعون – في الجنة، إذن لا تُوجَد علاقة، لو فرعون له ابن صُلبي لدخل في الجنة إذا آمن، أليس كذلك؟ وما أحلى كلمة الشيخ محمد الغزّالي! بتعبيره اللطيف والبليغ كان يقول عند الله ابن البغي وابن النبي لا تفاوت بينهما إلا بالتقوى، حتى ابن الزنا لا يُساء إليه، ما ذنبه هذا؟ لكن هناك مَن قال لك لا، يُوجَد حديث شر الثلاثة، أعوذ بالله، الشر يمثل في الذي كذب على رسول الله الكلام هذا، هناك مَن قال إن النبي قال عن ابن الزنا هو شر الثلاثة، ابن حزم قال ما هذا الكلام العبثي؟ ابن حزم قال هذا كلام فارغ، قال وُجِد منهم أئمة في الدين، وقال لن أذكر أسماءهم، عندنا في الدين أئمة كانوا أولاد زنا، وهم أئمة في الدين! الناس يُقبِّلون أيديهم وأرجلهم، أُناس أفاضل، من الأولياء الصالحين، هذا الدين الصحيح، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، لا تقل لي لعنة الله تبلغ ولد الولد أو سابع ولد كما قالوا، ما الكلام الفارغ هذا؟ كلام فارغ هذا، بركة الله – نعم – من المُمكِن أن تبلغ سابع ولد، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ۩، هذا من رحمة الله، هو حر، كرم هذا غير مشروط، لكن بالنسبة للعقاب وما إلى ذلك هذا لا يحدث، عدل مُطلَق، لا إله إلا هو!
قد يقول قائل هذا ليس صحيحاً، أي ما اعترضت عليه من دعوى أن لعنة الله – عز وجل – أو سخطه يبلغ ذرية الذرية، لقوله – تبارك وتعالى – على لسان نوح رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ۩ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ۩، وكانت هذه الحقيقة، وطبعاً هذا الاعتراض الجواب عنه سهل جداً.
أولاً ماذا تُريد أن تفهم من هذه الآية؟ هل تُريد أن تستخلص منها قانوناً؟ أي هل تُريد أن تُعمِّم؟ ولكي يكون الكلام صحيحاً لابد أن يكون عاماً، لكي يكون الكلام صحيحاً كقانون لابد أن يكون عاماً! فهذا مُستحيل، القرآن نفسه ضد هذا الشيئ، الواقع والوقائع كلها تدحض هذا الشيئ، كثير جداً جداً من المُؤمِنين هم أبناء لملاحدة وكفّار ومُشرِكين، وهذا موجود في عالم الأنبياء وفي غير عهود الأنبياء، أليس كذلك؟ إذن هذا ليس قانوناً، لا في التاريخ، لا في الواقع، ولا في القرآن الكريم، هذا غير صحيح.
إذن ماذا تقول هذه الآية؟ قد استجاب الله لدعاء نوح، وفعلاً أخذهم بالطوفان، فماذا تقول؟ الآية لا تقول ما ذكرت، الآية تقول شيئاً آخر مُختلِفاً تماماً، تتحدَّث عن حالة أسميناها مرة في خُطبة قديمة حالة استعصاء ثقافي، هذه حالة استعصاء ثقافي! هناك أجيال مردت على الاستعصاء، ثم إن نوح لم يقل هذا ولم يُطلِق الحُكم بشكل عام، هو أطلق الحُكم فعلاً ولم يستثن لكنه لم يُعمِّم، أطلق الحُكم ولم يُعمِّم، وهناك فرق كبير جداً بين المُطلَق وبين العام، هو لم يُعمِّم، هو تحدَّث عن قومه، وهو مُرسَل أيضاً إلى قومه، لم يُرسَل إلى العالمين، وإنما هو مُرسَل إلى قومه، أطلق هذا الشيئ فعلاً من كل قيد بعد تجربة حوالي ألف سنة في الدعوة، ألف سنة ولا فائدة! أجيال من الكفّار، كفّار أبناء كفّار أبناء كفّار ولا فائدة، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ۩، ويبدو أن هذا العدد تجمَّد كما يُقال، لا يُوجَد غيره، فالآية تتحدَّث عن حالة استعصاء ثقافي، طبعاً نوح حاول أن يُوجِّهها وأن يُفكِّكها، لكنه لم يقدر، أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ۩، فهذا موضوع مُختلِف تماماً، ليس له علاقة بما نقول، وإلا أنت مُضطَر أن تقول إن الكفر والإيمان شيئ يُورَث في الجينات Genes، وهذا كلام فارغ، هذا قال به الشيوعيون أيام الاتحاد السوفيتي، قالوا هذه أشياء مُكتسَبة بالثقافة والتعليم، ولابد أن تنتقل عبر الجينات Genes، وهذا كلام فارغ، هذا ليس صحيحاً.
ثم إن نوحاً – عليه السلام – ألا يعرف – مثلاً – أن كل مولود يُولَد على الفطرة؟ يعرف هذا تماماً، نوح نبي، يعرف هذه الحقيقة، ستقول لي لكنه قال وَلا يَلِدُوا ۩، لكن هذه بلاغة عربية طبعاً، هو لن يقول ولا يلدوا إلا أُناساً حين يُدرِكون ويُراهِقون البلوغ سيُصبِحون كافرين فاجرين، هذا كلام فارغ، لا يقوله بليغ، فهذا باعتبار ما سيأتي، يُسمونه في البلاغة العربية باعتبار ماذا؟ باعتبار ما سيأتي، باعتبار ما سيؤول، أليس كذلك؟ وهناك باعتبار ما كان، فهذا باعتبار ما سيكون، أي هذا حين يُدرِك البلوغ أو يُراهِقه سيكون إما كذا وإما كذا، لكن ليس الطفل طبعاً، الطفل يخرج من بطن أمه وهو مُؤمِن، على الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم، فالآية تتحدَّث عن قانون مُختلِف.
وفعلاً أحياناً الأمم تُصاب باستعصاء ثقافي، وهذا معروف، طبعاً قد يُصاب به جيل، وهذا مُشاهَد الآن، من المُمكِن أن يُصاب جيل مُعيَّن بهذا، والحالة لا تقتصر فقط على الاستعصاء الثقافي، فهناك الاستعصاء السياسي والاجتماعي وغيرهما، ولذلك يكون محكوماً على هذا الجيل بالدثور، هذا في العادة لن يستمر، سينتهي كل شيئ، وفعلاً هذا ما يحدث، والقرآن تحدَّث عن هذا الموضوع في قضية التيه، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۩، ما معناها إذن هذه؟ هذه معناها – نفس الشيئ – أن هذا جيل أُصيب بحالة استعصاء ليس لها علاج، فلابد أن يبيد الله هذا الجيل، لابد أن ينتهي، من المُمكِن أن يُوجَد الأمل في أجيال أُخرى، لكن هذا الجيل انتهى، لأن هناك حالة استعصاء، مثلما تُوجَد حالة استعصاء مرضية، أليس كذلك؟ يُسمونها ميؤوس منها، هذه حالة ميؤوس منها، يحدث هذا! يحدث مع الأجيال، ويحدث مع الأفراد، هناك أفراد على هذا النحو بالمُناسَبة، هناك أفراد هكذا، فأي شخص – مثلاً – سيكوباتي Psychopath هو ميؤوس منه، ابتعد عنه، ابتعد عنه لأن من الصعب بل من المُستحيل أن يفهم ما نقول، لأن عامل الرقابة الداخلية – سنتحدَّث عنه بعد قليل – غير موجود، عامل الرقابة الداخلية أو الضمير غير موجود، كيف تُصلِحه هذا؟ يستند على أي شيئ؟ على هواه.
على كل حال فهذا ليس اعتراضاً على ما كنا بصدده – إن شاء الله -، المُهِم هذا ما يحدث، فلو سألت هذا اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطى وقلت له ما ذنب هؤلاء الملايين من الأطفال؟ هؤلاء ماتوا كلهم بالطاعون، فهل هؤلاء أيضاً أخطأوا؟ سيقول لك هذا لأن الرحمة تخصص والبلاء عام، سيقول لك هذا، ما هذا الكلام المُخيف؟ هذا كلام مُخيف، لا! ليس هكذا، قل هناك حكمة أنا لست قادراً على أن أفهمها ثم اسكت، هذا أحسن لك، انتهى!
فنرجع، فبالنسبة للاهوتي هذا غضب من الرب، بالنسبة للطبيب الذي كان يُنظَر إليه على أنه مُهرطِق ومُجدِّف هو ليس كذلك، هو مرض من الأمراض، ولكن لا زلنا نجهل ماذا؟ أسبابه وجرثومته أو علاجها على الأقل، نجهل تماماً علاج جرثومته، أي الأصل الخاص به كما يُسمونه، الجرثومة لا تعني الميكروب، وإنما تعني الأصل، أصل الشيئ.
بالنسبة – مثلاً – لمُلحِد العصور الوسطى الحقيقي – المُلحِد الحقيقي وليس الطبيب المُلحِد – كيف كان ينظر إليها؟ تكئة ومُستنَد مُمتاز لضرب مفاهيم الإيمان، ألا ترون ما يحدث؟ يقول لهم، لو كان هناك رب لما حدث هذا، أين هو هنا؟ مثل برتراند راسل Bertrand Russell الذي علَّقنا عليه بالأمس، نفس الشيئ! أين هو؟ يقول لهم، أين العناية؟ أين الرحمة؟ وأين الكرم؟ هذا كله عبث، وهذا يعني أن الكون كله عبثي، فإذن لا يُوجَد إله، وانتهى كل شيئ!
هل هذه المناظير – وقدَّموا هم لكم مناظير أُخرى – المُختلِفة الثلاثة كانت تُغيِّر أو تجعل هذا المرض يُغيِّر من طبيعته – مثلاً -؟ لا، لا تُغيِّر ولا يحدث شيئ، لكن هذه المناظير أو المنظورات من شأنها أن تُمارِس تغييرها فينا وعلينا نحن، فرق كبير بين مَن ينظر إلى الطاعون على أنه ضربة قدر عقاباً على الذنوب وبين مَن ينظر إليه على أنه مرض لابد أن نبحث له عن علاج لم نجده بعد، هذا – وفعلاً قد فعلها – وأمثاله هم الذين وجدوا علاجه، وأصبحنا الآن نعيش، ولا يأتي لأي واحد فينا هاجس أن يموت بالطاعون بحمد الله – تبارك وتعالى -، بفضل مَن؟ بفضل الله، ثم بفضل هؤلاء، أصحاب المناظير الصحيحة، هذا صحيح أم غير صحيح؟ المنظور الأول سيجعلك مغلول اليدين أو مُقيَّد الرجلين عن أن تسعى أو تبحث عما يُمكِنه إنقاذنا من هذه الورطة، هذا أولاً.
ثانياً سيُوقِعك في مُعضِلات أيضاً لاهوتية عقدية، ربما تُزعزِع طمأنينة الإيمان عندك، كما قلنا تبدأ تتساءل، خاصة حين تُصاب أنت وليس حين يُصاب ابن الجيران، ذات مرة علَّقت على حالة شخص، وقلت نعم، من شأن الناس دائماً أن يضحكوا على السخيف، لكنهم لا يضحكون على سخيفهم، دائماً هذا ما يحدث مع أي شخص سخيف، لو كان السخيف في قوم آخرين نضحك، لكن لو كان السخيف بيننا نحن لا نضحك، وكذلك لو كانت هناك فكرة سخيفة وهي سخيفتي أنا لا أضحك عليها، أي هنا يحدث نفس الشيئ.
نرجع إلى موضوعنا يا إخواني، قلنا وتحدَّثنا عن الحرية وعن هامش الحرية وما إلى ذلك، وذكرنا أن الإنسان يستطيع أن يتخطى، فرانكل Frankl يقول الإنسان يتخطى حتى نفسه، وهنا عظمة الإنسان، الإنسان يُمكِن أن يتخطى ذاته، كما نُعبِّر نحن عنها دائماً بأن يجعل مسافة – أي Abstand – بينه وبين نفسه، يُراقِب دوافعه، حوافزه، أفعاله، وسلوكاته، ويُمكِن أيضاً أن يُقيِّمها سلبياً وإيجابياً، ويُحدِّد مسيره، وهذا شيئ غريب، غير مُتوفِّر إلا للإنسان، حتى الملك ليس عنده هذا، والحيوان طبعاً ليس عنده الكلام هذا.
فرانكل Frankl يُساجِل أو يُجادِل في مسألة ضمير الكلاب، أتى بالموضوع هذا بالذات، قرأنا ونحن صغار لمُصطفى محمود – شفاه الله من مرضه إن شاء الله وأمد الله في عمره – حوار مع صديقي المُلحِد، طبعاً هذا كان ونحن صغار وكان الكتاب هذا شيئاً كبيراً، فهو عنده فصل بسيط هكذا – الآن نرى أنه بسيط، ونحن صغار كنا نرى أنه شيئ مُقنِع – اسمه الضمير، قال لك الضمير موجود، ومَن يُريد أن يُصادِر الضمير من الإنسان هو في مُشكِلة حتى مع الكلاب والقطط، لأن حتى هذه الحيوانات عندها ضمير، قال القط – مثلاً – حين يسرق سمكة لا يأكلها أمامك، يأخذها ويعتلي بها سقف البيت ويأكلها على مبعدة، لكن لو قدَّمتها أنت له يأكلها أمامك، إذن عنده ضمير، ونحن اقتنعنا بالكلام هذا، لكن فرانكل Frankl قال هذا الكلام سخيف وغير صحيح، قال هذه مسألة تشريطية فعلاً، قال هذه مسألة تشريطية! كيف هي مسألة تشريطية؟ سوف نشرح، وسوف نرى كيف هذا، أي Conditional، مسألة تشريطية أو إشراطية كما يُترجِمها السوريون، هذا يُسمونه الإشراط، فالمُهِم هي تشريطية أو إشراطية، فعلاً الكلب يعلم من خبراته أصلاً أنه إن فعل الفعل الفلاني أو سلك السلوك العلاني فسوف يُعاقَب على ذلك، هو تعلَّم هذا الشيئ، ويعلم أنه إن سلك السلوك الفلاني فسوف يُكافأ، فهذه مسألة إشراطية، مثل جرس بافلوف Pavlov، أهلاً وسهلاً! لكن – قال – أن يُخفَّض الضمير إلى مسألة تشريطية فهذا كلام غير مقبول عندي بالمرة، أي فرانكل Frankl، لأن الضمير أكبر من هذا بكثير، بدليل أن الضمير أحياناً هو الذي يقود صاحبه أن يُضحي حياته، ليس أنه يخاف من العقاب ويُريد الثواب، يموت هو! وفعلاً أحياناً تجد في أصحاب الضمائر مَن يُناهِض مُجتمَعاً بأكمله ضد السُلطة، ضد السُلطة الدينية فيه والفكرية وضد الصحافة وما إلى ذلك، لأن عنده ضمير، يفرض عليه أن يقول لا، وهو يعرف أن في الأخير لابد أن تُقطَع رأسه، وتُقطَع رأسه وهو يقول لا، هل يُمكِن أن تقول لي إن هذه مسألة تشريطية؟ هنا لا ثواب ولا عقاب يا حبيبي، المسألة أكبر من هذا بكثير!
ولذلك هو أيضاً رفض أن يكون الضمير كما يفهمه هو السوبر-إيجو Super-ego عند فرويد Freud في التحليل النفسي، قال لك لا، لأن السوبر-إيجو Super-ego بحسب ما وصفه وبحسب ما شرحه فرويد Freud نفسه هو ماذا؟ هو ما يعمل ضمن السائد، أي هو عقل المُجتمَع في الفرد، ماذا يُريد المُجتمَع؟ ماذا يستحسن المُجتمَع؟ ماذا يستهجن المُجتمَع؟ ما كذا؟ وما كذا؟ وأنت في الأخير يُصبِح عندك الضابط والرقيب الداخلي هذا بما يُعيد المُواءمة مع السائد في المُجتمَع، هذا السوبر-إيجو Super-ego.
ولذلك بالمُناسَبة في مُجتمَعات مثل هذه – مثلاً – عندهم الصداقة بين الذكور والإناث – أي Boyfriends and Girlfriends – مسألة عادية، عادي! حين يخرج الولد مع البنت حين يُصبِح عنده كذا يجد أن هذه مسألة طبيعية، وهم يفرحون بها، أمه تفرح وهو يفرح ويكون مبسوطاً ويعتبر أنه إنسان سوي، في بلادنا لو فعلها يُؤنِّبه ضميره ولا يعرف كيف ينام وما إلى ذلك، هذا ليس ضميراً، هذا لا يزال سوبر-إيجو Super-ego، هذه مسألة تشريطية، لها علاقة بالنسبيات، هناك أشياء نسبية تختلف من ثقافة إلى ثقافة، قال لك الضمير شيئ مُختلِف، أي فرانكل Frankl، لماذا؟ وأثبت أنه مُختلِف، وفعلاً هو كذلك، كيف هو مُختلِف؟ لأن هذا الضمير – كما قلت قُبيل قليل – يعمل أحياناً ضد المُجتمَع، لكن في الاتجاه السليم، هذه ليست Antisocial personality، أي الشخصية المُعادية للمُجتمَع، وهي التي عندها Disorder، أي اضطراب، وهي السيكوباتية Psychopath، هذا أيضاً يعمل ضد المُجتمَع أحياناً، لكن في الاتجاه التخريبي، يكتب تقريراً حتى في أبيه، يكتب تقريراً في مُدرِّسه.
وعلى ذكر هايدجر Heidegger الذي تحدَّثنا عنه اليوم، هايدجر Heidegger كتب تقريراً في أصدقائه وفي تَلاميذه، هايدجر Heidegger فعل هذا للأسف! هناك أُناس يُحاوِلون أن ينفوا عنه الشيئ هذا، لكن هناك أدلة كثيرة تُؤكِّد ذلك للأسف، يُنفون هذا على أساس أنه عقلية عظيمة جداً، لكنه في مُنتهى السُخف والانحطاط، هذا سيكوباتي Psychopath، لكن هذا يختلف عن الشخص الذي تقوده مساعيه ونشاطاته ربما إلى السجن – غياهب السجون – أو إلى حبل المشنقة من أجل – مثلاً – قضايا لأُناس آخرين مظلومين في السجون وهم ليسوا أقرباء له وليسوا أصدقاء له، هم أُناس لا يعرِفهم حتى، ما هذا؟ ضمير هذا، ضمير راقٍ جداً جداً جداً، أكبر من حكاية السوبر-إيجو Super-ego هذا، أكبر بكثير! وتجد طبعاً كل مَن حوله يقولون له يا جاهل، يا غبي، يا كذا وكذا، وأنا جرَّبت هذا والله العظيم، أنا جرَّبته وفعلاً أورثني شعوراً بالمرارة – تمررت منه – وبالكُباد أيضاً، ليس بالمرارة فقط، وبالكُباد أيضاً، شيئ غريب!
