أعتقد أن قليلين الذين استبقوا بقيةً من الطفولة، وهذا يُعادِل بقيةً من العبقرية، يُعادِل بقيةً من الدهشة، من الفضول، من السئالية، فضلاً عن أنه يُعادِل بقيةً من البراءة والطيبة وسلامة القلب، وبقيةً من الفرح، انظر إلى الطفل، الطفل هو الكائن الأكثر فرحاً بالعالم، ما لم يتدخل على خط فرحته الكبار التاعسون، لأنهم تعساء، ولا يستطيعون إدارة هذه الفرحة، التي لا منطق لها إلا الاندكاك والاندماج في هذا العالم.
الأطفال هذا شأنهم، راقب الطفل الصغير، يُمكِن للطفل أن يُواصِل اللعب واللهو والفرح والانجذال والانجذاب والجذل بهذا العالم ساعات طويلة، دون ملل، الطفل الذي يتضاحك ويضحك في اليوم أكثر من ثلاثمائة مرة كائن سعيد، كائن فرح، لأن كل ما في هذا العالم يُمكِن أن يلفت وأن يُدهِش وأن يستثير وبالتالي يستجيب للفضول في الإنسان، لعبقرية السئالية، وأيضاً للذة الاكتشاف، اكتشاف كل ما هو طازج وجديد وغير معروف، هذا هو الطفل على كل حال.
إذا وجدتم عبقرياً أو سمعتم عن عبقري فاعلموا إنكم إنما تقعون على رجل أو امرأة نجح في أن يستبقي الطفل أو بعض الطفل في داخله، هذا هو فقط! العباقرة أطفال، كبروا وظلوا أطفالاً، لم يفقدوا هذه المزايا والأفضليات، هذه أفضليات ومزايا إيجابية، الطفولة، الدهشة، السئالية، الفضول، حس الاستكشاف، الفرح، الجذل، والسعادة بالعالم وفي العالم.
ولذلك انتبهوا، الطفل الذي لم يدخل كُليةً ولا مدرسةً ولم يقرأ كتاباً في الفلسفة والعلوم واللاهوت يرى أشياء الكبار الكبار لا يرونها، باستثناء العباقرة طبعاً، لأنهم أطفال أيضاً، لكن طفولتهم صُقِلت بمناهج مُعيَّنة، صُقِلت فقط، باستثناء هؤلاء الكبار العباقرة الأطفال يرون ما لا نراه، ما نعجز تماماً عن رؤيته، ما نفشل في رؤيته!
الشاعر الإنجليزي العظيم ويليام ووردزوورث William Wordsworth في إحدى قصائدة تحدَّث عن الرؤية النفّاذة أو اللمّاعة للطفل، رؤية الأطفال التي تتسم بكونها لمّاعة أو نفّاذة، تنفذ إلى ماذا؟ يلتمع فيها ماذا؟ تنفذ – أي هذه الرؤية الطفولية المُشرِقة اللمّاعة المُتألِّقة – إلى رؤية الروعة في العشب، أي الــ Splendour in the Grass، الروعة في الأعشاب! في الأعشاب الصغيرة التي تدوسها أقدام الكبار دون أن نلتفت إليها، والمجد في الوردة، أي الــ Glory in the flower كما يقول، هذه الرؤية لا يُمكِن استردادها أبداً، يقول هذا ويتحسَّر!
الذين نجحوا فينا أن يستبقوا شيئاً من الطفولة يبصمون بالعشرة وبالعشرين على كلام الشاعر الإنجليزي الكبير، بالعشرة وبالعشرين! أي كبير عبقري فينا أو شاعر أو فيلسوف أو مُتأمِّل حاذق يقول نعم، إن أتحسَّر على شيئ أتحسَّر على طفولتي التي لم تُسعِفها البلاغة، للأسف المُعجَمية والبلاغة تخذل الأطفال، الطفل ليس عنده تلك القدرة البيانية، ولا تلك الحصيلة المُعجَمية، لكي يستخدمها ويُعبِّر عن بعض ما يشعر فيه، إزاء القمر حين يراه مُكتمِلاً – أي الطفل -، إزاء شقحة البطيخ حين يراها مرمية على الطاولة أو على الأرض، إزاء وردة يراها لأول مرة ويشم عبيرها وعبقها، إزاء النهر الجاري أو البحر الهدّار الأمواج، يراه لأول مرة، أو بحر الرمال في الصحراء، أو… أو… أو… إلى ما لا يتناهى من هذه الآيات الربانية في الكون، في الآفاق العُلوية والسُفلية.
كل هذا بالنسبة للطفل يُشكِّل مصدراً للشعور، للإلهام، للاندهاش، للامتلاء، للانجذاب، تخذله بلاغته أن يُعبِّر عن بعضه المسكين، ولذلك ويليام ووردزوورث William Wordsworth يقول هذه الرؤية المُشرِقة للطفولة التي ترى الروعة في الأعشاب والمجد في الأوراد لا يُمكِن – يقول – للأسف استردادها أبداً، ذهبت مع الطفولة، فيا حسرةً على طفولتنا!
أضف تعليق