إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
هذا نموذج أو نمط يتكرَّر في كتاب الله مع السادة الكبار الأئمة؛ إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ومحمد الحبيب المُصطفى المُختار المُجتبى – صلوات ربي وتسليماته عليهم أجمعين -.
إبراهيم يسأل ربه؛ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ۩، وموسى يسأل ربه؛ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۩، ومحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – يحكي القرآن عن جوانب، وقد تكون افتراضية بمعنى ما، مما عرض له من التساؤل بصدد رسالته وماهيته ونبوته؛ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ۩.
ما الذي يحصل؟ هل هو شك وارتياب، أم أمر آخر طُبع عليه الإنسان ضربة لازب، أن يعود إليه وأن يصدر عنه؟ هي الثانية، وليست الأولى. فيبقى إبراهيم مع كونه الخليل، وموسى مع كونه الكليم، ومحمد مع كونه الحبيب الأعظم – صلوات ربي وتسليماته عليهم أجمعين -، أبناء آدم أبيهم، أبناء آدم الذي نُهيَ عن قُربان الشجرة، فأبى إلا أن يقربها، وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩.
وقد لعب – إن جاز التعبير – إبليس – لعنه الله تعالى – على هذه النُقطة، التي علمها بطريقة ما، علم بوجودها في آدم خصمه وعدوه بطريقة ما! لعب على ملكة الفضول، في هذا النوع الجديد، الذي سيخلف أنواعاً أُخرى في الأرض، سيُصبِح خليفةً في الأرض.
الله – تبارك وتعالى – قبل أن يأمر الملائكة بتحية آدم، بأن يسجدوا له، أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة. إذن القضية مُقرَّرة ومحسومة ابتداءً، لا بد أن يُغادِر آدم الجنة وأن يهبط إلى الأرض، قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۩، الله يعلم هذا والقضية مُقرَّرة، لكن كيف كان سبيلها؟ ما سبيل إخراج آدم من الجنة؟ ولِمَ كان ينبغي أن يخرج؟ الله – تبارك وتعالى – يعلم أن هذه القوة، التي غرسها وغرزها وطبع عليها هذا الخلق وهذا النوع الجديد، ستُخرِجه من الجنة، إنها قوة الفضول.
والعجيب أن مُعظَم المُفسِّرين تنبهوا إلى هذا، تنبهوا إلى أن القضية أكبر وأبعد من قضية أن إبليس لعب بعقل آدم، لا! لماذا لعب بعقل آدم؟ آدم ليس كائناً غبياً، إنه الكائن المُعلَّم للأسماء كلها، كائن أذكى من إبليس بلا شك، أذكى! ولا يُمكِن أن يُقال إن إبليس أذكى من آدم. كيف يكون أذكى، وقد عصى ربه وأبلس من رحمته؟ هذا أغبى خلق، هو داهية مكّار مُخادِع حقود مُتلوِّن حربائي، نعم! نعم ولكنه غبي، غبي! ولا أغبى مِمَن يعصي الله، لا أغبى مِمَن يعصيه. ولذلك كل مَن عمل السوء – كما نقول دائماً -، إنما يعمله جاهلاً، علم أم لم يعلم، ولا عقل له. وهذا ارتكب أعظم معصية – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.
إذن ليست قضية أنه لعب بعقل آدم، المُفسِّرون فهموا هذا، فهموا أن هناك شيئاً آخر، ولكن لم يُصرِّحوا، لأن هذه اللفظة لم تكن موجودة بهذه الطريقة، وربما حتى المعنى لم يكن مُحدَّداً على هذا النحو الذي أصبح واضحاً للأجيال الحديثة والمُعاصِرة. لعب على هذه النُقطة، التي يعلم قوتها، قوة إثارتها وفاعليتها وحفزها، في الإنسان. أعني الفضول، الفضول!
ماذا لو أن الله – تبارك وتعالى – لم ينهه عن قُربان تلك الشجرة؟ وطبعاً القرآن لم يجد نفسه ملزوزاً أن يكشف لنا عن ماهية تلكم الشجرة، كما فعل المُفسِّرون والدراسات أو الأدبيات الإسرائيلية، أكثر من خمسين قولاً! هذا لا يعنينا، لكن حتى بتقصي هذه الأقوال الخمسين، ولعل الحق لا يخرج عنها، ولعله يخرج، هناك شبه إجماع على أنها لم تكن شجرة مُميَّزة، شجرة عادية جداً جداً؛ التفاح، أو حتى الحنطة، وهذه ليست شجرة، هذا التفسير غير صحيح وغير دقيق، هذه ليست شجرة، إلا بتوسع شديد، ولكنها لم تكن مُميَّزة. القضية أنه نُهيَ عنها، فإذ نُهيَ عنها، فلا بد أن تُلاعِبه نفسه وأن تدفعه إلى قُربانها.
ولذلك ورد في الأثر – وهو ليس حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله، إنما هو من مُرسَلات الحسن البِصري، ورواه ابن شاهين وغيره، كما قال الحافظ العراقي – لو نُهيَ الناس عن فت الشوك – وفي بعض الألفاظ عن فت البعر -، لفتوه، ولقالوا ما نُهينا عنه، إلا وفيه شيء. أخذ هذا المعنى الشاعر، فقال:
مُنعت شيئاً، فأكثرت الولوع به حِب شيء – أي أحب شيء – إلى الإنسان ما مُنعا.
إذا أردت أن تُغري أحداً بُقربان شيء وتعاطيه، انهه عنه وشدِّد عليه، سيتعاطاه! حتى أسطورة باندورا Pandora – أي Pandora’s Box، أي جرة أو صندوق، وهي جرة في الحقيقة، لم تكن صندوقاً، هي جرة، ولكن هكذا قالوا، صندوق باندورا Pandora – تقوم على هذه المسألة؛ نُهيت أن تفتح الصندوق، ففتحته، ومنه خرجت وتطايرت كل الشرور التي تفتك بالنوع البشري، هكذا تقول الأسطورة اليونانية، والثقافات كلها واضحة تماماً مع هذه الملكة العجيبة في الإنسان؛ ملكة السآلية، ملكة تقليب الأحجار، فتح الأبواب، البحث عن المُلغَز والخفي والغامض والسري – أي والأسراري – الخفي والمُتخفي.
هذه الملكة نفسها هي التي دفعت إبراهيم الخليل إلى أن يسأل ربه – تبارك وتعالى -؛ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ۩. هو يعلم أن الله يُحيي الموتى، لِمَ لَمْ يكتف بالتسليم؟ وهو مُسلِّم أيضاً أن الله يُحيي الموتى! يُريد أن يعرف الكيفية، الفضول يُحرِّكه إلى أن يعرف كَيْفَ ۩، وهذا لم يتنبه إليه كثير من المُفسِّرين، مع أن القرآن واضح جداً، هو قال كَيْفَ ۩، لم يقل أرني أنك تُحيي الموتى، أي أثبت لي هذا، لا! هو يعلم، يعلم طبعاً! فالخليل هذا – عليه السلام -، ولكنه يُريد الكيفية؛ كيف يتم هذا إذن؟ أنا أعلم – يقول – وأنا مُؤمِن، ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۩، ليزداد يقيناً وطمأنينة، أُريد أن أرى الكيفية.
وهذا هو الفضول، الفضول هو القوة التي تُحرِّكنا من ماذا؟ إلى كيف؟ ومن كيف؟ إلى لماذا؟ وأيضاً أنا أقترح مرحلة رابعة؛ وماذا لو؟ وهذا هو العقل الإنساني، وهكذا تقدَّمت الشرائع والقوانين والفلسفات والأفكار والاختراعات والاكتشافات، أيضاً الافتراضية التخيلية، ماذا لو؟ أي What if كما يقولون، ماذا لو؟ إذن هو لا يكتفي بالمُعطيات كما هي أن يصفها: ماذا؟ المنطق الوصفي الوضعي، ولا أن يُحلِّلها: كيف؟ ولا أن يغييها – أي يصل إلى مرحلة تيلولوجية، غائية -: لماذا؟ فهل هناك خُطة تتغيا هدفاً مُعيَّنة، تُريد أن تُصيب غاية ما؟ لا يكتفي بهذا كله، بل ويتجاوزه إلى: ماذا لو؟ وهذا من خلّاقية الإنسان، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩.
أكثر ما يُميِّز مُعلَّم الأسماء هذا أنه يُبدِع، وباستمرار يُبدِع، ولا يكتفي، بأن يسعى في كشف المغاليق، واكتناه الأسرار، واستخراج الكظائم والخفيات، يفترض أيضاً أحوالاً ووجودات ووقائع ليست موجودة، وماذا لو؟ هذا هو الفضول، أي الــ Curiosity، هذا هو الفضول! إنه شهوة العقل. من أجمل ما نُعت به الفضول، قول بعض المُفكِّرين إنه شهوة العقل. أي الــ Lust – Lust بالإنجليزية وبالألمانية – الخاص بالعقل، هذا الــ Lust الخاص بالعقل، شهوة العقل! والعقل عنده شهوة.
أكبر دارس وأول دارس، بل رائد دراسات الفضول، هو دانيال برلين Daniel Berlyn. وهي إلى الآن دراسات شحيحة للأسف الشديد، ولا ندري لماذا، أو ربما طبعاً ندري بعض الأمر. هذه الدراسات شحيحة ونادرة جداً في علم التربية وعلم النفس التربوي والتعليميات؛ لأنها تمشي على خط مُعاكِس تماماً ومُضاد لكل نُظم التعليم الرسمي، أي الــ Formal education، ضده تماماً! التعليم الرسمي يقتل الفضول، يذبحه ذبحاً، يسفك دمه. ولذلك لا يُوجَد عبقري، ولا يُوجَد نابغة، فُسِّر نبوغه وعبقريته بما أمده به التعليم الرسمي، العكس تماماً! الذي يحصل دائماً هو العكس تماماً. ومن هنا قال النابغة الكبير – نابغة الفيزياء في القرن العشرين – ألبرت أينشتاين Albert Einstein، قال إنها لمُعجِزة أن ينجو الفضول من التعليم الرسمي. نعم! قال إنها مُعجِزة. مُعجِزة أن يُوجَد العباقرة الذين درسوا ودخلوا في المدارس والكليات والجامعات وظلوا عباقرة، المفروض أن يتحوَّلوا إلى أغبياء. هو يقول هذا، وهو واضح، لأن الناس يتغبون، يتحولون إلى أغبياء بالتعليم الرسمي، فلذلك التعليم الرسمي لا يُشجِّع، وهذا أكيد، لا يُشجِّع أبحاث الفضول، ولذا هذه الأبحاث إلى الآن شحيحة جداً. الدراسات عن الفضول وتقصي كل ما يتعلَّق به وكيفية تنميته واستثارته وتحفيزه وتشجيعه نادرة جداً، نادرة جداً!
من أوائل، بل هو رائد دراسات الفضول، الأمريكي دانيال برلين Daniel Berlyn. دانيال برلين Daniel Berlyne في سنة ألف وتسعمائة وستين كان لديه دراسته الشهيرة جداً، عن الصراع، الإثارة والفضول؛ Conflict, Arousal and Curiosity. الصراع، الإثارة، والفضول! كتاب مشهور جداً، فتح به هذا الباب من الدارسات. هذا الرجل يقول كما أن في الإنسان نزعات وحاجات إلى الطعام والشراب والشريك، فيه نزعة إلى الفضول. سُبحان الله! شيء أساسي فينا، ومُغفَل إلى الآن، لا يحظى بدراسات كثيرة. شيء أساسي، غريزة، ملكة، غريزة مغروزة فينا، لا إله إلا الله!
وعلى فكرة من عجائب القرآن وبدائعه، أنك حين تُعيد قراءة – إعادة قراءة، إعادة تفكير وتفسير، هذه إعادة قراءة – حكاية أو قصة أبوينا؛ آدم وحواء – عليهما الصلوات والتسليمات -، تعجب، تقريباً أن هذه الحكاية وضعت الأُصبع على مُعظَم أو على الغرائز والملكات الأساسية التي تُفسِّر ماهيتنا إلى اليوم، في القرن الحادي والعشرين! لا تُوجَد ملكة في الإنسان أساسية، إلا أشارت إليها قصة آدم وحواء، ولكن هذا يحتاج إلى خُطبة بحيالها، الموضوع مُثير ومُهِم جداً، وفي رأس هذا ملكة أو غريزة الفضول، التي أنشأت المدنيات وبنت الحضارات والفلسفات والأفكار والكشوف والاختراعات، وكل شيء! فالإنسان بلا فضول، لا يُساوي شيئاً، لا يُساوي! يُساوي روبوتاً Robot ربما، روبوتاً Robot ليس فيه شيء. الملائكة لو كانوا على الأرض، ما أنشأوا لا حضارة ولا مدنية، ولا وضعوا لا أي فلسفة، لا ميتافيزيقية ولا طبيعية، ولا أي شيء! كانوا فقط سيكتفون بالعبادة والتسبيح والتهليل، ليل نهار. ولذلك حين استفصلوا واستفسروا – لم يعترضوا، وليس من شأنهم أن يعترضوا -؛ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ۩، كان بعد ذلك الجواب؛ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ۩. قال هذه ميزته. هذا كائن فضولي، أي Curious، كائن فضولي، وفضولي بشغف، الفضول فيه أساسي.
