إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ۩ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
وقع إلىّ سؤالٌ سؤالٌ عجيبٌ وليس بعجيب من فاضلٍ من نُبلاء المسلمين صورته: ما حكمُ هؤلاء الذين يجتهدون في قتل المسلمين وسفك دمائهم وهتك حُرماتهم. ثم يعتذرون ويُعتذَر عنهم ولهم بالقول اجتهدوا فأخطأوا وما على المحسنين من سبيل لأنهم اجتهدوا وقد صح عن المعصوم – صَلَىَ الله تعالى عليه وآله وسَلَّمَ تسليماً كثيرا – فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران – أي إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران – وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد، والحديث أخرجه أبو داود والنسائي أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً وله نظائر؟!
هذا القول المُصطفوي الكريم – إذا اجتهد الحاكم أو إذا حكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد – هو مفخرة من مفاخر هذا الدين ومن مفاخر المسلمين، فهناك أجرٌ حتى على الخطأ ومن هنا سرى بين الناس مسير الضوء أو مسير الشمس، فهذا من مشهور حديثه – عليه الصلاة وأفضل السلام – حيث تعرفه الكافة ويعرفه العلماء بالحري لكن يعرفه العامة أيضاً والجُهلاء، فالكل يقول “فأخطأ فله أجرٌ واحد” وهو من قبيل قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث آخر “استفت قلبك”، والكل يعرف أيضاً “استفت قلبك وإن أفتاك الناس”،وفي رواية “أفتاك المُفتون وأفتوك وأفتوك”، فالكل يعرفه تماماً كما يعرفون القولة الشهير “الأحكام تتغير، فليس يُنكَر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص”، الكل يعرف هذا ويا ليتهم ما عرفوه لأنهم ما عرفوه على وجهه، والمعرفة الناقصة خيرٌ منها الجهل فهى أضر من الجهل، فكأين من رجلٍ أو أمةٍ من عباد الله وإمائه يستحل المقطوع بتحريمه من فاحش الذنب ويعتذر لنفسه فيما بينه وبين نفسه أو فيما بينه وبين خلانه وأحبابه وأصحابه بقول النبي “استفت قلبك”، فيقول استفتيت قلبي، ولكن كيف تستفتي قلبك فيما قطع الله بحرمته في كتابه وفي ما صح عن المعصوم في السُنة؟!
هل يُمكِن أن تزني وتقول أن الرسول قال استفت قلبك؟!
هل يُمكِن أن تكذب وتغتاب وتنم وتشبك بين الناس وتقول أن الرسول قال استفت قلبك؟!
هل يُمكِن أن تتغوَّل أموال الناس وتعدو على حقوقهم وتقول أن الرسول قال استفت قلبك؟!
أي فقهٍ هذا؟!
الجهل خيرٌ منه بمراحل، لأن الجاهل البسيط يعلم أنه جاهل ولا يتقحَّم هذه الورطات حتى يتبين ويستفصل ويستجلي، لكن هذا المُتعلِّم الناقص دعي العلم يتقحَّم كبائر الذنوب ولا يطرف له جفن لأنه استفتى قلبه، يشرب كأساً ويقول النبي قال استفت قلبك وأنا لن أضر بها أحداً لأنني سأشربها وأنام، ماذا سيصير؟!
أي أنه استفتى قلبه كما لو كان فقيهاً في الإسلام، كما لو كان يُمثِّل المذهب الخامس في الإسلام، وهذا شيئ عجيب، لكن هذا كله يهون بإزاء الذين يجتهدون – زعموا – فيُبيحون دماء المسلمين أو الدماء المعصومة لأنهم من أهل الاجتهاد فهم نظراء لأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجعفر وزيد ومالك وابن حنبل وأمثال هؤلاء – الله أكبر – وبالتالي يُبيحون الدماء المعصومة، علماً بأنه ليس شرطاً أن تكون الدماء المعصومة هى دماء المسلمين فقط لأن الأصل في الدماء العصمة والأصل في البشر أنهم معصومو الدماء، وهذا ما أدى إليه تحقيق ثُلة كبيرة من العلماء المُحقِّقين الأفيقين، فكلهم بشر إذن ومن ثم حياة كل واحد منهم معصومة
ولا تُرفَع عصمتها إلا بدليلٍ ثابتٍ لا يُمترَى فيه.
إذن هم يجتهدون – ما شاء الله – فإذا ما قُبِض عليهم ووقعوا في قبضة العدالة ووقفوا أمام القضاة قالوا “اجتهدنا وما أردنا إلا الخير”، الله أكبر، مَن أنتم؟!
ما هى علومكم وفنونكم؟!
ما هو بصركم ونفاذكم في العلم ؟!
لا شيئ، لأنه يستحيل أن يكون أحدٌ على شيئ من علم أو شدا حروفاً – ليس رسخت قدمه في العلم وإنما فقط شدا، ومن هنا يُقال الشادي – من العلم ثم تُسوِّل له نفسه أن يجتهد في استباح دماءة الناس بإسم نصرة الإسلام وإعزاز الإسلام ومُحارَبة ما لا أعلم، فما هذا العبث؟!
كيف تفعل هذا؟!
عند التفكيك يضح أن هؤلاء يلعبون دور المُجتهِد في استنباط الأحكام، وفي الحقيقة هذا حتى ليس من موارد الاجتهاد، عصمة النفوس المعصومة وحرمة النفوس المُحرَّمة مسألة قطعية ولا تحتاج إلى اجتهاد، فكيف ترفع هذه العصمة أنت وبماذا؟!
أي اجتهاد هذا؟!
يظنون أن الاجتهاد يدخل في كل شيئ حين يتحدثون عن الاجتهاد، ولكن المورد الأساسي الرئيس للاجتهاد هو ما لا نص فيه، هذا هو أوسع موارد الاجتهاد، أي شياء لم يرد فيها نص فيجتهد فيها ليس ذا وذاك وذلك وإنما المُجتهِد، ولذلك يُقال الاجتهاد من أهله هو في محله، فهل هذا مورد من موارد الاجتهاد أم ليس من موارد الاجتهاد؟!
ما هو الاجتهاد أولاً؟!
