إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ۩ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ۩ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
في الكتابِ الشهير الذي شرَّق وغرَّب وتُرجِم إلى غير لغة من العربية يحكي المُؤرِّخ والأديب محمد بن علي بن طباطبا المشهور بابن الطِّقْطَقي في كتابه الفخري في الآداب السلطانية والدولة الإسلامية حادثة عجيبة، ولعله انفرد فكان أول مَن سجَّلها لقربه بذلكم العهد إذ لا يفصل بينه وبين الحادثة أكثر من سبعين سنة تقريباً، يقول ابن الطِّقْطَقي: ما فتح – هكذا فتح، كلها فتوحات – هولاكو – هولاكو دمر بلاد المسلمين، وهذه فتوحات أيضاً، كلها فتوحات – بغداد سنة ستة وخمسين وستمائة – هذه سنة سقوط بغداد ونكبة العرب والمسلمين والنهاية الرسمية للدولة العباسية – استفتى العلماء من المذاهب المُختلِفة في مسألة أيما أفضل السلطان الكافر العادل أو السلطان المسلم الجائر؟
يقول صاحب الفخري “ثم جمعهم – أي ثم جمع العلماء من المذاهب المُختلِفة وخاصة المذاهب الخمسة، أي الأربعة السُنية والإمامي الجعفري – في المُستنصرية التي بناها الخليفة المُستنصِّر – هذه كانت جامعة كبيرة التي كانت أشهر جامعة في الشرق الإسلامي – وبعث إليهم برُقعة الفتوى قائلاً لابد أن تكتبوا في الرُقعة الجواب، أجيبوا أيما الفاضل: السلطان الكافر العادل أو المسلم الجائر الظالم؟ فلما قرأ الفقهاء سورة الفُتية أجفلوا وأحجموا”، لأن هذا شيئ خطير، كيف يُمكِن أن يُوضَع الإسلام في مُعادَلة؟ الإسلام لا يُوضَع في المُعادَلات، فهكذا تعلموا وهكذا ظلوا يُعلِّمونا، الإسلام وفقط، الإسلام مع الظلم ومع القتل ومع التجاوز ومع الانحطاط ومع التخلف، فهذه مسألة غريبة عليهم، علماً بأن اليوم عليكم ليست بغريبة، اليوم أي شاب مسلم بسيط لم يتلق أو يتلقن من الثقافة الإسلامية إلا رؤوسها وعنواناتها يقول هذا أمرٌ معروف، الله – عز وجل – يُقيم الدولة العادل وإن كانت كافرة، والكل يقول هذا، فهذه لم تكن مسألة مُقرَّرة ولم تكن واضحة ولم تكن ثقافة، وأنا أقول لكم أن إلى اليوم هى ليست ثقافة أمتنا وهى ثقافة مُتناقِضة، هذه حين تُوضَع في الثقافة تتناقض مع مُكوِّنات ثقافتنا للأسف الشديد، لأنه كيف تقول لي الله – عز وجل – يُقيم الدولة الكافرة إذا كانت عادلة وأنت تُعلِّم من ألف وثلاثمائة سنة أنه لا يجوز الخروج على السلطان الظالم إلا بشرط واحد أن يكون مسلماً؟ أي بما أنه مسلم ممنوع أن تخرج عليه وإن أخذ مالك وجلد ظهرك وفعل وفعل وفعل ثم تقول لي من جهة أخرى قال شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية “الله يُقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ، لكن لا يُقيم الدولة الظالمة ولو كانت مُؤمِنة مُوحِّدة”، فهذا فيه تناقض لأن الأمور ليست واضحة، مُفردات هذه الثقافة ليست مُتسانِدة وليست مُتراسِلة وليست مُتآزِرة، لذلك أنا أقول لكم ما لا يُحجِم عنه الآن مُثقَّف إسلامي بسيط أحجم عنه علماء الأمة كلهم وذلك في المُستنصرية وهى أكبر جامعة إسلامية، فوقتها الأزهر كان موجوداً ولكنه لم يكن بتلكم المثابة، فلم يستو على سوقه ولم يأخذ سمعته في العالم الإسلامي، لكن هذه هى مُستنصرية بغداد، وعلماء الإسلام الكبار على المذاهب الأربعة درَّسوا فيها لكنهم أحجموا وأجفلوا، فتقدَّم الشيخ ابن طاووس من علماء الإمامية الإثنى عشرية وكان مُقدَّماً فيهم وكان نقيب الطالبيين العلويين وكتب فيها – أي في رُقعة الفُتية – ووضع خطه – هكذا يقول صاحب الفخري – فيها بتفضيل العادل الكافر على السلطان المسلم الجائر، فالدنيا لا تدوم مع الجور حتى وإن ظاهره الإسلام وحتى وإن تبرَّر هذا الجور بإسم الإسلام وبإسم الشريعة، لكن هل تعرفون لماذا لا تدوم؟ الله لا يُديمها لأن ليس من سُنة الله أن يُديم الله الجور وأن يُقيم دولةً للظلم، هذا ليس من سُنن الله، وسوف نرى مصداق هذا من كتاب الله الأجل الأعز سبحانه وتعالى.
فهذا ابن طاووس ولعله أول عالم في تاريخ المسلمين تحدَّث بهذا، ونحن نحفظ كلمات ابن خلدون وكلمات ابن تيمية لكن هو قبل هؤلاء جميعاً، فابن طاووس مُتوفى سنة ستمائة وأربعة وستين، أي بعد سقوط بغداد بأقل من عشر سنين، أما ابن تيمية فكان في سبعمائة وثمانية وعشرين، إذن هناك فرق بينهما قُرابة قرن تقريباً، تقريباً أقل من قرن أو ثلاثة أرباع القرن، فهذا إذن قبل ابن تيمية وقبل ابن خلدون وقبل هؤلاء.
أبو حامد الغزالي سبق إلى تقرير مسائل وجمل في هذه الموضوعة مثل قوله في نصيحة الملوك التي قال فيها: وفيما يُروى في الحديث عن رسول الله – وهذا ليس بحديث ، لكن أبو حامد رحمة الله عليه عُرِفَ عنه أنه حشا الإحياء بأشياء لا علاقة لها بالأحاديث على أنها أحاديث للأسف، فهذا هو فقط الجانب الذي ظهر فيه للأسف بجلاء ضعف أبي حامد العلمي، وذلك في علم الحديث، لكن في الفقه وفي الأصول وفي الفلسفة وفي المنطق وفي أشياء كثيرة كان ما شاء الله، لكن في الحديث كان ضعيفاً جداً الرجل باعترافه، حيث كان يقول أنا مزجي البضاعة في الحديث، فهناك مئات الأحاديث ضعيفة وموضوعة في الإحياء، رحمة الله على أبي حامد، ومَن مثل أبي حامد؟ كما قال الذهبي – أن الله – تبارك وتعالى – يُقيم المُلك مع الكفر ولا يُقيمه مع الجور، ولكن ما هذه المُعادَلة؟ هل هذا يحدث مع الكفر؟ أي هل الكفر يُعتبَر ضماناً لبقاء المُلك؟
لن نفهم هذه الجُملة التي تُنسَب خطأً إلى رسول الله – ومعناها صحيح على السواء – إلا إذا فهمناها كمُعادَلة، فهو يقول لك مُلك مع كفر ومُلك مع جور، ومعناها مُلك مع كفر وعدل الله يُقيمه، أما مُلك مع جور وإسلام أو مع جور وكفر أو مع جور وأي شيئ آخر فالله – تبارك وتعالى – لا يُقيمه.
يعني هو العنصر المُؤثِّر كما في الطب وكما في الأدوية التي نتعاطاها، فالمادة الفعَّالة هى العدل، العدل ونقيضه، فإذا وُجِدَ العدل وُجِدَ العون الإلهي، وهذا شيئ عجيب، فهل الله يُعين الدولة ويُقيمها حتى إن كانت كافرة إذا تحققت بالعدل وأنصفت الناس بعضهم من بعض وقامت فيهم بالحق وأقامت بينهم عمود الحق؟
نعم، وهذا ما نشهده عبر التاريخ، فكأين من دولة وكأين من مملكة وكأين من نظام حكم عبر التاريخ وفي واقع الدنيا اليوم وفي واقع الناس اليوم لا يعترف لا بإله – مُلحِد مثلاً وليس كافراً فقط بالأديان – ولا بآخرة ولا يعترف بأشياء يعترف بها المسلمون على أنها عقائد مُصدَّقة وحقائق يقينية مرعية من جانب المُؤمِنين ولكن هذا النظام وتلكم الدولة تقومُ أو يقومُ بالعدل فيُقيمه الله ويستمر ويأمن الناس فيه ويشعرون بأمان.
