إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۩ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۩ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
حين كنا صغاراً كنا إذا سمعنا حكاية أصحاب الكهف أو تُليت آيات سورتها الجليلة على مسامعنا أو شيئٌ منها استُفِّزَ خيالنا واستُثيِرَ بأمثال هاته الافتراضات أو التساؤلات: كيف كان حال هؤلاء الفتية بعد أن بُعِثوا من مرقدهم ومن نومتهم التي استطالت وامتدت أزيد من ثلاثمائة سنة؟ كيف كان حالهم وموقفهم وقد رأوا أن الناس الذين كانوا يعرفونهم لم يعودوا موجودين لقد ذهبوا ولم يعودوا؟ المدن تغيرت والقُرى فنيت وبادت ونشأت قُرىً جديدة والعملة النقدية المعدنية تبدَّلت فكيف تعاملوا مع الناس؟ ربما الأزياء أيضاً اختلفت وتباينت وأخذت تلاوين جديدة، لكن ما لم نكن نطرحه على أنفسنا أو لا يستفز ويستثير خيالنا – وعذرنا أننا كنا صغاراً – هو كيف كان سيكون موقفهم إزاء المفهومات الجديدة والمُؤسَّسات الاجتماعية الجديدة والمُصطلَحات الجديدة واللغة الفكرية الجديدة التي يرطنها الناس؟ هذا لم يكن يستثير خيالنا، كنا صغاراً لا نفهم هذه الأشياء، فقط ندور مع الأشياء الحسية الصلبة الخشنة كالمدن والقرى والملابس والأشخاص أو الشخوص، فهذه بادت وذهبت مع الريح ولن تعود، أما الأفكار والمفاهيم والأطر المعرفية والثقافية وهى الأكثر تأثيراً والأشد والأبلغ خطورة فهذه طبعاً لا تُدغدِّغ خيال طفل ولا يُمكِن أن تخطر على بال طفل، لأن الطفل يعتقد أو هكذا يظن أن العالم ثابت تقريباً، باستثناء الأشياء الحسية كما قلنا، فالعالم الثقافي والعالم الفكري والعالم الروحي ثابت لا يتغير، فكيف تتغير العادات؟ كيف تتغير التقاليد؟ كيف تتغير منظومة القيم وسلم القيم؟ هذا لا يتغير، ولكن هكذا يظن الطفل وليس المُثقَّف وليس الناضج وليس الكبير وليس المُتعلِّم.
في عملٍ له نشره سنة ألف وسبعمائة وثلاث وسبعين ميلادياً ذكر فيلسوف التاريخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي Arnold Toynbee أن البشرية مرت بمراحل ثلاث متوالية، في المرحلة الأولى وهى التي يُطلق عليها مرحلة ما قبل التاريخ يُظَن أن تطور الأفكار والمُخترَعات العلمية كان بطيئاً جداً، ولكن بالإزاء كان تطور وسائل الاتصال – المُواصَلات بشكل عمومي وبشكل عام سواء الحسية أو المُواصَلات الفكرية والثقافية فكلها وسائل مُواصَلات – أيضاً كانت بطيئة جداً ولذلك كان عالم ما قبل التاريخ عالماً مُتجانِساً، فمن الناحية العلمية والفكرية والثقافية كان عالماً مُتجانِساً، الأفكار والعلوم تتطور ببطء، وسائل الاتصال تتطور ببطء، فإذن هناك فرصة أن يتجانس العالم، أما مرحلة التاريخ – ما يُعرَف بمرحلة التاريخ – فهى التي أُرِّخَ لها والتي تركت من ورائها ما يُعَد وثائق بحسب مُصطلَح علم التاريخ، لأن التاريخ العنصر الأساسي فيه هو الوثيقة، إذا لم يكن هناك وثائق لا يُوجَد تاريخ، فلابد من الوثيقة، هذا جعل حضور التاريخ مُتسنياً نوعاً ما، فحضور التاريخ وخضوعه للدرس الإنساني مربوط بوجود الوثائق، في مرحلة التاريخ حدث تغيرٌ ما، كيف؟ الأفكار والثقافات والعلوم صار تطورها أسرع من تطور وسائل المُواصَلات، لكن وسائل المُواصَلات لا تزال أبطأ من تطور الفكر والعلم والاختراع، فاختل التجانس، رأينا بلاداً مُتقدِّمة وبلاداً مُتحضِّرة تُنتِج علوماً وفلسفاتٍ وإلى آخره، ورأينا بلاداً بالغة التأخر والدونية في هذا المضمار، ومن هنا يقول المُؤرِّخ الكبير وفيلسوف التاريخ ولكن في العصر الحديث عُدنا مرةً أخرى إلى منطق التجانس، فالعلوم والأفكار والفلسفات أصبحت وتيرة إنتاجها سريعة جداً، وطبعاً هو تُوفِى في مُنتصَف الثمانينات – لأن بعد السبعين هذا عقد ثمانيني – وذلك في سنة ألف وتسعمائة وخمس وسبعين، بعد أن نشر هذا الكتاب بسنتين، فكيف لو عاش توينبي Toynbee إلى زماننا هذا ورأى التطور المُخيف المهول في إنتاج المعرفة بفضل الحاسوب؟ فهذا طبعاً بفضل الحاسوب بدرجة أولى وبفضل مزيد من التخصُّص في إنتاج العلم، لكن ما لا يعرفه ربما العامة أن هناك مُخترَعاً من أعجب المُخترَعات ومن أكثر المُخترَعات فضلاً على الإنسانية وعلى البشرية وهو ما يُعرَف بالجامعة، أي الجامعة التي فيها الكليات العلمية، فهذا مُخترَع أو اختراع، الجامعة لم تكن موجودة دائماً عبر التاريخ البشري، وهى اختراع عظيم جداً، لماذا؟ لأنه جعل أيضاً بالإمكان أو بالمُكنة لمَن يُريد أن يُنتِج العلم والفكر أن يتفرَّغ لهذا المُهِم العظيم الكريم، فهو مُتفرِّغ ويأكل ويشرب من هذا، لكن في القرون الوسطى فضلاً عن العصور القديمة لا تجد فيلسوفاً أو مُفكِّراً أو عالماً مُتفرِّغاً، هو مُضطرٌّ أن يعمل بيديه وأن يكسب قوته وعيشه وفي نفس الوقت في فضلة الأوقات أن يُمارِس هوايته المُفضَلة مثل الفكر وإنتاج الفكر، ولذلك كان التطور ليس سريعاً جداً، وهذا عامل آخر غير عامل الحاسوب، في هذا العصر هناك الجامعات، وهذه تأخذ جزءاً من الناس وقطاعاً من الناس وتحصرهم فقط في مُهِمة واحدة هى إنتاج الفكر، فيشتغل الواحد منهم على مدى الأربع والعشرين ساعة فقط في هذا الشيئ، ولذلك يرى بعضهم أن اختراع الجامعة هو من أعظم المُخترَعات الإنسانية على الإطلاق، وعلى كل حال يقول في هذا العصر الحديث أو الحقبة الحديثة عاد التجانس إلى المُجتمَعات البشرية، لماذا؟ وتيرة إنتاج المعرفة والعلوم والاختراعات تسارعت جداً، ولكن وتيرة المُواصَلات تسارعت جداً أيضاً، لذلك اليوم – مثلاً – عالم في الولايات المتحدة الأمريكية وما وراء البحار والمُحيطات يُفرِّغ العالم نفسه عشر سنين أو عشرين سنة ليشتغل على نظرية مُعيَّنة، ثم يُحالِفه الحظ – كما يُقال – ويُسعِده القدر وينتهي إلى هذه النظرية، ينتهي إلى صياغة دقيقة وينشرها في مجلة علمية مُحكَّمة، ونقرأها في نفس اليوم، المُشترِك في هذه المجلة يعلم هذا، وهذه المجلة قد تكون أون لاين Online، فأكثرها الآن أون لاين Online وهناك مجلات بالاشتراك، فتقرأها في نفس اليوم، تُقرأ في أمريكا وتُقرأ هنا وفي أي مكان، فأنت الآن عارف بهذه النظرية لأنك وقفت عليها، والآن هناك مُؤتمَرات علمية يُشارِك فيها العلماء من جميع أنحاء العالم في وقتٍ واحد وهم في بلدانهم لا يزالون، وأنتم تعرفون هذا، وهذا الشيئ أصبح سهلاً ونحن نقوم به، فنحن نقوم ولكن ليس في مُؤتمَرات علمية وإنما في أشياء أخرى، فهذا موجود إذن، ومن ثم عاد التجانس مرةً أخرى، ولكن انتبهوا إلى هذا السؤال: هل فعلاً في الواقع نرى أن الأوطان والشعوب والدول مُتجانِسة؟ هى غير مُتجانِسة، هناك بلاد في قمة القمة – في ذروة القمة – وهناك بلاد أقرب إلى القاع، لماذا؟ هذه عبرة أصحاب الكهف، لأنهم شعوبٌ وأوطان وأناس آثروا أن يناموا نومة أصحاب الكهف، آثروا أن يُغمِضوا أعينهم وآثروا أن يسدوا أبوابهم ونوافذهم وأن يسدوا أعينهم وآذانهم أيضاً وعقولهم وأن يُقفِلوا على عقولهم، ولذلك لا يتحقَّق التجانس لأنهم لا يزالون مُتأخِّرين جداً، ليس فقط في العلوم البحتة والعلوم الطبيعية بل حتى في العلوم الإنسانية أيضاً هم مُتأخِّرون جداً، طريقة تفكيره مُتأخِّرة جداً.
