لعن السياسة مراراً. لكنه لم يكن بعيداً عنها أبداً. يغضب على المنبر. يهاجم كل التصرفات التي يرى أنها خارج الدين الإسلامي. يعلق على كل الحوادث التي تقع في الشرق تقريباً. حاد بألفاظه، قاسٍ بوصفه، مثير للجدل في كل مرة يعتلي فيها منبر مسجد “الشورى” في العاصمة النمساوية فيينا. بالطبع هو الدكتور عدنان إبراهيم، الطبيب الشيخ، المولود في غزة فلسطين والمقيم في النمسا، والذي أثار عظيم جدل حول طروحاته عن الإسلام، فالكثير من الناس حاكموه على أنه شيعي المذهب والانتماء لمجرد موقفه من قضية مقتل الحسين وكلامه عنها في كل ذكرى سنوية تمر عليها، وبسبب موقفه المعادي لمعاوية بن أبي سفيان ويزيد وما يسميه الانقلاب الأموي على حكم الرشد، البعض يراه مهرطقاً، وآخرون، وهم إلى اليوم قلة، يرونه شيخا مجدداً قوياً على الخطأ محارباً شرساً لأجل الإسلام الحقيقي.
الفخ الإيراني
يستعين في خطبه بالكثير من الشواهد خارج الكتاب رغم أنها جميعاً تبدأ بآية قرآنية ومنها ينطلق إلى حديثه الذي يشمل الكثير من الاثباتات العلمية والمناقشات التي تمس حياة الناس من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. يمر على كل القضايا من مصر إلى سوريا إلى إيران، وفي هذه الأخيرة وقع كما ظن البعض في الفخ، حيث نشروا له وبسرعة البرق كلاماً يقول فيه بأن إيران بلد مسالم لم يعتد منذ أكثر من 150 سنة على أحد وأن حرب العراق معه كان الاعتداء فيها بمبادرة عراقية، وأن الغرب اليوم يراه بلداً خطيراً ومتعصباً وخاصة في ملفه النووي، ليفيض في المقطع الممنتج ليكون رسالة واضحة لموقفه المحب لإيران، متحدثاً عن الكنائس في العاصمة طهران وعن الكنس اليهودية في ذات المدينة، مستفيضا بوصف كلام الخميني حول احترام الأقليات التي يراها جزءاً من الأمة الإيرانية.
بعد حين ينتشر جزء من خطبة أخرى لعدنان إبراهيم على ذات المنبر يتحدث فيها عن قناعته بأن إيران ليست حكما على علاقة مع إسرائيل وأميركا ولكن لديها سياستها القذرة في العراق وغيره، وأنها ميكافيلية، ويرى أن كلامه عن عدم عمالة إيران لإسرائيل مجرد رأي، وهو شيء لا يمكن أن يبرر ذبح الشعب السوري لأن إيران تريد ذلك، وهنا لا يمكن إلا أن تكون ضد هذا العمل، وعن حزب الله الذي يذبح الشعب السوري الحر الذي يريد أن يتحرر من هذا الظلم المخيم فبالتأكيد “لسنا معك، وحساباتك خاطئة” ويتابع بأنه من الضروري أن تكون لدينا طبقة من المثقفين والعلماء من غير المنتمين سياسيا أو حركيا كي لا يتحدث مرة بالحق ومرة بالباطل، ويضرب مثلا بأن بعض المثقفين السياسيين يرون أن ما حدث في تونس ثورة وفي مصر ثورة ويقف أمام الحدث السوري ليصمه بالتمرد الملعون ولا يجرؤ على تسميته بالثورة، “لماذا يا رجل؟ ما الذي فرق بين الشعب السوري وبين هؤلاء؟” يسأل إبراهيم.
عدنان إبراهيم يبحث في الكوارث التي تحيق بالأمة الإسلامية، منكراً منهج الإسلام السياسي على طريقة الإخوان المسلمين الذين فشلوا وأفشلوا غيرهم في مصر
داعش مؤامرة
يهاجم عدنان إبراهيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وإعلانه للخلافة دون هوادة، وينتقد جميع تصرفاته وبالذات قتله للناس بغير حق وتدمير المقامات الإسلامية ودوسه على التراث والتاريخ في العراق والشام، وكيف قتل الفسيفسائية العراقية؟ يسأل ويأسف كيف وقف السنة مع التنظيم ضد المالكي؟ الذي يراه رجلا ضيق الأفق وغير وطني وبالتأكيد ليس هو الخيار الأميز للعراق.
