تنامي ظاهر الإلحاد يأتي في وقت يشهد فيه العالمين العربي والإسلامي نكسات متتالية بالتلازم مع سيادة خطاب ديني موغل في رجعية فشلت في خطب ود وذائقة الأجيال الراهنة
يقُض مَضاجع السوقة والعامة فضلاً عن العالِمين والعارِفين، تنكُّبُ نفرٌ من شباب الأمة عن معتقدَها، إذ دفعه السأم من حالها والانبهار بما لدى سواها، إلى الانحياز والانزلاق لفكر إلحادي نشأ وترعرع في مخيلته ثم ما لبث أن استبد بذهنه وفؤاده ومسلّكه مُعللاً ذلك بردّة فعلٍ سيكولوجية إزاء واقعٍ متردٍ، لا شأن للدين البتّة به بقدر ما تتحمل بعض مسؤوليته مؤسساتٍ ما انفكت تدّعي -عبر حقب التاريخ- صلاحية وحصرية النطق باسمه بخطوط وخطوات متوازية ومتماهية تسير جميعها في مسار إسباغ الشرعية على تصرّفات تتخلل واقع معاش تُحدده السلطات السياسية السائدة.. والمستبدة أيضاً.
يستشعر كثيرٌ من الحريصين على واقع الأمة ومستقبلها، مقدار الأسى الذي قد يخلّفه أولئك على أنفسهم أولاً قبل سواهم، فضلاً عن الشكوك التي قد تساور أو تتفشى بالعدوى منسلّة إلى أذهان أقرانهم ونظرائهم من متوسطي الثقافة وشحيحها، ممن يؤمنون بعدم قدرة الأمة على الخروج من نفقٍ ضيّق مظلمٍ لا يبدو أن ثمة ضوءاً في منتهاه، لكنني أرى بأن هذه الظاهرة لا ترقى عن كونها إحدى ارهاصات مخاضٍ نعيشه وأجد فيه بعض الفوائد والمظاهر الكفيلة بالمساهمة في تحقيق التحول والنهوض المنشود.
وقبل أن أسرد المسوغات الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية للجوء هؤلاء للتقليل من شأن الأديان بل والنيل من مكانتها وقدسيتها، لا بد من الإلماع إلى أن معضلتنا الراهنة -التي تسببت جزئياً ببروز ظاهرة الإلحاد- لا تتجسد في نقص بعدد الأفراد ممن يقبلون أفواجا على اعتناق الإسلام بوتيرة حسابية أو هندسية بإزاء عدد المنحلين عن هذا الدين، إذ أنني أرى بأن المشكلة الرئيسة تتمثل في حالة الجمود والاستكانة لدى غالبية المدارس الفقهية التي ذهب بعض تلامذتها المعاصرون لاجترار اجتهادات مؤسسيها دون التفاتة للزمان ولا إلى المكان، فيما اختارت أخرى تصوير الإسلام على أنه أيديولوجية عقابية يكمُن جوهرها في تطبيق الحدود والقصاص، في حين لجأت ثالثة إلى التحالف مع السلطات القائمة لتبرير أفعال هذه الأخيرة بالتزامن مع انزلاقها لأتون مستنقع التكفير والسعي لحجب نور التفكير مع التغوّل في تحريم إباحة استفادة الدهماء من مستلزمات ومستجدات العصر، على أن تُجاز لغيرهم.
وعودة إلى مسوغات احتكام نفرٍ من الشبان لاعتناق فكر الألحاد والرد على بعضه.
* يرى أولئك بأن النظريات العلمية كـ”النسبية” لآربرت آينشتاين والتطور “أصل الأنواع” لتشارلز داروين والجاذبية للسير اسحق نيوتن، تؤشر بما لا يدع مجالا للشك إلى نهج علمي منطقي متسلسل ومتجدد بذاته يسير وفقه الكون غير المحكوم بمنطق آلهي، على أن وصولهم لهذه القناعة المجتزأة ، لا يغير شيئاً من حقيقة قارّة، فالدين الإسلامي خصوصاً والرسالات السماوية عموماً لم تَحُل بين البشر والكشف عن مكنونات وأسرار الكون، ولعل ذلك يتجلى بشكل واضح في اقتصار نقد وردود الأمام الغزالي -في “تهافت الفلاسفة”- على نقولات ابن سينا والفارابي ذات الطابع الآلهي المستنبطة من مدرسة أرسطو المشّائية، غير أنه أقر بالمسلمات العلمية غير القابلة للنقض، داعياً الفقهاء لعدم الخوض في صحتها وسلامتها لأن ذلك بمثابة إضرار بالدين ذاته.
والغريب في لجوء بعض أولئك الشبان لاقتفاء الأثر والتداعيات التي خلفتها النظريات المذكورة سالفاً، لم تدعهم للتأثر بأصحابها الذي لم ينحدر أحدهم الى غياهب الإلحاد، إذ حافظ كل من آينشتاين على ايمانه بيهوديته ونيوتن على مسيحيته الموحدة بلا تثليث، فيما اقتصر التغير الطفيف على معتقد داروين في الانتقال من المسيحية الأنغليكانية إلى “اللا أدرية”.
