إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ۩ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ۩ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۩ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ۩ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ۩ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۩ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لّا يَشْعُرُونَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ۩ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ۩ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ۩ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ۩ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ۩ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين واهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم.
إخواني وأخواتي:
فيما يُحكى أن رجلاً حكيماً مُعمَّراً قضى وكان فيما ترك لأبنائه الثلاثة من تركة بطيخة مُميَّزة في حجمها وشكلها وحُسنها، فأطبقوا على أن يحتفظوا بها على أنها ثمرةٌ مُبارَكة من غراس والدهم الحكيم البر، وما هى إلا أيامٌ معدودات لعلها لم تُوف على شهرٍ واحد حتى فاحت من هذه البطيخة رائحة العفن والفساد فأفسدت جو المنزل، فاجتمع الإخوة الثلاثة ليشتوِروا في أمرِ هذه التركة النفيسة التي آثروا أن يحتفظوا بها تذكاراً من والدهم الحكيم، فأما كبيرهم أو أكبرهم فقال لابد من الاحتفاظ بها وإن تعفَّنت وفسدت وإلا فهو العقوق والجحود لأن هذه تركة أبينا، وأما أصغرهم فوقف في الطرف المُقابِل فقال ما هى إلا بطيخة وقد أتى عليها الزمان اليسير بالفساد فتعفَّنت وخبُثَت رائحتها وليس فيها أدنى منفعة فعلينا أن نُلقي بها في القمامة وإن اشتهينا البطيخ لنا أو لأسرنا أتينا بما نشتهي فالبطيخ يملأ الأسواق، وتوسَّط أوسطهم فقال – أي قال أوسطهم – أنا بينكما واقف، أنا أرى أن نستخلص منها بذرها – أي بذورها – ثم نستنبته في أرضنا التي هى أرض أبينا المُبارَكة والتي أورثنا إياها ثم نتخلَّص من سائرها الفاسد فلا منفعة فيه، وحين إذٍ تفطَّنوا إلى حكمة أبيهم في أن يورِّثهم ضمن تركته هذه البطيخة، فكان يُصِر على أنها ضمن التركة، ومن ثم فهموا هذا الآن!
ما أحوجنا – ما أحوج أمتنا – في هذه الأيام العصيبة والأوقات القاتمة أن تستشير مثل هذه الحكمة وأن تستلهم مثل هذه الحكمة البالغة، ما من أمةٍ إلا ويحوي ويشتمل تراثها في جانبه البشري – لئلا يُقال الكتاب والسنة هذا الجانب الإلهي في التراث وطبعاً ما صح وثبت من السنة – على أمورٍ تقل أو تكثر – بحسب تمادي الزمان على هذا التراث أو التراثات – ترى الأمة ملزوزة إذا لم تُغلَب على عقلها أن تتجاوزها لأن الزمان قد تجاوزها، فإن هى لم تفعل قضت على نفسها بألا تعيش، لماذا؟ لأنها تُوهِم نفسها بأنها ستعيش في الماضي، هناك أُناس الآن موجودون في العالم الإسلامي لا يُحِبون أن يُغادِروا الماضي، يلذ لهم ويطيب لهم أن يبقوا قاعدين في الماضي، لكن الماضي في الحقيقة غير موجود، وأنت تُصِر على أن تحبس أو تحتبس نفسك في الماضي والماضي غير موجود، الموجود الآن وهنا هو الحاضر بكل اشتباكاته وظروفه ورهاناته وإشكالاته، أنت تُؤثِر أن تضرب عنه ليتا وأن تُوليه ظهرك لتعيش في الماضي، حسنٌ الماضي غير موجود، سترى نفسك غير عائش، لا أنت في الماضي ولا أنت في الحاضر، ولذلك ومن هنا تلكم الأفكار والمناهج والمسالك العدمية التي يصدر عنها أُناسٌ والآخرون يستغربون ويقولون ما هذه الطريقة العدمية في السلوك؟ ما هذه الطريقة العدمية في الفكر؟ ما هذه الطريقة العدمية في التعاطي مع الزمان والذات والآخر؟ لأن المنهج فيه عطبٌ كبير!
أعتقد أنه لاح لكم أن هذه الخُطبة ستكون وصلاً للخُطبة السابقة، نضع فيها أيضاً مزيداً من النقاط على كثيرٍ من الحروف التائهة في كلماتٍ لم تتكوَّن بعد، لذلك لابد أن يُنطَق بعبارات وبجمل تتكوَّن من كلمات غير موجودة بعد نُعالِج بها المُشكِل العظيم الذي نعيشه ونعيش فيه والذي سطا بنا وشلَّ قدرتنا على أن ننهض من جديد، قال الله وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، وهذه ليست الأمة المحمدية فانتبهوا، هذه أمة الأنبياء، الأمة الواحدة أمة أنبياء التوحيد، وما من نبيٍ إلا بُعِث بالتوحيد، الله ذكر موسى – عليه السلام – وذكر عيسى وأمه وذكر الرسل وقال الله يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۩ ثم قال وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، فطبعاً هذه أمة الأنبياء، وهى أمة التوحيد، فإذن القرآن الكريم جهيرٌ واضحٌ عامدٌ في تقرير حقيقة أن على أمة الإسلام وعلى أمة محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – أن تنفتح على سائر ذوي وأصحاب وورَّاث الرسالات السماوية، لنكون صفاً واحداً ضد طوفان الكفر والإلحاد والشركيات والوثنيات، وما كان تطرَّق إلى هذه الرسالات – أعني إلى مواريثها التي بين أيدي أصحابها – من خللٍ أو تحريفٍ أو تزيد أو تنقص فكلنا مأمورون أن نتعاون في التصحيح – أي في مُهِم أو مُهِمة التصحيح – والعودة إلى طريق الأمة الواحدة، لكن واحزناه، واحسرتاه، هذا مرمىً أو رميٌ في مرمىً بعيدٍ جداً، مُناوَشة لشيئ أشبه بالمُستحيل – هو ليس بالمُستحيل ولكنه الآن في واقع الأمة أشبه بالمُستحيل – وإن لم يكن مُستحيلاً، فالأمة المُسلِمة لا تعرف كيف تتوحَّد وربها واحد وكتابها واحد ونبيها واحد وأصول الاعتقاد فيها واحدة، ها هى الفرق الإسلامية على اختلافها التي لها أتباعٌ يعيشون ويدبون على هذا البسيط أجيلوا فيها وفيهم النظر، ما منهم أحدٌ إلا وهو مُذعِنٌ مُوقِنٌ بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن هذا الكتاب الكريم هو كلمة السماء الأخيرة إلى البشرية، هم يُؤمِنون إذن بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر، كلهم يفعلون ففيم يختلفون؟ وفيم يتكافرون؟ وفيم يتباغضون؟ المسألة كما رأيتم في الخُطبة السابقة لم تقف عند حدود أهل السنة أو أهل السنة والجماعة – هذا المُصطلَح المُركَّب – وبين الشيعة – مثلاً – أو الشيع المُختلِفة، كلا المسألة الآن صارت بين أهل السنة أنفسهم، لم نفتجرها إنما أعدناها جذعة واستحييناها من بطون التاريخ، فهذه أشياء تاريخية غبر عليها الزمان ونُريد أن نستحييها من جديد، يلذ لنا أن نعيش معارك الأشاعرة والحنابلة من جديد، فنقول هيا نلعب هذا الدور مرة أخرى على مسرح الحياة، كأننا نُمثِّل والدهر جادٌ، فنحن نهزل والدهر جادٌ، لكن ليست هذه – كما قلت في الخُطبة السابقة – مُشكِلتنا الحقيقية، ليس هذا الرهان، ليس هذا التحدي، الرهان والتحدي كيف نصير أمةً واحدة ثم على قدم سواء كيف نصير أمةً حية عائشة فاعلة تُساهِم في ركب الحضارة والمدنية مع إخوانها في البشرية والإنسانية وتتوب من ذنوبها المجموعية، ذنوب الإقصائية والحصرية والكره والتكفير والتفجير ورفض الحياة ورفض الآخر وتدمير الذات، فهذه ذنوب مجموعية خطيرة مُهلِكة، وهى تُهلِك الأمة، هى تفعل فيها إهلاكاً كل حين، في كل لحظة يهلك من هذه الأمة مَن لا يعلم عديدهم إلا الله – تبارك وتعالى – بفعل هذه العقلية وهذا المزاج العجيب الغريب.
إخواني وأخواتي:
إذا أردنا أن نستحيي هذا التراث بغثه وثمينه وبدره وبعره – كما يُقال وعفواً منكم – فإن هذا التراث فيه أشياء كثيرة يُمكِن أن تُساهِم مُساهَمات سلبية في تأزيم واقعنا، لكن على قدم سواء هذا التراث أيضاً فيه أشياء كثيرة مُضيئة ونيِّرة يُمكِن أن تدعم خطاب وعقلية ومزاج التعايش والتسامح والانفتاح بدل الإقصائية والحصرية والانغلاقية والنزعة الاستحواذية، أنا أعجب مِمَن يدّعي أنه مُتدين أو فهم روح الدين ثم هو تسطو به أو مسطورٌ به من طرف نزعة استحواذية أفهمته وأقنعته لا أدري كيف بطريقةٍ ما مِن الطرق أنه الأولى بالله والوحيد المُمثِّل لله وللسماء، فكيف هذا؟ يا أخي الله أكبر، نحن نُؤذِّن ونقول الله أكبر، نُصلي وفي كل ركعة نقول الله أكبر، الله أكبر من كل هذه الأوهام، الله أكبر من أن يستحوذ على تمثيله والنطق بإسمه وبوحيه جماعة أو فرقة، كيف فهمت هذا؟
طبعاً لا أُحِب أن أدخل معكم في الفنيات وهى كثيرة ومُعقَّدة جداً – هذا جوهر تراثنا الكلامي العقدي الأفراقي، أي جمع فرقة – لكن إن شئتم أن تُصدِّقوني فصدِّقوني، المسألة مُرهِقة جداً جداً جداً وما اختلفوا إلا مِن بعد ما سوَّلت لهم أنفسهم أن الأصول ليست كفاية فهيا نختلف في الفصول، تركوا الأصول وأمعنوا خلافاً وأوسع بعضهم بعضاً سباً وتضليلاً وتبديعاً وأحياناً تكفيراً وإخراجاً من الملة وخلعاً للربقة، لكن هذا في الأصول أم في الفصول؟ في الفصول، وهذه المسألة أيضاً من عويصات المسألة، فما هى الأصول؟ وما هى الفصول؟ بعضهم لا يعترف ويقول لك الأصول أصول ولا تُوجَد فروع في العقيدة لأن العقيدة كلها أصول، وهذا كذب، لكنه يقول هذا فقط لأن السلف لم يقولوا أصول وفروع قي العقيدة وإنما قالوا إيمان وكفر، ثم يتحدَّث عن الإجماع، لأن قضية الإجماع أيضاً للأسف أحد الألغام المفضوحة المكشوفة والتي تفعل فعلها في تفجير هذه الأمة، يقول لك الإجماع وأجمعوا على كذا وكذا، لكن كيف أجمعوا وهذا الإجماع ضد فرقة مُسلِمة مُوحِّدة ثانية؟ أي إجماع هذا؟ عن أي إجماع تتحدَّث أنت؟ صدِّقوني إجماع الطوائف وإجماع المذاهب وإجماع الفرق وإجماع جماعته غير موجود، إذا كشفت عن هذا الإجماع لم تجده إجماعاً حتى ضمن الفرقة بل تجد رؤوساً كباراً من حذّاق وأذكياء وألباء مُحقِّقيهم يرفضون هذا القول الذي يُدّعى عليه الإجماع في الفرقة الواحدة، وهذا كثيرٌ جداً جداً جداً، ويحتاج هذا الموضوع أن تُعقَد فيه وتُدار عليه رسائل دكتوراة من أجل أن تستيقظ الأمة وتعرف حجم الكذب، وما أجمل كلام الحُجة الغزالي – أعلى مقامه في دار التهاني – في هذا الصدد، فأبو حامد الغزالي – رحمة الله عليه – في المُستصفى – في كتاب الإجماع – يتحدَّث عن ماذا؟ يتحدَّث عن المُبتدِع المُخالِف ويقول لا ينعقد بدونه الإجماع، قد يُوجَد رجل مُبتدِع أو فرقة أنت تراها فرقة مُبتدِعة لكن لا يُعقَد بدونها الإجماع، علماً بأنهم يرونك مُبتدِعاً أيضاً لأن الكل يستحوذ على صفو الدين، ويقول لك صفو الدين عندي وحقيقة السنة والاتباع عندي وجوهر السلفية عندي ومن ثم أنت مُبتدِع وأنت دخيل، كلٌ ينظر إلى أخيه هذه النظرة وهذا شيئ عجيب، فالغزالي يقول هذا المُبتدِع نحن سلَّمنا أنه مُبتدِع من منظورنا ومن زاويتنا ومن موقفنا فلا بأس ولكن لا ينعقد الإجماع بدونه، لماذا؟ لأن المُبتدِع إذا لم يُكفَر – لأن هناك بعض البدع التي تُكفِّر فعلاً ويكفر بها الإنسان – فماذا؟ فخلافه مُعتبَر ولابد أن يُؤتى به في قضية الإجماع، فهذا مُعتبَر، لكن قصاراه ماذا؟ قصاراه أنه مُجتهِدٌ مُبتدِع فاسق، أي فاسق ببدعته، ومن هنا قال لك اجتهاد الفاسق مُعتبَر ولا ينعقد الإجماع بدونه، وهذا كلام جميل، فنحن نُريد أمثال هذه الإيقاظات وهذه اللُمع في تراثنا وليس كلام الذين يكذبون على التراث وعلى الأمة، فهم يقولون أجمعوا وأطبقوا من عند آخرهم على تكفير كذا وعلى كذا، لكن مَن الذي أجمع؟ لماذا تضحكون علينا؟ إمعاناً في تفريقنا، إمعاناً في تكريه بعضنا لبعض، والله المُستعان ما يصفون وعلى ما يقولون.