اليوم معظم المسلمين يتمنون أن يعيشوا في دول فيها عدل وإنصاف، فإذا ما التفتوا يميناً ويساراً ومن بين أيديهم ومن خلفهم لم يجدوا إلا الغرب، للأسف لا نكاد نرى في الشرق عدلاً، ولا تُحدِّثني عن أي نظام إسلامي موجود الآن أو تُحدِّثني عن إيران أو السودان أو طالبان أو غير ذلك، فلا يُوجَد أي عدل حقيقي، وإنما يُوجَد ظلم ويُوجَد استبداد ويُوجَد تسلط على الناس ويُوجَد أوضاع مُخيفة بإسم الإسلام وبإسم غير الإسلام للأسف الشديد، فيتمنى هذا المسلم طالب العدل وطالب الحرية أن يعيش في الغرب، خاصة إذا كان عنده رسالة ويُحِب ويُريد أن يتكلَّم وأن يُبلِّغ شيئاً، فهو يعيش كرسالي – أكرمكم الله – لأنه ليس من سقط المتاع، ولا يُريد أن يأكل ويشرب فقط ولا يقول بما أن رغيف العيش وكوز الماء يُعتبَر مُتوفِّراً له في أي نظام جائر فإنه يسكت ويتعامى ويتصامم، هو ليس كذلك بالمرة، وبالتالي الإنسان الرسالي الذي عنده رسالة لن يجد أمامه إلا الغرب، وسوف يقول لك “نُريد أن نعيش في الغرب”، لأن في الغرب لا تُزعَج ولا تُتعتَع ولا تُظلم ولا تُهضَم، تستطيع أن تُحاكِم أعلى رأس في الدولة إذا ظُلِمت، مثل ما هى شريعة الحق.
نعود إلى قصة هولاكو وعلماء المسلمين، فتقدَّم الشيخ ابن طاووس وكتب فيها – أي في رُقعة الفتوى – بتفضيل الكافر العادل على المسلم الجائر، يقول ابن الطِّقْطَقي “فتتابع بعده العلماءُ فوضعوا خُطوطهم – الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة وقالوا نحن نُؤيِّد نفس الشيئ”، فما الذي حصل؟ لماذا أحرج هولاكو خان المسلمين وعلماء المسلمين ورؤوس الأمة والقادة الروحيين والفكريين للأمة المسلمة في العراق بهذه المُعادَلة المُثيرة غير المأنوسة والغريبة جداً في تاريخ تفكيرهم كمُعادَلة؟ لأنه كان بوذياً، فهولاكو لم يكن من أهل الأديان السماوية وإنما كان بوذياً، والبوذية في الظاهر لا تعرف لا إلهاً ولا يوماً آخراً، لكنك قد تقول لي كيف يكون بوذياً ويفعل هذه الأفاعيل؟ وهذا صحيح لكن هذه هى السياسة، فالسياسة تتوسل الدين، وهى لا تدخل في شيئ إلا أفسدته، فطلب السُلطة والتسلط والتسيد طبعاً بإسم بوذا، وانتُهِكت الحرمات واستُعمِرَت البلاد وخُرِبَ العامر وأُحرِقَ أخضر البلاد بطريقة عادية بإسم الإسلام وبإسم يسوع طبعاً، وبإسم المسيح بالذات، فهناك حروب صليبية ليس فقط في الشرق وإنما أيضاً في الغرب، فالغرب هنا عانى من الحروب الصليبية في الداخل وليس في الخارج بشكل كبير، وفي الحروب الصليبية هنا في أوروبا ذبح بعضهم بعضاً، وإسمها حروب صليبية طبعاً وهذا أمر معروف، فأي حرب صليبية هى حرب لماذا؟ لاجتثاث الهرطقة والزندقة والكفر والانشقاق والضلال والانحراف الديني، فهذه حرب صليبية، والفارسيكون صليبياً ويتكلَّم بإسم الله ويذبح بسيف الله، والرهبان كانوا كذلك، فهذا كان موجوداً والآن بإسم موسى يُراد أن تُقام دولة إسرائيل، فهذا في كل الأديان إذن، هذا يحصل دائماً ويتكرر، وطبعاً تجد كتيبة بل كتائب من علماء الدين يُبرِّرون هذا، فيُبرِّرون الذبح والاستعمار وظلم الناس وامتصاص دماء الناس بإسم الدين وبإسم الفتوحات المُقدَّسة أيضاً وهكذا، فهذا يحصل دائماً للأسف الشديد، لكن هذا بعيد تماماً من روح شرع الله التي بعث بها عباده المُرسَلين، أي الأنبياء والرسل العظام والفخام. عليهم الصلواتُ والتسليماتُ والتبريكاتُ أجمعين وآلهم وأصحابهم وأتباعهم بإحسان.
هولاكو كان حاكماً غير مسلم لأنه كان بوذياً، ودمَّر بلاد المسلمين ودمَّر المملكة الخوارزمية كلها – طبعاً هو وأجداده فليس المقصود هو كشخص وإنما هو وأجداده – فأراد مُسوِّغاً ومُبرِّراً لحكمه على المسلمين لأنه بوذي ويحكم في المسلمين، وبالتالي أراد أن يُطمئنهم وأراد أن يُبرِّر وأن يُسوِّغ هذا الحكم، فكيف قال لهم هذا؟ قال لهم “نعم أنا لست مسلماً ولكنني عادل”، إذن ما المُشكِلة؟ نحن حكامنا عدل، لكن هذا غير صحيح وهو يعلم هذا، يعلم ويتناهى إلى علمه أن حكامكم ليسوا بالعادلين، ويعلم ماذا فعل بنو العباس في المسلمين وماذا كان يفعل خلفاؤهم بالمسلمين وماذا كان يصنع خلفاء بني العباس حين سقطت درر بلاد الشام درةً درة وبلدةً بلدة، ويعلم ماذا كان يفعل السلطان العباسي حين سقط بيت المقدس بيد الصليبيين، حيث أنهم أتوه قبل أن تسقط بيت المقدس بأثداء نساء مسلمات مقطوعات – قطعها الصليبيون – وبرؤوس وبآذان وبأصابع في أكياس وقالوا له “انظر، الصليبيون يُذبِّحوننا ويُقطِّعوننا”، فقال “انتظروا في الخارج ثم بعد ذلك نرىماذا يفتح الله” وتغيّظ على وزيره جداً قائلاً “لماذا أدخلتهم؟ لقد شوشت علىّ مُتعتي وبهجتي”، لأنه كان يُسابِق بين الحمام، قد أقام مُسابَقة بين الحمام وبالتالي قال لوزيره أنه أزعجه، ما هذا الإزعاج؟ أهمية بيت المقدس والشام وأرض الإسلام وأمة الإسلام والرؤوس والأثداء والأصابع المُقطَّعة؟ هذا لا يعنيه، يعنيه أن يُتابِع مسلاته وملهاته بالحمام، فهؤلاء هم حكام المسلمين، يمتصون دماء الأمة ويذبحونها، وإذا ذبحها عدوها انزعجوا لخبر يتناهى إلى مسامعهم عن هذه المذابح، ينزعجون ويقولون أسمعونا ما يرتاح له البال والخاطر، ما علاقتنا نحن بالمذابح والمجازر التي تقع بين المسلمين؟ فهولاكو الخبيث كان يعرف هذا جيداً، ولذلك المغول من أول يومهم في الشرق الإسلامي :كانوا يبعثون رسائل للحكام المسلمين “نحن نتكلَّم بإسم الله” لأنهم أيضاً هم اغتصبوا الكلام بإسم الله، وقالوا “نحن غضب الله ونحن سوط الله ونحن سيف الله الذي سله وامتشقه ليذبح الظلمة من أمثالكم لأنكم ظلمة وغشمة” وصدقوا في هذا، أما أن المغول سيف الله فكذبوا، لكنهم صدقوا في أن حكامنا ظلمة وغشمة، وهذا صحيح، فهولاكو يعرف هذا ويعرف أنه لن يُوجَد أحد من العلماء يقول “لم تأت بجديد لأن حكامنا – أي حاكمينا – أيضاً أهل عدلٍ وإنصاف”، فهذا غير صحيح، هذا من قرون الأمة تسمع به ولا ترى له مصداقاً كالغول والعنقاء، فهى لا ترى مصداقاً للغول وللعنقاء وكذلك لا ترى مصداقاً للعدل، فالعدل الحقيقي في حياتنا لا نراه لأنه غير موجود من قرون، والأمة تعرف هذا لذلك كنَّت واستقرت وسكتت، علماً بأننا لم نعرف حركات مُقاوَمة، لكن من حسن الحظ أن هؤلاء المغول والتتار الهمج لم يحكموا في بلاد الإسلام في العراق وفي فارس أكثر من ثماني وثلاثين سنة حتى هزمهم الإسلام، أما