محاضرة لفضيلة الدكتور عدنان إبراهيم
بعنوان طريق العارفين
ألقاها عام 2011 في أكاديمية إعداد القادة 4
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، حمداً يُوافي نعمك ويُكافئ مزيدك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير له ولا مثال له، العلي الأعلى، الولي المولى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ۩ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ۩، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه، اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على عبدك ونبيك النبي الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا فتوح العارفين، واهدنا إلى صراطك المُستقيم، ودلنا عليك دلالة الصادقين. اللهم آمين.
أما بعد، إخواني في الله وأخواتي في الله:
أُحييكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في الحقيقة لا أود لهذه الجلسة أن تكون مُحاضَرة كالمُحاضَرات العلمية التي صدَّعنا بها أدمغتنا، وإنما أرغب أن تكون شيئاً من التواصل بطريقة أو بأُخرى وبمعنى أو بآخر لكي تُؤدي – بعون الله تبارك وتعالى – شيئاً من غرضها.
ليس غرض هذه المُحاضَرة – إخواني وأخواتي – أن نسرد معلومات ومُقرَّرات، فهذا الموضوع بالذات – الطريق إلى الله تبارك وتعالى، طريق العارفين ومنهاجهم – أبعد ما يكون عن سرد معلومات وحكاية مُقرَّرات، إنه طريق القلوب، طريق الأدواء والمواجيد، طريق الفكر والتأمل الباطني العميق، طريق الأوبة والتوبة، طريق الإنابة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، طريق الصدق! جعلني الله وإياكن وإياكم من هؤلاء الصادقين. اللهم آمين.
يُقال إن السبب في عودة – ولو قلنا في توبة ما أبعدنا النُجعة – الإمام أبي حامد الغزّالي – رضيَ الله عنه وأرضاه – إلى ربه ومولاه الآتي، قد تتساءلون وهل كان شارداً عن الطريق؟ لقد اكتشف ذلك فجأة، أبو حامد اكتشف أنه كان شارداً عن الطريق، مع أنه كان شيخ الإسلام في وقته وكان أعظم حُجة وأعظم علّامة وإمام في فنون العلم كلها، أُجريت له اختبارات مع علماء عصره في الفنون والعلوم المُختلِفة فبذهم جميعاً، وهو دون الثلاثين من عمره، كان باقعة من بواقع الدهر وآية من آيات الله في الذكاء والفهم والتعمق، لكنه بعد أن جاوز الثلاثين وصار في عقده الرابع اكتشف أنه يسعى في هلاك نفسه، عجيب! كيف يسعى عالم مُسلِم في هلاك نفسه؟ نعم، لأنه اكتشف فجأة أنه لا يطلب وجه الله تبارك وتعالى، هو عالم في الفقه والأصول والعقيدة والعلوم العقلية الأُخرى والنقلية أيضاً لكنه لم يكن يطلب بها حقاً وجه الله، فاكتشف أنه يخدع نفسه فضلاً عن أنه يخدع مَن حوله، لكنه يخدع نفسه، فيه كبر! أبو حامد كان فيه كبر كما قال صاحب التاريخ عبد الغافر الفارسي، قال فيه زعارة، والزعارة هي الشراسة في الأخلاق، كان فيه بأو وزهو وكبر، يعتد بنفسه لأنه ذكي جداً وعقل ضخم، لا يأبه بالناس، لا يأبه بالعلماء الآخرين، يستطيع أن يُفحِمهم، ويستطيع أن يتجاوزهم، فكان فيه هذه الزعارة وهذه الشراسة، كان يطلب المناصب وعن استحقاق، أي يطلبها عن استحقاق، أخذ أكبر منصب علمي عن استحقاق كامل، يُحِب الشُهرة، يُحِب الظهور، ويُحِب الانتصار في النقاش والجدال العلمي! كل هذا هلاك، كل هذا لا علاقة له بالدين الحقيقي، لا علاقة له بالله! فيُقال جاءته أبيات – جاءته أبيات في رُقعة -، يقول صاحبها:
أَخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا وَخَلَّفَكَ الْجُهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا.
وَأَصْبَحْتَ تَهْدِي وَلاَ تَهْتَدِي وتُسْمِعُ وَعْظًا وَلاَ تَسْمَعُ.
فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ.
شيئ عجيب، أبيات مُؤثِّرة جداً!
أَخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا وَخَلَّفَكَ الْجُهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا.
وَأَصْبَحْتَ تَهْدِي وَلاَ تَهْتَدِي وتُسْمِعُ وَعْظًا وَلاَ تَسْمَعُ.
لا تنتفع أنت بهذا العلم، لا تنتفع أنت بهذا الوعظ!
فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ.
قال له مثلك كمثل حجر الشحذ، تُشحَذ عليه السكاكين، يُشحَذ عليه الموسى، فيقطع الموسى وتقطع السكين لكن هو لا يقطع، هو حجر! كما قال ابن الجوزي من بعده نعوذ بالله أن ينتفع به – أي بعلمنا – غيرنا ويسعد ونهلك به نحن، فتأثَّر أبو حامد – رضيَ الله عنه وأرضاه – جداً، وهذا عقله الكبير! وانخلع من كل ما كان فيه، ترك كل شيئ، ترك أهله وبناته – ترك البنات – وترك المدرسة النظامية التي كانت مُتفوِّقاً فيها، ترك المنصب والجاه والشُهرة والعلم الظاهر، وهام على وجهه في البلاد – من بلدة إلى بلدة ومن مكان إلى مكان – يطلب الله تبارك وتعالى، الله لا يُطلَب هكذا، لا يُطلَب في أوراق الكُتب، انتبهوا! لا يُطلَب في المُحاضَرات الله تبارك وتعالى، يُطلَب بطريقة مُختلِفة.
خمس سنوات استمرت رحلته، هجرته إلى العالم المُظلِم هذا استمرت خمس سنوات، فعاد خلقاً آخر، عبد الغفّار يقول لم يُصدِّق الناس أن هذا هو أبو حامد الغزّالي نفسه، قال بعد مُدة وتوالت الاختبارات فإذا به خلق جديد، نعم هو غزّالي جديد! أبو حامد – إخواني وأخواتي – بُرهان على أن المرء يُمكِن أن يتغيَّر حتى في سن الأربعين أو الخمسين أو حتى الستين، لكنه يحتاج إلى توفيق إلهي أولاً وإلى صدق إرادة وخلوص قصد ثانياً، وإلا من الصعب! من الصعب أن الكبير يتحوَّل عما نشأ واعتاد عليه – عما نشأ عليه واعتاده – مُدةً من السنين.
ولذلك وضع الله البركة العجيبة في كُتب أبي حامد الغزّالي إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، هناك ألوف من العلماء كتبوا، أبو حامد له نفسٌ خاصٌ، قال الإمام العراقي – الحافظ العراقي وهو الذي خرَّج أحاديث الإحياء في كتابه المُغني عن حمل الأسفار في الأسفار – كتابه لو نظر فيه مُشرِك بحُسن نية لهداه الله تبارك وتعالى، وهذا حقٌ والله! إحياء علوم الدين شيئ عجيب، اقرأي فيه يا أختي واقرأ فيه يا أخي بنية، لا تذهب إليه طالباً للعثرات – الأحاديث الموضوعة، الأحاديث الضعيفة، وشطحات أبي حامد – وإلا لن تنتفع به، اذهب إليه بنية وبتواضع – بتواضع الطالبين القاصدين – وسوف ترى العجب في قلبك بإذن الله تبارك وتعالى، وهذا شأن سائر كُتب أبي حامد التربوية، قال الحافظ العراقي كتابه لو نظر فيه مُشرِك بحُسن نية لهداه الله تبارك وتعالى.
سأحكي لكم قصة عجباً عن إمام العصر، الإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله تعالى عليه، قصة من أعجب ما تسمعون وتسمعن، الإمام الشهيد أنشأ مطبعةً، كان سبب إنشاء هذه المطبعة أصالةً أن يطبع بها إحياء علوم الدين للغزّالي ويُوزِّعه بأثمان رمزية بحيث يُتيحه للعامة، لماذا؟ لماذا الإحياء بالذات وكُتب الإسلام بالألوف؟ وإليكم الحكاية:
كان أحد أبنائه من الشباب المُسلِم – من شباب الجماعة وكان شاباً مُستقيماً وطيب الخُلق وحسن المسلك – اختفى فجأة، تفقَّده الإمام على عادته، وكان يتفقَّد إخوانه وأبناءه دائماً، وهذا من صفات المُربي الناجح، الرسول – عليه السلام – كان إذا غاب أحد أصحابه ثلاثة أيام يسأل عنه، ثلاثة أيام فترة معقولة، قد يكون سافر أو عنده مشغلة مُعيَّنة، لكن إذا غاب ثلاثة أيام فأكثر يسأل عنه، فإن أُخبِر أنه مريض عاده -عليه الصلاة وأفضل السلام – حتى وإن كان في أطراف المدينة، خُلق المُربي العظيم صلوات ربي وتسليماته عليه! فالإمام البنا – رضوان الله عليه – سأل فأخبروه على استحياء لأن الشاب فُتِن، كيف فُتِن؟ كيف؟ قال له فُتِن – والعياذ بالله – بنصرانية، في ذلك الوقت كانت هناك مراكز للتبشير النصراني تُشكِّل مشافي صغيرة، أي مُستوصَفات! مُستوصَف عيادي أو مشفى صغير يُمارِس المسألة العلاجية والطبية في الظاهر، وفي الباطن يُمارِسون على أبناء المُسلِمين التنصير، التكفير والعياذ بالله! هم يُسمونه التنصير وهو التكفير لا التبشير، فهذا الشاب علق بفتاة، فتاة من أصل أجنبي جميلة جداً وحسناء ووضيئة علق بها، فصار يتردَّد على هذا المُستوصَف أو المشفى الصغير مرة ومرة حتى استوثق حبها في قلبه وتأكَّد، فصارحها بالرغبة في الزواج منها والارتباط بها، فقالت له لا، أنت مُسلِم وأنا مسيحية وهذا لا يُمكِن، وهكذا مرة وأُخرى حتى شرطت عليه إذا أردت أن تتزوَّجني فلابد أن تتنصَّر، فرفض في البداية، وبعد مُحاوَلات ومُكايدات وافق الشاب، قال لا بأس والعياذ بالله، فتنصَّر! تنصَّر ولم يتم الزواج، اشترطت عليه شروطاً جديدةً، علينا أن نختبرك، علينا أن نستوثق منك ومن نيتك، وهكذا!
وذات ليلة وهو نائم – وعلى ما أذكر كان في الكنيسة وكان نائماً – إذ سمح له سيد الخلق عليه الصلاة وأفضل السلام، رأى الرسول في المنام مُغضَباً، رأى الرسول – صلى الله عليه وسلم – مُغضَباً! وعن يمينه موسى وعن شماله عيسى عليهما السلام، فدعا به مُتغيِّظاً عليه – في حال حنق وغضب – والتفت إلى موسى وقال يا أخي يا موسى هل يُرضيك ما فعله هذا من أمتي؟ فقال موسى وما فعل يا أخي يا محمد؟ قال قد تنصَّر وترك ديني، قال لا، لا يُرضيني، ثم التفت إلى عيسى – عليه السلام – وقال يا أخي يا عيسى هل يُرضيك ما فعل هذا الشاب من أمتي؟ فقال له – وقد سمع أنه تنصَّر – لا، لا يُرضيني، قال الشاب فجعلت أبكي وأرتعد وأقول يا رسول الله المدد، أُريد عون الله، أُريد التوفيق، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأشار بيده انظر، تلك الجنة، اذهب وارق فيها إلى الفردوس، وفي الفردوس تجد أبا حامد الغزّالي ومعه إحياء علوم الدين، اجلس إليه وتلق عليه إحياء علوم الدين، قال الشاب فصعدت في الجنة حتى صرت في الفردوس، الفردوس الأعلى! أعلى الجنة ووسط الجنة وتحت عرش الرحمن، ومنها يتفجَّر أنهار الجنة، أي تتفجَّر أنهار الجنة، قال فتلقيت عليه شيئاً من إحياء علوم الدين وتغيَّر ما بي، هذا في الرؤيا! قال فلما استيقظت فلا والله ليس على وجه الأرض شيئٌ أحب إلىّ من الإسلام وأهله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شيئ أبغض إلىّ من دين النصرانية وتلكم الفتاة، شفاه الله من حُبها، فصار يُبغِضها بُغضاً شديداً، وعاد هذا الشاب إلى الإمام حسن البنا – رضوان الله تعالى عليه – وحكى له هذه القصة المُؤثِّرة، تأثَّر بها الإمام جداً وإخوانه، ولأجل هذه الحكاية أمر بإنشاء مطبعة خاصة – أيها الإخوة والأخوات – تطبع الإحياء مُفرَّقاً في أجزاء وتبيعه بثمن زهيد للناس ولمَن أراد.
فهذه قصة أبي حامد رضيَ الله عنه وأرضاه، إنما ذكرتها لكي أقول لكم ولكن يا إخواني وأخواتي ليست العبرة بالعلم، العبرة ليست بالعلم ولا بالكلام ولا بحفظ الأحاديث والآيات والأحكام، كل هذا وحده غير مُجدٍ، أحياناً يكون الجهل خيراً منه! كيف؟ كيف يكون الجهل خيراً منه؟ إذا ظلت هذه الأشياء حُججاُ عليكِ وعليكَ دون أن تعمل بها وربما تعمل بضدها والعياذ بالله، هذه ستكون حطباً يُوقَد عليك في نار جهنم، شيئ مُخيف!
عائشة – أم المُؤمِنين رضوان الله تعالى عليها – كان يأتيها أحد تَلاميذتها من التابعين، فآتاها مرةً وقال علِّميني يا أماه، فقالت له يا فلان ماذا عملت فيما علمت؟ أنا علَّمتك لأيام، أفضيت إليك بأحاديث وأشياء وعلوم، قال لها أستكثر، فقالت له لا، لا تستكثرن حُجج الله عليك، المسألة ليست مسألة هات هات هات من العلم، لا! هذا العلم للعمل، إذا لا تُريد أن تعمل به فما حاجتك به؟ ما حاجتك بنيله؟ العلم للعمل.