ويتابع بأن مسألة الانتقام من الشيعة بالوقوف مع “داعش” جنون لا ينفع إلا إسرائيل، ويعود إلى مسألة إزالة التاريخ التي يعمل عليها التنظيم اليوم ضمن جدول أولوياته، ويسأل لماذا لم يفعل أي من الخلفاء المسلمين ما تفعلون؟ وهذا ما يراه جنوناً مخططاً له خارجياً.
بعد عامين على دراستي الدقيقة لخطب ومحاضرات عدنان إبراهيم، يمكن القول بأن الرجل باحث ينقل ما يصله من العلوم والنتائج والتحليلات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية عبر منبره في جامعه في فيينا وفي ندواته المختلفة، ويعمل معه العديد من الناس لنقل هذه الأفكار وبثها عبر شبكات التواصل الاجتماعية وبالذات المقاطع المسجلة الصوتية منها والصورية، ومن الواضح أن إبراهيم يحاول البحث عن مخرج للكوارث التي تحيق بالأمة الإسلامية كما يحب أن يسميها، ولكنه غير مؤمن بالإسلام السياسي على طريقة الأخوان المسلمين الذين فشلوا وأفشلوا برأيه في مصر، وهذا لأسباب منطقية وعلمية لا تخرج عن كونهم غير خبراء بهذا العمل وبأنهم غير قادرين عليه لعدم درايتهم به، فكيف لهم أن يقودوا بلد فيه تسعون مليون إنسان دون خبرة، ويشبه الحالة بمن يقود حافلة ولا يعلم من القيادة شيئا.
والمشكلة برأيه هي الذهاب المباشر إلى التكفير لكل المخالفين سياسياً وهذا مقتل التنظيمات الإسلامية في العالم العربي الذي يحكم بسياسة قذرة قادرة على إفشال أي مشروع سياسي ديمقراطي.
الجرأة التي يتصف بها إبراهيم تنبع من كونه ملمّا بعدد كبير من العلوم، فهو طبيب أولا ومن ثم أستاذ للشريعة الإسلامية، وباحث وقارئ نهم بحسب ما يتحدث عن نفسه، حظي بوعي مبكر للكثير من المسائل، ولذا توجه إلى القراءة التي ينتج من خلالها ملخصات لكل ما يقرأ تقريباً.
عدنان إبراهيم يقع في الشرك الإيراني، فيمتدح إيران التي لم تهاجم أحدا طيلة مئة وخمسين عاما، ثم ومن على ذات المنبر يعود فيقول إن إيران ليست حكما على علاقة مع إسرائيل وأميركا ولكن لديها سياستها القذرة في العراق وغيره، وأنها ميكافيلية، وهو شيء لا يمكن أن يبرر لها ذبح الشعب السوري
ومن هنا يمكن أن تسمع لإبراهيم خطبا عن الخلق يستعين فيها بنظرية الارتقاء والتطور عند داروين، ويبتعد عن النصوص الدينية التي يستخدمها الغير لمصادرة الرأي، واثق من نفسه ومما يريده والذي يُختصر بأنه سعي لنهضة في العالم الاسلامي الذي بات اليوم عبئاً ثقيلا على العالم كما يوحي حديثه، وهذه النهضة لا تكون برأيه إلا بإعمال العقل مترافقاً بالإيمان وهنا نصل إلى المفارقة الكبيرة في شخص إبراهيم العقلاني والمفرط بالعقلانية والذي يؤمن بالصوفية وبالكرامات الصوفية بذات الوقت.
كاتب لا يثق بنفسه
أيقن في شبابه بعد قصة عودة أحد الماركسيين إلى الإيمان من جديد بسبب كتاب “الإسلام يتحدى” لوحيد الدين خان، بأن العصر يحتاج لغته الخاصة المتوافقة مع سياقاته وعلمه، وهذا ما يسميه الشهادة على العصر، وبدأ العمل على نفسه بالتعلم الذاتي من خلال القراءة رغم مخاطر هذه الطريقة، ولم يدرس على يد علماء دين في حينها.