والآن يثور سؤال في أذهان مُعظمكم، يقول هذا السؤال؛ فما بال مُعظَم الناس يظلون تقريباً فارغين – ولن أستخدم لفظة تافهين، أي Trivial، سأقول فارغين – ولا يستفيدون؟ لا، بالعكس! الكل يشتغل عنده الفضول على أحسن ما يكون، مُعظَم الناس على الإطلاق هكذا، إلا المُكتئبين ربما وأمثال المُكتئبين. ولكن فضول ماذا طبخ فلان؟ ولماذا طلَّق فلان؟ وبكم زوَّج فلان؟ وكم يأخذ فلان؟ فضول غير نافع، إلا لذوي المهن؛ رجل تحريات، أو مباحث! هذا يهمه، يهمه ماذا طبخت زوجتك أمس؟ وهذا ضمن المهنة ربما، ضمن المهنة! لكن أنت، لا يهمك هذا، هذا يُضيِّع هذه الملكة، أن تعمل وفق ما ينبغي للأسف. تماماً كما أُمثِّل بمثال قديم، مثل إنسان عنده شاحنة، ثمنها قريب من مليون دولار، شاحنة حديثة ضخمة للنقليات، يستخدمها في توصيل أولاده إلى رياض الأطفال. شاحنة يأخذها كل يوم، يُوصِّل بها ابنه إلى الروضة – الــ Kindergarten – ويعود، ما شاء الله! شاحنة بمليون دولار، هذه لا تُستعمَل هكذا، هذه تدر عليك أموالاً وفوائد كثيرة كل يوم، لو استخدمتها ولو أحسنت استخدامها.
نحن عندنا ملكات نصل بها يا إخواني – صدِّقوني – إلى ما بعد حتى الأكوان، إلى رب العزة – لا إله إلا هو -. لما سُئل الإمام عليّ – عليه السلام، انظر إلى العبقري – كم بين السماء والأرض؟ لم يقل كما في آثار تُنسَب إلى ابن عباس وغيره خمسمائة سنة عدو الفرس المُضمر وما إلى ذلك، لم يقل هذا، قال دعوة مُستجابة. قلب مُعلَّق بالسماء، يتواصل مع الله – تبارك وتعالى -، بصدق، فيُختصَر كل شيء. هناك الفكر، الفكر أسرع من الضوء بكثير، ضوء ماذا؟ أنت في لحظة تُفكِّر في العرش، في لحظة تُفكِّر في رب العالمين، في لحظة! في لمح البصر. هذا الفكر، ملكة عجيبة، نعم! وأعجب ما في الفكر الفضول، بغير فضول الفكر – كما قلت – يتركنا فقط مُجرَّد حواسيب، ربوتات Robots، ليس أكثر من هذا. لكن بالفضول، كنا بني آدم بُناة الحضارة، مُنشيئي النُظم الفكرية والفلسفية والدينية، كنا هذا العجب العجيب جداً حقيقةً، أُعجوبة الكون هو الإنسان، ولذلك قال الله وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۩. يعلم أنه بقوة الفكر والفضول المعرفي والفكري، يُمكِن أن يتسلَّط على هذه المُسخَّرات كلها وأن يفك مغالقها وأسرارها، قد فعل ولا يزال يفعل، لكن تسارعت الوتيرة جداً في آخر قرون – ما شاء الله -، فعلاً الفكر البشري والعلم الإنساني أصبحاً شيئاً مُذهِلاً، وهناك المزيد، لعلنا في بداية البداية، ولكن ما أنجزناه مُعجِب ومُدهِش جداً.
إذن الذي حرَّك أبوينا هو الذي حرَّك إبراهيم – عليه السلام -؛ أَرِنِي كَيْفَ ۩، هو لا يكتفي بمرحلة ماذا؟ ماذا؟ الله على كل شيء قدير، الله يُحيي ويُميت، هذا ماذا؟ أبداً! وصفي هذا، لكن كيف؟ وبعد ذلك يأتي سؤال آخر، يدخل في فلسفة الدين وفي عُمق العقيدة، مسألة التعليل، المسألة الشهيرة جداً بين الأشاعرة وأخصامهم، وهل تُعلَّل أفعال الله، أو لا تُعلَّل؟ وبأي معنى؟ إلى آخره، وهناك مسألة ولماذا؟ وكما قلت، أقترح المرحلة الرابعة: وماذا لو؟ وماذا لو؟ هذه مُهِمة جداً أيضاً، أي ماذا لو؟ وقد طُرحت، ولا تزال تُمارِس أيضاً سحرها على الأدمغة الكبير، ماذا لو؟ في العلم، كما في الفلسفة، في العلم، وحتى في الفقهيات والقوانين. الفقه الإسلامي لم يزخر – لم يزخر هذه الزخارة، ولم يتعمَّق ويضرب بجِرانه – إلا بفضل ما ظنه كثير من الأئمة في البداية نزعة سيئة؛ النزعة الأرأيتية، أرأيت لو؟ ماذا لو؟ بالعكس! خاصة عند الأحناف، هذه النزعة الأرأيتية، أرأيت لو كان كذا، ماذا يكون؟ بالعكس! هذا شيء جميل، ولا يُوجَد تقريباً مسألة أرأيتية في الفقه كانت محل سخرية وتندر في القديم، تقريباً إلا صادق عليها العصر الحديث، وأصبحت من نوازل العصر الحديث، ما رأيكم؟ شيء غريب، شيء غريب! هذا هو عمق العقلية الفقهية الإسلامية وخصوبتها على كل حال.
دانيال برلين Daniel Berlyn يقول كما أن غريزة الطعام والشراب تدفعنا للبحث عن الطعام وعن الشراب، وغريزة البحث عن الشريك – غريزة كما تعرفون، لا نُحِب أن نستخدم اللفظة المشهورة، فهي غير لائقة، وإن كانت علمية – تدفع صاحبها إلى البحث عن الشريك – الطرف الآخر، الشريك؛ الزوج والزوجة -، فكذلك الفضول يدفعنا إلى البحث عن المعلومات. يقول ملكة الفضول تدفعنا إلى البحث عن المعلومات، عن طرح الأسئلة والبحث عن جوابات لها، أسئلة في كل شيء! وطبعاً أكبر فضولي مَن هو؟ الطفل. في أي مرحلة؟ للأسف في أول ثلاث سنوات. وهنا الجواب أو المعلومة السيئة جداً، للأسف بعد السنة الثالثة تبدأ شُعلة الفضول تنطفئ في الأطفال، لا! أنا هنا مُتحيِّز للجُناة، للمُجرِمين، تنطفئ أم تُطفأ؟ تُطفأ. هي لا تنطفئ، لو تُركت وحدها، لن تنطفئ. شُعلة قوية، مثل غريزة الأكل والشرب والبحث عن الشريك، ولكنها تُطفأ، المُجتمَع يعمل على طفئها، وأول مَن يفعل الأبوان. كل امتهان لطفل حين يسأل سؤالاً صعباً، يُطفئها. وأسئلة الأطفال ليست سهلة، أسئلة الأطفال عميقة جداً، وهم لا يُدرِكون أنها عميقة، مُجرَّد سؤال! الذي يُكسِبها عُمقها، هل تعرفون ما هو؟ أن الطفل فعلاً العبقري بطبيعته يرى كل شيء غير مفهوم ويراه عجيباً وغريباً.
أي ما قاد إسحاق نيوتن Isaac Newton إلى اكتشاف نظرية الجاذبية، كل طفل يراه غير عادي، لماذا يقع الشيء من فوق إلى تحت؟ لماذا يقع؟ لماذا لا يبقى مُعلَّقاً في الهواء؟ لماذا لا يطير في السماء مثلاً؟ أي طفل دون الثالثة يرى أن هذا الشيء غير طبيعي، أن الأشياء تقع إلى الأرض. نيوتن Newton وهو كبير وعلّامة كبير ورياضي خطير، فعلاً استبدت وأخذت بتلابيه هذه الدهشة، قال هذه الأرض، لماذا لا تقع الأشياء في الفضاء؟ لماذا تعود إلى الأرض؟ قال، لماذا البحار والمُحيطات ممسوكة في الأرض؟ قال هذا الشيء غير مفهوم. نعم، قضية التفاحة هذه طبعاً، عقل! عقل طفل، لأنه عبقري، وكل عبقري هو طفل، ليس من حيث السذاجة وقلة المعلومات، لا! هو طفل من حيث السآلية، الاندهاشية، الاستغرابية، والتعجبية من كل شيء، لا شيء مفهوم، لا شيء واضح، ولا شيء عادي، هذا هو الطفل! والعبقري يبقى طفلاً.
هناك آرنو بينسياس Arno Penzias – طبعاً نقول بينسياس بالألمانية؛ لأنه ألماني، هذا نمساوي، نقول بينسياس، ويقولون بالإنجليزية بينزياس – الحاصل على جائزة نوبل Nobel سنة ألف وتسعمائة وثماني وسبعين، مع شريكه روبرت ويلسون Robert Wilson، وهما مُكتشفا الأشعة الميكرويفية للخلفية الكونية، أخذا جائزة نوبل Nobel على هذا الكشف العجيب، وهذه قصة مُثيرة جداً وجميلة، أي قصة هذا الكشف، ويُمكِن أن تعودوا إليها في مظانها.
في سنة ثماني وسبعين آرنو بينزياس Arno Penzias أخذ جائزة نوبل Nobel، وجميل جداً أن نقرأ خطابات نوبل Nobel، أي مُثقَّف لا بد أن يقرأ كل خطابات نوبل Nobel، هذا لكي تعرف السر، هذه خُلاصة، يأتيك هذا العبقري في تخصصه بكلمات – وهذه الكلمات كانت في بضع دقائق فقط، طُلب منه هكذا – ويُلخِّص لك سر المسألة وسر عبقريته، كيف وصل هناك؟ كيف وصل إلى ستوكهولم ليأخذ نوبل Nobel – أعظم جائزة -؟ كانت في العلم، في الفيزياء.
باختصار قال الآتي، قال الفضول – أي الــ Curiosity – ملكة عميقة جداً فينا – أي Very very profound -. يقول عميقة جداً فينا، لدرجة أننا نفشل في مُلاحَظتها أحياناً. أي نظن أنها غير موجودة، وهي عميقة جداً، جداً! هل هذا واضح؟
أجمل شيء ما ختم به آرنو بينزياس Arno كلمته أمام لجنة نوبل Nobel، قال ما هو الأهم – هكذا قال؛ ما هو الأهم. وهذه آخر جُملة – هو أن الذين جاءوا اليوم – وهو واحد منهم طبعاً، مع شريكه روبرت ويلسون Robert Wilson – ليتسلَّموا هذه الجائزة، في الأغلب هم الأعلى سناً – قال كلنا كبار، فوق الأربعين أو فوق الخمسين، لسنا شباباً صغاراً -، ولكنهم الأصغر سناً من حيث الروح. أي يقول الأطفال في الروح. نحن أطفال. قال، أطفال! نحن الأطفال. أربعون سنة أو خمسون سنة أو ستون سنة، وأطفال! من حيث ماذا؟ من حيث الروح. كما قلت ليس من حيث قلة المعلومات والسذاجة والبساطة والبراءة، لا! من حيث السآلية والاندهاشية والتعجب الذي لا يتوقف أمام كل شيء. كل شيء عجيب، كل شيء ينتقل من شيء إلى شيء جديد، وكل شيء عجيب! العباقرة هم هؤلاء، هذا الذي يُميِّزهم يا إخواني، هذا الذي يجعل العبقري عبقرياً.