في حديث أبي هُريرة في صحيح مُسلِم – رضيَ الله تعالى عنهما – وهو حديث مُخيف تتقطَّع له نياط القلوب يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أول مَن تُسعَّر به نار جهنم يوم القيامة – مَن؟ أهو مِن الكُفّار؟ أهو مِن الفُسّاق؟ أهو مِن الفّجّار؟ وطبعاً المقصود من الأمة، أي من هذه الأمة – عالمٌ ومُجاهِدٌ ومُتصدِّق مُحسِنُ، عجيب! تُسعَّر بشيخ قد يكون إماماً من أئمة الدين، قال عالم! يُؤتى بالعالم فيُوقَف بين يدي الله، فيقول له – تبارك وتعالى – يا عبدي – بعد أن يُعرِّفه نعمته عليه أو نعمه عليه – ألم أُوتِك كذا وكذا وكذا؟ ألم أُعطك عقلاً وذاكرةً وحافظةً وفهماً؟ ألم… ألم… فيُقِر! يقول بلى يا رب، بلى! يقول فماذا عملت؟ فيقول يا رب تعلَّمت القرآن وعلَّمته للناس، يقول الله – تبارك وتعالى – كذبت، بل فعلت ذلك ليُقال عالم، كل قصدك فقط أنت الشُهرة والأُبهة والحيثية، أن يُقبِّل الناس يديك ورجليك وأعتابك ورأسك، أن تكون عالماً بين الناس، فقد قيل، قالوا! أنت طلبتها وأخذتها في الدنيا، لا أجر لك عندي اليوم، لا أجر لك! وتقول الملائكة كذبت، فيُؤخَذ – والعياذ بالله – وفي رواية يُسحَب على وجهه ويُكَب في جهنم، الله أكبر! مشهد مُخيف.
يوم القيامة أخواتي وإخواني سنرى مشاهد ومرائي عجيبة لا تخطر على بالنا، هذا أحد المشاهد، أن نرى شيخاً عالماً – وربما فعلاً كنا نُقبِّل أعتابه وقدميه ويديه ورأسه – تُسعَّر به نار جهنم، نراه حطباً! لأنه كان يأمر الناس ولا يأتمر، وينهى الناس ولا ينتهي، كنا نرى منه الظاهر ولا نعرف منه حقيقة الباطن!
روى الإمام ابن ماجه – رضيَ الله تعالى عنه – عن ثوبان مولى رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه ومَن والاه – قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لأعلمن أُناساً من أُمتي يأتون يوم القيامة بأمثال جبال تهامة أعمالاً بيضاً – أعمالاً صالحةً مثل الجبال، مثل جبال تهامة في الحجاز، أعمالاً صالحةً من صلوات وأذكار وصوم وحج وعُمرة وتصدق – فلا يُبالي بها الله ويأمر بها فتصير هباءً منثوراً، وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ۩، فقالوا له مَن؟ أليسوا منا؟ قال بل هم منكم، إخوانكم من هذه الأمة، يُصلون ويصومون ويأخذون وهناً من الليل – حتى يُقومون الليل، أي لهم صلاة ولهم صوم وعبادة ويُقومون الليل، لهم حظ في القيام، عجيب! فما مُشكِلتهم؟ ما المُشكِلة؟ ما الخطأ؟ – ولكنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، الله – عز وجل – يقول لأمثال هؤلاء – يقول للواحد منهم – عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك أم أخف المُطلِعين عليك؟ لو رآك شيخك لا تفعل هذا، لو رآك أبوك أو أمك لا تفعل هذا، لو رآك رسول الله لا تفعل هذا، لكن أنت تُوقِن أن الله يراك وتفعل هذا! أين الإيمان؟ أين الحياء من الله تبارك وتعالى؟ أين الحياء؟ لِمَ لا يُوجَد؟
انتبهوا إخواني، هذه دلالة خطيرة، لا نتحدَّث في قضايا عقدية تتعلَّق بإيمان وكفر، وإنما نتحدَّث في دلالات تربوية مُخيفة جداً، لو صح الإيمان لأحدنا كيف يتجارأ وكيف يتجاسر على أن ينتهك حُرمة من حُرمات الله إذا خلا؟ أين الإيمان؟ هنا عليه أن يقف مع نفسه بصدق ويقول ما حظي من الإيمان؟ بأي معنى أنا أفهم الإيمان؟ بأي معنى أنا أعيش الإيمان؟ بأي معنى أعيش الإيمان؟
ولذلك العلم وحده ليس يُجدي، علينا أن نعمل بما نعلم ونعمل حقيقةً وبإخلاص، انتبهوا! هنا ليست المُشكِلة أيضاً في أن نعمل، هذا جُزء من المُشكِلة، الجُزء الآخر أن نعمل بإخلاص، نعمل عملاً صالحاً وبإخلاص لله تبارك وتعالى، إن فقدنا الإخلاص تعنينا وما وصلنا، يا للأسف! وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۩ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ۩ تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ۩، تعمل وتتعب وفي النهاية إلى جهنم والعياذ بالله، يُمكِن أن يكون المُسلِم كذلك، يعمل ويتعب ثم يذهب إلى جهنم، لماذا؟ لا إخلاص، والعلم بالذات – نحن نطلب العلم، لنا علاقة بالعلم – شروطه من أصعب الشروط يا إخواني!
رُئيَ أبو حنيفة في المنام – الإمام الأعظم رضيَ الله عنه وأرضاه – بعد إذ توفاه الله، فقيل له يا إمام ما فعل الله بك؟ قال الحمد لله خيراً، أنزلني مُنزَلاً خيراً، وغفر لي، قيل يا إمام بم؟ بعلمك؟ أكيد هذا بالعلم العظيم الذي عندك، ما شاء الله أنت إمام! قال كلا،هيهات هيهات، إن للعلم شروطاً وآفات، وأين نحن منها؟ هذا العلم له شروط وإلا لن ينفع بشيئ، طبعاً هذا ليس تزهيداً في العلم، انتبهوا! هذا ليس تزهيداً، والعلم معروفة مثابته في الدين، ولكن تذكيراً بوجوب الإخلاص وتفتيش القلب، بَلْ الْإِنْسَان عَلَى نَفْسه بَصِيرَة ۩، كيف يُمكِن أن يزعم طالب علم أو عالم أنه يطلب العلم لله؟ وهذا العلم لا يتأدى به إلى أن يتواضع، لا يتأدى به إلى أن يُحِق الحق، لا يتأدى به إلى أن يعترف بخطئه، بل يتأدى به إلى الحسد والمُنافَسة غير الشريفة والبغضاء والشنآن والمُعاداة – والعياذ بالله – والتحيز إلى الباطل إسعاداً لبشر وأُناس وتوفيراً لمصالح ومزايا، غير معقول! ثم تقول لي هذا علم، أي علم؟ بالعكس! هذه هلكة، هذه الهلكة بعينها، إذن بم يا إمام؟ قال بما قال الناس في وليس في، أبو حنيفة بُهِت كثيراً حتى من أئمة الإسلام، وقيل عنه زنديق، وقيل ما ولد في الإسلام أشأم عليهم منه، وقيل وقيل وقيل! وهو بريء رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، ظلموه!
لذلك كان الإمام الشافعي يقول على المرء العاقل أن يكون له خبيئة عمل، العمل الظاهر غير مضمون يا أخواتي، الآن بعض الناس يقول هنيئاً للعلماء وطلّاب العلم فهم يُحاوِرون ويخطبون، والله مُغفَّل! مُغفَّل مَن يظن هذا، أنا شخصياً – مثلاً – خطيب وأُدرِّس وما إلى ذلك، والله الذي لا إله إلا هو – أُقسِم بالله العظيم – ما اعتقدت ولست أعتقد لحظة من زمان أن الله تقبَّل مني كلمة وليس خُطبةً أو درساً، أُقسِم بالله العظيم! وقال هذا واضح، وأقول هذه حقيقة، لماذا؟ لأن الواحد منا إذا مُدِحَ يرتاح، إذا ذُم يشمئز قلبه، إذن أين الإخلاص؟ إخلاص ماذا؟ انتبهوا! يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا وواضحين، لا يخدع المرء نفسه، لا يخدع نفسه! يجب أن أكون صادقاً معي نفسي وإلا سأهلك.
اسمعوا هذه الحكاية العجيبة عن أبي منصور بن ذكير – رضيَ الله عنه وأرضاه – لتعرفوا شرط الإخلاص، كم هو صعب شرط الإخلاص! أبو منصور بن ذكير كان من عيون ومشاهير الصالحين والعابدين في زمانه والمُجاهِدين، يقول ابنه فلما احتُضِر – رضيَ الله عنه وأرضاه – جعل يبكي، فقلت يا أبتِ تبكي وأنت مَن أنت؟ معروف أنك مُجاهِد كبير ومُتصدِّق – ما شاء الله – وعالم وعابد وذاكر ومُتألِّه، واضح – ما شاء الله – العمل الحسن، تبكي وأنت مَن أنت؟ قال يا بني أبكي، فُتِحَت لي طريق لم أسر فيها من قبل ولا أدري أين تتأدى بي، طريق لا أدريه، وهذا هول المُطلَع! قال سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، حكيم أمة محمد، هكذا لقبه! حكيم أمة محمد – أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، قال وأبكاني هول المُطلَع عند غمرات الموت، المُطلَع يا إخواني وأخواتي هو الشرف والمكان المُرتفَع الذي يقف عليه المرء فيطلع على ما دونه، سُميت هذه اللحظة – لحظة الانتقال من الدنيا إلى البرزخ وإلى العالم الآخر – بلحظة الاطلاع، هذا هو المُطلَع، في هذه اللحظة أنت الآن على شرف، ستُشرِف على مصيرك الأبدي.
الفاروق – رضوان الله تعالى عنه – كان يقول لو أن لي ما في الدنيا ومثله معه لافتديت به من هول المُطلَع، عمر بن عبد العزيز – رضيَ الله عنه وأرضاه – جاءته جارية، قالت له يا سيدي رأيت الليلة رؤيا أخافتني وأفزعتني، قال لها ماذا رأيتِ؟ قالت رأيت كأن القيامة قامت، فجعل يضرب، ونُصِب لي الصراط على متن جهنم، هذا الجسر في جهنم! قال نعم، وازداد اضطراباً واصفر وجهه، قالت ونُوديَ على الخلق، فمنهم مَن يتكدس، ومنهم مَن يهوي، ومنهم مَن يزحف، ومنهم مَن يُخمَش، ومنهم مَن ينجو، ثم قيل عمر بن عبد العزيز، فخر صاعقاً، لم يستطع المسكين أن يستمع، هي تحكي رؤيا، فخر صاعقاً، فقالت يا سيدي، يا سيدي لقد نجوت، لقد نجوت! لكنه لم يسمعها لأنه فقد الوعي، شيئ مُخيف أن تعرف مصيرك، هذه رؤيا لم يستطع أن يستمع إليها, في لحظة الموت هذا المصير سيظهر، نسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا وكلماته التامة أن يجعلنا من الناجين والناجيات. اللهم آمين.
هول المُطلَع شيئ مُخيف، فأبو منصور بن ذكير كان يقول يا بني هذه طريق فُتِحَت لي لم أسر فيها من قبل – لم أسلكها من قبل – ولا أدري أين تتأدى بي، لذلك أنا أبكي، أنا خائف، طبعاً أنا خائف! هذا هول المُطلَع، قال ثم أسلم النفس، قال فأُريته في المنام بعد أربع – بعد أربع ليال -، فقلت يا أبتِ ما فعل الله بك؟ قال يا بني وقفت بين يدي رب كريم عادل حكيم غفور رحيم، وخُصماء كثيرون يُناقِشونني، خُصماء؟ نعم، واحد يقول له أنت – مثلاً – كسرت خاطري، أنت صفَّرت وجهي مرةً، أنت كأنك ازدريتني، وهكذا! كل واحد يُطالِب بحق ويُطالِب بشيئ من هذا الرجل الصالح المُجاهِد العابد العالم، وخُصماء كثيرون يُناقِشونني! قال ثم قال لي الله – تبارك وتعالى – يا أبا منصور عمَّرتك سبعين سنة – أعطيتك عمراً وصل إلى سبعين سنة – فماذا معك اليوم؟ عمَّرتك سبعين سنة فماذا معك اليوم؟ قال قلت يا رب أربعون حجة – حج أربعين حجة – وثلاثون غزوة – غزا في ثلاثين مرة – وأربعون ألفاً من الدنانير على فقري تصدَّقت بها، قال ما قبلت، الله أكبر! كل هذا؟ قال ما قبلت، قلت يا رب إذن أنا هالك، هذا كله معي، هذا جهدي في سبعين سنة، إذا هو غير مقبول فإذن أنا هالك، قلت يا رب إذن أنا هالك، قال يا أبا منصور أنا أكرم من أن أُعذِّب مثلك، أما تذكر يا أبا منصور يوم كذا وكذا إذ رأيت شوكاً في الطريق وأذىً فنحيته من طريق المُسلِمين؟ فقلت نعم يا رب أذكر، بلى! قال قد قبلت وغفرت لك، ادخل الجنة، الله أكبر! بعمل رآه حقيراً – نحى شوكاً وأذىً عن طريق الناس – نجا، هل تعرفون لماذا نجا به؟ لأنه عمله لله، لم يُدِل به، لم ير نفسه عند نفسه أنه عامل وأنه قدَّم شيئاً أبداً أبداً، هكذا عمله بملكة إيمانية دون أن يتلمَّحه، دون أن يُقيم له وزناً، دون أن يعتبره، ما ظن أنه ربما حتى ينجو به، الله قبله منه!
