الحمد لله الذي بتحميده يُستفتَح الكلام ويُبتدأ الخطاب، وبفضله يتنعَّم أهل السعادة في دار الثواب، وباسمه الكريم يتسلى الأشقياء وإن أُرخيَ دونهما الحجاب وضُرِب بينهم وبين السعداء بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۩.
نستغفره – سُبحانه – ونتوب إليه توبة مَن أيقن أنه رب الأرباب، الملك الرحيم، الغفور التوّاب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ۩، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، مَن أوتيَ جوامع الكلم وفصل الخطاب، الشافع المُشفَّع في المحشر.
أنت النبي الذي تُرجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلت القدم.
صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين صلاة تُنقِذنا من هول المُطلَع وكُرب الموقف وأهوال الحساب.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم الكتاب بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.
أيها الإخوة الأفاضل:
توسَّط بنا هذا الشهر الكريم، فنحن الآن في عشره الثاني، في عشر المغفرة، كما تعلمون أوله رحمة، وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ونحن الآن في وسط وفي عشر المغفرة، أسأل الله أن يُعفّي على ذنوبنا، وأن يعفو عنا، وأن يغفر لنا ذنبنا كله، دِقه وجِله، اللهم آمين.
وقد استمعنا إلى هذه الآيات التي ينفسح معها أُفق الأمل وأُفق الرجاء وأُفق التأميل في رحمة الله وفي مغفرة الله – سُبحانه وتعالى -، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩.
روى الإمامان البخاري ومُسلِم والإمام أحمد – رضيَ الله عنهم -، عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنه -، قال قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال اللهم إني قد أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله – تبارك وتعالى – أذنب عبدي ذنباً، وعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به – قد يغفره وقد يأخذ به، قد يُجازي وقد يُعاقِب -، قد غفرت لعبدي، ثم عاد فأذنب ذنباً آخر، وقال اللهم اغفر لي، وقال الله – تبارك وتعالى – علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عاد فأذنب، وقال اللهم اغفر لي، وهذا ليس ببدع، هذا ليس ببدع من أحوالنا ومما نجده من أنفسنا ضرورةً، هل نُذنِب ثلاث مرات؟ هل نُذنِب ثلاثين مرة؟ هل نُذنِب ثلاثة آلاف مرة؟ هل نُذنِب ثلاثين ألف مرة؟ نحن نُعاوِد الذنوب باستمرار، ونُذنِب دائماً، ولا سيما الصغائر، ولا سيما صغائر الذنوب، نعود إليها، نعود في حافرتنا آلاف المرات، فلو ما كان من رحمة الله ومن فتحه باب التوب لتقطَّعت قلوب العاملين، لذهبت أنفسنا حسرات، حسرات على هذه الأنفس الخاطئة الآثمة الظالمة، وقال الله – تبارك وتعالى – علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليعمل عبدي ما شاء.
بديه أن هذا النص الكريم لا يُحمَل – لا يُحمَل بتةً – على استرخاص واستجازة – إعطاء إجازة ورُخصة – بمُقارَفة الذنوب، على أمل وركوناً إلى هذا الوعد الكبير، أن الله يغفر الذنب، كلا! هذا ليس معنى الحديث ولم يقل به أحد من العلماء، وإنما معناه أن الله – تبارك وتعالى – سيظل يغفر لعبده ما أذنب العبد واستغفر، أي ما أذنب وتاب وعاد إلى الله، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ۩، الإنسان طبيعته الضعف، كائن أجوف، كائن ضعيف، كائن لا يتماسك كثيراً، يتذكَّر ثم ينسى، ثم يتذكَّر ثم ينسى، يُصلِح ويُفسِد، يرقع كما قيل ثم يُخرِّق، ويُخرِّق ويرقع، والمُؤمِن واهن راقع، هكذا يقول مولانا – عليه الصلاة وأفضل السلام – رسول الله، المُؤمِن واهن راقع، يُخرِّق ثم يرقع، يُفسِد ثم يُصلِح، وهو كالفرس، مربوط إلى آخيته، والآخية هي الوتد، لا يكون في الأرض، وإنما يكون في الحائط، إذا كان في الأرض سُمي وتداً، إذا كان في الحائط دُعيَ آخيةً، المُؤمِن كالفرس، مربوط إلى آخيته، والفرس تجول، تجول هنا وتجول هناك، عن يمين وعن شمال، ثم تعود إلى موضعها، وهكذا المُؤمِن، يذهب ويشد قليلاً أو كثيراً، إلا أنه يثوب ويتوب ويُعاوِد نفسه، فهو واهن راقع، والله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ۩ – لا إله إلا هو -، والتائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمَن لا ذنب له، سيما إذا تاب توبةً نصوحاً واستغفر من قلب استوحش، استوحش من الذنوب، وأحرقته نار المعصية، فإن الله لا شك يغفر له، ويتلقاه بالقبول، ويُقبِل عليه من بعيد ومن قريب – لا إله إلا هو -.