الأمة فلم تهزمهم وإنما الإسلام هو الذي هزمهم، الأمة لم تُقاوِم واستسلمت للذبح وللسقوط وللانهيار التام الكامل، لكن الإسلام هو الذي هزمهم بعظمته، علماً بأنهم قرأوا نص الإسلام ووجدوه بعيداً بعد المشرق من المغرب من واقع المسلمين، كأنهم يقولون “واقعكم شيئ وأنتم شيئ، وعقولكم شيئ ودينكم شيئٌ آخر”، فأسلموا، ففي ستمائة وستة وخمسين سقطت بغداد لكن في ستمائة وأربعة وتسعين أسلم غازان بن أرغون “حفيد هولاكو”، أي أنه بعد ثماني وثلاثين سنة أسلم ودخل الإسلام، لكن القصة لا تقف هنا، فهنا ابن الطِّقْطَقي ونأتي إلى رشيد الدين فضل الله الهمذاني مُؤرِّخ الدولة الإلخانية – الإلخانات العظام والقادة العظام – ومُؤرِّخ المغول في الشرق الإسلامي، حيث أن رشيد الدين الهمذاني في كتابه الشهير جداً يقول “وفي سنة أربع وتسعين وستمائة أسلم غازان بن أرغون “حفيد هولاكو خان” وتسمى بسلطان الإسلام”، لكن الآن ماذا حصل؟ علينا أن ننتبه إلى أن المُبرِّر الذي احتاجه وتوسله جده هولاكو لكي يُقيم حكمه ويسترضي الناس ويستعطفهم هو ماذا؟ العدل، فصحيح أنا لستُ مسلماً ولكن عندي عدل، لكن الآن هذا غير مطلوب لأنني مسلم، إذن فلنرجع إلى الدورة الطبيعية وهى إسلام مع ظلم، فأول ما فعل غازان هو الظلم والعياذ بالله، وهذا شيئ مُؤسِف جداً لكن الثقافة الإسلامية ساعدته على هذا، الثقافة المُنتشِرة طبعاً والسائدة وليس الإسلام.
بعض الناس بين مُزدوَجين يضج ويقشعر بدنه ويقول “كيف تتكلَّم نقدياً في الدين؟ هل أنت تنتقد الدين؟ هذا إلحاد”، وهذا غير صحيح، هناك فرقٌ كبير يا رجل بين الأمرين، لكن نحن كل شيئ عندنا – كما يقول الشوام – هو كف عدس،فكله دين، وهذا غير صحيح، فرق كبير بين الدين في نصه المُنزَل المُوحى من رب العالمين والثابت عن رسول رب العالمين – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيرا – وبين الدين في فهمك وفهمي وفهم سيدي علان وسيدي فلتان والعالم فلان والإمام فلان مع احترامنا لكل أئمتنا وعلمائنا، هناك فرق كبير لأن العلماء ليسوا معصومين وليسوا مُسدَّدي الفهم دائماً في فهم النصوص، وهذا الدين لا تنفد عجائبه، هذا كتاب عظيم جداً جداً، لذلك أنا أقول لكم أن الإسلام مثل أي دين آخر ومثل أي أيدولوجية حتى دنيوية وإن كان هو طبعاً عقيدة إلهية سماوية، لكن أيضاً مصيره مثل أي دين آخر ومثل أي أيدولوجية أرضية، إذا خسر في إثبات أنه الأكثر تفوقاً سيخسر المعركة، فقط هذا هو، لكن بعض الناس يقول لي “موضوع حقوق الإنسان بشكل عام هو موضوع راهن” وأنا أقول له موضوع حقوق الإنسان العدالة والحرية والكرامة سيظل مُحتفِظاً براهنيته، فسوف يظل طرح حقوق الإنسان وموقع المسلمين على هذه الخارطة في هذا الموضوع الكبير أو الموضوعة العُظمى – حقوق الإنسان – ما ظل الآخرون مُتقدِّمين علينا ولو بخُطوة، سيبقى موضوعاً راهناً لابد أن نُبدئ فيه القول ونُعيد، فنُبدئ ونُعيد باستمرار ليس لمرة واحدة وإنما لألف مرة ومليون مرة، حتى نُحقِّق ماذا؟ في الأول نُحقِّق على الأقل المُساوَاة ثم التفوق، فنُثبِت أننا أكثر تفوقاً منهم في هذا الباب والأكثر إنسانية والأكثر عظمة والأكثر رحمانية، أما إن أصررنا على أن نبقى دائماً مُتخلِّفين فهذا خطأ، لكن هذا يحدث بإسم الدين ونقول “الدين يُريد هذا، الدين لا يُحِب الديمقراطية” كما لو كان يُحِب الديكتاتورية، فالدين لا يُحِب العدل بالمعنى الذي يطرحه الفكر الغربي الملعون ولكنه يُحِب العدل بالمعنى الفقهي العلمائي المُتعلِّق بـ وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، فهذا هو العدل كما نفهمه، وهذا غير معقول، فإذا ظَلِلنا – لا تقل ظَلَلنا وإنما قل ظَلِلنا – مُصرين على هذا الإسلام سوف يخسر، وأنا اقول لكم أنه يخسر مع أبنائنا وليس مع أمة الدعوة ومع الآخرين الذين لم تنشرح صدورهم ولم تطمئن قلوبهم بالإسلام فقط، وإنما مع أولادنا وبناتنا، أي مع أبناء وبنات أصلابنا وأرحامنا، فهل تعرفون لماذا؟!
صدقوني قبل فترة بسيطة – ربما ربع قرن أو ثلاثون أو أربعون سنة وليس قبل مئات السنين – كنت تجد مُعظم الناس إذا تكلم رجل يُنسَب إلى الدين مثل شيخ أو عالم على منبر أو في تلفزيون فإن الكل كأن على رأسه الطير، أي أنه يُنصِت بخشوع، ولا يستطيع ولا تُخالِجه خالجة أن يرد على هذا الشيخ أو يُحاوِل أن يُفكِّر أو أن يتلقى ما يُلقي إليه الشيخ بعقلية نقدية، فلا مجال للعقلية النقدية لأن المُتحدِّث هو الشيخ، لكن اليوم انقلبت هذه الأمور، فهذه الصورة لم تعد موجودة حيث أنها نُسِخَت، فكل أحد يستطيع أن يتكلَّم – أنا وأنت وهو وهى – والناس يصغون إليه بحساسية نقدية، فنرى عن ماذا يحكي هذا المُتكلِّم وفيما يُوافِقنا أو يُخالِفنا وهل هو مع مطالبنا أو ضد مطالبنا وإلى أي مدى يتحسَّس ويتجسَّس نبضنا أم هو ضد اتجاهنا ونبضنا أصلاً، فضلاً عن أننا نُحاوِل أن نعرف هل هو مع خط التاريخ أم أنه ضد خط التاريخ ورجل رجعي، إذن الناس يفعلون هذا، لكن هل تعرفون لماذا؟ قد يقول لي أحدكم ” ولكن هؤلاء ليسوا علماء دين، نحن علماء دين ومشائخ، نحن نحفظ الكتاب والسُنة وعندنا مناظر وبهاء ولحى وأشياء تُلبًس وتُرِكَب وما إلى ذلك” لكن هذا أيضاً لم يعد له تأثير مع أن الآخرين لم يدرسوا الدين، فهل تعرفون لماذا؟ هؤلاء مسلمون بالفطرة وهم مسلمو الدار – كما يُقال – وليسوا مسلمو الاختيار، فهم المسلمون الجغرافيون كما كان يسُميهم شكيب أرسلان رحمة الله عليه، أي أنهم أصبحوا مُسلِمين بفضل الجغرافيا، وهذا إسمه القدر الجغرافي، فحظنا وقدرنا جغرافياً أننا أتينا إلى منطقة مسلمة، وهذا قدر جغرافي وليس عن اختيار وعن فلسفة وعن دراسة، فهذا الكلام غير موجود، قال الله إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ ۩، لكن ما الذي يحدث إذن؟ نعم هؤلاء غير مُتخصِّصين وليس عندهم شهادات وألقاب عُليا في الدين ولكنهم يتلقون ما يقوله شيخ الأزهر وآخر عالم وواعظ على منبر بحس نقدي، هل تعرفون لماذا؟ لأن اليوم يُوجَد تعليم بشكل أكبر من الأول، فهم تعلموا تعليماً جامعياً مُحترَماً وإن قلت لي أن هذا التعليم في الكيمياء وفي الفيزياء وفي التاريخ وفي الفلسفة وفي السوسيولوجيا وفي والسيكولوجيا وما إلى ذلك، فهذه الأشياء كلها هى علوم وبالتالي تخضع لمناهج علمية وتُربي عقلية علمية وعقلية نقدية.