كتب أول مرة في حياته بعمر الرابعة عشرة مؤلفاً مخطوطاً بعنوان “المرأة في القديم والحديث”، بعد أن كان يرى نفسه “لا شيء وغبيا” ويحتقر نفسه بحسب ما قال، وهذا بسبب خطأ تربوي لانعدام التشجيع من والده، ليمتلك بعدها الثقة بنفسه وبات يكتب ويؤلف ويدرس ويقرأ، رغم صعوبة الحصول على كل الكتب التي يريد لأسباب تتعلق بالفقر، وبقي على هذه الحال حتى بلغ الثالثة والعشرين ليتوقف بعدها عن الكتابة بسبب افتقاده للثقة بنفسه كما قال.
الذي فقد الثقة بنفسه، اليوم هو داعية إسلامي إشكالي، ولد عام 1966 لعائلة فقيرة في مخيم النصيرات في قطاع غزة، وهناك تلقّى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي، ومن ثم غادر إلى يوغسلافيا لدراسة الطب. ونتيجة الحرب الأهلية فيها انتقل إلى فيينا مع أوائل التسعينات وواصل دراسة الطب، وبالإضافة إلى الطب البشري. درس إبراهيم الدراسات الشرعية في كلية الإمام الأوزاعي بلبنان ثم أكمل دراساته العليا في النمسا وحصل على درجتيْ الماجستير والدكتوراه من جامعة فيينا، وكانت رسالته للماجستير عن “عُمر زوجة الرسول عائشة عندما تزوجت”، وأطروحته للدكتوراه عن “حرية الاعتقاد ومعترضاته في القرآن الكريم”.
الشيخ الناقد يستهويه تقديم البرامج التلفزيونية على شاشة روتانا خليجية بالذات، بسبب قربه من مالك تلك القنوات الأمير الوليد بن طلال وهو أمر لم ينكره يوماً، معتبراً أن البرامج على مثل هذه القنوات المتابعة أفضل من البرامج على قنوات إسلامية لا يتابعها إلا القلة بسبب خطابها الخشبي
كان إبراهيم عضواً في هيئة التدريس بالأكاديمية الإسلامية بفيينا، حيث درّس علم مصطلح الحديث وعلوم القرآن والتفسير والفقه وأصول الفقه على المذهبين الشافعي والحنفي بالإضافة لعلوم العقيدة.
أسّس مع بعض المسلمين في النمسا جمعية لقاء الحضارات عام 2000 وترأسها من تاريخه، وعن هذه الجمعية انبثق جامع الشورى الذي يخطب ويدرّس فيه إبراهيم بعد أن أقصي عن مسجد الهداية عقب عشر سنوات من الخطبة فيه.
وبالإضافة إلى كونه شيخاً وخطيباً قدم إبراهيم عددا من البرامج التلفزيونية على شاشة روتانا خليجية، وهذا بسبب قربه من مالك تلك القنوات الوليد بن طلال وهذا ما لا ينكره أبداً، ويعتبر أن البرامج على مثل هذه القنوات المتابعة أفضل من البرامج على قنوات إسلامية لا يتابعها إلا القلة بسبب خطابها الخشبي.
عدنان إبراهيم مازال إلى اليوم يبحث في كتب السيرة والواقع عن الأخطاء والهفوات ليعالجها عبر منبره وفي محاضراته، ولديه مواقف شديدة ضد الإسلام التكفيري والإسلام الأعمى أي الإيمان دون معرفة وعناية، ويرى أنه من واجبنا اليوم نبش التاريخ والوقوف على الحقائق في أبرز المسائل التي يعاني منها المسلمون اليوم بداية من موقعة الجمل حتى تاريخه، ولا بد من النقد الحقيقي الهادف لأجل إصلاح هذا العطب الكبير الذي تعانيه الأمة الإسلامية، ولذلك لم ينج إبراهيم من السياسة وتبعاتها ما أفقده بعض المتابعة والاهتمام.
نشر بصحيفة العرب
الرابط: http://www.alarab.co.uk/pdf/2015/02/07-02/p13.pdf
أضف تعليق