بالأمس استمع إلى عالم جليل وهو للأسف عالم طبعاً إسلامي أو مسلم وفقيه ورئيس قسم في جامعة عريقة جداً ظلت تُنتِج الفكر والعلم والحضارة لقرون وكانت سُرة العالم وهى جامعة بغداد، يُستضَاف في مصر ويتحدَّث عن شيئ غريب، وهو يظهر أنه في العقد الثامن من عمره، أي جاوز السبعين بالحري، لكن الرجل يتحدَّث حديثاً مُجافياً للديمقراطية، فهو يقول الديمقراطية ليست جيدة ومن ثم لا نُريدها، لماذا؟ لأن الديمقراطية تحتكم إلى رأي الأغلبية ولأن – هذا المثال المُؤذي والمُفرِط الاختزالية والسذاجة أيضاً الذي يُردِّده كثير من المُتدينين من الإسلاميين – الديمقراطية في الغرب – في الغرب الأوروبي أو الأمريكي – في بعض البلاد بفارق كذا وكذا صوات جوَّزت الجنسية المثلية، أي زواج الرجل وسحاقية النساء، فهذه هى الديمقراطية، هل نقبل هذا؟ وطبعاً المُذيع الذي يُقابِله يقول بالطبع مولانا هذا لا نقبله، فقال هذه هى الديمقراطية، وهذا غير صحيح، هذا خلطٌ معيب، أنت رجل في الثمانين – في العقد الثامن من عمرك – ولا تفهم بديهيات هذه الأشياء ولا تمتلك آليات التحاليل المفهومية البسيطة التي يتوفَّر عليها ابن جامعة في الحادي والعشرين من عمره، فما الذي يحصل؟ هناك فرق يا إخواني، وأنا سأُبسِّط لكم لأنكم قد تقولون لماذا؟ هل أنت يا عدنان ضد هذا الشيئ؟ طبعاً ضد هذا التفكير وضد هذه الطريقة في التفكير بالمرة، فهذه طريقة في التفكير كارثية، والرجل رئيس قسم الفقه المُقارَن وعلَّامة وعنده كتب، فهو أستاذ وعلَّامة كبير وقد أشرف على خمسة آلاف رسالة ماجستير وكتوراة لكنه قال هكذا، وهذا شيئ عجيب جداً، لكن أنا سأقول لكم بكل بساطة ألم يُعط القرآن الكريم الناس – كل الناس – الحق في أن يُؤمِنوا أو أن يكفروا؟ قال الله فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۩، حتى في الكفر وليس في الجنسية المثلية الإنسان حر، فإذن لابد من أولوية الحرية، لكن انتبهوا إلى الشيئ الحسَّاس والخطير التالي، إذا كان القرآن العظيم أعطى الناس حرية أن يكفروا فهل معنى هذا أنه صادق على كفرهم وصادق على اختيارهم هذا وقال هذا صحيح وأنكم إذا كفرت فإن هذا اختيارٌ سليم؟ لم يفعل هذا أبداَ، فالكفر باطل، والقرآن جاء لكي يُكامِع ويُنازِل ويُناضِل كل أشكال الكفر والإلحاد، فهو كتاب التوحيد الأول الآن في العالم – كتاب التوحيد رقم واحد القرآن الكريم – لأن لا تُوجَد صيغة توحيدية حقيقية مُنزَّهة صافية – Reine أو Pure – لله عز وجل كالقرآن العظيم، لا تقل لي غير ذلك لأن كل الصيغ الأخرى شُوهِّت وانتُهِكَت، وبقيَ هذا القرآن الكريم، ولكن ما معنى هذا؟ لو سألت أي إنسان بسيط دارس للقانون سوف يقول لك هذه مسألة محلولة، هذه مسألة ساذجة تافهة بحد ذاتها، فهى سهلة جداً جداً جداً، فرقٌ بين الحق بالمعنى القانوني والحق بالمعنى المعياري الأخلاقي فضلاً عن المعنى الديني، الحق الذي يقف إزاء الباطل – هذا حق وهذا باطل أو هذا صواب وهذا خطأ – هو حق معياري Normative، والحق بالمعنى المعياري قضية أخرى، لذلك أنا سأُعطي ما أعطى الله وسأُعطي الناس حرياتهم في أن يختاروا دينهم وعقيدتهم وليس أن يختاروا نمط حياتهم فقط وكيف يسلكون بل أن الحق في اختيار دينهم، فالواحد منهم يُؤمِن بالله أو يكفر بالله – والعياذ بالله – لأنه حر في هذا، والقرآن يقول هو حر ولكن هناك حساب وهناك كذا وكذا، وهذا لا يعني أنني أُصادِق على اختياره وأقول له أحسنت – Well-done – لقد عملتها بشكل مُمتاز واخترت الكفر، بالعكس أنا سأُشفِق عليه وسأرثي لحاله وسأنخرط معه في مُحاوَلات حججية جدالية لكي أُثنيه عن طريقه هذا، وأقول له هذا غلط، هذا اختيار خاطيء ومن ثم أنت تُدمِّر نفسك، يا رجل المسألة ليست عناداً بالمسلمين والمسيحين والنصارى أو الإسلاميين أو غيرهم، فالمسألة مسألة مصير، هكذا سأتكلم معه، فهل هناك أسوأ من أن تكتشف أنك عشت الحياة الخطأ؟ هذا هو السوء في نظري وربما في الأمد الأقصى وفي حده الأقصى أن يكتشف الإنسان أنه عاش بطريقة خاطئة، وطبعاً مثل هذا الاكتشاف بطبيعته لا يكون إلا في آخر الحياة، أي في آخر أيامك وربما في آخر ساعاتك، فتكتشف في آخر أيامك أو آخر ساعاتك أنك عشت الحياة الخطأ، فتساءلوا هذا السؤال دائماً، لأن من المُمكِن أن تكتشف أنك عشت الحياة الخطأ وحييت الحياة الغلط، كيف هذا؟ على المُستوى العقدي قد تكتشف أنك آمنت بما كان ينبغي أن تكفر به وأنك كفرت بما كان ينبغي عليك أن تُؤمِن به، وهذه كارثة وخاصة أنه في آخر عمرك، فقد أكون في السبعين أو الثمانين لكنني عشت على المُستوى الأيدولوجي العقدي الإيماني بشكل خطأً، عشت الحياة وعشت الخيار الخطأ، أي اخترت الخيار الخطأ، وفي ميدان علاقاتي الشخصية أحببت مَن كان ينبغي ألا أحبهم وجفوت مَن كان ينبغي أن أُدينهم وأن أُحِبهم، فاختياراتي حتى في علاقاتي كانت خاطئة، أي أنك قد تكتشف هذا مُتأخِّراً، وقد أكتشف أنني تزوجت بمَن ينبغي ألا أتزوَّج بها، فحتى اختياري لزوجتي كان اختياراً خاطئاً، وهكذا في المسلكيات أو السلوكات، بمعنى أنني سلكت في حياتي على غير ما ينبغي أن أسلك واكتشفت أنني عشت الحياة الخطأ، وطبعاً هذا يُكلِّف كثيراً، فهذه أعظم كلفة، ولكن تبقى هذه الكلفة هى حياة فرد واحد، فكيف لو أن شعباً أو أمةً اكتشفت بعد عشرين أو ثلاثين سنة أو بعد خمس سنوات أنها عاشت الخيار الخطأ واختارت الطريق الخطأ؟ هذا يُكلِّف حياة شعب كامل وإنجاز شعب كامل، ومن هنا الحاجة إلى الفكر العميق وإلى طرح الأسئلة وإلى المُواجَهة المُرة وإلى الشفافية وإلى العمق أيضاً بعيداً عن الاختزالية والسذاجة والتعميمية والإطلاقية التي لا يعرفها مُفكِّر صارم جاد.
نعود إلى موضوعتنا، وهذه الموضوعة فقط جاءت هكذا عرضاً، ففرقٌ بين الحق بالمعنى القانوني والحق بالمعنى المعياري، مع أنه طبعاً هناك علاقة جدلية بين هذا وهذا ولكننا نقول هكذا لضرورة التصنيف فقط حتى نفهم، بمعنى أننا نستطيع أن نقول قانونياً – أي بالقانون، القانون الوضعي والقانون الشرعي – أن كل إنسان – كما قلت لكم – هو حرٌ في أن يختار حياته، وأعظم ما في الحياة العقيدة والإيمان، أي أن يُؤمِن وأن يكفر، فهو حر في هذا، ولكن بالمعنى المعياري ليس كل خيار هو صحيح، ولكن ما علاقتي أنا بهذا؟ أنا فقط أنصح وأدعو وآمر وأنهى، ولا أستطيع أن أُلغي حريتك، فلابد من أولوية الحرية، لأن في الطرح الإسلامي الحرية لها أولوية، أولوية على الأيدولوجية وعلى العقيدة طبعاً، لأن ما معنى الأيدولوجية وما معنى العقيد وما معنى الإيمان وضد الإيمان إذا لم يكن عن حرية وعن اختيار واعٍ وعن اختيار مُدرِك؟ هذه أولوية الحرية التي لا يفهمها أكثر المُتعصِّبين دينياً وأكثر الأصوليين، وسأُوضِّح لكم الآن ببساطة ما معنى الأصولية أيضاً، فهى موضوع خُطبة اليوم.