لعلهم لا يعلمون جواباً عن هذا أيضاً، وبالحري لا يعلمون لأنهم لو علموا وتحقَّقوا بآلة الاجتهاد وتوفَّروا على آلة الاجتهاد – أي على لياقات المُجتهِد – ما تقحَّموا هذه الورطات، فهذه من أكبر الورطات على الإطلاق بعد الشرك بالله، بل أنا أقول لك أن الذي يُشرِك بالله – تبارك وتعالى – ثم يتوب يتوب الله عليه ويفرح بتوبته ويصطلح معه، لكن الذي يقتل النفس المُحرَّمة كيف له أن يخرج من هذه الورطة؟!
ولا تقل لي يخرج من هذه الورطة بالاستغفار، اذهب والعب على نفسك، فمن أين أتيت بها؟!
الله أعلم، والمشهور من مذهب عبد الله بن عباس أن القاتل العمد لا توبة له أخذاً بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، ولن نتلوا عليكم الأدلة لأن الأدلة معروفة وهذا موضوع آخر على كل حال!
الإمام الجليل أبو عبد الله مالك – إمام دار الهجرة رضوان الله عليه – سُئل هل لمَن قتل عمداً – يُسمى بالقاتل العامد – توبة؟!
فقال “ليُكثِّر من شرب الماء البارد”، أي تجهزاً وتهيئاً للمُقام في جهنم، فهذا هو معنى الكلام ولذا قال له مالك اشرب ماء بارد كثير من الآن، وانظروا إلى هذا الفخ وإلى هؤلاء العلماء وليس إلى العلماء الذين يستبيحون دماء الناس بأهون الشُبه، ولا أقول يستبيحون دماء الناس بأهون الأسباب وإنما بشُبه فارغة يُستباح دماء الناس بل قطاعات من الناس، فيُقال “الجماعة الفلانية هؤلاء يُقتَلون، القطاع الفلاني في الدولة أو في الشعب يُقتَل”، أي يقتلون قطاعاً كاملاً وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، فهم دماؤهم مُباحة ومن ثم يقولون أينما ثقفناهم استبحناهم، ما هذا؟!
مَن الذي قال بهذا؟!
هل هذا فتوى؟!
ليست هكذا تكون الفتوى.
هل هذا قضاء؟!
هل أنتم قضاة مُعيّنون رسمياً فولتكم الأمة لتقضوا فيها؟!
علماً بأن هذه المسائل لا يُفتى فيها، هناك فرقٌ كبير بين الفتوى والقضاء، وعرضت لهذا من قبل، لكن اليوم جئنا حتى نُجيب عن سؤال هذا الرجل النبيل من نبلاء المسلمين، وأجبته على توي في الحقيقة حين سألني وقلت له الجواب كذا وكذا، فقال ” الله أكبر، اكتب لي فيه، لقد حيَّرت هذه المسألة علماءنا”، فقلت له “ما حيَّرتهم، وإنما يُداوِرون المسائل، فبعضهم يخاف على رقبته ويخاف على نفسه من هذا الإرهاب”، ولكن ما هو الاجتهاد؟!
الاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط – أي لاستنباط – الحكم الشرعي العملي من دليله التفصيلي من الكتاب والسنة.
ولكن هل تعرفون ما معنى بذل الوسع؟!
بذل الوسع حتى آخر مُكنة وحتى آخر قطرة في هذا الوسع، فلا أستطيع أن أبذل فوق هذا الوسع وسعاً، ومن ثم هذا هو وسعي.
هذا هو الاجتهاد وهذا له أهلٌ، على أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -حين قال “إن الحاكم – في رواية – إذا حكم فاجتهد فأصاب فله أجران” كان يتحدَّث عن الحاكم، لم يتحدَّث عن هذا وذاك وإنما يتحدَّث عن الحاكم، ولكنما معنى الحاكم؟!
القاضي، فالله يقول و َدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ ۩ وذلك في سورة الأنبياء، ومعنى يَحْكُمَانِ ۩ هنا أي يقضيان، فالحكومة هى القضاء، فحين يقولون لك الحكومات فهم يعنون الأقضية، ومن ثم أحكام القضاة هى الحكومات، فالنبي إذن يتحدَّث عن القاضي، لذلك قال الرسول لعمرو بن العاص “اقض بينهما” – أي بين رجلين -، فقال “يا رسول الله أنت أولى”، فقال “وإن كنت أولى اقض بينهما”، قال: فما لي إن أصبت؟!
قال “عشر حسنات، وإن أخطأت لا شيئ عليك”، وفي الحديث الصحيح عنه أيضاً له أجرٌ واحد، وفسر أبو سليمان حمد الخطاب – رحمة الله تعالى عليه – في معالم السُنن على أبي داود أنه يُرفَع عنه الإثم، أي فسر الأجر الواحد برفع الإثم، وهو خلاف ظاهر الحديث لأن ظاهره له أجرٌ واحد وهذا هو الذي نقول به فليس هناك ثمة داعٍ للانتقال من الحقيقة إلى المجاز.
على كل حال هذه مذاهب العلماء، فالقاضي ليس ذاك الإنسان الفضولي المُتطفِّل، ثم أن هناك فرقٌ كبير – كما قلت لكم – بين القضاء والإفتاء فخذوا هذا الفرق العام وهو أن الإفتاء إخبار والقضاء إنشاء، علماً بأنه يُوجَد فروق بالعشرات بين القضاء والإفتاء، شيخ الإسلام والعلّامة المُتفنِّن اللوذعي المالكي الإمام شهاب الدين القرافي – تلميذ العز بن عبد السلام – له كتاب لم يُنسَج على منواله إسمه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام” أداره كله وكسره – أي وقفه – على هذه المسألة، فسل نفسك ولنتساءل وليتساءل الذين يتبعون هؤلاء التائهين المُجرِمين: ما الفرق بين المُفتي والقاضي؟!
علماً بأن هؤلاء ليسوا مُجرَّد تائهين فيا ليت كانوا كذلك بل هم مُجرِمون، هم أُناس قتلة ومن ثم أصبحوا مُجرِمين فأرادوا للأمة أن تسير في طريقهم وهو طريق الإجرام والجريمة – والعياذ بالله – باستحلال الدماء المعصومة.
ولكن قبل أن أُكمِل أُريد أن أقول أن الناس اليوم في الأمة المسلمة يُعرِبون عن نوع من التلهف والتشوف بل العشق والحب لليبرالية والحرية والديمقراطية والشرعية، فلماذا؟!