عودة مرة أُخرى إلى ألبرت أينشتاين Albert Einstein، هذا الكبير، العقل الهائل! قال لست موهوباً بمواهب خاصة. أي Special talents، قال هذا. ليس عندي – قال – مواهب خاصة. قال I have no special talents. ليس عندي – قال – مواهب خاصة. إذن عندك ماذا؟ كيف أصبحت ألبرت أينشتاين Albert Einstein، صاحب النسبيتين، وفاتح المجال للمُوحّدة العظيمة؛ النظرية المُوحّدة العظيمة؟ كيف؟ أنت شيء نادر جداً جداً، لا يتكرَّر هذا، إلا ربما كل خمسمائة سنة وما إلى ذلك، شيء غير عادي، ألبرت أينشتاين Albert Einstein! قال أنا – هكذا قال، i’m، أنا. يُعرِّف نفسه – فضولي بشغب. قال Passionately curious. أنا رجل فضولي بشغف. مثل الأطفال! طفل – قال – أنا. هكذا! فشلت المدارس أن تقتل هذا الفضول فيه يا إخواني، ولذلك دائماً هؤلاء العباقرة عندهم مشاكل مدرسية. تُوجَد مشاكل في المدارس معهم، وفي مُعظَم الأحيان يُحكَم عليهم بأنهم فشلة، كسولون، غير طيعين، غير طبيعيين، أغبياء، بُلداء، هكذا! هكذا حُكم على أينشتاين Einstein، وعلى إديسون Edison، وعلى تشارلز داروين Charles Darwin. وكل العباقرة عندهم مشاكل تقريباً في المدارس، لأن الفضول شيء غير مُستوعَب في نُظم التعليم الرسمي للأسف الشديد، وهذه مُهِمة جداً اليوم، أن نلفت إليها، أي في خُطبة اليوم.
الحديث عن الفضول لا ينتهي – إخواني وأخواتي -، الحديث لا يُمكِن أن ينتهي عن هذه الملكة العجيبة والضرورية لحياتنا، عن شهوة العقل! إذا لم يُعط الجسم شهوته، ذوى وضعف وذبل وتعرَّض للفناء والتحطم. والعقل كذلك، إذا لم يُعط شهوته، ذوى وذبل. استعمله أو ستفقده، أي Use it or lose it. ستفقد العقل، سيُصبِح العقل هذا شيئاً من التاريخ. الذي يُغذيه والذي يُعطيه بقاءه، هو الفضول المُستمِر – إخواني وأخواتي -.
هذا الفضول هو الذي جعل هناك عبقرياً مثل أبي نصر الفارابي، أحد العقول الضخمة جداً في تاريخ المُسلِمين، وإن كان الجيل المُعاصِر لا يعلم عن هذه العقول الكثير، وهي القمم على فكرة، على كل حال هذه قمم الحضارة الإسلامية، كيف تعرف القمم؟ بسهولة، بسهولة! يراها الكل. أي انظر إلى أي دارس لحضارة المُسلِمين، روسياً كان أو أمريكياً أو نمساوياً أو ألمانياً أو أسترالياً أو كندياً أو عربياً، في القديم أو في الحديث، مُباشَرةً يأتي إلى هذه القمم؛ لأن الذي يُرى من بُعد القمم، طبعاً! الأشياء الصغيرة لا تُرى، أليس كذلك؟ ولذلك هؤلاء يأتون، وأول ما يرون، يرون هؤلاء، القمم العالية، العبقريات الفذة، الجبال، جبال شامخة، جبال شامخة! هذا الرجل يقول أعياني كتاب أن أفهم مراميه. هذا كتاب في الفلسفة الأولى، لم يعرف معناه. يقول فأعدته، كررته – قرأه قراءة دراسة – أربعين مرة. قرأه أربعين مرة حتى فك مغالقه، شيء غير طبيعي! وهذا يتكرَّر في الشرق والغرب باستمرار يا إخواني، يتكرَّر في الشرق والغرب باستمرار!
هناك أبو بكر الرازي أيضاً، هذا الكيميائي والطبيب (المُلحِد) – وأقول هذا بين قوسين -، يُسمونه المُلحِد، مع أنه يُؤمِن بوجود الله، لكن عنده موقف من النبوات معروف. أبو بكر الرازي من أوائل العلماء الذين أجروا تجارب خطيرة على أنفسهم، تناول كيمياويات وأدوية مُعيَّنة، لكي يعرف الأثر. انظر، يُوجَد جانب إنساني أيضاً، لم يُحِب أن يُورِّط بعض العبيد والخدم الذين يشتريهم بفلوسه، لا! على نفسه.
ومثل هذا الشيء عمله فرانسيس بيكون Francis Bacon. فرانسيس بيكون Francis Bacon أبو الفلسفة التجريبية الإنجليزية، صاحب الــ Novum Organum، أي الآلة الجديدة، ومُؤسِّس لفلسفة التجريب في العصور الحديثة، هل تعرفون كيف هلك هذا الرجل؟ وكان رئيس وزراء أيضاً، عالم وفيلسوف ورئيس حكومة. فرانسيس بيكون Francis Bacon هلك؛ لأنه أيضاً قام بإجراء تجربة على نفسه في البرد الشديد، فأصابته نزلة برد، كان فيها حتفه، مات! شغف غير طبيعي.
دانيال إيفرت Daniel Everett، وهو أنثروبولوجي شهير، مكث ثلاثين سنة، يتعلَّم البيراها Pirahã، وهي لُغة قبائل في غابات الأمازون Amazon. مكث ثلاثين سنة، وهو يُريد أن يعرف اللُغة هذه، ويُريد أن يتمكَّن منها، لكي يفهم هذا الشعب وكيف يُفكِّر وما طقوسه وما أديانه، شغف غير طبيعي.
إيغلتون Eagleton يُحدِّثنا في كتابه معنى الحياة، عن رجل إنجليزي أخذ دكتوراة في الجهاز التناسلي للبرغوث، أي للـ Flea. غير معقول، البرغوث! درس الجهاز التناسلي الخاص به وأخذ دكتوراة.
وهؤلاء أبناء آدم على فكرة، هؤلاء يمتون إلى آدم أكثر منا، إلى آكل الشجرة، إلى مُعلَّم الأسماء كلها. يُحِبون أن يفهموا كل شيء، وأن يتساءلوا بصدد كل شيء. سوف تقول لي يا خيبتنا! يا ويلتنا! يا حسرتنا! من فكر إسلامي شاع في آخر أربعين وخمسين وستين سنة – سُبحان الله – على العكس من هذا، وإلى الآن على فكرة موجود، وما زال يُحاوِل أن يستمر. وأنا أراه يُحتضَر – بحمد الله -، نسأل الله أن يُعجِّل بوفاته وقبره، من غير صلاة جِنازة عليه. فكر وطريقة ومِزاج وعقلية وروحية، عند أنفار من المُسلِمين – سُبحان الله -، تُريد منا أن نُغلِق على كل شيء، لا أن نفتح أي شيء، ولا أن نتساءل بصدد شيء، وأن نتلقن. باسم أن هذه طريقة السلف الصالحين! هذه الطريقة دمَّرتنا وستُدمِّرنا. هذه الطريقة هي التي جعلتنا نعاجاً ومعزاً، يُمكِن لكل أحد أن يضعنا في قطيع، ثم يُوجِّهنا إلى ملحمة، إلى كارثة أعني، ليس إلى ملحمة، بل إلى كارثة، إلى مذبحة، طبعاً هذه عقول لم تتعلَّم أن تتساءل بصدد أي شيء، على أن هذا من الدين، مَن قال؟ مَن قال يا رجل؟ نحن نتحدى، نتحدى أن نُدل على دين أو حتى ثقافة تجعل الاجتهاد الخاطئ الغالط مأجوراً. إذا اجتهد الحاكم – هذا حديث عبد الله بن عمرو، عن أبيه، في الصحيحين وفي مُسنَد أحمد، إذا اجتهد الحاكم، أي القاضي طبعاً، والقُضاة لم يكونوا مثل اليوم، لم يكونوا يحفظون قوانين وفقرات (برجرافات (Paragraphs، لا! كانوا مُجتهدين، ويستنبطون الأحكام من مصادرها. وكان يُشترَط في القاضي في الأعصار الأولى أن يكون مُجتهِداً، تخيَّلوا! مثل الأئمة الكبار، هذا القاضي، ليس حافظاً لأشياء، درسها في خمس سنوات كما يُقال، وهناك معاهد قضاء بعد سنتين تُخرِّج قاضياً شرعياً، لا! مُجتهِد هذا، من المُجتهِدين. إذا اجتهد الحاكم، أي القاضي – فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر. النبي يقول الذي يجتهد ويغلط مأجور. هو ليس موزوراً، بل هو مأجور. لماذا النبي يفعل هذا؟ لكي يُشجِّع ماذا؟ التفتح، والمرونة، اللدائنية العقلية، لكي يُثري الاجتهاد بأمداد جديدة من القرائح، من ثمرات وبنات القرائح والعقول والملكات المُهِمة في البشر. هذا ديننا! قال لك لا.
وللأسف طبعاً بفاعلية انتشار هذه الروحية، جهلنا تراثنا كله تقريباً، إلا هذه الجوانب النادرة، التي تحض على التسليم فقط وغلق العقول، فإن جاء ذكر المُعتزِلة، ذُكِروا بكل خبثة وسيئة، على أن المُتكلِّم ربما لا يعلم عنهم ما يملأ خمس صفحات – هذا إذا ملأها -. المُعتزِلة عندهم تراث هائل مُخيف، هؤلاء الناس من أذكياء البشر، ومن أذكياء المُسلِمين، ومُخلِصيهم أيضاً. المُعتزِلة لم يعدموا أعلاماً عظيمةً، ضربوا أروع الأمثلة في الزُهد والتقلل والإخلاص والتفاني في خدمة الدين والذب عن جناب التوحيد، ما رأيكم؟ لا، أي المُعتزِلة كفّار إلا قليلاً، كفّار إلا قليلاً! حتى الأشاعرة كفّار إلا قليلاً، والماتريدية – إخوة الأشاعرة – كفّار إلا قليلاً. مَن؟ فقط هم، هم! هذه الطائفة القليلة الصغيرة، طائفة الغلق! وإلى اليوم يُمارِسون هذه النزعة المريضة المُلتاثة نفسها، للأسف! الله أنعم على الشباب العربي والمُسلِم الآن بشباب أذكياء طُلعة، طُلعة! يتطلعون إلى العلم والمعرفة، وفتحوا قنوات، والله بعضها قنوات… ماذا أقول لكم؟ فخر للعرب، أن من أبنائنا وبناتنا مَن عندهم هذه اللياقات العقلية والإلقائية والخطابية والتعليمية، وفتحوا هذه القنوات، يُعرِّفون الآخرين بموضوعات كثيرة جداً، مُهِمة وجيدة. لا! مُباشَرةً يُنظَر إليهم وإلى أدائهم وإلى عطاءاتهم من جانب؛ كفر، ألحد، يقود إلى الكفر، يقود إلى الإلحاد، احذروا منه. ما هذا؟ ما هذا يا رجل؟ ما هذا؟ رجل تكون له ربما مئات الحلقات الجيدة المُمتازة، تعريف بالعلم وبالفكر وبأشياء أُخرى كثيرة، يتركونها كلها ويأتون إلى حلقة أو حلقتين، ثم يقولون لكم أرأيتم؟ ها هو يُشايع وينشر الإلحاد. والعبارة السقيمة الثقيلة الغثة، التي أصبحت فعلاً تُغثينا وتُغثي نفوسنا: يدس السم في العسل. عسل ماذا؟ وسم ماذا يا رجل؟ سممتم حياتنا، حياتنا كلها أصبحت مُسمَّمة بكم وبروحيتكم، وتتهمون الآخرين. يدس السم في العسل! لماذا؟ لأن العقلية عقلية القفل والغلق. والسلف الصالخون الحقيقيون لم يكونوا كذلك، كانوا سآلين عن كل شيء.
ومن هنا على فكرة – من هنا – تسربت الأدبيات الإسرائيلية إلى حياتنا. إن نظرت إليها من جانب، لها سيئتها. إن نظرت إليها من جانب آخر، لها حسنتها. كيف إذن؟ حسنتها أن العقول الإسلامية، وأولهم الصحابة؛ ابن عباس، وابن عمرو؛ عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هُريرة – رضوان الله عليهم أجمعين -، طُلعة، يتطلَّعون، يُحِبون أن يعرفوا ماذا عند الآخرين، كيف يُفكِّرون، ما تراثهم الديني، ماذا عندهم. وهذا ليس لأن القرآن والسُنة فيهما نقص، حاشا لله، أوفيا على الغاية، لكن الفضول الإنساني يا سيدي، الفضول يا أخي! إبراهيم قال أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ۩، موسى قال أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۩، فألا يكون عندي أنا كابن عباس، وكأبي هُريرة، وكابن عمرو، وكفلان أو علان، فضول أن أعرف ما لدى الآخرين؟ أُريد أن أعرف يا أخي، لا تُجرِّموا هذا الفضول. اذهب وجرِّم الصحابة الآن، ما شاء الله! لا، لا تقدر على أن تُجرِّمه، هذا فضول إنساني.