ولذا روى أبو داود والترمذي والحافظ أبو بكر البزّار والحافظ أبو يعلى الموصلى – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، عن الصدّيق أبي بكر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال سمعت رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول ما أصر مَن استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة، لا يُعتبَر من المُصِرين الذين توعَّدهم الله، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩.
فقد روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مُسنَده، عن عبد الله بن عمرو، قال قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وهو على المنبر أيها الناس ارحموا تُرحَموا، واغفروا يُغفَر لكم، أيها الناس ارحموا، ارحموا أنفسكم، ارحموا أهليكم، ارحموا عباد الله، وارحموا خلق الله بعامة، حتى الحيوان الأعجم البهيم، ارحموا الرحمة العامة الشاملة لكل خلق الله الذين يستأهلونها ويستحقونها، ارحموا تُرحَموا، اغفروا يُغفَر لكم، ويلٌ لأقماع القول، ويلٌ للمُصِرين، الذين يُصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
وقد تمهَّد وتقرَّر غير مرة – أيها الإخوة الأفاضل – أن الإصرار على الذنب وإن كان صغيراً يُحيله إلى كبيرة – والعياذ بالله -، فلا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، مَن أصر فقد أسقط الحشمة، وجرح جناب الأدب مع الله – تبارك وتعالى -، وبارز ربه بالحرب، ولم يرج لله وقاراً، فانقلب ذنبه الصغير إلى كبيرة غليظة – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، لا! ويلٌ لأقماع القول، ويلٌ للمُصِرين، الذين يُصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، ولكن كما في الحديث الذي أشرنا إلى تخريجه – حديث الصدّيق – ما أصر مَن استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة، بعض العلماء ضعَّف هذا الحديث لجهالة الذي رواه عن أبي بكر، وهو مولى أبي بكر، عن مولى لأبي بكر، وهذا لا تضره الجهالة، لأنه تابعي كبير، ويكفيه شرفاً انتسابه إلى الصدّيق الأكبر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، فمثل هذا بحسب الصنعة الحديثية لا تضره الجهالة، فالحديث لا ينزل عن رُتبة الحُسن، هو حديث حسن – إن شاء الله تعالى -، ما أصر مَن استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة.
روى الحافظ أبو بكر البزّار عن أنس، قال جاء رجل إلى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقال يا رسول الله قد أذنبت ذنباً، فقال استغفر الله، قال يا رسول الله أستغفر الله ثم أُعاوِد الذنب، أعود – والعياذ بالله – وأُشد إلى هذا الذنب، قال استغفر الله، قال يا رسول الله أستغفر الله ثم أُعاوِد، وهكذا حتى قال له في الرابعة إذا أذنبت فاستغفر الله، حتى يكون الشيطان هو المحسور، حتى تتقطَّعه الحسرة، حتى يموت بحسرة نفسه – لعنة الله عليه، بل لعائن الله عليه مُتتابِعة إلى يوم الدين، وعلى مَن والاه واتخذه ولياً من دون الله -، قال حتى يكون الشيطان هو المحسورة.
انظروا إلى هذه الآية يا إخواني التي فيها قوله وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، قال وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، لا إله إلا الله! هذا من صلاحيات الله وحده – لا إله إلا هو -، من أهليات الخالق البر التوّاب الرحيم الغفور الكريم صاحب السمح والتجاوز – لا إله إلا هو – والصفح، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، لا يستطيع ذلك إلا هو – لا إله إلا هو -، كبرت هذه الآية جداً على إبليس، فقد روى الإمام عبد الرزّاق الصنعاني – رحمة الله تعالى عليه -، عن عطّاف بن خالد، قال بلغني أن إبليس – لعنة الله تعالى عليه – لما نزلت هذه الآية: وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩ صاح صيحةً، ودعا بذُريته وبجُنده، ثم حثا على رأسه التراب، ودعا على نفسه بالويل والثبور، فقالوا وقد اجتمعوا لديه، فقالوا ما بالك يا سيدهم – وطبعاً نحن لا نقول يا سيدنا، لا نقول الحكاية كما هي، لا! لا يجوز أن نقول ما بالك يا سيدنا، لا! هو سيدهم هم، نقول ما بالك يا سيدهم -؟! فقال نزلت اليوم آية في كتاب الله، لا يضر مُسلِماً بعدها ذنب، قالوا وما هي؟ قال وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، قال وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ۩، حتى الفواحش تُغفَر طبعاً، لماذا لا تُغفَر؟ حتى الفواحش إن تاب منها صاحبه يغفرها الله، يغفرها الله – سُبحانه وتعالى -.