هناك منطق – إخواني وأخواتي – بعض الناس لا يفهمه ويأتي يُناقِشه بنوع من الاعتراض والحيرة، يقول لماذا؟ كيف؟ هذا قريب من العدل وهذا بعيد من كذا، هل الله يكون كذا؟ انتبهوا! أنا سأقول لكم شيئاً حتى نفهم عن الله حق الفهم – بإذن الله تبارك وتعالى – إن استطعنا، لا أدري! فلست هناك، الآن لو أتيتم إلى ملك من الملوك أو حتى إلى أمير في إحدى دول الخليج من الأمراء أو إلى رئيس من الرؤساء، في حضرته لو ذكر شيئاً عن نفسه فأنتم أثنيتم على هذا الشيئ وقلتم فلان عنده مثل هذا الشيئ، يُعجِبه أو لا يُعجِبه؟ يُغضِبه جداً!
أنا كنت في زيارة لأحد الرؤساء قبل فترة فقال لي أحد مُستشاريه كان لدي أربعة مناصب، سلبني ثلاثة بهذا الخطأ، في حضرة الكبار لا تقل لهم نعم مثل ما عندكم – ما شاء الله – هم عندهم، لا يُمكِن! أسوأ من هذا أن تأتي إلى هذا الكبير – الرئيس أو الأمير أو الملك أو السُلطان – وتقول له مولانا، يا تاج رؤوسنا، نُقدِّم لكم هذه الهدية ولخادمكم فلان، سيسطو بك! أليس كذلك؟ لا يجوز، أدق من هذا أن تقول له يا حضرة السُلطان ثم تقول لوزيره يا حضرة الوزير، لا يجوز، أليس كذلك؟ هل فهمتم سر المسألة؟ الله – وله المثل الأعلى – يجب له أن يُخَص بالخطاب، بالعبودية، بالعمل، بالنية، وبشيئ لا يشركه فيه أحدٌ من خلقه، لا نبي مُرسَل ولا ملك مُقرَّب ولا أحد، فضلاً عن أن يشركه فيه أمثالنا من الفقراء، بل لعل بعضنا أن يكون دون ذلك، لا يجوز، هل الله لن يقبل؟ طبعاً لن يقبل، ولماذا يقبل؟ الله – تبارك وتعالى – هو الذي خلق، هو الذي أعطى، هو الذي أكرم، وهو الذي أنعم، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، كل شيئ منه! ثم تأتي تعمل وأنت تُريد وجهه وتتلمَّح وجه غيره، أليس كذلك؟
المسألة صعبة، أعرف أنها صعبة، صدِّقوني أصعب شيئ على السالك – وأنتم تُريدون أن أتكلَّم في طريق السالكين وفي منهاج العارفين – على الإطلاق تصفية النوايا، أصعب شيئ – إخواني وأخواتي – أن تستجيب لنيتك، تعلم أنني الآن إذ أتكلَّم لا أتكلَّم لوجه الله، إذن لن أتكلَّم، صعب، تعلم وتتكلَّم! تعلم أنني الآن سأتقدِّم للصلاة وأُحِب أن يسمعوا صوتي، لن أتقدَّم، وتتقدَّم! بئست الصلاة، بئس الإيمان، لن أتقدَّم، لأنني أُريد أن أتقدَّم ليسمعوا صوتي، إذن أنا لا أُصلي لله، أنا أُعبِّد الناس لي، أليس كذلك؟ طبعاً بعض الناس يقولون لك لا، هذه فُرصة، لماذا؟ فُرصة! هناك علماء ودُعاة يجب أن يسمعوك، لا أُريد أن يسمعوني، ما شأني بالدُعاة والعلماء؟ أنا شأني برب الدُعاة والعلماء، هذا شأني، أُريد أن أُربي نفسي، أُريد أن أُنقِذ رقبتي وأن أفتكها، أليس كذلك؟ فأنت تعلم ولكنك تُخالِف حتى علمك، وتعرف أنك لا تفعل بإخلاص وتُخالِف، هل تعرف لماذا؟ هذه حلقة ملعونة، حلقة شبه مُغلَقة أحياناً، لكن – الحمد لله – يُمكِن أن تُكسَر بتوفيق الله وإسعاده، إجمالاً لضعف اليقين، لا يُوجَد يقين بالله تبارك وتعالى، لو الإنسان عنده يقين أن كل ما له في الغيب سوف يناله لما فعل هذا، أي لن يفوتك شيئ، انتبه! إذا كُتِب لك شيئ – كُتِب لك مقام، كُتِب لك رزق، كُتِبَت لك نعمة – فوالله العظيم لن يُؤخِّره عنك أهل السماوات والأراضون لو اجتمعوا وأرادوا ذلك، سيأتيك! أليس كذلك؟ هذا لطف الله تبارك وتعالى، لا تخف، سيأتيك! وإن فعلت العكس سيأتيك العكس، فتُصبِح معكوساً منكوساً، تُعاكِس ربك في الإخلاص له وتُريد أن يراك الناس وأن يُعظِّموك، لن يُعظِّموك، لن يُعظِّموك حقيقةً ولن يُحِبوك حقيقةً، ستدفع الثمن باهظاً، صعب! الإخلاص عزيز، قال عمر بن عبد العزيز لو أعلم أنه قُبِلت مني ركعتان لقرت عيني ولأفرغ روعي، ولكن من أين والإخلاص عزيز؟ قال صعب، الله يتقبَّل ركعتين بإخلاص، قال ومن أين؟ قال صعب جداً هذا.
طبعاً لن أُكمِل لكم الحديث الصحيح الجليل لأنكم عرفتم وجهه ووجهته، يُؤتى بالمُجاهِد ويحدث نفس الشيئ، يقول قاتلت في سبيلك وقُتِلت، يقول كذبت وإنما ليُقال شجاع، ويُكَب في جهنم، يُؤتى بالمُتصِّدق فيقول تصدَّقت وفعلت وفعلت، كذّاب! الله يقول كذبت، إنما فعلت ذلك ليُقال مُتصدِّق جواد، ويُسحَب ويُكَب، ثم ضرب النبي على فخذ أبي هُريرة – رضيَ الله عنه – وقال يا أبا هُريرة أولئك أول مَن تُسعَّر بهم جهنم، وأولئك شر خلق الله، أخرجه مُسلِم! عالم، مُجاهِد، ورجل جواد كريم، أول مَن تُسعَّر بهم جهنم.
طبعاً ما أجمل الإخلاص وثمرات الإخلاص يا إخواني وأخواتي! ما أجمل الإخلاص وثمرات الإخلاص! العمل المُخلص عمل مُبارَك، أنا دائماً أُفكِّر – ويشهد الله تبارك وتعالى – وأقول هل الجامعة الكريمة – مثلاً – ومثلها ألوف الملايين هل تعرفون هي مِن أنفاس مَن؟ أكثر الدُعاة اليوم والعلماء المُبارَكين – كل هؤلاء – من أنفاس الإمام حسن البنا، هذا الرجل الذي أطلق هذه الحركة العجيبة وخرَّج هؤلاء الرجال، ومات دون الخمسين من عمره، في حوالي الثالثة والأربعين، عجيب! أي وهو شاب، مات شاباً، ما سر هذا الرجل؟ لماذا؟ هناك علماء أعلم منه بدرجات، بدرجات أعلم منه في العلم، وهو لم يتفرَّغ للعلم، تفرَّغ للدعوة بعد ذلك على أنه من أذكى عباد الله، معروف! وهو واسع الحافظة، لماذا؟ أنا أقول لكم باختصار الإخلاص، لدينا في فلسطين الإمام الشهيد – وهو إمام المُجاهِدين إن شاء الله – الشيخ ياسين، أحمد ياسين قدَّس الله سره، لماذا؟ الرجل قعيد مُقعَد، ما هو علم أحمد ياسين؟ مُعظَم طلّابه أعلم منه بدرجاته، لا لُغته لُغة علماء ولا تحصيله تحصيل علماء، كان محدوداً جداً في العلم، لكنه كان جبلاً، أنا أقول لولا هذا الرجل لضاعت فلسطين، هذا أحيا الله به أمة وقضية، ما السر فيه إذن؟ الإخلاص، الصدق مع الله تبارك وتعالى، لا هي بالقوة، لا هي بالعلم، لا هي بالخطابة، لا هي بكثرة الحفظ، ولا هي بالتمشيخ أبداً أبداً أبداً، الإخلاص! الإخلاص سر البركة، الله إذا قبل شيئاً جعله مُبارَكاً ونماه، يحيا ويُحيي به تبارك وتعالى، هو هذا، الإخلاص!
إلى جانب الإخلاص إخواني وأخواتي لابد من التواضع، وطبعاً المُخلِص مُتواضِع، لا يُمكِن أن يكون العبد مُخلِصاً ويكون فيه بأو وزهو وكبر، لابد أن يكون مُتواضِعاً، أول التواضع ألا تشهد نفسك مُتواضِعاً وهو ذروة التواضع، هذه حقيقة التواضع، إن لم يكن عندكَ أو عندكِ شيئٌ من هذا ما شممت رائحة التواضع، بعض الناس يقول أتواضع، إذن هو مُتكبِّر!
أحد أحفاد جُبير بن مُطعِم بن عدي كان معروفاً بالكبر والبأو، وهذا فيه حمق، هذا الرجل كان فيه حمق، نوع حمق! جاء مرة إلى حلقة فيها قرّاء يتلون كتاب الله فجلس بينهم، فقالوا ما أردت؟ هل أردت أن تستمع إلى القراءة؟ فقال لا، أردت أن أتواضع، فعلموا أنه لا ينفك عن كبره، هو يرى نفسه أنه إن جلس بينهم وهم قرّاء أنه يتواضع، المسكين مُتكبِّر طبعاً، مَن الذي يرى أنه مُتواضِع؟ مَن يرى نفسه أعلى من الناس، تقول أنا فوق الناس وسأتواضع لهم، هذا يعني أنك مُتكبِّر، الذي يُثبِت له نفسه التواضع مُتكبِّر طبعاً، لأنه يتواضع لمَن؟ ستقول لي لم أفهم، النبي تحدَّث عن التواضع وقال مَن تواضع لله، التواضع لله! بمعنى طلب وجه الله، لكن كيف؟ التواضع لله يكون إزاء الناس، النبي يُخبِر عن حقيقة، يُخبِر عن حقيقة عبد معجون بالتواضع، حقيقته التواضع وليس دعوى التواضع ولا مشهد التواضع، هو لا يشهد تواضعه، لذلك المُتواضِع لا يُمكِن أن يُثبِت لنفسه منزلة التواضع، يقول كيف أتواضع؟ بالعكس! هذا شيئ طبيعي وأقل من طبيعي، أنا أفعل الشيئ الطبيعي، كيف يُقال هذا غير طبيعي؟ تقول له أنت رجل غني أو أنت رجل عالم أو أنت رجل صاحب مسئولية وحيثية، لكنه يقول لك لا، هذا عادي بل أقل من عادي، لماذا؟ أنا أفعل هذا بشكل عادي، وكلكم تفعلونه! تقول له لكن لست كمثلنا، هو يرى أنه مثلنا أو أقل من مثلنا، هذا المُتواضِع.
عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليه – أمير المُؤمِنين يا إخواني وأخواتي، لم يكن رئيس دولة، لم يكن ملكاً، هذا كان يحكم سبع عشرة دولة، شيئ مُذهِل، لا تظنوا أنه شخص يلبس مُرقَّعة وينتهي الأمر، لا! شخصية هائلة، نحن اختزلناها في العدل والتُقى وهو كذلك، إمام العابدين والمُتقين، ولكنه شخصية حاكمة، إمبراطور باللُغة الغربية، لكن هذا خليفة، كان يمشي في الشارع ويلقط النوى والنكث، أمير المُؤمِنين عمر! النوى – نوى التمر – يأخذه، ويضعه في جيبه، النكث – خيوط من صوف أو وبر أو شعر أو أي شيئ منكوثة ومنقوضة – يأخذه، ويضعه في جيبه، فإذا مر بدار أُناس حدفه في دارهم وقال انتفعوا بهذا، تواضع عجيب جداً جداً، أي أنه يخدم كالزبال حتى تنتفع الناس بهذه الأشياء، لعل الناس ينتفعون بها، أمير المُؤمِنين يفعل هذا، والله شيئ عجب، شيئ لا يُصدَّق يا أخي، شيئ لا يُصدَّق!
الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – مرة بالكوفة كان يجلس في السوق إلى أحد تَلاميذه، اسمه ميثم التمّار، لأنه يبيع التمر، فاستأذنه ميثم وقال يا إمام أُريد أن أذهب لقضاء حاجة، فارقب لي الدُكان، قال لا بأس، فذهب والإمام – أمير المُؤمِنين – يحرس له دُكانه، وجاء بعض الناس من الرجال والنساء وأرادوا أن يشتروا، فكال لهم وهم لا يعرفون أن هذا عليّ بن أبي طالب ويظنونه ميثم التمّار، عادي جداً قال، ما المُشكِلة؟ أقضي حاجة لأحد تَلاميذي لمُدة نصف ساعة، انظروا إلى هذا، تواضع عجيب، عجيب وغير معقول! كان أمير المُؤمِنين ويركب على حمار تخط رجلاه، لم يركب على فرس أو على برذون وإنما على حمار تخط رجلاه، رجلاه تصلان إلى الأرض، ويلبس أيضاً على نحو مما كان يلبس أخوه عمر رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما، مُنتهى التواضع!