بعضهم نقل إلىّ كلاماً، وطبعاً لم يذكر لي مَن قاله، وأنا لا أُحِب أن أعرف مَن القائل، قال هذا حدث حين امتُحنت بالمحنة التي كنت فيها، وطبعاً محنتي بسبب أنني كنت ضد الاستعمار – مثلاً – الأمريكي في العراق، ضد ما فُعِل العراق، وضد ما يُفعَل في فلسطين، وأنا مع المُقاوَمة الشريفة والجهاد، كنت هكذا، وإن شاء الله سأموت على ذلك، ولن أُغيِّر هذا الرأي، وقلت هذا مائة مرة حتى على المنبر في أيام المُشكِلة الخاصة به، وطبعاً النار مفتوحة علىّ من كل الجوانب، شيئ فظيع! صحافة وتلفزيون Television وتحقيق، يُريدون أن يذهبوا بي إلى داهية، كانوا يُريدون أن يمسحوني مسحاً، لكن لا تُوجَد مُشكِلة، هذا ذنبي، وهذا الشيئ يُشرِّفني، أنا قلت مرة – كتبت كلمة هكذا على كتاب قلت فيها الآتي – هناك فرق بين مسجونين أو سجينين، سجين أُخِذ في سرقة ملابس داخلية من مكان معروف – مثلاً – وسجين أُخِذ بسبب مواقفه في قضايا حقوق الإنسان، فرق كبير جداً يا حبيبي! الواقع كواقع يقول هذا سجين وهذا سجين، أليس كذلك؟ لكن هذا السجين يختلف عن الآخر، تخيَّل كيف ستُساهِم محنة السجن في بناء شخصية – في إثرائها، في تخصيبها، و في جوهرتها – السجين الثاني، بالعكس! هذا سيخرج إنساناً مُختلِفاً حتى أمام نفسه وأمام الناس التي تفهم معنى شرف السجن، لأن هذا السجن شرف طبعاً، لأنه سُجِن من أجلك أنت، من أجل أن تتمكَّن أنت من أن تقول كلمتك بحرية، من أجل أن تكون إنساناً مرفوع الرأس، ولا يُوجَد ما هو أعظم من الحرية!
أنا عندي الحرية تأتي في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله، وحتى الإيمان بالله من غير حرية ليس له قيمة، أنا أقول لك هذا، لأن الإيمان بالله هو الحرية، إذا أردنا أن نعمل مُناقَضة – وهذه ليست مُناقَضة – فسنقول الإيمان بالله هو الحرية، هل تعرف لماذا؟ لأنني لا أفهم معنى لا إله إلا الله، أي لا معبود، لا مرغوب، لا مرجو، لا مَن يُخشى منه، ولا كذا وكذا إلا الله، انتهى! هذا يعني أن غيره ليس هكذا، ولا مُقدَّس قدسية مُطلَقة إلا الله، وهذا يعني أنني بعد ذلك لن أخضع ولن أخاف من أي شيئ لا يُشكِّل علىّ سُلطة إلهية، هذا غير موجود، هي سُلطة إلهية واحدة فقط، إذن الإيمان في الأخير هو الحرية، هذا لو فهمته بشكل صحيح ولو آمنت بشكل صحيح، ستعلم هذا لو فهمته بشكل صحيح ولو آمنت بشكل صحيح! وهذا الذي جعل عبد قريش خبّاب بن الأرت وبلال والحدّاد الخاص بهم – أعني صُهيب الرومي – على ما كانوا عليه، وهؤلاء كانوا عُبداناً، بالأموال أخذوهم، بالأموال! وكانوا يضربونهم في بطونهم ويبصقون في وجوههم في اليوم مائة مرة، ومع ذلك كانوا ساكتين، لكن الإسلام جعلهم من أول يوم يقولون لا، ومع إدراك الواحد منهم إلهية الله وعظمة الله أدرك عظمة نفسه، من أول يوم! وصار يتحدى أبا جهل، وهؤلاء الظلمة جُنوا، قالوا نحن مُشكِلتنا مع محمد هذا تكمن في أنه يُؤلِّب علينا عُبداننا وسُفهاءنا، أصبحوا يقولون لنا لا، طبعاً الإيمان علَّمهم أن يقولوا لا، ليس باسم الإيمان نقول نعم لكل صاحب سُلطة، لا نقول لكل صاحب مصلحة نعم، هذا شيئ غريب يا أخي.
على كل حال قال لي هذا الأخ للأسف واحد من الذين يلوذون بك أحياناً في المسجد قال ها هو وقع، دعوه فهو يستأهل هذا، وليتحمَّل ما يقوله، فقلت له مسكين هذا، أنا أرثي له والله العظيم، هل أنا وقعت في شيئ يعيب؟ أنا لم أقع في شيئ يعيب يا أخي، هذا شرف لي، طبعاً لم أكن أتمناه ولم أكن أُريده، لكن هذا شرف يا حبيبي، أنا وقعت – الحمد لله – لكن ليس في سرقة ملابس داخلية أو في سرقة كاميرات ديجتال Digital cameras أو في تزييف شهادة أخذت بها وظيفة مُزيَّفة، لا! أنا وقعت بسبب دفاعي عن قضايا أمتي وديني، ووقعت من أجل شخصيتي، لأنني إنسان عندي صدقية بفضل الله، عُرِض علىّ وطُلِب مني وروسِلت مرات ومرات – ولا نُريد أن نحكي هذا – من جهات كبيرة وكبيرة جداً، ورفضت بفضل الله، وسوف أرفض إلى أن أموت، لأنني ليس مَن يبيع نفسه، هذا شرف لي، وهذا يجعلني أنام وأنا مُرتاح وأقوم وأنا مُرتاح، وأعتز نفسي، أياً كان ما سيحصل – سواء افتقرت أو اغتنيت أو ذهبت أو سُجِنت – أنا أعتز بنفسي، وهذا شيئ مُهِم بالمُناسَبة، هذا مُهِم جداً جداً جداً، به تقدر على أن تنظر في وجهك حتى في المرآة، لكن ذاك لا يقدر على أن ينظر في وجهه.
فانظر إلى الجماهير، هذا هو الجمهور وهؤلاء هم الناس للأسف، فتجد أقرب الناس إليه – هذا الذي يُدافِع عن حقوق الإنسان – يخذلونه، مسكين! وقد يُقاد إلى حبل المشنقة، يُقال عنه الغبي، الكذا والكذا، يضع رأسه برأس الدول، يدّعي أنه كذا وكذا، أي هل هو يُريد أن يُعمِّر الكون؟ هل يُريد كذا وكذا؟ كان غيره أشطر، للأسف يسمع هذه الجُمل من أبيه، من أمه، من أساتيذه، من أصدقائه، وأحياناً من أبنائه، لكن ما الذي يجعله يقول لا ويجعله يُواصِل أيضاً؟ ليس السوبر-إيجو Super-ego إذن، لا! السوبر-إيجو Super-ego يقول له لا، يقول له كُن مع طرش الغنم هذا، أليس كذلك؟ كُن مع قطيع المعز هذا، الذي يجلعه هكذا هو الضمير، هذا الضمير الحقيقي.
وبالمُناسَبة في نهاية المطاف – ليس شرطاً أن يكون هذا اليوم وليس شرطاً أن يكون بكرة، يُمكِن أن يكون بعد بكرة أو بعد مائة سنة – الجماهير سوف تخشع أمام مَن؟ سوف تخشع أمام مَن يحمل شهادات النجاح ونياشين الفوز أم أمام مَن كان يحمل صليبه على ظهره كما يُقال؟ أمام الثاني، كل الجماهير وكل الأمم – سُبحان الله – على اختلاف أديانها في الأخير تخشع للشهداء من أجل قضايا صادقة وتُعظِّمهم، سُبحان الله!
طبعاً في حياتهم تدينهم وتقودهم إلى حبل المشنقة، الجماهير نفسها! وتُصفِّق وتقول اعدموا هذا، على أساس أننا لا نُريد أي Headache ولا نُريد أي مشاكل، هذا الشخص اعدموه، لكن بعد ذلك تعمل له ماذا؟ تعمل له نصباً تذكارياً، الجماهير نفسها! لأن – كما قلت أمس – هذا الحق في الأخير، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ۩، سيثبت في الأخير ويرسو ما هو حق بإذن الله تعالى، سيعترض علىّ واحد هكذا أيضاً بتفكير بسيط، سيقول لي لا، أين هذا إذن؟ الهنود الحُمر تقريباً شبه أُبيدوا، انتهى كل شيئ، وجاء أُناس آخرون، اغتصبوا قارة كاملة، طبعاً بحسب لاس كاساس las Casas كانوا ملياراً، وأمريكا لا تُحِب أن تعترف بهذا، تعترف بسبعين مليوناً أو بخمسين مليوناً، وبعضهم يقول لك نعترف بثلاثة وعشرين مليوناً، لاس كاساس las Casas في تلك الأيام كان يعيش فذهب ورأى، قال يصل العدد إلى ألف مليون، أُبيدوا إبادة مُخيفة، نعم! لاس كاساس las Casas قال هذا، وبالمُناسَبة كتابه بالفرنسية طُبِع في ثلاث مُجلَّدات ضخمات لأول مرة، عن فتح القارة الجديدة، وهذا كان راهباً كاثوليكياً، ذهب ورأى، رأى الفظاعات، تم قتل أُناس بالملايين، لذا سيقول لي أحدهم أين هنا وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ۩؟ أين هذا الحق؟ سيقول لي هذا، وجوابي سهل جداً، اعتراضك هذا وسؤالك هذا يُؤكِّد نظريتي، أليس كذلك؟ لأن ما دام هناك أُناس لا يزالون يقولون إن الهنود الحُمر أُبيدوا، ظُلِموا، قضيتهم عادلة، ماذا يفعل هؤلاء؟ ماذ فعلوا؟ فهذا يعني أن القضية حية ونابضة، والحق سيبقى دائماً يُعبِّر عن نفسه، لا يموت، انتهى! بذرة الحق – سُبحان الله – عنقائية، نسبةً إلى العنقاء Phoenix، لا يُمكِن إخفاؤها، تخرج من الرماد دائماً، لابد أن تظل هكذا، هذا الحق، سُبحان الله! لأن الحق من عند الله، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۩.
نرجع على كل حال، فالضمير شيئ والأنا العُليا شيئ آخر، لا نقول إنه مُختلِف تماماً، لكن هذا شيئ آخر إلى حد بعيد، هذا شيئ وهذا شيئ، لذلك للأسف المُفكِّر العراقي المرحوم عليّ الوردي – رحمة الله عليه – اتهموه أنه شيوعي، وهذا غير صحيح، الرجل ليس شيوعياً، بالعكس! هو مُفكِّر ذكي وجيد ورجل لطيف، وللأسف كان واقعاً في هذه النظرية، لكن بكل تسطيحية أيضاً، قال ما الضمير؟ الضمير كذا وكذا – كما يقولون -، قال الضمير مسألة اجتماعية، المُجتمَع يخلق الضمير، المسكين كان غافلاً عن هذه الحقائق التي نراها يومياً، هو نفسه حين تحدَّث – رحمه الله – عن نفسه كان ضميره – صحيح – هو سوبر-إيجو Super-ego، ليس أكثر من هذا، لأنه في عدة مرات يقول لك نعم بصراحة لو حصل كذا وكذا سأفعل مثلهم، أنا سأفعل مثلما يفعل الناس، أنا سأفعل مثلكم وسأقوم بتخبئة رأسي، أنا جبان أيضاً، ليس عندي مُشكِلة، هو يقول هذا، لكن يُوجَد في غيره مَن هو ليس هكذا، يُوجَد في غيره مَن هو ليس هكذا ولذا يُقدِّم رأسه ألف مرة ولا يتراجع، وهذا ليس لأنه عنيد أو حتى مازوخي، لأن طبعاً سيأتيك شخص مثل فرويد Freud مُعقَّد لكي يقول لك هذا عنده نزعة مازوخية، أهذه مازوخية؟ هل قطع الرأس فيه مازوخية يا حبيبي؟ لا، لو الأمر وصل إلى قطع الرأس لن تكون هذه مازوخية، ما قبل قطع الرأس هذا مازوخية، لابد أن تفهم علم النفس، قطع الرأس ليس فيه مازوخية، لكنه سيقول لك لو كان هذا الشخص غير مازوخي سيعني هذا أنه مجنون ومذهون، فليمت! الكثير من الناس قدَّموا أنفسهم للموت لأنهم من المجانين، حتى ولو كان هذا الشخص فيلسوفاً كبيراً ومُفكِّراً هائلاً جداً جداً وإنساناً ناضجاً؟ أهذا مجنون؟ لو هذا مجنون لن يكون عند أي واحد فينا شرف أن يكون عاقلاً، لا! هذه سخافة، يُوجَد شيئ اسمه الضمير، وهو شيئ عالٍ جداً جداً.
عليّ الوردي نفسه – رحمه الله – ذات مرة في كُتبه حدث معه نفس الشيئ، وهو كان مُتأثِّراً بالماركسية، لذلك هو اتُهِم بأنه ماركسي، لكن هو ليس ماركسياً، بالعكس! هو أحياناً حتى ينتقد الماركسية، قال لك نعم، قال لك الإنسان كما أن ضميره هذا ابن شروطه وظروفه ومَجتمَعه، كذلك تصرفه وفكره، وطبعاً هذا كلام ماركس Marx، هذا واضح طبعاً، لأن كل هذه البُنى الفوقية تُنتجِها البُنى التحتية، فهناك ظروف الاقتصاد والإنتاج وما إلى ذلك، لذلك تفكيرك يختلف بحسب وضعك، فعليّ الوردي قال الذي يعيش في كوخ يُفكِّر بعقلية كوخي، الذي يعيش في قصر يُفكِّر بعقلية أمير نبيل، هذا هو فقط! قال هذا هو والكلام هذا صحيح، لكنه ليس صحيحاً، لأن الإمام عليّاً مثلاً – عليه السلام – وسيدنا عمر – رضوان الله عليه وقدَّس الله سره – وسيدنا أبا بكر الصدّيق – قدَّس الله أرواحهم الطاهرة جميعاً – لم يكونوا هكذا، هؤلاء كانوا يستطيعون أن يعيشوا فوق ما عاشوا بكثير، بطريقة مُباشِرة أو غير مُباشِرة، كما فعل مُعاوية – مثلاً – وفعل غيره، الواحد منهم يقدر على هذا، يقدر! والأمة سوف ترضى بهذا أو كان من المُمكِن أن ترضى أو كان يُمكِن إرضاؤها بطريقة أو بأُخرى، خاصة لو كان هذا من صاحب سُلطة، لكن الإمام عليّ قبل أن يُصبِح خليفة المُؤمِنين كان يلبس المُرقَّعة أيضاً ويركب على الحمار، وصبيحة استخلافه وجدوه أيضاً راكباً على الحمار، ورجلاه يخطان بالأرض، ظل يركب على الحمار! أي الإمام عليّ، وكان يجلس في الأسواق مع الناس، أبو بكر الصدّيق حتى لم يُكفَّن في كفن يُكفَّن به أي صعلوك من صعاليك المُسلِمين، رفض! لا يُكلِّف ثلاثة دراهم، قال لهم الحي أبقى من الميت وأولى، فأنا أُدفَن في ملابسي، قدَّس الله سره، يا أخي ما هذا؟ ما هذا؟ حقيقةً أنت حين تتكلَّم أمام هذه الشخصيات فعلاً لابد أن تخشع مبدئياً، هم ليسو آلهة وليسوا أنبياء، لكن كُن حذراً حين تُقدِّم أي نقد أو أي شيئ، لابد أن تكون حصيفاً جداً جداً، ولابد أن تكون مُنصِفاً، ولابد أن تعترف بحقهم.
قبل أيام حتى كنت أقول هذا لأهلي، وقد دار كلام عن أم المُؤمِنين عائشة – رضوان الله عليها -، فقالت لي أنا قرأت لكاتب – شخص ما، لا نُريد أن نقول هو من أي بلد وما إلى ذلك – الآتي، كتب أن السيدة عائشة جاءتها امراة من الخوارج، وقالت لها يا أم المُؤمِنين ما رأيك في امرأة نسلت ذرية فقتلت ولداً أو ولدين منهم؟ فقالت لها بئست المرأة، لعنة الله عليها إلى يوم الدين، وما إلى ذلك، قالت لها فما قولك فيمَن قتلت عشرة آلاف من أبنائها؟ فقالت اخرجوا هذه الملعونة، لعنة الله عليكِ، أي هي كانت تقصدها، فقالت لي ما الكلام هذا؟ قلت لها هذا الكلام سخيف جداً جداً، أنا سأقول لكِ شيئاً واضحاً، هل عندك استعداد ولو أوتيتِ مُلك العالم لأن تسفكي دماً حراماً؟ فقالت لي مُستحيل، أعوذ بالله، وأنا أعرف هذا، قلت لها وأنا – والله العظيم – لا أسفك دم فرد واحد بمُلك العالم كله مليون مرة – إن شاء الله – ، بالعكس! أُفضِّل أن أموت، أنا أموت ولا أفعل هذا، أنا مُستعِد لأن أموت ولن أقتل بريئاً، حتى لو قال لي اقتلني، عادي، هذا خياري، لن أفعلها، لأنني لو قتلته سأذهب إلى ستين داهية، سأذهب إلى عذاب الأبد في جهنم، لكن لو قتلني سأذهب أنا مُباشَرةً – بضربة واحدة – إلى الجنة، والنبي قال ما ترك القاتل على المقتول من ذنب، كل ذنوبي بحسب ما قال النبي سوف تُؤخَذ وتُوضَع عليه يا حبيبي، وأنا سوف أُبعَث يوم القيامة طاهراً مُطهَّراً، الحمد لله، هذه نعمة، لا أتمنى أن أُقتَل ولا أتمنى أن أُمثِّل دور الضحية والشهيد، لكن لو حدث هذا لن أكون قاتلاً، سأكون شهيداً وضحيةً.
قلت لها مَن أنا إذن ومَن أنتِ؟ نحن صعاليك، قلت لها هل نحن نقيس أنفسنا بأم المُؤمِنين عائشة؟ قالت لي أبداً، فقلت لها قطعاً هي أفضل منا مليون مرة، قلت لها أنت مُتأثِّرة بي، بشخصيتي وبثقافتي وبعلمي وبمبادئي، فكيف كان تأثرها هي برسول الله وحرم رسول الله وشرف رسول الله؟ هي كانت معه، ولم تتركه، وهو كان دائماً معها، هذا يعني أنها امرأة مُتميِّزة جداً جداً، فبؤساً وتعساً لكل هذا الكلام الذي يُكتَب في التواريخ ولكل هذه السخافات يا أخي، والله هذه سخافات، أُقسِم بالله! أنا على يقين بهذا، قلت لها هل تتوقعين أن عائشة فعلاً ظل عندها أحقاد؟ هل هذه الشخصية يا أخي تحمل أحقاداً؟ أم المُؤمِنين اسمها، هل الشخصية هذه تحمل أحقاداً؟ أنا لا أرضى لنفسي أن أحمل أحقاداً يا أخي، والله العظيم! سأحتقر نفسي لو فعلت هذا، أنا أحياناً أُفكِّر في الكُره وأقول كيف تُمارِس الناس الكُره؟ أقول ما الكُره هذا؟ أنا أعرف من نفسي معنىً سلبياً وليس معنىً إيجابياً، أي أحياناً لا أستلطف بعض الناس، لا أُحِب أحدهم، لا أشعر بأنني أُحِبه، لكنني لا أقدر على أن أكرهه، ما معنى أن أكرهه؟ كيف أكرهه؟ هل كلمة أكرهه تعني أن أتسبَّب لي في أذية – مثلاً -؟ هل كلمة أكرهه تعني – مثلاً – أن أشمت فيه؟ أعوذ بالله والله، هل لو حدث له أي مكروه سأفرح؟ أعوذ بالله، مُستحيل أن أفرح، مُستحيل – والله العظيم – مهما آذاني، كيف أفرح حين يحدث له مكروه؟ لا أفرح، أعوذ بالله يا أخي، أأفرح لأذيته؟ لكن هل أُحِبه؟ لا أُحِبه، فأنا عندي هذا مُمكِن، أي الكُره بالمعنى السلبي، فقط بالمعنى السلبي، أي لا أُحِبه، لكن لا أكرهه، لا أُفكِّر فيه، لا أشغل بالي به، لا أسأل عن أخباره، لا يُمكِن أن أقول هو – إن شاء الله – سوف يرسب أو هو – إن شاء الله – سوف يُدمَّر، أعوذ بالله وحاشا لله، وإلا سأكون إنساناً حقيراً جداً جداً، سأكون إنساناً لا يستحق حتى لفظ إنسان حقيقةً، فكيف بأم المُؤمِنين عائشة؟ أتحمل الحقد على الإمام عليّ لعشرين سنة أو أكثر؟ ألأكثر من ثلاثين سنة تحمل الحقد عليه بسبب أنه قال للرسول النساء غيرها كثير؟ يا أخي هو كان كل عقله وكل همه في أن يطمئن النبي وألا يحزن النبي، رأى أنه كان حزيناً ومغموماً لشهر كامل، فقال له يا رسول الله سل الجارية تصدقك، وما علمنا إلا خيراً، والنساء غيرها كثير، أي أنت تقدر على أن تأخذ غيرها ومن ثم سينتهي الموضوع، لكن هي سُمعتها – ما شاء الله والحمد لله – طيبة، وقال له اسأل الجارية، فهي أعرف بها من أي أحد، وهذا كلام مُمتاز، هذا كلام إنسان عاقل، أي كلام الإمام عليّ، وهو كان شاباً، لكن هناك مَن قال لك لا، قال هي حقدتها عليه، وأنا أقول له أنت الذي حقدتها، والله أنت الآن تهرف بما لا تعرف، لا يُمكِن هذا، هذه شخصيات كبيرة يا حبيبي، لكن هذه مُشكِلة الإنسان، يُلقي دائماً ويُسقِط – هذا إسقاط Projection – ما في نفسه على الآخرين، ويظن هكذا هو، يقول أكيد هو مثلي، أكيد هو على هذا النحو، لكن هذا غير صحيح، هو ليس مثلك، هو مُختلِف تماماً، لذلك هذا المنطق القرآن علَّمنا إياه، لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ۩، نحن شرحناها، وأنتم تعرفون كيف هو شرحها.
