– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُتابِع – إن شاء الله – سلسلة هذه الأُمسيات عن الغزالي الباحث عن الحقيقة، حياته وتأثيره في الحلقة السادسة مع شيخنا الفاضل الشيخ عدنان إبراهيم.
أما الحلقة الخامسة نرجو أن تسمعوها، ولكن بشكل مُختصَر أفاض الشيخ واستفاض في موضوع الهجوم على الإمام الغزالي وأفاض في موضوع الهجوم من الناحية العقدية من بعض الأشاعرة ومن الناحية الفقهية من بعض المالكية، ومنهم المازري ومنهم أبو بكر بن العربي الذي استفاض في كلمة نُسِبَت للإمام الغزالي وهي ليست منه ولكن معنى ما قال ليس في الإمكان أبدع مما كان، واستفاض الشيخ في الدفاع عن الإمام الغزالي في هذه الشُبهة من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وخاصةً في موضوع الفرق الفلسفي بين الخلق والقلب، كما كان هناك هجوم من أبي عمرو بن الصلاح وخاصةً لما يتعلَّق باستعمال واستخدام الغزالي لعلم المنطق، فهاجمه ضد المناطقة وشرح لنا الشيخ وهنا بهذه المُناسَبة ننصح أيضاً بالعودة إلى سلسلة الشيخ عدنان عن المنطق المُسجَّلة – إن شاء الله – ومن المُمكِن الحصول عليها والاستماع، وأنهى الحلقة فضيلة الشيخ في مواصفات شخصية لأبي حامد الغزالي منها العزيمة الماضية مع الصدق في النية والخلوص في القصد، كما أن هناك تأثر عجيب في كُتبه لكل مَن يقرأها، كما أن عنده اعتداد بالنفس ولكن لا كبراً ولا عجباً بل اعتزاز واعتراف بنعمة الله عز وجل، كما كان لا يدخل على قصور السلاطين ولا يأخذ من مالهم، كما كان ينهى عن المُناظَرة إذا كانت مع تعصبٍ، وأنهى الشيخ الحلقة في كلماتٍ جميلةٍ مُنتقاةٍ من كلمات الغزالي عن تصفية القلب والورع، ونُتابِع – إن شاء الله – الحلقة السادسة مع شيخنا الفاضل عدنان إبراهيم، تفضَّل شيخ عدنان.
– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بارك الله فيك وشكر الله لك.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.
قال الإمام الحُجة – رحمة الله تعالى عليه – مهما رأيت إنساناً سيئ الظن بالناس، طالباً للعيوب، فاعلم أنه خبيث الباطن، هذه كلمة مُهِمة، ومَن الذي يقولها؟ أبو حامد وهو مَن هو! هو الخبير بالبواطن، الرجل هذا أستاذ علم النفس النفس، يقول مهما رأيت إنساناً سيئ الظن بالناس، طالباً للعيوب – يُريد أن يعرف عيب هذا وعيب هذا ويُشيع العيوب -، فاعلم أنه خبيث الباطن، والمُؤمِن سليم الصدر في حق كافة الخلق، دائماً يحمل الناس على أحسن محاملهم، باستمرار المُؤمِن يفعل هذا.
يقول السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه والشقاوة كلها في أن تملكه نفسه، هذا صعب، مَن مِن الناس مَن يملك نفسه؟ الطريق الطويلة الواعرة التي سار فيها أبو حامد الغزّالي هي طريق تنتهي إلى أن يملك الإنسان نفسه، قال أبو يزيد البُسطامي قدَّس الله سره – وهو من جُملة مَن استفاد منهم الإمام أبو حامد الغزّالي، كما قلت لكم من منثوراته ومأثوراته – في البداية كنت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي – أسوقها رُغماً عنها وهي لا تُريد – واليوم تسوقني وهي تضحك، هي الآن تدفعه، انتهى الأمر، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩، هذه اطمئنت بالخير، لكن بعد ماذا؟ بعد رياضات ومُجاهَدات ومُنازَلات، مقامات وأحوال كثيرة جداً!
أذكر مما قرأت قبل ربما خمس وثلاثين سنة وأنا طفل صغير لأبي حامد في كتاب ميزان العمل – أذكر هذه العبارة بخصوص ملك النفس – أنه قال – رحمة الله تعالى عليه – قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ۩، قال: النفس، أعدى عدوك – يُنسَب إلى الرسول هذا – نفسك التي بين جنبيك، أول ما يجب ومَن يجب أن تُحارِبه وأن تُنابِذه وأن تُقاطِعه وتُصارِمه وتُصاوِله النفس، إذا ملكتها – بإذن الله – وأخضعتها أنت من الفائزين السُعداء، إذا ملكتك تُورِد موارد الهلكة، وذكر أيضاً في الإحياء على ما أذكر – رحمة الله تعالى عليه – أن مثل النفس – إخواني وأخواتي – كمثل السبع الضاري، إن أنت ارتبطه إليك ثم أجعته وأدأبته أمنت شره – مربوط لا يستطيع أن يقطع الرسن، أي الرباط -، وإن انت ارتبطه وأطعمته وسقيته وكذا وكذا فإنك لا تأمن أن يتمكَّن من قطع حبله ويفتك بك، هكذا النفس، لذلك لابد هذه النفس أن تُزَم وأن تُخطَم وأن تُذَل لله تبارك وتعالى، فعلاً السعادة كلها في أن تملك أنت نفسك، والشقاوة كلها أن تملكك نفسك، فإنها تنزع بك إلى شر منزع كما قال السادة العارفون.
