دعوني قبل كل شيء أعترف بأنني لست مؤرخاً، لست باحثاً في التاريخ ورغم هذا أعتقد أن ما أريد قوله هنا من الوضوح بمكان بحيث يجعل أمثالي يغامرون بالحديث حول هذا الموضوع….
لطالما سمعنا بأسماء كانت ولازالت تذْكر على أن لها الدّور الأكبر في صناعة التغيرات الكبرى في مسيرة الحضارة البشرية، أشخاص كانوا يتمتعون بقدرات غير عادية سخّروها من أجل اقتعاد المكانة اللازمة لقيادة حركات إصلاحية وثورات معرفية واجتماعية وفكرية وعلمية كان لها أثر حاسم وغاية في الأهمية في مسيرة البشرية نحو عالم أفضل تعيشه، نحو المزيد من الحريات والعدالة والرقي القيمي والمعرفي.
كل ما سبق بديهي ومعروف، وما أريد توضيحه هنا والإشارة إليه هو فكرة محددة، وهي أنني أعتقد وبشكل راسخ أنه في لحظات حاسمة وفي ظروف استثنائية وفي منعطفات تاريخية من حياة الأمم يتحول شيء ما لطالما نظرنا إليه – نحن الشعوب المتخلّفة- على أنه مجرد ترف معرفي وتنظيري غير واقعي وغير مفيد كثيراً، يتحول إلى ضرورة تفرضها حراجة الموقف وخطورة المرحلة وروح المسؤولية وأخلاقيات أولئك الإستثنائيون الذين يرفضون عيش القطيع ولا يعجبهم ترهّل أفكار المجتمع فتنتعش داخلهم قوى جبارة تجعلهم ينهضون للإطلاع بالمهمة الأصعب والأخطر وهي إحداث التغيير وقيادة السفينة….في تلك اللحظات العصيبة وعبر تلك المحنة يولد الأمل فتتمخض الأمّة لتنجب عظمائها وقادتها، وتتحقق النبوءة اضطرار لا اختيارا… وإلا فهو الفناء!!
لن أتحدث هنا عن تدخل القدر، لن أتحدث عن تدخل الغيب، كل ما أريد توضيحه أن ظروفا معينة تجتمع في أوقات محنة الأمم وفي زمن انحطاطها في منعطف تاريخي خطير تحتم عليها التغيير أو الدمار والاندثار، هذا هو منطق التاريخ، فالأمم التي تفشل في تغيير واقعها المزري وفي النهوض من سباتها محتوم عليها الزوال، محتوم عليها أن تصبح صفحة من التاريخ لا أكثر، وبنفس تلك الحتمية تصبح ضرورة وجود المصلحين والمجددين الجادين المتسلحين بالمعرفة أمرا لا مفر منه لمن أراد البقاء والاستمرار… الأمر ليس ترفا أبدا
بالنظر لما قدمناه –إن صح- فإن ظاهرة الدكتور عدنان إبراهيم لن تكون عبارة عن فقّاعة صغيرة مضيئة وعابرة تطير عبر سديم باهت مكفهر لبقايا نجم أمّة كانت عظيمة في يوم من الأيام، الظّاهرة ليست لمجرد رجل مثقّف واسع الاطلاع يتفضل على جمهوره اسبوعيا بالمزيد من المعزوفات التي تعرفونها…ليس مجرد خطيب ومثقف عادي يستعرض على جمهوره عدد من يعرف من أسماء كتّاب وفلاسفة ومفكرين وعلماء، ليس حديثا عن أهمية العلم والثقافة ذلك الذي يقوم به الرجل، الأمر –في نظري- يتعدى شخص الدكتور نفسه، يتعدى مسجده وجمهوره الحالي، يتعداه إلى أن يصبح ظاهرة حتمية خلقتها تركيبة معقدة من الظروف والشروط والإمكانيات التي اجتمعت وحق لها أن تجتمع فمصير أمتنا معلق على من يولدون جرّاء هكذا اجتماع وهكذا ظروف…
ما يقوم به فضيلة الدكتور ليس ترفا فكريا بل ضرورة تاريخية ظرفية… هذا هو ببساطة ما أريد أن أقوله، والأمر كما اسلفت يتعدى شخص الرجل إلى النظر في تركيبة أجزم أنها لم تأت بالمصادفة، فأمتنا المنكوبة وهي تعيش واقعا تعيسا مريضا متخلفا هي التي خلقت ظاهرة الدكتور عدنان إبراهيم، قد يبدو الأمر غريبا ومعكوسا ولكنه هو الواقع كما أراه…ففي أوقات المحن تأتي المنح، وأي منحة هذه التي بين أيدينا.
لماذا الدكتور عدنان إبراهيم دون غيره؟ سؤال قد يطرحه الكثيرون خصوصا بوجود عدد هائل من المشائخ والدعاة والمثقفين والكتّاب وغيرهم!