أبو أيوب قال لامرأته يا أم أيوب تعالي، أنا أرى ما أنت عليه، لكن تعالي، هل أنتِ تفعلينها – وأنتِ زوجتي ولستِ زوجة الرسول -؟ فقالت له أعوذ بالله، حاشا لله، فقال لها انتهى الأمر إذن يا أم أيوب، فقالت له نعم، عائشة أولى ألا تفعل هذا، مُستحيل أن تفعله، عائشة ابنة الصدّيق وزوجة محمد، أتفعل هذا؟ مُستحيل، إذا أنا لا أفعله فكيف تفعله هي؟ وهذا المنطق أنا تعلَّمته وقلته لزوجتي، هل يُمكِن أن تفعلي هذا؟ هل يُمكِن أن تتسببي في مقتل عشرة آلاف مُسلِم من أجل أن تنتقمي لنفسك أو من أجل كذا وكذا؟ فقالت مُستحيل، هل يُمكِن أن تفعلي من أجل مُلك – لكي تكون رئيسة مثلاً – هذا؟ فقالت مُستحيل، فقلت لها وأنا لا أفعلها، قطعاً أمنا عائشة لم تفعلها، والله العظيم! والله – أُقسِم عليها – لم تفعلها، لكن هناك أكاذيب وهناك مشاكل حدثت وهناك أشياء وهناك اختلالات، وكانت هناك أجنحة ثانية، أجنحة مدسوسة وملعونة، أرثت نار الحرب هذه وأشعلتها.
نرجع – هذا المُهِم – إلى ما كنا فيه، فنحن قلنا إن كلام الرجل هذا غير صحيح، ها هو الإمام عليّ كان إنساناً عادياً ثم صار خليفةً، لكنه ظل يركب الحمار وما إلى ذلك، وكذلك الحال نفسه مع أبي بكر وعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، عمر كان عنده المُلك كله، وكانت هناك نساء وما إلى ذلك، لكنه أطلق سراح الجميع إلا واحداً فقط، وترك كل شيئ، ورجع كما كان، عكس ماركس Marx تماماً، ما رأيك؟ ما الذي أوجب هذا الشيئ إذن؟ هذه طبعاً نماذج أنا مُتأكِّد يقف أمامها ماركس Marx وهو حائر هكذا وغير فاهم، لو أدرك فرويد Freud هذا لقال هؤلاء مجانين وغير طبيعين، لكن هذا غير صحيح، هم طبيعيون أكثر منهم، هم الطبيعيون، أنت غير الطبيعي، هؤلاء أُناس غير عاديين، هؤلاء أُناس فعلاً استثنائيون، ويُعلِّموننا كيف يكون الاستثنائي، هؤلاء أصحاب ضمير، صحيح هذا الضمير عنده مهاد ديني وعنده أصل ديني – وهذا شيئ يُشرِّف، ليس عندنا مُشكِلة – لكن هو ضمير حقيقي، أكبر من كل شيئ.
فأنا أقول لك الناس للأسف لا يُعينون، فحين تقول لي هذا سوبر-إيجو Super-ego سأقول لك لا، ونرجع مرة أُخرى إلى ما كنا فيه، قال هذا التجاوز، الإنسان يتخطى، قال أعظم ما يتخطى به الإنسان نفسه شيئان، ذات أُخرى ومعنى، الذات هي أي إنسان آخر، فإذن كيف تتخطى نفسك بإزاء ذات؟ هناك علاقة اسمها الحُب، فلسفة الحُب! أرأيت؟ طبعاً كلمة الحُب نقولها كلنا، وهي أكثر كلمة ربما نُكرِّرها، يقول أحدنا للآخر أُحبك في الله، ويقول لزوجته أُحبك يا زوجتي، الكل يقولها، ولا نفهم ما الحُب الحقيقي، أكثر حُبنا منافع ومصالح وتملك واحتياز للأسف، أو شهوات حتى بإزاء الجنس الآخر، ليس هذا الحُب الحقيقي، الحُب الحقيقي شيئ مُختلِف، الُحب الحقيقي أن تُحِب الآخر.
تعرفون أنني أُحياناً أُحيي مواقف بعض الناس، وبعضهم أُناس أعرفهم شخصياً، لكن هناك شيئ فظيع، بعضهم يتسم بقدر من الأنانية غير طبيعي، في حين عندهم وهم – وأنت قد تكون واهماً أيضاً – أن عندهم قدر من الغيرية والمحبة عجيب، وبالعكس! هم العكس تماماً، لكن هذه أنت تسبرها وتختبرها في حالات نادرة وذكية، كيف؟ بعض الناس يحرص جداً – حقيقةً يحرص جداً – على أن يسمع رأيك فيما يخصه، فأنت في نهاية المطاف تُساوي عنده ماذا؟ هل تعرف ماذا؟ كلك على بعضك تُساوي شيئاً واحداً عنده، كشخص – سُبحان الله – وأنت مُتفرِّد وكامل، أنت أهميتك عنده تنبع من شيئ واحد، وهو أنك تُشبِع نرجسيته، تُفهِمه أن أولادك أحسن أولاد، وهذا شيئ جميل جداً عنده، تُفهِمه أن بيتك أحلى بيت، سيارتك أحسن سيارة، امراتك أحسن سيدة فاضلة، أنت وظيفتك ومكانتك في المُجتمَع – ما شاء الله – مرموقة، حين تُسمِعه الكلام هذا يُقسِم بأنه سيفديك بحياته، لكن هو لن يفديك ولن يفعل شيئاً، هو يُحِب أن يسمع هذا، أنت تُرضي غروره وتُرضي وتُشبِع نرجسيته، وجرِّب أن تفعل العكس، افعل العكس! قدِّم له نصائح أحياناً، أد دور الواعظ – Preacher – أو المُبشِّر بقيم أخرى هو يفتقر إليها، قدِّم له بعض النقود، قدِّم له أي نقد، وسوف ترى أنه سيبتعد عنك، وسوف طبعاً يتمعذر بخمسين عُذر، سوف يقول إنه كان تعبان وكان مشغولاً وكان كذا وكذا، وسوف تشعر أن لا تليفونات ولا اتصالات، ابتعد عنك، لأنه الآن يبتعد من غير أن يشعر، ولو كان واعياً بذاته – عنده وعي حقيقي بنفسه ويقدر على أن يتجاوز نفسه – لفهم أنه الآن لا يُحِبك، كف عن أن يُحِبك، وحتى ربما يكون انحط أكثر وبدأ يُبغِضك، لماذا؟ لأنك كففت عن ماذا؟ عن أن تُرضي نزوعه النرجسي، وهو في الحالة العادية يزعم أنه يُحِبك حُباً جماً، وهو بعيد عن الحُب كله، هو إنسان يُحِب نفسه، ويُحِب كل ما يتعلَّق به، يدور حول نفسه دوراناً غريباً وخطيراً، متى يُمكِن أن تطمئن على نفسك وتعلم أنك مُحِب للآخرين؟
أولاً إذا اهتممت بالآخرين، لو كان عندك الاهتمام الحقيقي، لابد أن يكون عندك اهتمام حقيقي، وبالمُناسَبة يُمكِن أن تهتم بي حتى مادياً وأنت تهتم بنفسك، يُمكِن أن تزرني حين أمرض، تُبارِك لي حين أتزوَّج أو أُطهِّر ابني وما إلى ذلك، ولا تُقصِّر أنت، كل هذا ليس لأنك مُهتَم بي، لأنك تُريد ماذا؟ مُبادَلة الاهتمام باهتمام، هذا يُشبِعك، هذا الذي تُريده فقط، هل فهمت كيف؟
هناك شخص من أصدقائي – مثلاً – في بلد آخر، المُهِم أنني إلى الآن مُستغرِب منه، وأتساءل كيف هو مُثقَّف ومُتعلِّم لكنه غير قادر على أن يُدرِك نفسه؟ عنده شيئ غريب، هذا الرجل يزعم أنه لا يُوجَد على وجه الأرض إنسان يُحِب مجلسه ويُحِب لقاءه مثل عبد الله الفقير، هو يُقسِم على هذا دائماً، وهو صادق، إلى الآن صادق في نظر نفسه، ما مُشكِلته؟ مُشكِلته حين ألتقيه كالآتي، لو تكلَّمت عشر دقائق تقريباً خلال ست ساعات لكان – والله – حظي جيداً، رُغم أن عندي الكثير مما يُمكِن أن أقوله وأن أتكلَّم به وما إلى ذلك، لكن لو تكلَّمت عشر دقائق لكان هذا شيئاً غير طبيعي، ويقضي عشرين في المائة من المجلس في الحديث عما يتعلَّق بتمدحي وبمحبتي، ويقول إنه يتعلَّم ويسمع ويرى وما إلى ذلك، لكن ماذا عن بقية الكلام كله؟ بقية الكلام كله يدور حول ذات هذا المسكين، تخيَّل كيف يعيش هذا في أسرة، هو يعيش في أسرة، فما حجم المُعاناة التي يُسبِّبها لأسرته – لأولاده وأهله وزوجته -؟ شخص خطير جداً جداً جداً، لأنه غير واعٍ بذاته، المسكين غير واعٍ بالمرة بالمرة، هذا المسكين غير واعٍ بذاته.
فحين تهتم بالآخرين اعلم أن الاهتمام ليس هو الاهتمام – كما قلنا – الظاهر المادي هذا فقط، هذا مُهِم ومطلوب، لكن ليس هذا هو فقط، لا! يُوجَد شيئ قبله، وهذا يكون علامة عليه، مثلاً هل يُمكِن أن تسهر الليل فعلاً وأنت تُفكِّر في مأساة إنسان – مثلاً – أو مُشكِلة إنسان؟ شخص من أصدقائك – مثلاً – نفترض أنه فقير أو غير مُتزوِّج أو لم يجتز الامتحان وأمامه فُرصة أخيرة وقد يُطرَد من الكلية، هل يُمكِن أن تقضي ليلة كاملة وأنت تُفكِّر فيه؟ تقول لنفسك كيف يُمكِن أن أُساعِده؟ ماذا يُمكِن أن أفعل من أجله؟ ينبغي أن أدعو له، يُمكِن أن أُصلي من أجله ركعتين، وهذا من غير أن تقول له، هذا يبقى بينك وبين الله حتى، ليس شرطاً أن تقول له ولا أن تقول لي، هذا بينك وبين الله، أنت هكذا، أنت تتصرَّف تلقائياً هكذا، انتبه!
بهذه المُناسَبة سأقتبس فرانكل Frankl مرة أُخرى، لأن الكلام كله عن فرانكل Frankl اليوم، عنده كلمة يقول فيها الآتي, لكن – كما قلنا – ليس عنده الجديد في هذا الخصوص من الناحية الدينية، ماذا يقول؟ يقول الذي يتقدَّس لكي يصير قدّيساً هو فريسي، أي من جماعة الفريسيين هؤلاء، هذه طائفة من اليهودية يشتهر أهلها بالرياء، طبعاً كانوا يُولون العقل أهمية زائدة، مثل مُعتزِلة الإسلام، عندهم العقل والعقل وما إلى ذلك، وعندهم نوع من الرياء، هم مُتشبِّثون ببعض الطقوس وببعض الأشياء، ويقولون إنهم أمناء على الدين وما إلى ذلك، وأصبحت مثلاً في اللُغات الأجنبية، يقولون كلمة الفريسي معناها المُرائي، يُقال هذا Heuchler، أي هذا مُنافِق أو مُرَاءٍ، أي كأنه يقول انظروا إلىّ فقط – من النظر والرؤية –، وهذا صحيح طبعاً ومعروف، ولذلك الصوفيون – مثلاً – عندهم تراث عريق في هذا الشيئ، هناك إبراهيم بن أدهم، وهناك ذو النون المصري – ثوبان بن إبراهيم – مثلاً، ماذا يقول؟ يقول علامة الإخلاص ثلاثة، ومن ضمنها أن تفنى عن شهود إخلاصك، أي لا ترى نفسك مُخلِصاً، بالعكس! ترى أنك كذّاب أيضاً، لكن مَن يُخلِص مِن أجل أن يظن أنه مُخلِص ومَن يُحاوِل أن يتقدَّس لكي يُسمى المُقدَّس أو يرى نفسه مُقدَّساً هذا أكبر مُرَاءٍ، وهذا صحيح، هذا معروف طبعاً، لا يُمكِن هذا، ما هذا؟ هذا بالنسبة إلينا من البديهيات، في مفاهيم السلوك والعرفان الإسلامي هذا من البديهيات البسيطة، أي مُريد بسيط لابد وأن يفهمها في البداية والحمد لله.
فهذا مُهِم لك حين تُريد أن تهتم، لا تهتم لكي تقول لنفسك أنا مُهتَم، لا! هذه مُصيبة أيضاً، إذا قلت لنفسك – أي لكي تريح ضميرك – أنا مُهتَم فأنت لست مُهتَماً، تهتم تلقائياً كما تتنفس، أرأيت؟ تماماً كما تهتم بمَن تُحِب حقيقةً، ابنك – مثلاً – قطعاً أنت تُحِبه، خاصة إذا كان وحيداً وما إلى ذلك، أنت تُحِبه، لو مرض ابنك أنت لا تذوق الغمض، أنت لا تذوق الغمض لكن ليس لكي تُريح ضميرك أو لكي تقول لأمه أو لغيرها والله أنا لم أنم، لا! حتى لو قلت أنت لم تفعل هذا من أجل ذاك الغرض، هذا حدث لأنك فعلاً غير قادر على أن تنام، أحياناً تُحِب أن تنام، لكنك لا تقدر، أحياناً تأخذ الفاليوم Valium لكي تنام، لأن هذا ابنك، يُهِمك أمره حقيقةً.
هل يُهِمك أمر الآخرين؟ هل يُهِمك أمر صديقك أو أمر الذي تدّعي أنه صديقك أو أخوك في الله وما إلى ذلك؟ هذا مُهِم جداً لكي تعرف نفسك، هل تُحِب أو لا تُحِب؟ هل أنت قادر على أن تُحِب أو غير قادر على أن تُحِب؟
بعض الناس يمنع يا إخواني ما لا ينقصه – كما قال النبي – حتى عن أقرب الناس إليه، لماذا إذن؟ لماذا؟ وهذا صديقك أو أخوك، وهذا الشيئ سوف يفيده، سواء كان مالاً أو مُساعَدةً أو رأياً أو نصيحةً أو أي شيئ، لِمَ؟ لأن هذا لؤم، وهذا يعني أن اللؤم هذا – والعياذ بالله – شبه مُتجذِّر في طبيعتك، طبعاً تربوياً يُحدِث تشويهاً، وهو خطير جداً جداً جداً، إياك أن تُحاوِل أن تلتمس العُذر لنفسك، ابتعد لنفسك وعه نفسك، عه نفسك، أي كُن واعياً بها، عه نفسك تماماً وقل كم أنا لئيم! كم أنا حقير في هذا الموقف! عجيب، ما قضيتي أنا؟!
وبالمُناسَبة السلوك الأخلاقي ليس سلوكاً مُبرمَجاً وليس سلوكاً غرزياً، هذا غير صحيح، بالعكس! السلوك الأخلاقي ليس هكذا، اسمه حتى السلوك الأخلاقي، ونحن حين نقول الأخلاقي يُقابِل تماماً الغرزي، في فلسفة الأخلاق يُقابِله، الغرزي يصدر أحياناً حتى من غير تعمل، من غير تحفيز خارجي، وحده! لأنه غرزي، أليس كذلك؟ هذا هو تماماً، السلوك الأخلاقي لُبه وجوهره الاختيار، والاختيار هذا يُمارَس كل ساعة وكل دقيقة، ما رأيك؟ باستمرار يُمارَس، باستمرار!
أعتقد بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin هو الذي قال هذه الكلمة الرائعة، هي الروعة بذاتها، قال نحن في كل يوم، في كل ساعة، وفي كل دقيقة نقف على مُفترَق طرق، نحن نقف على مُفترَق طرق في كل دقيقة كما قال، الاختيار! لكي نُحدِّد ماذا؟ وجهتنا، لكي نُحدِّد خياراتنا، قال هذه الخيارات التي تأتي دائماً على خلفية فلسفتنا في الحياة، أي الإطار الفكري العام الخاص بك! قال هذه الفلسفة التي يُمثِّل اختيارها أخطر وأعظم وأصعب الخيارات في حياتنا، أرأيت؟ هذا يحدث حين تختار وتقول – مثلاً – أأكون مُؤمِناً أو غير مُؤمِن؟ أف! مسألة خطيرة جداً جداً، لأن كلمة مُؤمِن أو غير مُؤمِن هذه فلسفة حياة كلة، أي Weltanschauung، وBig picture، هو هذا كله! هذا أخطر شيئ، لذلك لا تُسارِع إلى تأكيد أنك هكذا أو هكذا ببساطة هكذا، حاول أن تُبرِّر هذا الشيئ، حاول أن تُبرِّره لنفسك تماماً، أعط نفسك الفُرصة، أعط نفسك فُرصة كافية، لأن هذا سيكون أباً لكل الاختيارت أو أماً لكل الاختيارات، وبعد ذلك أنت في كل دقيقة عندك مُنعرَج، ولابد أن تختار، باستمرار باستمرار!