نعود إذن يا إخواني وأخواتي إلى ما كنا فيه، فالطفل فقط يظن أن العالم ثابت – العالم المفهومي الثقافي الفكري الروحي ثابت – لكن الناضج المُثقَّف الفاهم الدارس الواقعي الذي يعيش العالم يعلم أن العالم مُتغيِّر وسيَّال إلى حد بعيد جداً، ومن هنا تقول الآية الكريمة وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ ۩، فنص الآية يتحدَّث عن اللسان، واللسان هنا بمعنى اللغة، كأن يتحدَّث الآرامية أو يتحدَّث العبرية أو يتحدَّث العربية أو يتحدَّث السريانية وإلى آخره، ولكن أيضاً بطريق الإشارة لسان القوم هو اللسان المعرفي واللسان الثقافي، ولا يُمكِن لنبي أن يستطيع أن يتجاوز البُنى الاجتماعية والسياسية الحاكمة في عصره بالكامل، وحتى محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – لم يتجاوز هذا، يُمكِن أن يُساهِم بتعديل وبإضفاء طابع جديد من الرحمة والإنسانية والعدالة والإنصاف والقيم الكلية والأخلاق الكلية، لكنه لا يستطيع أن يتجاوزها وهذا ليس في إمكانه أصلاً كبشر، ومن هنا السؤال العبيط – سموه هكذا السؤال العبيط أو السؤال الأهبل – الذي يقول لماذا لم يُحرِّم الإسلام الرقيق؟ وهل هو كان يستطيع؟ الإسلام لا يستطيع أن يقول انتهينا من مُؤسَّسة الرق وأنها أُلغيَت، فهذه مُؤسَّسة اجتماعية تاريخية، وطبعاً عبرت أزماناً وحقباً تاريخية مُمتَّدة وفي مُعظم الحضارات والثقافات، ولكن الإسلام كان له خُطة حكيمة جداً وهى أن يُجفِّف منابع هذه المُؤسَّسة شيئاً فشيئاً، فهو – كما نقول دائماً – ضيَّق المُدخَل ووسَّع المخارج، ولو سرنا على الخُطة القرآنية سننتهي تلقائياً بعد مائة سنة أو مائتين سنة من الرق ونحوذ شرف إنهائه، ولكن بنو أمية وبالذات بني العباس أعادوها جذعة، وأتوا بالحريم وآلاف النساء والعبيد والأولاد ومما ملكت أيمانكم وقصة طويلة، فعكسوا مشوار القرآن الكريم وعكسوا توجهه وناكدوه – ناكدوا التوجه القرآني – وقلبوه رأساً على عقب، فهذا هو إذن، أما أن يأتي الإسلام ويقول انتهى الرق أو سأُنهيه بضربة واحدة فهذا لا يُمكِن لأنه لا يستطيع، هذه مُؤسَّسة عميقة عبر التاريخ، وكانت عابرة للثقافات والحضارات، فكل الثقافات والحضارات عرفتها تقريباً وبرَّرتها، لكن بالعكس الإسلام هذَّبها كثيراً وعاداها بأكثر من وجه وأحب أن يُنهيها بطريقة خاصة، فهذا السؤال عبيط إذن، لا يُمكِن ادّعاء الإنسانية والرحمة بأثر رجعي، لا ينبغي أن تأتي الآن في القرن الحادي والعشرين وتتساءل بقيم القرن الحادي والعشرين وحقوق الإنسان وتقول لماذا الإنسان لم يعمل هذا؟ ليس هكذا الفكر وليس هكذا الفهم أبداً على كل حال، فهذا أيضاً لا يقوم به مُفكِّر جاد، وإلا كان فعلها المسيح من قبل، لكن لم يفعلها المسيح ولم يفعلها موسى، فلا المسيح ولا موسى ولا محمد يفعلونها بهذه الطريقة العبيطة وهذه الطريقة غير المُتقنَة فكرياً.
نفس الشيئ ينطبق على مُؤسَّسة الحرب، فالإسلام إسمه إسلام، وهذه نفس مادة السلام، فمادة إسلام هى مادة السلام، لأن الإسلام لا يتشوف لشيئ قدر تشوفه للسلام،ولكن هل كان يستطيع الإسلام أن يتجاوز مُؤسَّسة الحرب؟ الحرب مُؤسَّسة من أعظم وأشرس وأبشع المُؤسَّسات في التاريخ الإنساني، ولن نرتقي ونُصبِح بشراً حقيقيين إلا إذا جاء يوم وأنهينا فيه مُؤسَّسة الحرب، فطالما هذه المُؤسَّسة قائمة نحن لسنا بشراً كاملين بل نحن أقرب إلى المُفترِسات وإلى المُتوحِّشات لأنها مُؤسَّسة بشعة جداً جداً جداً، ولكن الرسول – عليه السلام – ابتُليَ بها، فهم يقولون لك عيسى نهى عن حمل السيف، عيسى أبى على بطرس – الحواري الأكبر – حين استل خنجره أو سيفه أن يُدافِع عنه قال له ألق سيفك، مَن سل السيف فبالسيف يكون موته، فعيسى فعل هذا إذن، لكن أيضاً هذا ليس بالفكر في شيئ، والراهبة والفيلسوفة والمُؤرِّخة الشهيرة كارن أرمسترونج Karen Armstrong تقول الفرق واضح جداً جداً جداً، فعيسى عاش فترة الباكس رومانا Pax Romana، أي السلام الروماني، فهناك إمبراطورية قوية تضع يدها على مقاليد الأمور وتُمسِك بأزمّتها وكانت تحفظ على الأقل السلام للرعايا وللناس، فهناك قانون ومحاكم وقضاء وسُلطة حقيقية وليس عالماً مُنفلِتاً أو عالماً مُتأبِّداً، ولذلك لم يكن عيسى مدعواً على الإطلاق أن يُفكِّر في إنشاء نظام سياسي أو دولة ولا أن يعمل ميليشيا فضلاً عن جيش يُحارِب به من أجل نشر أفكاره، فهذا كلام أرمسترونج Armstrong وهى راهبة مسيحية أمريكية لكنها تفهم هذا، فانظر إلى هذا التفكير، هى كانت راهبة وتركت كل شيئ، ثم قالت أما محمد فاضطُرَّ إلى ذلك، فهى تفهم هذا – هى مُتفهِّمة لمحمد عليه السلام – طبعاً، ومحمد العبقري – النبي العبقري – فعلاً مُضطَّر إلى ذلك، لماذا؟ عالم الجزير العربية عالم مُتنازَع عشائري قبلي، فالقوي يأكل الضعيف!
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا.
هكذا كان يحدث، ومحمد لو لم يفعلها لقُضِى عليه وعلى أتباعه من عند آخرهم، حتى بعد أن هاجر وترك لكم كل شيئ، فهو ترك لهم الديار وما فيها والأموال والمُمتلَكات ومع ذلك لاحقوه وأرادوا استئصال شأفته، ومن ثم كان مُضطَّراً إلى هذا، لم يكن هناك شيئٌ إسمه باكس أرابيكا Pax arabica أو باكس رومانا Pax Romana، ولا يُوجَد أي سلام هنا، فاضطُرَّ أن يفعل هذا، هل فهمتم؟ من هنا يقولون لك أن موقف الإسلام من مُؤسَّسة الحرب كان موقفاً اضطرارياً، فالإسلام ابتُلِىَ بالحرب كما ابتُلِىَ بالرق، لأن هذه المُؤسَّسات كانت موجودة والإسلام ابتُلِىَ بها، وكان ينبغي أن يتعاطى معها ولكنه شذَّبها وهذَّبها ورحمَّنها وهذا موضوع آخر، فالإسلام حرَّم الحرب الشاملة وشرَّع تشريعات في الحرب بعضها إلى اليوم لم تصل البشرية إلى مثلها، فأنا أقول لكم بعضها إلى اليوم لم تصل البشرية إلى مثله وأنا أعني ما اقول، ولكن أين هذا؟ فعل هذا في القرون الوسطى، وهذا شيئ غريب، في قرون كان التسامح فيها والرحمة من علامات الضعف والتخنث، فهل تفهمون هذا؟ اقرأوا التاريخ الأوروبي، إذا أعرب أي قائد سياسي أو عسكري عن قدرٍ ما من الرحمة ومن التساهل ومن المُهاوَدة فإنه يُعتبَر قائداً مُخنَّثاً ضعيفاً ويُبصَق عليه، لابد أن تُعرِب عن أبشع درجات الشراسة والعنف لكي تكون قائداً، فالتسامح الآن يتبجَّح به الناس هنا وهناك في الشرق والغرب ويتحدَّثون عن التسامح وموقف الإسلام من التسامح، لكن التسامح في أوروبا الوسيطة أو الوسطى كان يُعتبَر سبة وعاراً، فعيب أن تتسامح، ما معنى أن تتسامح؟ هل تتسامح في دينك وفي الحق؟ لا يُوجَد أي تسامح، لابد أن تمتشق الحسام وأن تكون مُستعِّداً جاهزاً لضرب الأعناق – أعناق كل الذين يُخالِفونك – أيضاً!