إذن فقال نزلت اليوم آية في كتاب الله، لا يضر مُسلِماً بعدها ذنب، قالوا وما هي؟ قال وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، فقالوا سنُهلِكهم بالأهواء، ما دامت الذنوب لا تضر لأنه يُذنِب ويعلم أنه قارف ذنباً وأنه واقع معصيةً فإذن نُهلِكهم بالأهواء، فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق، ما معنى الأهواء؟ الأهواء هي البدع في العقيدة والدين، للأسف وقد كثرت وفشت فشواً مهولاً هذه البدع والأهواء في أمة محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وإنه لم تُبتدَع بدعة إلا ارتفعت بإزائها سُنة، إن في حق الفرد وإن في حق الجماعة بحسب الفشو، بحسب فشو هذه البدعة – والعياذ بالله -، إذن البدع، هناك بدع في العقائد، وقد يبلغ بها بل وقد يتدلى بها صاحبها، وقد يتدلى بها صاحبها إلى دركة الكفر، هناك بدع مُكفِّرة، وهناك بدع غير مُكفِّرة، يُحكَم على صاحبها بالفسق والضلال، وبالبدعة أيضاً، أي بعنوان البدعة، يُوصَم بعنوان البدعة، وكفى بها وصمةً.
هناك بدع في العقائد، وهناك بدع في العبادات، في الدين بعامة، كله مذموم – والعياذ بالله -، طبعاً وشره ما كان في العقيدة، شر البدع ما كان في العقيدة – والعياذ بالله -، صاحب البدعة يا إخواني وصاحب الهوى لا يستغفر ولا يتوب، لماذا؟ لأنه يتعبَّد ربه بهذه البدعة، يحسب أنه يُرضي الله بهذه البدعة – والعياذ بالله -، يتقرَّب إلى الله بهذه البدعة، ويحسب أنه مرضي، وربما طمست هذه البدعة نور بصيرته، فلا يستطيع أن يُميِّز أنه ضال بهذه البدعة – والعياذ بالله -، فهذا الذي يُهلِك الناس، البدع!
ومن هنا قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه أبو يعلى عن أبي بكر أيضاً الصدّيق – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أيها الناس عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، طبعاً تعلمون أننا مأمورون بالاستكثار من كلمة التوحيد هذه ومن الاستغفار بالذات في شهر رمضان، أليس كذلك؟ هناك الخصلتان اللتان نُرضي بهما ربنا: لا إله إلا الله وتستغفرونه، النبي يقول بعامة، ليس في رمضان فقط، في رمضان خاصة، ولكن بشكل عام علينا أن نستكثر من لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ومن الاستغفار، يقول – عليه السلام – فإن إبليس قال أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
الرجل ينصب شباكه وفخاخه ومصائده وأشراكه، يُعِد أشراكه – جمع شرك – ويقع هذا ويقع هذا ويقع هذا، فيفرح ويغتبط – لعنة الله تعالى عليه -، لأنه لا يُريد إلا هلاكنا وإلا بوارنا وإلا خسارنا في الدنيا والآخرة، لا يبغينا الخير، لا يبغينا إلا الخبال، فبعد ذلك إذا جاء العبد واستغفر الله وتاب إلى الله ووحَّد الله غفر الله له، فكأنه لم يفعل شيئاً، فيغضب هو ويحزن ويجد في نفسه موجدةً – لعنة الله تعالى عليه -، قال أهلكتهم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
قال – لعنة الله تعالى عليه – فسلَّطت عليهم الأهواء، ويحسبون أنهم مُهتدون، لم أستطع! الذنوب معروف أنها ذنوب، وهي حرام، مثل الزنا، القتل، السرقة، الربا، الرُشا، وكل الأشياء المُحرَّمة معروفة للناس، فإذا واقعوها استغفروا الله، مَن أسعده الله استغفر وتاب، لكن الأهواء والبدع قال أهلكتهم بها، وهم يحسبون أنهم مُهتدون، وهم على ضلالة – والعياذ بالله -.