فالتراث فيه هذا وفيه هذا إذن، للأسف طبعاً الذي شدا من العلم حروفاً لا يعرف هذا، لكن يُوجَد فرق بين مُمتهِن وبين شادٍ، الذي انتهى في العلم وقرأ ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة وهو في العلم وقرأ عشرات ألوف الكتب يعرف هذا، أما الذي بدأ في العلم قبل أربع أو خمس أو ست سنوات فهو مسكين لا يعرف شيئاً ويظن نفسه انتهى، بل أن بعض الناس – والله – يقرأ كُتيباً في موضوع فيظن أن له الحق أن يتكلَّم ويضع النقاط على الحروف، وهذا عيب طبعاً، فنسأل الله أن يُعرِّفنا بأقدار أنفسنا، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، هؤلاء الشُداة المُبتدئون في العلم يظنون أن أحدهم إذا وجد أو ألف عالماً أو إماماً مشهوراً نبيلاً ومعروفاً بين الناس ينسب إلى إخوانه في الدين والملة – أي ينسب إلى فرقة أُخرى – شيئاً فحتماً هو مُصيب ولا يدرى أن العصبية – كما قلت في الخُطبة السابقة التي غلت مراجلها في الصدور – حملت كثيرين منهم للأسف الشديد – والعصمة للمعصوم – على اخترام النصوص والنقول، فالواحد منهم يخترم بمعنى ينقل نصف الكلام ويترك نصفه، ينقل أجزاء منه ويترك أجزاءاً لا تشهد له، وهذا إسمه الاخترام، بل أن العصبية حملتهم على البهت والفري والكذب بحيث ينسب إلى الآخرين ما ليس فيهم، وهذا كم أكرهه – أكرهه في الواقع وأكرهه في الكتب – ولا أكاد أُصدِّقني – أي أصدِّق نفسي – حين أقرأ هذا، وقد قرأت هذا كثيراً لأئمة مشهورين نبلاء، يقول لك الواحد منهم فلان الفلاني الذي هو إمام آخر في فرقة أُخرى – يعني هذا حنبلي أو هذا أشعري أو هذا ماتريدي أو هذ إباضي أو هذا زيدي او هذا إمامي وإلى آخره – بلغني عنه – كيف بلغك عنه؟ – أنه كان لا يُصلي، وهو إمام كبير ملأ الأرض علماً وكتباً وتحقيقاً وله القدم الراسخة واليد المشكورة في المُحاماة والذب والمُداراة عن شرع الله ضد الملاحدة والمُبطِلين فكيف هو عندك لا يُصلي؟ قال بلغني هذا، فما هذا إذن؟ ما إسنادك يا أخي؟ ما معنى أن تقول بلغني وبينك وبينه مائتا سنة أحياناً؟ كيف تقول بلغك أنه لا يُصلي؟ كيف يُمكِن الطعن في الناس بهذه الطريقة؟ وهذا نفس الشيئ الذي يحدث مع مَن يقول بلغني مِن بعض مَن يلوذ به ومن بعض أتباعه وتلاميذه أنه كذا وكذا، يا سلام، ما شاء الله، كيف بلغك؟ هل جبريل أبلغك ومن ثم أصبحت تستجيز الطعن في العلماء والناس وأهل الله تبارك وتعالى؟ هذا شيئ عجيب لكن هذا موجود في كتب أئمة كبار، أما البهت والفري في خط مُستقيم بلا تذمم فهو شيئ مُخيف، لو تقرأون ماذا كتب العلّامة الذي نُحِبه ونُوقِّره ونُجِّله لكن لا نتبعه فيما أخطأ وتجاوز فيه وأثِم فنسأل الله أن يغفر لنا ولهم أجمعين ابن حزم – رحمة الله تعالى عليه – لصُدِمتم، فكيف يتناول الإمام الجليل أبا بكر الباقِلاني وكم افترى عليه وكم كذب عليه في حين أن كتب الباقِلاني بين أيدينا، وحين تُقارِن بما قال ابن حزم عن الباقِلاني وبين ما قال الباقِلاني بقلمه تستغرب وتعجب وتقول إنا لله، إنا لله من هذا الظلم، وكم افترى للأسف وتجاوز واشتط ابن حزم على الأشعرية بشكل عام وهم – كما نقول دائماً ونُكرِّر لأن هذه حقيقة – مُعظَم الأمة، فمُعظَم أمة محمد أشاعرة لأن مُعظم أمة محمد سنة ومُعظَم السنة أشاعرة شئتم أم أبيتم، هذه هى الحقيقة سواء كانت تُعجِب أو لا تُعجِب، هذه حقيقة إحصائية تخضع للمنطق الإحصائي، أي أشعرية وماتريدية، لكن كم سبهم وكما بذى عليهم بلسانه وكم أقذع لهم وكم افترى عليهم، وكان يُحدِّث عن أشعري بمصر فهم شيئاً مُعيَّناً في مسألة القرآن لكنه للأسف ذهب إلى آخر الشوط وأنكر أن يكون الله تكلَّم بالقرآن، وهذا خطأ فظيع جداً، فالقرآن كلام الله وينبغي أن تقول هذا، يجب أن تقول القرآن كلام الله، قال الله في براءة فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ۩، فهذا كلام الله وانتهينا، لكن هذا جاء وقال لك هذا ليس كلام الله، الله لم يتكلَّم به والمقصود كلامه الذي خلقه وقصة كبيرة وفقاً لما قال هذا الأشعري الأرعن في مصر، وكان يلعن هذا الأشعري مَن لا يقول بقوله أن الله لم يتكلَّم بالقرآن، فهو يلعنهم إذن، ومن هنا ابن حزم قال له وعليك ألف ألف لعنة، ثم قال وهذه الأشعرية الفرقة – أو قال الأمة – الملعونة، فكيف تلعنهم؟ هذا شيئ – والله – يقشعر له البدن، كيف هذا يا شيخ الإسلام غفر الله لنا ولك؟ كيف تستجيز لعن أكثر علماء وأئمة وعامة المُسلِمين؟ لكن طبعاً للأسف هذا حدث.
حدَّثتكم مرة عن أخي – هذا أخ في الله من أبناء هذا المسجد – الذي جاء مرة يسألني ويقول لي يا أخي سمعت أنك شاعري، وطبعاً يقولها وهو مُستهوِل ما سمع عني، فقلت له هل تقصد أشعري؟ فقال لي نعم هذه، فقلت له فكان ماذا؟ أنا أشعري من حيث الأصل، قد أُخالِف مذهبي وإمامي في أشياء مُعيَّنة وأتبع فيها حتى بعض العلماء، هل تدري كذا وكذا من هذا الكلام؟ هل تدري أنه مُعظم السنة هم أشاعرة؟ هل تدري أن الشافعية من حيث الأصل تقريباً كلهم أشاعرة إلا ما ندر؟ هل تدري أنه يندر أن تجد مالكياً إلا وهو أشعري؟ هل تدري أن الماتريدية كالأشعرية خلا بعض المسائل يختلفون فيها؟ فالمسائل المعنوية الحقيقية بعضهم قال ستة، أي ستة مسائل وليس أكثر من هذا، ومجموع المسائل في المشهور بضع عشرة مسألة، وبعضهم بالغ وشقَّق من بعضها مسائل أُخرى وقال لك تزيد على الخمسين، فكان ماذا؟ المعنوي منها ست مسائل فقط أو اجعلها عشراً يا سيدي لكن لا يُكفِّر بعضهم بعضاً فيها بفضل الله تبارك وتعالى، فلا ينبغي التكفير، وقد تقول لي لقد كفَّر بعضه وهذا فعلاً موجود للأسف، فقد وُجِدَ بعض الماتريدية الذين كفَّروا الأشاعرة وبعض الأشاعرة الذين غمزوا قناة مُعتقَد الماتريدية، وهؤلاء مُتعصِّبة طبعاً، وهناك مُتعصِّبة دائماً لكن هذا ليس الخط العام، الخط العام أنهم إخوة مُتآزِرون مُتحابون ويُحامون كلهم عن دين الله وعن مُعتقَد المُسلِمين في التوحيد وأصول الدين بفضل الله تبارك وتعالى، فقال لي هذا الأخ هذه أول مرة أسمع فيها هذا الكلام، فقلت له طبعاً ولذلك أنت استهولت وظننت أن معنى أنه أشعري أنه زنديق وأنه من فرق الزنادقة المُجسِّمة المُنكِرة وأنه من الغنوصيين – لا ندري كيف – مثلاً وما إلى ذلك، وهذا شيئ مُخيف لكنه يحدث لأنهم يستغلون جهل الناس، وطبعاً أُكرِّر مرة أُخرى أن للأسف الشديد لا تزال الكتب والكُتيبات والرسئل والمُحاضَرت المُسجَّلة صوتياً وبعضها في اليوتيوب YouTube مرئية لا تتردَّد في تكفير الأشاعرة وتقول أنهم كفرة وأنهم خُبثاء وأن مذهبهم وطريقتهم مُؤسَّسة على أُسس يهودية بشكل رئيس ويُمكِن أن تكون أسساً نصرانية أيضاً، وهذه أشياء فظيعة جداً جداً ومُخيفة، فهل – سبحان الله العظيم – هذا الكلام غاب عن الإمام أبي الحسن الأشعري؟ هو إمام أهل السنة والجماعة والذي عظَّمه أئمة مُسلِمون من سائر الطوائف بما فيهم الحنابلة أيضاً، فما رأيك؟ هو مُعظَّم عند سائر الطوائف على الأقل من أهل السنة، وهذا الكلام فيه تكفير لمثل الإمام أبي الحسن الباهِلي – هذا تلميذه لأنه في الطبقة الأولى من الأشاعرة – وأبي عبد الله بن مُجاهِد والإمام أبي بكر بن الطيب الباقِلاني والإمام أبي إسحاق الإسفراييني والإمام ابن فورك والإمام الغزالي وأبي إسحاق الشيرازي والفخر الرازي والنووي والحافظ العراقي والحافظ ابن عساكر والحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي وغيرهم كثر، فإذا ذهبنا نُعدِّد لن نتمكَّن من هذا، وبالأمس حاولت أن أكتب عن أعلام الأشاعرة الذين في رأسي فكتبت أكثر من ثمانين، وهؤلاء أعلام وليسوا من العلماء العاديين، فمن الأعلام الكبار كتبت أكثر من ثمانين بخط يدي سريعاً، فأنت تُكفِّر الأمة إذن!