اليوم قبل أن آتي وأنا أُحضِّر نفسي للمجيء إلى هذا المكان الذي أسأل الله أن يُبارِكه ويُبارِك مَن فيه وعليهم وبهم استمعت إلى خطيب في حضرة رئيس يتكلَّم ويقول “الله لكي يُحدِّث للأمة – شرط الأمن – وللأمم وللبشر أمناً لابد من الإيمان بالله”، وهذا الكلام غير صحيح، لأن اليوم الأمة المُؤمِنة ليس لديها الأمن، فنحن أمة مُؤمِنة وليس عندنا أي أمن، وهناك أمم كافرة وأمم على أديان مُختلِفة ولكن عندهم أمن من أحسن ما يكون، فمَن قال هذا؟ هذا الكلام ضد السُنن الإلهية، الله كأين من آية قص علينا فيها ليهدينا بها عبر آلية الاعتبار أن الإيمان بالله ليس شرطاً للأمن، لكن علينا أن ننتبه إلى أننا لا نعتبر، فهذه الأمة لا تعتبر كثيراً، قال الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ۩ وقال أيضاً فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ ۩، فهل تعرفون ما هو روح وجوهر الاعتبار؟ متى يُمكِن أن تعتبر أو تكون كائناً مُعتبِراً؟ إذا فهمت السُنن، قال الله قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩، فإذا لم تفهم السُنن لا يُمكِن أن تعتبر، والمقصود بالسُنن ليس السُنن النبوية وإنما سُنن الله في الخلق وفي الاجتماع البشري الإنساني وفي التاريخ الإنساني، وأجمل تعريف وقعت عليه للسُنة الإلهية كان لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه – لأنه تعريف عبقري وبسيط جداً جداً وعميق حيث قال ببساطة “السُنة التي يحصل الاعتبار بفهمها هى التسوية بين المُتماثِلين والتفريق بين المُختلِفين” هذا هو، وهذا شيئ عجيب طبعاً، فالله حين يقول وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۩ فإنه يقول لك هذه سُنة، أي قرية أو مدنية أو حاضرة أو شعب أو حضارة تظلم وتُصبِح عريقة في الظلم نُهلِكها، وهذا شيئ عجيب لكن هذه سُنة، علماً بأنه لا ينبغي أن تقول أن الله أهلكهم لأنهم كفّار لكن نحن مُسلمون لأن الموضوع هنا ليس له علاقة بقضية العقيدة والدين، لو كنت مسلماً ظالماً سوف تُهلَك، أم الكافر غير الظالم فإنه يُقام، والله سوف يُمتِّعه في الدنيا، قال الله نُمَتِّعهُمْ قَلِيلًا ۩والحياة والدنيا كلها متاع، قال الله وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ ۩، فالله يُعطيهم هذه الدنيا ومن ثم يتفوقون ويُبرِّزون ويبذون غيرهم، لا بأس لكن الآخرة عندها حساب آخر وهو حساب مُختلِف، ولذلك قال الله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، لكن قد لا يفهم أحدهم هذا على الوجه الصحيح ويقول “نحن قلنا لكم أن كتابكم يُعَد مُتناقِضاً وكذلكم قرآنكم يُعَد مُتناقِضاً” وهذا غير صحيح، فهو غير مُتناقِض بالمرة، الجهل هو المُتناقِض لكن القرآن لا يتناقض، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، فالقرآن تحدى مَن هم أذكى مِن مُشاغبة العصر الحديث، فهم على قلة علمهم النحو وبالصرف وبالقرآن وبكل شيئ يشغبون ويقولون “القرآن مُتناقِض”
وهذا غير صحيح، ولو وجد فيه أبو لهب وأبو جهل وفلان وعلان تناقضاً لفضحوا به محمداً في العالمين، لكنهم ما وجدوا هذا، وهو كان يتحداهم لأنهم كانوا يفهمون العربية ويعرفون السعة الدلالية للألفاظ، وبحسب السياق تتحدد المعاني وتبرز وتضح، فالله هنا يقول وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، ويقول في سورة القصص وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ۩، فهو قال القرية الظالمة يتم إهلاكها لكنه هنا قال لا نُهلِكها، وهذا يعني أن الظلم المُثبَت هنا غير الظلم المذكور هناك، فهذا ظلم وهذا ظلم، لكن المقصود بالظلم هنا هو الشرك، لذلك قال جار الله محمود الزمخشري أن معنى قول الله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩ أي ما كان ليهلكهم بالشرك الذي يكونون عليه، فالله لا يهلك المُشرِكين وإنما يتركهم كما هم لكن الحساب في الآخرة وفي دار الجزاء، ومعنى قوله وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩ أي إذا كانوا يتعاطون الحق بينهم في ظل وجود الإنصاف والعدل، لكن الكفار والمُشرِكون يعيشون بلا أي مُشكِلة، فهذه هى الدنيا، والأئمة كانوا يفهمون هذا من قديم، قبل ابن طاووس وابن تيمية، لكن هذا لم يتحوَّل لثقافة – كما قلت لكم – تُساس بها الرعية ويُساس بها عقل الطواغيت من حكام الإسلام، لم تتحوَّل إلى ثقافة فهى مُجرَّد كلمات وشذرات وهتامات منُتفرِّقة ومثتناثِرة في بطون وأنحاء كتب التفسير للأسف الشديد، وعلى كل حال هناك قال الله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ۩ فضلاً عن أنه قال في سورة الكهف وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ۩، لكن ما معنى الظلم هنا؟!
الظلم الذي هو ضد العدل والذي يُجامِع ويُعادِل الجور.
لذلك علينا أن ننتبه إلى أننا إذا تحدثنا عن السُنة وتعريف السُنة بلغة عصرية فإننا سنجد أنهم يقولون أن السُنة الإلهية في الاجتماع البشري والتاريخ الإنساني باختصار هى نظام الله وقانونه ودستوره، فهذا قانون مثل أي قانون، فمثلما يُوجَد – مثلاً – قانون الجاذبية يُوجَد أيضاً لله قوانين في الاجتماع الإنساني وفي تاريخ البشر، وهذه القوانين غير قوانين الطبيعة المادية، إذن قانون الله هو نظام الله المرعي في مجريات البشر وفي المقادير التي تجري على البشر على جهة الإطراد والانتظام، فلا يتخلَّف ولا يُوجَد فيه استثناءات، هو فقط قاعدة مرعية.
ولذلك حين سألت أم المُؤمِنين الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وأصحابه – يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ أي أننا أمة صالحة فهل من المُمكِن أن نهلك وتهلك الأمة المحمدية والأمة الإسلامية؟ قال نعم إذا كثر الخبث، وأخبث الخبث هو ماذا؟ الظلم ، فالنبي هو الذي قال هذا، وكلنا قرأنا هذا الحديث وسمعناه مليون مرة مذ كنا صغاراً.