لذا على المُؤمِن أن يُنقِّر وأن يُنقِّب وأن يُدقِّق يا إخواني في صحة المُتابَعة، هل فعلاً هو يُتابِع هذا الدين؟ هل يُتابِع الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ كل الخير في الاتباع، وكل الشر في الابتداع والمُخالَفة، ما أشأم من المُخالَفة على أصحابها، لأن مَن خالف وابتدع يزعم أن محمداً لم يُكمِل الدين ولم يُوضِّحه ولم يُبيِّنه، فهو ينتدب نفسه لإكماله وتوضيحه وبيانه للناس – والعياذ بالله -، وهذا قليل الأدب، يتقدَّم بين يدي الله وبين يدي رسول الله، وهذا يُهلِكه – والعياذ بالله -.
أيها الإخوة:
(من فضلكم تقدَّموا قليلاً، يا ليت لو قمتم، في الأول نقوم حتى نستطيع أن نُفسِح لإخواننا، نقوم ثم نقترب، بارك الله فيكم، فسح الله لكم ووسَّع عليكم في الدنيا والآخرة).
أيها الإخوة الأفاضل:
وقد روى عبد الرزّاق أيضاً، عن أنس بن مالك – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال بلغني إن إبليس – لعنة الله تعالى عليه – لما نزل قول الله – تبارك وتعالى – وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩ بكى، بكى من الغيظ والحُزن والحسرة والألم، لأن سعادته أن نشركه في نار جهنم، أن نكون معه، ولكن لما فتح الله هذا الباب – باب التوبة وباب المغفرة – اغتاظ، وهذا عطاء جزيل يا إخواني، لا يهلك على الله إلا هالك.
تعلمون أنه إذا أخطأ العبد وأراد ملك السيئات أن يُقيِّد وأن يستنسخ هذا العمل وأن يكتب هذه السيئة أو هذه الخطيئة فإن ملك الحسنات على اليمين يقول له حسبك، ملك الحسنات يقول له قف، لا تكتب، ثم يُمهِله ساعةً، وقتاً من الزمان، ليس ساعةً، أي ستين دقيقةً، وإنما أقل من ذلك طبعاً، ثم يُمهِله ساعةً، فإن تاب العبد واستغفر وأناب لم تُكتَب السيئة أصلاً، لم تُكتَب! لم تُكتَب في الكتاب أبداً من أصله، وهذا من رحمة الله، وإن نسيَ وظل سادراً في غوايته وفي غفلته وفي نومته – والعياذ بالله – كتبها، فتُكتَب إذن، ليجدها يوم القيامة – والعياذ بالله -، تُثقِل كاهله.
إذن لابد يا إخواني من كثرة الاستغفار، ولكن الاستغفار المقرون بماذا؟ بحل عُقدة الإصرار وبالندم وبالحُزن، فقد روى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – وهذا الحديث الصحيح أنه موقوف، ورفعه إلى رسول الله مُنكَر، هذا ليس من كلام رسول الله، هذا من كلام عبد الله بن عباس، لكن له حُكم المرفوع، لأنه لا يُقال بالاجتهاد وبالرأي، فرفعه مُنكَر، والصحيح وقفه على عبد الله بن عباس – الآتي، قال عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – التائب من الذنب كمَن لا ذنب له، والمُستغفِر وهو مُقيم على ذنبه – يستغفر باللسان، لكن يفعل نفس الذنب والعياذ بالله، ويستغفر، يقول اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي فإني قد ظلمت نفسي، وهو مُقيم على الذنب – كالمُستهزئ بربه، فهل يرضى مُؤمِن لنفسه هذه الدركة – والعياذ بالله -؟
طبعاً لا يستطيع أحد أن يهزأ بالله، سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، لا يستطيع أحد أن يسخر ولا أن يستهزئ، هذا من باب التشبيه والتمثيل فقط، وفي الحقيقة هو ساخر بمَن؟ هو ساخر وهازئ بنفسه، إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۩، هذا يسفه نفسه، وليس كالذنوب سفاهة، أكبر سفاهة وأكثر ما ينقض حكمة العقل هو الذنب، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩، أجمع السلف من الصحابة والتابعين على أن كل مَن عصى الله فهو جاهل، وليس معنى الآية يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩ أنهم يجهلون كون هذا سوءاً، لا! ليس هذا المعنى، وإنما يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩ أي مُتلبِّسين، هنا للتلبس، فكل مَن اقترف السوء هو جاهل، وإن كان في نظر عقلاء الدنيا من أعقل عقلائهم، هو جاهل في النظر الشرعي، في النظر الشرعي هو جاهل وهو سفيه، سَفِهَ نَفْسَهُ ۩، لأنه لو كان عاقلاً فإنه ينبغي أن يمهد لنفسه عند الله – تبارك وتعالى -، يمهد لها الخير، يمهد لها الزُلفى والقُربان والرضوان، لا أن يُخطئ ولا أن يعتدي على الحُرمة وعلى حمى الله، وما أحد أغير من الله – تبارك وتعالى – كما صح في الحديث، وغيرته أن تُنتهَك محارمه، فمَن عرَّض نفسه لغضب الجبّار – لا إله إلا هو – هلك، وهو لا يستطيع شيئاً من ذلك ولا يطيقه بل إن السماوات والأرضين لا تطيق ولا تستطيع أن تقوم لغضب الله لُحيظة، لُحيظة واحدة! فكيف يقوم لها هذا البدن المجبول المصنوع من طين ومن ماء ومن لحم ومن دم؟!