طبعاً أُذكِّر مرة أُخرى أن حين يأتي مِن الأشاعرة والماتريدية مَن يقول هؤلاء الحنابلة في الاعتقاد ليسوا من أهل السنة تقوم قائمة هؤلاء، فينجذبون – يشعرون بجذبة – بشدة، ونحن عقدنا الخُطبة السابقة وهذه الخُطبة لنقول كلا، هم من أهل السنة والجماعة على الرغم منا ومِمَن أخرجهم لأن هذه هى الحقيقة العلمية والتاريخية، فلا تستطيع أن تُخرِجهم، وسنقول ونُثبِت هذا، ولكن الدرس الأبلغ هل شعرتم بمدى المضض والألم؟ فلماذا لا تُقدِّرون ما يشعر به الآخرون وهم يضعفونكم عشرات المرات وعشرات الأضعاف؟ الأشاعرة والماتريدية يضعفون هؤلاء الأثريين أو السلفيين عشرات الأضعاف في العالم الإسلامي عبر التاريخ وليس في هذا الواقع فقط، فلماذا لم تشعروا بالتأثم والتذمم؟ لماذا لم تتردَّدوا؟ لماذا لم تتوقَّفوا وأنتم تُطلِقون أحكم التكفير وطبعاً أقل من هذا التبديع والتضليل والتفسيق و و و و وتتحدَّثون عن ألأصول الخبيثة اليهودية لعقائد الأشاعرة؟ هذا شيئ عجيب!
اذهبوا واقرأوا تراث أبي الحسن الأشعري، وصلنا منه كتابه الكبير مقالات الإسلاميين واختلاف المُصلين فاقرأوه، أبو الحسن ذهب يعرضُ لمُعتقَدِ أهل السُنة وأهل الحديث، والمُمثِّل الأكبر له مَن هو؟ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضوان الله عليه، فذهب يعرض لمُعتقَد هؤلاء أهل السُنة وأهل الحديث مثل أحمد وغير حمد وطبعاً قبل أحمد وبعد أحمد، ثم ختم بالقول: وبهذا الذي نقلنا عنهم أو ذكرنا عنهم نقول بكله، فهو قال بكله نقول، أي أنه قال أنا أتقلَّد هذه المُعتقَدات كلها، فهذا اعتقاد مَن؟ أهل السنة وأهل الحديث، وهذا هو أبو الحسن الأشعري وهو يُخبِر عن نفسه رحمة الله عليه، وقد وضع كتاب الإبانة عن أصول الديانة، اعتقاده حين تُقارِنه باعتقاد أحمد بن حنبل الموجود في آخر المُجلَّد الثاني من طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى الحنبلي من رواية الإمام الحنبلي الشهير النبيل أبي الفضل التميمي – عصري وصديق وأخ أبي بكر الباقِلاني، فتفضل إذن، فهذا حنبلي والباقِلاني أشعري وهو مالكي في المشهور، والشافعية يقولون أنه شافعي لكن المشهور أن الباقِلاني كان مالكياً، وقال جمعت رأسي ورأس القاضي أبي بكر بن الطيب الباقِلاني سبع سنين مخدة واحدة، فهم كانوا إخوة إذن، وهذا أشعري وهذا حنبلي – تجد أنه نفس الاعتقاد، أبو الفضل التميمي – ابن أبي الحسن التميمي وهو إمام مشهور نبيل من الحنابلة – أورد عقيدة أحمد من روايته، وحين تُقارِن – والله أنا فعلت هذا – عقيدة أحمد برواية التميمي بعقيدة الأشعري في الإبانة تقريباً شيئٌ واحد، فما رأيكم؟ فكيف يُقال أصول الأشعرية أصول يهودية؟ إذا أصول الأشعرية يهودية فأصول الحنبلية يهودية أيضاً، وهذا كذب، هذه نزغات نفسانية وأهواء شيطانية – والعياذ بالله – لتفريق الأمة، ونزعة استحواذية لا ينبغي أن تقع فيها الأمة، فالمُؤمِن الصادق – نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من صادقي عباده المُوحِّدين – والله حين يذهب يبحث في قول الخصم أو مَن يراه خصماً – خصماً علمياً في خصومة علمية وليس خصومة تصل إلى رفع العصمة واستحلال الدم وإنما خصومة علمية، مثل أن يختلف مذهبك عن مذهبي ويختلف رأيك عن رأيي لكن يجمعنا الإسلام الواحد – فيقع على غير ما كان يتوقَّع – علماً بأن هذا يحدث معي كثيراً – ويقع على قولة لهذا الإمام أو لهذا العالم تُبرِّئه مما كان يبحث عن إدانته به فإنه – والله – يفرح بهذا ويقول الحمد لله، إذن هذا الشيخ وهذا الإمام بريء مما قال أهل مذهبي عنه فالحمد الله، ويفرح بهذا جداً المُؤمِن الصادق، أما الذي لا يفرح ويخترم النقل ويكذب ويفتري ويدس عليه والله – أُقسِم بالله على منبر رسول الله لأن أي منبر هو منبر لرسول الله – أن يُراجِع إيمانه وعليه أن يُفتِّش قلبه، فهو – والله – في ورطة كبيرة مع الله، هل أنت يا رجل تُحِب أن الناس وأن الامة وأن المحمديين يعبدون الله ويُوحِّدونه أم تُحِب أن يخرجوا من التوحيد والدين؟ هل تُحِب أن يكفروا يا رجل؟ لو كنت تُحِب الله صدقاً وحقاً وترجو له الوقار لكنت حريصاً الحرص كله – لا أقول أشده وإنما أقول كله – على أن تُوفِّر إيمان المُؤمِنين ومن ثم تقول هؤلاء مُؤمِنون بفضل الله ولم يخرجوا فلا أُريد أن أشطبهم ولا أُريد أن أُخرِجهم، وهذا الذي قال به طوائف من الحنفية والشافعية، قالوا إذا أتى الرجل قولاً أو فعلاً مُكفِّراً من تسعةٍ وتسعين وجهاً ومن وجهٍ واحد لا يُكفِّر حكمنا بإسلامه، وهذا كلام الذين أحبوا الله وعرفوا الله، لا يُمكِن لإنسان يُحِب الله ويُعظِّم الله أن يُحِب أن تكفر الناس بالله، علماً بأن لأحمد بن حنبل مقولة وقعت عليها قبل أيام يسيرة وأدهشتني جداً، ومثل هذه المقولة أنا أُصدِّق أن إماماً جليلاً مثل أحمد قالها، فهى نفس المقولة التي رُويَت لي من تلميذ الإمام بديع الزمان النورسي، أحمد يقول يا ليتني كنت فدائاً لأمة محمد وأنهم لا يدخلون النار، أي أنه قال لو عُرِضَ الأمر علىّ لكي أدخل النار وأمة محمد كلها تدخل الجنة سوف أرضى بهذا، يا الله، هذا إمام جليل، هذا لا يقوله إلا مَن عرف الله حقاً ووقَّره وأجله، لكنك طبعاً سوف تقول ما قصتك؟ هل أنت مدفوع من السلفيين؟ لا والله الذي رفع السماء، وأنا قلت لكم لو كان منطقي منطق تصفية الحسابات فأنا من أكثر – لن أقول أكثر ولكن سأقول من أكثر – مَن عاني مِن هؤلاء الإخوة السلفيين، هم لا يسكتون عني ليل نهار زندقةً لي وتكفيراً وتأليباً علىّ وسباً وطعناً، وهذا يحدث ليل نهار من أكثر من خمس سنين، لكن حاشا لله أن يكون في العلم والدين تصفية حسابات، حاشا لله أن يحدث هذا، أنا أقول لكم أنتم تقرأون لبعض الحنابلة – موجود هذا والكتب موجودة – عقائد – والعياذ بالله – تشبيهية تمثيلية تجسيمية، فهذه قل لي عنها أنها عقائدة يهودية وهذا صحيح، فاليهود مُجسِّمة واليهود مُشبِّهة وهذ أمر معروف، فهذه عقائد يهودية، لكن هل قال بها أحمد؟ لا لم يقل بها، فيما ثبت عن أحمد نجد أنه لا يقول بهذا، علماً بأن الآية التي شقَّت الأمة – هذه آية شقَّت أمة محمد – تتعلَّق بالاستواء، قال الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى۩، وقال الله أيضاً ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ۩، ما معنى اسْتَوَى۩؟ أحمد بن حنبل في عقيدة التميمي – برواية أبي الفضل التميمي – يقول اسْتَوَى۩ تعني علا وارتفع وليس استقر وليس قعد وليس جلس أبداً، وإنما قال علا، أليس هو الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ۩ – لا إله إلا هو – كما في آية الكرسي؟ هو عليٌّ لا إله إلا هو، ومن هنا قال علا وارتفع وهو لم يزل عالياً رفيعاً قبل أن يخلق العرش وبعد أن خلق العرش، فليس معنى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ۩ أن حدث له شيئ جديد أو صفة استجدت لله في ذاته تجعله عليّاً رفيعاً بعد أن لم يكن، قال هذا غير صحيح، فالله مُنزَّه عن التغيرات ومُنزَّه عن الحدود لا إله إلا هو، وهذا كلام جميل يقف له البدن، فهذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إذن، فهو لم يكن مُجسِّماً، لكن كون بعض الحنابلة من المُجسِّمة – نعم تطرَّق إليهم التجسيم – لا يعني أنه مُجسِّم، وهذا الذي نرفضه ولا نرتاح إليه لكن لا نُكفِّر به، لماذا؟ لأن هذه قضية أُخرى، هذه قضية علمية دقيقية فلا نُكفِّر بها، لكن بعض الناس يُريد أن يُكفِّر فقط لأنه – كما قلت – يُصفي حسابات، فيقول لأنهم يُكفِّروننا سوف نُكفِّرهم، كما قال عبد القاهر – أبو منصور البغدادي – بن طاهر رحمة الله عليه، هو إمام أشعري جليل مُتوفى في سنة أربعمائة وتسع وعشرين للهجرة، وهو من تلاميذ أبي إسحاق الإسفراييني، فعبد القاهر يقول نحن لا نُكفِّر من هؤلاء إلا مَن يُكفِّرنا، ونحن ضد المنطق هذا، فلا تُوجَد قاعدة في الشريعة تقول أن مَن كفَّرك تُكفِّره، فنحن لا نُكفِّر إلا مَن وقع عليه الكفر حقاً ووقع هو في الكفر حقاً بدون أي شُبهة تدفع عنه الكفر، فأهلاً وسهلاً بهذا في هذه الحالة، لأن قد لا يُكفِّرني أحدهم وأُكفِّره وقد يُكفِّرني آخر لكنني أحكم بإيمانه، هذا هو العدل وهذا هو الإنصاف، وعلى ذكر الإمام البغدادي – رحمة الله تعالى عليه – نقول أن عبد القاهر – أبو منصور البغدادي – بن طاهر – هو إمام جليل من أئمة الأشاعرة لكنه للأسف أساء إلى الأشاعرة وأساء إلى المذهب الأشعري بنزعته الاستحواذية وميله إلى إخراج المُخالِف من دين الله، فحين تقرأ لهذا الإمام الجليل في كتابه الفرَق بين الفِرق – وهو صاحب أيضاً كتاب أصول الدين – يقشعر بدنك لأنه يُكفِّر المُعتزِلة، فلماذا يا أخي؟ هل المُعتزِلة كفّار وزنادقة؟ المُعتزِلة قبل الأشاعرة هم الذين تصدوا للرد على الثانوية وعلى المجوس وعلى المانوية وعلى السِمنية – أي البوذية – وعلى طوائف الملاحدة والمُشكِّكين، المُعتزِلة فعلوا هذا قبل الأشاعرة وقبل الحنابلة وهم فرسان حلبتها وأبناء بجدتها، فحرام أن يقول هذا الإمام هذا الكلام عن المُعتزِلة، ومع ذلك قال هم كفّار واختلفنا – اختلف الأصحاب – فيهم، فمِنهم مَن قال حكمهم حكم المجوس ومِنهم مَن قال حكمهم حكم المُرتَدين، ثم قال هم كفّار ويجب أن نُكفِّر كل زعيم من زعماء المُعتزِلة ووجوه كفرهم لا تُعَد ولا تُحصى، يا سلام، لماذا؟ في ماذا خالف المُعتزِلة بحيث يكفرون؟ هذا كذب، وهذا في فصول الفصول وليس في الأصول، فهم مُوحِّدون ومن أهل هذه الملة بفضل الله تبارك وتعالى، لذا هذا ظلم وحرام وفيهم أئمة زُهّاد، علماً بأن المُعتزِلة مُعتزِلة في الأصول، لكن في الفروع مَن هم؟ أحناف – أي حنفية – طبعاً، تسعة وتسعون في المائة من المُعتزِلة على المذهب الحنفي، فإذن هذا يعني أنك تُكفِّر فقهاء، وهؤلاء الفقهاء في المذهب الحنفي، وهم فقهاء كُثر طبعاً ومُفسِّرون، الزمخشري أحسن مَن فسَّر كتاب الله تفسيراً بلاغياً بيانياً في الكشّاف، هذا جار الله محمود الله الزمخشري الذي تُوفيَ في أول القرن السادس ومُعاصِر للغزالي بعد الثلاثين وخمسمائة – رحمة الله عليه – من المُعتزِلة وكان معروفاً بالزُهد أيضاً وبالاستقامة، وهذا الرجل كان شديداً جداً على الحنابلة والأثريين لأنه يرفض التشبيه والتجسيم والمُماثَلة، فهو مُغرِق في التنزيه على طريقة أهل الاعتزال، فكيف تُكفِّر المُعتزِلة؟
واصل بن عطاء مُؤسِّس مذهب الاعتزال ورأس المُعتزِلة له تصنيفات كثيرة جداً وكان أحد عباقرة المُسلِمين وله كتاب إسمه الألف مسألة – ألف مسألة؟ هل أنت مُتخيِّل ما معنى ألف مسألة؟ هذا شيئ عجيب – في الرد على المانوية، أي طائفة المانوية، فهو يرد عليهم ويُثبِّت أصول التوحيد والدين، فلا يُوجَد عندنا ثانوية النور والظلام، إله للنور وإله للظلام وما إلى ذلك، ومن ثم قال هذا غير صحيح وتحدَّث عن ألف مسألة، فهو يرد عليهم من ألف وجه، هذا هو واصل بن عطاء، فهل تُكفِّر هذا أنت؟
أبو الهُذيل العلّاف – العلّاف رحمة الله تعالى عليه – أسلم على يديه فيما يُقال ثلاثة آلاف من أهل الكتاب والمُشرِكين والثانوية والملاحدة، وكان يقطع الخصم بأوجز كلام وأقل عبارة، وهو عبقري كبير، فهل تُكفِّر هؤلاء يا إمام يا بغدادي رحمة الله عليك وعفا الله عنا وعنك؟
يُوجَد هذا التعصب في كل الطوائف، موجود في الحنابلة وفي الأشاعرة وإلى آخره ولكن طبعاً بين إقلالٌ هنا وإكثارٌ هناك والعكس لكن هذا موجود، ما من طائفة إلا وفيها مُتعصِّبتها، ولكن أنا أقول لك هذه النزعات التعصبية والحصرية والإقصائية والتكفيرية تُسيء جداً إلى المذهب وإذا استشرت تضر به ضرراً فادحاً بالغاً وقد تقضي عليه وقد تُجمِّده وقد تفقده أنصاره أو تفقده على الأقل انتشاره.
العلّامة الماتريدي محمد زاهد الكوثري المُعاصِر – كان مُعاصِراً للشيخ شلتوت والشيخ أبو زُهرة رحمة الله تعالى عليهم – هو من أصل تركي وهو علّامة ومُحقِّق كبير، والسلفيون يكرهونه جداً جداً جداً لأنه ماتريدي مُنزِّه – رحمة الله عليه – طبعاً لكنه إمام كبير، حين قدَّم لكتاب الفرَق بين الفِرق لعبد القاهر البغدادي – رحمة الله تعالى عليه – قال بمعنى الكلام هذا الرجل كان شديداً ولا يتصف بالعدل والإنصاف مع الخصوم، قلَّ أن يحكي أقوالهم على وجوهها، فهو قال أنا لاحظت هذا لأنه غير أمين في النقل، وهذه مُصيبة كبيرة، كيف تنقل عن فرق أُخرى ولا تكون أميناً؟ قال الله سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ۩، الله سائلك عن كل كلمة كتبتها أو كلمة أخفيتها، فما هذه القضية؟ هل القضية تتعلَّق بالحق أم بالغلبة؟ هل تُريد الحق أم تُريد أن تغلب؟ قال الإمام زاهد الكوثري كاشفاً النقاب عن مصدر الإمام البغدادي في النقل لأقوال المُعتزِلة -أي مِن أين يأتي بهذا، لو أتى بأقوال المُعتزِلة من كتب المُعتزِلة لا يُمكِن أن يغلط هذا الغلط كله عليهم، فمِن أين إذن أتى بهذا؟ – أن مصدره هو ابن الرايندي Ibn al-Rawandi أو ابن الرواندي كما هو مشهور عند الناس، قد تقول لي هل تقصد ابن الراوندي المُلحِد؟ نعم المُلحِد، الذي بدأ مُعتزلياً وختم حياته مُلحِداً – والعياذ بالله منه ومن مصيره – والذي رد عليه أحد أئمة الاعتزال وهو ابن الخياط بكتابه الانتصار والرد على ابن الراوندي، فكيف تأخذ من رجل مُلحِد خصم مُنقلِب على الاعتزال إلى الإلحاد أقوال المُعتزِلة؟ هل هذا من الحق في شيئ؟ هذا ظلم بيِّن يا إمام، لكن الإمام عبد القاهر قال المُعتزِلة كفّار ولا نتوقَّف بل يجب أن نُكفِّر رؤوس وزعماء المُعتزِلة، لكن ماذا عن العامة؟ قال لا يُصلى خلف مُعتزِلي، فلا تُصل خلفه وإلا صلاتك غير مقبولة، ولا يُصلى عليه ولا تُزوِّجه، والمرأة إن اعتقدت مُعتقَدهم لا تتزوَّج منهم، ولا يُوجَد توارث لوجود الكفر، ومن ثم هم لا يرثوننا، لكن هل نرثهم؟ هذه مسألة، فما هذا يا أخي؟ تتكلَّم عن مَن أنت يا رجل؟ على كل حال يُوجَد تعصب، ولذلك جاء الإمام الجليل عبد الكريم الشهرستاني واعتمد إلى حدٍ بعيد على عبد القاهر فأساء في النقل ومن هنا الأخطاء الكثيرة في كتاب الملل والنحل لعبد الكريم الشهرستاني، وأقل منه أبو المُظفَّر الإسفراييني تلميذ عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين، فهذا أقل منه في هذا لكن هناك أخطاء أيضاً لأنه اعتمد على أستاذه، إذن مثل هذا التعصب موجود!
شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي – رحمة الله تعالى عليه – أراد أن يبعث مذهب السلف كما يفهمه هو، والآن سأجلس وأختم الخُطبة لأقول لكم ما هو مذهب السلف كما يفهمه ابن تيمية وكما نفهمه نحن وغيرنا وما هذه القضية لكي تكونوا في الصورة، لكن للأسف دائماً الوقت يضيق علينا، فلا يُوجَد وقت لكي نُوضِّح لكن أنا أحببت أن تكونوا في الصورة وأن تأخذوا على الأقل فكرة علمية عامة – كما قلت – بعيداً عن كل الفنيات والتخصصيات، فابن تيمية – رحمة الله عليه – عنده نفس الشيئ، حيث يُخطيء في النقل ويُبالِغ أحياناً في الإساءة إلى الخصوم ويفتري عليهم، فمثلاً ابن تيمية يُريد أن يُقنِعنا بكل طريقة ان أئمة الأشعرية الكبار مثل البغدادي والإسفراييني والجويني والفخر الرازي – وبالذات الفخر الرازي الذي تصدى طبعاً لكتابه في التقديس أساس التقديس بكتابه نقد التقديس أو بيان تلبيس الجهمية – أخذوا أصولهم أو كثيراً منها من بشر المريسي فهم مريسية إذن كما يقول، لكن كيف هم مريسية؟ يا أخي الإمام الشافعي كفَّر بشراً المريسي، فهو كفَّره وحكم بكفره، ومِن أكثر مَن تصدى للمريسية ورد عليهم الأشاعرة، لكنه قال لك هم مريسية، وواحد آخر يقول لك هم يهود، فما هذا الظلم؟ ما هذا الغبن؟ لماذا كل هذا الإفتئات؟ مثلما افتُئت طبعاً على ابن تيمية نفسه، انتبهوا لأن كما تدين تُدان، ومن هنا أقول لكم شيئاً وجدته، وهو ليس علماً وإنما هو مِن مُلح العلم ومُلح المُلاحَظات والإيقاظات، لاحظت – والله – شيئاً عجيباً، وهو أن العالم الإمام الذي يحفظ لسانه ويحتشم إخوانه العلماء المُعاصِرين والدارسين الداثرين ويتقي الله في كل شيئ ويتأدَّب تماماً – سبحان الله – تقريباً لا يكاد يُبتلى بمَن يثلبه أو يطعن فيه الطعن الذي يشينه، قد يختلفون معه طبعاً ولابد لأنه ليس معصوماً ولكنهم يختلفون بأدب، تعرفون مِن المُعاصِرين مَن وجدت على هذه الصفة؟ العلّامة الإمام التونسي شيخ الإسلام ابن عاشور رضوان الله تعالى عليه، مِن آدب مَن قرأت في حياتي، لا يقع في أحد لا مُوافِق ولا مُخالِف، فقط يختلف لأنه إمام عالي الكعب وراسخ القدم، مَن مثله رحمة الله عليه؟ مَن مثل ابن عاشور؟ لقد ملأ الأرض علماً ونوراً لمَن كان يُريد العلم والنور، ولكنه مُؤدَّب جداً جداً ومُوفِّر لحشمة وحُرمة العلماء مِن الطوائف المُوافِقة والمُخالِفة، وإلى الآن – سبحان الله – لم يُبتَل بمَن يطعن في دينه أو يسبه أو كذا أبداً أبداً أبداً، فالناس يحتشمونه، ومن هنا يُقال كما تدين تُدان، شيخ الإسلام ابن تيمية كفَّر كثيرين وسب كثيرين وانتقص كثيرين وأنصف أيضاً كثيرين وكان الرجل مُتردِّداً، فمرة يكون هكذا ومرة يكون هكذا في أشياء كثيرة، فابتلاه الله بمَن افترى عليه أيضاً وكذب عليه في حياته وبعد مماته، وأنا أقول لك أن هذا رحمةً من الله به، لكن كما تدين تُدان، هكذا هى العدالة الإلهية، ابن تيمية بحزن – أنا حزنت عليه – يقول ابن مخلوف يزعم أنني أقول الله في زاوية وأنه يجلس فيها وقد ولد ولداً.
ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية له عبارة كم فرحت حين وقعت عليها، وهو عنده عبارات مُستبشَعة ومُستشنَعة جداً أيضاً، لكن عنده عبارة يقول فيها انتبه حين نقول الله علا واستوى على العرش نعني من غير مُلاقاة ومن غير مُماسَة ومن غير مُحاذاة، وأنا لست كرّامياً، أي أنه قال أنا لست من أتباع محمد بن كرّام السجستاني المُجسِّم، فهو قال لك الله من حيث الأصل ليس له حدود وعنده حد واحد وهو الحد الذي لقى به العرش، أستغفر الله العظيم، هذا مجنون طبعاً، هذا أحد المجانين إن ثبت عنه هذا، لأن أيضاً قد يُظلَم الرجل ونحن لا ندري، لكن إن ثبت نقول هذا وهو مشهور عنه، فهو قال الله له حد فقط من جهة مُلاقاته للعرش، لا إله إلا الله، أي أنه جعل الله محدوداً، والآن سوف تقول لي وماذا عن الحنابلة؟ للأسف الحنابلة في القديم والحديث لهم كتب يُثبِتون بها الحد لله، أي أن الله لابد أن يكون له حد – أستغفر الله العظيم – في النهاية، أبو القاسم الدشتي عنده كتاب في إثبات الحد لله، الحافظ الأشعري أبو حاتم بن حبان البُستي صاحب الصحيح – يقولون لك صحيح ابن حبان التقاسيم والأنواع – يقول عنه أحد الحنابلة المُشبِّهة مُفتخِراً نحن الذين أخرجناه من بلده، لماذا؟ ما ذنبه؟ ما ذنبه إليكم وعندكم؟ قال هو يقول بأن ليس لله حدٌ، أريتم هذا الجاهل؟ أي أنه يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ ۩، فهذه جريمته أنه يُنزِّه الله ويقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ ۩ ويقول وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، ونحن نقول بالحد، فهم مُشبِّهة ومُجسِّمة، وهذا شيئ غريب وهذه لوثات رهيبة ضربت هذه الأمة بعضها ببعض، وكلٌ يحسب نفسه مُوافِقاً لمُحكَم الكتاب.
هناك نقول عن أبي منصور الماتريدي – رحمة الله عليه المُتوفى سنة ثلاثمائة وثلاث ثلاثين وهو مُؤسِّس الماتريدية والمُعاصِر الأشعري وإمام الحنفية في الأصول – ونقول عن الفخر الرازي وعن ابن تيمية وعن عبد الجبار الهمداني في مُتشابه القرآن وعن غيرهم كلها تقول شيئاً واحداً وهو حق، فكيف؟ هؤلاء المُتخالِفون المُتقاوِمون – يُخالِف بعضهم بعضاً ويُقاومِم بعضهم بعضهم – كلٌ ينسب إلى نفسه في معرض المُحاجة والمُصاوَلة العقدية أنه أسعد بالمُحكَم ويقول لك المُحكَم يشهد لي لكن أنت تدور على المُتشابِه، والآخر يعكس ويقول له كلا أنت دائر على المُتشابِه لكن المُحكَم في صفي، أرأيتم؟ هذا يحدث والنص موجود، فالقضية لم تعد تقتصر على قضية النص ولكنها تشمل الاختلاف على النص، أي كيف يفهم هذا النص وكيف يفهم هذا النص!
أعتقد أنني صدَّعتكم بهذه الأمور لكن إلى الآن هذه أشبه فقط بحكايات، في الجزء الثاني من الخُطبة سأضرب لكم مثلاً جامعاً أُبيِّن فيه وأكشف به كيف تعاطت هذه الفرق السُنية المُختلِفة مع النصوص التي كثر الخلاف حولها وبسببها، والله – عز وجل – المُوفِّق ومنه التسديد والمعونة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
قبل أن أفي بوعدي الذي أرجو ألا يكون ثقيلاً أُحِب فقط أن أُشير إلى أن بعض الإخوة فيما قرأت من تعليقات كأنهم فهموا من الخُطبة السابقة أنني اتهمت العلماء الذين كانوا في مُؤتمَر الشيشان أنهم يتآمرون على السعودية، عَلِمَ الله أنني ما رميت إلى هذا ولا أقصد هذا بل قلت أنا حسن الظن جداً بالسادة العلماء، حاشا لله أن علماء ودُعاة مُحترَمين يتآمروا على المملكة السعودية، لماذا؟ لم أرم إلى هذا أبداً وإنما حذَّرت من أن هناك مُؤمَرات معروفة ومعروفة أطرافها الآن فعلاً تدور على المملكة السعودية، فهذا معروف طبعاً، الذي يُتابِع ويقرأ الأخبار يعرف هذا، فهذه قضية سياسية معروفة تماماً وواضحة ونحن حذَّرنا لئلا ينتهي أمرها إلى ما انتهى إليه أمر العراق وسوريا، ونسأل الله أن يحفظ جميع بلاد العرب والمُسلمين وجميع بلاد الدنيا، نسأل الله السلامة والنجاة لكل الناس، فنحن لا نُريد الحروب والمشاكل والدماء، وهذا الذي أردنا وهذا الذي قلته، وأما ما يُمكِن أن يُقال مثل هل أنت تتهم ربما الشيشان نفسها أو رئيس الشيشان؟ فحاشا لله، وأنا – كما قلت لكم – التقيت بهذا الرئيس أكثر من مرة وبيننا علاقة طيبة جداً، وأُريد هنا أن أُدلي بشهادة: لأشهدُ أنني في إحدى هذه المرات – لعلها قبل الأخيرة – سمعته يُثني على المملكة السعودية وعلى قيادتها، وهذا كان أيام الملك عبد الله رحمة الله، فأنا – والله – سمعته بنفسي بفضل الله، ولا يُمكِن أيضاً أن يتطرَّق الشك إلى رئيس الشيشان المُؤمِن الذاكر أنه يأتمِر بدولة إسلامية ليُدمِّرها، نحن ما رمينا إلى هذا، ما رمينا إليه شيئ وهذا شيئ آخر، لكن انتقاداتنا على بيان المُؤتمَر الختامي، وهذا شيئ مُهِم جداً، لكن حين انتُقِدَ هذا البيان ما الذي حصل؟ هؤلاء العلماء أنفسهم – جزاهم الله خيراً – تراجعوا وقالوا لا مُشكِلة، نحن ما قصدنا هذا، نحن قصدنا أن نعزل التكفيريين والإرهابيين من السلفيين لكن يبدو أننا لم نُصِب المحز فلا بأس، سنُدخِل أهل الحديث والأثر، وغيَّروا في البيان الختامي وقالوا الأشاعرة – أي من أهل السنة والجماعة – والماتريدية وأهل الحديث والأثر المُفوِّضة، وهنا نختلف معهم وسأقول لكم لماذا نختلف لكن هم فعلوها عن حُسن نية أيضاً، أهل الحديث نعم منهم مُفوِّضة ومنهم مُثبِتة وثمة فرق بين الأمرين، فهذا هو فقط، لكن هم لم يفعلوا هذا عن خبث، أما شيخ الأزهر بفضل الله عصمه الله منذ البداية وفي كلمته – هو لم يُلق بياناً وإنما ألقى كلمة – التي قالها وغادر قبل حتى أن يسمع كلمات ومُحاضَرات قال منذ البداية – بارك الله فيه – أشاعرة وماتريدية وأهل الأثر، وهذا واضح، فهو شيخ أزهري ويعرف أن هؤلاء من أهل السنة والجماعة، لأن محال أن يجهل هذا، فالحمد لله، ولكن نحن نُحذِّر من المُؤامَرات السياسية الأُخرى على المملكة، ولا نُريد ولم نكن نستحب أن تُوظَّف مُخرَجات المُؤتمَر في عزل المملكة سياسياً للدوران عليها بعد ذلك، فقط هذا الذي رميت إليه، وأرجو أن أكون واضحاً.
إخواني وأخواتي:
في الأبواب التي وقع الخلاف فيها بين فرق أهل السنة والجماعة تقريباً باب الأسماء والصفات أكثر باب شهد خلافاً حامياً ووطيساً إلى اليوم لم ينقشع غباره كما يُقال، وطبعاً يُوجَد خلاف في القدر وخلاف في قضية الإيمان وحقيقة الإيمان وإلى آخره لكن أكثر مسألة شهدت خلافاً الأسماء والصفات.
سأختصر لكم اختصاراً وأرجو أن أُصيب فيه بتوفيق الله وأن ينفعني الله به، علماً بأنني أخذته عن علماء آخرين، فهذا ليس من عندياتي ويجب أن أكون أيضاً واضحاً وأميناً، المُتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور، ونعوذ بالله من الزور كل الزور، لكن هو تحقيق مُستجاد وقويٌ جداً.
قالوا لك إذا ذهبت تتعاطى مع أسماء الله وصفاته لابد منذ البداية أن تنطلق من وأن تُحكِّم وتحكم بالمُحكَم من كتاب الله، والمُحكَم في كتاب الله دل على ماذا؟ على مُخالَفة الله لمخلوقاته وعلى تنزيهه – لا إله إلا هو وجل مجده وجل في عليائه – عن المُماثَلة والمُشابَهة والجسمية، وطبعاً هذه اصطلاحات معروفة، فالجسمية معروفة وهى أن يكون جسماً يتحيَّز وله حدود وإلى آخره، والمُماثَلة في اصطلاحهم كما عرَّفها الجويني هى المُشابَهة من كل وجهٍ، أما المُشابَهة تكون من بعض الوجوه دون بعضها، فهذا معنى المُماثَلة والمُشابَهة والجسمية لكي تفهموا اصطلاحات العلماء، وإلا في اللغة المُماثَلة تكون أيضاً من بعض وجه، لكن هذا اصطلاح ولا مُشاحة في الاصطلاحات.