حسنا… بالنسبة للمشائخ والدعاة فلن أتحدث عنهم أبدا والسبب تعرفونه، وأما الكتّاب والمثقفين والفلاسفة فاسمحوا لي أن أضحك قليلا ثم أواصل الكتابة…
ربما أكون متشائما في حديثي عن المثقفين والفلاسفة والكتّاب العرب والمسلمين، دعوني أسئلكم أين هم أصلا؟! قد يظن البعض أن في سؤالي هذا نوع إجحاف وانتقاص، وقد يقول البعض هم موجودون فلان وفلان وقد يسمّ البعض عشرات والمتفائل منكم بما يعرف بضع مئات … أنتم هكذا تصادقون على الكارثة التي أتحدث عنها، واسمحوا لي مرة أخرى أن أعيد سؤالي، أين هم؟
فأمة تقارب المليارين من البشر من العار أن تعقم عن إنجاب إلا بضع مئات من الفلاسفة والمصلحين الحقيقيين… دعونا نتحدث بصراحة، نحن فعلا في منعطف تاريخي في حياة أمتنا، يجب أن نعي هذا جيدا.
ولأزيد الطين بلة كما يقال دعوني أعلّق عن السؤال عن فلاسفتنا ومصلحينا وعلمائنا، بأن أقول عفوا.. أنا سألت عن الفلاسفة والمصلحين ولم أسأل عمّن يسمّون أنفسهم بالفلاسفة والمصلحين! أين هم وما دورهم وماذا يفعلون ولماذا لا نراهم وإذا رأيناهم لماذا لا نرى إلا خيالات وهياكل خاويه عن كل جدية وجدباء عن المعرفة إلا من رحم ربي وقليل ما هم؟!
أعود لجدية القضية وحتميتها التاريخية، ولهذا فاليغرب عن وجهي كل أدعياء العلم والمعرفة، وكل الجبناء الآكلين على موائد المجاملات والحسابات الضيّقة والهامشية، أنا أتحدث عن مصلح حقيقي وليس عن مهرّج أو حتى مثقف ولكنه رعديد وجبان يخاف مواجهة المجتمع بما يكره، هؤلاء وبهذا الحال يصدق عليهم قول رسولنا الصادق الأمين “…كغثاء السيل” نعم كثرة عقيمة.
أعود للسؤال الأسبق، لماذا عدنان إبراهيم؟
الدكتور عدنان حفظه الله نجح نجاحا باهراً ربما بنفس القدر الذي فشل به غيره، وسألخص خصوصية الدكتور عدنان في محورين رئيسيين:
الأول أن الرجل عالم ومثقف وفيلسوف ومصلح حقيقي هذه المرة، أنا الآن أتحدث جديا وأعي كل ما أقول، عرف هذا من عرف وجهله من جهل هذه هي الحقيقة، ولن أدلل على هذه الحقيقة الصارخة فالتدليل عليها من أمثالي ربما يفقدها قيمتها ويقلل من اشعاعها فهي لا تخفى إلا على أعمى.
الثاني أن الدكتور عدنان كان ولازال واعياً فاهماً لأعباء المهمة مدركا خطورتها يعيش تحدياتها شجاعاً جداً في مواجهة المجتمع المريض الذي يتأبى كثيراً على العلاج.
الجدية التي يتحدث بها الدكتور عدنان في حد ذاتها فريدة، فأنت لا تملك مشاعرك إلا أن تغمرك بطوفان من الوعي العميق بصدق لجهة الرجل ولوعته وحرقته على واقع الأمة اليوم لا يشك عاقل في هذا.
وأما شجاعة الرجل فليست تخفى، فعلى كل الأصعدة الدكتور عدنان جدا شجاع في تناول مواضع المرض وبكل قوة معرضا سمعته وحتى حياته للخطر نسأل الله له الحفظ والسلام.
أعود لأكرر، ظاهرة عدنان إبراهيم حتمية تاريخية من المستحيل أنها جاءت بمحض الصدفة، فحال الرّجل وتوقيته يصرخ في وجوهنا مذكرا الغافل منا بقوله تعالى (وجئت على قدر يا موسى) أي في ظروف وبشكل مناسب تماما لها، ومن كان فعلا مؤمنا بخلاص أمّته ونهوضها فسوف يفهم هذا الأمر جيدا، أتحدث عن الحتمية والظرفية التاريخية هنا.
ألخّص كلامي…لن أقول إمّا الدكتور عدنان وإلا فلن تنهض الأمة، ولكنني وبكل جدية أقول، إما “ظاهــرة” الدكتور عدنان والتي قد يتمثلها شخص آخر أو شخوص كثيرون وإما فلن تنهض أمتنا… هذا هو درس التاريخ وقانون السببية.
نهوض الأمم ورقيها ليس لعبة، ليس تسلية، ليس مزحه، ليس شيئا عاديا، بل هو قمّة من قمم غايات البشرية، هدف سامي ونبيل، حلم وتطلّع وأمل… شيء كبير وهائل لن يقدره قدره إلا القامات الهائلة والأنفس الطلعة الكبيره التي لا يجود بهم التاريخ زرافات، بل أفرادا نادرين… هذي هي الحقيقة!
الدّكتور عدنان إبراهيم يقتعد اليوم وبكل جدارة وبدون أي منازع قمّة هرم الإصلاح الدّيني والمعرفي والفكري بشكل عام، هذه القمّة هي استحقاق عن جدارة نالها الرّجل ليس هبة أو امتنانا من أحد، بل لأن الرجل بكل مؤهلاته، ولكل آلامه ومعاناته، ولكل اجتهاداته، ليس له إلا تلك القمّة يتربّع عاليا هناك حيث يختنق الصّغار والأقزام ويتساقط عنها ودونها الفارغون اللّاعبون…. من منكم يعرف أن العصافير الصّغيرة غير قادرة على اجتياز الهيملايا؟
القاضي خليفة
أضف تعليق