الأحنف بن قيس سيد قومه، الذي قيل فيها – أخواتي وإخواني – هذا الرجل بإشارة من أُصبع يده يُشهَر عشرة آلاف سيف، يُشهَر عشرة آلاف سيف بإشارة! زعيم عظيم، وهو سيد من سادات التابعين، ويُضرَب به المثل في الحلم، يقولون أحلم من الأحنف، وكان تَلميذاً للإمام عليّ عليه السلام، هذا الرجل رأته امرأة جالساً أمام بيته ولم تعرف أنه الأحنف بن قيس سيد قومه، فقالت له يا عبد الله – وكانت ساقية تأتي بالماء إلى الناس – سأضع عندك هذه الراوية فارقبها لي حتى أعود، قال نعم، أنا أعمل هذا، فوضعت الراوية – قربة كبيرة – وذهبت، وكان على موعد معه بعض إخوانه لقضاء شأن من الشؤون العامة، فأتوه فقال لا، أنا في عمل حتى أفرغ منه، ما هو العمل؟ قال أنا طُلِبَ مني أن أرقب هذه الراوية، تواضع حقيقي! لم يقل لها هل أنتِ مجنونة؟ ألا تعرفين مَن أنا؟ أنا الأحنف، أنا! أسوأ وأشأم ما عُصيَ به الله: أنا، أول كلمة عُصيَ بها الله: أنا، مَن قالها؟ رأس المشؤومين لعنة الله تعالى عليه، قال أنا! قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۩، لا يُمكِن لأحد بإزاء الله أن يقول أنا، ما أنا؟ أنت ماذا؟
أعرف رجلاً – أيها الإخوة والأخوات – في ألمانيا كان مُثرياً مُتموِّلاً لديه مئات الملايين، لا أقول لديه الملايير، فلست أُحقِّق هذا، لكن لديه مئات الملايين، مليونير! حدَّثني الأستاذ الداعية عبد الحليم خفاجي – حفظه الله – وقال لي يا أخي في ظرف شهور يسيرة صار يقبل الصدقة، كل شيئ انتهى، قال لي والله ليس عنده ما يدفع به أُجرة المنزل، ندفعها عنه ونُخرِج هدايا وصدقات له، افتقر! وحدَّثت أخواتي وإخواني عن زميل كنا نجلس معه هكذا ونتحدَّث، فاستأذن ودخل الحمام لكي يتوضأ، فراث علينا لرُبع ساعة ثم لثُلث ساعة، فكلَّمناه، قلنا له يا إسماعيل، قال إسماعيل؟ إسماعيل وإسحاق، إسحاق رابين Ishaq Rabin عليه السلام، قلنا له يا إسماعيل، فإذا الشاب جُن، جُن! دخل عاقلاً – هذا في دقائق – وخرج مجنوناً، فشيَّعناه إلى أهله مجنوناً، المال يُمكِن أن يذهب في يوم بل في لحظة، العقل يذهب في أقل من لحظة، العقل!
أحد إخواني كنت أضرب به المثل في الرصانة والرزانة والعقل، يعلم الله كنت أضرب به المثل وكان مثلاً في ذلك، سهر عندي في بيتي إلى الساعة الثانية عشرة – إلى مُنتصَف الليل – ثم استأذن، يركب الــ Subway هذا أو الــ Underground، واتصل بي بعد زُهاء دقائق – خمس دقائق – فإذا بنبرته وكلامه وتعبيره مُختلِف تماماً، لأكتشف بعد قليل – في أقل من دقيقة – أنه جُن، وإلى اليوم مجنون، تخيَّلوا!
إياكم أن تثقوا بشيئ، لا ثقة إلا بالله فقط، العقل يذهب، الصحة تذهب، يقول آه ويشعر بعلة، يذهب إلى الطبيب فيكتشف وجود سرطان مُتقدِّم، لأن السرطان مرض صامت Silent illness، لعنة الله عليه، يأكل الأحشاء وبعد ذلك حين يُكتشَف يكون الوضع مُتأخِّراً جداً Too late، انتهى كل شيئ! يتألَّم فيعرف بوجود السرطان، وهذا يعني أن بقي لديه شهران أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، ثم يموت وينتهي، الله أكبر! لا تُوجَد ثقة بشيئ، فلماذا الإنسان يفتخر ويتكبَّر ويرى نفسه؟ لماذا؟ الكبرياء لله يا إخواني، فقط الكبرياء لله، ليس للبشر!
بعض الناس للأسف الشديد يدخله نوع من العُجب، ليس الكبر وإنما العُجب، ما الفرق بين الكبر والغرور والعُجب؟ هاك فروق – إخواني وأخواتي – بني الكبر والغرور والعُجب، في اللُغة العامية اليوم في العالم العربي لا يُميِّزون بين المغرور والمُتكبِّر، أليس كذلك؟ يقولون مُتكبِّر مغرور، لا! يُوجَد فرق، معروف الكبرياء، أما الغرور فجوهره ولُبه الجهل، هل فهمتم كيف؟ مثلاً إنسان يرى أنه ولو كان لا يُصلي لكنه يتصدَّق وما إلى ذلك، فالصلاة ليست مُهِمة كثيراً، هذا إنسان مغرور، أنت جاهل، كيف تقول هذا يا أخي؟ إذا كنت لا تُصلي فأنت على خطر عظيم جداً، لا حظ في الإسلام لمَن لا صلاة له، إنسان آخر – مثلاً – يُصلي ويصوم ويحج ويعتمر ويفعل أفعالاً طيبة جداً جداً، لكنه يتسامح – والعياذ بالله – في الفاحشة، أحد الناس مرة – تعيشون فعلاً وترون العجب، تعيشون وترون العجب – حدَّثني عن نفسه فظننت أنه من الصالحين، يُحدِّثني عن همومه وعن لوعته ويقول لِمَ يتسامح المُسلِمون في إلقاء الحب في أرض الحرم؟ أي إلقاء القمح هذا، قال لا يجوز، قال أنا أمي علَّمتني أن هذه النعمة لابد أن تُحفَظ، قلت هذه عائلة طيبة، وبعد ذلك قال شيخ أسألك سؤالاً، وهذا كان في رمضان بعد صلاة التراويح، يسألني عن أنه مُتزوِّج وعنده أولاد ولكنه يرتكب الفاحشة في خارج رمضان، فقلت ما هذا؟ ما هذا؟ أي فهم للدين هذا؟ يظن أن الصلاة والصوم ولقط الحب من الأرض ولقط كسر الخُبز تنفعه لكن الزنا لا بأس به، شيئ غير معقول يا أخي! وبالمُناسَبة بعض المُسلِمين على هذا النحو، يتشدَّد جداً في لبس الجلباب وإطالة اللحية وكيفية وضع اليدين في الصلاة والهوي على الركبتين أو اليدين ويُؤلِّف في ذلك – إلى آخره – لكنه مُتساهِل في غيبة المُسلِمين، في الحقد على الناس، في السعاية بينهم والوشاية، في التأليب بينهم، في طعن أعراضهم، وفي بهتهم! غير معقول يا أخي، كيف تفهم الدين يا أخي؟ كيف تفهم الدين؟ لا تفهمه أبداً، هذه الأشياء نحن يُمكِن أن نتساهل فيها – في اللحية والجلباب – لكن لا نتساهل في الكبائر كالغيبة والنميمة وكره المُسلِمين والتفريق بينهم والتأليب عليهم، هذا لا يُتساهل فيه، عكسوا الآية، عكسوا الأمور!
نرجع إلى موضوع العُجب، العُجب – إخواني وأخواتي – أن الإنسان يعمل عملاً صالحاً ثم يدخله نوع من الاستيثاق منه، كأن يقول الحمد لله، فعلت شيئاً طيباً، لا يُرائي – انتبهوا! لا يُرائي، المُعجَب ليس شرطاً فيه أن يكون مُرائياً، لا يُرائي وقد يعمله فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى – لكن عند نفسه يرى أنه عمل عملاً جيداً، يقول عملت عملاً جيداً وإن شاء الله هذا سينفعني وقد ينقذني، الآن وقفت في الصلاة قليلاً وهذا العمل كان كبيراً جداً، لا! لا تُعجَب بعملك، أي لا تستكثر عملك، باختصار العُجب هو أن تستكثر عملك، ترى أنه كبير وطيب، لا! دائماً عليك أن تنظر إلى عملك على أنه صغير وعلى أنه لا يكفي، وتقول لابد أن أُواصِل ولابد أن أزداد، وبالمُناسَبة هذا ينفعك في الدنيا والآخرة، دائماً الذي عنده نظرة أنه وصل كما قال الشيخ الرفاعي – رضوان الله تعالى عليه – يكون مُتلفِّتاً، قال مُتلفِّت لا يصل ومُتلصِّص لا يُفلِح، ومَن لم ير من نفسه النُقصان فكل أوقاته نُقصان، هذا هو طبعاً! والذي يرى نفسه ناقصاً يبدأ دائماً يُحاوِل أن يزداد وأن يستأنف، فيكون على خير بإذن الله تبارك وتعالى.
في موضوع العُجب سأحكي لكم قصة مُؤثِّرة حكيتها لإخوان لي قبل أيام، هذه القصة عن شيخ مشايخ بلاد الشام، وإذا قلنا شيخ الإسلام في عصره لم نكن مُبالِغين، هو الذي قال فيه الإمام الكتاني أنا أشهد لله – تبار وتعالى – أن أمة محمد لم تر مثل هذا الإمام من عصر الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، السيوطي ولا السخاوي ولا الشعراني ولا… ولا… ولا…، مثل هذا الرجل لم تعرف، وهو محمد بدر الدين الحسني قدَّس الله سره ورضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الإمام المُحدِّث وشيخ مشايخ بلاد الشام، لا تكاد تجد الآن عالماً كبيراً إلا وهو تَلميذ لتَلاميذ تَلاميذه، كلهم خرجوا من جُبته تقريباً إلا قليل، معروف! معروف وخاصة عند الشاميين.
جاء مرة مُفتي مصر العلّامة الأصولي الفقيه عديم النظير محمد بخيت المُطيعي – الذين درسوا الأصول يعرفون مَن هو المُطيعي رحمة الله تعالى عليه، وهناك محمد @@@49:44 الفقيه الشافعي، هذا شيئ آخر، هذا مات في أواسط الثمانينيات، لكن هذا محمد بخيث المُطيعي، المُفتي العلّامة الفقيه الأصولي، صاحب التصانيف، وكان أصولياً لا يُشَق له غُبار – إلى بلاد الشام في زيارة، وسمع بمحمد بدر الدين الحسني – طبعاً علماء مصر دائماً كانوا أكثر ذيوعاً، أسماؤهم وعلماؤهم تُشتهَر أكثر، علماء الشام لم يكونوا كذلك، لا يُسمَع بهم في مصر، مثل بدر الدين الحسني – فجاء إليه، والشيخ بدر الدين له درس كل جُمعة تحت قُبة النسر التي درس تحتها كبار أئمة الشام، فجاء الشيخ المُطيعي وجلس يستمع على مضض، لأنه المُطيعي، ليس أي كلام، ليس كأي أحد، ومَن هذا الذي طُلِبَ مني أن أستمع إليه؟ وشرع الشيخ بدر الدين في درسه، وكان من المعروف – كما قال الشيخ عليّ الطنطاوي رحمة الله عليه – أنه إذا شرع في الدرس لا يقف، لا يتعثَّر، لا يلحن في كلمة، ولا في إعراب حرف، يتدفَّق كالسيل من علٍ، فإذا ذكر حديثاً ذكره بالإسناد المُتصِل إلى رسول الله إن كان مُتصِلاً أو المُنقطِع إن كان مُنقطِعاً، فإن تكلَّم عن رجاله تكلَّم عنهم رجلاً رجلاً، يذكر ويستوفي كل ما قيل في حق صاحب الترجمة، شيئ غريب مُذهِل، لم ير المُسلِمون مثله، إذا قرر مسألة فقهية يُقرِّرها على المذاهب الدارسة والمذاهب المتبوعة بالأدلة والمُقابَلة والمُحاكَمة، شيئ مُذهِل عجيب، كان إذا سُئل في مسألة وكان لا يُفتي – أرأيتم التواضع؟ لا يُفتي، معروف عنه هذا، لم يُفت فتوى واحدة، لكنه كان يُعلِّم العلوم كلها، حتى علم الهيئة، الفلك! فضلاً عن الرياضيات والطب، يُعلِّم كل العلوم، موسوعة حية – يقول للسائل يا باه مسألتك في الكتاب الفلاني، في المُجلَّد رقم خمسة، في الصفحة مائتين وستين، في السطر السابع، من جهة اليمين، عجب! شيئ لا يُصدَّق، شيئ إلهي، آية من آيات الله! فسمعه الشيخ محمد بخيت، فعلاً شيئ يُذهِل، وبعد ذلك أفضت النوبة كما يُقال إلى مسألة أصولية، فأفاض في الحديث فيها وشقَّق القول، فالإمام المُطيعي لم يُصدِّق، أيُوجَد أصولي بهذه الدرجة؟ أعلم منه وأعظم منه في تحقيق المسائل! فلما انتهى هُرِع إليه المُطيعي وأكب على يديه ليُقبِّلهما فأبى، وكان لا يسمح لأحد من العامة أن يُقبِّل يديه، لذلك كان إذا مشى دائماً يُدخِل يديه في جُبته، لا يسمح لأحد أن يُقبِّل يديه – قدَّس الله سره – تواضعاً لله تبارك وتعالى، أراد المُطيعي مُفتي مصر أن يُقبِّل يديه، انظروا إلى الإخلاص إلى إخواني، انظروا إلى الإخلاص لدى العلماء، محمد بخيت المُطيعي – علّامة مصر – حين رأى رجلاً بهذه المثابة أراد أن يُعطيه ما يستحق بتقبيل يديه، لم ينفس عليه هذا الفضل الذي ساقه الله إليه، لم يحسده، لم يُبغِضه، ولم يُحاوِل أن يغمزه كما يتورَّط بعض الناس أبداً، وقال له هكذا باللهجة المصرية “وحياة النبي ما بيجيش النهاردة واحد تاني في الدنيا كلها مثلك”، الشيخ المُطيعي قال له أنت أوحد عصرك، أنت نسيج وحدك، أنت شيئ وحدك، بعد ذلك قال له لو كنت عندنا في مصر ما حُمِلت إلا على الرؤوس، قال له يبدو أنك لا تأخذ مكانتك اللائقة بك في ديار الشام هنا، لو كنت في مصر – المصريون يُحِبون العلماء ما شاء الله – لحُمِلت على الرؤوس.