انظر، أعظم مثل تقريباً يُمكِن أن نقع عليه للفضول المعرفي؛ موسى نفسه – عليه السلام -. وهذا فعلاً يهز الأعطاف، هذا المثل الحي العظيم، مثل لبشر حي، ليس افتراضياً، ليس خيالياً، ليس أسطورياً، يهز الأعطاف! موسى أخبره الله – تبارك وتعالى – بألا يتجاوز حده، وقال له يا موسى، لا تتجاوز حدك. وقف في بني إسرائيل مرةُ خطيباً، فسُئل مَن أعلم الناس؟ فقال أنا. أنا رجل نزلت علىّ الألواح مكتوبة بخط القدرة، أنا رجل أُخاطِب السماء، يُكلِّمني الله – تبارك وتعالى -؛ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ۩، أنا الأعلم. فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، قال له لا، لا يا موسى، أنت لم ترد العلم إلىّ، قل الله أعلم، مَن يعرفك؟ قال له إذن هل ثمة أعلم؟ قال له نعم، عبدنا خضر. قال له أين؟ دلني عليه، أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ۩. انظر إلى المثل، قال له لغُلامه سنظل مُسافِرين، نمخر عباب الأمواه – ليس المياه -، من ماء إلى ماء، بصرف النظر سنصل إلى أين، أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ۩؛ أقضي ثمانين سنة أو مئة سنة، ينقضي عمري، إلى أن أُصيب هذا الرجل، الذي عنده علم ليس عندي، فأتعلَّم منه. أرأيتم الشغف العلمي؟ هذه روح عجيبة يا إخواني.
على فكرة ينبغي أن نختم هذه الخُطبة بقاتلات الفضول – إن جاز التعبير -، ما الذي يقتل الفضول؟ وطبعاً عرفنا أن أول قاتل التعليم الرسمي، التعليم الرسمي! وتقريباً من أحسن مَن دمغ ووصم وأدان وجرَّم هذا التعليم الرسمي – لجهات مُعيَّنة طبعاً، ليس من كل الجهات – كين روبنسون Ken Robinson، الأستاذ العالمي في التعليميات، والمُستشار الدولي، الإنجليزي طبعاً، صاحب المدارس المُبدِعة Creative Schools. هذا الرجل قال الآتي. قال التعليم الرسمي مُشكِلة كبيرة، التعليم الرسمي في العصر الحديث كله، وفي الوقت الراهن، مُتأثِّر بنموذج الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. هناك خطوط الإنتاج، أي الــ Mass production، وهم مثل هذه، كما تُنتِج البي إم دبليو BMW والمرسيدس Mercedes عبر خطوط إنتاج مئات وآلاف القطع، تنتهي في الأخير بسيارة كاملة، تحمل الماركة Mark المُسجَّلة، وكذلك هؤلاء، يُدخِّلون الناس بالألوف وبالملايين خطوط إنتاج، تدرس الفيزياء نفسها التي أدرسها أنا، والكيمياء نفسها، والتربية الاجتماعية نفسها، والتاريخ نفسه، والفلسفة نفسها، و… و… و… نفسها، وعلى المدرس نفسه، وينتهي الأمر. وطبعاً هذا يُجهِض بذوراً كثيرةً في أكثرنا للعبقرية والنبوغ والعطاء الجديد، كلها تُجهَض!
مُشكِلة الفضول أن بذرته هشة، ضمن نُظم التربية والتعليم المُعاصِرة، هشة! تُقتَل بسرعة للأسف الشديد. ولذلك – كما قلت لكم – الخبر السيء أنه بعد ثلاث سنوات، تبدأ هذه الشُعلة تنطفئ، أو تُطفأ بالأحرى. قال لك أكثر اشتعال لها في الثلاث السنوات الأولى، وبين السنة الخامسة – أي دخل رياض الأطفال – والسنة الثانية عشرة، تكون المُهِمة قد أُنجِزت وقُتل الفضول. الله أكبر، شيء سيء جداً جداً، ما هذه المعلومة؟ نعم، وهذا طبعاً أدلت به عالمة النفس الأمريكية المُتخصِّصة في دراسات الأطفال وفي موضوع الفضول، والتي عندها كتاب جميل جداً اسمه العقل الجوعان – العقل الجوعان أو العقل الجائع -، أي The Hungry Mind، وتكملة العنوان: أصول الفضول – أو الفضولية – في الطفولة. قالت هذا، قالت هكذا الدراسات تقول للأسف الشديد! ما بين الخامسة والثانية عشرة، تكون المُهِمة قد أُنجِزت، ويُقتَل الفضول.
ما أجمل ما قال العبقري الكبير، الذي لم يكن رائداً في دراسات الفضول، ولم يتعاط ربما هذا الموضوع؛ برتراند راسل Bertrand Russell! حين كتب مرة يقول البشر لا يولدون أغبياء، لكن يولدون جهلاء. ليس عندهم معلومات، وهذا صحيح، قال – تعالى – وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۩، لكي تفهموا وتعقلوا وتشكروا بعد ذلك. قال لا يولدون أغبياء، ولكن يولودون جهلاء، ثم يُصيَّرون أغبياء. ولذلك اقترح بعضهم علماً يُسمى علم التغبية، يرى أن التعليم الرسمي مُتخصِّص في التغبية، في جعل الناس أغبياء، طبعاً لأن الهاجس يا إخواني وراء التعليم الرسمي حقيقةً – أي الدولتي، الذي دائماً تقوده وتوجهه وتُديره الدول والحكومات – السيطرة، الهاجس الحقيقي كما كشف فوكو Foucault بالذات بصراحة في دراساته في موضوعات مُختلِفة الكنترول Control، أي السيطرة، السيطرة! السيطرة صعبة جداً على العباقرة والمُتسائلين والفضوليين، لكن السيطرة على النمطيين والقوالبيين سهلة جداً، تضع نمطاً للسيطرة، إذا اشتغل على واحد، يشتغل على مليون، انتهى الأمر، انتهى! تتحكَّم في الــ Herd، أي في القطيع، وتسوق القطيع إلى حيث تشاء، ولذلك هذا التعليم خطير.
فكين روبنسون Ken Robinson يقول الآتي. يقول ينبغي أن نتخلى عن نموذج الثورة الصناعية – النموذج الصناعي – في التعليم. فهل عندك بديل؟ قال عندي بديل؛ نعود إلى النموذج الزراعي. انظر، هناك الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، والثورة المعلوماتية، الموجات الثلاث! والآن هناك الرابعة. قال لك لا، نعود إلى الموجة الأولى، نُريد روحية وعقلية الثورة الزراعية في التعليم. وهذا هو فعلاً، ولذلك انظر إلى عظمة القرآن الكريم؛ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ۩… وبعد ذلك ماذا يقول؟ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ۩. الله أكبر! وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ۩ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ۩، شيء غريب، إخراج! كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ۩، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ ۩، نموذج زراعي! ما الفرق بين النموذجين؟ ما الفرق بين الزراعة والصناعة، بين البستنة أو بين البُستان وبين مصنع المرسيدس Mercedes؟ كما قلنا هنا خط إنتاج، يُوجَد قالب، وهنا لا، كل بذرة لا تطلب أكثر من تهيئة الجو العام لها، ثم دعها لقانونها الخاص، لتُعطي ماهيتها الخاصة، عجيب! قال هذه الزراعة، هذا عمل المُزارِع. لا بد وأن يكون عندنا نموذج جديد وروحية جديدة في التعليم، تستلهم ماذا؟ المعنى الزراعي، وليس المعنى الصناعي. هذا لكي نُحافِظ على العبقريات الكثيرة، ألا تضيع، وهذا يُسرِّع من وتيرة تقدم البشرية وسعادتها، فعلاً! وانظر اليوم، بعض الناس يظن أننا في قمة التقدم، وفي الوقت نفسه نُمارِس الانحطاط، وعلى فكرة مُمارَسات كثيرة تشهد بأننا في قمة الانحطاط وقمة الغباء، فعلاً! اليوم مَن الذي يُنكِر أن البشرية – كل البشرية، في الشرق والغرب والشمال والجنوب – أو يد هذه البشرية على قلبها؟ وعلى فكرة هذه الدراسات الاستقصائية أيضاً أثبتت هذا، هناك نوع من الخوف الغامض عند كل البشر من نشوب حرب عالمية جديدة، تكون نووية، فلماذا؟ لماذا تخافون من هذا؟ يعلمون أن كمية الحماقة كبيرة جداً جداً على فكرة، ليس أقل من أن أول هذه الحماقة وليس آخرها مئات المليارات التي كانت ولا تزال تُنفَق على التسليح. مئات المليارات فعلاً بملء المعنى للكلمة. أنا لا أعرف في ألفين وثمانية عشر وفي ألفين وتسعة عشر كم صارت ميزانية الـ USA (في هذا الصدد)، ولكنني أعرف أنها قبل بضع سنوات كانت أكثر من خمسمائة مليار، شيء غير طبيعي! خمسمائة ألف مليون، من أجل أسلحة قادرة على تدمير الكوكب خمسين وستين مرة، فلماذا؟ ولماذا تُنفَق هذه المئات المليارات؟ كسور هذه المئات من المليارات يُمكِن أن تقضي على المجاعة في إفريقيا وغير إفريقيا، أن تُعلِّم شعوباً أمية بالكامل، أن تُحدِث نهضات وثورات تمدينية في أصقاع الجنوب المُهمَل المظلوم. لا، لا! هناك حماقة، هذا الكائن أحمق للأسف الشديد، لا يستمد الحكمة الحقيقية.
على كل حال من قديم – القضية ليست جديد، هذا من قديم يا إخواني – الموقف من الفضول لم يكن مُتسِقاً، كثير من الحضارات والثقافات والأديان كانت ضد الفضول، يبدو أنها كانت ذات هاجس سُلطوي وهاجس هيمني، نعم، نعم هكذا، هكذا يُنسَب إلى الحضارة الكونفوشيوسية الصينية، كونفوشيوس Confucius يُؤثَر عنه أنه قال ثمة ثلاث طُرق لاكتساب الحكمة: الطريق الأولى الانعكاس. شيء يُحدِّثك عن نفسه مُباشَرةً، مُباشِر! ثانياً التقليد، وهو أسهلها. الانعكاس – قال – أضمنها. التقليد أسهلها، كأن تُقلِّد العالمين العارفين، أي الخبراء الــ Experts، قال هذه أسرعها. ثم التجربة، الفضول! أُجرِّب بنفسي، أرى. قال لا، هذه أخطرها. وربما أسوأها. غير مُتعاطِف مع الفضول للأسف الشديد، شيء غريب! حتى الفيلسوف والخطيب الشهير شيشرون Cicero كان ضد الفضول. أرسطو Aristotle، لم يكن كذلك، كان مع الفضول، لأنه فضولي عظيم، قال الفضول ولَّد الفلسفة. الفضول هو الذي خلق الفلسفة، أوجد فضاءً للفلسفة. الحضارة أو الكتاب المُقدَّس – العهد القديم! العهد القديم، كتاب اليهود – ليس مع الفضول، بالعكس! يزعم هذا الكتاب أن الشجرة التي مُنع آدم من قُربانها، شجرة ماذا؟ المعرفة. وأن آدم لما أصاب منها – هذا في سفر التكوين، في الجينيسيس Genesis – قال الرب ها هو ذا – أي آدم – أصبح يعرف مثلنا. أي هذا صار خطيراً، فنُريد أن نُعاقِبه وأن نعمل له مُشكِلة، لأنه صار يعرف. هذه هي؟ حتى أسطورة بروميثيوس Prometheus – أحد الجبابرة العُلويين، ليس بشرياً هو، أي بروميثيوس Prometheus – فيها هذا. حين سرق النار، كان مُتعاطِفاً مع البشر، البشر غلابة وجهلة ويبردون جداً – يتعرَّضون للزمهرير والبرد -، وليس عندهم معرفة كيف يُدفئون أنفسهم، وجهلة! يأكلهم الجهل، فحن عليهم المسكين، فسرق شُعلة النار، رُغم تحريج الآلهة العُظمى، وخاصة زيوس Zeus – كبير الآلهة -، ألا يفعل، وأعطاها للبشر، فأرادت الآلهة أن تُعاقِبه، وأن تُعاقِب الجنس البشري كله، كيف عملت هذا؟ أمر زيوس Zeus بخلق سيدة فاتنة جميلة جداً، اسمها باندورا Pandora. وباندورا Pandora معناها الموهوبة، الموهوبة باليونانية! وأرسلها إلى بروميثيوس Prometheus، ليُعاقِبه. أُعجِب بها، وشغفته حُباً، إلا أنه أدرك بذكائه – أي بروميثيوس Prometheus – أنها قد تكون حيلة من الآلهة، لعقابه، فلم يقربها، أبى أن يتزوَّج بها. للأسف وحذَّر أخاه – أو شقيقه – إبيمثيوس Epimetheus أن يقربها، لكن الشقيق لم يستمع وتزوَّج بها.