من أجل ماذا نُحِب نحن هذه الأشياء؟!
ودعوكم أيضاً من كسور من المسلمين الذين يقولون أنهم لا يُحِبون هاته الأشياء فهم يُمثِّلون نسباً بسيطة جداً جداً ومُستهلَكة في الأمة الإسلامية لا تتجاوز كما يُقال فاصل صفر صفر صفر واحد في المائة، فمعظم الناس على الإطلاق فعلاً يتشوفون إلى الحريات وإلى الليبرالية وإلى الديمقراطية وإلى الحرية، ولكن هل تعرفون لماذا؟!
فقط لأنها وعدٌ أو وعود بتحسين شروط حياتهم، فتُصبِح حياتهم أكثر كرامة وأكثر إنتاجية وأكثر مصونية وأكثر محفوظية، ومن ثم حرياتك وحقوقك أيضاً تُصبِح أكثر مصونيةً، وهذا شيئ جميل جداً ولذلك هم يُحِبون هذه الأشياء الطنانة الرنانة مثل ليبرالية وديمقراطية وملوخية وإلى آخره.
فما بالنا أو ما بال بعضنا يُصِر على جعل الدين وعداً بإنهاء الحياة من أصلها؟!
هم يعتبرون أن الدين ليس وعداً لتحسين الحياة، بل هو وعد بالقتل، فالدين يُؤخَذ ولكن بإسم الجهاد يُقتَل الناس ويُقال “قاتلوهم والجهاد ماضٍ”، فعن أي جهاد وقتال تتحدَّثون؟!
ما هذا الكلام الذي يُقال؟!
هل أنت تُجاهِد في أمتك وفي شعبك وفي بلدك؟!
كيف لك أن تقتل أبناء شعبك وأبناء بلدك وأبناء جيشك وأبناء أمنك وتأتي وتقول لي هذا جهاد وقتال في سبيل الله؟!
هذا تدمير، ولكن مَن المُستفيد السعيد الذي يُخطِّط ويدفع لذلك؟!
عدو الأمة، واضح أنه عدو الأمة الذي يسعى لتفكيك بلادنا وتفكيك أوطاننا وللقضاء المُبرَم على البقية الباقية منه، ومع ذلك يقولون لك “جهاد”، فتباً لهذه الفهوم وتباً لأولئك العقول – والعياذ بالله – التي تعمل بإصرار وبحماس مُنقطِع النظير على تنفيذ مُخطَّطات أعداء الأمة – والله العظيم – وعلى أن تُبلى هذه الأمة في أعز ما تملك وهو دينها، وعما قليل ستخرج الناس من دين الله أفواجا وسيقولون لك “لا نُريد هذا الدين وهو دين الإسلاميين ودين الحركات والفكر الإسلامي الذي ساهم لمدة تصل إلى ثلاثين سنة في ذبح وتفتيت العالم العربي بدل أن كون مُساهِمين فقط في الإصلاح وفي البناء وفي التعليم وفي محو الأمية وفي خدمة الناس وفي مُساعَدة كل مسعى نبيل يخدم الأمة”، علماً بأننا لا نفعل أي شيئ من هذا ومع ذلك لدينا شعور عجيب وانتفاخ داخلي سرطاني بأننا الأحق في كل شيئ وبكل شيئ، فلماذا؟!
لأننا نتكلم عن الله – تبارك وتعالى – ومن ثم نحن وكلاء الغيب، وذلك لأن لدينا بعض اللحى والأحجبة والأنقبة وكأن بقية الأمة زنادقة وكأن الأمة نفسها كافرة من عند آخرها، أما نحن فلنا امتيازات خاصة، ولذلك بالقوة وبالسيف وبالإرهاب نُريد أن نكون هنا وأن نُنفِّذ كل ما نُريد.
إذن هذا وعد بالذبح والتدمير وتكريه الناس في هذا الدين العظيم، علماً بأن باب الدماء هو أضيق الأبواب في شرع الله- تبارك وتعالى – على الإطلاق، فلماذا هذا التوسع فيه؟!
فضلاً عن أن هذا التوسع يأتي مِمَن ليس له أدنى أهلية ليُفتي كما أنه ليس بالقاضي ليقضي، إذن أنت لست مُفتياً ولست قاضياً فلماذا تتكلَّم إذن؟!
فالقضاء – كما قلت لكم – إنشاء والإفتاء إخبارعن الحكم الشرعي ونقل لصورة الحكم الشرعي، وهذا الإخبار لا يعمل إلا في العموم مُجرَّداً، فيُقال حكم كذا هو كذا وكذا، أي أن الإفتاء ليس مُلزِماً، وبالتالي المُستفتي أو المُستفتون حين يذهبون إلى مُفتٍ يتفاتون إليه – أي حين يذهبون أو يقصدون مُفتياً يتفاتون إليه – أياً ما كانت الفُتية أو الفتوى فهم مُخيّرون بين العمل بها وبين تركها، لأن هذه فتوى ومن المُمكِن أن تُستخرَج من الكتب إن كانت لديهم أيضاً لياقة أن يقرأوا وأن يفهموا، أما القضاء فهو إنشاء وبالتالي يقول لك – مثلاً – أن هذه زوجتك وأنا أحكم بأنها زوجتك ومن ثم تُصبِح زوجتك، ولك أن تتخيَّل أن حتى على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة لو أن رجلاً ادّعى في امرأة أنها زوجته وحكم القاضي له بأنها زوجته بعد أن اقتنع بأدلة مُعيَّنة ولكن في واقع الأمر هى ليست زوجته لأنه لم يعقد عليها في يوم من الأيام ستكون هذه المرأة زوجته ظاهراً كما عليه الجمهور وباطناً كما عليه أبو حنيفة وحده وخالفه الصاحبان، فعلى مذهب الإمام الأعظم هى زوجتة حتى في الباطن، أي عند الله.