أحد الرهبان الأسبان كتب كتاباً – والآن الأوربيون هنا يستغربون ويقولون لك هذا أمر عجيب، لكن لا تستغربوا من هذا، في منطق عصره هذا غير مُستغرَب بالمرة، بل كان منطقاً عادياً – يسب فيه المسلمين في إسبانيا – في الأندلس – بشدة، لماذا؟ لأنهم مُتسامِحون، قال هم كفرة واجتث الله أعراقهم واجتثهم من جذورهم، لأنهم كفرة وملاحدة ويتسامحون مع أعدائهم في الدين فتباً لهم، لكن نحن لا نتسامح بل نذبح ونحرق ونُقيم محاكم التفتيش ولا نترك أحداً يُخالِف الصراط المُستقيم، لا مُنشَق ولا مُنحرِف ولا مُهرطِّق، فهذه عندهم درجات طبعاً – هذه كلها درجات في اللاهوت الغربي هنا – لأن عندهم ما يُعرَف بالانشقاق ويُسمى مَن يفعلها المُنشَق Dissidentوعندهم الهرطقة أو الزندقة وهى البدعة التي تبلغ حد الكفر والإلحاد ويُسمونها Heresy ويُسمى مَن يفعلها مُهرطِق Heretic وعندهم المُنحرِف Deviant، فهذه أنواع – Dissident, Deviant & Heretic – عندهم، ومن ثم يقولون لا نتسامح لا مع هذا ولا مع هذا ولا مع هذا لأننا أهل الحق، لكن الإسلام لم يكن كذلك، بالعكس هنا الإسلام كان عابراً لشروطه، فهو كان عابراً لشروطه الزمنية التي استطاع أن يتجاوزها، لكن كيف؟ لا أدري، أنا أقول لكم فقط لأنه إلهي المصدر، ومن هنا يكتب أحد المسيحيين الشوام اليوم وهو إدمون رباط – مُفكِّر عربي قانوني عظيم أصله من حلب ولكنه لبناني الجنسية وهو أستاذ قانوني كبير معروف في العالم العربي – قائلاً أنا لا تُعجِبني ولا تُغريني حتى كلمة تسامح، كلمة تسامح نتبجَّح بها لكن الوضع الذي كان في ظل الحكم الإسلامي شيئ أبعد وأعظم بكثير وأكرم من التسامح، إنه وضع يستند مُباشَرةً على أوامر الله ورسوله المُباشِرة، لم يكن تسامحاً يستند إلى المشاعر، أي من ناحية عاطفية أُحِب أن أتسامح معك، ولذلك التسامح هنا في الغرب كيف يُفسِّر؟ هم الآن لا يتعاطفون معه ويُريدون شيئاً فعلاً أكرم من التسامح، التسامح تحمل عندهم، أي أنني أتحملك، نعم لا أرضى بك ولا أُحِبك ولكنني أتحملك طالما أُريد، وطالما لا أُريد قد أنفجر، وهنا هشاشة التسامح الغربي ونُقطة الانهيار كما أُسميها، وعلى كل حال إدمون رباط المسيحي الشامي يقول في الإسلام لا يتعلَّق الأمر بمسألة شعورية بمعنى أننا نُريد أن نتحمَّلكم، بل هم مأمورون بهذا،مأمورون أن نترك الآخرين وما يدينون، ثم قال وشعارهم في هذا الآية المفتاحية – الآية الـ Key أو الـ Schlüssel – التي تقول لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، فممنوع أن يحدث هذا لأن لأن القرآن منعهم من هذا، الموضوع لا يخضع لهواك وليس كما تُريد ولا يُمكِن لك أن تقتل في الناس كما تُحِب، هذا ممنوع لأن الله قال لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، فنحن أُمِرنا أن نتركهم وما يدينون، وهذا هو الطرح الإسلامي، لكن للأسف اُخِذنا بعيداً عن موضوعنا الرئيس، فموضوعنا الرئيس شعوبٌ وأفراد آثروا أن يعيشوا بعيداً عن عصرهم، وقد ذكرت لكم مرة كلمة قالها أحد المُثقَّفين وهى أنه قال ماذا لو أن طبيباً – طبيب أو مُمارِس – سقط في غيبوبة – كومة Coma – لمدة عشر سنين ثم استيقظ؟ سيرى نفسه غريباً في العالم الجديد، سيرى آليات كثيرة عملية وعلمية نظرية في الطب لا يفهمها ولا يتعاطى معها، وسيرى أجهزة وتحاليل وأشياء ومُصطلَحات ونظريات وقصة كبيرة، لأنه طبيب سقط في غيبوبة لمدة عشر سنين ثم قام ومن ثم أصبح غريباً، فما وضعنا نحن وما بالنا نحن ونحن نعيش في هذا العالم جسدياً على الأقل – رغماً عنا نعيش جسدياً – ونعيش أيضاً كرونولوجياً – نحن الآن في ألفين وثلاثة عشر رغماً عنا – لكن فكرياً وثقافياً ومفهومياً لسنا فيه؟ هل نعيش في هذا العالم أم نعيش في عالم منسوخ – في عالم كان وفي عالم مضى ولن يعود – الآن؟ مُشكِلة كل الأصوليات تُوجَد هنا، وبعض الناس قد يقول أن هذه كلمة صُدِّعنا بها طبعاً لأننا نسمعها على مدى الأربع والعشرين ساعة، نحن يُقال لنا الأصوليات والأصوليون والأصول والفهم الأصولي، فما المقصود بالأصول؟ ليس المقصود بها أصول الفقه أو أصول الدين، ولكن يُقصَد بها باختصار أن كل الأصوليات – إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو هندوسية أو غير ذلك – في العالم يجمعها شيئٌ واحد وهو ضعف علاقاتها بالواقع، فهى لا تُحِب الواقع كثيراً، الأصوليات لا تُحِب الواقع ولا تتعاطف معه ولا تُريد أن تنخرط فيه بعمق، ومن هنا ضعف صلتها بالواقع ومن هنا ضعف فهمها للواقع وضعف مُسايرتها لروح الواقع بإزاء أو في المُقابِل تمسكها الشديد إلى حد الشغف – Passion – بالماضي، فالتمسك لديهم يكون تمسكاً مشغوفاً بالماضي الذي كان، والأصوليات كلها تشترك أيضاً في أن أحسن صورة للعالم هى الصورة التي كانت، ليست الكائنة وإنما التي كانت، ولذلك يُحبِون أن يستندوا على وإلى الماضي وأن يجتلبوا منه مفاهميم ومُصطلَحات ومُؤسَّسات ولكنها كلها أصبحت من الماضي، وأنا أقول لكم أن الأصولية الإسلامية تفعل هذا أحياناً بطريقة تبعث على القلق مُبالَغة – أي مُبالَغ فيها – بدليل وجود بعض الإشكاليات التي لدينا بسببها، وإلا لماذا أتكلَّم في هذا الموضوع؟ أتكلَّم فيه لأن الآن عندنا إشكالية – لن أقول حالة استعصاء أو حتى أزمة وإن كانت الأزمة كلمة كبيرة – في المُمارَسة السياسية وفي التنظير السياسي، فحتى في التنظير السياسي لدينا هذا، وهذه آلية مُخيفة، لكن بعض الناس لا يتفطَّن إلى أنها مُخيفة جداً، فنحن تكلَّمنا على الأقل في خطبتين عن التكفير السياسي ولكن هو يأخذ قناع التكفير الديني في حين أنه تكفير سياسي، بمعنى أنني أُريد أن أتخلَّص من المُعارِض السياسي ومن ثم أُكفِّره، فهل هذا تكفير ديني؟ هل هو فعلاً كفر هذا الرجل؟ لم يحدث هذا أبداً وإنما هذا تكفير سياسي يتوسَّل الدين ويتقنَّع بقناع الدين، ولكن المُخيف الذي لم يُنبِّه ولم ينتبِه إليه كثيرون هو لماذا هذا القفز بخُطوة واحدة إلى العنف الأقصى؟ فهذا – أي القتل – أقصى عنف، وهذا شيئ مُخيف ومُرعِب، فقبل أن أُفتي بالقتل – قتل المُعارِضين والخارجين على سُلطة الإمام، أي إمام الزمان أو خليفة المُؤمِنين – يُوجَد شيئ إسمه الاعتقال وإسمه التحقيق معهم وإسمه رميهم في السجون حتى وتعذيبهم يا سيدي مع أن هذا كله ظلم وهو ظلم فظيع، لكن هو لا يقنع لا بتعذيب ولا بسجن ولا بزنزانة ولا بنفي ولا بتغريم ولا بتحقيق ولا باعتقال ولا بتوقيف، يُريد القتل مرة واحدة، أليس هذا مُخيفاً؟ هذا مُخيف جداً، مثِّل نفسك في هذا السياق وفي هذه المُجتمَعات وأنت عندك أفكار تُعارِض بها سياسياً وأيدولوجياً وسوف تُواجَه مُباشَرةً بتُهمة يُستصَدر على إثرها وفي ريحها وفي ظلها فتوى بالقتل وبقطع الرأس أو بتفجير الرأس، وحدث ضرب في الرؤوس بسبب هذه الفتاوى، وهذا شيئ مُرعِب، هذا يُرعِبني أنا كمسلم، يُرعِبني على ديني بدرجة أولى وعلى أمتي بدرجة ثانية، هذا شيئ غريب، فلماذا القفز؟ لماذا قفز كل هذه الدرجات والتطيفات إلى العنف الأقصى بضربة واحدة؟ هنا يحدث شيئ مُخيف، وواضح طبعاً أن المسكوت عنه هو أننا لا نرى الآخرين كشركاء لنا، شركاء في الوطن، يا سيدي نحن شركاء مُختلِفون ومُتشاكِسون، لكننا نرى أنفسنا الطرف الوحيد والأوحد الذي يتكلَّم بإسم الوطن بل بإسم الأمة – الأمة الإسلامية – وبإسم الدين – الإسلام – كله، نحن وفقط مَن يفعل هذا، وهذه كارثة حقيقية ومُصيبة كُبرى ولن تلد إلا مصائب، فمثل هذه الطريقة في التكفير لن تلد مصائب فقط!