كان زيوس Zeus – كبير الآلهة – أعطاها جراراً، أي آنية، ليس حتى جرة واحدة، وإنما أعطاه جراراً، أي آنية -، وقال لها إياكِ أن تفتحيها. وهو يعلم أنها ماذا؟ ستفتحتها. هو يعلم؛ لأنه خلقها، وخلق فيها ماذا؟ الفضول. هكذا تقول الأسطوة! هذه أسطورة ولكن الجوهر صحيح والمعنى صحيح على فكرة، وتلتقي مع قصة آدم أيضاً في الجوهر. قال لها إياكِ أن تفتحيها هذه الجرار – الآنية الفخّارية -، إياكِ! قالت له حسناً، حسناً، هذا حسنٌ، لن أفتحها. بعد أن تزوَّجت هذا الجبّار، شقيق بروميثيوس Prometheus، جعلت تُراوِدها نفسها؛ أفتح أو لا أفتح؟ حتى انتهزت ذات يوم ساعةً كان فيها نائماً، يغط في نوم عميق – أي زوجها -، وفتحت الجرار. وحين فتحتها، خرج منها القتل، والكذب، والحقد، والغش، والحسد، والانتقام، والمكر، والدهاء، والحرب، كل الشرور التي تعمل على إشقاء النوع البشري! ولم يبق إلا شيء واحد فقط، بقيَ في قاع الجرة الكبيرة، إنه الأمل، إنه الأمل! بقيَ الأمل، الأمل أن يتغلَّب الإنسان على شروره وعلى حماقاته.
لكن كيف عوقب هذا الجنس البشري؟ بماذا؟ بالفضول، بالفضول! ولذلك إلى الآن يستخدمون هذه الأمثولة وهذا الميتافور Metaphor، يقولون لك صندوق باندورا Pandora، صندوق العجائب، إياكم أن تفتحوا هذا الصندوق. سنفتحه، كما فتحته باندورا Pandora، سيفتحه كل فضولي. وهذا الذي يحدث باستمرار! وعلى فكرة حين لا نفتحه، نكون فعلاً قد آذنا بذواء وموت، على أعتاب الفناء، حين فعلاً لا نفتحه! وهو موجود بين أيدينا، تماماً كما لا نفتح مغالق القرآن الكريم.
أكثر ما يُحزِنني – والله – ويُؤلِمني، ما ألمسه منا كمُسلِمين، نقرأ القرآن، نخر عليه صُماً وعُمياً، لا نفقهه. وقلت هذا أكثر من مرة، وعيب أن أقول هذا، ولكن هذه الحقيقة، الآن – الآن بعد هذه الخُطبة – اعمل اختباراً لنفسك: خُذ جارك، وافتح على جُزء عم، وأسأله عن مواضع، أنت سترى أنه في مواضع كثيرة لا يعرف معناها. وَجَمَعَ فَأَوْعَى ۩، قال له ما معنى فَأَوْعَى ۩؟ لن يعرف. وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ۩، مَن الذي يخاف؟ وعُقبى ماذا؟ لن يعرف. وأشياء كثيرة! غُثَاءً أَحْوَى ۩، ما الغُثاء؟ وما الأحوى؟ لن يعرف. على أنه يحفظ هذا الجُزء من خمسين سنة، وقرأه خمسة آلاف مرة في رمضان وغير رمضان. ولا مرة سأل نفسه ما المعنى؟ يا أخي يُمكِن أن أُحضِر كتاب تفسير، مثل الجلالين، وهو تفسير بسيط جداً جداً، ثم أفتح وأسأل، أسأل ما معنى هذا الكلام، لكي أفهم كلام ربي. لكن هذا غير موجود، غير موجود! وهذا يعني أن العقلية السلفوية – إن جاز التعبير – اشتغلت فينا، وجعلتنا لا نفتح الصناديق للأسف الشديد.
على كل حال نعود إلى موضوعتنا؛ قاتلات الفضول على رأسها التعليم الرسمي، ويُمكِن أن يكون من عقابيل التعليم الرسمي يا إخواني نزعة التعالم. طبعاً عندي شهادة، عندي ماجستير، عندي دكتوراة، يا أخي أستاذ في الجامعة أنا، أسألك لماذا؟ اسألني فيما لا تعلم، اسألني في تخصصي. لا، لا! لا أسأل أحداً يا أخي. نزعة التعالم! (وهي على فكرة – أقول هذا بين قوسين، وهذا ليس من قبيل جلد الذات، ولكن هذه حقيقة مُقرَّرة، من الصعب أن نفر منها – مُتعاظِمة جداً جداً فينا معاشر العرب بصراحة، بصراحة! وهذا اضح، واضح! نزعة تعالم مُتعاظِمة، وأحياناً لا يكون عنده لا ماجستير ولا دكتوراة ولا بكالوريوس حتى ولا ثانوية عامة، ويكون عنده نزعة تعالم).
وطبعاً المُتعالِم كيف يسأل؟ لأن الإنديكس Index أو مُؤشِّر الفضول ما هو؟ كيف نعرف أن الإنسان عنده فضول؟ دانيال برلين Daniel Berlyn قال ماذا؟ قال يُمكِن – وهذه الدراسة العلمية – تكميمه. أي معرفة مقدار الفضول عند الإنسان. عجيب! وهذه الدراسة علمية مئة في المئة، فكيف إذن؟ قال تماماً كما يُمكِن تقدير حدة الحُكاك الذي سطا ببعضهم. مرض الحكة هذا! واحد عنده مرض جلدي ويحك، كيف نعرف كم حدة هذا المرض؟ قال بكمية الحك الذي يُجريها هذا الموبوء. إذا كان يحك كثيراً، فهذا يعني أن الحكاك شديد، أليس كذلك؟ وكذلك الذي يتساءل كثيراً، يقرأ كثيراً، يبحث كثيراً، يُنقِّب كثيراً، ووقته كله في العلم والأسئلة والأجوبة، هذا عنده – ما شاء الله – الفضول في أعلى درجاته. وعكسه الذي (كل موتة كافر) يُريك وجهه، ويسأل سؤالاً (كل موتة كافر)، وعنده مكتبة فيها خمسمائة مُجلَّد، و(كل موتة كافر) يفتح مُجلَّداً لخمس دقائق، وبعد ذلك ينعس، يأخذه النوم، ثم ينام. هذا ليس مثله، الفضول ميت عنده. قال، فنحن نقدر على أن نعرف هذا. أي بمقدار ما تبحث، وتطرح أسئلة، وتقرأ، وتتساءل، وتُحاوِر، وتتفاكر – إن جاز التعبير-؛ تتفاكر مع أقرانك ومع إخوانك وأصدقائك وأساتيذك وتلاميذك. هذا يعني أن الفضول يشتغل عندك بشكل جيد، وإلا فهو مُتدن، أو واطئ جداً.
هناك مُعادَلة، أعلم أنها ستُعجِبكم كما أعجبتني، في مُنتهى الروعة! ستُعجِبكم أكثر من مُعادَلة المادة بالطاقة؛ E=mc^2 لأينشتاين Einstein، ماذا يقول أينشتاين Einstein؟ العُجب – أي الذي نُسميه نحن الآن الغرور، ولكن هو العُجب، واحد مُعجَب بنفسه، مُتعالِم! والمُتعالِم مُعجَب بنفسه، ويظن أنه يفهم كل شئ، أبو العرّيف! أبو العرّيف هذا تحكمه مُعادَلة، فهو قال لك العُجب – يُساوي واحد على المعرفة. أي واحد مقسوم على الــ knowledge. يا أخي ما أجملها! ما أجملها! أي كيف أعرف أنني مغرور أو غير مغرور؟ اللفظ الصحيح: مُعجَب، هل أنا مُعجَب بنفسي، وأرى حالي، ومُتباه، استعراضي، مُتعالِم، أبو العرّيف، أو لست بأبي العرّيف؟ كيف أعرف؟ قال لك انظر، تحكمك المُعادَلة هذه؛ واحد على المعرفة. أرني مقدار معرفتك. والله معرفتي Zero، صفر، ولا أعرف شيئاً. هذه معناها أن عُجبك واحد كامل، مئة على مئة، ما شاء الله! أنت المُعجَب الأول. بقدر ما تكون معرفتك ناقصة، تكون – ما شاء الله – مُنتفِخاً، وعظيماً جداً، وتظن أنك أفهم من كل الدنيا، ولا تحتاج إلى أن تسأل ولا إلى أن تستفسر ولا ما إلى ذلكم أبداً، أبداً! أنت تُعلِّم الدنيا فقط، لا تتعلَّم، أنت تُعلِّم. لا، أنا درست وتعلَّمت وأقرأ، وقرأت في حياتي كلها أربعين كتاباً، أي المعرفة عندي تُساوي عشرة. هذه معناها أن الغرور عندك والعُجب يُساوي واحداً على عشرة، أي عشرة في المئة، عندك عشرة في المئة، ولكن انظر، هذه أقل بكثير من الواحد الكامل، مئة في المئة! لا، أنا عندي معرفة كثيرة، لي خمسون سنة في الكُتب وما إلى ذلك، وأعتقد أنني ما قرأت شيئاً، يُمكِن أن أكون قرأت ثلاثين أو أربعين ألف كتاب، يُمكِن أن أكون قرأت كالعقّاد سبعين ألف كتاب. وقال لك انتهيت إلى أنني لا أعلم شيئاً، وأستاذنا في هذا سقراط Socrates، وأستاذنا الإسلامي في هذا الشافعي:
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي.
وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي.
الله، الله! قولوا هذا للعالم، قولوا هذا إمام الشافعية، هذا مُؤسِّس مذهب عند المُسلِمين، قال:
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي.
وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي.
وإذا ما ازددت علماً، زادني – أي علمي، ودهري، الذي أتاح لي فُرصة التعلم – علماً، زادني علماً بماذا؟ بجهلي. فسُقراط Socrates كان يُلمِّح إلى أن العلم والمعرفة مُؤشِّر للجهل أيضاً. بقدر ما يزيد علمك، يتحقَّق مقدار جهلك الذي كنت غافلاً عنه.
لا! فأنا الآن عُجبي قدره واحد على مليون، عندي معرفة حجمها مليون، من ملايين الملايير. قال لك معناها والعُجب عندك واحد على مليون، قليل! ماذا لو عندي معرفة حجمها مليار؟ العُجب سيكون واحداً على مليار، فتصير مُتواضِعاً مُتواضِعاً.
ولذلك أنا أقول الأب في العماد – أي الــ Godfather، إن جاز التعبير، لأنه ليس أباً حقيقةً، هذا الأب في العماد – للتواضع، ما هو؟ الفضول. الذي عنده فضول، يكون مُتواضِعاً. وتندهش منه، يكون حاصلاً على أعلى الشهادات، وحين تسأله، يقول لك لا أعلم، هل تعلم أنت؟ تقول له نعم، فيقول لك علِّمني. وأنت لم تأخذ الابتدائية، بكل بساطة وأمام الناس يقول لك علِّمني، قل لي هذا. فإن قلت له ما يلذ له ويشوقه – دخل وانسلك في ذهنه -، قال لك ما شاء الله عليك، حياك الله، زاد من أمثالك، لقد تعلَّمت منك يا رجل، مُمتاز، أنت رائع. وأنت تستغرب من هذا الطفل، من هذا الطفل المُبتهِج، بشبه جاهل يُعلِّمه، لماذا؟ هل تعرفون كيف هذا؟ مُعادَلة أينشتاين Einstein: واحد على المعرفة. عنده معرفة عريضة، بناها في خمسين سنة، ولذلك هو مُتواضِع، ليس عنده عُجب، ليس عنده غرور، ومُستعِد لأن يتعلَّم من كل أحد.