وهذا الذي يُفسِّر لنا يا إخواني الحالات التي تُعتبَر أحياناً مُعجِزة في تناقضاتها، لكنها ليست مُتناقِضة، هي بسيطة وطبيعية تماماً، كيف يكون إنسان في أعمق الذرى الأخلاقية ثم ينحدر من حالق ويرتكب حماقة – مثلاً – لا يرتكبها أخس الناس؟ مُمكِن! وليس شرطاً أيضاً أن أقول نفسياً هذا مُلتاث أو كذا وكذا وأُحلِّله حتى بالطريقة الفرويدية هذه، لا! وليس شرطاً أن أصمه بأنه مُنافِق وبأنه كذّاب، بالعكس! لأن مسألة السلوك الأخلاقي مسألة – كما قلت – غير مُبرمَجة، ولا تُنجَز مرة واحدة، بالعكس! هي قيد الإنجاز بشكل مُستمِر، وهنا جوهر الإنسان.
جوهر الإنسان في أن تكون واعياً بما أنت عليه وبما تُريد أن تكونه باستمرار، لذلك أنا أستغرب من الناس الذين فعلاً لا يُراقِب الواحد منهم حتى خياراته ولا آراءه ولا مواقفه ولا سلوكاته ولا مُنطلَقاته يا أخي لأربعين سنة، يحفظ أشياء مُعيَّنة، ويظل بطريقة نمطية تكرارية يقولها، بالعكس! هذا ليس أخلاقياً، ليس كائناً اخلاقياً، الكائن الأخلاقي ليس هكذا، الكائن الأخلاقي كائن مُجاهِد أخلاقياً، كائن مُناضِل في كل لحظة، في كل لحظة تماماً، فكم هو عميق فعلاً فلسفياً ونفسياً! أبو القاسم الجُنيد – قدَّس الله سره – لخَّصه بطريقة تبدو لمَن لم يفهم هذا غير مفهومة، هل تعرف ماذا قال؟ قال تجد المُنافِق ساكناً على حال واحدة أربعين سنة، وهو مُنافِق وزنديق، قال مثل قدح الزيت، قال وتجد المُؤمِن يتقلَّب في اليوم أربعين مرة، لأن المُؤمِن مُناضِل أخلاقياً، فعلاً عنده نضال أخلاقي حقيقي، عنده نضال أخلاقي!
هل تعرفون كيف؟ حدَّثتكم قبل مرة في درس السبت – درس مثل هذا – عن الذي انتظر أربعين سنة ليبيع نفسه، أليس كذلك؟ وباع نفسه بأرخص الأثمان، وحين تقول له هل فعلت ذلك؟ يقول لك نعم، أنا كنت فقط أُرجئ، أنتظر الثمن المُناسِب، هذا شيئ مُختلِف عما نتحدَّث عنه اليوم، هذا يختلف عن ذاك المُنحدِر، ومن المُمكِن أن يرجع، لا تُوجَد مُشكِلة – إن شاء الله – مع المُنحدِر هذا، لكن هذا وضعه مُختلِف تماماً، لماذا؟ لأن سلوكه الأمين أربعين سنة لم يكن سلوكاً أخلاقياً، كان أشبه بالغرزي، لأنه نمطي، وغير مُبرَّر عنده ذاتياً، ولذلك هو تخلى عنه ليس في لحظة انحدار وإنما في لحظة مُقايَضة، قايضوه في هذه المرة بعشرة ملايين، مَن كانوا قبل ذلك قايضوه بعشرة دراهم، لكن هؤلاء قايضوه بعشرة ملايين، الفرق بينهما بالنسبة له غير قابل للاستيعاب، فقد معه تماسكه بالكامل، لأن ليس عنده أي تماسك أخلاقي من الأصل، هو هذا، وهذا يحدث مع الناس للأسف، يحدث دائماً!
ولذلك الجُنيد – ذكرناه اليوم وسنذكره مرة ثانية – قال لا تكونوا يا أبنائي كفلان، وذكر أحد تَلاميذه، وهو ابن الأخضري، أي قال لا تكونوا كابن الأخصري، فقد استبطن حُب الدنيا والشرف فيها أربعين سنة، ولما واتاه ذلك قفز عليه، قال لأربعين سنة هو صوفي، وهو معنا، لكنه كذّاب، هو – قال – كذّاب، وكان ينتظر الفُرصة الخاصة به، قال أنا كنت أفهمه، لكنني كنت أستر عليه، لأن هذا ممنوع، لنا الظاهر، والله يتولى من الناس السرائر، مثل هذا يُعَد نموذجاً للإنسان غير الواعي بالذاته، للإنسان المُتدثِّر بالأخلاقية، لكنه غير أخلاقي.
سأقول لكم مسألة ثانية أعمق من هذه، لكنها مُهِمة ولطيفة جداً، الشخص الأخلاقي والشخص النمطي أو الزائف – Pseudo – أخلاقياً ما الفرق بينهما؟ الشخص الأخلاقي قد يبدو لنا أقل أخلاقيةً إذا مارس ردود أفعال إزاء خطايا الناس، الشخص الزائف أخلاقياً يبدو لنا أبا الأخلاقية حين يُعرِب عن ردود أفعاله إزاء أخطاء الناس، قد تقولون هنا يُوجَد تناقض، لكن هنا لا يُوجَد تناقض، بالعكس! نحن لا نفهم القضية، كيف؟ أنتم الآن استوعبتم الرسالة، ماذا تكون ردة فعل الشخص الأخلاقي حقيقةً حين تقولون له فلان – مثلاً – زنا والعياذ بالله؟ قد يأتي أحدهم ويقول له فعلاً فلان زنى، هل تعرفه هذا؟ فماذا تكون ردة فعله؟
ذات مرة جاء لي أحدهم وقال لي – هذا قبل أسابيع – هذا الشخص الذي يُصلي خلفك كذا وكذا، وذكر لي اسمه، فقلت له بئس ما قلت يا أخي، قلت له ما هذا؟ فقال لي هذا يحضر لك، فقلت له حتى ولو كان الأمر كذلك هو شاب وغلط، عادي! لا يسقط من نظري وما إلى ذلك، وحاولت أن أُفهِمه وأن أُبرِّر له سلوكه وأن أقول له ماذا يُمكِن أن يفعل، هذا هو! أنا مُتأكِّد من أنني في نظر هذا الأخلاقي الزائف انحططت درجات، ربما مائة درجة، قد يقول هذا الشيخ مُتساهِل كثيراً، الشيخ هذا مُتساهِل، ما قصته الشيخ هذا؟ ما الذي يُريده؟ يُعلِّمنا أن نتساهل في أخطاء أولادنا وبناتنا، ما الذي يُريده؟ لعل هذا يكون مدسوساً، ولعله كذا وكذا، هو كاذب لكن أنا صادق، على الأقل في نظري، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ مَن يقول لي لماذا؟ هو يُجَن ويقول أيزني؟ والعياذ بالله، وكذا وكذا، يُجَن ثم يذهب ويفضحه، يقول فعل فلان كذا وكذا بالاسم.
(ملحوظة) أدلى اثنان من الحاضرين برأيهما في القصة التي يذكرها الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، فقال فضيلته لأحدهما لا يا أخي، ثم قال لهما ألم تستوعبا الرسالة؟ يُوجَد شيئ أعمق من هذا ذكرته قبل قليل، لأن المُناضِل أخلاقياً يعلم معنى الخيار الأخلاقي وصعوبته، المسألة ليست غرزية، المسألة ليست سهلة، وليس سهلاً أن تُبرمِج نفسك، كأن تقول سأكون أخلاقياً، ومن ثم تُصبِح أخلاقياً على مدار الأربع والعشرين ساعة، هذا ليس سهلاً بالمرة، هذه مسألة نضال، كما قال الجُنيد تتقلَّب في اليوم أربعين مرة، تتقلَّب أربعين مرة! مسالة اختيار، مسألة مُفترَق طرق، يلف معها الدماغ، العقل يلف، لأنك فعلاً تُريد هذا، لكن المُنساق بطريقة مُنوَّمة وبطريقة غرزية لا يعنيه هذا كله، هذا ينتظر فُرصته وهو لا يدري، المسكين ينتظر فقط فُرصته، ويُمكِن أن يُمارِس بلا أخلاقيته الزائفة أيضاً – والعياذ بالله – دور المُنافِق فعلاً، يكون عنده حقيقة باطنة وحقيقة ظاهرة، انتبهوا! هذا مُمكِن، هناك أُناس على هذا النحو، هذا شيئ ثانٍ، ويدّعي أنه أيضاً أبو الأخلاقية.
لذلك ليس عنده تسامح أخلاقي مع الناس، لأنه لم يُعان نضال الخيارات والاختيار الأخلاقي، لم يُعانه! لكن الأخلاقي الحقيقي عانى منه، لذلك أنا وجدت هذا حين قرأت سيرة – مثلاً – العارف بالله الشيخ بدر الدين الحسني – قدَّس الله سره -، وهو أكبر علماء الإسلام في وقته إطلاقاً، ويبدو – والله أعلم – بحسب كراماته وما يُحكى عنه أنه كان من أكبر إذا لم يكن أكبر أولياء الله في عصره، طبعاً هو كان علّامة، وكان شيئاً رهيباً في الإسلام، فيبدو أنه كان من أكبر إذا لم يكن أكبر أولياء الله في عصره، وكانت عنده كرامات كثيرة، أي بدر الدين الحسني – قدَّس الله سره – في الشام، شيئ رهيب! تقرأ عنه وتجد أن كان عنده تساهل غير طبيعي إزاء الناس، وبفضل الله كرامته وبركته على الناس كانت غير طبيعية، الحمد لله، لم يأت هذا بمفعول عكسي، لم تتساهل الناس أو تترك الدين وما إلى ذلك، لا! بالعكس بفضل الله، لكن – مثلاً – كان يأتي – وهو الشيخ الوقور – ويفعل الآتي، هو علّامة المُسلِمين، يأتي إليه العلماء الكبار، وكل واحد فيهم عمود علم، تصوَّروا! يتعلَّمون منه العلم والتقوى والصلاح والكرامات، يأتي إليه شاب حليق ببنطال – هذا كان أكبر عيب – فيُجلِسه بجانبه، ويقول هذا حبيب الرحمن، هذا حبيب الرحمن، حبيبه هذا، فيقولون له يا مولانا هذا الشاب حليق وما إلى ذلك، فيقول لهم هذا حبيب الرحمن، هذا حبيب الله، هذا حبيبه، يقول لهم ما شاء الله عليه، ثم يقول له والله لا يُصلي بنا إلا أنت، يقول له هذا ويُعطيه حتى هذه المكانة، يقول له صل بنا جماعة، أنت الإمام، قدَّس الله سره، تصوَّروا!
لأنه كان كما قلنا، لكن ذاك الزائف أخلاقياً ليس هكذا، بالعكس! هو ليس فاهماً بشكل جيد، ويفهم أن المسألة بسيطة جداً جداً، بسيطة جداً! لكن ما أدراك؟ وبالمُناسَبة أنا أقول – هكذا هو تحليلي النفسي – بعض الناس عفتهم – أتحدَّث عن بعض الأعفاء – تُترجِم عن قصور جنسي، مائة في المائة هذا الكلام صحيح، ليس كل الناس وإنما بعض الناس، هو عفيف لأنه قاصر جنسياً، ليس عنده القدرة، ولا يشتهي، لذا يستغرب ويقول لماذا الناس تزني؟ لماذا الناس تتزوَّج حتى؟ لماذا يُحِبون أن يتزوَّجوا وما إلى ذلك؟ لماذا؟ أنا أقدر على أن أظل عازباً، طبعاً لأنك لست طبيعياً يا حبيبي، هابط التستوستيرون Testosterone عندك، صفر! مُشكِلتك هذه، أعانك الله على حالك، ليس عندنا مُشكِلة، بعض الناس عفته لأن عنده سلم تقييم مصالح، ليس تقييم أخلاق، فعنده مصلحة في أن يبقى عفيفاً وشريفاً وصورته نظيفة، مصلحته هنا أكبر، لأنه يأكل بالصورة هذه، هل فهمتم كيف هذا؟ أي مثل بعض علماء الدين ورجال الدين والمُتدينين، هو يجلس ويأكل وهو مُوظَّف وما إلى ذلك بالصورة هذه، هو يعرف أنه لو ضُبِط مرة واحدة مُتلبِّساً أخلاقياً سوف تتحطَّم الصورة هذه، ومن ثم سوف يُحطَّم مصدر رزقه، فهو ليس عفيفاً لأنه عفيف، هو عفيف لأن مصلحته تقتضي ذلك.
ولذلك للأسف حُدِّثنا عن رجل – وكان أبو آدم معنا – معه دكتوراة في الشريعة، عنده مُجلَّدات قام بتأليفها، لكن قبل أن أُكمِل أقول طبعاً لا تظنوا أن كل علماء الدين على هذا النحو، أعوذ بالله! هذه – بفضل الله – القلة الأقل من قليلة، لكن هؤلاء موجودون، أقصد كنماذج، للأسف الشديد هذا الرجل فعل الآتي في مركزه الإسلامي، والأخوات فقط هن الذين قمن بفضحه، تذهب الواحدة لكي تستفتيه، فيُحاوِل أن يُغازِلها ويمسك يديها وما إلى ذلك، فضائح يا أخي! فهو يُريد أن يرى النتيجة، لو هي طاوعته لن يكون عنده مُشكِلة، بعد ذلك قالوا هذه الحركات ليست طبيعية ولا تأتي من شيخ، كيف يُغازِل امرأة ويُمسِك يديها ويُعطيها إشارات؟ ما الكلام هذا؟ فافتُضِح أمره، فبقيَ مثل طرزان Tarzan في غابة مركزه، تركوه الناس، وهو يستأهل، يستأهل ما حصل له، يأكل عيشاً من أُناس يأتون له من خارج المركز، وهم أغبياء مثله، لكن العيش لا يأتي له من جماعته، انتهى! اذهب إلى ستين داهية يا حبيبي، اتضح أنك إنسان داعر، مثل راسبوتين Rasputin، اتضح أن هذا مثل راسبوتين Rasputin، راسبوتين Rasputin في المركز، شيئ حقير!
وهناك إنسان عفيف لأنه أخلاقي، العفة عنده قرار، وقد يكون – بالعكس – عنده منسوب طاقة جنسي غير طبيعي، يُفتِّت الجبال، والمسكين يُعاني أكثر منك ومني، لكن هو عفيف أيضاً، وليس هذا فحسب، وفُرصته أكثر من مُتاحة، هذه يُسمونها الــ Appeal، عنده القابلية، أينما ذهب تفرض النسوان والبنات أنفسهن عليه وما إلى ذلك، ومع ذلك هو يُوسفي المنزع، يقول معاذ الله، معاذ الله، يعتصم دائماً بالعفة، هذا هو، هذا الصحيح، هذا العفيف في ظل الرحمن، هذا العفيف الحقيقي.
لا ينبغي أن يحزن الأول، وهو عفيف، أي صاحب القصور، لا يقل أضاعنا الشيخ، لا والله، لم أضعكم ولم يحدث شيئ، لا! كما قلت لك أمس لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، لا تُعوِّل كثيراً على أنك ستدخل الجنة بعفتك أنت مع القصور، لا تزعل من الله، لكنك تقدر على أن تدخل الجنة بخمسين ألف باب آخر، أليس كذلك؟ مثل صدق اللهجة، كُن صادقاً في لهجتك، كُن صادقاً في موقفك، كُن صادقاً مع نفسك وعن نفسك – مثلاً -، هناك أمانة يا حبيبي، هناك أمانة في الأموال، من المُمكِن أن يكون هذا القاصر جنسياً منهوماً تقريباً بالمال، منهومان لا يشبعان، لو كنت منهوماً بالمال إلى هذه الدرجة كُن أميناً، إن شاء الله تصل إلى الله بالأمانة.
لذلك حتى الكمال في الفهم الإسلامي العميق والعرفاني ليس مفهوماً مُجرَّداً واحداً، الكمال ليس مفهوماً مُجرَّداً واحداً، بالعكس! أي صعب أن يكون مفهوماً عقلياً، لأن كل ما هو عقلي يقبل أن يكون مُجرَّداً، ويقبل التعميم، لا! الكمال ليس بهذه الطريقة، من الصعب أن يكون مفهوماً عقلياً حتى، الكمال مسألة نسبية، وتُراعى فيها الحالة، فكمالك غير كمالي، قد تكمل أنت وتكون كاملاً، ولكن أنت لم تصل في القطاع الفلاني إلى واحد من مائة مما وصلت إليه، وأنا سوف أجد أنني لم أصل أيضاً في الميدان الفلاني إلى واحد من مائة مما وصلت أنت إليه، فأنت كامل ضمن شروطك، وأنا كامل ضمن شروطي، وهذا العامي عند الله كامل ضمن شروطه، والعالم هذا كامل عند الله ضمن شروطه، وقال لك الإمام القرطبي – دائماً ما أقتبسه – وقد يُعاقَب الوزير على ما يُثاب عليه السائس، إذا رضيَ الوزير لنفسه كمال السائس سيُودَع في غياهب السجون، سيُعاقَب! لأن أنت كمالك مُختلِف، وهذا الإسلام أعطانا إياه، وهذه رحمة كبيرة، هذه من رحمة الله – تبارك وتعالى -.
نرجع، إذن الإنسان يتجاوز نفسه، قال إزاء شخص وإزاء معنى، إزاء شخص بالحُب، وهذا موضوعنا اليوم في هذه المسألة، الحُب! أن تُحِب حقيقةً، حين تُحِب زوجك ينبغي أن تُحِبها حقيقةً، فعلاً لم أمتلك عيني وبكيت مُباشَرةً حين التقيت بسيدة فاضلة أعرفها، كانت امرأة مُتموِّلة – سُبحان الله – وكانت يدها طويلة بالخير، كم وكم دعمت – سُبحان الله – أُناساً فقراء ومساكين وطلّاب علم وما إلى ذلك! وهذه السيدة تشقى وتتعب كثيراً في حياتها، سُبحان الله! وكانت تُلخِّص لي فلسفتها في الحياة وتقول لي أنا لا أشقى ولا أتعب ولا اُكوِّن المال لكي أتمتَّع به هنا، أنا أفعل هذا لكي أبلغ به رضوان الله، هكذا هي فلسفتها، وهي عكفت على هذه الفلسفة، شيئ غريب يا أخي، عاشت بهذا، شيئ عجيب! وهي الآن في حالة لا تكاد تُصدَّق، فعلاً أنا أحترمها من كل فؤادي، أي السيدة هذه.
للأسف أُصيبت بمرض الزهايمر Alzheimer هذا، طبعاً وأعطاها الأطباء سنتين، بدأت تفقد الآن طبعاً الذاكرة، الفهم، التركيز، والقدرة على معرفة الاتجاه – Direction -، انتهى! أصبحت كالتائهة، الحمد لله حين التقيتها كانت تعرفني، كانت تعرف اسمي وما إلى ذلك، لكن أشياء كثيرة لم تكن تعرفها، تدخل من الباب ولا تعرف كيف تخرج منه مرة ثانية، صعب! رأت عندي كُتباً وهي تعرفني تماماً، فقالت لي ما هذه الكُتب كلها؟ فقلت لها هذه كُتبي، فقالت أعرف، لكن لماذا كل هذا؟ تظن أنني تاجر كُتب – Buchhalter – وما إلى ذلك، فقلت لها لكي أقرأها، فقالت نعم، نعم، أنت تقرأها، جيد، جيد، مسكينة!