حين جاء أسامة بن زيد يشفع في حد من حدود الله في المرأة المخزومية – لأنها من بني مخزوم، من قبيلة خالد بن الوليد وهى قبيلة كبيرة، وبالتالي هى ليست سرَّاقة من سقط المتاع أو من الرعاع أو من طغام الناس – غضب النبي غضباً شديداًوخرج يجر رداءه مُحمَّراً وجهه فاعتلى المنبر وقال “يا أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
فهل تُريد أن تعرف سبب الإهلاك؟ قال الله وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ۩، فالسبب وهو الظلم، واليوم أمة محمد – والذي لا إله إلا هو والذي نفوسنا بيده لا إله إلا هو – ما لم تتعلم كيف تعدل العدل الذي يُريده الله حتى يغلب على حالها أن يكون العدل لا الظلم لن ترى من الله لا توفيقاً ولا نصرةً ولا خيراً ولا أي شيئ، ولن تنفع هذه الركعات التي تُركَع ولا الكلام في الدين ولا هذه الشعارات، لابد من عدل حقيقي كما أراده الله، لكن قد يعترض أحدهم قائلاً “هذا غير صحيح يا أخي، فالمقصد الأعظم لله – تبارك وتعالى – هو أن نعبده، وأنت تحقر العبادة الآن” وهذا غير صحيح، أنا لا أُحقِّر العبادة، أعوذ بالله، إني إذن لمن الجاهلين، فنعم الله قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩
ولكن أنا أقول لك افهم كتابك يا أخي، افهم كتاب ربك لا إله إلا هو، فنحتاج مزيداً من الفهم، الله يقول وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ وهذا حقٌ، ولكنه يقول أيضاً لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩، إذن هما غايتان، فالغاية الاولى هى أن نعبده، والغاية الثانية هى أن نُقيم ميزان العدل بيننا في مُجتمَعاتنا، ولكن أيهما تحكم على الأُخرى؟
أنا أقول لك أن غاية العبادة هى الأعم، أما غاية العدل فهى داخلة في العبادة وهذا يُعطيها قدسيةً خاصة، بمعنى أنك إذا أردت أن تعبد الله لن تعبده حقاً وأنت ظالمٌ لإخوانك وأنت ظالمٌ للبشر وأنت ظالمٌ للناس وأنت عسّاف، هذا لا يُمكِن أن يحدث، لذلك عليك أن تعدل، اعدل ولو على نفسك لأن الله يقول وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩، فحتى لو كان هذا على حساب أبي وأمي سوف أحكي الحق، وحتى لو كان هذا على نفسي سوف أحكي الحق، لأن الحق آثر عندي من نفسي وبالتالي سوف أقوله بكل تواضع لأنني مُؤمِن عابد الله – اللهم اجعلنا كذلك – ومن ثم ينبغي أن أقول “اللهم فاشهد أنا كنت الظالم، أنا كنت المُخطئ، أنا كنت البادئ”، ولكن قد يعترض أحدٌ قائلاً كيف يعترف على نفسه؟ هل هذا مجنون؟ هو ليس مجنوناً ولكنه يُحِب العدل ويخاف من الله، فهذا هو جوهر الدين، فالدين ليس هو اللحى وتجويد القرآن وقلقلة الحروف وما إلى ذلك بجانب الظلم – يُوجَد ظلم بينهم فيما بين بعضهم البعض – لأن هذا يُعتبَر كلاماً فارغاً، وهذا – والله – شوَّه مظهر الدين – أقسم بالله على هذا – وجعل حياتنا حياتنا – كمسلمين – كئيبة بئيسة كريهة، وبالتالي نحن نُريد حقائق الدين وحقائق التقوى.
إذن إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ هذا هو المقصد الأعم، لكن لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩ مقصد يدخل في عموم الأول وهو من تفاصيل مُجملات عموم الأول، فهكذا تكون العبادة بأشياء كثيرة في رأسها أن يقوم الناس بالقسط، لكن إذا لم تفعل هذا وكنت ظالماً لن يكون لك حظ من هذا الدين، هذا سوف يكون كلاماً فارغاً لأنك ما فهمت الدين.
قال رسول الله رداً على السيدة عائشة “نعم إذا كثر الخبث”، وقال أيضاً ” يا أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد – أي قطعوه – وإذا سرق فيهم الشريف تركوه – فالنبي يقول أن الأمم أُهلِكَت بهذا، كأن النبي يقول هل تُريدون لنا أن نهلك مُباشَرةً في أول يوم ونحن ما زلنا نحبو؟ في كم سنة أفمنا هذه الدولة؟ وذلك لأن النبي كان له ربما خمس أو ست سنوات في المدينة ومع ذلك من المُمكِن أن يهلكهم الله لأن لا شفاعة في الحدود، ومن قال النبي أننا سوف نهلك إذا فعلنا هذا، وقد يعترض أحد قائلاً أن هذه الحدود من باب التشدد وهذا غير صحيح، فالحدود فلسفتها شرف للإسلام، والله العظيم الحدود هى درة متلألئة برّاقة في تاج الإسلام, ونحن نتكلَّم الآن بكلمات لكي نعرف كيف الله أراد لنا أن نُقيم العدل أيضاً بالحدود، فالناس تأخذ الحدود على أنها موقف من المُجرِم فقط وأنه موقف فيه إرهاق وفيه رهق وفيه تجاوز وفيه قسوة وشدة، فهنا نجلد وهنا نُقطِّع ونُصلِّب وهنا نقطع الأيادي وهنا نفعل ونفعل ومن ثم يقولون لك أن هذا يُعتبَر شيئاً شديداً، لكن هذا غير صحيح، فينبغي أن نفهم أولاً فلسفة الإسلام في هذه المسائل لكي نعرف كيف أراد الله لنا أن نُقيم ميزان العدل وعمود العدل الذي يجري على الجميع، فهو يجري على الضعيف وعلى الشريف – وأيم الله لو أن فاطمة – لو أن فلانة، أستغفر الله، لا يجوز أن نذكرها هكذا، هو يذكرها لأنه أبوها لكن نحن لا نفعل ونقول لو أن فلانة – بنت محمد – عليها السلام – سرقت لقطعت يدها”.
عمر بن الخطاب – رضوان الله عن سيدنا عمر- يغمزه بعض الناس المساكين، يُريدون أن يُصوِّرون لنا عمر على أنه كان ظالماً ويقولون “عمر كان قاسياً وعمر كان عنصرياً وطائفياً” علماً بأنني رأيت لبعض التائهين يوتيوباً إن جاز الصرف – أي رأيت لهم مقطعاً في ال يوتيوب YouTube – يقول بأن عمر كان عنصرياً، لكن نحن نقول له كيف كان عنصرياً يا عنصري؟ لماذا هو عنصري يا حبيبي؟ قال “لأنه لا يُحِب المجوس ولا يُحِب الفرس ولا يُحِب من غير المسلمين أم يدخلوا المدينة” وهذا غير صحيح، ومَن يقول هذا – هو والله الذي لا إله إلا هو – هو رجل أحمق، ولكن هذه مسألة أُخرى وسوف نتكلَّم فيها، لكن على كل حال هذا حمق لا يدري ماذا يقول ويهرف بما لا يعرف، ولكن – كما قلت – هذه المسألة سوف نتكلَّم عنها في مرة أخرى!