* الانبهار بالنماذج السياسية المتطورة وبالتالي المجتمعية للغرب وحتى للشرق، وهو أمر جِد يثير الغيرة والحيرة من الناحيتين الشكلية والتطبيقية فحسب، غير أن التطور الذي شهدته تلك البلدان لم يكن وليد طلاقها للفكر والثقافة الدينية المؤمنة، بل جاء عقب قرون من مجافاتها للمنطق الكهنوتي الذي استبد بأوروبا في العصور الوسطى، فيما ظلت تلك الأنظمة والمجتمعات مرتبطة بدينها كمرجعية ثقافية وفكرية ومجتمعية، فألمانيا -التي تدار منذ عقد من الزمن من قِبل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تقوده المستشارة أنجيلا ميركل- لم تنحرف لمسار الإلحاد، ولم يفت ذلك أيضاً من عضدها كأهم دولة صناعية وتقنية بالعالم فضلاً عن كونها أكبر اقتصاد أوروبي.
ومن هنا لا يمكن لنا الإ أن نقدّر المانيا -التي يديرها حزب مسيحي- لدورها في استيعاب ملايين المهجّرين المسلمين خلال السنوات القليلة الماضية، وفي ذات الوقت لا يمكن لوم ديانتها على التسبب بإزهاق أرواح ملايين البشر بفعل نزوات هيمنة حزب نازي “مُلحد” في خضم سنوات الحرب العالمية الثانية الخمس، وبالتالي لا يجدر بالملحدين الجدد تبرير موقفهم بالربط بين الجماعات التي تدعي وصلًا بالإسلام وبين ممارساتها الدموية في سوريا والعراق وغيرهما.
* جنح بعض الشبان للفكر الإلحادي نتيجة تشربهم منطق وسحر وجزالة الأدب العالمي عموماً والأوروبي خصوصاً، إذ يرونه مضارعاً للنص المقدس، وهو أمر يزيد من ضعف موقفهم وتردي قناعاتهم، إذ كان يتوجب عليهم الإنصات لما قاله المسيحي الأرثوذكسي عميد الأدب الروسي وأفضل من كتب الرواية عبر التاريخ تيودور ديستوفسكي بوصف بعض أدباء بلاده القيصرية -الذين نزعوا عنهم غطاء الدين تأثراً بالفكر التحرري الذي ساد أوروبا عموما وفرنسا خصوصا بنهاية القرن التاسع عشر- وذلك بقوله “إن الله سيسألك عما جنت يداك، وستندم بعد فوات الأوان”.
طبعا لا يمكن لنا حصر مسوغات الإلحاد بتلك التي أوردناه أعلاه، فهناك مبررات نفسية وأخرى أسرية وثالثة وراثية، غير أننا نؤمن بحكمة الله عز وجل في جعل الناس متدافعين متباينين ومتمايزين بتمايز أعراقهم وطوائفهم ومذاهبهم وطباعهم وأفكارهم وقناعاتهم.
تنامي ظاهر الإلحاد يأتي في وقت يشهد فيه العالمين العربي والإسلامي نكسات متتالية بالتلازم مع سيادة خطاب ديني موغل في رجعية فشلت في خطب ود وذائقة الأجيال الراهنة، و تزامن ذلك مع مضي العالم بشرقيه وغربيه قدماً في سبر أغوار التكنولوجيا فائقة التطور، وتطويعها لأغراض علمية تصب في صالح البشرية، كل ذلك يستدعي من دولنا ومؤسساتنا وقفة جادة لدراسة هذه الظاهرة ومسبباتها وتداعياتها التي تأتي ضمن إرهاصات متعددة قد تولِّد لدينا نماذجاً فكرية متباينة بعضها سيكون قادرا على المواكبة والبعض الآخر سيقع في شرك عقم منطقه وطرحه.
والنماذج التي ستتبلور أكثر من مرور الوقت هي برأيي المتواضع:
*فريق ينبذ كل الثوابت والمسلمات العقدية منصرفا نحو الآخر الذي تسبب بانبهاره به ، وهذا سيجد نفسه هائماً على غير هدى بلا منظومة تضبط إيقاع فكره، ضائعا في معترك السعي لقبوله بين أصحاب معتقده الأول والثاني، وغالبية المنتمين لهذا الفريق سيضطرون لإعادة النظر في توجههم.
*فريق آخر ينبذ الأفكار المنغلقة -التي رسخت حالة التأخر الفكري والعلمي للأمة- وأخذ يفكر بمنهجية متجددة معتدلة تراعي عاملي الدين والعلم وهو الذين سيحظى بالاستدامة.. و أرى في المفكر الفلسطيني -المقيم في النمسا- الدكتور عدنان إبراهيم المساهم الأبرز في تبلور هذه المدرسة التي تأتي أيضا منبثقة من لدن التراث والفكر الأزهري ومساهمات وتجديد الإمام الغزالي.
* فريق ما فتئ يتصلب برأيه المنقول المعزول عن أسس المنطق ورحابة التجديد وملازمة متطلبات العصر.. هذا ستدفعه المتغيرات عنوة للاقتناع بأن الدين كان ولا يزال وسيبقى ذا طابع وسطي وأن رسالة الإسلام حملت معها معانٍ سامية ومبادئ إنسانية تسير وتتماهى مع المكان والزمان .. أما إن لم يرد الاقتناع بحتمية وحيوية وأهمية ذلك، فإنه سيظل مغردا خارج سرب الحضارة البشرية..
سُنة الله في خلقه أن تعتري جميع الأمم أحوال الازدهار و الانحطاط، وبالتالي يجب الا تدفعنا هذه الأخيرة للاستسلام والنكوص الذي دفع أولئك لسلوك طريق الإلحاد.. بل ينبغي علينا السعي لمعرفة مكامن الخلل والعمل على معالجتها لإعادة عقارب ساعة العمل للعمل من جديد وذلك بعد مرور قرابة 6 قرون من التوقف.
رابط المقال من صحيفة المقر الأردنية http://maqar.com/?id=125319
أضف تعليق