المُهِم هذا أحزنني بلا شك كثيراً، لكن هناك ما أحزنني أكثر، فلم أمتلك عيني، وبكيت مُباشَرةً والله، في هذا اليوم نمت بعد صلاة الفجر، لم أقدر على الاحتمال، شيئ مُتعِب جداً جداً نفسياً لك، قلت لها زوجك ماذا عنه؟ قالت زوجي في بلده، ويقول إنه سيبقى هناك، هذا الذي ذبحني، فقلت لها لماذا؟ قالت ماذا يُدريني؟ قالت بلُغتها ما يُدريني؟ قالت ما يُدريني؟ هو يقول إنه سيبقى هناك، قلت تخلى عنها، الله أكبر يا أخي، الله أكبر يا أخي! هذه انتشلته من الشارع، هذا كان صعلوكاً، لا مال له ولا وظيفة له، كان في الشارع وليس معه أي شيئ، وهي سيدة مُتموِّلة، وكانت في عز شبابها، وهل تعرف لماذا تزوَّجته؟ من الأولياء هي، هي صالحة، في المنام رأته، قالت لي هذا، وهو يعرف هذا، قالت لي رأيت في المنام شخصاً، وقيل هذا سيأتيك وتزوجيه، قالت يشهد الله لم أره من قبل في حياتي ولا أعرفه، وهو من بلد آخر، ويتحدَّث بلُغة أُخرى، قالت وبعد أيام من الرؤيا – وهذا له علاقة بموضوع الأحلام، مُحاضَرتي عن الأحلام والرؤى والقدرة التنبؤية للأحلام – جاء وطرح السلام، وتقريباً طلب صداقة، فعرضت عليه الزواج، فجُن من الفرحة، تخيَّل! وكوَّن ثروة هنا، والآن أينسحب؟ الله أكبر يا أخي!
لأن هذا إنسان لم يعرف ما هو الحُب، الحُب هنا يتمظهر، هنا يتجوهر، حين يضعف الآخر، حين يفقد قدراته، كما قلنا الحُب لا يكون مشروطاً أبداً، حين تتكلَّم لابد أن تعلم هذا، ويُوجَد خطأ بالمُناسَبة في لُغتنا العربية وفي اللُغات الأجنبية، وذلك حين نقول الحُب غير المشروط، يُوجَد خطأ، هل تعرفون كيف هو الخطأ؟ الخطأ يُصحَّح بأن نقول الحُب غير مشروط، أما إذا قلنا الحُب غير المشروط فسيُفهَم من هذا أن هناك حُباَ مشروطاً وحُباً غير مشروط، لا! ما كان مشروطاً لا يُسمى حُباً، غلط! لا أُسميه أنا حُباً، غلط! ففعلاً سنتنازل عن الترجمة هذه ولن نقول الحُب غير المشروط، سنقول الحُب غير مشروط، فكل حُب غير مشروط، كل حُب غير مشروط!
انظر وقس الآن بين حُبك لله وبين حُب الله لك، سوف تجد أن حُبك لله إلى حد بعيد جداً جداً مشروط، لكن حُب الله لك غير مشروط، بالمُطلَق غير مشروط، أليس كذلك؟ وذكرت هذا في درس السبت، حُب أبيك وأمك لك في المُستويات القريبة للمشروطية غير مشروط، في المُستويات النهائية لحدود الإنسان نفسه مشروط، أليس كذلك؟ تجد أن أباك يُحِبك، يقول لأحدهم أنا أُحِبه لأنه ابني يا أخي، ما معنى أنه ابني؟ أُحِب أن أرفع رأسي به، هذا مشروط، لأنه يُريد أن يرفع رأسه، لكن أنت وضعت رأسه في التراب، فهل توقَّف عن أن يُحِبك رُغم أنه قال لأحدهم أنا أُحِبه؟ هناك آباء قتلوا أبناءهم، هناك آباء أطلقوا النيران على أبنائهم، لأفعالهم السيئة وما إلى ذلك، لأن أحدهم وضع رأسه في التراب قتله، لا! ليس بسبب هذا، هو لا يُحِبك لأنك رفعت رأسه وما إلى ذلك، هل تعرف لماذا في النهاية؟ لأنه بمعنى آخر كإنسان محدود أيضاً يُحِب نفسه، كيف يُحِب نفسه؟ هو يُحِبك ويُحِب لك أن تنجح وأن تتموَّل وأن تتزوَّج وأن تُوفَّق وأن تُنجِب وأن يكون عندك كل شيئ، لماذا؟ لكي يقول لك سأموت وقلبي ومُرتاح، إذن هو يُحِبك لكي يُحصِّل سعادة شوبنهاور Schopenhauer، ما سعادة شوبنهاور Schopenhauer؟ قال لك سعادة شوبنهاور Schopenhauer هي سعادة الفرار من المُعاناة، أي ألا نُعاني، يُوجَد نوع من السعادة على هذا النحو، وهذه سعادة سلبية طبعاً، وهذه ليست السعادة الحقيقية، مثل الحُب! السعادة الحقيقية ليست هكذا، لا تكون دفع ألم القلق أو ألم الجوع أو ألم الشوق أو ألم كذا وكذا، لا! هذه شيئ مُختلِف تماماً، سعادة إيجابية، فهذه يُسمونها سعادة شوبنهاور Schopenhauer، فهو يُريد هذا لكي يُحصِّل سعادة شوبنهاور Schopenhauer، أي حتى لا يُعاني.
الآن ماذا لو طبَّقنا هذا – ونستغفر الله – على رب العالمين؟ رب العالمين لماذا أحبنا حين أحبنا؟ فعلاً أحبنا هو، بدليل أنه خلقنا، أليس كذلك؟ خلقنا من لا شيئ، من عدم، من لا شيئ طبعاً أوجدنا، لا إله إلا هو! انظر إلى هذا، وخلقنا كلنا – بفضل الله – أصحاء، أعطانا عينين ومُخاً وما إلى ذلك، نحن من أحسن ما يكون، ونحن نُفكِّر ونعبده وما إلى ذلك، وهذه منّة كبيرة جداً جداً، ودلنا عليه أيضاً، أليس كذلك؟ دلنا عليه، وأغنانا به، نحن أغنياء به، نحن أغنياء نفسياً وعقلياً – بفضل الله – بمعرفتنا بالله وحُبنا لله، كل هذا محبة، محبة! وهو يُعطينا هذا باستمرار، وكل نفس نتنفسه هو من محبة الله، أليس كذلك؟ لو قطع عنك النفس لحظة لانتهى كل شيئ، لكنه يُعطيك باستمرار، مَن عاش ستين سنة عاش لأن الله أعطاه أنفاساً في ستين سنة، وكذلك الحال نفسه مع مَن عاش سبعين أو عاش مائة أو عاش عشرين، كل هذا من الله، محبة! هذه محبة، من فيض المحبة، لماذا؟ هل يُحِبك لأنه يُريد أن يرفع رأسه بك؟ أستغفر الله، هل يُحِبك لكي يُسكِّن حُرقة كذا وكذا؟ أعوذ بالله، فلماذا إذن؟ لماذا؟ فكِّر فيها بعُمق، لماذا؟ إذن هو لماذا يُحِبنا؟ لأنه محبة مُطلَقة، لا إله إلا هو! يا الله، لأنه كرم مُطلَق، أنت حين تُفكِّر هكذا يُجَن جنونك حُباً في الله، تقدر على أن تُحِبه، تبدأ الآن تُحِبه حُباَ غير مشروط، أليس كذلك؟
وهذا الذي وقع للصوفية وللأولياء الكبار، كانوا تحت العذاب وتحت السياط ويصرخون بمحبة الله، وبعضهم كان يصرخ ويقول والله أو يقول وعزته وجلاله لو قذف بي في أعماق جهنم لما ازددت له إلا حُباً، لأنه فاهم جيداً، هذا فاهم، هذا فاهم ما هو الله – عز وجل -، طبعاً يُحَب هذا، لا إله إلا هو! يُحَب محبة فعلاً المفروض أن تكون غير مشروطة، المفروض أن تكون غير مشروطة! لكن حقيقةً في الحدود النهائية نحن كبشر لا نستطيع أن نُحِب محبة مُطلَقة وغير مشروطة، مُستحيل! هذا صعب، هل تعرفون لماذا؟
في النهاية ما يبقى منا هو أنانا، أناي أنا، أناك أنت، مُشكِلة أناك وأناي أنها ليست من ذاتها، منحة! هو أعطانا إياها، لكي نتلذذ بها، كما قلت مرة في خُطبة لكي ننبسط ونفرح بها ستين أو سبعين سنة، وحتى في الآخرة سوف تفرح بها، لكن ليست منك هذه، وليست من ذاتها، هذه منحة منه، لكن أناه هو ليست منحة، أليس كذلك؟ لذلك هو يقدر على أي شيئ غير مشروط، لا إله إلا هو! يقدر على كرم غير مشروط، على محبة غير مشروطة، على غنى غير مشروط، وعلى عطاء غير مشروط، لكن أنت لا تستطيع، في الأخير سوف تجد في الداخل بذرة واحدة، فتدور أيضاً حول نفسك، وحول المنحة هذه، أليس كذلك؟ وحين تُحاوِل أن تُعرِّفها لن تقدر على أن تُعرِّفها حتى، أليس كذلك؟ هل يقدر واحد فيكم على أن يُعرِّف نفسه وعلى أن يقول مَن هو بالضبط؟ مُستحيل! هذا صعب، وقد عقدت عليها خُطبة، هل تقدر على أن تقول لي مَن أنا؟ مَن أنا؟ هذا صعب جداً جداً، سوف تفهم في الأخير أن الأنا هذه ليس لها أي تعريف، لأن هي ليس لها أي وجود من ذاتها، هي منحة، منحة هكذا من عالم آخر، هنا في الهواء المُطلَقات لا تُوجَد مُرتكَزات، لأنها منحة، لا تنتمي إلى هذا العالم، وفي الطرف الآخر – كما قلنا – ذات نسب إلهي.
نعود، فهذا الموضوع أحزنني وآلمني، وهو يُؤلِم كل إنسان حُر، تخليت عن هذه المسكينة لما وقعت، هي الآن أمس ما تكون حاجةً إليك، في أفلام الدراما – أحياناً أحضر أفلام الدراما الأمريكية – أكثر ما يُعجِبني – وهذا يُسحِرني أيضاً، أُحِب الشيئ هذا كثيراً – أن يأتوا إليك بفيلم عن مُعاناة زوج – مثلاً -، وتبقى زوجته – مثلاً – عشر سنوات معه، وهي تقوم على رعايته، وتُهمِل نفسها، وتزوره يومياً، وكذا وكذا، شيئ غريب! وتزور مُستشفيات، وهي أفلام تحكيم، ويقولون إنها Based on a true story، أي هذا المُمثَّل بُنيَ على قصة حقيقية، فتقول ما هؤلاء الناس؟ طبعاً عندنا – بفضل الله – أكثر من ذلك، هذا عندنا، لا ينبغي أن نحتقر أنفسنا، عندنا هذا، في الشرقيين وفي العرب وفي المُسلِمين هناك أُناس – سُبحان الله – عندهم مثل هذا، وهو حُب غير مشروط، ليس بسبب المُجتمَع، بالعكس! هو حُب حقيقي، لكن هذا قليل، عندنا وعندهم حتى قليل، لكن هؤلاء موجودون هكذا.
ويُمكِن أن تجد شخصاً – نفس الشيئ – على هذا النحو، انا أعرف رجلاً معرفة شخصية، لكن لم أعرف هذه الجُزئيات إلا قبل أشهر، زوجته أُصيبت بأمراض مُعيَّنة، ومُنِع من وصالها، قبل أن تُصاب بهذا المرض هو كان ينتوي أن يتزوَّج عليها، هو رجل عنده – سُبحان الله – طاقة زائدة، وهي امرأة كبيرة في السن، وهو كبير في السن، لكن عنده طاقة – سُبحان الله – زائدة، هو غير قادر على الاحتمال، وهي غير قادر على أن تُجاريه، يُحِبها حُباً جماً وما إلى ذلك، وعاشت معه في الحلوة والمُرة، ولكنها غير قادرة على أن تُجاريه في الطاقة، يُريد هذا باستمرار، فكان يُحاوِل وما إلى ذلك، وكان هذا يُؤلِمها، المسكينة كانت تتعب من هذا الموضوع، لكن حين سقطت بالمرض توقَّف كل شيئ، لم يعد لا يبحث ولا يتكلَّم، ونذر نفسه بالكامل لزوجته المريضة، التي يمتنع طبياً عليه وصالها، هذا ممنوع، شيئ غريب، كم احترمت هذا الإنسان! تجلى في عيني، جد في عيني، هل تعرفون كم استمر هذا الوضع؟ هل استمر سبعة أشهر مثلاً؟ استمر سبع سنوات، نعم! هذا لم أعرفه إلا بعد أن تُوفيت، رحمة الله عليها، سبع سنوات لم يقربها ولا مرة، وفي السبع السنوات أفاض عليها من الهدايا ومن النعم ومن المُشتريات والأشياء ما لم يفعله في ثلاثين سنة، قلت هذا إنسان نبيل يا أخي، إنسان فعلاً، في الداخل هذا إنسان غير طبيعي، هذا الإنسان! وماتت رحمة الله عليها، في الأخير انتهى كل شيئ، لكنه لم يكن مثل هذا الأهبل وهذا الصعلوك يا حبيبي، حين وقعت – وقعت من حوالي سنة – فكَّر في أن ينفذ بجلده، وقيل بالمال الذي أخذه منها سوف يتزوَّج (بنت بنوت) كما يقولون، ما هذا؟ ما هذا؟ هذا عنده مبدأ اللذة، هذا فرويدي هذا، هذا ليس فرانكلياً، هذا فرويدي، هذا عنده مبدأ اللذة وأصالة اللذة، اللذة! متِّع نفسك و(ظبِّط حالك)، وعلى الدنيا بعدك العفا، لا! لكن هذا ليس إنساناً للأسف، هذا غير قادر على أن يكون إنساناً، لا يفهم كيف يكون إنساناً، فلن نُطوِّل في موضوع الحُب، موضوع الحُب هذا طويل .
الشيئ الثاني هو المعنى، حدَّثك عن المعنى، وقال لك لابد أن تتجاوز نفسك بإزاء المعنى، قال لك هذا ما يُحدِّد معنى الضمير، ما معناه؟ لماذا؟ لأن المعاني ليس من شأنها دائماً أن تكون عقلية مُتواطأً عليها، لا! قد تختلف، وبالمُناسَبة مَن أسهل: عمل الضمير أم عمل العقل؟ مَن أسهل؟ عمل العقل، عمل العقل مثل آلة حاسبة، تقوم بالضغط عليها وينتهي الأمر، عمل الضمير مسألة صعبة جداً جداً، عمل العقل يقول – مثلاً – لطبيب أو لرئيس قسم المريض هذا جاء من غير تأمين صحي، نعم هو يُعاني من مرض عُضال، لابد أن تُجرى له عملية على جناح السرعة، وليس عنده تأمين، عمل العقل هو عمل القوانين واللوائح، اخرج من هنا، كُن Outside، انتهى! أليس كذلك؟ سوف يرتاح العقل، لن تحدث له أي مُشكِلة مع اللوائح، هل سوف يرتاح الضمير؟ لا.
طبعاً رئيس المُستشفى أو رئيس القسم – خاصة إذا كانت هذه المُستشفى خاصة، أي Private، وهذا يحدث حتى المُستشفيات الحكومية، يحدث في كلتا الحالتين – سيكون مُتواطئاً مع عمل عقله أم عمل قلبه؟ مع عمل عقله، سوف يقول نعم، برافو Bravo عليك، هذا السليم، أي أنت لم تعمل شيئاً Extraordinary، هذا هو السليم، لكن الضمير سيعمل ضد اتجاه ماذا؟ اللوائح والقوانين، صحيح هي تقول كذا وكذا لكنه ضدها، وهو ضد اتجاه مصلحتي أنا كرئيس قسم، ومن المُمكِن أن أفقد وظيفتي، أليس كذلك؟ طبعاً، خاصة إذا كانت مُستشفى خاصة، أي Private، وخاصة إذا كان هذا الشخص عربياً أيضاً، للأسف الشديد من المُمكِن أن أفقد وظيفتي مُباشَرةً وأن أُطرَد شر طردة، لكن الضمير هذا عمله صعب جداً جداً، الأول أنهى قراره في خمس دقائق وارتاح، ثم مارس أعمال أُخرى، أي العقل، الضمير يبقى الليل بطوله يُفكِّر، غير قادر على أن يُنوِّمك كما يقولون، وفي اليوم التالي تظل تُفكِّر فيما حدث وأنت تقود سيارتك، ويحدث لك سرحان، بسبب الضمير، لماذا؟ لأن الضمير قوة حدسية وليس قوة عقلية، الضمير حدس، ما معنى أنه حدس وليس عقلاً؟
طبعاً هناك أُناس يقولون لك لا، هذه كلها تصنيفات فلسفية ومُشاغَبات لفظية، ما هو الضمير؟ هو العقل نفسه في إطار مُعيَّن من التفكير، لا! العقل مُختلِف، العقل لوائحي، قوانيني، مُنظَّم، ورياضي، أي Mathematical، لكن الضمير حدسي، أي Intuitive، ما معنى أنه حدسي؟ أنا سأقول لك، الحدس دائماً يتعامل مع المُفرَدات، ما المُفرَدات إذن؟ أي المُتفرِّدات، أي مع الفرادة، الــ Uniqueness، هكذا هو الحدس، لكن العقل لا يقدر على أن يتعامل مع ماذا؟ مع أي Uniqueness، لا يتعامل مع أي تفرد، يتعامل مع ماذا دائماً؟ مع ما يُمكِن التجريد إزاءه، أليس كذلك؟ هذا العقل، العقل يقول لك هذا، وبالمُناسَبة أنت لكي تتعلَّم لابد أن تعتمد على العقل أيضاً أكثر من الضمير، هذا لكي تتعلَّم، فما مقدار الضمير في البرامج التعليمية؟ هذا لا يزال موضوعاً ثانياً، وهو موضوع تربوي، فلابد من ماذا؟ لابد أن نتعامل مع ما يُمكِن التجريد إزاءه طبعاً، كل العلوم تقوم على التجريد، ليس الفلسفة فقط، وإنما كل العلوم، الاستقراء في الأخير ما هو؟ تجريد، أليس كذلك؟ تجريد عام من جُزئيات، هو هذا! العلم في الأخير تجريدي، الفلسفة طبعاً تجريدية، وهذا معروف، فالفلسفة – مثلاً – أكبر درجات تجريدها تأتي حين تُحدِّثك عن الوجود، مبحث الأنطولوجيا Ontology، ما معنى أنها تتحدَّث عن الوجود؟ تتحدَّث عن الوجود بما هو، ليس بأي تمظهرات، ليس بأي تبديات، الوجود بما هو! هذه أعلى درجات التجريد عندهم كما يعتبرونها، هذا تجريد!
فهذا العقل، وهذا يعني أن العقل لذلك – لقدرته التجريدية والتعميمية وآلياته الاستقرائية – قادر على التصنيف، يقدر على أن يُصنِّف، يضع هذا مع هذا، هذا مع هذا، وهذا مع هذا، ويُعطي كل حالة ماذا؟ حُكمها، هذا صحيح، لكن الضمير ليس كذلك، الضمير يأتي كما قلنا، لأنه يتعامل مع ماذا؟ مع الفرادات، الآن يُوجَد سؤال خطير جداً.