إذا أستطعت أن تُشكِّك في شجاعة عنترة – تقول عنترة كان رعديداً جباناً – وفي كرم حاتم الطائي وفي شجاعة عليّ بن أبي طالب تستطيع أن تُشكِّك في عدل عمر بن الخطاب، أنت مسكين وإلا لماذا لم يحظ معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان والمُستنصِر العباسي – صاحب المُستنصرية – برائحة إشاعة أنهم كانوا من العادلين؟ لأن الناس لا تُخدَع، لا يُمكِن أن يُخدَع كل المُؤرِّخين زكل طبقات الشعب في كل الأزمان، أبراهام لينكولن Abraham Lincoln – حكيم الأمريكان في وقته – قال “تستطيع أن تخدع كل الناس لبعض الوقت وبعض الناس طول الوقت لكن لا تستطيع ان تخدع كل الناس طول الوقت”، فكيف خدع عمر بن الخطاب الأمم كلها بما فيهم مُحرِّري الموسوعية الأمريكية – الإنسكلوبيديا Encyclopedia الأمريكية – التي قالت “هذا الرجل رمز للعدل، وهو ثاني أعظم شخصية أثراً في الأمة الإسلامية بعد محمد”، فلا تقل لي أن الأعظن أثراً بعد رسول الله هو أبو بكر أو عليّ أو عثمان لأن عمر هو الذي كان كذلك وهذا أمرٌ معروف، حقائق التاريخ الصلبة – ال Solid – تقول هذا، فماذا نفعل نحن؟ لكن أحياناً هذا الهرف وهذه الأحقاد وهذه الأشياء تُشوِّش الرؤية للأسف، فما أحلى طلب الحقيقة وما أحلى الإنصاف وذلك حين تُعطي الإنصاف من نفسك ومن غيرك، ومن ثم نحن نُريد الحقيقة ونتعبد بها الله، فأنا لا أتعبَّد بها طائفتي وحزبي ومذهبي لأن هذه الأشياء لا تعنيني وإنما أتعبَّد بها الله لأنني يعنيني ربي عز وجل، وبالتالي سوف أقول الحق الذي يُنجيني بين يديه،
لأن يوم يُعرَض الناس في يوم العرض الأكبر – والله العظيم – لن تنفعك لا طائفتك ولا مذهبك ولا شيخك ولا إمامك، سوف ينفعك يقينك، فبماذا كنت مُقِنناً؟ ولماذا خالفت يقينك؟ لماذا خالفت الحقائق وأنت تعلم أنها حقائق؟
عمر بن الخطاب معروف عنه ومُستفيض أن ابنه عبد الرحمن لقى حتفه تحت السياط لأنه شرب الخمر في مصر فجلده عمرو بن العاص ثم بلغت المسألة عمر فقال له أين جلدته؟ فقال له جلدته في القصر، فاستنكر عمر هذا وقال له كيف تنظر إلى أنه ابن أمير المُؤمِنين فتجلده في القصر؟ ابعث لي إياه – انظر إلى عظمة عمر، هذا هو عمر للذي يُشكِّك فيه، رضوان الله على عمر – مُباشَرةً، ثم أتى به وجلده أمام الناس فمات، لأن الرجل أتى من سفر وكان جائعاً ومُتعَباً وسبق وأن جُلِدَ في مصر، وهذا طبعاً ذُل وهوان ابن أمير المُؤمِنين لكن هذه الأمور ليس لها أي اعتبار عند عمر لأن هذه حدود، فمات بعد أربعين، لكن ما يُقال حول أنه أكمل جلده وهو ميت يُعتبَر كلاماً فارغاً، فهذا لم يصح عند عمر، وعمر لا يفعل هذا لأن هذا ليس من الفقه، وبالتالي لا يُقال أنه أكمل الحد عليه بعد أن مات لأن هذا كلام فارغ ولم يصح قط، لكنه بكى عليه لأنه ابنه وقال له “يا بني إذا لقيت محمداً فأخبره أن عمر يُقيم الحدود في الناس”.
والآن يقولون لك لماذا نصر الله عمر والدولة العمرية والخلافة العمرية فكانت لها اليد الطُولى واليد البيضاء على هذه الأمة؟ بسبب هذا العدل الذي طبَّقه حتى على ابنه، فأين نحن من هذا؟ هذه فقط دروس على المنابر بدون أي تطبيق لأننا لا نفهم أن هذا هو جوهر الدين – الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩ – وهذا هو الهدف لأنه هدف أساس ورئيس من أهداف الدين، فلا يُمكِن أن نهتم بالصلاة واللحى والنقاب والحجاب فقط في الوقت الذي نُمارِس فيه الظلم، هذا هو، رضوان الله عنهم أجمعين.
للأسف تشعب بنا الحديث، وسوف نعود إلى الحدود إن شاء الله لكي نُكمِل حديثنا عنها ولكن بعد أن نعود إلى غازان، فماذا فعل غازان إذن؟!
تلقَّب بسلطان الإسلام، يقول رشيد الدين الهمذاني في تاريخ التواريخ “وأول ما فعل هو أنه دمَّر بيوت – ما شاء الله، انظر إلى العظمة التي كان يدّعي بها أنه يفعل هذا من أجل الإسلام والحق – البوذيين ومعابد البوذيين ومعابد آبائه وأجداده”، دمَّرها من عند آخرها في أراضي المملكة في تبريز وبغداد، فأي معبد للبوذيين يجده يُدمِّره، ودمَّر بيوت النار والأصنام وكنائس المسيحيين وكُنس اليهود والبيع كلها، ولم يُبق على شيئ إلا المساجد لأنه سلطان المسلمين، فيا للعار، يا للعار عليك وعلى الفقهاء الذين أجازوا لك ذلك، يا للعار عليك وعلى فقهائك وأنتم تتلون الكتاب – كتاب الله – الذي فيه يقول وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ۩، وفيه أيضاً لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ لأن الله يُريد هذا، ولذلك قال وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ ۩، فكيف تُريد أنت أن تُوحِّد الناس؟ هل أنت أيدولوجي؟ هل عقلك هو عقل ستاليني؟ لا يُمكِن أن تُوحِّد الناس كما تُحِب، لن تتوَّحد كل الأمم لأن الله لا يُريد هذا، وبالتالي الناس لها اختياراتها، لكن انظروا ما الذي حدث، للأسف الآن اكتملت المُعادَلة تاريخياً وليس نظرياً وتنظيرياً، فأيام هولاكو كان هولاكو بوذياً ومن ثم هو في توصيف المسلمين يُعتبَر كافراً لأنه هذا غير مسلم، لكن هذا البوذي عاشت في ظله المنابر والمنائر مع أجراس الكنائس ومع معابد النار ومعابد البوذيين، لأن هولاكو راهن على ماذا؟ على العدل، حيث قال لهم “صحيح أنا لست من المسلمين ولكنني رجل عادل ومن ثم فأنا أصلح”، فقرآنياً من المُمكِن أن تستمر دولته مع العدل، وهذا شيئ عجيب، لكن – ما شاء الله – الحفيد المسلم غازان بن أرغون – حفيد هولاكو – قال أنه سوف يُدمِّر كل شيئ ولن يُبق على شيئ إلا المساجد فقط، وبالتالي هذا لا يستمر لأنه هذا ليس من روح الإسلام ولأن هذا يعني أن الإسلام يُجامِع الظلم ويجتمع معه بدون مُشكِلة لأنه ظلم ولكنه بتوقيع علماء المسلمين، وهذا غير صحيح.
ابن طاووس وعلماء المذاهب السُنية الأربعة حين وقَّعوا وفضلوا السلطان الكافر العادل على السلطان المسلم الجائر قالوا في مفهوم هذا التوقيع أن خُطة هولاكو الكافر خيرٌ من خُطة حفيده المسلم.
فهذا صح وهذا غلط، وهكذا كيد الإسلام مرتين، مرة على يد هولاكو الكافر، ومرة على يد حفيده المسلم، وفي المرتين يخسر الإسلام بغباء المسلمين للأسف الشديد.