إذن هذا هو القضاء، فالقضاء قوة كبيرة جداً في الدين ومُحترَمة ونافذة ومن ثم القضاء مُلزِم، فلا يُمكِن أن تتقاضى عند قاضٍ مُعين أنت وخصمك ثم تقول أنا مُخيّر، لا يُوجَد مُخيَّر في القضاء وإنما يُوجَد القوة هنا، ومن ثم ستنُفِّذ هذا الكلام رغماً عنك بقوة الشرطة أي بالقوة التنفيذية للدولة، ولذلك لا يقضي الرجل إلا إذا وليَ القضاء، أي ضمن خطة رسمية أو خطة أميرية حكومية وبالتالي لا يجوز لي أنا وأنت أن نتطفَّل وأن نكون فضوليين فنقضي في الناس.
والأكثر من هذا هو أن العلماء قالوا ليس للمُفتي أن يقضي إلا إذا وليَ أما القاضي فيجب عليه أن يُفتي إذا تعين للفُتية، أي لا يُمكِن لأحد أن يُفتي الآن في وجود القاضي الذي تعيَّن والذي استفتيناه وإن لم يكن مُفتياً، ومن ثم يجب عليه أن يُفتي إذا كان عنده القدرة على أن يُفتي طبعاً، ويُستحَب له أن يقضي إذا لم يتعيَّن وذلك لوجود شخص آخر غيره، وبعضهم كرَّه هذا وهم جماعة من الشافعية والحنابلة حيث كرَّهوا للقاضي أن يجمع بين القضاء والإفتاء وقالوا مكروه وبالتالي يجب عليك أن تُقصِر نفسك كقاضياً على القضاء فلا تُفت في شيئ ومن ثم يكون القضاء من غير إفتاء، وقالوا أن السبب في هذا أنه ربما استُفتيَ في مسألة فأفتى فيها بقول ثم استقُضيَ فيها فبدا له قول آخر، إذن هو سيقضي هنا بشيئ غير ما أفتى به هناك، فهذه فتوى وهذه حكومة وقضاء، وبالتالي إن قضى بما بدا له تناولته ألسنةُ الناس بالسلب واستهانوا بقضائه وقالوا أنه أفتى أمس بشيئ واليوم قضى بشيئ آخر، وإن قضى بما أفتى به خالف الحق في اعتقاده، لأنه يعتقد الآن أن هذا ليس هو الحق فالحق شيئ آخر ومن ثم يتورط، ولذلك كان القاضي شُريح بن الحارث الكنديَّ – رضوان الله تعالى عليه – كان يقول أنا أقضي “بينكم ولا أُفتي”، علماً بأن شُريح بن الحارث الكنديَّ كان قاضياً عظيماً ومعروفاً، وهو رجل مُعمَّر قضى نحواً من ستين أو سبعين سنة في القضاء لأكثر من خليفة – رضوان الله عليهم أجمعين – ومن هنا كان يفهم هذه الأمور ويقول” أنا أقضي بينكم ولا أُفتي”، فإذا سألت أحدهم عن أنه قاضياً أم مُفتياً وقال لك هو مُفتٍ فهذه الفتوى أو الفتاوى لا ينبني عليها شيئ أبداً، لأن لا يُمكن أن تُستحَل الدماء بالفتوى، هذا ممنوع ولا يجوز لأحد أن يستحل دماء أحد لأنه سمع مُفتياً في الفضائيات أو في الأشرطة والكاسيتات – Cassettes – يقول بهذا، علماً بأنني كنت أكره هذه الحقبة التي جاءت فيها الأمة الإسلامية بأمثال هذه الأشياء التي كنت أتقزز منها ومن ثم كنت أراها حقبة سوداء ومُدلَّهِمة، فالناس كانوا يتلقون العلم والتوجيهات من خلال أشرطة وكاسيتات – Cassettes – ويُفجِّرون هنا وهناك، وانتشرت أشياء عجيبة تتعلَّق بالتكفير والذبح والجماعات والجمعيات وأشياء من تحت وأشياء من فوق وإلى آخره، فحقبة الكاسيتات – Cassettes – هذه كانت حقبة مُظلِمة، فكم كرهت هذه الحقبة لأن الأمور لا ينبغي أن تكون هكذا، لأن من المُفترَض أن يكون الدين نوراً، هذا الإسلام كله نور والقرآن نور والسُنة نور وبالتالي يجب أن يكون الدين على المنابر وفي المساجد واضحاً، فلا يُوجَد شيئ مخبأ أو يُمارَس من تحت إلى تحت، لا يُوجَد مثل هذا الكلام أبداً، كل شيئ يجب أن يكون واضحاً للناس ومعروضاً على الناس جميعاً، ويجب أن يكون مُتداوَلاً بأن يخضع للتداول العلمي والنقاش والتحقيق والتفتيش – وهذا حقه – والمُحاقَّقة العلمية، لأن هذا دين للأمة كلها وليس دين لجماعة أو لحزب أو تنظيم، فما هذا الذي يحدث؟!
هل نحن أصبحنا قرامطة ولا حشاشين ولا جماعات إسماعيلية وباطنية وما إلى غير ذلك؟!
لا أدري، ولكن ليس هكذا العلم.
قال عمر بن عبد العزيز “إذا رأيت جماعة في المسجد يتسرون فأعلم أنهم على دخل أو على دغل”، أي أن هذا يُشير إلى أمر غير حسن لأن هذه الطريقة ليست من الدين، فالكلام لابد أن يكون واضحاً على المنابر ومن ثم لا مجال للازدواجية وللفتاوى التي تُقال لبعض الناس من تحت الطاولة، هذا باطل ومن ثم أنا – والله – أُحذِّر إخواني وأحبابي وأبنائي من أي أحد يكون على هذا النحو، إياكم أن تقربوا منه أياً كان ولو كان شيخ العلماء إذا قال لكم أن هناك أشياء خاصة تتعلَّق بهم كجماعة وأشياء أُخرى تُقال على المنابر، أعوذ بالله منهم لأن هؤلاء يلعبون بدين الله، فليس هكذا يكون الدين، دين الله كمل واكتمل في رائعة ورابعة النهار وفي ضوء الشمس وليس في السراديب وخلف الكواليس، دين الله اكتمل وهو دين الله واضح – بفضل الله – ودين مُبين ونيّر.
إذن – كما قلت لكم – لا يُمكِن بمُجرَّد الفتوى أن تستبيح دماء أي إنسان ولا حتى دم دجاجة، لأنه لا يُستباح دم الإنسان المُعيّن إلا بالقضاء – أي بقضاء القاضي – وبالتالي نحن نُريد قضاءً ليحكم حتى ولو قيل عن فلان أنه قتل عمداً، فلست أنت الذي تقول أنه قتل عمداً، مَن أنت يا رجل؟!