أنتم كبشر أو نحن كبشر حالات مُفرَدة – في جوهرها مُفرَدة – أم حالات من المُمكِن أن تكون تجريدية؟ مُفرَدة، الإنسان كائن مُتفرِّد، وعنده فرادة غير عادية، طبعاً هناك جانب ماذا؟ مُجرَّد فينا، ويُمكِن أن يُجرَّد منا، وهذا معروف، وهو ما يُشكِّل ماذا؟ المُشترَك بيننا، نعم! سواء على الميدان المادي أو على غيره، وطبعاً تشريحنا في الأخير واحد، لو درست جُثة واحدة ستقدر على أن تفهم أجسام ستة مليارات من البشر تقريباً، أليس كذلك؟ يُوجَد مُشترَك، لو درست أيضاً في الميدان الأعلى قليلاً من المسلاخ البدني هذا – وهو الجُثة هذه – قوانين العقل وعلم النفس أيضاً ستقدر على أن تُجرِّب أشياء كثيرة، لكن تعال إلى الحالات الجُزئية – كمسالك، كأفعال، كصيرورة – وستجد في الأخير أن كل واحد جوهره أنه ليس الآخر، عنده فرادة حقيقية، ليست الفرادة فقط في صوته وبصمة عينيه وبصمة جلده وبصمة الأُصبع وبصمة الرائحة وبصمة الجين Gene والحمض النووي، لا! لا يزال هناك ما هو أكثر من هذا، ليست هذه الفرادة، لا! هو مُتفرِّد كإنسان، كخيار، كتوجه، كفعل، وكرد فعل، مُتفرِّد الإنسان، مُتفرِّد بطريقة ليس من السهل أن تفهمها، مُتفرِّد حقيقةً.
إذن بمعنى ماذا؟ كيف – لكي نُوضِّح المسألة – هذا؟، جاءني شحاذان، هذا إنسان وهذا إنسان، هذا شحاذ وهذا شحاذ، هذا مد يده ولم أُعطه وهذا مده يده ولم أُعطه، لكن شعرت بتأنيب في الضمير غير طبيعي بإزاء الحالة – مثلاً – الثانية، لماذا إذن؟ العقل من المفروض أن يرتاح، العقل يُبرِّر عدم إعطائهما لشيئ مُعيَّن، مثلاً سيُبرِّر العقل لنفسه ويقول أنا لم أُعطِهما لأن بصراحة ملابسهما ليست كملابس الشحاذين، يبدو أنهما نصّابان، يبدو أن هذا الشحاذ ذهب وهو يُريد أن يأخذ حقنة – Injection – أو إبرة هيروين Heroin – مثلاً – أو شيئاً كهذا، يبدو كذا وكذا، يبدو أنه يُدخِّن، يبدو أنه كذا وكذا، هذا ليس شحاذاً، العقل يقول هذا ويرتاح، يقول واضح يا أخي، كيف يكون هذا شحاذاً وهو يرتدي كراڤتة وما إلى ذلك؟ لكن الضمير في الحالة الثانية يختلف شأنه، يُوجَد شيئ غير طبيعي، يشعر أن ما حدث غير صحيح، يقول كان لابد أن أعطي الثاني، لماذا لم أُعطه؟ أنَّبه وأتعبه وما إلى ذلك، فذهب وبحث، وفي الأخير اكتشف أن هذا فعلاً حالته يُرثى لها، هو أب مُحترَم وأستاذ في مدرسة ابتدائية، عنده عائلة من عشرة أنفار، لا يجدون حتى رغيف الخُبز، مُرتَّبه لا يكفيهم الخُبز الحافي، والرجل عفيف جداً جداً جداً، ولم يحدث مرة أنه مد يده، يبدو أن هناك ظروفاً كارثية في البيت، اضطرته لأول مرة أن يمد يده لأول مسؤول وهو أنا، ما القدرة العجيبة التي تُوجَد في والتي شعرت بالشيئ هذا؟ هنا لا تُوجَد مسألة تجريبية، لا يُوجَد مُشترَك هنا، مسألة حدسية هنا، مسألة ماذا؟ حدسية.
ستقول لي هل معنى هذا – لأن هذا الكلام خطير فلسفياً – أن أحكام الضمير وحتى المعاني التي يقبع عليها أو يقع عليها الضمير هي أحكام ذاتية أو نسبية؟ أنا سأقول لك انتبه، لا تُعادِل بينهما، هذه المسألة فلسفية وهي عميقة، ليست نسبية، لكنها ذاتية، هذا الصحيح، وفرق كبير بين النسبي وبين الذاتي، انتبه! فرق كبير بين النسبي وبين الذاتي، وخاصة إذا تعلَّق الأمر بموضوع الضمير، وليس بموضوع العقل، انتبه! وخاصة إذا تعلَّق الأمر بأحكام وقيم ومعانٍ يتعاطى معها الضمير، هناك فرق بين النسبي وبين الذاتي، لماذا؟ من شأن النسبي أن يُقوِّض المعنى في النهاية، طبعاً لأنه يُعادِله حتى بمُعادِل، لكن الذاتي ليس من شأنه أن يُقوِّض المعنى، بالعكس! وخاصة إذا تعلَّق الأمر بالضمير، كيف؟
الذاتي أحياناً لا يُعكِّر على موضوعية موضوعه، وسأضرب لكم مثالاً بسيطاً جداً وسهلاً، نحن الآن نجلس في هذه الغُرفة، وهي لها نوافذ على الخارج، لكن أنتم تجلسون في زوايا مُختلِفة، أشرت أنا بيدي – مثلاً – إلى نافذة، وقلت انظروا إلى تلكم الشجرة أو إلى ذلكم النُصب – مثلاً – التذكاري، فنظرتم، كلٌ من زاويته، لا يُوجَد اثنان رأيا الشيئ نفسه بنفس الطريقة، أليس كذلك؟ لكن يجوز أن نقول إن الجميع رأوا الشيئ، أليس كذلك؟ الشيئ نفسه! رأوا الشيئ نفسه، لكن لم يره اثنان بنفس الطريقة، كيف نقول رأينا الشيئ نفسه لكن لم نره بنفس الطريقة؟ رأينا الشيئ نفسه تأكيد لموضوعية الواقعة، هناك موضوعية، لأنه موجود هناك يا حبيبي، سواء رأيته أو لم تره هو موجود، ولم يره اثنان منا بنفس الطريقة تأكيد على الجانب الذاتي في الرؤية، أليس كذلك؟ إذن ببساطة فلسفية ومن غير تعقيد يُمكِن للنظرة أو للمنظور أن يكون ذاتياً دون أن يُعكِّر على موضوعية الواقعة، أليس كذلك؟
فلذلك هنا الضمير يأتي فعلاً كقوة حادسة، يأتي كقوة حادسة وليس كقوة عاقلة، يعمل هكذا، على كل حال إذا عمل الضمير وارتاح فهذا لا يعني في نهاية المطاف أنه يُصيب دائماً، أليس كذلك؟ قد يُخطئ، وإذا أخطأ ضميري فهذه إشارة على أن ضمير غيري هو الذي أصاب، أليس كذلك؟ من المُمكِن للضمير أن يتصرَّف بطريقة ثانية، فهو الذي أصاب، لكن أنا في نهاية المطاف لكوني مُرتاحاً مُصيب بالمنهج الذاتي أو مُخطئ؟ مُصيب، لأنني انطلقت من ضميري، فهذه هي، وهذا طبعاً كله – أي كل هذا التحليل – لا تعترف به مدرسة السوبر-إيجو Super-ego، لا تفهم الضمير بالطريقة هذه، تفهمه كشيئ مُختلِف تماماً، وهذا غير صخيخ، فهو أرقى وأدق من هذا.
سنضطر الآن لأن اقتربت صلاة العشاء أن نختصر الكلام، لكي نُعطي الفكرة العامة التي وعدنا بها، نأتي الآن إلى موضوع وعدت به في أول المُحاضَرة، قلت هذا الرجل – أي فرانكل Frankl – طوَّر منظوراً مُركَّباً أو أكثر تركيباً من مدرسة فرويد Freud وأدلر Adler، هو يُسميه الأنثروبولوجيا الأبعادية، أي الــ Dimensional anthropology، يُسميه هكذا! كيف؟ يقول الإنسان ظاهرة مُتوحِّدة، والظاهرة يُمكِن تفكيكها، ولكن حين يتم تفكيكها تفقد ماذا؟ تفقد معناها، (ملحوظة) قال أحد الحضور الكل ليس هو مجموع أجزائه، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، الكل أكبر من مجموع أجزائه، وليس مجموع أجزائه، هو يختلف أحياناً بالكامل، مثل المُركَّب الكيمياوي، أليس كذلك؟ أنت الآن يُمكِن أن أعطيك غاز هيدروجين Hydrogen بشكل مُنفرِد، لكنه لن يفعل لك شيئاً، لن يفعل لك أي شيئ، ويُمكِن أن أُعطيك بعد ذلك غاز أكسجين Oxygen بشكل مُنفرِد، ولن يفعل لك شيئاً أيضاً، لكن إذا امتزجا بنسب مُعيَّنة يُعطيان ماذا؟ الماء، الماء شيئ مُختلِف عن الهيدروجين Hydrogen وعن الأكسجين Oxygen وعن مجموعهما، هو أكبر من مجموعهما، هو شيئ مُختلِف، سُبحان الله!
فكيف يُشبِّهها فرانكل Frankl؟ بطريقة ذكية ومُمتازة، يتحدَّث عن مسألة الأبعاد، فما مسألة الأبعاد هذه والأبعادية؟ قال لك مسألة الأبعاد كالآتي، لو كان جُزء من الظاهرة ينتمي إلى بُعد مُعيَّن وتم إسقاطه – أي حدث Projection، فصار مُسقَطاً – سيُحدِث في بُعد آخر الالتباس، وقد يُحدِث مُعادَلة زائفة بينه وبين ظاهرة أُخرى تختلف عنه، يفقد فرديته، يفقد هذا الجُزء من الظاهرة فرديته، ويتعاضد بشيئ ثانٍ، هو يختلف عنه تماماً، وبالتالي يُصار إلى سوء التأويل والتفسير، سنغلط في التشخيص ونغلط في العلاج، وقد يموت بسبب العلاج في الأخير أيضاً، كيف؟ قال لك تماماً مثل مخروط ومثل كرة ومثل أسطوانة، هذه الثلاثة الأجسام – هذا تشبيهه هو، سُبحان الله أنا دائماً أُشبِّه به في أشياء أُخرى فيزيائية، لكن هو أخذ هنا، وهو موجود، أي تشبيه معروف ونمطي – موجودة طبعاً في عالم ثلاثي الأبعاد، لو تم إسقاطها على عالم ثُنائي الأبعاد ستظهر كلها على أنها ماذا؟ دوائر، هناك دائرة، وهناك دائرة، وهناك دائرة، في الحقيقة الآن أحدث لنا هذا الإسقاط لبساً ومُعادَلة زائفة، أليس كذلك؟ فقلنا هذا مثل هذا، ويُمكِن أن نقع ونقول أصل هذا – أي أصل هذا الشيئ، ونحن نعرف أنه ظل، أي Shadow أو Schatten – مثل أصل هذا، إذن هما شيئ واحد، غير صحيح! هم ثلاثة أشياء مُختلِفة، ولن تظهر على حقيقتها ولن تظهر معناها ودلالتها إلا ضمن ماذا؟ ضمن بُعدها.
لذلك هو عنده – أي فرانكل Frankl – وبذكاء أيضاً يُحسَد عليه، عنده حل يستند على هذا التشبيه البسيط والنمطي في مُنتهى الذكاء لمسألة القيم والتقييم، المسألة التي ربما مِن أحسن المُعاصِرين كان درساً لها ماكس شيلر Max Scheler، لكن هذا موضوع ثانٍ، المُهِم هو كيف هذا؟ قال لك في الأخير القيم كما يُعرِّفها هو هي مجموعة معانٍ، وهذا هو الفرق بين المعنى والقيمة، القيم في الأخير ما هي؟ نحن نقول – مثلاً – الأمانة، هذه الأمانة قيمة، وكذلك الصدق – مثلاً -، الاستقامة، والعفة، هذه قيم، لكن المعاني تُعطيها الأحداث والوقائع والمُفرَدات، كثيرة جداً جداً، أما الأُخرى فهي قيم، هو يقول ما ذكرت، وأنتم ترون أن هناك جُزءاً كبيراً وجوهرياً من نظريته يقوم على ماذا؟ الفردانية والتفرد، تفرد الإنسان، تفرد الظاهرة، تفرد المعنى، وتفرد كذا وكذا، يقوم على العيش معه وعلى احترامه، وبالمُناسَبة هذا في نهاية المطاف – في التحليل الأخير – احترام لإنسانية الإنسان.
الإنسان يا إخواني هكذا، وهو نفسه عانى من شيئ، هل تعرفون لماذا؟ قد يكون ما نفوله هو ردة فعل أيضاً، وهي مُبرَّرة طبعاً ومفهومة، ما أكثر شيئ ربما عانى منه في السجن؟ هو طبعاً تناوبته أربعة مُعتقَلات نازية، أي الدكتور المسكين فرانكل Frankl هذا، وعنده قصة غريبة، أنا أبكتني لما قرأتها، أُريد أن أحكيها لكم حتى لا أنساها، مُبكية فعلاً، وتُؤكِّد أن هناك رباً يا أخي، وهو رب للجميع، هو رب للجميع وهو يسمع ويرى، يرى الناس ويرى شروط الناس أيضاً، وهذا على ذكر موضوع الذاتية، فأنا سوف أحكي هذه القصة ضمن موضوع الذاتية والنسبية، قال بعض الناس سيعترضون إذن، وسيقولون لك ما دام الضمير يعمل بهذه الطريقة الذاتية فالمسألة لا تعدو أن تكون مُجرَّد إسقاط، الضمير يُسقِط المعنى الذي يُريده على موضوع مُعيَّن، قال لا، قال ليس هكذا، إذن لابد وأن يُوجَد الآن – حتى لا يكون هذا إسقاطاً – أصل أكبر من أن يقبل الإسقاط، أصل عام ومُشترَك وثابت وعابر للزمان، وهذا ضد نسبية الأخلاق، قال أنا حدث معي شيئ سأحكيه من تجربتي الشخصية، وهو مُثير، وفعلاً هو مُثير.
قال تلقيت من السفارة الأمريكية بالنمسا – وهو نمساوي – قبل أن أُساق إلى مُعتقَلات النازيين، تلقيت منهم فيزا Visa – ليست طبعاً مفتوحة، إلى أمد مُعيَّن، وبعد ذلك تنتهي صلاحيتها طبعاً، أي هذا المقصود – بأن ألتحق بالجامعات الأمريكية لكي أُدرِّس فيها، وقال أنا كنت رئيس قسم الأمراض العصبية في مُستشفى هنا بفيينا، وطبعاً هذا ما أتاح لي أن أحمي عائلتي، قال لم أكن مُتزوِّجاً في تلك الأيام، لكن كنت أحمي والدي، لكن علمت أن هذا لن يدوم، لأن أمثالي يُساقون إلى مُعتقَلات النازيين، يا أخي – والله – هذه كانت فعلاً مظلمة كبيرة، ما هذا يا أخي؟ يأخذون الأطباء والعلماء وما إلى ذلك، وهم أُناس طيبون، الكل! يأخذون الكل، يأخذون الطيب مع الخبيث، شيئ يُصيب بالجنون، هذه حقارة، فقال ماذا؟ علمت أن هذا لن يدوم طويلاً، وجاءتني هذه الفيزا Visa لكي أذهب إلى هناك، وهذا يعني أنني سأُؤمِّن نفسي في أمريكا، انتهى! كان اليهود يبيعون كل ما فهوقهم وتحتهم، من أجل ماذا؟ من أجل أن يأخذوا تذكرة باخرة لكي يذهبوا إلى أمريكا، لكن هذا كعالم مشهور عالمياً طبعاً هم طلبوه في أمريكا، قالوا له تعال عندنا، تفضَّل هنا، فقال أنا صار عندي تردد وتوتر، توتر بين ما أُريد وما لا أُريد، بين ما أُحِب وبين ما ينبغي، صار هناك توتر، وطبعاً هنا بالمُناسَبة في منطقة التوتر هذا دائماً ما يُعاد أيضاً إنتاج الإنسان باستمرار، تُعيد إنتاج نفسك وترى نفسك في نطاق التوتر هذا بين I’m و I ought، أي أنا أكون كذا وينبغي أن أكون كذا، يحدث توتر شديد.
فقال قلت لو ذهبت سأنجو بنفسي، لكن سأترك مَن؟ والدي، طبعاً هنا المسألة صعبة جداً جداً، هل تعرفون لماذا؟ أُذكِّركم بالدرس الذي عقدناه وكان كله عبارة عن مُحاوَرة بيني وبينكم عن موضوع ماذا؟ الطاغية الذي قال لرجل لابد أن تقتل والديك، لأن عندنا أمر بقتل كل مَن تعدى – مثلاً – سن الثمانين، وإذا لم تفعل يا حبيبي فستُعاقَب أنت بتُهمة خرق القانون الملوكي وتُقتَل أنت ويُقتَل والداك، هذه مسألة فلسفية، وهي مُعقَّدة جداً جداً، ماذا يفعل كما قلنا؟ وبعضكم خالف ببساطة شديدة جداً وقال فليقتلهما لأن في الأخير الأمر سيان، وهذا كلام فارغ، لا! هذه مسألة أخلاقية ووجودية مُعقَّدة جداً جداً، ها هو فرانكل Frankl حصلت له حقيقةً، كيف إذن؟ لو سافرت على الأقل سأنجو، وطبعاً لم يقل لنفسه أنا عالم كبير وعندي أفكار علمية وفلسفية – علماً بأنه لم يكن طبيباً عادياً، وكان طبيباً نفسياً أيضاً وعالماً في الأعصاب والكيمياء، أي كان عالماً كبيراً بل علّامة كبيراً، وقد اخترع أشياء مُعيَّنة تتعلَّق بعض الأدوية والوصفات، إنسان غير عادي، عبقري من العباقرة -، ومن ثم ستُحرَم البشرية من علمي ومن مُخترَعاتي وما إلى ذلك، لم يقل هذا لنفسه أبداً، جعلها في إطار يسمح له على الأٌقل قليلاً باستثمار التوتر هذا، لكي يُسيطر على نفسه، وطبعاً لو ظل هنا سيموت في الأغلب طبعاً، سيموت هو ووالداه، فبالعقل المنفعي البراجماتي المصلحي ينبغي أن يذهب هو، هذا أحسن وأفضل له على الأقل، يموت اثنان أحسن من أن يموت ثلاثة، وهذا الثالث مَن هو؟ عالم كبير، أبوه وأمه كانا من الناس العاديين، لم يكونا من العلماء، لكن هو لم يفهمها هكذا، فماذا قال بالضبط هو؟
قال وفي مثل هذه الحالات بالذات تبرز الحاجة إلى ما يُعرَف بالإشارة الإلهية، أي إنهم يقولون إن الله موجود وما إلى ذلك، وهو يُعطي إشارات في بعض المرات، هذا المسكين يشعر بأن الأمر انتهى، ولم يعد قادراً على الاحتمال، المسألة صعبة، أصعب من أن يقدر على أن يقطع فيها برأي نهائي، لذا قال أنا أُريد إشارة، لو أتت إشارة من الرب سيختلف أمري، وهنا – في هذه التجربة الخاصة – لا تقدر على أن تملك عينيك، شيئ صعب جداً، ولك أن تتخيَّله، قال عُدت إلى البيت – حين طلب هذه الإشارة هو عاد إلى البيت – ووالدي جالسان بابتئاس، قال فحانت مني التفاتة إلى قطعة رُخام على المكتب – رُخامة صغيرة هكذا، رُخامة هكذا غير مُنتظَمة الشكل -، فقلت ما هذه القطعة يا أبتِ؟ قال أنا جلبتها من المعبد اليهودي الذي تم تدميره على يد الاشتراكيين هؤلاء، قلت لماذا؟ قال لأنها من المعبد يا ابني وهذه لها قيمة خاصة، قلت لماذا لها قيمة خاصة؟ قال هذه كُتِب عليها – أي على الرخامة هذه – الوصايا العشر، وحتى بقيَ شيئ يُذكِّر بإحدى هذه الوصايا، ها هو مكتوب على هذه الرخامة، قلت ما هو؟ شيئ عجيب يا أخي، لا إله إلا الله فعلاً، قال مكتوب عليها أطِع وأكرِم أباك وأمك تقطن الأرض، قال فعلمت أنها إشارة، قال يُمكِن لأي مُجادِل فرويدي ومُحلِّل نفسي أن يُجادِلني وأن يقول لي هذه عملية إسقاطية، كيف هذا إذن؟ أنت أحببت هذه النتيجة وأحببت هذا الحُكم فأسقطته على قطعة الرُخام، لكن هذا كلام سخيف يا أخي، هذه ليست قطعة رُخام غُلف أو خام Raw، هذه قطعة رُخام مكتوب عليها جُزء من الوصية، والوصية تتحدَّث عن الوالدين، هل هذه أيضاً إسقاط؟ وقد يُقال من المُمكِن أن يُوجَد إسقاط بطريقة رجعية، أي أسقطت قبل مائتي سنة حين أُقيم كذا وكذا، ما الهبل هذا؟ استهبال هذا، هذا جنون مادي، لا يا حبيبي، يُوجَد بُعد ميتافيزيقي للظاهرة هذه، فرانكل Frankl نفسه كان عالماً، وهو كان عالماً في الأعصاب وفي الكيمياء، وكان يفهم أن هنا تُوجَد إشارة، أرأيت؟ حاول – كما قلنا – أن يُجاري الفرويدي، وناقشه ثم تجاوزه، أرأيت؟ فالمسألة أبعد من هذا وأعمق من هذا.