جسمي على الشمس ليس يقوى ولا على أهون الحرارة.
فكيف يقوى على نار وقودها الناس والحجارة؟!
أحد الأعراب سمع لأول مرة في حياته هذه الآية: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۩ فشهق شهقة، فحَّرك فإذا هو ميت، ما هذه النار؟! كلما وُضِع فيها البشر ازدادت اشتعالاً، وإذا وُضِع فيها جبل أو حجر تزداد اشتعالاً، طبيعتها ليست من طبيعة نار الدنيا، وقودها الناس والحجارة – والعياذ بالله -، هل نستطيع نحن أن نصبر على هذه النار؟ لا يُمكِن، إذن سفيه وجاهل كل مَن يعصي الله، ولا عقل له.
ولذا قال – عليه السلام – مَن قارف ذنباً فارقه عقله، لا يعود إليه إلا أن يتوب وينزع، أو كما قال، أي فارقه من عقله جُزء بمقدار هذا الذنب، ولذا يا إخواني ترون أُناساً كُبراء في نظر أهل الدنيا، قد يكون أحدهم وزيراً، قد يكون أكبر من ذلك وأصغر من ذلك، فإذا ما لابستموه وعاملتموه عن قُرب والله وجدتموه أصغر من أطفل وأذل من أمة وأذل من صراط، يندلع وراء شهواته – أكرمكم الله – كدابة وكبهمية، لا يستطيع أن يتمالك وأن يتماسك أمام شهوة بسيطة، كشهوات الكأس أو شهوات النساء – الجنس – أو شهوات المال أو شهوات المناصب والكلمات وأن يظهر في التلفاز وفي المجلات وفي الجرائد، سخيف، غير ناضج، كالطفل الصغير، غير واعٍ، وهو يحسب أنه كبير، أين كبره؟ أين عظمته؟ لا عظمة له، وهو سفيه، أي هذا المسكين، ومَن عامله أكثر فأكثر فعلاً تحقَّق من هذا المعنى، أنه شخص ضعيف مُتهالِك سخيف.
وأما المُؤمِن فقد يكون حدثاً، شاباً صغيراً، وإذا ما عاملته تجد فيه تماسكاً وقوةً وإرادةً وإصراراً وشخصيةً ونُضجاً انفعالياً ووجدانياً وعقلياً، شيئ غريب جداً، من أين أتى؟ هذا الشاب الصغير ابن عشرين سنة لا يزال مُراهِقاً، لم يزل في مُراهَقة البلوغ كما يُقال، فكيف؟ من الإيمان، من طاعة الله.
رأيت الذنوب تُميت القلوب وقد يُورِث الذل إدمانها.
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها.
الذنوب مذلة، تُورِث المذلة في الدنيا والآخرة، في الدنيا طبعاً أذل خلق الله هم أهل الذنوب وأهل العصيان وأهل التجبر وأهل النُكران والجحود والكُفران – والعياذ بالله -، أذل خلق الله! يُحشَرون في أمثال الذر، في صور الذر، يطأهم الناس بأقدامهم، وقد يُحشَر صعاليك الدنيا وفقراء الناس ملوكاً يوم القيامة، على الأسرة، في ظل عرش الله – لا إله إلا هو -، هذا هو العز المُؤبَّد، هو عز ماذا؟ عز الطاعة، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ۩، أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۩، بمقدار ما تقترب من الله يُلبِسك الله ثياب العز، بمقدار ما تقترب من الله يُلبِسك الله ثياب المهابة وثياب الجلال.