لا يُمكِن أن تقول لي عن هذا الرجل أنك تستبيح دمه لأن الفتوى تقول هكذا ولأن القرآن الكريم يقول وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ۩وبالتالي بما أنه قتل عمداً علينا أن نقتله، فتباً لك من جاهل، أنت الآن تلعب دور القاضي وهذا لا يجوز لك، العب دور المُفتي إن كنت تُحسِنه وقل مَن قتل عمداً يٌقتَل ولكن لا تتحدَّث عن فلان بعينه، ليس لك علاقة بفلان ولا بغير فلان، وكذلك قل – مثلاً – مَن قال كذا وفعل كذا كفر وخرج عن الملة، ولكن لا تقل عن فلان بعينه أنه كفر وخرج من الملة لأنك لست قاضياً، ومع ذلك نجد أن هذه الأمة الآن لها ما يقرب من خمسين سنة وهى تتلقى أحكام القضاء مِمَن يزعمون أنهم دعاة وعلماء الإسلام فيقولون “فلان كافر وفلان زنديق والفيلسوف المصري فلان الفلاني كافر لأنه كتب وفعل”، فمَن أنت يا أخي لتقول هذا؟!
علماً بأننا رأينا كيف دارت الدائرة على الذين رموا الناس بالكفر مثل فلان وعلان من علماء الدولة الفلانية وذلك لأنهم رُموا بالكفر بعد ذلك، كما أنه لا يصح إذا ثبت الكفر على كل مَن رُمِىأن يمتشق كل مجنون ومُخبَّل ومُهوَّس سلاحه ويأخذ مسدسه ويُطلِق النار عليه على اعتبار أنه يُنفِّذ الحكم، هذا لا يجوز ولا يصح، ما هذا العبث الذي نحن فيه؟!
والله إنه لعبث لأن باب الدماء من أضيق الأبواب، ولكن – علماً بأنني تناولت هذا الموضوع ربما عشرات المرات – لماذا مع كونه أضيق الأبواب وأحرجها وأكثر حساسيةً يحدث هذا التوسع المُثير والمُريب فيه؟!
هذه علامة من علامات زيف الدين، فهذا دين يُعَد ديناً زائفاً لأن الدين الحق يختلف عن دين الزيف والدجل فهو يحمل المُتدين على مُراعاةِ حدود الله واحترام هذه الحدود وتوقيرها أياً كانت، فهذا هو المُتدين الحق، أما المُتدين الكاذب الزائف المعلول المدخول المدغول فإنه يستهين حتى بالدماء وليس لديه مُشكِلة في هذا، ومن هنا يقتل ويُعطي فتاوى بالقتل وقد يُنفِّذها ويأتي يُصلي الجماعة ويتباكى في المحراب لأنه دين زائف، ولك أن تتخيَّل هذا الشيئ الذي لا يكاد يُصدَّق، فلا يُوجَد استشعار حقيقي هنا لتوقير حرمات الله – تبارك وتعالى – وبالتالي لا يُوجَد رجل مثل الإمام مالك يقول لمثل هذا الرجل “أكثر من شرب الماء البارد” لكي يُخوِّفه ويقطع قلبه من الخوف ليُفهِمه أن هذا يُعَد لعباً بالدين، فلا يُمكِن أن تأتي بكل بساطة وتتساءل: هل للقاتل العمد توبة؟!
لا يا حبيبي، مالك قال لهذا السائل “ليُكثِر من شرب الماء البارد” لأن جهنم تنتظره، ومن ثم إذا قتلت عمداً فستكون جهنم أمامك يا حبيبي، إذا كتبت تقريراً في واحد وقُتِل ستكون جهنم أمامك، إذا أردت أن تلعب فلتلعب بمصيرك لكن لا تلعب بديننا ولا تلعب بإسلامنا وبأمننا كأمة وكبلد.
روى الإمام البخاري في صحيحه – رحمة الله تعالى عليه – عن التابعي الشهير المعروف أبي قلابة – عبد الله بن زيد البصري أنه قال “أبرز عمر بن عبد العزيز يوماً سريره للناس – أي كرسي الخلافة، لأن عمر رضوان الله عليه لم يكن ملكاً فاستحى أن يقول كرسي مُلكِه، فلم يكن عنده مُلك أصلاً وبالتالي أكيد سرير من أكثر الأسرة تواضعاً وتقشفاً – ثم أذن لهم فدخلوا – أي جلس إليهم ليستمع إلى أي شخص لديه شكوى أو سؤال أو أي مسألة أُخرى لأنه كان خليفة ويحكم خمس العالم تقريباً – فقال : ما تقولون في القسامة؟!
فقال القوم – جماعة الأعيان مِمَن عندهم علم وفقه، وليس العامة طبعاً – “القسامةُ القَوَدُ فيها حقٌ، وقد أقادت بها الخلفاء”، علماً بأنه كان معروفاً عن معاوية أنه كان يُخيف بالقسامة، ولكن باختصار حتى لا نُصدِّعكم القسامة هى أن يُوجَد رجلٌ قتيل في محلة – في محلة قوم أو في مكان أو في حي من الأحياء – ولا يُدرى قاتله، فالآن اختلف السادة الفقهاء حيث أن منهم من قال “القسامة خمسون رجلاً من أولياء الدم – أولياء هذا القتيل خمسون – يُقسِمون خمسين يميناً أن هؤلاء قتلوه”، وطبعاً اشترط الجمهور أن يُعيّنوا فلا يُمكِن أن تأتي وتقول أن أهل هذا الحي قتلوه ولكن لابد أن تُعيّن إما شخصاً وإما جماعة مُحدَّدة، فلا تجب القسامة بدون تعيين، إذن يُقسِمون خمسين يميناً أن هؤلاء أو هذا من هؤلاء القوم قتله أو قتلوه فيستحقون الدية بذلك ولكن لكن لابد أن يُوجَد لوثٌ، فما هو اللَّوْثَ إذن؟!
اللَّوْثَ يعني وجود قرينة – أي يُوجَد قرينة مُعينة – تُثير الريبة وتُوقِع في الظن صدق الدعوى، أي صدق المُدّعي بأن هؤلاء هم الذين قتلوا هذا الشخص، هذا إسمه اللَّوْثَ، وهذه قضية فقهية مُعقَّدة لكن على كل حال لابد من وجود اللَّوْثَ.