على كل حال نعود، اللهم صل على سيدنا محمد، الآن نأتي إلى موضوع خلع المعنى، خلع المعنى على المُعاناة، طبعاً أولاً هناك أُناس – كما قلنا – يُفكِّرون مثل هذه التي ألَّفت كتاباً عن السعادة والتعليم – Happiness and Education – وقالت لك لا، نحن ضد المُعاناة، وهذا ليس لازماً في الديانة المسيحية بالذات، علماً بأن أكثر دين تقريباً كان مع المُعاناة وقدَّسها وخلع عليها تيجان هو الدين المسيحي، أليس كذلك؟ وهذا ليس جيداً، هذا الصحيح، مبدئياً هذا ليس جيداً، المفروض أن يكون عندنا اتجاه تربوي يُحاوِل أن يُقلِّل بقدر الإمكان من كل مُعاناة، ولكن في نهاية المطاف – وهذا كلام فرانكل Frankl – هل يُمكِن أن تكون الحياة وأن تستمر بلا مُعاناة؟ مُستحيل، قال أنا عندي ثالوث أُسميه الثالوث المأساوي للوجود البشري، اسمه الثالوث المأساوي للوجود البشري! هو عنده هذا، وهو عنده ثلاثة ثواليث، لابد أن نعرفهم، الثالوث الأول هو ماذا؟ كما قلنا في البداية صُلب النظرية يمثل في حرية الإرادة، إرادة المعنى، ومعنى الحياة، هذا ثالوث، في معنى الحياة تُوجَد ثلاث مجموعات من القيم تُوجِّه المعنى، أي معنى الحياة، وهي القيم الخبراتية، القيم الابتكارية، والقيم الاتجاهاتية، هذا ثالوث ثانٍ، الثالوث الأخير – وأيضاً له علاقة بالمعنى، أي معنى الحياة – هو ثالوث المأساة، أي ثالوث الجانب المأساوي للوجود البشري، ثلاثة أشياء يقولها فرانكل Frankl، وهذا صحيح، ويستحيل أن تجد إنساناً يفر منها أو يتخطاها دائماً وبالمُطلَق، مُستحيل! هذه مُحيطة بكل واحد، الألم، الخطأ، والموت، هذا ثالوث، مُستحيل الفرار منه، مَن منا لم يألم في حياته؟ هل هناك مَن يعيش ويموت دون أن يألم؟
وبالمُناسَبة مَن وُلِد وعاش فقط لحظة ميلاده ثم مات خبر خبرة ماذا؟ الألم، أليس كذلك؟ معروفة خبرة الألم حين يتم انتزاع الجنين من أحشاء أمه، هذه خبرة مُؤلِمة جداً، وهذه الخبرة تعمل Trauma، أي تعمل صدمة، وهذه موجودة في علم النفس، خاصة الفرويدي، يقول لك صدمة الميلاد، اسمها صدمة الميلاد، أي لا يُمكِن إلا هذا، هكذا هي حياة الإنسان، سُبحان الله! في بداية حياته يخبر هذا، وفي الأخير عنده ماذا؟ ألم الموت، والذي يُؤلِم غيره أيضاً، هذا يُؤلِم غيره، غيره يتألَّم ويحزن ويبكي ويُصرِّخ ويندب حظه وما إلى ذلك، لا يُمكِن إلا هذا، فنحن عندنا الألم، وطبعاً هناك صنوف من الألم لا عد لها ولا حصر في الحياة كلها.
عندك الخطأ – قال لك – والفشل، مَن منا لم يُعان الفشل؟ حتى الأنبياء عانوا منه، وإن حاول بعض الدراويش أن يقول لا، النبي كذا وكذا، هم يعتبرون أن كلمة فشل كلمة سيئة، لماذا؟ كلمة فشل من صميم الإنسانية، ليست كرامة في النبي أن تُجرِّده من إنسانيته، أرأيت؟ هناك كلمة هامة أُريد أن أقولها، اليوم ذكرت ماكس شيلر Max Scheler، وربما نتعرَّض له فيما بعد، المُهِم أن هناك كلمة عظيمة لماكس شيلر Max Scheler، هل تعرف ماذا يقول؟ من حق الإنسان أن يُعاقَب على خطيئته، أين الروعة في الجُملة هذه؟ ما الروعة في التعبير هذا كله؟ ما جانب الروعة في هذه الكلمة؟
(ملحوظة) أجاب بعض الحضور بإجابات خاطئة، وأجاب أحدهم بإجابة صحيحة، وهي أن جانب الروعة في هذه الكلمة يمثل في كلمة الحق، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، الحق! من حقي أن أُعاقَب، هذا من حقي، من حقي أن أُعاقَب، طبعاً الإنسان البسيط يقول لك لا، أعوذ بالله، لا أُحِب العقاب يا أخي، وأُحاوِل أن أتفلَّت منه، لكنه قال لك لا، اعترافاً مني بإنسانيتك – تصوَّر – واحتراماً مني لفرديتك ولسلوكك وخياراتك سأعترف بحقك في أن تلقى العقاب العادل على جريمتك، هل تعرف لماذا؟ لأنك لو لم تلق العقاب سيعني هذا أنني لا أعترف بإنسانيتك، وبالمُناسَبة قد تقول لي ماذا لو تم العفو؟ هذا يكفي، وهذا يقوم مقام التطهير بالمُناسَبة، انتهى! لماذا؟ لأن إذا تم العفو فهذه أكبر إشارة صارخة إلى أن العقاب كان بالإمكان، هذا كان مُمكِناً تماماً، وأنا مُعرَّض له، وهذا من حقي، ولكن لظروف مُعيَّنة تمت مُسامَحتي، أنا أعترف بذنبي، تم الاعتراف به، وربنا قال لك نفس الشيئ، اعترف أنت، والاعتراف يهدم الاقتراف، وأنا سأُسامحك لآخر لحظة، لكن الروعة في أنه من حقي، هذا من حقي، وهذا ليس معناه أن من حقي أن أُخطئ، هذا موضوع ثانٍ، وطبعاً من حقي أن أُخطئ، لكن الأروع من هذا أن من حقي أيضاً أن أتحمَّل مسئولية خطئي، من حقي، ليس واجباً على المُجتمَع إزائي، هذا من حقي أنا، لا تسلبني حقي.
أعتقد – انتبهوا فهذه نُقطة مُهِمة وأول مرة تخطر لي – أن النبي – عليه السلام – كان أكثر من مُوفَّق وأكثر من ناجح تربوياً حين أنشأ أُناساً كان يأتي الواحد منهم لكي يعترف بخطئه، وهم بالمُناسَبة أربعة، في حياتي النبي كلها كان هناك أربعة، هم الذين اقترفوا حدوداً وعُوقِبوا عليها، هو جعلهم هكذا، لم يحدث في حياة النبي أن رجلاً أُقيم عليه الحد بالشهادة – انتبهوا لأن هذه مسألة مُهِمة في تاريخ السيرة -، وإنما كل الذين أُقيمت عليهم الحدود كان باعترافهم الشخصي، هم جاءوا واعترافوا، قال أحدهم يا رسول الله فعلت كذا وكذا فطهِّرني، عجيب! أيقول إنسان طهِّرني؟ وهناك المرأة – في صحيح مُسلِم هذه وعند الترمذي طبعاً – التي زنت وحملت من الزنا، أتت وقالت يا رسول الله فعلت كذا وكذا فطهِّرني، قال لها هل أنت حامل؟ فقالت له أنا حامل، فقال لها لا، انظروا إلى الرحمة، قال لها اذهبي، وأعطاها وقتاً حتى تضع الحمل، وبعد ذلك جاءت وقالت يا رسول الله كذا وكذا، عجيب! ما القصة هذه؟ قال لها لا، حتى تفصليه، ثم رجعت بعد سنتين، وقالت يا رسول الله كذا وكذا، إلى آخر القصة، شيئ غريب! وهذا يعني أن النبي فعلاً استطاع أن ينجح في ماذا؟ في إبراز إنسانيتها، كانوا فعلاً بشراً، لا تقولوا كانوا مُؤمِنين أو غير مُؤمِنين، هم بشر، هؤلاء كانوا بشراً وأُناساً فعلاً، وهم شعروا بهذا، أنا غلطت، وطبعاً هذا بسبب حريتي، حريتي هي التي جعلتني أغلط، حريتي! اخترت هذا الشيئ في لحظة مُعيَّنة بحسابات خاطئة وغلطت، لكن من حقي ماذا؟ أن أتحمَّل أيضاً المسئولية، كما قلنا في أول اليوم تُترجَم الحرية ضمن مفاهيم المسئولية، ولابد تربوياً أن يأخذ هذا تدعيماته، لكن لماذا يا حبيبي جنائياً ليس لازماً أن يأخذ تدعيماته؟ أليس كذلك؟ للأسف رجال القانون ورجال من علم النفس الجنائي بالذات في هذا الميدان بالذات يُحاوِلون منع هذا الشيئ من أن يأخذ تبعاته وتدعيماته الحقيقية والمُناسَبة له، يأتي رجل قاتل وهو قاتل مُتسلسِل، وللأسف في الأخير يحظى بسجن مُحترَم، يأخذ ثلاث وجبات في اليوم، يُمارِس التمارين الرياضية، ويتعلَّم أيضاً في السجن أشياء مُعيَّنة، ثم يخرج ليُمارِس أيضاً قتلاً مُتسلسِلاً، يا أخي ما هذا؟ ما الحماقات هذه؟ لا، كان قديماً من مبادئ القانون – هذا أيام الرومان وقبلهم حتى – أن تتم المُكافاءة بين الذنب والعقوبة، فهذا من حقك يا أخي، ينبغي أن تقول له طهِّرني، لابد أن تقول له طهِّرني لأن هذا من حق الإنسان.
على كل حال هو قال لك عندك ثلاثة، هناك ثالوث، مَن الذي لم يُخطئ؟ مَن الذي لم يألم ويتألَّم؟ ومَن الذي لا يموت؟ لا يُمكِن! فهنا اجعل صاحبة السعادة والتعليم تتكلَّم عن الموضوع هذا، لا تستطيع، مُستحيل! لكن الروعة في كلام فرانكل Frankl تمثل في أنه حدَّثك عن كل مُعاناة أنت تستطيع أن تتجاوزها لكنك لم تفعل، وقال لك عدم تجاوزك لها هو استسلام وخنوع، بالعكس! هذا يُعصِبك، هذا يُحدِث لك عُصاباً، أما التي ينبغي أن نخلع عليها المعنى والتبرير فهي المُعاناة التي لا تُتجاوَز، أي لا يُمكِن إصلاحها، لن يُصلِح العطّار ما أفسد الدهر، في قمتها ماذا؟ الفقد، أي الموت، فقدت زوجتك أو فقدت زوجك أو فقدت ابنك أو فقدت ابنتك، لا يُمكِن! لا يُمكِن إصلاح هذا الشيئ، انتهى! فقدته فقدته، فلابد أن تخلع عليه معنىً، أرأيت؟ أو هناك – مثلاً – عدوان جرى عليك وفي حقك من جهة لا تستطيع ردها، ولنفترض أنها جهة – مثلاً – حكومية، طبعاً المجانين في بلادنا يردون، يردون على مَن؟ على الأبرياء، لأن الواحد منهم انتُهِكت كرامته وحُرمته في السجن، فماذا يفعل؟ يخرج ويُطلِق النار على الشرطة، يُطلِق النار على رجال الأمن، وهكذا! وقد يكون رجل الأمن هذا الذي أطلق النار عليه أكثر تقوى لله منه، فلماذا قتلت هذا وهو مسكين؟
في الجزائر حدث هذا، مجانين الجزائر من الإسلاميين أطلقوا فتاوى قرأتها وعلَّقت عليها مائة مرة، أطلقوا فتاوى باستحلال دماء كل رجال الشرطة ونسائهم وأولادهم، قرأتها في مسجد الهداية قديماً، وربما هي عندي إلى اليوم، كتبها أبو فلان الفلاني – هداه الله وأصلحه – وهو الآن في السجن، شيئ لا يُصدَّق، لماذا؟ ما ذنب هؤلاء؟ جنون! رد فعل جنوني، لأن هو يشعر بماذا؟ هل تعرف بماذا يشعر هو؟ هو يشعر بأنه غير قادر على أن يرد فعلاً على مَن ظلمه حقه، فما الذي أمامك إذن؟ أتُجَن بالطريقة هذه؟ لا ينبغي هذا، أمامك فرانكل Frankl هذا لو كنت تفهمه، وأمامك الدين الخاص بك، عندك الصبر، لكن بالمُناسَبة فلسفتنا للصبر بهذا المعنى مُختلِفة، ودعونا نقول إن هذا يُمثِّل وجهة نظرنا، أنا أقول نحن كمُسلِمين نحتاج إلى فلسفة جديدة للصبر، تجعله أكثر من مُجرَّد عزاء وسلوان، لا! أنا أُريد الصبر عزاءً وسلواناً زائد – وهذا هو الأهم – أنني أُريده تعويضاً، يعمل نوع من التعويض أيضاً، أي الصبر هذا، وهذا أولاً، كيف؟ هذا موضوع يحتاج إلى شرح.
ثانياً أُريد صبراً يُعلِّمني أن نتائجه وثماره ومردوده ليس فقط في الآخرة، هذا مطلوب ويُشكِّل لي عزاءً أيضاً، انتبهوا! والإنسان يحتاج إلى العزاء، لكن لو اقتصرنا على العزاء وحده هذا قد يزيد مأساة الإنسان، لا! لا أُريد العزاء وحده، أُريد العزاء وأُريد التعويض وأُريد مردوداً إيجابياً أيضاً يُشعِرني أيضاً بالإنجاز وبإيجابية المحنة، كيف؟ سوف نرى.
نُريد فلسفة صبر أو فهماً وفقهاً للصبر كما يقول الفقهاء، نُريد فقهاً أو فلسفةً للصبر تُفهِمنا أن مردوده ليس في الآخرة فقط، وإنما في الدنيا أيضاً، أي الآن وهنا، الآن وهنا مردوده علىّ الصبر هذا، وكما أشرت أمس بسرعة شديدة جداً جداً نُريد أيضاً فهماً أو فقهاً للصبر يُفرِّق بين الصبر واليأس، يُفرِّق بين اليأس والصبر والاستسلام، يُوجَد فرق بين الصبر وبين الاستسلام، يُوجَد فرق بين الصبر وبين اليأس، ويُوجَد فرق بين الصبر وبين بلادة الحس، انتبهوا! هناك أُناس مُصابون بتبلد الإحساس، تموت زوجة أحدهم فيظل كما هو، ويُقال لك يا أخي ما أصبره الرجل هذا! الله ألقى عليه الصبر، ولا ألقى عليه الصبر ولا ألقى عليه الحجر، هو رجل مُتبلِّد إحساسياً، واسألوا بناته واسألوا أولاده عنه.
قبل أيام بلغتني قصة رجل أثار غضب كل مَن حضر زواجه عن آخرهم، وكلهم عن آخرهم كانوا مُتعاطِفين في البداية معه، وأنا كنت مُتعاطِفاً معه، وأنا هنا على مبعدة، وهم في فلسطين، كلنا كنا مُتعاطِفين معه، كل واحد منا تعاطف معه بطريقته، لماذا؟ زوجته – رحمة الله عليها – أُصيبت بمرض السرطان، رحمها الله، وهي سيدة مُتدينة إلى حد غير طبيعي، رحمة الله عليها، وهي مُتعلِّمة طبعاً ومُثقَّفة، كانت وصيتها – طبعاً أنا أُخالِف هذا الشيئ – ألا يحضر جنازتها وألا يُشيعها مِن أولادها مَن لا يلتزم الصلاة، مَن يُفرِّط حتى في الصلاة – قالت – لا يحضر جنازتي، أي إنها إنسانة تقية جداً بشكل غير عادي، أنا أختلف مع الوصية هذه، لكن انظروا إلى هذه المسكينة التي قالت هذا، وكان بينهما على ما يُقال حُب وعشرة طبعاً، وأولادهم بلغوا العشرين.
ماتت رحمة الله عليها رحمة واسعة، وتزوَّج هذا الرجل قبل أيام، أي لم يمر أشهر بسيطة، من حقه، ليس عندنا مُشكِلة، لكن أنا لا أُريد أن أن أكذب على نفس حتى، وهذه وجهة نظري الشخصية طبعاً، في مأثورنا الديني لو ماتت زوجتي الليلة لأحببت أن أتزوَّج غداً – يُقال إن ابن مسعود وغيره قال هذا – لكي لا ألقى الله عازباً، وهناك كلام مثل هذا، أنا هذا الكلام في عُمق نفسي لا يُرضيني وأخجل منه ولا أوده لنفسي ولا لأخي ولا لزوج ابنتي ولا لزوج أُختي، لا أُحِبه، ولن أُفسِّره بطريقة جيدة، سأعتبر أنه يُناقِض الوفاء، وفاء الزوجية! وحين يُسأل أحدهم فلِمَ على المرأة أن تمكث كذا وكذا – طبعاً العدد، أي مُدة العدة -؟ يقول لاستبراء الرحم، لكننا سنقول له وماذا عن الآيسة؟ وماذا عن الصغيرة التي لم تحض بحسب كلام العلماء؟ ومن ثم سيقول نعم، هناك جانب آخر وهو الوفاء واحترام كرامة المرأة، وأنها ليست مُجرَّد مُتعة أو مُجرَّد شيئ تتناقله الأيدي، هذا كلام جميل جداً، وهو صحيح، أنا أقول هذا الكلام وأُؤمن فعلاً به حقيقةً، وأيضاً هناك الــ Adjustment أو الــ Readjustment، أي نوع من إعادة التكيف والمُلاءمة، فليس مُمكِناً أن أعيش مع امرأة عشرين سنة في فراش واحد وتكون موضع سري وعيبتي وكرشي – كما تقول العرب – وأكون اطلعت منها واطلعت مني ثم في اليوم الثاني بعد وفاتها ابحث عن امرأة ثانية وأفعل معها نفس الشيئ، هذا صعب يا أخي، والحال نفسه معها أيضاً، لا يُمكِن أن تبحث عن رجل ثانٍ بهذه الطريقة حين أموت، هذا صعب يا أخي، أعطها فُرصة لكي تمتص الصدمة، لكي تُعيد تكييف نفسها مع الظرف الجديد، لكي تُحاوِل أن تُفلسِف وأن تبرِّر هذا الظرف، ولكي تُحاوِل أن تتعايش مع الوضع الجديد، وبعد ذلك يُمكِن أن نُفكِّر يا أخي، لماذا الرجل عندنا يقول هذا؟ هناك مَن قال لك لا، أنا أتزوَّج مُباشَرةً في نفس الليلة، وأصبح هذا عادياً ونحن تقبَّلناه، لكن أنا لم أتقبَّله حقيقةً، وأعتبر أنه يضرب مبدأ الوفاء لعهد الزوجية، أين الوفاء يا حبيبي؟ أين الوفاء؟ أتعيش معها عشرين ثانية ثم في اليوم الثاني بعد الوفاة تذهب لتتزوَّج؟ هل أنت أهبل؟ لا علينا من هذا.