نعود – كما وعدنا – إلى الحدود ولكن في الخُطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أولاً هذه الحدود أو ما يُعرَف بالحدود في فلسفة الحدود في الإسلام هى حقوق الله تبارك وتعالى، لكن قد يقول لي أحدكم: كيف هى حقوق الله؟ هل السرقة حق الله؟ هل الزنا حق الله؟ هل القذف حق الله؟ هل الحرابة حق الله؟ كيف أن الحدود هى حقول الله؟
علينا أن ننتبه إلى أنه يكاد يتفق كل العلماء المسلمين وخاصة في العصر الحديث على أن معنى كلمة حقوق الله هو حقوق الناس وحقوق المُجتمَع، فهذا ليس حقاً لفرد دون الأمة أو حقاً لقبيل من الناس دون الآخرين أو حقاً لجماعات وطوائف دون سائر الناس وإنما هو حق لكل الناس وحق لكل المُجتمَع وحق لكل الوطن وحق لكل الشعب والأمة، وكون هذه الحقوق تُضاف إلى الله ويُقال إنها حقوق الله وحدود الله فهذا يُعطيها مزيد هيبة وقدسية ويُحيطها بسياج عالٍ لا يُتسوَر من الحماية الإلهية لأن هذه حقوق الله، فهل يستطيع أحد أن يأتي بغباء ويقول والله هذا حق الله ولكنني أتنازل عنه؟ سوف نقول له بالعامية “صح النوم يا حبيبي”، هل يُوحى إليك؟ هل الله خوَّلك أن تتنازل عن حقه؟ كيف يُمكِن أن تقول هذا؟ هل أنت مجنون؟ أنت لا تستطيع أن تفعل هذا، وهذا شيئ عجيب، أنت فقط تستطيع أن تتنازل عن حقك أنت وليس عن حق الله، علماً بأننا في هذه اللحظة بالذات نحتاج إلى أمثال الإمام العارف بالله الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه، وأنا أقول لكم نحن اليوم لا نتفقد علم، فالعلماء موجودون دائماً قبله وبعده، وهناك مَن هو أكبر منه ومَن هو أصغر منه ومَن يُساميه ومَن يُساويه، فالعلم موجود والكلام موجود الفصاحة موجودة، فليس هذا الذي نفتقده، وإنما نحن نفتقد صدقه في تدينه وصدقه في رساليته وصدقه في أخذه الدين بقوة، فالشيخ الشعراوي حين كان شاباً – نعم كان شيخاً مُتخرِّجاً من الأزهر وعالماً ولكنه كان في شبابه – قُتِلَ أخوه، ولكنه تنازل عن دم أخيه في صعيد مصر، وهذه فضيحة وعار أن يفعل هذا، فدائماً ما يُقال “أخِّر الدين وأخِّر كل شيئ إلا الدم”، لكنه تنازل وعلَّم الناس درساً عن كيفية التدين العملي وليس النظري، وأمه كادت تُجَن وأبوه كاد يقضي غماً، فكيف يفعل هذا بعد أن قتلوا أخاه؟ هذا دم، ماذا يقول الناس؟ لكنه قال “أجرنا عند الله، قال الله فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ ۩، فنحن نُريد أن نُعلِّم العفو”، رحمة الله على الشيخ العارف بالله ورضوان الله عليه في هذا اليوم المُبارَك، كثَّر الله – والله العظيم – في الأمة من أمثال الشيخ متولي الشعراوي وليس من شيوخ قلة الأدب اليوم، مِمَن يسب فيهم الواحد ويلعن هذا وذاك ويخرج بحذاءه لكي يضرب مَن يُخالِفه، فما هذا؟ ما هذا البلاء الذي نحن فيه الآن؟ نحن كدنا أن نُسمي بعضهم بشيوخ الأحذية، فكل يوم والآخر نرى أحدهم وهو يخرج علينا بحذائه قائلاً “عندي حذاء”، فما معنى أن تقول لنا عندي حذاء؟ والناس عندها أحذية يا أخي، فماذا نفعل بالأحذية؟ نحن نُريد أدمغة وليس أحذية، الأحذية كثيرة جداً – والله العظيم – ورخيصة ومنها الإيطالي وغير الإيطالي، لكن نحن نُريد الأدمغة وليس الأحذية، ومن ثم نحن نُريد أمثال الشيخ العارف بالله الشعراوي رحمة الله تعالى عليه، لكن كيف تنازل الشعراوي عن دم أخيه؟ هل تعرفون لماذا؟
لأن القصاص ليس من الحدود، وهذا هو الصحيح في التوصيف الفقهي وهذه هى طريقة الأحناف، فالأحناف قالوا هناك حدود وهناك قصاص، فالقصاص يُوجَد هناك في تصنيف لوحده والحدود تُوجَد هنا في تصنيف آخر حيث يُوجَد بينهما فرق، فهناك فرق رئيس بين حق العبد وحق الله – أي حق الناس كلها وحق المُجتمَع – وهو أنك تستطيع أن تتنازل عن حق الله في حالة واحدة وهى أن تأتي بتوقيع من كل الناس في الأمة يُفيد بأن الأمة سامحت في هذا الحق، ومن ثم سوف نقول أن هذا الحق تم التنازل عنه لكن هذا مُستحيل، فأول فرق إذن بين حق العبد – حق الفرد الخالص – وحق الرب الخالص لا إله إلا هو – حق الناس – هو أن حق الفرد يستطيع أن يتنازل عنه وأن يعفو، وهذا الحق يقبل الشفاعة، قال رسول الله “اشْفَعُوا تُؤجَرُوا”، فالله يقضي على لسان رسوله ما شاء لذا النبي قال “اشْفَعُوا تُؤجَرُوا”، أي اذهب وقل لهم “يا جماعة عليكم بالعفو، قال الله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ۩، سامحوهم واقبلوا بالصلح واقبلوا بالدية، أو اقبلوا بالصلح من غير دية لوجه الله، فالذي فعل هذا هو أخوك لأن الله قال هذا أخ لك، فسامحه إذن ولك أجر”، لكن إن ذهبت تشفع في حد من حدود الله سوف يغضب عليك الله ورسوله مثلما غضب الرسول على الحبّ بن الحبّ أسامة بن زيد، فلم يتجارأ أحد على أن يشفع في هذا الحد عند الرسول لأن النبي كان يغضب جداً لأن هذه حدود الله، لذلك قالوا ابعثوا له أحب واحد له وهو أسامة بن زيد الذي قضى أبوه شهيداً، فدخل له لكي يشفع فغضب النبي غضباً شديداً وعلم أسامة أنه أخطأ، وذلك حين قال له النبي أفي حد من حدود الله يا أسامة؟ أفي حد من حدود الله؟ فهذا حد الله، مَن يملك أن يتنازل عنه؟ هذا ممنوع، لا مجال للتنازل أو للشفاعة أو للعفو أو للصلح، فلا تستطيع أن تُصالِح عليه، هذا ممنوع، وهذا شيئ عجيب، هل الموضوع يصل إلى هذه الدرجة؟ لماذا إذن هو كذلك؟ ما الحكمة؟ سوف نفهم فيما بعد لكن عليكم أن تنتبهوا أولاً – ركِّزوا معي – لأن هذا الحديث يُعتبَر مُهِماً جداً لكي تُدافِعوا عن دينكم ولكي تقولوا للناس ما هى الفلسفة الجنائية والفلسفة الجزائية والفلسفة العقابية في الإسلام، ولكي تعرفوا ما هو الفرق بين القصاص وبين الحدود، فالحدود في كتاب الله هى حد الحرابة وحد السرقة وحد الزنا وحد القذف، أما حد شرب الخمر فهو ثابت باجتهاد الصحابة ولم يثبت حتى عن رسول الله كحد، وإنما كان يُوجَد التعزير، وبالتالي الأرجح أنه ليس حداً وإنما هو نوع من التعزير فلنترك الحديث عنه الآن.
إذن هذه الحدود أربعة، وهى حقوق المُجتمَع وحقوق الناس وحقوق الله، لكن ما الفرق بينها وبين القصاص؟!
حق الفرد يجوز فيه العفو، تقول الآية الكريمة وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ ۩، وهذا إسمه ولي الدم لأن هذا حق له، فإن أحب أن يتركه وأن يعفو فأجره على الله، قال الله وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا ۩، وأن أحب أن يأخذ حقه وأن يقتص أهلاً وسهلاً لأن هذا حقه ويجوز له أن يستوعيه.
فما الفرق إذن؟ سوف نرى ما هو الفرق ولماذا وما هى الحكمة في ذلك، لكن انظروا الآن إلى القرآن العظيم، فحتى في الحدود – حدود الله باستثناء الحرابة وسوف نقول لماذا – حين أمرنا تبارك وتعالى أن نُقيمها وأن نُنفِّذها صاغ ذلكم بطرق أو بطريقةٍ تُؤذِن بأن هذه الحدود والحقوق هى حقوق الجماعة من عند آخرها، فماذا قال؟
قال الله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ۩، والخطاب لمَن؟ للجماعة، فانظر
إلى القرآن وإلى دقة القرآن، فهذا القرآن من عند الله لأنه ليس كلاماً بشرياً طبعاً، مُستحيل- والله الذي لا إله إلا هو – يا جماعة الخير أن يكون من لدن بشر، فكيف يستطيع محمد في عشر سنين أن ينتبه إلى المُنافِقين ولليهود وللمشاكل التي حدثت في المدينة وللحروب وللسرايا وللمشاكل عائلية ولخمسين شيئ وفي نفس الوقت يُشرِّع هذا ويفهم كل هذه الأشياء؟ هذا مُستحيل، لا يستطيع أن يفعل هذا محمد ولا غير محمد، فهذا من عند الله.
قال الله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ۩ فاللأمة هى المُخاطَبة الآن، وقال أيضاً وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ – ولم يقل فليُجلَدوا كجزاء لهم وإنما قال فَاجْلِدُوهُمْ ۩ لأنه يُخاطِب الأمة أيضاً – ثَمَانِينَ جَلْدَةً ۩ فضلاً عن أنه قال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ۩، ومَن المُخاطَب؟ الأمة، وهذه هى روعة القرآن الكريم، لأن هذا مُؤذِن بأن هذه الحقوق هى حقوق الجماعة، والجماعة تتولى إقامتها، فلا شفاعة ولا عفو ولا مُصالَحة، فلا مجال للعب لأن هذا حق للجماعة كلها من عند آخرها.