أعود وأتكلَّم في هذه الموضوعات لأنها موضوعات ساخنة لها راهنيتها، فأنا أرى إلى اليوم أن من هؤلاء الأصوليين – لن أقول كثير أو قليل بل سأقول من هؤلاء الأصوليين الإسلاميين – مَن يتحدث عن الإمامة العُظمى ويتحدَّث عن وزارة التنفيذ ووزارة التفويض، وهناك كتب ورسائل دكتوراة وماجستير ومواقع إنترنت Internet أيضاً تُبشِّر بالخلافة وبدولة الإسلام وتتحدَّث عن وازرة التفويض وشروط وزارة التفويض ووزارة التنفيذ، وأتحدى أي أحد لك يدرس هذه المسائل أن يفهم ما هى وزارة التنفيذ وما هى وزارة التفويض، أي أحد يفهم ما هو البرلمان وما هو مجلس الشورى، فهو يقدر على أن يفهم وأن يُفرِّق بين البرلمان ومجلس الشورى، ويُميِّز أيضاً بين نظام برلماني ونظام جمهوري وبين رئيس وزارة وبين وزير وبين رئيس حكومة – أي رئيس وزارة – وبين رئيس بلد، فهو يُميِّز بين هذه الأشياء لأن هذه لغتنا وهذه مُصطلَحاتنا وهذا عالمنا المعيش يا إخواني، لكن ماذا عن وزير تنفيذ ووزير تفويض وإمام وفُتِحَت صلحاً وفُتِحَت عنوةً والدفع والطلب ودار الإسلام ودار الحرب ودار العهد؟ ما هذا؟ هذه لغة لا تنتمي إلى عالمنا ولا نفهمها، وإذا ظننا أننا نفهمها فنحن لا نفهم شيئاً، هذه اللغة مجلوبة، هذه لغة حيرى تائهة جُلِبَت من ماضٍ منسوخ ومن عالم منسوخ، أي من عالم آخر، وهو عالم فكري وثقافي وسياسي مُختلِف تماماً، عالم آخر كان ومضى وذهب – كما قلنا – مع الريح، فهى جُلِبت لكي تتسكَّع هذه اللغة على المنابر وفي الكتب وفي الفضائيات تائهة حيرى لا تعرف كيف تتوجه ولا أين تُوجَّه، فماذا نعمل بهذه المُصطلَحات؟ ماذا نعمل بهذه الأشياء؟ يقولون لك لابد من وزير تفويض يُشترَط فيه تقريباً كل ما يُشترَط في الإمام الأعظم أو في الخليفة، ولذلك لابد أن يكون مسلماً ولا يُمكِن أن يكون وزير التفويض غير مسلم، فما معنى وزير التفويض؟ وحين تقرأ في الكتب لأبي يعلى والماوردي وغيرهما تجد أن وزير التفويض هذا يمتلك صلاحيات لا يمتلكها الآن أي جهاز في الدولة الحديثة، فهذا مُستحيل أن يحدث، لديه صلاحيات أعلى حتى مما تمتلك مجموع الوزارات تقريباً، أي أنه يكاد يُطابِق – ولكن بزيادة – كل الوزارات مُجتمِعة، فرئيس الوزارة لا يمتلك هذه الصلاحيات، رئيس الوزارة اليوم لا يصلح لأن يكون وزير تفويض، هو أقل من وزير تفويض بمراحل، وماذا عن وزارة التفويض هذه؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ هذا الكلام كان يُناسِب عالماً آخر نُسِخَ، وحتى مفهوم الدولة مُختلِف، وأنا دائماً في قلبي هذا الكلام ولذا أُحِب أن أحكيه، فهم يتحدَّثون عن الدولة ويذكرون الدولة الإسلامية وطبيعتها وهل هى دينية أم غير دينية وما إلى ذلك، وهذا أخونا العالم الفاضل الذي يتحدَّث ضد الديمقراطية ولم يُفرِّق بين الحق بالمعنى القانوني وبالمعنى المعياري يتحدَّث عن الدولة أيضاً لكن ليست الدولة التي نعيشها، ويقول الدولة الإسلامية دولة دينية، ونحن نُقِر أنها دولة دينية لكنها ليست دينية بالمعنى الغربي، فهذا المُصطلَح تحدَّد ومن ثم إذا قلت لي دولة دينية فإنه يُفهَم من هذا واحد واثنان وثلاثة وينتهي كل شيئ، فمَن قال لك دولة دينية؟ دولة دينية ومن جهة أُخرى هى دولة مدنية، وهناك طرح ثالث وهو دولة دينية بمرجعية إسلامية، فهذه أشياء مُضبَّبة وغائمة وغير واضحة وغير دقيقة ولها إشكالات كُبرى حين تدخل في التفاصيل الخاصة بها، وفي التفاصيل تكمن الشياطين وليس شيطاناً واحداً، ونعود إلى الدولة إذن، فكثير من المُنظِّرين الإسلاميين اليوم يتحدَّثون عن الدولة ولم يلتقطوا ما نقول، هل تعرفون لماذا؟ لأنهم لا يعيشون الواقع، لأن – كما قلت لكم – المُؤدلَّج والأصولي – الذي يُفكِّر تفكيراً أصولياً – لا يُحِب الواقع!
لاحظت أن المسلمين في الأعصار الخالية من أكثر الأمم – إن لم يكونوا أكثر الأمم – إنتاجاً لأدب الرحلات، فما رأيكم؟ كتب الرحلات التي كتبها المسلمون بالمئات، وصلنا منها الآن العشرات وهى تُطبَع الآن، هناك مشروعات في أبوظبي وغيرها لإعاة طباعة أدب الرحلات، وهذا شيئ عجيب، ولكن متى ازدهر هذا الأدب بالذات؟ أي إنسان دارس للتاريخ ولفلسفة الحضارة والتاريخ سوف يفهم لماذا، قطعاً لابد أن يزدهر هذا الأدب من غير ما تقرأ أي شيئ الآن في فترة نهوض الإسلام وقوة دولة الإسلام، أي إزدهار دار الإسلام بالمنطق القروسطي، وفعلاً هذا ما تُعطيه الدراسات الاستقرائية، فأدب الرحلات بلغ ذروته وقمته بين القرنين الثالث الهجري والخامس الهجري، وهذه أعظم لحظة في تاريخ الإسلام السيادي وفي تاريخ السُلطة الإسلامية وفي تاريخ دار الإسلام، حيث حدث توسعات وأكثر وكانت هنا قمة الحضارة – Civilization – الحضارة الإسلامية، لكن بعد ذلك خفت، وأنتم تُلاحِظون الآن أننا هنا نملأ أوروبا، يُوجَد أربعون مليون مسلم في أوروبا وفي أمريكا عشرات الملايين تقريباً وقيل أقل من ذلك بقليل، وعلى كل حال نحن نُوجَد حول العالم ومع ذلك لا يُوجَد أدب رحلات إسلامي تقريباً، بالعكس يعيش الواحد منا هنا – في النمسا أو في ألمانيا أو في بريطانيا أو في أي مكان – لمدة عشرين أو ثلاثين سنة وهو لا يعرف تقريباً شيئاً ذا بال عن البلد التي يعيش فيها – لا عن تاريخها ولا عن حضارتها ولا عن أي شيئ – ولم يقرأ كتبها ولم يقرأ إنتاجها الفكري، ومن ثم لا يعرف شيئاً وكأنه يعيش في قريته هناك، فلماذا إذن؟ ما السر في هذا؟ يُوجَد سر واضح يا إخواني، فالمسلم الذي كتب هاته الرحلات وطوَّف في العالم كان لسان حاله يقول:
فلا الكوفةُ أمي ولا البصرةُ أبي ولا أنا بالذي يُثنيني عن الرحلةِ الكسل.
فهو بصرة ماذا؟ وكوفة ماذا؟ وغزة ماذا؟ ومصر ماذا؟ أنا ابن العالم، ولذلك هو ابن حضارة ضربت بجِرانها ما بين جبال البيرينيه – بالأندلس هناك – وما بين تخوم الصين، فهذه هى الحضارة الإسلامية، وكله كان يُسمَى ويُدعَى دار الإسلام، ومن هنا يركب ابن بطوطة بغلته أو أتانه – أنثى حماره – ويُطوِّف بين هذه البلاد في سنين مُتمادية ولا يقفه عائق ولا تُطلَب منه سمو سفر – فيزا Visa للسفر – أبداً، بل يتحرَّك في بلاد هو يرى أنها بلاده وأنها داره وأن سُلطان أمته قد انسبغ عليها، ولذلك هو يشعر أنه يُحِب أن يستكشف، فهو يستكشف ذاته، كأنه يقول هذه ذاتي، ذاتي الأممية وذاتي الجمعية – كما يُقال – وذاتي المجموعية، وليست ذاتي الفردية كابن بطوطة أو كالمقدسي أو كفلان أو كعلان، وإنما هذه ذاتي الجمعية، فأنا ابن الإسلام وابن هذه الأمة وابن دار الإسلام ومن ثم أُحِب أن أستكشف داري وهذه داري، فهل يُمكِن لإنسان أن يعيش في دار لا يعرفها؟ يعيش في الدار التي يعرفها، ولذلك كثرت الرحلات ومن هنا كانوا يعرفون كل شيئ، وهذا يدل على الشعور بالقوة، فهذا فكر يحكي قوة ما، لكن اليوم يحدث العكس، أنت تعيش في عالم ترفضه وتتوجَّس منه وتكرهه وتهابه، علماً بأنني أتحدَّث عن المسلم الأصولي، لماذا؟ لأنك في هذا العالم لا تجد تقريباً مكاناً لك ولا تجد مقعداً تقعد عليه ولا تجد كرسياً لك في هذه الحافلة الجديدة، فهذا العالم ليس لك، هذا للأقوياء وللمُتقدِّمين وللمُتعلِّمين وليس للمُتأخِّرين وليس للجهلة، أي أن هذا العالم لأبنائه، فمَن كان من أبنائه حقاً ويُساهِم فيه فهو له، ولذا أنت لا تشعر أنه عالم مُفصَّل على قدك وإنما هو مُفصَّل على قدود آخرين، ومن هنا تشعر بالغربة Alienation، فأنت مُغترِب عنه، لكن انتبهوا إلى ما سأقول وأنا ابن هذا الفكر لأنني نشأت عليه منذ نعومة الأظفار في المساجد، مُعظم الفكر الإسلامي المُنتَج حديثاً في هذا العصر والذي تربَّينا عليه هو فكر يشعر بجفو العلم والتوجُّس منه، فيُقال أن العالم كله يتآمر عليك، من الصليبية إلى الصهيونية ومن الغرب إلى الشرق ومن الأصفر إلى الأبيض، فكل العالم يكره الإسلام وعنده ثأر مع الإسلام ومع أمة الإسلام، وكل الدراسات في علم النفس وفي علم الاجتماع وحتى التي هى في التطور ولها علاقة بتشارلز داروين Charles Darwin كلها أتت للقضاء على الأديان وفي مُقدِّمتها الإسلام، فنحن مُستهدَفون ضمن مُؤامَرة كونية وسرطان أحمر، فما هذا؟ هذا يجعل المسلم يغترب عن كل هذه الأشياء ولا يُحِبها، فلا يُحِب هذه العلوم ولا هذه الأفكار ولا هذه الفلسفات ولا هذا العالم، لأنه يقول العالم يتآمر علىّ ويأتمر بي وهو عالم ضدي فلماذا أُحِبه؟ أنا أرفضه لأن ليس لي مكاناً فيه، ولذلك حين تفشل كل الحيل في النهاية وينفرط العقد ولا يبقى في قوس الصبر منزع سوف أمتشق سيفي أو مدفعي أو رشاشي أو قننبلتي – على طريقة مَن تعرفون – وأبدأ أضرب هنا وهناك، وأُعطي ذريعة لمَن يُحِبون أن يتحدَّثوا عن العنف الإسلامي والإرهاب الإسلامي والتخلف الإسلامي، فهذا عالم أرفضه وأُريد أن أُحطِّمه لأنه ليس لي، لكن لماذا ليس لك وأنت تعيش فيه بجسدك؟ زمانياً أنت تعيش فيه ولكن روحياً أنت مُنبَت عنه!