نسأل الله أن نعلم بمُقتضى هذه المُعادَلة، وأن نُحِبها، وأن نحذقها، وأن تُترجَم إلى سلوكات في حياتنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
تعليقاً منه على حكاية موسى والخضر – عليهما السلام -، قال نبينا، مُعلِّم الناس الخير وكل الخير – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -، قال يرحم الله أخي موسى، لوددت أنه صبر. يا ليته صبر قليلاً! لماذا إذن؟ انظر، فضول عند رسول الله. قال لو صبر موسى قليلاً أكثر، لتعلَّمنا – أي مزيد علم – أكثر. كان الخضر هذا كشف لنا عن أسرار أُخرى، عن أمور أُخرى خطيرة وحسّاسة، ولكن موسى لم يصبر، ثلاث مرات! وأضعها علينا. فالنبي – انظر – يتحسر.
هذا النبي هو الذي ربى في أصحابه نفسية، حملت جابر بن عبد الله – الذي حدَّثتكم بنبئه قبل أشهر يسيرة – على أن يرحل راحلته وأن يُسافِر شهراً كاملاً إلى مصر، ليلتقي بعبد الله بن أنيس، يسمع منه حديثاً، لم يبق إلا هو، سمعه من رسول الله. وجاء وأبى، أبى حتى أن يتناول كرامة الضيف، أي أن يشرب له كوباً من القهوة. ولم يكن هناك قهوة طبعاً، أو كوباً من الشاي، ولم يكن عندهم شاي، أي كوب لبن أو ماء، قال له لا، لم ائت لهذا، النية لله، أنا جئت فقط لكي أسمع هذا الحديث. قال له نعم، النبي قال كذا وكذا. لن نقوله، هذا حديث له علاقة بيوم القيامة، إلى آخره! ذكرناه أكثر من مرة. قال له جزاك الله خيراً. ثم ركب الراحلة وعاد. الله أكبر! شهر في سبيل حديث؟ ونحن اليوم عندنا في مكتباتنا البُخاري ومُسلِم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم كثير، ومَن الذي يفتح؟ ومَن الذي يقرأ؟ كما قلنا نحن حتى القرآن مَن الذي يفتحه؟ مَن الذي يتساءل؟ ومَن الذي يقرأ؟ آخ!
لذلك يا إخواني أنا أقول لكم كما بنى الفضول الحضارات والمدنيات – صدِّقوني، والله، أُقسِم على هذا، وأُقسِم بالله -، لا أمل أن ننهض ولا نتحضر ولا نُصبِح أمماً مُحترَمة وأمماً قوية وأمماً إيجابية ومهيبة ومُهابة، إلا إذا رأيتم بذرة ماذا؟ الفضول المعرفي. ليس فضول الأكاذيب والمواقع الكاذبة والسخيفة، وفلان لماذا طلَّق امرأته؟ وفلان لماذا أغوى كذا؟ وهذا الكلام السخيف الذي يهتم به شبابنا وشباتنا اليوم، أبداً! أتحدَّث عن الفضول ماذا؟ المعرفي. الذي يُحيلنا إلى علماء وفقهاء وقانونيين وشعراء وأدباء وفلاسفة ومُخترِعين ومُكتشِفين ومُتسائلين، هذا الذي ينقصنا. إذا رأيتم هذه الشُعلة بدأت تشتعل يا إخواني وبدأت تنمو وتزداد، فاعلموا أننا على طريق صُنع حضارة وصُنع نهضة جديدة – بإذن الله تبارك وتعالى -. وإذا لم تروا هذا، فخلوا عنكم، حتى ولو رأيتم الدنيا مليئة بالمساجد والمُصلين والمُصليات، أنتم لستم أكثر صلاة وصياماً وملأً للمساجد من جماعات طالبان، فانتبهوا إذن، أفغانستان كلها تُصلي، وما شاء الله على الحضارة التي عندهم في أفغانستان والتي عند طالبان، وما شاء الله على العزة والهيمنة والفتح! لا يُوجَد شيء، لا يُوجَد شيء! انتبهوا، ليست هذه المسائل.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُلهِمنا رُشدنا، وأن يُعيذنا من شر نفوسنا، وأن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يزيدنا فقهاً وعلماً ورشداً.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وأذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا خزايا ولا نادمين، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
تكملة مُفيدة للموضوع
في الجلسة بعد العصر، سأقرأ عليكم تُحفة من التُحف، أشدت بها أكثر من مرة، من أكثر من ثلاثين سنة، جُزء من مُقدِّمة الإمام شمس الدين أبي عبد الله المقدسي، صاحب أحسن التقاسيم، وذكرت – سُبحان الله – شيئاً من هذه المُقدِّمة في مُناسَبات سابقة، بما يتعلَّق بخُطبة اليوم، الفضول الذي كان يُحرِّك علماءنا في الحضارة الإسلامية، فضول لم يُسمَع بمثله في العالم.
هذه المُقدِّمة، ولأنها تُحفة – والكتاب طبعاً تُرجِم للُغات حية، لكن الحديث عن هذه المُقدِّمة بالذات – تُرجِمت إلى مُعظَم لُغات العالم الحي، لم يقرأها عالم جغرافي إلا أُعجِب بهذه الروح التي حرَّكت هذا العالم الكبير إلى وضع كتابه الخطير في علم الجغرافيا، والذي وصفه المُستشرِق النمساوي ألويس إشبرنجر Aloys Sprenger – ألويس Aloys، وليس أ. لويس A. Louis – بأنه أعظم جغرافي شهدته البشرية. هذا الفلسطيني أبو عبد الله شمس الدين المَقْدِسي، أو المُقدَّسي – يُضبَط بطريقتين -، صاحب أحسن التقاسيم. سأقرأ عليكم – إن شاء الله – في مُقدِّمة الدرس مُقدِّمة أو جُزءاً من مُقدِّمة المقدسي لكتابه، لكي تعلموا كيف بنى أجدادنا الحضارة، ليس بالكلام، ليس بالخُطب، ليس بقصائد الشعر، وليس بجلد الذات، بروح حقيقية اشتعلت فيهم، أشعلها ضوء القرآن والروح المُحمَّدية، فعلاً اشتعلت فيهم، وكانوا أعجوبة، وصنعوا حضارة مُعجِزة بشهادة الخبراء.
وبارك الله فيكم.
(انتهت التكملة بحمد الله)
جلسة بعد العصر
طبعاً يُمكِن أن يتساءل بعضكم؛ لماذا اخترت أن أقرأ هذه الآيات من سورة الأنعام؟ تعمدت هذا، وطبعاً مثلها مئات الآيات، في الحقيقة هناك زُهاء ألف آية كونية في القرآن الكريم، تعمدت هذا، لكي ألفت إلى هذا الاستخلاص الجميل؛ إذا كان الخليل إبراهيم – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ۩، وإذا كان إبراهيم – عليه الصلاة وأفضل السلام – انطلق من مُسلَّمة أن الله يُحيي المُوتى، إلى مسألة كيف يُحيي الموتى، فإذن نحن كمُسلِمين مدعوون إلى أن ننطلق من مُسلَّمة إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۩، كيف؟ كيف يفلق الحب والنوى؟ دخلنا في علم النبات. معناها أنه يُمكِن لأي مُسلِم صادق مع نفسه، مُتناغِم مع القرآن، أن يرى أن بعض الآيات هي التي ألهمته محبة العلم الكذائي أو العلم الفلاني، لأنه بدأ يتساءل وأحب أن يعرف، كيف تجري عملية فلق الحب والنوى؟ كيف قال في سورة الرعد صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۩؟ غريب! كيف إذن؟ أرض واحدة، في الظاهر بذور مُتشابِهة، التربة نفسها، المياه نفسها، وفي الأخير ماذا؟ أشجار وأثمار مُختلِفة. وهذا علم الجينات Genetics طبعاً، هذه مسألة جينات Genes. معناها يُوجَد برنامج في الداخل، يُوجَد برنامج في الداخل! هناك الجينوتايب Genotype. الفينوتايب Phenotype يتبع ماذا؟ الجينوتايب Genotype. فالقرآن مملوء غاص، مثل هذه الآيات الكونية القرآن فيه زُهاء ألف آية.
تخيَّل أنت الآن هذا! ناهيك أو فضلاً عن الآيات التاريخية، التي تتحدَّث عن ماذا؟ فرعون وقومه، موسى وبني إسرائيل، عيسى وبني إسرائيل، مملكة سبأ، مملكة عاد، صالح وثمود… قصص! وتاريخ الأمة العربية وقريش والفيل ويأجوج ومأجوج والسد وهذا الرجل الصالح والخضر، إلى آخره! ماذا لو ذهبت مع تاريخيات القرآن إلى النهاية؟ أحد المُؤرِّخين المصريين، وهو الدكتور مهران – رحمة الله عليه – ألَّف موسوعة، على ما أذكر من أكثر ست مُجلَّدات، ست مُجلَّدات! في جغرافيا القرآن الكريم، فقط. يُحِب هذا، يُحِب أن يعرف هذه الأماكن التي حدَّثنا القرآن عنها، ما الذي يتعلَّق بها؟ أين هي؟ وما شأنها؟ موسوعة كاملة.
معناها أنك لو تناغمت مع القرآن فقط، واستجبت له، ستصير عندك حصيلة جغرافية كبيرة، تاريخية مهولة، علمية كونية في النبات، في الفسيولوجي Physiology، في الأسترونومي Astronomy، في الكوزمولوجي Cosmology، في التشريح، في الإنسانيات، شيء عجيب! وكذلك في فلسفة الأديان يا حبيبي، والأنثروبولوجيا Anthropology، وعقائد الشعوب وطرائقها في التفكير وما إلى ذلك، شيء عجيب! القرآن هذا سماء، كل آية ليس فيها نجم وإنما مجرة، ما رأيكم؟ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩، شيء عجيب! ولذلك ينبغي أن يتفاعل الإنسان فعلاً مع القرآن تفاعلاً جدياً، ليس فقط يتلوه ويُحسِّن به صوته ويستعرض به، ليس هذا، لا يقف عند هذه الحدود، هذا مطلوب، لكن يجب أن يتعدى هذه الحدود – إن شاء الله تعالى -.
وطبعاً يُمكِن أن يُقال أنت في الخُطبة ذكرت سببين فقط من قاتلات الفضول. لا، هي بالعشرات، ولكن أنا ذكرت ما يتناسب مع المقام وما يسمح به أو ما سمح به الوقت؛ لأن الوقت ضيق، أي وبالكاد نحن أدركنا صلاة الجُمعة في وقتها – بحمد الله تبارك وتعالى -. أيضاً من أهم قاتلات الفضول ربما الآتي. نحن ذكرنا ماذا؟ نظام التعليم الرسمي، ذكرنا العُجب والغرور ونزعة التباهي والتعالم عند بعض الناس. أيضاً الاستكبار، الاستكبار! بعض الناس لا يتعالم، ولكن هو عنده نوع من الاستكبار، يقول لا، لست أنا. أي ليس مثلي مَن يسأل، هذا لا ينفع. ولذلك قيل اثنان لا يتعلَّمان؛ مُستحيٍ، ومُستكبِّر. هناك المُستكبِر!
العلم حرب للفتى المُتعالي كالسيل حرب للمكان العالي.
أول ما يأتي السيل، يأخذ ماذا؟ الأشياء العالية. وكذلك الإنسان المُتعالي، هو في حالة حرب مع العلم، لا يتفقان.