فإذا لم يكونوا خمسين رجلاً حلف الموجودون خمسين يميناً، وهذه ما تُسمى بأيمان القسامة حتى تتم خمسون يميناً – أي لتُوجَد خمسون يميناً – ولكن إن أبى المُتهِمون المُدّعون حلف هاته الأيمان أحال القاضي الأمر على على المُتهَمين المُدعَى عليهم، فإن أبوا أن يحلفوا وجبت عليهم الدية للمقتول، واختلف الفقهاء في القسامة، لكن الجمهور على أنها مشروعة وواجبة، أما عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار ومسلم بن خالد وأبو قلابة – عبد الله بن زيد البصري – فقالوا ” لا قسامة ولا يجب بها شيئ لأنها تُخالِف الأصول المُجمِع عليها في شرع الله”.
إذن هذه فكرة عامة غير وافية وغير كافية عن القسامة لكي نُوضِّح الحديث عن القسامة، على كل حال عمر يسأل عن القسامة فقالوا “القسامة القَوَدُ بها حق، وقد أقاد بها الخلفاء”، قال أبو قلابة: ونصبني للناس – أبرزني – فقال لي ما تقول أنت يا أبا قلابة؟!
فقلت: يا أمير المُؤمنين عندكَ رءوس الأَجْنَاد وَأَشرَاف الْعرَب – أي وجوه الناس -، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بدمشق أنه زنى وهو مُحصَن ولم يروه أكنت ترجمه؟!
فقال عمر بن عبد العزيز – عليه الرضوان والرحمة – “لا”، أي أنه يُريد أن يقول أنها تُخالِف الأصول المُجمَع عليه، ومن هنا أبو قلابة البصري يحتج لمذهبه في رفض القسامة وعدم مشروعية القسامة، ثم قال: فقلت يا أمير المُؤمِنين أفرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنه سرق ،كنت تقطعه ولم يروه؟!
فقال عمر “لا”، قال أبو قلابة: فقلت فوالله – وعليكم أن تنتبهوا هنا لأن المسألة خطيرة وفيها تضييق لهذا الباب – ما قتل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أحداً إلا في إحدى خصالٍ ثلاث، رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام.
أي أنه يُريد أن يقول له أن باب القتل يُعَد باباً خطيراً جداً جداً جداً، فمن غير المعقول أن تقول لي أن القَوَدُ بها حق وتقتل بالقسامة لأن القتل له ثلاثة أسباب فقط، والله قال مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، ومن هنا قال أبو قلابةأن السبب الأول هو “رجلٌ قتل بجريرة نفسه فقُتِل”، أي رجل قتل جنايةً وليس قتلاً خطأً أو شبه عمد وإنما قتل عمد، فهذا هو معنى قوله بجريرة نفسه أي بجناية، ثم ذكر السبب الثاني وهو “ورجلٌ زنى بعد إحصان”، أما السبب الثالث فهو “ورجلٌ حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام”، علماً بأن السبب الثالث هذا يُعَد أمراً مُهِماً جداً في بحث الردة وقتل المُرتَد أيضاً لأن هنا صرَّح أبو قلابة وفقاً لوجه الحديث أن سبب قتل هذا الرجل ليس لمُجرَّد أنه ارتد عن الإسلام ولكن لأنه حارب الله ورسوله، فهو مُحارِب ومُقاتِل ولا يتعلَّق الموضوع بكونه ارتد عن الإسلام، وبالتالي لا يُقتَل لأنه مُرتَد ولكن لأنه حارب الله ورسوله.
هنا أراد القوم أن يُرِدوا عليه بأن يُذكِّروا بوجود حالة رابعة ثبت أن النبي قتل بها ومن ثم لا ينبغي له أن يحلف أن النبي ما قتل إلا في إحدى خصالٍ ثلاث، وهذا إسمه إيراد في علم المُناظَرة، قال أبو قلابة فقال القوم أليس قدر روى أنسٌ بن مالك – رضوان الله تعالى عليه – أن رسول الله – صَلَىَ الله عليه وآله وسَلَّمَ تسليماً كثيراً – قطع في السرق وسمر الأعين ونبذهم في الشمس؟!
أي أنهم يتحدَّثون عن قضية العُرَنيين، جماعة من عُكْل و عُرَيْنةَ قاموا بعدوان مُسلَّح وليس بمُجرَّد سرقة عادية، وإنما قاموا بسرقة – والعياذ بالله – مثل سرقة المُحارِبين الذين قال فيهم الله إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ۩، فالنبي قطع في السرق – أي في السرقة – وسمر – يُقال سمر وسمل الأعين إذا فقأها بحديدةٍ مُحماة وقيل بشوكة – الأعين ونبذهم في الشمس، أي أنه بعد أن قطعهم وسمر أعينهم تركهم ينزفون حتى لقوا حتفهم وماتوا، ومن هنا قال القوم رداً على أبي قلابة أن هؤلاء سرقوا فقط والنبي قتلهم، فكيف تقول ثلاث خصال يا أبا قلابة؟!
فقال: أنا أُحدِّثكم حديث أنس – أي إذا كنتم تتكلَّمون عن حديث أنس فأنا على علم به وسأُحدِّثكم بما حرى، علماً بأن أبا قلابة روى عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك ولا شك في أنه روى عنه، ولكن هناك شك في أنه روى عن ابن عباس فضلاً عن أنه روى عن زينب بنت أم سلمة وعن جماعة من الصحابة فهو تابعي شهير -، حدثني أنس – رضيَ الله عنه – أن نفراً من عُكْل – أي قبيلة عُكْل، وفي روايات أخرى عُكْل و عُرَيْنةَ، أي من قبيلتين، ولذلك يُقال لهم العُرَنيون – ثمانيةً أتوا المدينة – قدموا على الرسول في المدينة – فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة فسخمت أبدانهم – لم يُناسِبهم جو المدينة وهواء المدينة، هذا هو الوخم – فسقمت – اعتلوا وتمرضوا – أبدانهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله، فقال لهم – عليه السلام – ألا تخرجون مع راعي إبلنا – أي اخرجوا معه إلى البيداء – فتُصيبون – علماً بأنها مكتوبة في البخاري فتُصيبون، ولكن بحسب قواعد النحو المفروض أن وجهها النصب فينبغي أن تُكتَب فتُصيبوا، لأن هنا يُوجَد تحضيض وفاء السببية – فتُصيبون من أبوالها وألبانها؟!