أعود إلى فكرة الدولة إذن، كما قلت لكم يُوجَد مُفكِّرون إسلاميون كبار ولكن أصوليون يتحدَّثون عن الدولة حديثاً مُضحِكاً، ومن هنا – كما قلت لكم – تقرأون عشرات الصفحات ولا ترون شيئاً يمت إلى عالمكم بصلة على الإطلاق، لم يُدرِك هؤلاء كما لم يُدرِك الشباب المُتحمِّس المليء إيماناً – لا نُشكِّك في إيمانهم بل بالعكس هم عندهم دفعات إيمانية غير طبيعية، وهذه الدفعات الإيمانية تبعثهم حتى على أن يموتوا في سبيل الله، فيُقدِّمون أرواحهم هينة سماحاً رخيصةً ولكن لا فكرة لديهم ولا فهم ولا وعي – أن العالم تبدَّل وأن العالم المفهومي الذي يمتحون منه غير العالم الواقعي الذي يعيشون فيه، فهم يقولون لك أرض الإسلام وأفتى أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن وقال واحد واثنين وثلاثة، لكن هل أنت تتحدَّث الآن عن ابن العربي؟ ابن العربي كان يعيش في دار الإسلام يا رجل، وحتى هذه ليست دار إسلام واحدة، هو فقيه أندلسي مغربي، وحدث تقسيم والعباسيون والفاطميون كانوا في جانب وهم في جانب آخر، ولكن على كل حال هذا ابن العربي، ثم يُقال لك عليك أن تُدافِع وأن يخرج المسلمون وإذا لم يُمكِن استنقاذ المسلمين الذين غُزوا من طرف عدو خارجي إلا بكذا وكذا سيحدث كذا، وهذا كله اختلف اليوم، ومع ذلك الشباب خرجوا من مصر وغير مصر – من بلدان عربية كثيرة – لكي يُجاهِدوا المُستعمِر السوفيتي في أفغانستان انقاذاً للمسلمين، أي استنقاذاً لجزء من دار الإسلام، وكأن دار الإسلام لا تزال موجودة، وكأنه يعيش في دار إسلام، ألا تعيش في عصر الدولة القطرية؟ هل أنت واعٍ؟ ماذا تفعل؟ ألا تعيش في عصر الدولة القطرية؟ اليوم مصر وحكومة مرسي يشحذون ويتسولون، يُريدون أي مليار أو أي مليون من أي جهة، فهذه شحاذة في حين أن أموال العرب بالمليارات وبمئات المليارات، وهى مُسكَّنة جامدة وراقدة رقدة أهل الكهف في بنوك أمريكا وفي أوروبا، ويقولون لك ما علاقتنا بهذا؟ هذه مصر ونحن لا نعيش في مصر، لكن كيف هذا؟ أين الأمة؟ يقولون لك أمة ماذا؟ هل أنت أهبل؟ أين تعيش أنت؟ هذا عصر الدولة القطرية، أنا الكويت أو أنا السعودية أو أنا سوريا أو أنا لبنان وأنت مصر، وكل واحد يعيش وحده يا حبيبي، فولاءاتنا مُنقسِمة ومصالحنا مُختلِفة وتحالفاتنا مُختلِفة، هناك مَن تحالفوا مع إيران وهناك مَن تحالفوا مع أمريكا وهناك مَن تحالفوا مع المُتحالِفين ضد إيران، فهناك تحالفات مُختلِفة إذن، كيف تخرج أنت بفتوى من كتاب لابن عربي وتذهب تقاتل؟ لن يسمح لك نظامك، وبعد ذلك سوف تُرَد إليه يا مسكين ومن ثم تُؤخَذ ،وتُوضَع في الزنزانة مُباشَرةً ويُقضَى على مُستقبَلك، فتعيش حائراً بائراً وتقول ما الذي سويته؟ أنا طبَّقت حكماً شرعياً، لكن يا رجل هذا الحكم الشرعي كان يُطبَّق ويُطلَب تطبيقه فعلاً ضمن دار الإسلام الواحدة، اليوم هذه ليست دار إسلام، هذه دول قطرية ومن ثم لا يبدأ الإصلاح من هنا ولا هكذا يبدأ الجهاد، فضاع هؤلاء الشباب المساكين، ضاعوا وشاعوا وضُيِّعوا وصاروا ودعاء السجون والزنازين، فضيعوا مُستقبَلهم المساكين، والواحد منهم مُجرَّد شاب أراد فقط أن يُقدِّم خيراً لأمته بحسب ما تُعطيه فتوى ابن العربي وغير ابن العربي وفتوى علماء المذاهب كلها تقريباً، لكنه لم يلتقط أن هناك تغيراً، والكبار لم يلتقطوا هذا، فالذين يُنظِّرون ويُؤلِّفون لم يلتقطوا هذا ويتحدَّثون عن دولة الإسلام ودار الحرب وما إلى ذلك، فما هذا؟ هذا غير موجود اليوم، اليوم يُوجَد شيئ مُختلِف تماماً، لكن كيف هذا؟ سأُوضِّح لكم ببساطة يا إخواني، اليوم لو سألتم أي فقيه دستوري أو أي عالم في السياسة وقلت له ما عاصر الدولة State؟ ما أركانها التي ترتكز عليها وتستند إليها؟ فإنه سوف يقول لك ثلاثة، علماً بأن بعضهم يجعلها أربعة، فهناك الأقليم، وإذا ذكرنا كلمة أقليم يُطلَب فيها مُباشَرةً أمران – أن تتوافر على تحقيق أمرين – وهما التحديد – الحدود الجغرافية – والثبات، فاليوم لا تُوجَد فتوحات Conquests، غير مسموح لأحد لأن عنده فائض قوة أن يبدأ يكبر في حدوده، فهذا انتهى أيضاً، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهذا انتهى ومن ثم اليوم تُوجَد حالة استعمارية وحيدة في الكون وهى فلسطين المُحتَّلة، فقد انتهى عهد الاستعمار المُباشِر الذي يسمح لي بأن أوسِّع المجال الحيوي – Lebensraum – الخاص بي، فهذا انتهى الآن، وستكون بعون الله فلسطين آخر تجربة في التاريخ، عسى أن تُحرَّر فلسطين قريباً قريباً، فإذن انتهى هذا، فهذا الشيئ من الماضي المنسوخ، أي أنه عالم منسوخ، لكن هؤلاء لا يعرفون هذا، وعلى كل حال هذا هو الأقليم، وقد تحدَّثنا عن التحديد والثبات، وبعد ذلك لدينا الشعب، أي الناس الذين يعيشون داخل الأقليم، لكنك قد تقول لي يا أخي لا يُوجَد هذا، ما معنى شعب؟ هناك أمة – Nation – وليس شعباً People، فنحن لدينا أمة إسلامية، لكنني أقول لك هذا من الماضي وغير مسموح به الآن، فحتى أيام الرسول وحتى قرآنياً كان يُوجَد نوع من الإرهاص بمفهوم الإقليم من وراء وراء، قال الله وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ۩، إذا مسلم من الأمة العقدية وليس الأمة السياسية – ليس من الـ People وإنما من الـ Nation – مُوحِّد وتقي وصحابي لكنه لم يُهاجِر إلى المدينة واعتُدِى عليه من قوم بيننا وبينهم ميثاق فليس لنا علاقة فيه، ونقول له تحالفاتنا السياسة أهم منك، إذا قال اعتدوا علىّ وفتنوني نقول له ماذا نعمل لك؟ هؤلاء بينا وبينهم تحالفات سياسية ولا نقدر على أن نُضحي بتحالفاتنا من أجلك أنت، هذه تحالفات دولة، وهى ليست دولة بالمعنى الحديث طبعاً وإنما دولة بالمعنى القروسطي، فهذا إرهاص إذن، هذا نوع من الإرهاص بمفهوم الإقليم الذي لم تعرفه القرون الوسطى لا الإسلامية ولا المسيحية الأوروبية، وسأُوضِّح هذا!