اسمعوا القصة العجيبة، الآن أخذتم فكرة مَن هو بدر الدين الحسني رضوان الله تعالى عليه، هذا الرجل – يقول أحد تَلاميذه وهو الشيخ محمود الزرقوني – دعا بي في صباح أحد الأعياد – والشيخ هذا تتلمذ له عشر سنين، وكان فقيهاً حنفياً، والشيخ الحسني فقيه شافعي – وقال لي يا شيخ محمود خُذ هذه الصُرة واذهب إلى هذه العنوانات – أي العناوين – وأعط كل دار صُرةً، قال فنظرت في العنوانات، يا للهول! إنها عنوانات مُريبة، بيوت للساقطات وبائعات الهوى، كيف في صباح عيد يذهب إلى هناك شيخ بلحية وعمامة وجُبة؟ كيف؟ قال افعل ما أطلب منك، فامتثل! قال ذهبت وكلي خجل وحياء، طرقت الباب فخرجت الأولى، قالت ماذا تُريد؟ شيخ في صباح العيد! ماذا تُريد؟ هذا بيت لامرأة ساقطة، فقال يا أختي هذه صُرة من مولانا بدر الدين الحسني، فريعت! الشيخ بدر الدين؟ الكل يعرف الشيخ بدر الدين الحسني، السُلطان عبد الحميد بعث له باخرة في ميناء اللاذقية، باخرة وصلت إليه، وهو يرجوه ويتوسَّل إليه أن يركب إليه لأنه يُريد أن يتشرَّف بزيارته، فقيل له السُلطان بعث لك الباخرة، فقال يا باه غير مأذون، يا باه غير مأذون، لم يُؤذَن لي! رجل رباني، شيئ عجيب، وعنده كلمة يا باه هذه لازمته، اللازمة يا باه، قال له يا باه غير مأذون، قال أصحابه وتَلاميذه وفي اليوم التالي خرج على دابة يزور شيخ الهامة – بُليدة صغيرة قرب دمشق، وفيها مسجد صغير يُصلي فيه عشرات والشيخ هناك مُتواضِع مسكين – الذي دعاه، فلباه وذهب يزوره، قال انظروا إلى الشيخ الإمام، يدعوه السُلطان فلا يُلبيه، ويدعوه شيخ الهامة فيأتيه ويُلبيه، لله! لأنها أعمال لله، ليست للشُهرة وليست للظهور، أعمال بأخلاص، شيئ غريب! المُهِم ريعت هذه المرأة المسكينة، قالت الشيخ بدر الدين؟ قال نعم، هذه هدية منه، ويقول لكِ يا أختي ادعي الله له؟ قالت ماذا؟ أنا أدعو الله للشيخ بدر الدين؟ وجعلت تبكي، وتابت من فورها، فكانت توبتها مُباشَرةً، قال الشيخ محمود – قصة عجيبة جداً، والشيخ محمود تُوفيَ بالمُناسَبة في الثمانينيات، رحمة الله تعالى عليه، شيخ صالح وعلّامة حنفي فاضل جداً، كان من أولياء الله وهو تَلميذ الحسني، وله أشياء بصوته في موقع دار الحديث الذي قلت لكم عليه، أشياء بصوت الشيخ محمود تَلميذ مولانا بدر الدين الحسني – ثم ذهبت إلى الثانية، ونفس الوضع يتكرَّر، تسمع باسم الشيخ وتقول الشيخ بدر الدين؟ فأقول لها نعم، وهو يطلب منكِ الدعاء، يقول لكِ ادعي الله له، فتأخذ في البكاء وتتوب، قال حتى تابت زُهاء بضع عشرة من هؤلاء الشاردات الهائمات، وحسنت توبتهن، رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين.
ما قوة السر هذه؟ الله أكبر، الله أكبر! الآن قد يسأل بعضكم أو بعضكن ما السر في أن شيخاً وولياً مثل هذا علّامة – علّامة الإسلام وشيخ الإسلام في عصره – يطلب الدعاء من شاردة عن الطريق، من امرأة تائهة؟ تعرفون السر – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – أنه يعلم أنها إن دعت الله له دعته بقلب مُنكسِر تماماً، لأنها لا ترى نفسه أهلاً للدعاء ولا أهلاً لأن يُستمَع لها ولا أهلاً لأن تُجاب دعوتها، أليس كذلك؟ لأنها شاردة ساقطة لكنها مُؤمِنة، تُؤمِن! مُسلِمة المسكينة، ضحية الظروف والمُجتمَع، أما هو فقد يُقدِّر عند نفسه – وهذا من تواضعه وهضيمته وإزرائه على نفسه، لأنه عارف بالله، رضيَ الله عنه – أنه ربما داخله شيئ من عُجب، فالله – تبارك وتعالى – لا ينظر إليه، فهكذا يُقدِّر! لا تجدون عارفاً بالله وهو مُعجَب بنفسه أو يظن أنه من أهل الخير، مُستحيل!
أبو بكر الصدّيق رأس العارفين بعد رسول الله، صدّيق الأمة رضوان الله عليه، كان يقول يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شعرة في جنب عبد مُؤمِن، وعمر قال مثلها وسلمان وأبو ذر، كلهم يقولون هكذا، لا يعتقد أحد منهم غير هذا!
عيسى – عليه السلام – كان مرةً يمشي ومعه أحد الحواريين، فرآهم أحد العيّارين – من قطّاع الطرق المُجرِمين – وكان في جبل – في قُنة جبل – فانحدر وجعل يمشي خلفهما، ثم قال في نسع نبي الله وروحه عيسى وأحد حوارييه، مَن أنا حتى أمشي خلفهما؟ يُزري على نفسه! لابد أن أعود، لا أستحق هذا، لا أستحق هذا الشرف، فالتفت الحواري فرآه ولم يقل شيئاً، إلا أنه قال في نفسه مَن هذا الفاسق الحقير حتى يمشي خلفنا؟ فأوحى الله إلى عيسى يا عبدي قل لعبدي فلان وفلان – الحواري صاحبك وهذا الشارد – أن يستأنفا العمل، عليهما أن يبدأ من جديد! أما الشارد التائب هذا فقد غفرت له بإزرائه على نفسه، وأما الحواري هذا فقد أحبطت عمله بعُجبه وكبره، يرى نفسه شيئاً كبيراً! مَن هذا الحقير حتى يمشي خلفنا؟ لا! تواضع في نفسك، كُن عند نفسك مُتواضِعاً، يقول بكر بن عبد الله المُزني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، التابعي الجليل والرجل الصالح – يا أخي إن رأيت رجلاً أسن منك فقل هو خيرٌ مني، سبقني إلى طاعة الله وعمله أكثر من عملي، قطعاً هو خيرٌ مني، وإن رأيت مَن هو أصغر منك فقل هو خيرٌ مني، سبقته بالذنب والمعصية، فهو أطهر مني، ما هذا المنظور؟ هكذا دائماً! فالمُسلِم الصالح يرى الكل خيراً منه، فنسأل الله – تبارك وتعالى – هذه الربانية وهذا الإزراء على النفس.
بالمُناسَبة – انتبهوا – بعض الناس يقول مثل هذه النفسية ومثل هذه النزعات قد تجعل الإنسان مُحبَطاً أو يائساً وغير مُنتِج وغير مُنجِز، لكن هل كان أسلافنا غير مُنتِجين وغير مُنجِزين؟ أنجزوا كل الإنجاز، استفادوا من أعمالهم ساعة بساعة ولحظة بلحظة، بمثل هذه النفسيات! لكن مَن يظن في نفسه الكمال والوصول هو الذي يجلس ولا يُتابِع، أليس كذلك؟ ويكتفي فقط بالكلام، فنسأل الله أن يُلحِقنا بهم وأن يسلك بنا ما سلك بهم. اللهم آمين.
دعونا الآن ندخل في بعض الأشياء المُفيدة عملياً يا إخواني، هل هناك من وصاية مُعيَّنة يُمكِن أن نتواصى بها – إن شاء الله تعالى – حتى نزداد إيماناً وتنويراً وهُدىً وعرفاناً؟ ثم ما هو العرفان أصلاً؟ نحن نتحدَّث عن العرفان، ما هو العرفان؟ ما معنى أن تُصبِح أو تُصبِحي عارفة؟ العرفان – إخواني وأخواتي – ورد في كتاب الله – تبارك وتعالى – في غيرما موضع، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ۩، فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ۩، مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۩، موجودة هذه اللفظة! يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۩، وصفه عندهم في الكتاب فلما رأوه في المثال والمصداق انطبق هذا مع هذا فوقعت المعرفة، هذه هي المعرفة، المعرفة أن تعتقد بأشياء مُعيَّنة قرأتها في الكتاب والسُنة ثم تعيشها وترى مصداقها، فتحصل ماذا؟ المعرفة، ليس فقط العلم، تعيشها وترى مصداقها في حياتك وفي تجربتك الروحية.
روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة شيخ البخاري – رضيَ الله تعالى عنهما – والإمام الطبراني وغيرهما عن أنس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال جاء حارثة بن مالك الأنصاري إلى رسول الله ذات صباح فسأله الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كيف أصبحت يا حارثة؟ وفي رواية يا حارث؟ يُرخِّم اسمه، اسمه الترخيم! قال يا رسول الله أصبحت مُؤمِناً حقاً، الإيمان هو الحق هو العرفان، قال يا رسول الله أصبحت مُؤمِناً حقاً، فقال يا حارث أو يا حارثة انظر فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولك؟ هل هناك بُرهان؟
وَالدَّعَاوِي إن لَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا بَيِّنَاتٌ أَبْنَاؤُهَا أَدْعِيَاءُ.
أين بُرهان قولك إنك مُؤمِن حق الإيمان؟ فقال يا رسول الله أظمأت نهاري – بالأمس صمت تطوعاً – وأسهرت ليلي، فأصبحت – عِندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى – وكأني أرى عرش ربي بارزاً، هناك حالة مُكاشَفة، هذا العلم الكشفي، هناك حالة من المُكاشَفة! قد يقول قائل وهل هذا مُمكِن؟ هل يُمكِن للقلب أن يرى شيئاً كهذا؟ نعم، بالتنوير والعبادة والذكر والإخلاص والصدق، عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – كان يطوف مرة بالكعبة فجاءه أحد الزُبريين – من آل الزُبير – يُريد أن يخطب إليه ابنته، فغضب ابن عمر! وكان الوقت ظهراً، قال أما وجدت إلا هذا الوقت تأتيني فيه ونحن نتراءى ربنا؟ ابن عمر كان في حالة إيمانية راقية جداً، كأنه يرى الله! أن تعبد الله كأنك تراه، هذا هو! قال له ونحن نتراءى ربنا، أفسدت علىّ عبادتي، رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما.
قال فأصبحت وكأني أرى عرش ربي بارزاً، وكأن أهل الجنة عن يميني يتازورون فيها – كأني أرهم، يراهم قلبي -، وكأن أهل النار عن شمالي يتضاغون فيها – أكرمكم الله وأكرمكن أي تضاغي الكلاب والعياذ بالله، قال يتضاغون فيها -، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – عبدٌ نوَّر الله قلبه، عرفت فالزم، عرفت فالزم، عرفت فالزم! في رواية ثلاث مرات وفي رواية عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه، عرفت فالزم! شهد له بماذا؟ بمقام العرفان، شهد له بمقام العرفان!
العارف الذي طالع جلال المجد والجمال الإلهيين يُستغرَق في هذا، يعيش في الدنيا معنا بشكل عادي، وقد يكون طبيباً أو مُهندِساً أو تاجراً أو عالماً كبيراً أو مُستثمِراً أو غنياً أو فقيراً، انتبهوا! هذا كله حجاب، وحقيقته شيئ آخر ما شاء الله، حقيقته شيئ آخر! قال ابن عطاء الله سُبحان مَن لم يجعل الطريق إلى معرفة أوليائه إلا من حيث جعل الطريق إلى معرفته، هناك ظاهر وباطن.
لله تحت ثياب الفقر مملكة أخفاهم عن عيون الخلق إجلالاً.
هم الملوك في عز وتكرمة جـروا عـلى قلل العز أذيالاً.
تراه فقيراً محقوراً بسيطاً، لكنه من رجال الله، وإن لله رجالاً، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – رب أشعث أخبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، لو أقسم على الله في أي أمر لأبره الله تبارك وتعالى، فلا تزدره، وقد يكون على العكس، قد يكون – كما قلت لكم – غنياً مُثرياً مُتموِّلاً أو مُتعلِّماً أو ذا هيئة وحيثية في المُجتمَع، وهو أيضاً من أولياء الله تبارك وتعالى، ستره الله كما قال أحد الأئمة بالحيثية، أي بهذه الحيثية الاجتماعية، لكنه من أولياء الله، لا تُزري عليه لأن الله ساق إليه الدنيا.