فالرجل هذا تزوَّج بعد فترة يسيرة جداً، ليس عندنا مُشكِلة، فليتزوَّج، وكل مَن تعاطفوا معه حضروا زواجه، وفي حفل الزواج كلهم فقدوا تعاطفهم، هل تعرفون لماذا؟ كان يرقص كالطفل الصغير، أنا أفهم أن ترقص كعريس حين يكون عمرك عشرين سنة أو خمس وعشرين سنة، عادي! لكن لا أفهم هذا حين يكون عمرك سبع وأربعين سنة، ابنك عمره عشرون سنة، ابنتك مطلوبة للزواج، وتجلس في حفل زواج أبيها، وأمها ماتت من مُدة قريبة، ولم ينشف ترابها كما يُقال، أليس كذلك؟ أي جُرح هذا؟ أي جُرح أنت أحدثته لابنتك؟ وهذا الذي جرح الناس وجرحنا، يا أخي ابنتك تجلس في الحفل، وطبعاً قيل إن بناته أصبحن في حالة سيئة جداً جداً جداً، أي ألهذه الدرجة نسيَ أبونا أمنا؟ ألهذه الدرجة هو فرحان – ما شاء الله – فعلاً ومُتكيِّف مع الوضع الجديد؟ هل معنى هذا أنه كان ينتظر أن تموت أمنا المريضة؟ هل فعلاً كان ينتظر هذا ثم أتى موتها كضربة قدر بالنسبة له أو ضربة حظ؟
وليس هذا فحسب، فقد قام – وهو مُتدين وشيخ مثلنا، يتمشيخ هذا المسكين – وفعل ما لا يفعله أهلنا في بلادنا، لأن هذا غير مأثور عندنا ولا نفعله، تفعله العائلات الشاردة الفاسدة، قام وقبَّلها عدة مرات من فمها أمام الناس، وهذا لا يجوز يا حبيبي، عيب هذا، حياء العرب يجعلها لا تفعل هذا، تخيَّلوا! ما شاء الله عليه، فاتصل بي أحدهم – ونحن نعرف هذا الرجل، نعرفه مُذ كان صغيراً – وقال يا أخي يبدو أن الأهبل يبقى أهبل، فقلت له صحيح، لأن هذا أهبل و(هطلاوي) كما يُقال من صغره، كان فيه هبل، تعلَّم وصار أستاذاً وتمشيخ لكنه لا يزال أهبل، والأهبل يظل أهبل، لا عنده فلسفة، لا عنده فهم، لا عنده تخطيط، ولا عنده تقدير للأمور، ما الهبل هذا يا أخي؟ أين؟ ما إنسانيتك أنت؟ ما قيمك في الحياة؟ مسكين وأهبل، هذا أهبل، إنسان أهبل، لكن هذا الأهبل يُخفي وراءه ماذا أيضاً؟ بلادة إحساس، وموضوعنا ما هو؟ بلادة الإحساس، فلا تقل لي هذا صابر، لا يا حبيبي، والله لو كان صابراً على موت زوجته وأُصيب بها وجُرِح – رحمة الله عليها – لما فعل هذا، يُمكِن أن يتزوَّج، ليس عندنا مُشكِلة، لكن لا ينبغي أن يرقص ولا أن يُقبِّل زوجته على مرأى من الناس، أليس كذلك؟ أنا أعتقد أن الإنسان نفسياً سيجد صعوبة في التواصل مع زوجته الثانية هذه إلى فترة ربما غير يسيرة، أليس كذلك؟ لأنه دائماً سيتذكَّر المرحومة، كانت تقول له كذا وكذا، وهذا الشيئ يحدث مع الكل، يحدث مع غير المُسلِم أيضاً، هذا يحدث، لأن العملية ليست سهلة يا أخي، لكن هذا لم يعرف معنى الحُب الحقيقي، وهذا لا يعرف معنى للصبر، لكنه مليء ببلادة الإحساس، فنحن نُريد فلسفة للصبر تُفهِّمنا بشكل واضح – لابد من فلسفة، فلسفة كاملة للصبر – ما الصبر وما اليأس، ما الصبر وما الاستسلام، وما الصبر وما بلادة الإحساس، وأنا أُريد صبراً – كما قلت لك – مردوده أيضاً ليس في الآخرة فقط، وفي الدنيا هنا، أحس به.
فرانكل Frankl حكى تجربة، تُعتبَر – سُبحان الله – غريبة، أنا لا أتوقَّع أن تُجرى تجربة بالطريقة هذه، هذه التجربة أُجريت مع سُجناء – هذا في سجون أمريكا، وهو أجراها حين كان في أمريكا – محكوم على بعضهم بالإعدام بالغاز بعد أربعة أيام، التقوا بمُحرِّر صحيفة السجن، وهو أحد المساجين الذي أصبح – ما شاء الله – مُثقَّفاً في علم النفس والفلسفة، وكان عنده لقاء مُطوَّل مع فرانكل Frankl، وأخذ جائزة أحسن منشور بين مائة وخمس وخمسين مُؤسَّسة اجتماعية، فهذا السجين تعلَّم الكثير، المُهِم أن فرانكل Frankl استفاد من الرجل هذا، فقال بعد ذلك طُلِب مني أن ألتقي شخصياً بهؤلاء المساجين، بمَن فيهم المحكوم عليهم بالإعدام بعد أربعة أيام، قال فأنا نفسي خفت، الرجل تخوَّنته ثقته بنفسه، قال أنا حين علمت أن الواحد منهم سيُعدَم بعد أربعة أيام قلت ما الذي يُمكِن أن أُفهِمه إياه؟ كيف سأدعمه هذا؟ قال شعرت أنني لن أنجح، فرانكل Frankl نفسه! قال ولكن المُدهِش أن ذلك نجح، نجح نجاحاً غير عادي، وهذا المحكوم عليه بالإعدام بعد أربعة أيام – قال لك – عاد بفلسفة أُخرى مُتقبِّلاً مصيره ومُحاوِلاً تبريره بطريقة جعلته أكثر سعادةً، أكثر رضاً، وأكثر هدوءاً، شيئ عجيب، فهم هذا الشيئ، وهذه فلسفة إنسان، ليست فلسفة إلهية، وإنما فلسفة إنسان فاهم جيداً، أعني فرانكل Frankl، لأنه عانى كإنسان، أعتقد لولا أنه مر بتجربة المُعتقَل لما طوَّر هذا العلم بهذه الطريقة العبقرية، لكن – سُبحان الله – المُعاناة لها دور.
وبالمُناسَبة هذا أيضاً يدعم نظريته، أنه استطاع من خلال سجنه ومُعاناته في أربعة مُعتقَلات للنازي، استطاع أن يُلقي – (ملحوظة) قال أحد الحضور كلمة معنى، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم، أحسنت – بمعنى وبشيئ يُحيل هذه المحنة إلى شيئ أشبه بالمنحة، الصوفيون يقولون كم من محنة في طيها منحة! هذه منحة، محنة في طيها منحة، تخيَّل! وهذا أحالها إلى ماذا؟ إلى منحة، وفعلاً نحن الآن نعيش – سُبحان الله – في كرم منحة هذا الرجل، التي ولدت من بطن محنته، وبالمُناسَبة لولا هذا لما قرأتم عن روميو وجولييت Romeo and Juliet – مثلاً -، ومن هنا قد يقول لي أحدكم هل شكسبير Shakespeare كان عاشقاً؟ نعم، كان عاشقاً، وشعر بالعذاب، علماً بأن شكسبير Shakespeare عانى كثيراً، لن تقرأوا روميو وجولييت Romeo and Juliet ولن تقرأوا أروع الملاحم وأروع قصائد الغزل والشعر والحُب الحقيقي ما لم تكن هناك محن، أليس كذلك؟ لن تسمعوا بمجنون ليلى وبقصائده الرائعة جداً جداً – سُبحان الله – ما لم يكن هذا المسكين احترق بهذه المحنة أو مر بها، هذا هو! تُوجَد فلسفة، تُوجَد فلسفة في هذه الأشياء، سُبحان الله! وهذا ربما جُزء من حكمة الله من هذه الأشياء، أي في نهاية المطاف هي تُثري وتُخصِّب الحياة – سُبحان الله – والأدب والفكر والفن والفلسفة، ولو أردنا أن نحترم شيئاً من هذه الأشياء لابد وأن نحترم الفن أولاً بصراحة، لابد أن يحترم الفن أولاً، طبعاً الفن يعني الشعر، يعني الأدب، يعني النحت، يعني الرسم، يعني الموسيقى، ويعني التصوير، هذا كله اسم الفن، بما فيه الأدب، الفن والأدب، الفن هذا يُحترَم!
خطر لي شيئ غريب جداً، هل سمعتم مرة بفنّان أشعل حرباً أهلية أو إقيلمية أو محلية؟ ائتوني باسم فنّان فعل هذا، مَن يعرف – أنا قرأت ولم أعرف – عليه أن يقول لي وأن يُذكِّرني، هل سمعتم بفيلسوف أشعل حرباً؟ كثيراً، الكثير فعلوا هذا، نيتشه Nietzsche هذا أبو النازية بصراحة، أفكاره هي التي أسَّست للنازية، جوستاف لوبون Gustave Le Bon أبو الفاشية، كان موسوليني Mussolini ينام وتحته سيكولوجية الجماهير لجوستاف لوبون Gustave Le Bon، موسوليني Mussolini اعترف مرة بشكل واضح جداً بالآتي، قال أنا أعترف بأن نيتشه Nietzsche من أساتيذي، هناك فلاسفة كُثر أشعلوا حروباً، أليس كذلك؟ هل هناك رجال دين فعلوها؟ نعم، فعلوها كثيراً ويفعلونها، هؤلاء كثيرون جداً، لكن لم يحدث مرة أن فنّاناً فعل هذا، لماذا؟ لابد أن نكون صادقين، نعم! وهذا طبعاً يُغضِب ماذا؟ يُغضِب رجال الدين أولاً، يُصابون بالجنون حين يسمعون هذا الكلام هذا، ويقولون ماذا تقصد أنت؟ هذا هو، رجال الدين يفعلونها أحياناً، وتعرفون أن بسببهم قامت حروب قومية ومحلية وعالمية، الحروب الصليبية مَن الذي فعلها؟ إينوسنت Innocent، فعلها إينوسنت Innocent، أي البريء كما يُقال، وهو ليس بريئاً، هذا مُجرِم، إينوستا الثالث عشر Innocent XIII أشعل حرباً صليبية لمُدة مائتي سنة، أحرقت الأخضر واليابس، كل الدنيا عانت منها، فلا تقل هذا يا حبيبي، هذه كلها مصالح وأموال وما إلى ذلك، ليس أكثر من هذا، أكاذيب! ورجال الدين عندنا يفعلون هذا دائماً للأسف، ليس كلهم طبعاً، أقصد مَن يفعلون هذا منهم، فهؤلاء يفعلون هذا، لكن لا يُوجَد فنّان يفعل هذا، لماذا؟ أعتقد لأن الفنّان بصراحة إنسان أكثر، الفنّان إنسان أكثر، فإذا رجل الدين أصبح إنساناً فقطعاً سيكون فنّاناً، ما رأيك؟ قطعاً سيكون فنّاناً.
أنا بالأمس ذكرت أثناء تسجيلي في فيلم محمد أسد الآتي، طُلِبت مني جُمل عن تقييم مشروعه الفكري وما إلى ذلك، فقلت لهم – وقد قرأت كُتبه في الصغر بحمد الله – الآتي، محمد أسد حين تقرأ له الطريق إلى مكة ترى سيرة روح تتطلَّع إلى اكتشاف ليس الآثار والدوارس والعمران فقط، بل السياسات، بل التقاليد والعادات والأفكار وعوالم الدنيا الأُخرى، فعلاً ترى أن أنها سيرة غير عادية، ولعل هذا ما يُفسِّر اجتراح كثيرين مِمَن قرأوها تجربة – ولكن من زوايا أُخرى – التحول الديني، دخلوا الإسلام عبر قراءة الكتاب هذا، تقرأ الكتاب وتشعر أن الرجل فنّان، أو – أنا قلت – كان مُؤهَّلاً أن يكون فنّاناً حقيقياً، وهذا رجل الدين الحقيقي، هذا عالم دين الحقيقي، نعم لا يحفظ البخاري ومُسلِماً – علماً بأنه ترجم البخاري إلى الإنجليزية، هو ترجم البخاري ويعرفه أكثر منا كلنا، وأكيد هو لا يحفظ الأسانيد ولا يعرف الجرح والتعديل ولا يعرف كيف يأتي بأشعار وأشياء مثلنا – لكن هو أكثر منا فهماً للدين بغض النظر عن أشي شيئ، أنت تُخالِفة في آراء وأنا أُخالِفه حتى في آراء مُعيَّنة، ولكن هذا جوهر رجل الدين، حين يستحيل إنساناً هو يكون في نفس اللحظة فنّاناً، هو فنّان يقبع فيه إنسان حقيقي، إنسان جوهري في الفنّان، والفنّان قادر على أن يتلمَّس الإنساني في كل ما هو إنساني، لا يغفل عنه، مُستحيل!
ولذلك ذات مرة حدَّثناكم عن أنطون تشيخوف Anton Chekhov مثلاً، هذا رائع، حين تقرأه تجد أنه غير طبيعي، فعلاً يُوجَد نوع من الإعجاز، لماذا؟ يتناول شيئاً عادياً مُبتذَلاً، مثل أي شيئ يومي، فإذا تناوله يا أخي فتح عينك وسمعك وقلبك وروحك على معانٍ وعلى أشياء تهز الجوانح منك، تهزها! وتُساهِم في تغييرك وفي تغيير منظورك حتى، مع أنه تناول شيئاً كل يوم نتعثَّر فيه، وعبَّر عن هذا الجاحظ بطريقته اللطيفة، فماذا قال الجاحظ؟ قال المعاني مُلقاة في الشوارع، ماذا يقصد الجاحظ؟ لكن أين كسوة الألفاظ؟ أليس كذلك؟ هل تُوافِقون على الكلام هذا أنتم؟ الجاحظ عبَّر مقلوباً، الجاحظ عبَّر عما نقوله مقلوباً، أنا أقول الألفاظ في القواميس يا حبيبي، هي موجودة في كل مكان، ونحن تعلَّمنا بطريقة رديئة جداً، هذه الطريقة تُعلِّمنا أن الإنشاء محفوظات، أليس كذلك؟ كنا نقول لم يبق من الصباح إلا كذا وكذا، إلى آخر هذا الكلام الفارغ، كم مرة تلقيتم وأنتم صغار Grußkarte! كل واحدة فيها يُكتَب عليها لأن الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان، في كلها يُكَتب هذا، حتى كرهتها، كرهت الجُملة هذه، وكرهت بطاقة المُعايدة هذه، بسبب الكلمة السخيفة المُبتذَلة هذه، ابتُذِلت! هذا الإنشاء كرهناه، لذا أنا أقول لا، أقول الألفاظ مُلقاة في الشوارع، على الأرصفة وفي الطُرق، ومُلقاة في المُعجَمات، ولكن أين المعاني؟ بالعكس! الجاحظ يفترض ماذا؟ يفترض أن المعاني مُلقاة وتحتاج إلى كسوة الألفاظ، وهذا خطير، هذه شهادة ضد الجاحظ، مع أن الجاحظ بصراحة مُفكِّر حقيقي، مُفكِّر حقيقي الرجل، وعميق إلى حد ما، عميق – حتى نكون صادقين – إلى حد ما، ليس عميقاً إلى هذه الحدود التي نراها عند بعض هؤلاء، لكن هو عميق إلى حد ما، مُشكِلته أنه كان يعتقد أن المعاني مُلقاة وتحتاج إلى كسوة الألفاظ، وبالمُناسَبة هذه للأسف فلسفة تربوية أو تعليمية شبه كاملة عندنا في تاريخنا، وهي أثَّرت علينا ولها آثار سلبية كثيرة، تقول بأن فعلاً المعاني والحقائق مُلقاة وتحتاج مَن يحتازها، فقط اذهب وخُذها واجمع منها، وهذا غير صحيح، الآن الفلسفة التربوية الصحيحة تقول لك ماذا؟ إن المعاني كالحقائق، يُعاد إنتاجها، تُنتَج ويُعاد إنتاجها، لابد من هذا، ولابد أن تُكتشَف وليس أن تُكتسَب، لابد أن تُكتشَف، نحن إلى الآن لم نكتشفها بالكامل، الكثير منها لا يزال مجهولاً، لابد أن يُكتشَف، وبعد أن تكتشفها يُمكِن أن تحتازها، لتفقدها بالاحتياز، ليس هذا المنطق التربوي الصحيح.
أطلنا وشعرنا بالملل والزهق، هل نكتفي ونُكمِل في المرة القادمة، أم ما رأيكم؟ (ملحوظة) رغب بعض الحضور في إكمال الموضوع في المرة القادمة، وقال أحدهم هل ويليام رايش William Reich – يقصد فيلهلم رايش Wilhelm Reich – كان زميلاً لفرانكل Frankl؟ فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم والله لا أعرف هذا، لم أسمع بهذا الاسم، ربما! يبدو أن عند حضرتك – ما شاء الله – خلفية نفسية أيضاً، لأنك علَّقت على عدة أشياء، فهل حضرتك درست علم النفس؟ فقال السائل إنه لم يدرس هذا العلم، فقال له فضيلته لكن أنت مُثقَّف، ما شاء الله، فتح الله عليك، لكن لم أسمع أنا بويليام رايش William Reich هذا من قبل، لم أسمع به، فإن شاء الله يُمكِن أن نُكمِل في المرة القادمة، بإذن الله نفعل هذا، من أجل أن نشرح أيضاً أجزاء مُهِمة في النظرية، وكما قلنا هناك معنى الحياة وإرادة المعنى، إرادة المعنى هو عنوان كتاب لفرانكل Frankl، عنوان كتاب مشهور، اسمه إرادة المعنى، وهذا الذي عرَّف بنظريته، وهذا الذي أدخل فكره إلى السجون – أي كتاب إرادة المعنى – بالمُناسَبة، فسنشرح هذا – إن شاء الله – في المرة المُقبِلة – بإذن الله -.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
——————————————————————————————————————————–
أضف تعليق