لدينا مفهوم الإقليم ومفهوم الشعب ومفهوم السُلطة، بعضهم قد يقول وماذا عن نظام الحكم؟ هو تابع للسُلطة على كل حال، لذلك التقسيم الصحيح هو تقسيم ثلاثي، وهو المشهور السائد، فهو تقسيم ثلاثي – مفهوم الإقليم ومفهوم الشعب ومفهوم السُلطة – لكن بعضهم يجعله تقسيماً رباعياً، وفي العصور الوسط الأوروبية والإسلامية التقسيم كان ثنائياً، لم يكن هناك إقليم، ما كان مفهوم الإقليم قد تبلَّور وعُرِف، كان يُوجَد عندنا نظام حاكم – أي سُلطة – سيادي وكان عندنا شعب، لكن في الإسلام هذا مفهوم تماماً، وسوف أعود إليه الآن، لكن في أوروبا هنا بين عشية وضحاها قد يجد الشعب أو جزء من الشعب نفسه في أقل من اثنى عشر ساعة قد أصبح رعيةً أو من رعايا لملكٍ جديد، فبالأمس كانوا رعايا لفلان واليوم أصبحوا رعايا لعلان، لماذا؟ لحدوث الزواج بين الحكام، فأحدهم أعطى الآخر بنته، والاتفاق كان يقول ماذا؟ الإقليم – Province – الفلاني يتبع المملكة العلانية بحسب مُقتضيات عقد الزواج، فهذا ما كان يحدث هنا في أوروبا، تُصبِح في اليوم التالي على خبر أن الملك التابع له ليس جون John، فملكك اليوم هو فرانك Franck – مثلاً – أو فيليب Philippe، وهذا كان أمراً عادياً، والمسألة كانت سيَّالة ديناميكية ومُتحرِّكة، فكان يتم تبادل الشعوب كما يتم تبادل الأشياء والخراف والنعاج والعملة المعدنية، فالشعوب كانت أيضاً تُتبادَل، وفي العالم الإسلامي كان هذا واضحاً تماماً أيضاً، لماذا؟ لوجود الفتوحات، كانت هناك فتوحات تتحرَّك، وكل يوم تُوجَد بلدة جديدة وكل يوم تُوجَد جغرافيا جديدة، فمفهوم دار الإسلام كان مفهوماً ثقافياً وليس مفهوماً جغرافياً، هل فهمتم؟ هو مفهوم ثقافي وليس مفهوماً جغرافياً، ولذلك دار الإسلام كانت باستمرار أيضاً سيَّالة مُتحرِّكة مُمتَّدة، فتتقلص قليلاً إثر هزيمة ثم تمتد، ولا تلبث أن تمتد مرة أُخرى، وهكذا باستمرار، ولذلك نحن في ظل مفهوم دار الإسلام الثقافي الذي لم يعد موجوداً الآن ولا مُعترَفاً به – ليس عنده أي اعتماد Credit في المفاهيم الحديثة – وفي ظل هذا المفهوم القديم القروسطي الثقافي من المُمكِن أن نفهم التخيير الثلاثي حين كان يُخيِّر الجيش المسلم الشعب المغزو بين الإسلام والجزية والسيف، أي أن تسلموا أو تدفعوا الجزية أو الحرب والسيف يحكم بيننا، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا في منطق عصرنا غير مفهوم، وفعلاً غير مفهوم أن الاتفاق في الدين يُلغي السيادة، نحن اليوم كلنا شعوب عربية ومسلمون، وكل شعب عنده سيادة على إقليم، لكن هذا لم يكن موجوداً في العصور الوسطى أبداً وكان مفهوماً تماماً، فإذا وافقتني في الدين فأنت تجعل سيادتي مُنسبِغَة عليك، لماذا؟ كيف هذا؟ هذا مفهوم في القرون الوسطى تماماً، لأن السيادة والسُلطة تستمد شرعيتها من العقيدة، أي من عقيدة الأمة، والأمة هنا بالمعنى العقدي وليس السياسي، فخط الفصل الأساس كان العقيدة وليس الجغرافيا، ولذلك إذا دخلت في ديني فإذن أنت دخلت تحت سيادتي، وأصبحت جزءاً من دار الإسلام الثقافية المفهومية وليس الجغرافية، فما الذي حدث إذن؟ أيضاً ماذا قال الفقهاء حين تحدَّثوا عن دار الإسلام؟ قالوا أن دار الإسلام في أحد التعاريف المشهورة هى التي يأمن مَن فيها بأمان الإسلام، أي مَن الذي يُعطيك الأمان؟ السُلطة الإسلامية والسيادة الإسلامية هى التي تعطي الأمان للمسلم وغير المسلم، لكن ماذا لو كان القُطَّان – السُكَّان – كلهم أو أغلبهم غير مسلمين في هذا الجزء من دار الإسلام؟ لا يُخرِجها عن كونها دار إسلام، وهذا أمر عجيب، فكيف هى دار إسلام وهؤلاء نصارى وليسوا مسلمين؟ كيف هى دار إسلام وهؤلاء زرادشتيون – مثلاً – أو مجوس أو غير مسلمين بشكل عام؟ قالوا لك العبرة الآن بالسيادة وبالسُلطة إزاء الشعب، ولك أن تتخيَّل هذا، فإذا صار تعارض بين الشعب والأقليم فالعبرة بالشعب وليست بالإقليم، فهكذا كان التدرج، بمعنى أن الألوية للسيادة وللسُلطة وبعد ذلك يأتي الشعب وبعد ذلك يأتي الإقليم الذي لم يكن واضحاً مُحدَّدتً وإنما كان مُتحرِّكاً سيَّالاً، وحين توقفت الفتوحات الإسلامية قبل أن تُكمِل دورتها حول الشمس – نحن لم نفتح العالم كله وإنما فتحنا جزءاً كبيراً منه ثم توقَّفت الفتوحات لأسباب أخرى على كل حال – ما الذي حدث؟ بدأت تتجمَّد الحدود الإسلامية، فهذه دار الإسلام لكنها بدأت تأخذ نكهة جغرافية ونكهة حدودية، وما عداها ظل في حوزة الكفار غير المسلمين، وبدأ الفقهاء يُطوِّرون الآن مفاهيم جديدة تُرهِض بمفهوم الإقليم كما عرفته السياسةُ الحديثة، ولكن مع ذلك لم يكن الإقليم المُتصِف والمُتسِم بالثبات والتحديد، كان شيئ أقرب إلى مفهوم النطاق Range وليس الإقليم، فهل فهمنا؟ هذا هو إذن!
هذا كله تغيَّر وانتُسِخَ في العصر الحديث وشهدنا الدولة القومية وفي بلادنا الدولات القطرية، وهى جزء من التصنيف القومي، فهذا عالم مُختلِف تماماً، ومن ثم علينا أن نُطوِّر فقهاً جديداً يتعامل مع هذا العالم الجديد، وأنت عندك طبعاً رغبة وعندك دعوة أن تُعيد توحيد هذا العالم، وهذا الموضوع مشروع وليس عندنا أي مُشكِلة معه، ولكن الفقه الآن الذي ينبغي أن يُصطنَع وأن يُسار عليه وأن يُستلهَم وأن يُستفتَى ويُستشار لابد أن يستوحي الواقع، أي الواقع المعيش الذي نعيشه لكي يكون فقهاً حقيقياً نابضاً ولكي ينجح ويشتغل جيداً، وكذلك الحال في سائر المُصطلَحات الأخرى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
القديس المشهور بالقديس أوغسطين Augustine – من هيبو بالجزائر – ألقى ذات مرة موعظة بليغة فقال ينبغي ألا نندهش إذا قمنا يوماً وقد اختفت روما، أي المدينة الأعظم في تاريخ الديانة النصرانية، فلماذا إذن؟ قال لأن في النهاية المدن كالبشر تُولَد وتكبر وتموت، وهذا موجود بالفعل، فهى تُولَد وتكبر وتموت، قال تعالى وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۩، فهذه الآية تتحدَّث عن سُنة إلهية، وهى أن المدن كالمدنيات تُولَد ثم تفنى ولا يبقى شيئ!