هذه القاعدة إذن وهى مأخوذة من آيات ونصوص كثيرة في رأسها لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ ۩، لكن انظروا إلى عظمة القرآن، فبعد أن قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ – هذا نصٌ في نفي ماذا؟ في نفي المُماثَلة والمُشابَهة، لأن الله لا إله إلا هو لا تُشابِّهه مخلوقاته إطلاقاً ولا تُماثِله – قال وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، فأثبت لذاته المُقدَّس العليّ – على أنهم يُؤنِّثونها ولكن لا بأس، فهم يقولون العلية لكن من الأحسن أن نقول العليّ – السمع والبصر له – لا إله إلا هو – فعلمنا أنه لا كسمعنا ولا كبصرنا على أن السمع والبصر من صفات الكمال لله، أليس كذلك؟ فهما لا يُوهِمان بالنقص، حين تسمع أن الله سميع بصير كما تسمع أنه شاءٍ مُريدٌ قادرٌ حيٌ – لا إله إلا هو – مُتكلِّم لا تُوهِم أي صفة من هذه الصفات نقصاً في حق الله، بالعكس أنت تعلم أنها كلها من صفات الكمال والجلال وتُدرِك أيضاً أنها لا تُماثِل ما لدى المخلوقين، فحياته غير حياتنا قطعاً ووجوده غير وجودنا وإلى آخره، وهذا أمرٌ جميل، ولذلك حين ذهبوا يتكلَّمون عن صفات الله وقسَّموا تقسيمات التي من الأحسن ربما ألا نخوض فيها قالوا لك هناك الصفة النفسية – صفة الوجود – والصفات السلبية الخمس وصفات المعاني السبع والصفات المعنوية وهى الكوكنة -أي كونه حياً وما إلى ذلك، فهذه الكوكنة هى الصفات المعنوية – ومن ثمتُصبِح كم؟ عشرين صفة، قالوا لك هذه من أصول الدين ولابد أن تُؤمِن بهذه العشرين، هل تنفي ما وراءها؟ لا ننفي لكن هذه وقع الاتفاق عليها وزاد فيها الماتريدية في صفات المعاني صفة التكوين، فأصبحت أكثر بصفة واحدة، أي صفات المعاني، وبعد ذلك قالوا لك هناك صفات ذات وهناك صفات فعل، صفات الذات هى صفات الله التي لم تزل وهى أيضاً فيما لا يزال، فالله أزلاً هو حيٌ، وليس حييا بعد أن لم يكن حياً – أستغفر الله – وإلا يكون مخلوقاً، فالله أزلاً بلا بداية هو حيٌ، والله أزلاً عليم قدير مُريد سميع بصير مُتكلِّم، فهذا أزلاً هكذا لكن هل يُمكِن أن تنفي هذه الصفات؟ مُستحيل وإلا تكفر، هل يُمكِن أن تأتي بأضدادها؟ مُستحيل، ولو مع اختلاف المحل؟ طبعاً ولو مع اختلاف المحل، كأن تقول الله عليم بهذا ويجهل هذا فسوف تكفر أو الله قدير على هذا وغير قدير هذا فسوف تكفر أيضاً، فهذه الصفات ليس لها أضداد، إسمها صفات ذاتية لأنها قائمة بذات الله أزلاً وفيما لا يزال، أي اليوم وغداً وإلى أبد الآبدين بلا نهاية، لكن صفات الفعل لها أضداد، وهى التي كما عرَّفها القاضي الباقِلاني في الإنصاف – رحمة الله تعالى عليه – كانت لله – تبارك وتعالى – بعد أن لم تكن ولكن مُستحَقة له، والوصف بها – كما يقول الباقِلاني – لله أزلي، فهو موصوفٌ بها أزلاً، لأنه وصف نفسه بها في كلامه وكلامه أزلي، فهى وصفٌ لله أزلاً لكنها كانت بعد أن لم تكن، مثل التخليق والترزيق، أي أنه يخلق ويرزق طبعاً، فهل الله خلق أشياء مُنذ الأزل؟ هذا مُستحيل، في الأزل لم يكن إلا الله لحديث عمران بن حصين الذي يقول كان الله ولا شيئ معه، فلم يكن إلا الله، الله وحده – لا إله إلا هو – فقط، فإذن لم يخلق شيئاً، بعد ذلك حين شاء خلق طبعاً، فهو يخلق وإن شاء لم يخلق، إن شاء أن يخلق كوناً جديداً خلقه، وإن لم يشأ لم يخلقه، ونفس الشيئ مع يُحيي ويُميت، فهو يُحيي هذا ويُميت هذا، فإذن لها ضد، ومنها يرزق هذا ويحرم هذا ويرفع هذا ويضع هذا، فهذه إسمها صفات الفعل، فقط الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية في أن الأشاعرة يقولون هذه حادثة وهى غير قائمة بالله كحوادث لأن الله لا تحله الحوادث لكن يتصف بها، ويُوجَد فرق – انتبهوا هذه المسألة مُعقَّدة قليلاً لكن من الجميل أن تفهموا هذا – أن يتصف الله بالحواث وأن تقوم به الحوادث، فالممنوع اتفاقاً بين أهل السنة أن تقوم به الحوادث، لكن يُوجَد واحد خالف للأسف ويا ليته ما خالف وهو ابن تيمية، فابن تيمية جاء ليُقنِعنا أن الحق والصواب ومن مذهب السلف أن الله تحل به الحوادث، وهذا شيئ خطير جداً جداً، وكتب مئات الصفحات لكي يُبرهِن هذا الرجل على هذا – رحمة الله عليه – فأخطأ خطأ فظيعاً، وهذه قضية ثانية لأن – كما قلت – هذه تخصصيات، لكن نحن نأخذ بالطريق العام وبجماهير الأمة،ف الله لا تقوم به الحوادث ولا تحل به الحوادث، الماتريدية قالوا صفات الفعل أيضاً أزلية كلها وليست حادثة، وهذه اختلافات بسيطة جداً جداً جداً، والآن نأتي إلى قسمة أُخرى من حيث ما يقبل من هذه الصفات التأويل أو لا يقبل وكيف نتصرَّف معها وأختم بهذا، فالأقسام أربعة وأرجو أن تُركِّزوا معي لأن هذا التحقيق مُمتاز ومُستجاد بإذن الله تبارك وتعالى وفضله، القسم الأول صفات لله عند أول سماعها أو الوقوع عليها تُوهِم – أي ظاهرها مُوهِم – بالنقص في حق الله، وسوف تقول لي أين هذه؟ هل هذه في السنة؟ نعم في السنة وفي الكتاب أيضا، قال الله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩،هل النسيان صفة كمال أم صفة نقص؟ صفة نقص، وأنتم لم يكن عندكم مُشكِلة مع صفة العلم والإرادة والقدرة لأنها صفات كمال، لكن صفة النسيان في الإنسان صفة نقص ومنها يُقال لك هذا الشخص نسّاي، والحفّاظ يُجرِّحون الذي لا يحفظ جيداً، قال الله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩ مع أن الله في آية أُخرى يقول وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ۩، فالله لا ينسى لكن هنا قال وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۩، فإذن هو قال لك ننسى وهذا شيئ يقشعر منه البدن، كيف ينسى؟ انتبه فهنا يُوجَد نقص، لكن أول شيئ واجب عليك وحتم ولازم يا مُوحَّد يا مُؤمِن – عصمنا الله جميعاً وحفظنا – أن تنفي مُباشَرةً هذا النقص وأن تقول مُستحيل أن الله يلحقه نقص، فهذا أولاً – هذه أول خُطوة – ثم ثانياً ماذا تفعل؟ مُباشَرةً تُؤوِّل ولا تقل نسيان كنسياننا، فإياك أن تفعل هذا، لا يُوجَد أي عالم مُعتبَر ولا عالم حتى فيما قرأنا ووقفنا عليه قال لله نسيانٌ لا كنسياننا، فهذا الغباء لم يقله أحد ولم يتهوَّر فيه أحد، فممنوع أن تقول هذا ومن ثم انتبه، وهذا مثل المرض، قال الله عبدي مرضت فلم تعدني، فقال له كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ أي هل أنت تمرض؟ قال له أما علمت أن عبدي يا فلاناً مرض؟ أما لو عودته لوجدتني عنده، ونفس الشيئ مع قوله عبدي استطعمتك ولم تُطعِمني، فكيف يُقال استطعمتك؟ وسوف تقول ما هذه الأحاديث؟ هذا حديث صحيح وليس عندنا مُشكِلة معه، لكن في القرآن الكريم مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا ۩، تفضل إذن، الله يقول يُقْرِضُ ۩، فهل الله يستقرض؟ هل الله يحتاج أم أنه غني عن العالمين؟ هو غني، لكنه قال أقرضوني ودينوني، وهذا موجود في القرآن، فإذا أردت أن تُنكِر على الحديث وأن تتفلسَف وأن تقول هذا حديث كذا وكذا يجب أن تُنكِر على القرآن الكريم، لأن نفس الشيئ موجود هنا لكنك لن تقدر، فما تقوله في آية مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ۩، ينبغي أن تقول مثله أو قريباً منه في نفس الباب في هذا الحديث -قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني. فقال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي، أي ثواب ذلك عندي في الإطعام وما إلى هذا – أيضاً!
فإذن أول شيئ هو أننا مُباشَرةً ننفي النقص عن الله وننفي ما أوهمه الظاهر، لكن انتبه إلى أن من ناحية أصول الفقه إذا رفضت أن تأخذ بالمعنى المُتبادر من ظاهر الآية – لأن هذا ليس نصاً وإنما هذا ظاهر – سوف تكون ارتكبت ماذا؟ تأويلاً، وهذا الكلام مُهِم جداً جداً جداً جداً، هذه حقيقة التأويل وهى أنك لا تأخذ بما دل عليه الظاهر سواء بعد ذلك لجأت إلى تخصيص العام أو تقييد المُطلَق أو الحكم على ما ظاهره الحقيقة بالمجازية وفروعها، فهذا إسمه ماذا؟ التأويل، وهذه دروب التأويل الثلاثة المشهورة، ومن ثم سوف تقول لي إذا صدق هذا يا أخي فما مِن مُوحِّد إلا أوَّل، ووالله هذا صدق، ولذلك هذا التأويل ثابت عن كل الأمة، فهذا ثابت عن أحمد بن حنبل وغير أحمد وعن ابن عباس والصحابة والتابعين وإلى آخره، فما أحد إلا أوَّل، ومن ثم لا تقدر هنا إلا أن تُؤوِّل، لكنك سوف تقول لي مثلاً كيف أوَّلوا قول الله وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ۩ وقول الله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۩؟ هناك تأويلات كثيرة من أحسنها – انا أستحسن هذا التأويل دائماً – أنهم قالوا هذا مجاز – نوع من المجاز – يُسمونه إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، الملزوم هو النسيان، لكن ماذا يلزم من النسيان؟ الترك، فأنت إذا نسيت الآن مفتاحك في المسجد ماذا سوف يحدث؟ سوف تخرج وتتركه في المنزل، وإذا نسيت محفظتك في السيارة – انتبه حتى لا تنسى المحفظة لأن أهم شيئ المال – وذهبت إلى البنك لكي تدفع الفواتير – Bills أو Rechnungen – فإنك ستذهب وقد تركتها في السيارة، إذن عندك لازم وملزوم، اللازم هو الترك، والملزوم هو النسيان، وهذه لغة عربية، تقول الآية الكريمة إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي ۩، فهل هذه تُوهِم نقصاً أو لا تُوهِم نقصاً؟ تُوهِم نقصاً، ولا تقل لي أن الله عنده عدم حياء بما يليق به، هذا إسمه هبل ولم يقل أحد من العلماء هذا الهبل فانتبه، لأن من المُمكِن أن يقول أحدهم أنا سمعت أنهم قالوا له يد لكن لا كأيدينا فكذلك الحال مع النسيان، لكن لم يقل أحد هذا فانتبهوا، هناك مَن قالوا له يد لا كأيدينا لكن هذا موضوع ثانٍ وهذا رقم اثنين.
إذن الآيات والنصوص والاحاديث التي ظاهرها يُوهِم النقص في حق ذي الجلال والإكرام – لا إله إلا هو – نتعامل معها بخطوتين، الخطوة الأولى هى أننا مُباشَرةً نرفع هذا الوهم ولا نأخذ بالظاهر ونُؤوِّل، الخطوة الثانية هى أننا نُفسِّر هذه الآية أو اللفظة ونُؤوِّلها على وجهٍ يليق بجلال ذي الجلال والإكرام لا إله إلا هو، وهذا كلام جميل جداً جداً جداً، لكن هل تعرفون مَن الذي علَّمني هذا الكلام أيضاً؟ رب العالمين، وهذا شيئ عجيب، فهذا في الحديث – أي حديث أبي هريرة في مسلم الذي يقول عبدي مرضت فلم تعدني، فقال له كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال له أما علمت أن عبدي فلاناً مرض – نفسه، فإذن هذا هو تأويلها وهذا هو المقصود، وليس أن الله نفسه يمرض مرضاً لا كمرضنا، ومن هنا سوف تقول لي من هذا الباب قوله في الحديث الصحيح -حديث الولي في البخاري طبعاً، فهو من أفراد البخاري لكن عند أحمد عن أنس وأبي هريرة وإلى آخره – وما ترددت عن شيئٍ أنا فاعله ترددي عن نفس عبد المُؤمِن – يعني ماذا؟ أن أقبضها- يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له من موت، فانتبه ولا تقل لي لله تردد يليق به لا كترددنا، فهذا غلط وكلام فارغ وعبط غير موجود، فمُباشَرةً لا يجب أن تأخذ بالظاهر ثم يجب أن تُؤوِّله بطريقة تليق بالله، فهل فهمنا القسم الأول؟ هذا مُتفَق عليه بفضل الله تبارك وتعالى.