إذن الاستكبار. أيضاً يا إخواني انتشار روحية وثقافية وعقلية ومِزاجية – أي Mentality – تُعاقِب الفضول. وهذا موجود في الأمم المُتأخِّرة والمُنحَطة، وأنتم تعرفون هذا، فأكملوا الباقي. يُعاقِبون؛ لماذا يا أخي؟ لماذا تتطرح هذه الأسئلة؟ أي أنت الآن أتيت لكي تعرف ما لم تعرفه الأمة كلها، فيا مشاء الله عليك! الأمة كلها لم تفتح هذه الملفات، أأتيت أنت لكي تفتحها اليوم؟ ولو تحرَّك كل مُخترِع وكل مُكتشِف وكل فيلسوف وكل مُفكِّر وكل عالم من مثل هذه العقلية، ما فعل شيئاً، أليس كذلك؟ كان سيقعد مكانه. ولكن هؤلاء بالذات الذين عملوا هذه الأشياء – أعني المُخترِعين، المُكتشِفين، الفلاسفة، والمُفكِّرين… إلى آخره، إلى آخره -، كانوا على العكس من هذا، تحدوا السائد، وقالوا نعم، لا لن نُوافِق على هل غادر الشعراء من متردم، نعم غادروا، غادروا وغادروا وغادروا. وماذا ترك الأول للآخر؟ لا، كم ترك الأول للآخر! سوف نقول هذا أيضاً، تركوا الكثير بصراحة. لا بد وأن نتحرَّك بمِزاجية مُختلِفة، وبعد ذلك ينبغي أن نتخطى المنطق هذا أيضاً، للأسف هناك منطق العقوبة، هناك مَن يُعاقِبون، أقله العقاب المعنوي، وأحياناً يُعتبَر وأداً معنوياً؛ الزنديق، الكافر، المُنحَل، المدسوس، يعبث بديننا، يُشكِّك في الثواب، يُشكِّك في القواطع. يا أخي حرب معنوية رهيبة، رهيبة! وتجد أن الشيء الذي قلته أو قاله هذا المُجتهِد أو ذاك، قال به أئمة عُظماء كبار في التاريخ الإسلامي، ولم يُتهَموا لا بزندقة ولا بكفر ولا بكل هذا، ليس لأن تاريخنا كان مثالياً ووردياً، لا! ولكن كنا أمة مُتحضِّرة أكثر، أكيد! وكنا أمة مُتفتِّحة أكثر، على نحو سمح أن يُوجَد فيها أمثال أحمد والشافعي وأبو حنيفة والصادق وزيد وابن إباض، وأيضاً الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزّالي وابن تيمية وابن خلدون، وأمثال هؤلاء، كان يُوجَد هذا، كان يُوجَد! كان يُوجَد تفتح، وكان هناك القاضي عبد الجبّار الهمداني المُعتزِلي، وأمثال هؤلاء كثير! وكان هناك حتى النظّام (شيطان المُعتزِلة) كما يُلقَّب عند أهل السُنة، كان يُوجَد هذا، كان يُوجَد! وسُمح له. كنا أكثر تحضراً من الآن بمراحل، وأكثر توسعاً في الأُفق، وأكثر تسامحاً. اليوم لا، يُوجَد وأد معنوي، يُعاقَب المرء. تَوجَد حالة من الغيرة – يُقال الغِيرة، لكن طبعاً هي الغَيرة – والحسد، وطبعاً يُوجَد الذهن المُغلَق هذا، أي الــ Closed-minded، عقل مُغلَق بالكامل، لا يستوعب، ليس عنده هذه المِزاجية، أن يتعامل باحترام واحتفاء؛ احتفاء بالتجديد، بالإصلاح، بالاجتهاد، وبالقول، حتى وإن كان غالطاً يا رجل، ما لك أنت؟ ما مُشكِلتك؟ لأ، لا يُحِبون هذا أبداً.
وأيضاً هناك الوأد الحقيقي؛ القتل أحياناً، يُغتال الناس، أو إن لم يُغتالوا، يُطالَب بقتلهم. ونحن رأينا – ما شاء الله – يوم أخذ الإسلاميون نفسهم في مصر الحبيبة – وحفظ الله مصر – تم ذبح الناس في الشوارع، وقيل هناك شخص مُتشيِّع. هذا طيلة حياته وهو مُتشيِّع! أخذوه وقتلوه وذبحوه وذبحوا حتى مَن معه، وجروهم كالنعاج في الشارع. هل هذا هو وعدنا؟ ومُؤتمَرات وأرى رؤوساً أينعت وحان قطافها، وتُهدِّدون بقتل الناس وبمُحاكَمة الفنانين وبمُحاكَمة غيرهم! ما هذا الكلام الفارغ؟ هذا وعدكم؟ وهذا مشروعكم؟ لذلك البناء كله كان على غلط، لم نتأسَّس بشكل صحيح. أفكار كلها من خرم إبرة، نظرات كلها من ثقب الخياط أو سم الخياط. نحتاج إلى أن نتوسَّع.
فإذن المبدأ أن الثقافة الضحلة ستُساهِم في تدمير أمتها، خاصة إذا تجلببت بجلباب الدين؛ الدين، المُقدَّس، الذي يعرف كل شيء. وما دام تكلَّم باسم الدين – هو حط يافطة الدين، فقط حط هكذا يافطة الإسلام وحملها -، فالأمر انتهى. يُعطيك انطباعاً – هو يُحِب أن يُعلِّمك، أنشأ عقليتك بطريقة ما – أن كل شيء يقوله هو دين، واسكت، ولا تُناقِش. لا يا حبيبي، دمرتمونا أنتم، دمرتمونا. أنتم لستم امتداداً بأي معنى من المعاني للفخر الرازي، ولا حتى لابن تيمية نفسه، والغزّالي، وابن سينا، وابن رشد، والفارابي، والطبري، وأحمد، والشافعي. لستم امتداداً لهم بأي معنى من المعاني بالصراحة، الصلة مُنقطِعة تماماً بينكم وبين هؤلاء. فنحن نحتاج إلى ثورة.
سأقرأ يا إخواني عليكم الآن زُهاء صفحة ونصف الصفحة أو الصحيفة، من مُقدِّمة شمس الدين أبي عبد الله المَقْدِسي، أو المُقدَّسي – فله ضبطان -، الجغرافي الشهير جداً، صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، في القرن الرابع الهجري، في القرن الرابع! هذا تُوفيَ تقريباً في آخر الرابع الهجري، في ثلاثمائة وتسعين تُوفيَ – رحمه الله -، وهذه المُقدِّمة بالذات تُرجِمت إلى مُعظَم لُغات العالم الحية، لا يُوجَد عالم وجغرافي قرأها إلا وقال لك سنُترِجمها. هذا لكي تعرف كيف وُجِد وكيف أُتيح مثل هذا الجغرافي العبقري في حضارة المُسلِمين. وطبعاً على فكرة هو ليس أكثر عبقرية من الإدريسي. لا يفوقه في العبقرية بصراحة في تقويم العلماء المُتخصِّصين إلا الشريف الإدريسي. أبو عبد الله الإدريسي لا يزال أعظم من المقدسي. ولكن انظروا إلى المَقْدِسي هذا، الذي حكى عنه – كما قلت لكم بعد الصلاة – المُستشرِق النمساوي ألويس إشبرنجر Aloys Sprenger. ألويس إشبرنجر Aloys Sprenger قال هذا الرجل أعظم عبقرية جغرافية عرفتها البشرية قاطبةً. شيء عجيب! أي أعظم جغرافي المقدسي. أعظم جغرافي عربي في القرن العشرين جمال حمدان، الشهيد – رحمة الله عليه -، الذي قُتِل، ولم يعرف أحد كيف قُتِل، وقالوا لكم أنه حُرِق وما إلى ذلك. هذا أعظم عبقرية جغرافية عربية، هذا قدَّمته مصر للعالم العربي. لكن الحضارة الإسلامية قدَّمت المقدسي كأعظم عبقرية للعالم والتاريخ، تماماً مثل آبائنا.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامع.
هؤلاء أباؤنا، الذين لم نصر أبناءً لهم للأسف الشديد، ولا أخلافاً صالحين لهم، ولا كأن هناك سبباً بيننا وبينهم يربط.
مثل أيضاً المرحوم ولي الدين بن خلدون. ابن خلدون! عبد الرحمن بن خلدون، ولي الدين – رحمة الله عليه -، مُؤسِّس علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، الذي قال عنه أرنولد توينبي Arnold Toynbee أعظم عبقرية في التاريخ عرفها أي زمان وأي مكان. توينبي Toynbee أعظم مُؤرِّخ في القرن العشرين، فيلسوف التاريخ! قال لا يُوجَد عبقري مثل ابن خلدون. هؤلاء آباؤنا وهؤلاء أجدادنا، تخيَّل!
ماذا يقول المقدسي في مُقدِّمة كتابه؟ يقول المقدسي اعلم أن جماعة من أهل العلم ومن الوزراء صنعوا هذا الباب – يعني الجغرافيا، أي تكلَّموا وكتبوا في علم الجغرافيا -، وإن كانت – أي صناعتهم – مُختَلة… لماذا؟ فأكثرها أو كلها سماعٌ لهم – أشياء سمعوها -، ونحن فلم يبق إقليم إلا وقد دخلناه، وأقل سبب إلا وقد عرفناه، وما تركنا مع ذلك البحث والسؤال والنظر في الغيب – ما الغيب إذن؟ المجهول. أشياء لا نعرفها، وليس الغيب بمعنى الغيب المعروف، أشياء لا نفهمها، نسأل عنها أيضاً الناس الذين يعرفون -، وما بقيت خِزانة ملك – أي المكتبة، يُسمونها خِزانة في تلك الأيام – إلا قد لزمتها – أي لا يقرأ كتاباً أو كتابين، لا يتركها حتى يقرأها كلها، أو يقرأ على الأقل الجغرافيات الخاصة بها -، ولا تصانيف فرقة إلا قد تصفحتها، ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها، ولا أهل زُهد إلا وقد خالطتهم، ولا مذكور بلد إلا قد شهرتهم – مَن مذكور بلد؟ الخُطباء والعلماء، أي والناس المشاهير، يُسميهم مذكور بلد -، حتى استقام لي ما ابتغيته في هذا الباب.
ولقد سُميت بستة وثلاثين اسماً – لأنه لم يترك مكاناً إلا وذهب إليه، تحرَّك في كل هذا النطاق، له أكثر من ستة وثلاثين اسماً وصفةً ونعتاً، بحسب أشياء كثيرة -، دُعيت وخوطبت بها، مثل مقدسي، وفلسطيني، ومصري، ومغربي، وخراساني، وسلمي – نسبة إلى بني سليم بن منصور، قبيلة عربية -، ومُقرئ، وفقيه، وصوفي، وولي، وعابد، وزاهد، وسيّاح – أي ما يُسمونه الآن السائح، قال وسيّاح، الرحّالة، أي ما يُسمونه الآن الرحّالة -، وورّاق، ومُجلِّد – مُجلِّد كُتب -، وتاجر، وإمام، ومُذكِّر، ومُؤذِّن، وخطيب، وغريب، وعراقي، وبغدادي، وشامي، وحنيفي، ومُؤدِّب، وكير – ما الكير؟ الذي يعمل بالأجرة، أي يُكترى، اسمه الكير -، ومُتفقِّه، ومُتعلِّم، وفرائضي – ما معنى فرائضي؟ أي عالم في الميراث، فرضي -، وأستاذ – أستاذ في الحضارة الإسلامية تعني ماذا؟ صاحب الحرفة، صاحب الصنعة، صنعة مُعيَّنة؛ النجارة، الحدادة، وما إلى ذلك، يُسمونه الأستاذ، وهي كلمة فارسية، أي ليست تعني البروفيسور Professor كما هو الحال اليوم، لا -، ودانشموند – هو كتبها دانشومند، لأ، الصحيح هو دانشمند. دانش معناها ماذا؟ العلم. العلم! ومند بالفارسية معناها ماذا؟ المُهتَم، صاحب العناية. ودانشمند معناها العالم الكبير بالفارسية، دانشمند! أبو بكر بن العربي لما التقى بالإمام الغزّالي في القصة المشهورة، قال جئنا بغداد في سنة كذا كذا كذا، والتقينا بدانشمند. عن مَن؟ عن أبي حامد الغزّالي. قال فإذا هو فوق الوصف. أكثر مما سمعنا عنه! المُهِم قال ودانشموند -، وراكب – أي الملّاح، النوتي -، ورسول، وذلك لاختلاف البلاد التي حللتها، وكثرة المواضع التي دخلتها – في كل مكان يدخل ويعمل شيئاً؛ مرة يُؤذِّن، مرة يُعلِّم، مرة يفعل شيئاً آخر، ويأخذ أسماء جديدة. رجل عجيب، موسوعة حية، حياته كلها نشاط وفاعلية وإنجاز -.