أذكر قصة عن الشيخ أبي العباس المُرسي رضوان الله تعالى عليه، أبو العباس بعث إلى أحد تَلاميذه وقال له اذهب إلى بلاد المغرب، إلى بلدة كذا وكذا، وزُر أخي في الله فلان الفلاني، واطلب الدعاء لي منه، فإنه بركة الزمان، عجيب! قال ذهبت وظننت أني ألقى رجلاً فقيراً مُتقلِّلاً بمُرقَّعة، قال فسئلت عنه فقالوا هو ليس ثمة، إنه عند الأمير، قلت عند الأمير! كيف يذهب الفقير إلى الأمير؟ قال هذا أول ما وقع في قلبي من النكير، استنكر! غير معقول، قال قلت ولكن أمر الشيخ – أمر الشيخ أبي العباس – أن أنتظر، قال فانتظرت، وبعد ساعة جاء الرجل، قيل لي هذا، هذا؟ كان محفوداً مخدوماً محشوداً في موكب عظيم وأفراس عليها الحُلل والخدم يمشون، فقلت غير معقول، رجل غني جداً جداً هذا، رجل كبير! كيف يكون رجلاً صالحاً؟ قال فآمرت نفسي، ألقاه أو لا ألقاه؟ وأُبلِّغه الرسالة أو لا أُبلِّغه؟ ثم خشيت من غضب الشيخ، فأتيته وقلت له يا أخي إن شيخنا أبا العباس يقرأ عليك السلام ويطلب منك الدعاء، فهز رأسه وابتسم ثم قال أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُخرِج حب الدنيا من قلبه، قال فازداد نكيري، قلت هذا يحكي هذا عن شيخي؟ الدنيا كلها بين يدي هذا، هو رجل الدنيا، قال وازداد إنكاري عليه في قلبي، فلما عُدت إلى الشيخ بكى، أبو العباس بكى بكاءً شديداً، وقال صدق، صدق أخي، صدق! قلت كيف يا شيخ؟ قال صدق، قال هذه الدنيا في أيديهم، ليس منها شيئ في قلوبهم، هو هذا! الله ابتلاه بالدنيا، وستره بالدنيا، لكن في القلب ليس منها شيئ.
وأنا صغير – كنت أرى القدوة، والقدوة دائماً مُهِمة – أتيت إلى المسجد الذي أُصلي فيه، مسجد مُعسكَرنا! فالمُهِم رأيت رجلاً أعرفه، كان من الأغنياء، صاحب مصانع هناك في غزة، وهو رجل فاضل هكذا ومُتواضِع، كان مُتواضِعاً جداً! ورأيت إخواني من المشايخ الكبار يُعزونه، يقولون وصبراً جميلاً – إن شاء الله – ولا بأس وما إلى ذلك، فقلت ما الحكاية؟ قالوا احترق أكبر مصنع له، ملايين الملايين فيه! والله الرجل يا إخواني لا يبدو عليه شيئٌ من هذا، مُتبسِّم ورضي، ثم جعل يعظنا في الصبر والتسليم، قلت عجيب، ما هذا؟ وإلى اليوم لا أنساه، هذا الإيمان! الدنيا في أيديهم يتصرَّفون فيها، فإذا ذهبت لم يُحرِّك فيهم هذا شيئاً، لم يُزلزِل فيهم شيئاً، هؤلاء أولياء الله!
الشيخ ابن عربي يحكي قصة عن خاله أبي عبد الله التلمساني، قصة عجيبة جداً في الفتوحات، كان خاله – أخا أمه – أميراً، قال كان أخي هو أمير تلمسان، كان الأمير! وخرج يوماً في حفل من الأحفال أيضاً في جيشه وحراسته وزينته، قال وكان هناك شيخ يسكن خارج تلمسان مشهوراً بالصلاح والنُسك والزهادة والانقطاع عن الناس، فسُبحان الله ظهر في ذلكم اليوم في تلكم الساعة، قال فرآه خالي – الأمير – فنزل عن دابته وذهب إليه وقبَّل يديه، وقال له يا مولانا ادع الله لنا، فدعا الله له، ثم قال يا مولانا ما تقول في هذا الثور فإنه مُغشى بالديباج؟ أيجوز؟ قال له الديباج! أيها الأمير ليس لك مثل عندي إلا كمثل الكلب، أمام الناس! استفز الشيخ العارف، قال له أيها الأمير ليس لك مثل عندي إلا كمثل الكلب، الكلب يأكل الجيف والنتن، فإذا أراد أن يتبول باعد بين رجليه وبصبص بذنبه، وأنت تلغ – قال له – في حقوق الناس وفي أموالهم وفي أعراضهم ثم تسألني عن الديباج، هذا ورع كاذب اسمه، ورع كاذب! قال يا شيخ هل تقبلني لديك؟ قال أقبلك، فقال اشهدوا أيها الناس – أشهد أهل بلده، وبلده هي تلمسان وهو أمير – علىّ أني خارج مما أنا فيه ومُتبِع مولانا وسيدنا، وخرج معه ونسك، تتمة القصة أعجب، بقيَ هناك زُهاء سنتين ثم توفاه الله، الأمير تُوفيَ وبقيَ الشيخ، فكان الناس يأتون إلى الشيخ في عزلته ويقولون يا شيخنا ادع الله لنا، يقول إن أردتم أن يستجيب الله لكم فسلوه بجاه سيدي أبي عبد الله التلمساني، يُسميه سيده! الشيخ العارف الكبير المُسِن يقول توسَّلوا إلى الله بجاه هذا الرجل الصالح، هذا الأمير المدفون هنا! يقولون كيف؟ كيف وأنت الشيخ؟ أنت الشيخ وأنت كذا كذا، فيقول كلا، هو رجل ابتُليَ بالدنيا فخرج منها بسلامة، وما أدراني لو ابتُليت أنا بالدنيا أنني أنجو منها؟ قال هو أفضل مني، نجح في الامتحان، لعلنا لا ننجح!
فالعرفان – إخواني وأخواتي – أن يستحيل العلم وأن يستحيل الاعتقاد إلى تجربة معيشة، أن نعيش هذا الشيئ، أن نُوقِن به بالعيش وبالخبرة بإذن الله تبارك وتعالى.
حدَّثت إخواني وأخواتي عن شاب عادي – طبعاً في هذا العصر ولا يزال حياً، شاب مثلكم هكذا – كان كثير الصوم والعبادة والذكر، فكان إذا أفطر في المساء يُهيء لنفسه شيئاً من عصير وشيئاً من طعام، وكان حاله على قده كما يُقال، ليس عنده كثير مال، لكنه يعيش ببركة الله، بعد أن يشرب من العصير يلتفت ويعود فيجد الكوب مليئاً مرة أُخرى، هذه تجربة! تجربة بسيطة جداً جداً، وبالنسبة إلى العارفين والأولياء هذا شيئ سخيف، لا شيئ هذه! لكنها تجربة مُهِمة، إذا مر بها الشاب أو الشابة منحت يقيناً حقيقياً، أليس كذلك؟ منحت يقيناً حقيقياً بالغيب، قال تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ۩، حقيقة الإيمان أن يكون بالغيب، والإيمان ليس فقط بالله على أنه موجود – طبعاً هذا الأمس – وإنما على أنه موجود وعلى أنه رقيب وبصير وسميع وعلى أنه مُحسِن وكافٍ وهو نعم الوكيل، لا إله إلا هو، وعلى أنه كذا وكذا، صادق الوعد في كل ما وعد دنيا وأُخرى، يجب أن يكون إيماننا هنا، بعض الناس يُؤمِن بالله – كما قلت – على أنه موجود، لكن لا يُؤمِن بوعده، فيرتزق من حلٍ ومن حرامٍ، ويستعجل الغنى – والعياذ بالله – ولا يرفض ذلك، إذا اشتهى شهوةً يخاف أن تفوته، يُواقِعها والعياذ بالله، هذا ليس عنده شيئ في النهاية، هذا إيمانه بالله منقوص من أطرافه، إيمانه بالله منقوص من جميع أطرافه! ليس يُجديه إلا قليلاً.
فأُوصي نفسي – أيها الإخوة والأخوات – وأُوصيكم جميعاً بأقصر طريق، من أقصر الطرق إلى الله – تبارك وتعالى – بعد التوبة الذكر، لابد من التوبة أولاً، لا يُمكِن أن ندخل على الله ونسلك الطريق إليه ونحن – والعياذ بالله – مُتقذِّرون بالذنوب، لابد أن نُحدِث توبةً، بعض الناس يقول أنا أستطيع أن أتوب من كل ذنوبي إلا من ذنب واحد، هذا الذنب أُحِبه، حُبِّب إلىّ! أسأل الله طبعاً أن يجتث جذوره من قلبكَ ومن قلبكِ، ولكن – انتبه – هذا الذنب سيكون حاجباً عن الله تبارك وتعالى، الله لا يدخل عليه إلا الطاهر المُطهَّر، الله لا ينظر في قلب مُلوَّث بالذنب!
سُئل وهيب بن الورد هل يجد لذة العبادة مَن أذنب؟ قال ولا من هَم، الذي يهم بالذنب ويُفكِّر لا يجدها، يقول جاء رمضان وبعد رمضان سنرجع لكي نفعل كذا وكذا، ضاع عليه رمضان! لن يتمتَع حتى برمضان أبداً، قال الحسن البِصري تفقد قلبك عند ثلاث، فإن وجدت لذةً وإلا فاعلم أن الباب مُغلَق، الله لم يفتح لك بابه، ثلاثة أشياء! هل تعملها بلذة وانشراح وبهجة شديدة وتشعر بالراحة؟ عند الصلاة، عند تلاوة القرآن، وعند ذكر الله، ثلاثة أشياء! إذا تُصلي بنوع من اللذة والابتهاج والحبور فهذا مُمتاز، وكذلك حين تقرأ القرآن وتذكر الله – تبارك وتعالى – وتلهج بذكر الله، هذه الأشياء لا يُمكِن أن تجد لها لذة وأنت مُقيم على معصية، انتبه! لا يُمكِن وجرِّب، لا يُمكِن! لكن جرِّب أن تبتعد عن المعاصي بإذن الله، ستقول حسناً، أنا الآن لدي نية حاضرة، وأنا أعرف هذا، أنا مررت بهذه التجربة، أنا كنت شاباً صغيراً وشاباً مُراهِقاً وعانيت وكابدت وتألَّمت كثيراً، المسألة صعبة جداً جداً، إن شاء الله بعد ذلك ينطفئ حر هذه الأشياء شيئاً فشيئاً بإذن الله، أعانكم الله وأعانكن جميعاً وجمعاوات، أعرف كم هذا صعب والله! أعرفه تماماً، لكن لذيذ أيضاً أن نُجاهِد أنفسنا في ذات الله وفي جنب الله، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ۩، إذن طريق تحصيل مقام الإحسان ما هو؟ المُجاهَدة، لا إحسان بلا مُجاهَدة، انتبهوا! لابد أن نُجاهِد كثيراً.
فالأفضل – إخواني وأخواتي – أن تُحقِّق النية بأن تبتعد عن كل الذنوب بإذن الله، لو فعلت هذا يوماً واحداً يكون هذا شيئاً جميلاً، تقول أنتكس بعد يوم، عُد وتُب من جديد إن شاء الله، تقول أنتكس بعد أسبوع، عُد وتُب من جديد ولا تيأس، انتبه! لا تيأس، ابق على هذا حتى ييأس الشيطان وهو ييأس لعنة الله تعالى عليه، لكنك ستنجح – إن شاء الله – في الامتحانات دائماً بمُعدَّل أعلى فأعلى فأعلى فأعلى، ومع السنين ستجد نفسك تتقدَّم بسرعة بإذن الله تبارك وتعالى، لكن لا تيأس، تقول أنا ضعيف، أنا تعبان، أنا مُنافِق، أنا غير صادق، أنا مخبول، الله لا يُوفِّقني ولا يُسعِدني، فإذن سأترك هذا! لا تترك هذا، ظل جاهد نفسك ولو عُدت حتى في اليوم سبع مرات، لن نقول سبعون مرة فهذا غير معقول، لكن فلتُجاهِد نفسك، مع كل مُجاهَدة الله – عز وجل – يزيد قلبكَ تنويراً، ويزيد قلبكِ تنويراً، يُعطيك شيئاً جديداً، معنىً جديداً، وتوفيقاً جديداً، ربما تكون لا تعرفه.
لا أدري كم منكم مَن رأى الرسول أو منكن! شيئ جميل جداً جداً أن يُكرِمكِ الله برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُمكِن أن تُحوِّل حياتكِ كلها والله العظيم، هناك أُناس تحوَّلت حياتهم برؤيا الرسول، لا تعرفون كم فيها من مدد! كم فيها من عطاء ومن تقوية! شيئ لا يُوصَف يا إخواني وأخواتي.
المُستشرِق المجري الكبير – كان علّامة موسوعياً – عبد الكريم جرمانوس Abdul Karim Germanus رحمة الله تعالى عليه، هذا الرجل قرأ كل ما يتعلَّق بالإسلام، عقلياً تأثَّر وأدرك أن هذا الدين الحق، لكن تنقصه خُطوة، خُطوة التوفيق! لم يستطع أن يترك دينه ودين قومه وأهله، وكان في الهند، المُهِم قال ورأيت ذات ليلة رؤيا، رأيت أنني في مسجد عظيم جداً وفيه عشرات الألوف من المُسلِمين المُوحِّدين، قال ثم قيل رسول الله هو الإمام، قال فهُرِعت إليه فيمَن هُرِع، هذا المجري العلّامة جرمانوس Germanus قال هُرِعت إليه، قال فلما وقفت بين يديه جعلت أبكي وأرتعد، جمال عجيب! جمال وجلال وشيئ لا يُوصَف، مدد! قال ونظر إلىّ وعرفني، وقال لي لِمَ لا تُسلِم؟ فقلت يا رسول الله العون، يُريد العون من الله! فقال الله يُعينك إن شاء الله، قال فأسلمت بين يديه ونطقت الشهادتين، وقلت سمني، فقال أنت عبد الكريم، فسمى نفسه عبد الكريم جرمانوس Abdul Karim Germanus، شيئ لا يُصدَّق! مسيحي مُستشرِق علّامة كان كافراً وأسلم برؤيا، كيف لو رأى الرسول مُسلِم أو مُسلِمة؟ شيئ عجيب، فلابد أن تعمل، تقول لي وما الطريق؟ الطريق الصدق والتوبة والصلاة على رسول الله والعبادة والذكر، الصدق الصدق الصدق بعون الله تعالى، يُمكِن أن تراه مرة فيُقصِّر الله لك المسافات، يُقصِّر لك الطريق بعون الله تبارك وتعالى، إذن لا تيأس، لا تيأس وظل جاهد نفسك في الله تبارك وتعالى.