قد يقول لي أحدكم: وماذا عن الحرابة إذن؟ في الحرابة الله لم يقل هذه الصيغة، ولكنه قال إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، أي أنه لم يقل افعلوا، فلماذا إذن؟
لأن هذه أعظم الحدود وأبشع الجرائم، فهذه الحرابة انتهكت كل الحدود، فهؤلاء المُحارِبون وقطاع الطرق يقتلون ويزنون ويأخذون المال ويسرقون، وبالتالي كل الجرائم داخلة ومشمولة في جريمة الحرابة، وليس هذا فحسب بل أن هؤلاء المُحارِبون قد يتحوَّلون إلى قوة بغي وخروج مُسلَّح يُخِل بالأمن العام ويُهدِّد السُلطة الشرعية، وقد نجحوا أحياناً في التاريخ في هذا وهم مُرشَّحون أن ينجحوا في كل فترة في قتل بعض خلفاء المسلمين وبعض وزراء المسلمين مثلما فعل الحشاشون، وهذه هى روعة القرآن التي ينبغي أن ننظر إليها، فعلاً هذا الكتاب من عند الله الكتاب، لأن هذا شيئ عجيب، فالله يقول هذا هو جزاؤهم المُقرَّر، ولأنه الحدود كما تعلمون – علمني الله وإياكم مما يعلم ولا نعلم – موكولة إلى الإمام، فالذي يُقيم الحدود هو الإمام – رأس الأمة ورأس النظام السياسي – أو مَن يُنيبه الإمام وليس أنا أو أنت على أن هذه الحقوق من حقوق الجماعة، ولكن هؤلاء البغاء المُحاِبون قد ينجحون في قتل رأس الأمة، فقد يقتلون الخليفة – وهذا حصل – وقد يقتلون الإمام أو يقتلون وزيراً أو إلى ما ذلك وبالتالي تُصبِح الأمة بلا رأس، فهنا الأمة مندوبة أن تقتلهم وأن تُقاتِلهم حتى بغير إمام، لأنهم انحازوا صفاً بحياله في طرف، والأمة كلها بأسرها في طرفٍ آخر، فجاءت الصيغة مُشدَّدة وقال الله إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، فسواء كان الإمام موجوداً أو غير موجود يجب أن يُقاتَل هؤلاء دون أن تقول لي هذا افتئات على السُلطة، فلو وُجِدَ الإمام ينبغي أن نكون من ورائه وأن نُقاتِل معه، لكن لو لم يُكن موجوداً وقُتِلَ ينبغي أن نُقاتِل نحن هؤلاء لكي نُعيد عمود الأمن إلى الأمة، وهذا شيئ غريب، هذا استثناء غريب جداً جداً!
نعود إلى الموضوع مرة أُخرى لأننا لم نفهم الأروع في هذه المسألة حتى الآن،فلماذا هذه الحقوق والحدود تُعتبَر حقوقاً للجماعة كلها بخلاف القتل والقصاص الذي يُعتبَر حقاً للفرد؟!
مُعظم حوادث القتل الفردية – وليس الحرابة الآن – إنما تقع لأسباب مخصوصة،مثل وقوع خلاف بين شخص وبين شخص آخر فيتأدى به الحمق والإجرام إلى قتله، وإذا قتله استراح، فهذا يُؤخَذ منه الحق – كما قلنا – أو يُعفى عنه لأنه لا يُهدِّد المُجتمَع، هذا القاتل قتل هذا لغرض أو لمصلحة أو لأن بينه وبين الطرف الآخر مشاكل مثل صراعات المافيا لكنه لا يُهدِّدك أنت ولا يُهدِّدني أنا، فليس لدينا أي مُشكِلة معه، وهذا بخلاف السارق وبخلاف الذي بيطعن في أعراض الناس وبخلاف الزاني – لص الأعراض – طبعاً والعياذ بالله، فهؤلاء أنا أسميهم ذئاب أو لصوص الأعراض، وهؤلاء من حيث الأصلُ لا يعنيه أنه سرق مالك أو مالي وإنما يعنينه أن يسرق مالاً، أي أنه يُريد أي مال، وكذلك لا يعنيه أن يفحش بهذه أو هذه وإنما يعنيه فقط أن يُمارِس سوءته الخُلقية بأي طريقة مع كل مَن اشتهى والعياذ بالله، لأنه لص وذئب، هذا مثل الذئب الذي لا يُفرِّق بين غنمة وغنمة، فكلهم من الغنم وانتهى الأمر ومن ثم يبعج هذه ويضرب هذه.
فهذه هى الحدود إذن، لذلك كانت حقاً للجماعة كلها، وتصوروا لو أن الإسلام العظيم وهو يُقيم – كما قلنا – خُطة العدل بحسب هذه الحدود المرعية المُشدَّد في أمرها أنه قال تبقى كلها – أي الزنا والسرقة والقذف والحرابة التي تخص المُجتمَع كله، لأن مَن يُحارِبون الأمة والمُجتمَع من هؤلاء المُحارِبين يُخِّلون وفقاً للغة العصرية بالأمن العام – حقوقاً فردية، ما الذي كان سيحدث؟
لو الإسلام فعل كذا لكانت هذه مُصيبة، فهل تعرفون لماذا؟ لأن الحقوق الفردية لا تُقام إلا إذا طالب بها الضحية أو المجني عليه، فلابد أن يذهب هو بنفسه لكي يُطالِب بها، ولذلك نحن نُرجِّح مع الإمام مالك والشافعي أن حد القذف هو من الحقوق الفردية، نعم فيه حق الجماعة لكن يغلب فيه الحق الفردي، فهل تعرفون لماذا؟ لأن حق القذف يُمكِن أن تتنازل فيه وأن تقول لقد سامحت وينتهي كل شيئ، إذن هذا ليس حقاً للجماعة مثل القصاص، فحق القذف لا يُقام إلا إذا رُفِعَت دعوى من صاحب الأمر أو من الشخص المعني المقذوف في عرضه، لذلك الأرجح هو مذهب المالكية والشافعية، وهو أن حد القذف من حقوق الأفراد وليس من حقوق الجماعة، فيماعدا ذلك تكون هذه الحقوق والحدود هى حقوق للجماعة، فالواحد منهم – مثلاً – يعنيه أن يسرق، وأنا وضحت هذا لأنني استعجلت وقلت الذي يقذف، فيغلب هنا أن يكون هذا حق للفرد على مذهب فقط مَن ذكرت، لكن الآخرون قالوا يغلب فيه حق الجماعة، وعلى كل حال المسألة فيها قولان, لكن لو الله جعلها حقوقاً للأفراد ماذا سوف يحصل؟!
أول شيئ لابد أن ننتبه إليه هو أن الشخص المجني عليه قد يكون ضعيفاً ومسكيناً وليس ذا حيثية، في حين أن الشخص الجاني قد يكون قوياً في الدولة أو في المُجتمَع أو في الطائفة أو في العشيرة أو في القبيلة، وقد يكون قوياً بحزبه أو بجماعته أو بالمافيا الخاصة به، وبالتالي هنا سوف يستكين المجني عليه المسكين ويقول “لماذا أُدخِل نفسي في مُشكِلة معه؟ إذا رفعت دعوى عليه سوف يُنهي حياتي ويُصفي جسدي”، لكن هنا يستطيع أي أحد أن يرفع الدعوى إذا لم تبلغ الحاكم، وهذا يُمسى بالحق العام، فأي شخص يستطيع أن يُطالِب بهذا الحق، فإذا سرق فلان بيت فلان سوف يذهب هذا السارق في ستين داهية، والآن لن تُقبَل لا شفاعة ولا وساطة ولا عفو، وإذا ثبتت السرقة بالبينة أو بالإقرار سوف تُقطَع يده لأن هذا حق الجماعة.
قد يستطيع أيضاً الجاني لو كان هذا يُعتبَر حقاً للفرد أن يُساوِم المجني عليه، فيأتي إلى الضحية ويُساوِمه ويقول له “سوف أُعطيك كذا كذا كذا” بالترغيب وبالترهيب أيضاً، وبالتالي من المُمكِن أن يُسكِتَه، وهنا يبقى حبله مُرسَلاً على غاربه فيُهدِّد الآخرين كما يشاء.
فكما قلنا هناك حقوق ليس فيها أي وجه فردي لأنه يهمه أن يسرق فقط ويهمه أن يزني فقط وإلى آخره، ولذلك هذه حقوق الجماعة وهذه خُطة الإسلام، ومن هنا هذه الحدود هى بمثابة صمام أمان وضمان عدالة – كما قلنا – لأنها تسري على ابن الرئيس وعلى ابن أمير المُؤمِنين وعلى أفقر وأصغر وأحقر رجل في الدولة، ولا يُمكِن لأحد أن يشفع فيها أو يتدخل، وهذا هو العدل، قال الله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 15/3/2013
أضف تعليق