ثم لم يبق شيء مما لحق المُسافِرين، إلا قد أخذت منه نصيباً، إلا الكُدية – أي المُسافِرون يُمكِن أن يجتمعوا بالفسّاق، يُمكِن أن يقع لهم قطع طريق، يُمكِن أن يأكلوا الميتة، يُمكِن أن يأكلوا الحرام، يُمكِن أن يغص أحدهم بلُقمه، ويسلكها هذا المسكين بالخمر. قال كل شيء وقع لي، إلا الكُدية، أي الشحاذة، لم أشحذ، عنده عزة نفس، قال لا، لم أسأل، لم أمد يدي أسأل يوماً -، وركوب الكبيرة – انظر، ما شاء الله، تقي، قال الكبائر لم أعملها، انظر، قال إلا الكُدية، وركوب الكبيرة -. فقد تفقهت، وتأدبت، وتزهدت، وتعبدت – كمسالك! أي سلوك حقيقي، فهو دخل مع الزهّاد ومع العبّاد ومع مَن مثلهم، شيء كبير -، وفقهت وأدبت، وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر، وأممت في المساجد، وذكَّرت في الجوامع، واختلفت إلى المدارس، ودعوت في المحافل، وتكلَّمت في المجالس، وأكلت مع الصوفية الهرائس – الهريسة -، ومع الخانقئيين – أي مَن لهم علاقة بالخانقاه، وهذه تكون ماذا؟ زوايا صوفية، ولكن على الحدود مع العدو، بالذات هي كانت هكذا، الخوانق! وبعد ذلك صارت في أي مكان، هذا الفرق – الثرائد – جمع ثريد -، ومع النواتي – الملّاحين – العصائد – النواتي جمع النوتي، وهو الملّاح، أي ربان السفينة أو ربان القارب، يُسمونه النوتي، والجمع النواتي، قال ومع النواتي، أي الملّاحين، العصائد -، وطُردت في الليالي من المساجد – أيامها لم يكن هناك فنادق، يُقال له اذهب إلى الخارج. فينام في الخارج، في هذا البرد وفي هذا المطر، وطُردت في الليالي من المساجد، نعم -، وسحت في البراري، وتهت في الصحاري، وصدقت في الورع زمانا – تورَّعت وما إلى ذلك، وكنت صادقاً -، وأكلت الحرام عيانا – لأنه ماذا؟ مُضطَر. وإلا سيموت، أي أكيد أكل شيئاً مُحرَّماً، كما تعرفون إلا المُضطَر -، وصحبت عبّاد جبل لُبنان، وخالطت حينا السلطان، وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزنبيل – بالقُفة -، وأشرفت مراراً على الغرق، وقُطع على قوافلنا الطُرق، وخدمت القضاة والكبراء، وخاطبت السلاطين والوزراء، وصاحبت في الطُرق الفسّاق، وبعت البضائع في الأسواق، وسُجنت في الحبوس – سُجن -، وأُخذت على أني جاسوس، وركبت الكنائس – ليست الكنائس بمعنى الــ Churches، لا! الكنائس هذه المحامل، هناك الهودج، والجمع الهوادج؛ لأن الكنيس يُخبئ الذي فيه، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ۩، هل هذا واضح؟ ولذلك اسمها الكنائس، ليست الكنائس بمعنى دور ومُتعبدات النصارى، لأ! الكنائس الهوادج – والخيول، وعاينت حرب الروم في الشواني – جمع الشانية، وهي ماذا؟ السُفن الحربية الضخمة. كانوا يُسمونها ماذا؟ الشواني. جمع الشانية -، وضرب النواقيس في الليالي – أي في بلاد ماذا؟ نصرانية. دخل ولم يدع شيئاً -، وجلّدت المصاحف بالكرى، ومشيت في السمائم – أي الريح السموم، العاصفة الحارة -، ونزلت في عرصة الملوك بين الأجلة، وسكنت بين الجُهّال في محلة الحاكة – أي الخيّاطين -، وكم نلت العزة والرفعة! ودُبر في قتلي غير مرة، وحججت وجاورت – جاور في الكعبة، في بيت الله -، وغزوت ورابطت وشربت بمكة من السقاية السويق – الدقيق المُذاب في الماء اسمه السويق -، وأكلت الخُبز والجُلّبان – الجُلّبان نبات عشبي، بذوره تؤكل، وأحياناً يُزرَع من أجل زهوره أو أزهاره، اسمه الجُلّبان – بالسبق – السبق اسم مكان -، ومن ضيافة إبراهيم الخليل – أي في خليل الرحمن، عندنا الآن في فلسطين، والضيافة هي التي يضعها المُحسِنون لزوّار المسجد المُكرَّم، فهو أكل من هذه الضيافة، نعم -، وجُميز عسقلان السبيل – الشيء نفسه، هذا يُقدَّم لأبناء السبيل في عسقلان/ المجدل، من الجُميز الخاص بها، أي والجُميز شجرة تقريباً فلسطينية -، وكسبت خلع الملوك وأمروا لي بالصلات، وعريت وافتقرت مرات، وكاتبني السادات ووبَّخنى الأشراف – انظر، صادق، رجل صادق وبسيط، وفعلاً عنده هذه الروح الطفولية، قال لك عملت كذا وكذا وكذا وكذا. أي صادق -، ورُميت بالبدع، واتُهمت بالطمع، وأقامني الأمراء والقُضاة أميناً، ودخلت في الوصايا، وجُعلت وكيلاً – وكيلاً على أموال اليتامى والقُصر وما إلى ذلك -، وامتحنت الطرارين – الطرار هو الذي يأتي يشق جيبك من غير أن تشعر، ويسرق منك، اسمه الطرار هذا -، ورأيت دول العيّارين – اللصوص، المسارحة بالذات، هؤلاء يُسمونهم العيّارين -، واتبعني الأرذلون، وعاندني الحاسدون، وسُعيَ بي إلى السلاطين، ودخلت حمامات طبرية والقلاع الفارسية، ورأيت يوم الفوارة وعيد بربارة – هذه من أعياد النصارى في بلاد الشام – وبئر بُضاعة – في المدينة، الذي يُلقى فيه الحيض، في الحديث المشهور – وقصر يعقوب وضياعه والمهرجان والسنة – السنة تعني رأس السنة، أي الكريسماس Christmas، رأس السنة المسيحية – والنيروز بعدن وعجبه وعيد المارسرجه – في مصر – ومثل هذا القدر – ما معنى ومثل هذا القدر؟ يعني ليلة القدر. يحكي عن احتفالات دينية، ومثل هذا القدر، أي شهدت احتفالات ليلة القدر -، ليعلم الناظر في كتابنا أنا لم نصنعه جُزافاً ولا رتبناه مجازاً…
وحين تقرأ أحسن التقاسيم، تعلم أنه تقرير عن الدنيا، مثلما وصفه العلّامة الجغرافي والمُؤرِّخ بالذات حسين مُؤنِس – رحمه الله -، هذا هو! هذا ابن بار لهؤلاء، حسين مؤنِس الذي أشدت به، ولا أمل من الإشادة به، بهذا المُؤرِّخ المصري العظيم، عبقرية تاريخية جغرافية أدبية، ما شاء الله عليه، تخيَّل! ورجل موسوعي، كان يُجيد ثماني لُغات، يكتب منها وإليها ويُترجِم منها، شيء عجيب! حسين مُؤنِس علّامة كبير، كبير كبير كبير! إذا أحببت أن تعرف حضارتك وتعشق هذه الحضارة، فاقرأ لحسين مُؤنِس، هذا المُؤرِّخ العظيم الذي ندر مثاله، قال أحسن التقاسيم تقرير – أي Report هو – عن الدنيا. تقرير عن العالم! ليس عن مدينة أو عن قرية، عن العالم!
ذكرت أنا مُلخَّص هذه المُقدَّمة الماتعة الرائعة قبل سنوات، أيضاً بصدد كلامي عن الفضول وموت حس الفضول في المُسلِم المُعاصِر، وقلت أيامها مُعقِّباً – ولا زلت أقول للأسف الشديد – أنت تجد المُسلِم يعيش في النمسا، أو في ألمانيا، أو في أستراليا، أو في كندا، أو في أي بلد غربي أو شرقي، عشرين أو ثلاثين سنة، ولا يكاد يعرف شيئاً حتى تاريخ البلد. لا عنده تاريخ، ولا جغرافيا، ولا أي شيء، ولا كأنه موجود في البلد! أين الفضول؟ أين محبة المعرفة؟ أين هذا؟ لا يُوجَد بالمرة. هذا لكي تعرفوا أننا في الحقيقة موات، فلا نغتر يا إخواني بصراحة. لا بد وأن نُواجِه أنفسنا بالحقيقة المُرة، لا ينبغي أن نُغالِط أنفسنا في الحقائق، لا بد وأن نكون صادقين، نحن لسنا أحياء، والله العظيم! لسنا أحياء، الحي؛ ابن آدم الحي، ابن أبوه. أليس كذلك؟ حي، ابن مُعلَّم الأسماء، عنده فضول، يُحِب أن يعرف، يُحِب أن يتعلَّم، يُحِب كل شيء. والآن – ما شاء الله – فُرصة التعلم والتعليم مجانية، خاصة بعد عالم النت Net هذا، مجاني! تتعلَّم كل شيء وأنت قاعد مكانك، بدون أموال، أنت لا تُحِب القراءة؟ تُوجَد عندك أشياء مُشاهَدة، وعندك أشياء مسموعة، أليس كذلك؟ ومن كل أنحاء العالم، بمُختلف اللُغات يا رجل، بضربة هكذا، أنت تكتب، فتأتيك النتائج. إذا كنت باحثاً علمياً جاداً، فلا تدخل حتى على جوجل Google العادية، بل ادخل على جوجل سكولار Google Scholar، اكتب فقط اسم الموضوع الذي تُريده، ثم تعلَّم، تفضَّل! أكثره مجاني، وهناك مدفوع، ولكن هذه هي، مَن يُحِب طبعاً يدفع، يُحِب! قال الإمام الشافعي:
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأُنبيك عن تفصيلها ببيان.
ذكاء وحرص واجتهاد وبُلغة وصُحبة أستاذ وطول زمان.
قال بُلغة. لا بد وأن تدفع، لا بد وأن يكون عندك شيء تتبلغ به. أي العلم يحتاج إلى ماذا؟ إلى إنفاق أيضاً. يجب أن تعمل له مُوازَنة مُعيَّنة، أنت تعمل مُوازَنة لسيارتك، ومُوازَنة لأكلك وشُربك وملابسك، فلتعمل مُوازَنة للعلم، ليس غلطاً وأنت تكتب كتاباً وبحثاً مُهِماً في موضوع علمي أو فلسفي أو فكري أو تاريخي أو سياسي – أياً كان هذا الموضوع -، أن تدخل على هذه المواقع المدفوعة، وتُنفِق لك خمسين دولاراً أو مئة دولار أو مئتي دولار – بحسب ما تحتاج -، وتنزل أبحاثاً مُعيَّنة، غير مُتاحة لنا، مدفوعة. هناك أوراق مُعيَّنة ليست مُتاحة لنا، مدفوعة هي، ادفع وتعلَّم، وتعلَّم! وانفع نفسك وانفع غيرك. قال بُلغة. ضح، ضح! هي تحتاج إلى تضحية، هل هذا واضح؟
والعرب كانوا يقولون ماذا؟ العلم خزائن، مفاتيحها السؤال. وسؤالي أنا هنا؛ ما الذي يُثير السؤال؟ الفضول. إذا لم يكن عندك فضول من الأصل، فلن تسأل، أليس كذلك؟ سيكون هناك موضوع، بل ألف موضوع، للسؤال، ولن تسأل؛ لأن الفضول غير موجود. ولذلك أنا أرى أن الحكمة الإغريقية أحسن من الكلمة العربية هذه، أي كلمة العلم خزائن، مفاتيحها السؤال، لا! الإغريقية أحسن، ماذا تقول؟ أن تُحِب المعرفة، معناها أنك تعرف. معناها ماذا؟ الإغريق ماذا يقولون؟ هل عندك الــ Passion أو الشغف؟ هل عندك شغف المعرفة؟ وهذا اسمه – أقول هذا بين قوسين – ماذا؟ اسمه (الفضول). هل عندك فضول المعرفة؟ انتهى، إذن أنت عرفت. لأن رُغماً عنك هذا الفضول سوف يهرش تحت جلدك، سوف يجعلك تحك، كما قال برلين Berlyn هذا، لا بد وأن تحك، وتبحث وتسهر وما إلى ذلك. نحن ليس عندنا الحكمة المعرفية هذه بصراحة – كما قلت لكم -، فواضح أننا تقريباً ميتون، فينا هذا الشيء، فينا! فينا شيء كبير ميت.
(انتهت الجلسة بحمد الله)
أضف تعليق