ولذا أُثِر عن الصالحين ولا يزال يُؤثَر إن وُجِد منهم مَن تحقَّق بعنوان الصلاح وبحقيقة الولاية لله – تبارك وتعالى – مَن قد يكون عالماً من العلماء، لا يتنفَّذ بأي منصب ولا بأي سُلطان، ولا يسطو بالناس، عالم! وقد يكون فقيراً، وقد يكون مغموراً أحياناً، لكن يُؤثَر عنهم في مواقف أن الملوك تهابهم وأن الكُبراء يهابونهم ولا يستطيعون أن يسطوا بهم، قد يتوعَّدونهم، وقد… وقد… حتى إذا تلاقوا وجهاً لوجه دبت الهيبة والجلال والمهابة في قلوب هؤلاء، من ماذا؟ من طاعة الله، لأن الله يكسوهم من جلاله، يكسوهم من هيبته، ويكسوهم من عظمته.
نظر أحدهم إلى أحد هؤلاء الأولياء الكبار، وأحس في نفسه خوفاً وهيبةً شديدةً لهذا العالم، فحسب أن هذا من كبر العالم، أنه مُتكبِّر ومُترفِّع عن الناس، فالناس تحتشمه وتهابه كما يُقال، وكوشِف هذا الولي العالم بسر هذا الرجل الجاهل، فقال له يا جاهل ليست الكبرياء هي، إنما هي طاعة الله ومهابة المُؤمِن، فقال أستغفر الله يا مولاي.
(ملحوظة هامة) للأسف حدث قطع هنا، ثم عاد الأمر إلى ما كان عليه مع قول فضيلته: الإمام مالك كان لا يستطيع أحد أن يبتدئه بالسؤال هكذا، وإذا تكلَّم قيَّدوا وكتبوا وكلهم نكوس، نواكس الأذقان من هيبة هذا الإمام الجليل، وكان صاحب فراسة، إذا تكلَّم عن سر أحد وعن حقيق أحد لا يكاد يُخطئ – رضيَ الله عنه وأرضاه -، بشرف المُتابَعة وبعز الطاعة، فأعزوا أنفسكم بطاعة الله يا إخواني، وليس شرطاً عز الدنيا، لا نُريد الدنيا ولا ما في الدنيا، الدنيا ذاهبة، الدنيا مُترحِّلة، إن لم نترحَّل عنها نحن ترحَّلت عنا، أو إن لم تترحَّل هي شهدت رحلينا نحن عنها واحداً واحداً، لا نُريد! ماذا نُريد من هذه الدنيا؟ إنما هو عز الآخرة، العز بين يدي الله – تبارك وتعالى – حين يُحشَر ملايين الخلق.
حتى لا نُطوِّل نختم بهذا الحديث الجليل، وقد ذكرته مرة في خُطبة برأسه وبحياله، وأفضنا في شرحه، لكن الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ۩، الحديث الذي أخرجه عبد الرزّاق وابن جرير وأبو عبد الحاكم في مُستدرَكه، وقال حديث صحيح إن صح سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه، فقد اختُلِف في ذلك، إذن الحديث من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -، قال عبد الله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – إن في سورة النساء لخمس آيات ما أُحِب أن لي بهن الدنيا وما فيها، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ۩، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، ما أجمل هذه السورة! سورة النساء لها وقع خاص في نفوس كثيرين من المُؤمِنين، وأنا أُحِب هذه السورة جداً، انظروا إلى هذه الآيات، ما أجملها! إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ۩، انظروا إلى السياق والنظم والجزالة والجرس والتناغم، شيئ عجيب! مع جلالة المعنى وفحولته، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ۩، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، الله أكبر! إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ۩، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ۩، وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، الله أكبر.
ما أجل وما أكرم وما أعلى كعب هاته الآيات الخمس! خمس آيات يقول هذا الحبر وهذا الجبل من جبال العلم – أي ابن مسعود – ما أُحِب أن يكون لي بهن الدنيا وما فيها، خمس آيات! وكلهن كما قد ترون يدورن على ماذا؟ على المغفرة، على السمح، على التجاوز، وعلى العطاء، وقد لفت النظر الحسير فيهن – أيها الإخوة الأماجد – أنهن وفق ترتيب بديع وغريب، هذا الترتيب ينفسح معه الأُفق – أُفق الأمل في رحمة الله – أزيد فأزيد، وأكثر فأكثر، وأبعد فأبعد، فانظروا إلى الآية الأولى، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ۩، هنا التكفير والمغفرة منوطة بماذا؟ باجتناب الكبائر، فكأن الكبائر لا تُغفَر، أليس كذلك؟ ليست داخلةً في الوعد، ليست داخلةً في مضمون هذا الوعد.
الآية التي بعدها تُؤمِّن العاملين والسالكين والسائرين من ماذا؟ من ظلم الجليل – لا إله إلا هو – وحاشاه وكلا، فقد حرَّم الظلم على نفسه، وتحفزهم وتُحرِّك هممهم وأشواقهم إلى مزيد العمل ومُغانَمة الأوقات، كيف؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، حرَّم الظلم على نفسه، وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، إذن تحث على ما ذُكِر من معنى.