بعد ذلك الذكر، إذا أردنا وصية جامعة نتواصى بها فهي الذكر، ذكر الله – تبارك وتعالى – في كل الظروف وعلى كل الأنحاء، ليل نهار نذكر الله تبارك وتعالى، لا نفتر، ولا نضعف، أقصر طريق! الله – تبارك وتعالى – أمرنا في القرآن ليس بمُجرَّد ذكره وإنما بذكره ذكراً كثيراً، في كل الأحوال! هل هناك حال أعظم وأهول من حال لقاء الأقران والأعداء في المعركة؟ المعمعة الحمراء تُسمى هذه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ۩، حتى في المعركة! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۩ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۩، يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ۩، إذن هو ذكر كثير، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ۩، أيضاً كَثِيرًا… ۩ كَثِيرًا… ۩… كَثِيرًا… ۩، يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا ۩، لماذا؟ دائماً يقول كَثِيرًا۩! وهذا ما أكَّده النبي، ليس يكفي أن تجتزئ بعد الصلاة بثلاث وثلاثين وثلاث وثلاثين وأربع وثلاثين ثم تنتهي، لا! يجب ليل نهار، يجب أن تذكر الله دائماً.
وأنا سأُوصيكم بشيئ، وليقل العزال كما يُقال ما يقولون، أُوصي نفسي وإياكم بالآتي، جميل جداً أخواتي وإخواني أن يكون لكل واحد منا مسبحة يحملها في يده دائماً، طالما هذه المسبحة معك تُذكِّرك بالله، تستمع إلى شيخك أو إلى أخيكَ أو إلى أختك، هي تتكلَّم وأنت تذكر، شيئ جميل! نصحت بهذه النصيحة جماعة من المُسلِمين، والله عادوا بعد أيام وقالوا يا شيخ ما هذا؟ نحن ذكرنا الله مئات ألوف المرات، أخذوا مسبحة ميلونية! مئات ألوف المرات في أيام معدودة، قلت لهم هذه ليست نصيحتي، هذه وصية الله يا إخواني ووصية رسول الله، وهذا الشيئ يُعين على ذلك، تخيَّلوا! بعض الناس قد يعيش سبعين سنة ولا يذكر الله مليون مرة، وهناك مَن يذكره في عشرة أيام مليون مرة، شيئ عظيم!
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وكان يسير في طريق مكة فرأى جبلاً يُقال له جُمدان، قال هذا جُمدان سيروا، سبق المُفرِّدون، تعرفون ما معنى المُفرِّدين؟ من الفرادة، أي هؤلاء لهم مقام وحيثية ليست لغيرهم، نسيج وحدهم هؤلاء! قال سبق المُفرِّدون، فقالوا يا رسول الله ما المُفرِّدون؟ قال المُستهتَرون بذكر الله تبارك وتعالى، يأتون يوم القيامة خفافاً، قد وضع الذكر عنهم أثقالهم، لا تُوجَد ذنوب! محاها الذكر، تأتي خفيفاً بعون الله تبارك وتعالى، قد وضع الذكر عنهم أثقالهم.
الأخت – بارك الله فيها – ترغب إلىّ أن أتحدَّث عن نفحات رمضان، هذا من نفحات رمضان، اجعلوه شهر ذكر، شهر قرآن وشهر أذكار بإذن الله تبارك وتعالى، طبعاً هو شهر عبادة، صلاة وتهجد وقيام، معروف هذا! لكن استكثروا فيه من ختم القرآن العظيم ومن ذكر الله، كل واحد – مثلاً – أو واحدة يضع لنفسه خُطة، يقول بعون الله – خاصة الذي عنده وقت فراغ ونُهز، هناك أُناس عندهم وقت فراغ كثير لا يُستغَل جيداً – أنا في رمضان سأُصلي على رسول الله نصف مليون – خمسمائة ألف – مرة، علماً بأن هذا سهل، يُمكِن أن تفعله في أيام يسيرة، سأُصلي خمسمائة ألف مرة، سأُهلِّل – أقول لا إله إلا الله – نصف مليون مرة، سأقول سُبحان الله وبحمده نصف مليون مرة، هذا في رمضان! سأستغفر الله نصف مليون مرة، والصلاة – كما قلنا – على رسول الله نصف مليون، شيئ مُمتاز جداً جداً، وسأختم القرآن عشر مرات، كل ثلاثة أيام مرة! ماذا تُريد أحسن من هذا؟ وهذه فُرصة لكي نقتحم فيها عقبة النفس في ثلاثين يوماً وليلةً، عهد بيني وبين الله لا أغتاب أحداً تحت كل الظروف، ولا أكذب تحت كل الظروف، الكذب لا! ولا أتزيَّد في كلمة، تعرف هذه الخُطة البسيطة لو سرت عليها – بعون الله – يُمكِن أن تجد نفسك بعد رمضان خلقاً جديداً، إنساناً آخر، وتقتحم العقبة!
أنا عندي نظرية ذكرتها مرة في خُطبة بشأن رمضان وأُخالِف فيها علماء التحليل النفسي وحتى أزيد فيها على ما ذكره السلوكيون في المدرسة السلوكية، أنا مُتأكِّد – بعون الله تعالى – أن أي عبد من العباد لو جاهد نفسه في ذنب ما أو شهوة أو هوى أو حتى عادة سيئة – كإنسان كذّاب أو نمّام أو مُغتاب مثلاً أو مسخرجي، أي يسخر من الناس ويهزأ بهم، أي شيئ قبيح فيه، إلى آخره – شهراً كاملاً وتاماً – لثلاثين يوماً – يشفى من هذا المرض بعون الله، لكن بحيث يمر عليه الشهر – ثلاثون يوماً – دون أن يزل زلة واحدة، فإن زل يستأنف من جديد، ثلاثون يوماً! لابد من ثلاثين يوماً، فهذه ربما حكمة من حكم شهر رمضان، أننا نصوم ثلاثين يوماً، لماذا لا نصوم عشرين؟ أو لماذا لا نصوم أربعين؟ ثلاثون تكفي، وهي ليست مُرهِقة، وتقتحم بها عقبة العادة السيئة بإذن الله تعالى، تقتحم بها عقبة العجز، رجل – مثلاً – لا يستطيع أن يُصلي الصبح، يقول لك أنا ضعيف وأُحِب النوم، هذا حين يُصلي الصبح في رمضان – بعون الله تعالى – ثلاثين يوماً ينتهي الأمر، بعد ذلك سيصير عليه سهلاً.
هذه وصية رمضان، الذكر! أن نذكر الله – تبارك وتعالى – كثيراً، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألا أدلكم على خير أعمالكم وأحبها إلى ربكم وأثقلها في موازينكم وخيرٌ لكم من الصلاة والصيام وإنفاق الذهب والورق – أي الصدقات -؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال ذكر الله، عجيب! ذكر الله خيرٌ من كل هذه الأشياء، نفعل هذه الأشياء لكن هذا خيرٌ منها، قال مُعاذ بن جبل سأله رجل يا رسول الله أي المُجاهِدين أفضل؟ قال أكثرهم لله ذكراً، أي المُتصدِّقين أفضل؟ قال أكثرهم لله ذكراً، أي الصالحين أفضل؟ قال أكثرهم لله ذكراً، وهكذا سأله عن جُملة أمور فالتفت عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – إلى أبي بكر وقال يا أبا بكر ذهب الذاكرون بالخير كله، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – صدقت يا أبا حفص، قال له برافو Bravo، هذا صحيح، الذاكرون! المُجاهِد الذاكر أفضل من المُجاهِد غير الذاكر، المُجاهِد الأكثر ذكراً أفضل مما هو أقل منه ذكراً، على أنهما مُجاهِدان، شيئ غريب! لابد من الذكر، فهو روح الأعمال، الذكر هو روح الأعمال!
أعظم كلمة قرأتها عن فضل الذكر لغير رسول الله وأصحابه كلمة أحد العارفين، قال الذكر منشور الولاية، فمَن أُعطيَ المنشور أُعطيَ الولاية ومُن حُرِم المنشور حُرِم الولاية، ومعنى المنشور – أخواتي وإخواني – الكتاب الرسمي الذي يكتبه الأمير أو الملك أو السُلطان للتعيين، اسمه المنشور هذا، يُقال جاء منشور بتعيين فلان وزيراً، أو جاء منشور بعزل فلان، أو جاء منشور بكذا وكذا، هذا اسمه المنشور! فالمنشور الإلهي بالولاية الذكر، الله أكبر! ما المقصود بالولاية؟ الله اصطفى أمته فلانة أو عبده فلان ليصير من زُمرة أوليائه، يقول عبدي هذا وليي، هذه ولية صالحة، فكيف نعرف إذن؟ هذا في الغيب – اللهم اجعلنا منهم – لكن كيف نعرف؟ بالمنشور، إذن كيف نعرف أننا أُوتينا المنشور؟ بالذكر، إذا وجدنا أننا نذكر الله ذكراً كثيراً فإذن أُوتينا المنشور طبعاً، نستطيع أن نختبر هذا بعون الله تبارك وتعالى، كلمة جميلة جداً جداً!
قال يا رسول الله وخيرٌ من الجهاد في سبيل الله؟ أنت قلت أنه أحسن من الصوم ومن كذا وكذا، فماذا عن الجهاد؟ قال وخيرٌ من الجهاد، وأن يضرب أحدكم بسيفه حتى عن ينقطع، إلا مُجاهِداً طبعاً يذكر الله، هذا سيكون طبعاً أفضل، لكن بالمُجرَّد هذا أفضل، وطبعاً هذا لا يعني الاستعاضة بالذكر عن الواجبات، لا يُمكِن! الواجب واجب، والمفروض مفروض، هذا أُفق آخر، فالذكر طريق قصيرة إخواني وأخواتي!
هناك أعمال بسيطة – وسننتهي بعد دقائق – لا نتنبه إليها، قال أحد الصالحين لأن أحفظ قلب أخي المُؤمِن خيرٌ لي من حجة مبرورة، ما معنى الكلام هذا؟ معنى هذا الكلام جبر الخواطر، نتعلَّم كيف نجبر خواطرنا؟ كيف لا نُحرِج أنفسنا؟ كيف لا نُصفِّر وجوهنا؟ وكيف لا نكسف العباد؟ بعض الناس باسم النقد وباسم النصيحة يكسر خاطر أخيه أو تكسر خاطر أختها، لكن يا أختي اتقي الله، أنتِ قلتِ كذا وكذا وكذا، وهذا لا يجوز، وهذا كذا وكذا، لماذا؟ خُذيها على جهة وبمودة شديدة جداً جداً تحدَّثي معها، ويُمكِن حتى أن تتوسَّلي بحكاية أو بحديث أو بشعر دون أن تواجهيها هكذا، النبي كان لا يُحِب أن يُواجِه الناس بما يكرهون، أليس كذلك؟ ماذا كان أسلوبه؟ ما بال أقوامٍ كذا كذا؟ ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا؟ أرأيت؟ ويا فهيم افهم، إياك أعني واسمعي يا جارة، ومن ثم كانوا يفهمون، لأنهم كانوا أذكياء، لكن نحن لسنا كذلك، نحرص على العكس، وأحياناً نُواجِه أنفسنا أمام الناس، لا يجوز، أعوذ بالله، كيف أُوجِّه نقداً إلى أخي أو أختي أمام الناس؟ كيف أكسر خاطره؟ هذا من الكبائر، من كبائر الذنوب! مما يُغضِب الله جداً، ومن أقصر الطرق إلى الله جبر الخواطر حتى ولو كان على حساب عواطفكَ أنت أو عواطفكِ.
والله حدثت لي مرة قصة جميلة، يُمكِن أن تستمتعوا بها وهي عجيبة جداً، أحد إخواني وتَلاميذي أساء إلىّ، جزاء إحساني إليه أنه أساء إلىّ، سهَّل الله له، ليس عندي مُشكِلة، أساء إلىّ هذا الرجل، وأنا طبعاً أعلم من شخصيته أنه يُحِب جداً أن يلتقي بالعلماء، يتعزى بهذا ويتعزز بهذا، فجاء لدينا العلّامة الدكتور البوطي حفظه الله ومد في فُسحته، وأنا أعلم أنه سيكون حريصاً جداً – أي هذا الشاب – على أن يلتقي بالعلّامة البوطي، على أن بيننا شيئ من الوحشة، فقلت لزوجتي يا فلانة سأدعو أخي فلان، قالت فلان الذي أساء إليك وقال كذا وكذا؟ فقلت لها نعم، قالت لي غريب أنت يا عدنان، كيف تدعوه؟ وطبعاً هذا في بيتي، الدعوة كانت في بيتي! فقلت لها هو يُحِب أن يرى الدكتور البوطي ويتصوَّر معه وما إلى ذلك، لماذا أحرمه هذه الفُرصة؟ قالت لا، أنت طيب جداً، فقلت لها لا، أنا سأفعل هذا إن شاء الله، يا فلانة هذا اسمه جبر الخواطر، جبر الخواطر! سأفعل هذا وآتي على نفسي لأجبر خاطر أخي الذي أساء إلىّ، هذا عند الله شيئ عظيم، قلت لها أنا أُحِب أن أتقرَّب إلى الله بهذا، لِمَ لا؟ لماذا لا أفعل هذا؟ قالت والله هذا شيئ طيب، افعل هذا! فاتصلت به، وجاء العلّامة البوطي بعد ربما نصف ساعة من هذا الحوار أو أقل في الحقيقة من نصف ساعة – والله – مع زوجتي، فدخل وجلسنا، أمي تجلس وزوجتي، شيئ لا يُصدَّق! البوطي لم يُورَع إلا وأنا أبكي وزوجتي تبكي، قال ما الأمر يا سيدي؟ ما الذي حصل؟ لم يفهم لماذا نبكيان، لم نمتلكا أعيننا! أول ما جلس قال كيف حالكم؟ كيف أنتم يا أستاذ ويا كذا؟ ثم قال والدي – رحمه الله تعالى – كان يقول ما عُبِدَ الله – عز وجل – بشيئ أحب إليه من جبر الخواطر، هكذا! لا ندري ما الذي دفعه إلى هذا القول، وإن شاء الله هو من الصالحين – أي الدكتور البوطي – حقيقةً، قال والدي – رحمه الله تعالى – كان يقول ما عُبِدَ الله – عز وجل – بشيئ أحب إليه من جبر الخواطر، هو طبعاً قال هذا وأنا لم أملك عيني، جعلت وصرت أبكي مُباشَرةً! ما هذا؟ وزوجتي تبكي، أمي استغربت! قال ما الذي حصل يا أستاذ؟ ما الذي حصل؟ فقلت له يا أستاذ اسمع العجب، أنا كنت في حوار مع زوجتي قبل أن تأتي مُباشَرةً حول هذا الموضوع، والموضوع كيت وكيت، فقال آمنت بالله، آمنت بالله! لا إله إلا الله، الله ساقه وألهمه أن يقول هذه الكلمات لكي يكون تصديقاً لقولي أمام زوجي وتعليماً لنا، نعم إنه جوابر الخواطر، هذه طرق إلى الله الناس لا ينتبهون إليها.