قالوا “بلى”، فخرجوا وشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا، فلما صحوا قتلوا الراعي – هم مُجرِمون وقتلة – وأطردوا النعم – أي استاقوا إبل الرسول والمسلمين الخاصة ببيت المال – فأُخبِرَ بهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأرسل في أثرهم فأُدرِكوا، فجيء بهم فأمر بهم – أي أ مر النبي بهم – فقُطِّعت أيديهم – هكذا قال ولم يقل حتى وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ۩ – وأرجلهم وسمر أعينهم –
فقأها أعين المُحارِبين القتلة المُجرِمين المُرتَدين كما قلنا بشوكة أو بحديد مُحماة – ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا، أي أنه بعد أن قطعهم لم يحسمهم بالزيت الحار لكي يقف النزيف وإنما تركهم حتى ماتوا، علماً بأن الحديث له روايات كثيرة فهو حديث مشهور جداً وصحيح وثابت.
قال أبو قلابة: وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا؟!
أي أن هؤلاء ليست قضيتهم في مُجرَّد أنهم ارتدوا، هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وسرقوا وقتلوا ومن ثم يستحقون القتل، فلم يقتلهم النبي لأنهم سرقوا ولا لأنهم ارتدوا، ولكن لأنهم قتلوا بعد أن سرقوا وارتدوا، إذن أبو قلابة يُريد أن يقول لهم أنتم تحفظون الشطر الأول أو الجملة الأولى فقط من الحديثوهذه هى المُشكِلة، عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء، وهنا خطورة الأحاديث الآحاد.
وبالمُناسَبة لابد أن أقول أن أشهر أقول المُفسِّرين في آية الحرابة من سورة المائدة – الآية الثانية والثلاثون – تُدور على أن هذه الآية التي تلولتها صدر الخُطبة نزلت في هؤلاء العُرَانيين، فهذه هى قصتهم إذن ولذلك الله قال إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ۩.
قال أبو قلابة: فقال عَنْبَسة بن سعيد – أحد نبلاء بني أمية كان جالساً – والله إن سمعتك اليوم، أي أن هذا شيئ عجيب، قال أبو قلابة: فقلت له ترد علىّ حديثي؟!
قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه – أي أنه يُريد أن يقول أنا لا أرد عليك حديثك، بالعكس أنا أتعجب مُثمِّناً ومُقدِّراً لما قلته، فأنت فعلاً تُحدِّثنا بالحديث بشكل كامل، لأننا لم نكن نفهم هذا وكنا نظن أن النبي فعل بهم هذا لأنهم سرقوا فقط، ولكن في الحقيقة هم قتلوا بعد أن سرقوا وارتدوا، أي أن هذه جريمة مُثلَّثة وهؤلاء مُحارِبون لله ولرسوله – والله لا يزال هذا الجند – أي أهل الشام – بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم.
أي أنه يتحدَّث عن أبي قلابة ويقول أنه كان عالماً ومُحقِّقاً ومن ثم فهو يفهم القصة جيداً، لكن الشاهد هنا هو أن أبي قلابة أكد لعمر بن عبد العزيز أن باب الدماء بابٌ ضيق لا يُتوسَّع فيه بل وأقسم بالله على هذا، كما أن القرآن الكريم يقول مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، علماً بأنه لا يُمكِن لأحد أن يُفسِّر معنى الفساد في الأرض وفقاً لهواه لأن ليس بعد قول الله قول ولا بعد كلامه كلام ، هذه الآية الثانية والثلاثون فسرَّها القرآن مُباشَرةً حيث أن الآية التي والتها تقول إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ۩، وأنتم علمتم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء العُرَانيين، إذن الفساد في الأرض هو الحرابة، والحرابة هى هذه الجرائم المُسلَّحة التي تُرتكَب لكن طبعاً اختلف العلماء فيها، أبو حنيفة قال الحرابة لاتكون إلا في البيداء، أي أنها لو كانت في المصر لا نعدها حرابة، فلابد أن تكون في البيداء – أي في الصحراء – لأن بلا شك الحرابة في الصحراء أفحش وأغلظ لانقطاع الغوث طبعاً، كأن يُسافِر أحدهم وحده أو مع زوجتة وعائلته أو حتى في قافلة صغيرة فيخرج عليهم أمثال هؤلاء في الصحراء التي لن يسمعهم فيها أحد إن قالوا يا غوثاه، ومن ثم يُمكِن أن يُذبَح ويُسرَق ويُسفَك دمه ويُنتهَك عِرضه وتُؤخَذ أمواله ولا يسمع به أحد ولذلك الحرابة في الصحراء مُشدَّد في أمرها، ومن هنا قال أبو حنيفة أن الحرابة لاتكون إلا في البيداء، أما الإمام الأوزاعي والشافعي والأمام مالك بل والجمهور فقالوا الحرابة حرابة سواء أكانت في البيداء أو في الأمصار، أي أن كلها حرابة وهذا أحسن طبعاً حفظاً أو حِفاظاً على على حيوات الناس وأمن الناس وحقوق الناس، فالحرابة حرابة ومن هنا أنزل الله هذا الحد الشديد في هؤلاء المُحارِبين في كتابه قائلاً فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ۩،
ويكون العقاب بحسب الجريمة، فمَن قتل قُتِلَ، ومَن أخذ المال من هؤلاء المُحارِبين ولم يقتل قُطِّع وحُسِم ولكن لا يُقتَل، وإنما فقط يُقطَّع من خلاف – والعياذ بالله – ويُمكِن أن يُصلَّب دون الموت بحيث لا نُميته، ومن ثم هذا يختلف عن قطع اليمين في السرقة العادية لأن هذا سارق ومُحارِب، أما مَن أخاف وروَّع ولم يقتل ولم يسرق ننفيه من الأرض، ويكون النفي إما على وجهه بالطرد من بلده وإما بإيداعه السجن، فهكذا فُسِّرَت أيضاً أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ۩ وهذا على مذهب مَن قال أن (أَوْ أَوْ أَوْ أَوْ) للتنويع، لأن هناك قول آخر يُفيد بأن (أَوْ أَوْ أَوْ أَوْ) للتخيير كالإمام مالك الذي قال أن الإمام مُخيّر في العقوبة، وطبعاً قول مالك أشد لأن من المُمكِن للإمام أن يُنزِل بمَن روَّع ولم يسرق ولم يقتل إحدى هذه الخصال التي قد تصل إلى التقطيع حتى القتل، ولذلك هذا قول شديد لكن الأرجح في هذا أنها للتنويع، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
إذن الباب هذا باب ٌ ضيقٌ جداً، ولذلك بكلمة واحدة أختم – للأسف أدركنا الوقت فنحن في الشتاء القصير – وأقول أن الاجتهاد الذي يُؤجَر صاحبه هو الذي يكون مأذوناً فيه، والحديث ليس في الاجتهاد المُطلَق هكذا بل في اجتهاد القضاة، فإذا أردت أن تأخذ بالحديث عليك أن تعلم أنه ليس حتى في المُفتين وإنما في القضاة، ومن هنا القاضي إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد، وحتى إذا قلنا أخذنا بالعموم في الدلالة وقلنا أنه في غير القاضي فلا بأس في هذا ولكن أيضاً ينبغي أن يكون – كما قلنا – من أهله وفي محله، فضلاً عن أنه يجب أن نعلم أين محل الاجتهاد في هذه المسائل، ثم أنك إذا اجتهدت فأنت تجتهد اجتهاداً لا يعدو أن يكون حبراً على ورق أو موجات في الهواء، فممنوع أن يتحول إلى تنفيذ عملي لأن هذا يُعتبَر إجراماً حقيقياً.