وأما الآية الثالثة فهي إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩، فقط هذه الكبيرة، وهي رأس الكبائر – والعياذ بالله -، أو قاع الكبائر، إذا أردنا أن نُعبِّر فسنقول هي قاع الكبائر، أسوأ ما يُمكِن أن يهبط إليه الإنسان الشرك بالله، وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ۩، إذن هي قاع الكبائر، قاع الكبائر الشرك بالله، وهذا لا يُغفَر، أما ما دون الشرك فيُغفَر، حتى الكبائر الآُخرى تُغفَر – إن شاء الله -، ألم ينفسح الأُفق؟ ترتيب بديع، مع أنهن مُتباعِدات، هاته الآيات الخمس مُوزَّعات في أنحاء وتضاعيف السورة من أولها إلى آخرها، مُتباعِدات جداً، ترتيب مقصود للرب الرحيم، لا إله إلا هو! وكيف لاحظهن عبد الله بن مسعود؟! هذا من العلم بدقيق القرآن الكريم، هذا من العلم بدقائق التنزيل، ليس المرور، أي مرور الكرام فقط هكذا، هذا بالمُقارَنة والمُناظَرة، يُنظِّر بين الآيات.
المُهِم أن الآية التي بعد ذلك هي وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ۩، هذا يعم كل شيئ، ولكنه مشروط بماذا؟ بإتيان الحبيب الأمجد والطاهر الأبر محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هذا انقطع الآن، في عصرنا انقطع، فبقيت الآية الخامسة، وهي آية الوعد فيها مُطلَق، وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ۩، حتى لو بالشرك، لأن الشرك ظلم عظيم كما قال لُقمان العبد الصالح، لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩، وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، هي مُطلَقة، ومعها الأمل أوسع ما يكون، وأبعد ما يكون، وأرجى وآكد ما يكون – إن شاء الله -.
أتى شاب عبد الله بن مسعود – راوي هذا الحديث، وهو موقوف عليه هنا -، وقال له يا أبا عبد الرحمن، يا صاحب رسول الله، قد ألممت بذنب، وكذا وكذا وكذا، فهل لي من توبة؟ ويبدو أنه ذنب كبير، فأعرض عنه عبد الله بن مسعود، ثم التفت إليه فإذا عيناه تذرفان، يبكي المسكين حسرةً وحُزناً وخوفاً وخشيةً من الله، يبكي! فإذا عيناه تذرفاه، فقال له يا أخي لا عليك، إن أبواب الجنة الثمانية تُغلَق وتُفتَح، إلا باباً واحداً، لا يُغلَق أبداً، هو باب التوبة، فاعمل ولا تيأس.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يغفر لنا ويرحمنا، وأن يجعلنا من الذين إذا أسأوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا.
استغفروا الله، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، ونجيبه من عباده، وأمينه على وحيه، اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على هذا النبي الأمين الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعلينا ومعهم وفيهم ببركتهم يا رب العالمين.
عباد الله، أيها الإخوة الأفاضل:
تعلمون أننا نعيش هذه الأيام المُبارَكات، وقد يسَّر الله لنا وفتح علينا من أفضاله ونعمه السوابغ ما فتح ويسَّر، إلا أن إخوانكم المُجاهِدين المأسورين والمحصورين في أرض الرباط، في أرض المحشر والمنشر، في أرض فلسطين المُبارَكة، في أرض القدس الشريف، يلقون الكثير من العنت ومن التخويف ومن التجويع ومن التذبيح، مجازر كل يوم يشيب لهولها الولدان، وعلينا ألا ننساهم، حتى لا ينسانا الله من رحمته، ففي مثل هذا الشهر يجود الكرماء من الناس، في مثل هذا الشهر يُعطي الأسخياء من الخلق، وفي مثل هذا الشهر تسشعر القلوب أُخوة الدين ووحدة المِلة ووحدة المُصاب ووحدة الآمال، فعلينا ألا ننسى إخواننا هؤلاء المُجاهِدين.