أنا كنت شاباً صغيراً – وأعوذ بالله من كلمة أنا – وكان هناك أخ فلسطيني تشيَّع، اسمه حُسين، هذا الرجل يُحِبني وأنا أُحِبه ولا أُحِب تشيعه ودائماً أدخل معه في نقاش، والمسكين طبعاً لا يستطيع أن يُجاريني، ليس مُتوسِّعاً في العلم ودائماً يُفحَم، وهذا يعز علىّ، أنا أُريد الخير له، فماذا كنت أفعل؟ كنت شاباً صغيراً – في الحادية والعشرين من عمري – وكنت دائماً أتنازل له عن بعض المسائل وأجعل نفسي كأنني اقتنعت وليس عندي جواب، وجوابي – والله – حاضر عتيد، أقول لا، لو كسبت عشر نقاط سأُدمِّر هذا المسكين نفسياً، فأكسب أمامه ست أو سبع وأُسامِحه في ثلاث أو أربع جبراً لخاطره، وكنت أرى من ألطاف الله في بعض الأشياء ما لا يعلمه إلا الله، طبعاً أنت ترى الجزاء، حتى أكون واضحاً يأتيك الرسول – عليه السلام – مثلاً في المنام، كنت لكثرة ما أراه أستغرب نفسي، لماذا؟ كل ليلة والتالية أنا أرى الرسول، والله الذي لا إله إلا هو، كثيراً جداً! لا أُحصي المرات التي رأيته فيها، كثيرة جداً جداً جداً، وفي أكثر المرات يُعانِقني، ومرة أخذني ورفعني هكذا ودار بي من فرحته بي، لهذه الأشياء يا أخواتي! ليست حكاية علم ومشيخة وما إلى ذلك، ولم أكن مُلتحياً، لم يكن عندي حتى لحية، لكن هذه الأشياء الدقيقة لا يُنتبَه إليها، أنا رأيت علماء كباراً أُجِلهم وأحترمهم لا يجبرون الخواطر، لا يعرف كيف يجبر خاطر الناس، يعرف كيف يكسر خاطر الناس، أي علم عندك هذا؟ ليس عنده تلطف، بالعكس! هناك طرق قصيرة إلى الله وبسيطة جداً جداً جداً، لكنها تختصر لك الطريق، وتدل على ماذا؟ تدل على أنك ترعى الله – تبارك وتعالى – في نفسك، أشياء لا يتفطن لها الناس!
مثلاً يُمكِن أن تكون إماماً في مسجد – أنت الإمام – ويُمكِن أن تكون إماماً استثنائياً في علمك وخطابتك وبيانك وقدرتك، ولسبب أو لآخر تُريد أن يتقدَّم أحد إخوانك تدريباً له وما إلى ذلك، مثلاً من الأشياء التي تتقرَّب بها إلى الله أن تقوم – أنت الإمام وأستاذه وشيخه – وتُؤذِّن بين يديه، مَن يفعل هذا؟ أنا أُؤذِّن بين يدي تَلميذي الذي لا يستطيع أن يُقيم لسانه بجُملة على سواء البيان العربي؟ هو غير فصيح وغير عالم، أنا العالم العلّامة، لا! أُؤذِّن، أقول الله أكبر وأُؤذِّن بين يديه حتى أُشجِّعه، حتى أقول له لا بأس، أنا فرحٌ بك، مُمتاز أنت، اخطب وصل وجل في ميدان البيان، ولا عليك، أنا فرحٌ بك، شجِّعه! أليس كذلك؟ لا تُحاوِل أن تُثبِّط عزيمته وأن تُخيفه لكي ترتاح وتقول أرأيتم؟ هو ليس مثلي، أو هذا حتى مع عالم آخر، حين يأتي عالم آخر أو خطيب آخر إلى المسجد قم أنت وأذِّن، هل أقوم وأنا شيخ المسجد؟ نعم، أنا الذي أقوم وأُؤذِّن، أليس كذلك؟ مَن يفعل هذا؟ يجب أن نفعل هذا، طبيعي! ويتعلَّم الناس منا هذه الصدقية وهذا التواضع وهذه الربانية، هذه أشياء عملية، وتدل على شيئ من الصدق، الصدق الذي لو وُضِعَ على حديدٍ لقطعه بإذن.
قلت بالأمس في حضرة الأستاذ الدكتور طارق – حفظه الله – حين تعتقد بشيئ في إنسان مُعيَّن قل هذا الشيئ، لا يمنعك أن الناس يغضبون إذا سمعوه، نحن لا نُحِب فلان هذا، لماذا تمدحه؟ لا، لابد أن أقول هذا، هذا اعتقادي فيه، ستغضبون؟ اغضبوا، لا يعنيني، أنا لا أقول لكم، أنا أقول لله، أليس كذلك؟ هذا هو الصعب، أن تقول هذا!
حكيت للأستاذ الدكتور طارق حكاية اتفقت لي مع أحدهم حين كنا في مُؤتمَر، العلّامة الشيخ محمد الغزّالي – رحمة الله عليه – حبيب قلبي، أنا أعشق الشيخ الغزّالي، أعشقة عشقاً شديداً، لا أعشق عالماً مُعاصِراً كالشيخ محمد الغزّالي حقيقةً، أعشقه من كل قلبي، وأدعوكم أن تقرأوا كتابات الرجل الصالح هذا، عظيمة جداً جداً، رحمة الله عليه، فسألني أحد مَن لا يُحِب الشيخ محمد الغزّالي – وكان قبلها خاض معي في حديث واتفاق على عمل ومُرتَّب ومال، وأنا كنت شاباً صغيراً، هذا في الثالث والتسعين أو في أول الرابع والتسعين – وقال لي ما رأيك في هذا؟ أنا أعلم أنه لا يُحِبه، والحديث بيننا فردي، فطبعاً غضبت، يقول عن الشيخ الغزّالي “هذا”، قلت له أتعني مولانا الشيخ العلّامة محمد الغزّالي؟ فأنكرها مني وقال نعم، قلت له رأيي الذين أدين الله – تبارك وتعالى – به أنه – مد الله فُسحته – إذا مات فإنه يترك فراغاً لن يُسَد بعد أو قلت يترك ثُغرةً لن تُسَد بعده، فقال لي أهذا رأيك؟ قلت هذا رأيي، فلملم أوراقه وأشياءه وقام، قلت إلى حيث ألقت، مع السلامة! لا أُريد مُرتَّبك ولا أُريد أن أعمل عندك ولا أُريد شيئاً، سأُنصِف شيخي، سأُنصِف رجلاً تعلَّمت منه، طبعاً كنت أستطيع أن أكون كاذباً وندلاً خسيساً فأقول له والله عليه مُؤاخَذات، رجل فاضل داعية وعليه مُؤاخَذات! وسيُعجَب بي وسيقول لي مُؤاخَذات كبيرة، ونبدأ نتناقش هكذا، لا! الذي أعتقده سأقوله، ما تعتقدينه قوليه كما هو، ارمي به في وجه الناس بأدب، آثري وجه الله وآثر وجه الله على وجه الدنيا كلها، يجب أن نتعلَّم هذا، هذا من الصدق ويجب أن نتعلَّمه، هذا مُباشَرةً يختصر المراحل إلى الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟
في مجلس آخر حدث العكس تماماً، لن أذكر أسماء، كنت في حضرة فقيه أصولي علّامة – هو الآن يضع موسوعة في مائة وعشرين مُجلَّداً في الفقه الإسلامي – وذكر الشيخ القرضاوي حفظه الله، نعته بأبشع النعوت، فغضبت! وهذا الشيخ العلّامة – والله العظيم – جاء تقريباً أكثر من خمسمائة كيلو لكي يُقابِلني، سمع عن عدنان العبد الضعيف فجاء لكي يُقابِلني ويتعرَّف علىّ، هو جاء من أجلي إلى مُؤتمَر هنا في ميونخ بألمانيا، لما سمعت كيف نال من الدكتور القرضاوي قلت له أستاذنا عفواً، ما هكذا يُتكلَّم عن علماء الأمة، وإذا كان مثلك يتكلَّم بهذا الأسلوب فكيف يتكلَّم الصغار والعوام والطغام؟ أرجوك هذا لا يجوز، والعلّامة القرضاوي ليس كما ذكرت، قال لي عفواً عفواً، واعتذر الشيخ حقيقةً!
كان يجلس معنا رجل من الجماعة، وأنا رأيته في مرات كثيرة مع الدكتور القرضاوي، وفي ميونخ رأيته بعد ذلك – والله – يجلس بين يدي الشيخ يوسف كالأرنب الصغير، أُقسِم بالله! أتعرفون ماذا قال؟ ليس بهذه الطريقة ولكن – أي الدكتور يوسف – له شذوذات، فقلت له حتى هذا لا أقبله، ما معنى له شذوذات؟ لا يُقال هكذا يا إخواني، له شذوذات! تعرفون هذا الرجل فُتِن، أُقسِم بالله! هذا عالم – عالم كبير ودكتور وعند مُؤلَّفات وكان يُفتي الجيش في الدولة الفلانية – وفُتِن، تعرفون ما تُهمته؟ يتحرَّش بالبنات المُسلِمات والنساء في مركز إسلامي، والأمر ثبت بالتواتر، عشرات الأخوات فضحهونه، لماذا؟ لأن لا يُوجد صدق، يُوجَد نفاق، هذا كذب! تأتي أنت وتُقبِّل يدي القرضاوي حين تلتقي به وتجلس بين يديه كالأرنب الصغير لكن في ظهره تقول عنه له شذوذات، لا يُوجَد صدق يا إخواني، وهذا عالم كبير! ما هذا؟ يجب أن نتعلَّم الصدق إخواني وأخواتي، لابد من الصدق، لابد أن نكون واضحين.
أنا دائماً أقول انظر في المرآة، انظري في المرآة، حين ترى أو ترين في المرآة قولي هذه السيدة أو هذه الفتاة أنا أحترمها، عن نفسك! وأنت قل هذا الشاب أو هذا الرجل أنا أحترمه، لأنني أعلم أنه ليس انتهازياً، ليس نهّازاً، ليس مصلحجياً، ليس كذّاباً، ليس مُنافِقاً، ليس له ظاهر وباطن، على كل حال كلنا لنا ظاهر وباطن، لكن نسأل الله أن يجعلنا باطننا خيرٌ من ظواهرنا، وأن يجعل ظاهرنا صالحاً.
لما سُئل الإمام عليّ أو عمر – إما عليّ أو عمر، نسيت الآن، سُبحان الله – عن عثمان بن عفان – رضيَ الله عنه وأرضاه – ماذا قال؟ بماذا شهد؟ انظروا إلى الشهادة، قال ذلكم رجل باطنه خيرٌ من ظاهره، عثمان بن عفان – رضوان الله عليه – باطنه خيرٌ من ظاهره، فإذن الصدق – إخواني وأخواتي – طريق إلى الله.
لماذا أذكر هذه الأشياء؟ طبعاً لكي ألفت أنظاركن وأنظاركم إلى أنه ليس يُجدي أن نُستغرَق في العبادة والذكر والمظاهر الطقوسية وما إلى ذلك ونحن نتخوَّض في مثل هذه الأشياء، هذه الأشياء تُسمِّم كل عسلنا، كل العسل عندنا يتحوَّل إلى سُم وليس إلى عسل، لكن – صدِّقوني – بعبادة – إن شاء الله – ولو مُقتصِدة وبذكر ولو مُقتصِد مع مُراعاة هذه الأمور – بعون الله تبارك وتعالى – نصل، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُوصِلنا إليه، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلحنا إليك أيضاً بما أصلحت به عبادك الصالحين.
الحمد لله رب العالمين حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك وصفوتك وخيرتك من خلقك محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم إنا نسألك أن تُغنِنا بالافتقار إليك وألا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، نسألك حبك وحب مَن أحبك وحب العمل الذي يُقرِّبنا إليك، اللهم ما رزقتنا مما نُحِب فاجعله قوةً لنا فيما تُحِب، وما زويت عنا اللهم مما نُحِب فاجعله فراغاً لنا فيما تُحِب، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك، وأسعدِنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا إلهنا ومولانا رب العالمين، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، واجعل ظاهرنا صالحاً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالخيرات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات، اللهم اهد قلوبنا، اللهم حصِّن فروجنا، اللهم احفظ ، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك بالدعاء والضراع أن تجزي مَن كان سبباً في هذا الجمع واللقاء الكريم وأن ترزقنا وإياه وإياهم وإياهن جميعاً يا رب العالمين النية الحسنة والقصد الصالح، وأن تتقبَّل عنا وعنهم ومنا ومنهم أحسن ما عملنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يُوعَدون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله.
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan
أضف تعليق