القسم الثاني نصوص في الكتاب والسنة تنسب إلى الله – تبارك وتعالى – أشياء – والعياذ بالله – مما ظاهره تشبيه الله بخلقه وبمخلوقاته وبما فيها الإنسان، كأن تجعل له جوارح وأعضاء، قال الله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ۩،وقال أيضاً فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۩، وقال في موضع آخر وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ۩، فضلاً عن أنه قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ ۩ وقال يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ ۩، فالحكاية تتعلَّق باليد واليدين والعين والأعين وما إلى ذلك، وفي الأحاديث إن قلب ابن آدم بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء، فكيف يُقال بين أصبعين؟ هل هناك أصابع؟ في القرآن الكريم وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ ۩، الله يقول يمين وقبضة، ومن ثم يجب أن ننتبه لأن هذا قرآن، فهذه الأشياء في ظواهرها ما هى؟ جوارح وأعضاء، وهذا قسم مُشكِل ووقع فيه خلاف والمذاهب فيه ثلاثة فاحفظوها، مذهب المُفوِّضة ومذهب المُؤوِّلة ومذهب المُثبِتة، وهنا انتقادي على التصحيح في مُؤتمَر الشيشان، فكان ينبغي أن يكونوا دقيقيين، لماذا؟ لأن اليوم أكثر السلفيين المُعاصِرين على الإطلاق ليسوا مُفوِّضة وهم ضد التفويض ويُحارِبونه ويُسمونه التجهيل كما سماه ابن تيمية رحمة الله عليه، فهو قال هذا ليس تفويضاً وإنما هذا تجهيل، وسوف نقول لماذا، فأنت لما تقول أنا دخَّلتهم لكنك دخَّلت المُفوِّضة فأنت إذن ما دخَّلت أحداً من المُعاصِرين، إذن المُشكِلة لا تزال قائمة، ولابد أن نكون واضحين، فنحن عندنا ثلاثة مذاهب، الُثبات والتفويض والتأويل، لكن ما هو التفويض؟ هذا الذي يُنسَب إليه السلف وثابت عن بعضهم بلا شك وإن أنكره للأسف ابن تيمية وعارك مُعارَكة رهيبة لكي يقول أن هذا ليس مذهب السلف وأن مذهب السلف الإثبات، فهذا ثابت والقضية طويلة وتحتاج إلى كلام أيضاً ومكتوب فيها رسائل دكتوراة من المُعسكَرين، فما رأيكم؟ مئات الصفحات هنا أن التفويض غير موجود وغلط ومئات الصفحات أنه ثابت وموجود وهو الحق، فهو ثابت وموجود على قلة، لكن ما هو التفويض إذن؟ التفويض باختصار لخَّصه الإمام سفيان بن عيينة شيخ مكة وشيخ البخاري فيما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، فهو قال لك تفسيرها أو تأويلها قراءتها، تقرأها كما هى وتظل ماشياً ولا تتكلَّم ولا تسأل، اسكت فقط، فهذا إسمه ماذا؟ التفويض، فالتفويض لماذا يُسميه السلفيون وابن تيمية تجهيلاً؟ لأن المُفوِّض لا يقول لك يدٌ حقيقية لا كأيدينا، وإنما يقول لك الله أعلم بمراده، الله أعلم بمراده بكلمة يد، والذي يقول لابن تيمية أو لأحد من أتباعه هل أنت الآن تُقِر على نفسك أنك لا تفهم معنى هذه الآية اللفظة هنا؟ يُقال له نعم لا أفهمها، فأنا أفهم اليد عندي ويد الحيوان ويد البعير ويد الباب، لكن اليد التي تُضاف إلى الله لا أفهمها ولا أعرفها ومن ثم لن أتكلَّم، فابن تيمية قال لهم هذا مُستحيل وهذا كلام فارغ لأن هل يُمكِن أن الله يتعبَّدنا بألفاظ لا معنى لها؟ ومن هنا قال هذا تجهيل ونسبه إلى السلف، وعلى كل حال القضية طويلة وهذا هو معنى التفويض، فيجب أن تمشي دون أن تتكلَّم، وقال لك بمُجرَّد مرورك عليها يجب ألا تقف وألا تطرح سؤالاً ويجب أن تقول آمنت بما أنزل الله على مُراد الله وفقط، لكن ماذا عن معنى اليد؟ يقول لك ليس لي علاقة، لكن لو أراد أحد أن يُفوِّض في آية الاستواء – ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ۩ – ماذا يعمل؟ لا يقول استوى استواءاً حقيقياً يليق بجلاله – لا يقول هذا أبداً – وإنما يقول الله أعلم بمُراده، ولن أتكلَّم ولن أذهب إلى المُعجَم ولن أرى معاني الاستواء الستة أو السبعة – وقال بعضهم خمسة عشر معنىً – لأن هذا كله غير لائق ولا علاقة لي بهذا، فإذن قراءتها هى تفسيرها، وهذا إسمه التفويض، مع الإيمان بها، فهو لا يُنكِرها طبعاً، ولذلك كل هؤلاء يُسمون ماذا؟ صفاتية، يُثبِتون الصفات لله، لكن أنا عندي مُلاحَظة أريد أن أقول وهى هل هذه فعلاً صفات؟ هنا تُوجَد إشكالية لابد أن تُدرَس جيداً بطريقة أكاديمية علمية، فهل هذه صفات؟ الصفات كما يُقال من حيث هى تُلازِم الموصوف كله، والصفات دائماً تأتي بإسنادٍ حقيقي، إسناد خبري أو ما يقوم مقامه، فهل الإسناد التام كما يُسمونه خبري أم فعلي – علاقة فعل وفاعل وعلاقة مُبتدأ وخبر يُجعَل الموصوف مُبتدأً ويُخبَر عنه بشيئ – الآن؟ فعندما أقول الله حيٌ عليمٌ قادرٌ مُريدٌ فإن المُبتدأ هو الله وهذه كلها أخبار، وهذا إسمه إسناد تام، فهل في القرآن يُوجَد إسناد تام في هذه المسائل؟ لا يُوجَد فيها هذا أبداً، لكن ماذا عن قول الله رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ۩، وقول الله أيضاً أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۩؟ هذا إسناد هذا تام فيه فعل وفاعل، فالله يرضى والله يرحم – رحمك الله – وإلى آخره، هذا إسناد تام، لكن قول الله يَدُ اللَّهِ ۩، وقول الله عَلَىٰ عَيْنِي ۩ وقول الله أيضاً فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۩ هذه كلها إضافات، وواضح من ناحية لغوية ودلالية وجود فرق كبير بين الإسناد التام بأنواعه وبين الإضافات، فتنبَّهوا لهذه الناحية، وسأعود إليها بعد ذلك بقليل من الإيضاح.
إذن هذا مذهب التفويض، مذهب المُثبِتة هذا اليوم مذهب السلفيين المُعاصِرين وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كتب فيه مئات الصفحات، فماذا يقول لك؟ هو يعزوه إلى السلف طبعاً ويقول لك هذا مذهب السلف، الذين قالوا بالتفويض قالوا لك التفويض هو مذهب السلف وهو المأثور عن الشافعي وعن مالك وعن الأوزاعي وعن الثوري وعن وعن وعن وإلى آخره، وهو يقول لك هذا كذب وغلط لأن مذهب السلف هو الإثبات، فما هو الإثبات؟ قال لك الله لا يتعبَّدنا بشيئ لا معنى له، فمعروف ما معنى اليد وما معنى العين وما معنى الأعين وما معنى الأصبع والأصابع والجنب -عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ۩ – ومعروف معنى الساق- يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ۩- حيث يضع الجبار رجله أو قدمه ومعروف ما معنى القدم وإلى آخره، فهو قال لك هذا معروف في اللغة، ومن ثم يقول ابن تيمية يقول ومَن يُنسَب إليه نبدأ ونقول مُستحيل وحاشا لله ومُحال ويكذب علينا مَن يقول إنها قدم جارحة كأقدام المخلوقات، الله أخبر أن له قدماً وأن له وجهاً وأن له يداً وأن له يدين وأن له عيناً وأن له أصابع ونحن نُؤمِن بهذا ونقول له أصابع حقيقية تليق بجلاله، وهنا دخَّلنا ابن تيمية في معمعة رهيبة وأنا شخصياً غير قادر على استيعاب هذا، كيف تقول لي حقيقية؟ بأي معنى أنت أتيت بهذا القيد؟ من أين أتيت بكلمة حقيقية؟ هل لليد حقيقة إلا أنها الجارحة؟ هذه حقيقة اليد، أنت تقول لي الله لا يتعبَّدنا بشيئ نجهل معناه، لكن نحن لا نعرف معنىً لليد إلا إذا أوَّلنا وقلنا هذا مجاز، وهذا شيئ آخر، قال الله وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ۩ أي بقوة كما يُروى عن ابن عباس، فأهلاً وسهلاً بهذا، فهذا مجاز إذن وهنا ليس عندنا مُشكِلة، وكذلك الحال حين نقول سقطت البلدة في يد الأمير وقد يكون الأمير أقطعاً أو مقطوع اليد أصلاً، ولا تُوجَد بلدة تسقط في يده، قال تعالى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ۩ فهل بِيَدِهِ ۩تعني في يده؟ هم يقولون لك هذه يد حقيقية تليق بجلاله ونحن بعيدون من التشبيه والتجسيم والمُماثَلة، وهذا ليس كفراً، هذا مذهبهم وقال به فحول منهم ابن تيمية، فهذا إسمه مذهب الإثبات، وأعتقد أنكم رأيتم الفرق بينه وبين مذهب التفويض، والآة يبقى لدينا مذهب التأويل.