تبقى مسألة أُريد أن أقولها وهى مسألة تُفيد بأنه لابد على العلماء وعلى الجهات المُختّصة في البلاد الإسلامية أن تضع وأن ترسم عقوبات رادعة وشديدة وقاسية لمَن يتسورعلى حمى الاجتهاد فيما يتعلَّق بأمن الأمة وبالدماء وبالأعراض وبمثل هذه القضايا الخطيرة بحيث يُردَّع أمثال هؤلاء ولا يُترَكوا هكذا فيرتكبون الجرائم ثم يعتذرون أو يُعتذَرعنهم ولهم بالقول “اجتهدوا فأخطأوا”، وإلا أعطوهم – ما شاء الله – النياشين لأنهم خرّبوا البلاد ودمَّرونا وذبَّحونا وقتَّلونا، أعطوهم بعد كل هذا نيشاناً وقولوا عن مَن يفعل هذا أنه كان – ما شاء الله – مُجتهِداً كأبي حنيفة ولكنه أخطأ، إذن لابد أن يُردَع أمثال هؤلاء الجهلة وأمثال هؤلاء العابثين بدين الله وأمن المُؤمِنين عن أن يُواصِلوا السير في هاته المضلة.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُلهِمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور الأشرار ومن شرور أنفسنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أخرج الإمام مالك في موطأه – رحمة الله تعالى عليه – أن أبا الدرداء – علماً بأنه كان بالشام وكان مواخياً كما تعلمون لسلمان الفارسي رضيَ الله عنهما – كتب لسلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المُقدَّسة – أي تعال إلى بلاد الشام لأن هذه الأرض مُقدَّسة بنص كتاب الله -، فأرسل إليه – أي رجع إليه – سلمان يقول إن الأرض لا تُقدِّس أحدا، وإنما يُقدِّس الإنسان عمله – أي أن هذه الأرض مُقدَّسة ولكن أنت لا تُصبِح مُقدَّساً لأنك في الأرض المُقدَّسة، فعليك أن تفهم هذا إذن حتى تكون الأمور واضحة، ومن ثم علينا أن نفهم هذا نحن أيضاً حتى لا نُخدَع بالعناوين وباليافطات والكليشيهات، فنعم هى أرض مُقدَّسة في كتاب الله وأهلاً وسهلاً بهذا لكن أنت لست مُقدَّساً لأنك تعيش في الأرض المُقدَّسة، وهذا هو الفهم الحقيقي والفهم المسؤول للمسألة – وقد بلغني أنك جُعِلت طبيباً تُداوي – أي أنه كنى بالطب عن القضاء، كأنه يقول له وقد بلغنى أنك تقضي بين الناس، فتقول لهذا خُذ هذا لأن هذا لك أو لا تأخذ هذا لأن هذا ليس لك وهكذا، ومن ثم عليك أن تنتبه لأن هذه المسألة خطيرة جداً جداً – فإن كنت طبيباً تُبرئ فَنِعِمَّا لك، وإن كنت مُتطبِّباً فاحذر أن تقتل نفساً بغير حق فتدخل النار.
إذن هو يقول هذا لأبي الدرداء وليس للشيخ فلان أوللشيخ علان أو للطالب الذي مازال يدرس في كلية الطب ولكنه يفتي وعامل لنفسه جماعة، كأنه يقول له أن هذا القضاء مسألة خطيرة جداً على الرغم من أن أبا الدرداء كان صحابياً جليلاً وكان معروفاً بزهده وعلمه – رضوان الله عليه – فضلاً عن أنه من أصحاب محمد المُباشِرين، ومع ذلك قال لو كنت مُتطبِّباً وتدّعي الطب وليس لديك لياقة الطبيب الحقيقي ستذهب إلى الجحيم، فهذا هو معنى قوله “وإن كنت مُتطبِّباً فاحذر أن تقتل نفساً بغير حق فتدخل النار”، ومن هنا يقول الرواي: فكان أبو الدرداء بعد ذلك إذا قضى – هنا صرح أن المقصود بالطب هنا هو القضاء – بين اثنين فوليا يقول “ارجعا، ارجعا إِلَيَّ، مُتطبِّبٌ والله، ارجعا وأعيدا علىّ قصتكما”، أي أنه أصبح خائفاً من أن يحكم في الناس، فهذا هو إذن ورحم الله امْرَأً عرف قدر نفسه.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
[…] العربية ذلك القانون بزهاء شهرين طالبت بذلك في خطبة اجتهد فاخطأ (الدقيقة 47:30) وفي الحلقة 3 من برنامج صحوة لهذا العام عن […]