المُفكِّر الكبير جون هيرمان راندال John Herman Randall في كتابه صناعة العقل الحديث The Making of the Modern Mind استهل كتابه في البداية قائلاً ككل شيئ إنساني – أنا أقول ككل شيئ في الكون، فالنجوم والكواكب تُولَد وتموت، والأشجار والصخور والبحار والمُحيطات تُولَد وتموت، وكل شيئ يُولَد ويموت ولا شيئ يبقى، يبقى وجه ربك لا إله إلا هو، لكن هو يقول ككل شيئ إنساني لأنه معني كمُؤرِّخ للأفكار بالشيئ الإنساني – الأفكار تُولَد وتنضج وتكبر ثم قد تموت، فإذن هى كائنات حية – انظر إلى الفكر المُنظَّم والفهم البسيط ولكن العميق – ولأنها كائنات حية فهى تقتضي أو تتطلَّب بيئةً تعيش فيها وتُوالِفها، فإذن الأفكار لها بيئة، الأفكار والمفاهيم والطروحات والآليات التحليلية لها بيئة تعيش فيها، فلا تأت لي بأفكار من القرن الخامس الهجري وتعيشها في القرن الحادي والعشرين الميلادي أو القرن الخامس عشر الهجري، لن تعيش بل ستموت لأن هذه ليست بيئتها وليست بيئة لها وإنما هذه بيئة لأفكار أخرى، نحن لم نُنتِجها وهذه مُشكِلتنا، فانتبهوا إلى هذا جيداً، وفي هذا الإطار أيضاً نُحِب أن نقول أن التبسيط المُخِل الذي نُمارِسه لا ينبغي، وقد قرأت مرة تحذيراً لعالم ومُفكِّر إسلامي مصر كبير حقيقةً وكان رجلاً ناضجاً مُتفتِّحاً إلى أبعد حد وهو المرحوم طيب الذكر محمد فتحي عثمان – رحمة الله عليه رحمة واسعة – يقول فيه إن أخشى ما أخشاه – وقد تحقَّق تقريباً – أن نكسب معركة الدعاية والجدال النظري المنطقي – بخصوص صلوحية الإسلام، كأن نقول الإسلام صالح لكل زمان ومكان والإسلام أحسن نظرية والإسلام أحسن طرح والإسلام هو الحل والإسلام هو كذا وكذا، فنكسب هذا إتكاءاً على الدين طبعاً لأننا نقول قال الله وقال رسول الله ثم نذكرالآية الكريمة التي تقول أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، فضلاً عن الكلام العام الخاص بالمشايخ والأصوليين – حتى إذا أتت مرحلة التطبيق والتقنين فإذا بالأيادي خواء وإذا بالقلوب والأفكار هؤاء، فنفشل، وهذه الكلمة – والله العظيم – كتبها من زُهاء عشرين سنة وقال أخشى ما أخشاه أن ينطبق هذا علينا، فلماذا قالها مُفكِّر كبير مثل محمد فتحي عثمان؟ هل تعرفون لماذا؟ لأنه بالحري والقطع آنس من كثير من الإسلاميين ليس المنطق الفكري التنظيري الفلسفي العميق وإنما المنطق الخطابي العاطفي الذي يتكيء على إشعال عواطف الناس بإسم الإسلام وبإسم الدين وبإسم الله والرسول والحرب على الإسلام والحرب على الأمة والغرب والشرق والصليبية والصهيونية، فهو آثر هذا ورأى أننا قد أمعنا بعيداً في هذا المشوار وخشيَ أن يحدث ما قاله، ونسأل الله ألا يتحقَّق ما خشيه بتمامه، ولكن الآن نحن نشهد شيئاً من هذا الشيئ، لذلك هذه التبسيطية مُخِلة ولا تليق بنا، فالنظرية تفشل إما لاختزاليتها وإما لعموميتها، لكن ما معنى هذا الكلام؟ لأن دائماً الواقع الذي نعيشه أكثر تركباً وتعقيداً من النظرية، لكن هناك مَن يعتقد أن الفكر أكثر تعقيداً وهذا غير صحيح، فالفكر دائماً يبقى أبسط من الواقع، لماذا؟ لأن الواقع جُملة عوامل – Factors – وعلل – هناك علل وهناك عوامل تختلف حتى في التحليل الإنساني – كثيرة جداً ومُتشابِكة وفق آلية الاعتماد المُتبادَل، أي أن هذه جدلية، فلا ينبغي أن يأتي المُفكِّر مهما كان كبيراً ويقتصر على بضعة عوامل، لكن بعضهم يقتصر حتى على عامل واحد، ولك أن تتخيَّل هذه الاختزالية، ونحن تربَّينا في مناخ إسلامي أفهمنا أن من المُمكِن لو أحسنت صلاتك أن يحسن كل شيئ في الكون، فما هذا؟ ما هذه السذاجة؟ ثم يُحدِّثونك عن قصة السيدة نفيسة والإمام الشافعي وأنها لما رأت جنازته قالت رحمة الله عليه لقد كان يُحسِن أن يتوضأ، فإذا قال لك أحدهم هذا قل له ما علاقتك أنت؟ هذا إمام كبير وعنده مذهب فقهي وما إلى ذلك، لكنهم قالوا لك بعد ذلك لأنه يُحسِن أن يتوضأ فهذا يعني أنه يُحسِن أن يُصلي، وإذا كان يُحسِن أن يُصلي فهذا يعني أنه يُحسِن كل شيئ، فما هذا يا أخي؟ ما هذا المنطق الطفولي الصبياني؟ وإلى اليوم نحن نتقوَّت ونتغدَّى على مثل هاته الخرافات الفكرية في التلفزيون Television وفي الفضائيات ونعيش في غفلة صبيانية مُضحِكة، لكن الواقع مُعقَّد جداً فلا يكفي أن تختزل الواقع في عامل واحد أو في جهة واحدة أو في شرط واحد ثم تقول لي هذه النظرية تُفسِّر هذا، في الحقيقة لن تُفسِّر شيئاً وستفشل مُباشَرةً، ولا يُمكِن أن تأتي تُعمِّم – الآن لا تختزل إنما تُعمِّم – وكأنك تتعالى على جُملة الشروط والعوامل كلها، فلا تتناولها بالدرس والتمحيص والفحص وإنما تتحدَّث حديثاً عاماً، وهذا الحديث العام كما لاحظ جون ديوى John Dewey في كتابه الثقافة والحرية ينطبق عليه نفس الشيئ، فهو لا يقدر على أن يُفسِّر أي شيئ، وواضح أن هناك علاقة بين الاختزالية وبين التعميمية أيضاً، فهذه التعميمية اختزالية مُقنَّعة، ومن ثم علينا أن نكون جادين!
أخيراً في هذا الإطار أرجو من إخواني العلماء والمُفكِّرين أن يُعيدوا النظر كما فعل عشرات – بفضل الله – من المُفكِّرين الإسلاميين المُحترَمين المُعاصِرين – هناك عشرات من العلماء فعلوا هذا وأنا أعني ما أقول – في مثل هذه الموضوعات، فهناك مَن قالوا حتى في موضوع الذمة وموضوع الجزية وموضوع كذا وكذا أنها أشياء تاريخية باتت من التاريخ ولا يسوغ ولا يصح ولن يشتغل احياؤها وابتعاثها من جديد، لكن قد يقول لي أحدكم كيف هذا وهى مذكورة في كتاب الله؟ لكن ما معنى أنها ذُكِرَت في كتاب الله؟ هذه هذه البساطة في التفكير هى المُشكِلة، يظنون أن الشيئ إذا ذُكِرَ في كتاب الله فهو مُؤبَّد عابر للزمان والمكان والأحوال والشروط والأشخاص وما إلى ذلك، وهذا غير صحيح، فالرق مذكور في كتاب الله وما ملكت أيمانكم مذكورة في كتاب الله والعبد والأمة ذُكِرا في الكتاب والسُنة، لكن هذا انتهى، مُؤسَّسة الرق أصبحت من التاريخ الآن، لا أحياها الله ولا أحيا الله مَن دعى إلى استحيائها، فنحن لا نُريدها والحمد لله على أنها انتهت، ولكن الدين ابتُلِىَ بها فشرَّع لها، هل فهمتم؟ ونفس الشيئ ينطبق على وضع أهل الذمة، فهم يتحدَّثون عن وضع أهل الذمة وعن الجزية ، وعن حرمانهم من كذا وكذا وعن هذه الأشياء، لكن أنا أقول لكم ما الذي حصل؟ الذي حصل بنص كتاب الله أنه لا يجوز أن تغزو قومك ما لم يعتدوا عليك، وإذا اعتدوا عليك فغزوتهم فإما أن يُسلِموا فعلاً وينتهي كل شيئ وهذا أحسن – الوفاق أحسن – وإما أن يخضعوا، وعلامة إخضاعهم وخضوعهم الدائمة هى الجزية كبدل خدمة عسكرية لأننا سنحميهم، نحن سنحمي هؤلاء من أي عدوان داخلي أو خارجي وسنُساويهم بأنفسنا إلا ما استُثنِىَ، فإذن بالله عليكم هل هذا الوضع مرهون بشروطه أم غير مرهون؟ مرهون بشروطه، فأنت حين يُعتدَى عليك ترد العدوان وحين تُخضِعهم يدفعوا الجزية بعقد الذمة، فهذا وضع ظرفي، لماذا يستمر ألوف السنين؟ هذا غير معقول، والآن – مثلاً – إخواننا النصارى وغير النصارى في البلاد العربية هل هم أهل ذمة؟ هذا غير صحيح، هل تعرفون لماذا؟ لأن الدولة القطرية التي نعيش فيها الآن في مصر وغير مصر ليست امتداداً لدولة الخلافة أو لدار الإسلام أبداً، هذه دولة قطرية مُستحدَثة، صناعة جديدة جاءت بعد عهد الاستقلال والتحرُّر من الاستعمار، بمعنى أن جاء الاستعمار ووضع خطاً فاصلاً قطع به بين عهد دار الإسلام وعهد الخلافة وبين العهد الاستعماري الجديد، فما الذي حصل إذن؟ أصبحنا جميعاً مسلمين ونصارى وغير نصارى نرزح تحت نير الاستعمار الأوروبي الحديث وشاركنا جميعاً – المسلم مع النصراني مع غيرهما – في التحرُّر وفي الاستقلال وفي التخلص من هذا الاستعمار المشين الذي ران علينا ثم حقَّقنا استقلالنا بحمد الله تبارك وتعالى، فهذا وضع جديد لا يسمح لك شرعياً وفقهياً – لا يسمح لك بالمرة – أن تقول لهم أنتم لا تزالون أهل ذمتي وسأفرض عليكم الذمة والجزية، هذا الموضوع لا يصلح أبداً وهذا لا يركب على هذا، فهذا الحكم يركب على وضع قديم والآن الوضع انتهى ونحن إزاء وضع جديد، فهكذا ينبغي أن نُفكِّر!
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُلهِمنا رشدنا وأن يفتح علينا بالحق وهو خير الفاتحين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اهدِنا فيمَن هديت وعافنا فيمَن عافيت وتولنا فيمَن توليت برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(1/3/2013)
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan
أضف تعليق