التأويل حتى يضح لكم قسمان، تأويل جُملي أو إجمالي وتأويل تفصيلي، التأويل الجُملي تعرف مَن الذي يقول به؟ المُفوِّضة، فكل مُفوِّض مُؤوِّل، وأوضحت لكم هذا، لكنك قد تقول لي كيف وأنت قلت لنا أنه يقرأها ويظل ماشياً دون أن يتكلَّم؟ لأن المُفوِّض رفض أن يقول يد حقيقية تليق بجلال الله وقال الله أعلم بمُراده، السؤال هنا هل المُفوِّض أخذ بظاهر الآية أو النص؟ لم يأخذ بهذا أبداً، هل أمر الظاهر كما هو وقال يد حقيقية بكيف أو لا كيف لها فالكيف معروف ولكنها تليق بجلاله؟ لم يقل هذا من الأصل، كون المُؤوِّل لم يأخذ بالظاهر هذا هو تأويله، لكن هل المعنى على التفصيل؟ قال لك أنا لا أدخل هذا الملحج، فهذا المضيق لا أدخله، هذا عند الله، وهذا إسمه تأويل إجمالي، وهو معروف عن السلف – عن كثيرين من السلف – طبعاً، فالتأويل التفصيلي معروف، وأكثر الخلف خاصة من الأشاعرة – أكثر الأشاعرة المُتأخِّرين – عندهم تأويلات تفصيلية، يقولون لك بيد القدرة وأن العين بمعنى العناية وأشياء مثل هذه، فالواحد منهم يُؤوِّل لك في كل موضعٍ موضعاً، وهذا إسمه التأويل التفصيلي، لو سألت المُؤوِّل أنت حين ذهبت تُؤوِّل هل أوَّلت بقطعٍ وجزمٍ أم بظنٍ واحتمالٍ؟ فإنه يقول لك بظنٍ واحتمالٍ والله أعلم بالحقيقة، الله أعلم بما هناك لكن هذا ظن واحتمال، فالمسائل تظل مسائل غير قطعية، فنحن إذن عندنا هذا القسم الثاني، إذن القول بأن لله يداً لا كأيدينا قول مَن؟ المُثبِتة مثل ابن تيمية وجماعته، وهذا القول لا يجري ولا يجوز في القسم الأول، فلا يُقال لله نسيانٌ ومرضٌ وترددٌ لا كنسياننا ولا كمرضنا ولا كترددنا، لا يُقال هذا أبداً، ولم يقل به لا ابن تيمية ولا غيره، وعلى كل حال هذا هو الفرق بين الاثنين، وتبقى النقطة الثالثة والرابعة وقد طوَّلت عليكم.
الشيئ الثالث هو أن عندك نصوصاً في الكتاب والسنة تنسب إلى الله – تبارك وتعالى – صفات معنوية لا تُوهِم النقص ولكن تُوهِم المُشابَهة بالمخلوقات، فالإنسان حين يغضب وحين يرضى هذا ليس عيباً، قال لك مَن استُغضِب فلم يغضب فهو – أعزكم الله – حمار، ويُقال لك – مثلاً- هذا الرجل صعب الترضي أو صعب الاسترضاء، لأنه إنسان كثير التطلب، فهذه ليست صفات تُوهِم النقص مثل النسيان ومثل المرض ومثل التردد، وإنما حين تُنسَب إلى الله فإن الله يرضى والله يغضب والله يرحم لكن كيف؟ حتى الرحمة موجودة، والرحمة عند الإنسان ما هى؟ رقة تعتري الإنسان، هى رقة ونوع من الضعف ومن ثم قد تبكي مرات، وحتى الله يرحم، وهذه من الأشياء المُشكِلة، لأن كيف يرحم؟ ما المُراد بصفة الرحمة هنا؟ إذن هذه صفات ومعانىً منسوبة إلى الله في النصوص الكتابية والحديثية لكن فيها شُبهة مُشابَهة المخلوقات، وهنا أيضاً يجري المذهبان السابقان، والعلماء قالوا إما أن نقول يرضى رضاً يليق بجلاله – وهذا الكلام مُحتمَل جداً، فهذا ليس خطيراً، ومن هنا قالوا يغضب غضباً يليق بجلاله ولا ندري حقيقة معناه ولكنه يليق بجلال الله – وإما أن نُؤوِّل، حيث يُوجَد أُناس وهم الأشاعرة والماتريدية قالوا نُريد أن نُؤوِّل، فكيف أوَّلوها؟ قالوا هذه الصفات تعود إلى صفة ذاتية، فالغضب عند الإنسان هو الحنق وجريان الدم في العروق أكثر من الحالة المُعتادة بحيث تنتفخ الأوداج ويحمر الوجه ويتهدَّج الصوت، لكن هل هذه الحالة تغيرية أم غير تغيرية؟ تغيرية، لأن حدث تغير ما، وهل التغير جائز في حق الله؟ هل الله يتغيَّر وتحدث له أحوال انفعالية؟ حاشا لله، والرضا عكسه الانبساط، وعلى كل حال هذه الأحوال النفسانية التغيرية تجمعها كلمة واحدة، وهى أنها أحوال تطرأ بعد أن لم تكن ثم تزول بعد ما كانت، وهذا مُستحيل في حق الله، ولذا قالوا لك نحن نلجأ الآن إلى التأويل، ولن نقول يغضب غضباً يليق بجلاله وإنما سنقول غضبه ورضاه وأشباههما من هذه الصفات تعود إلى صفات ذاتية، ومن ثم هذه الأمور تعود إلى صفة ذاتية قائمة بالله وهى الإرادة، فإذن ما هو غضبه؟ عبارة عن إرادته عقاب العاصي المغضوب عليه، ورضاه عبارة عن إرادته إثابة الطائع المرضي عنده، إذن عادت هذه الصفات إلى ماذا؟ إلى صفة الإرادة الذاتية القائمة بالله، أو تقول غضبه ورضاه يعودان إلى صفات فعل، فيُصبِح غضبه عبارةً عن ماذا؟ عن عقابه للعُصاة والملاحدة، ويُصبِح رضاه عبارةً عن إثابته للطائعين المرضيين، هذا هو فقط، فإما صفات ذات الإرادة بمعنى أن تُعيدها إلى الإرادة وإما أن تُعيدها إلى صفات الفعل وما يتعلَّق بالعقاب والمثوبة، فإذن عندك هذا المذهب وعندك هذا المذهب.
أخيراً لدينا ما بدأنا به، صفات ومعانيٍ تليق بالله وهى صفات كمال وجمال وجلال مثل الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والعلو والحكمة وإلى آخره، وكل هذه الصفات نعم ثابتة لله ولا تُوهِم نقصاً ولا يُوجَد فيها مُشابَهة ولكننا نُثبِتها كلها من حيث الأصل وبعد ذلك نقول على جهة الكمال المُطلَق اللائق بالله، لأن لدينا أسماعاً وأبصاراً وعلماً وحياة وقدرة ولكنها منقوصة ونسبية تليق بالمخلوق المُحدَث، أما في حق الله فكله على نحوٍ آخر.
إذن أختم وقد انتهيت بفضل الله – تبارك وتعالى – قائلاً لو قلنا الله يغضب غضباً لا كغضبنا و قلنا هذا يجوز وقلنا أنه يرضى رضاً لا كرضنا وقلنا هذا يجوز – هذه النُقطة الرابعة، وطبعاً من باب أولى أن عنده علماً ليس كعلمنا وهذا ثابت بالإجماع – هل نُؤيِّد القول بأن لله يداً لا كأيدينا؟ لا، فنحن لا نستروح إلى هذا، هذا موجود وهذا مذهب المُثبِتة لكننا لا نستروح إليه، لأن قد يقول أحدهم ما هو مذهبك؟ إلى ماذا تستريح؟ ومن هنا أقول نحن نستريح إلى أن هذا لا يجوز، والأفضل أن نبتعد عن طريقة ابن تيمية رحمة الله عليه وغفر الله لنا ولهم أجمعين، لماذا إذن؟ لأسباب نذكر منها سببين ثم ننتهي بإذن الله، السبب الأول – كما قلت لكم لأنني ذكرته – أن هذه الصفات تُدعى صفات وفي الحقيقة هى ليست صفاتٍ، فأي أحد دارس للغة العربية – أعجمي مُستشرِق مثلاً – سوف يقول لك هذه ليست صفات، هذه إضافات ثم هى أسماء أعضاء وجواح، فالحديث عن عين وأصابع ويد وأيدي وهذه ليست صفات، الصفات مثل غفور ورحيم وعليّ وحكيم وسميع وبصير، فهذه صفات لكن تلك ليست صفات وإنما هى أسماء جوارح وأسماء أعضاء، فكيف تجعلها صفات؟ هذه واحدة، ثم أنها – كما قلت لكم – لم ترد في الكتاب والسنة بطريقة الإسناد ولا أُعيد، لأنها فقط وردت بطريقة الإضافة، الفرق الثاني والمُهِم جداً – ويُوجَد فرق ثالث مُعقَّد فلن أذكره لأنه يحتاج إلى وقت – ما هو؟ عندما تنظر في الآيات والأحاديث تعلم مُباشَرةً كعربي عنده ذائقة العربية وعنده روح العربية ومعنى اللغة وطريقة اللغة ونهج اللغة أنها لم ترد في السياق مسوقةً لذاتها وإنما سيقت للإخبار عن شيئ آخر، سوف تقول لي ما معنى هذا الكلام؟ هذا سهل جداً، عندما يقول الله تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ۩ هل – بالله عليك – تفهم من هذه الآية – هذه الآية كلها – أنها سيقت وأن الله أنزلها لكي يُخبِرنا بأن له الملوكية المُطلَقة التامة أم لكي يُخبِرنا أن له يداً؟ سوف تقول لي الأولى والله، فهذه واضحة جداً جداً، قال الله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ ۩ فهل تفهم منها من غير أن نُدخِلك حتى في التفسير الأثري وما إلى ذلك أن معنى يد الله فوق أيديهم أن الله حاضرٌ معهم هذه البيعة وشاهدٌ وضامن؟ هل الله يُريد هذا أم يُريد أن يُخبِرك أن له يداً؟ سوف تقول الأولى، وهذا أمر واضح، والأكثر من هذا وضوحاً الآية التي تقول يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ۩، لكن انتبهوا لأنني مُحاذِر جداً، فأنا لا أقول أبداً جنب الله وأنا أضرب جنبي، لأن لو قلت هذا ثم عملت هذا سوف تنقطع يدي عند المالكية، سوف يقولون لك اقطع، فانتبه ولا تقل يد الله وتُحرِّك يدك وإلا سوف يقطعون لك يدك، لكي تُعلَّم التنزيه ولا تلعب في حق الله عز وجل، ولا تقل جنب الله ثم تُشير إلى جنبك، انتبه إلى هذا جيداً، وعلى كل حال الآية الكريمة يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ۩ فهل الله أتى بهذه الآية وأنزل هذه الآية الكريمة من الزمر لكي يُخبِرنا أن لله جنباً وليس كجنوبنا لأنه يليق بجلاله أم أراد أن يُخبِرنا عن تحسر هؤلاء على ما فرَّطوا في حق الله تبارك وتعالى؟ فأي المعنيان صحيح؟ المعنى الثاني.
أخيراً وأختم لأستريح وأُريحكم قال لك قلب ابن آدم أو قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، فبالله عليك حين كنت صغيراً لا تزال وسمعت هذا النص – أنا هذا حصل معي وحصل معنا كلنا – هل فهمت أو فهم أحد منكم إلا أن يكون كما تعلمون أن المقصود في جوف – ليس في قلب وإنما في جوف وتجويف الصدر – كل واحد منا أصبعين من أصابع الرحمن يليقان بجلاله؟ أي هل هناك أصبعان كما يليق بجلال الله في جوفي وفي جوفك والقلب بينهما أم فهمت أن المُراد – ولأجل هذا سيق هذا التعبير وهذا التركيب – أن الله – تبارك وتعالى – مالك القلوب ويتصرَّف فيها ويُحوِّلها كيف شاء لأنه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ۩ لا إله إلا هو؟ هل فهمت المعنى الأول أم الثاني؟ فهمت الثاني طبعاً، ولو فهمت الأول فإن لازم الأول أن تفهم أيضاً أن ليس لله أصبعين وأن لله ملايير الأصابع بعدد الخلائق التي لها قلوب من بني آدم، ففي جوف كل أحد أصبعان تكتنفان القلب وتحوذانه وما إلى ذلك ثم تقول لي كلها أصابع تليق بالله، فأعوذ بالله من الخذلان ونعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك يا فاطر السماوات والأرض يا عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما اختلفوا فيه فاهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، اللهم احفظنا واعصمنا فيما بقيَ من أعمالنا، احفظ علينا إيماننا وديننا ويقيننا وتوحيدنا، اللهم مَن أحييته منا فأحيه على الإيمان ومَن أمته منا فأمته على الإسلام برحمتك يا أرحم الراحمين وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (23/9/2016)
أضف تعليق