وقد سألني أحد الإخوة الأفاضل أمس بعد الدرس، سألني هل يجوز أن نُخرِج لهؤلاء الإخوة المُجاهِدين والمأسورين من زكوات أموالنا المفروضة؟ فقلت لا ريب، فهذا مصرف مرصود لهذه الحالة خصوصاً، مصرف في سبيل الله، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩، أي كلمة في سبيل الله هل تعم المساجد والمراكز الإسلامية وإنشاء الجسور وإنشاء المدارس والحضائن والمكتبات العامة الإسلامية وما إلى ذلك؟ تعمها باجتهاد، هذه تدخل فيها باجتهاد من العلماء وخاصة المُتأخِّرين، أما هي فبالإجماع – هذا بالإجماع – يدخل فيها دخولاً أولياً الجهاد في سبيل الله، بل قصر وحصر بعضهم دخولها على ماذا؟ على الجهاد في سبيل الله.
أي كلمة في سبيل الله إذا وردت عموماً يُراد بها أول ما يُراد بها وأول ما يدخل فيها دخولاً أولياً بلُغة الفقهاء ماذا؟ الجهاد في سبيل الله، هذه كلمة في سبيل الله، ولذا في أمثال قوله مَن صام يوماً في سبيل الله ليس المعنى لوجه الله، لا! مَن صام يوماً في الجهاد، يكون مُجاهِداً ويصوم، هذا هو المعنى الصحيح الذي قال به كثير من العلماء كالعلّامة ابن دقيق وأمثاله، نعم! في سبيل الله، مَن فعل كذا في سبيل الله أي في الجهاد، في أرض الجهاد أو في حالة الجهاد.
إذن مصرف في سبيل الله من المصارف الثمانية التي ذكرت سورة التوبة، يدخل فيه دخولاً أولياً، هذا إن لم يقتصر في اجتهاد كثير من المُتقدِّمين على ماذا؟ على الجهاد في سبيل الله والمُجاهِدين والمأسورين وهؤلاء الذابين الدافعين عن كرامة الأمة وعن حياض أرض الإسلام، فعلينا أن نجود، لكن حقيقةً أجدها كبيرة ألا نجود إلا بشطر أو حتى بكل الزكاة المفروضة، الزكاة المفروضة لا تكفي، وإن في المال حقاً سوى الزكاة، بالذات في أمثال هذه الأوضاع، الزكاة في الأوضاع العادية، في أمثال هذه الأوضاع القابضة وأمثال هذه الأوضاع الاستثنائية لا يكفي إخراج الزكوات، لابد من الزكوات ولابد من الصدقات المُتنفَّل والمُتطوَّع بها أيها الإخوة الأكارم، فتصدَّقوا وانفحوا وأعطوا، يُعطِكم الله ويُخلِف عليكم أضعافاً مُضاعَفةً، وتُضاعَف لكم الحسنات في هذا الشهر الكريم بالذات، لأن الحسنات تُضاعَف فيه ما لا تُضاعَف في غيره.
اللهم إنا نسألك ونتوجَّه إليك ونبتهل إليك بالدعاء والضراعة أن تنصر الإسلام والمُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين.
اللهم إنا نسألك أن تنصر إخواننا المُجاهِدين والمأسورين في أرض فلسطين المُبارَكة، اللهم انصرهم على أعدائهم اليهود الغاصبين الواغلين المُجرِمين العاتين نصراً عزيزاً مُؤزَّراً يا رب العالمين.
اللهم أرِنا في هؤلاء الغاصبين من الصهاينة يوماً أسود قريباً، وأشف صدور قوم مُؤمِنين، وأذهب غيظ قلوبهم يا رب العالمين، اللهم عذِّبهم بيد القدرة وبأيدي المُؤمِنين.
اللهم أدِر عليهم دائرة السوء، وأرِنا فيهم تعاجيب قدرتك، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فل حدهم، واكسر شوكتهم، وشتِّت جمعهم، وفرِّق كلمتهم يا رب العالمين، وأذهِب ريحهم، واجعل بأسهم بينهم شديداً، فإنهم لا يُعجِزونك، يا جبّار، يا قهّار، يا عزيز، يا مُنتقِم، لا إله إلا أنت، فإنا بك لائذون، يا غياث مَن لا غياث له، يا سند مَن لا سند له، يا ناصر مَن لا ناصر له، انقطع الرجاء إلا منك، انصرنا عليهم نصراً عزيزاً مُؤزَّراً يا رب العالمين.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالإساءة غُفراناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فإنك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألك العافية، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا، اللهم اقسم بنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، اللهم لا تُشمِت بنا الأعداء، ولا تجعلنا مع القوم الظالمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك سؤال ضارع خائف راجٍ مُبتهِل يا رب العالمين أن ترحمنا في شهر رمضان، وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها يا رب العالمين، وأن تعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وصديقنا وجيراننا ومشايخنا وأساتيذنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين من نار جهنم يا رب العالمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(2000)
أضف تعليق