له عبارة عظيمة جداً من ثلاث كلمات: الهموم بقدر الهمم، كما قال أبو الطيب:
وَلِكُلِّ جِسْمٍ فِي النُّحُولِ بَلِيَّةٌ وَبَلَاءُ جِسْمِي مِنْ تَفَاوُتِ هِمَّتِي.
الهمة عظيمة فالهم يكون عظيماً!
وأيضاً له:
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ.
إذن الهموم بقدر ماذا؟ بقدر الهمم، اللهم اجعل ذاتك المُقدَّسة همتنا، طلب وجهك همتنا.
هذه عبارة جميلة جداً جداً، ما أجملها! وفيها صورة رائعة، يقول: مثل الإنسان في عمره – أي مثله مع عمره، مع أيام حياته التي تتقضى وحية – مثل رجلٍ كان يبيع الثلج في وقت الصيف ولم تكن له بضاعة سواه – انتهى الأمر – فكان يُنادي يقول ارحموا مَن رأس ماله يذوب، عبارة جميلة جداً، يا الله! يقول مثل الإنسان في عمره مثل رجلٍ كان يبيع الثلج في وقت الصيف – يبيعه في أيام الصيف – ولم تكن له بضاعة سواه – سوى هذا الثلج – فكان يُنادي يقول ارحموا مَن رأس ماله يذوب، يا الله! ما هذه العبارة؟ ونحن يومياً رأس مالنا وهو عمرنا يذوب، مع كل ساعة يذوب، مع كل ساعة يذوب، مع كل يوم يذوب!
هذه العبارات حين تقرأها له في كُتبه تتأثَّر بها فعلاً، تشعر فعلاً – كما قلت لك – أنها مُسربَلة بالإخلاص، خارجة من نبع الورع والتُقى والفتوح الإلهية يا أخي، مَن يُعبِّر بهذه التعبيرات؟ رضوان الله تعالى عليه.
أخيراً أختم بهذه العبارة له: الرياء يتولَّد من تعظيم الخلق، الإنسان يعمل الصالح مما يُراد به وجه الله والدار الآخرة لكنه للأسف يعمله لكي ينظر الناس إليه، لكي يرى الناس عمله، هذا اسمه الرياء، وهو ضرب من ضروب الشرك والعياذ بالله، ليس الشرك المُخرِج عن الملة أبداً وإنما الشرك المُحبِط للعمل أو المُنقِص للأجر، هذا هو الرياء، إما أن يُحبِط عملك أو ينقص أجرك، داهية! فتتعب للأسف غير غاية، ماذا يقول؟ من أين يتولَّد الرياء؟ لماذا عند الإنسان رياء؟ من تعظيم الخلق، ما معنى تعظيم الخلق؟ من تعظيم المُرائي للخلق، هو يرى الناس شيئاً كبيراً، يهتم بهم كثيراً، المُرائي هذا فعلاً مُهتَم بالناس، مُهتَم جداً أن يمدحوه، مُهتَم جداً ألا يذموه وأن يُمسِكوا عنه، مُهتَم جداً أن يُعظِّموه وأن يُوقِّروه وأن يُحسِنوا ظنونهم فيه، لكن مَن نظر إلى الله – تبارك وتعالى – والتفت إليه لم يحتقر الخلق ولم يزدرهم لكن لا يراهم، لا يراهم! وأنا شبَّهت هذا مرةً كما تعرفون بذرة حديد، ذرة بسيطة صغيرة، هذه الذرة لو وُضِعَت بإزاء أو بقرب مغناطيس ماذا يحدث لها؟ يجذبها، لكن على قدر قوته وحجمه، ربما تذهب إليه وهي تتعتع، لكن تخيَّلوا أن هذا المغناطيس بحجم صخرة كبيرة وهي ذرة صغيرة، كيف يجذبها؟ يجذبها جذبة هائلة، وهذا سر حديث السادة الصوفية عن الجذبة، في اللحظة يُطالِعون فيها مجد الله – تبارك وتعالى – وينكشف عنهم الحجاب روحياً وليس بصرياً طبعاً تحدث جذبة، فعلاً يفنى هذا السالك عن العالم بما فيه، يذهب إلى ربه قصداً قصداً قصداً بلا تلفت وبلا تعتعة، لا يهمه شيئ في العالم، هذا هو!
هذه الجذبة وهذا الرياء ولكم أن تتخيَّلوا هذا، فالرياء يتولَّد عن تعظيم الخلق، لأن كل نظره إلى الخلق، هذا قال عني وهذا زعل وهذا رضيَ وهذا سخط وهذا يُريد وهذا لا يُريد، ما علاقتك بالناس؟ كلام فارغ، الناس بالذات كثير منهم يحسدونك على دنياك، أنا أقول لك البشر – بنو آدم والله العظيم يا إخواني – كثير منهم يحسدونك على دنياك، والحمد لله – الآن هذا فُتِحَ علىّ به والحمد لله – أن الله حجب الملائكة عنا، أي والله، الآن هذا فُتِحَ علىّ به لأول مرة في حياتي، من أسرار أن الله حجب الملائكة عنا أيها الإخوة لئلا نُضطَر إلى مُراءتهم، لأنهم يستحقون المُراءة، كائنات مُنزَّهة طيبة وقطعاً تفرح جداً بعملك الصالح وتدعو لك وتستغفر كما في سورة مُؤمِن وفي سورة حم “الشورى”، فطبعاً لو كانوا بادين ظاهرين لنا – سُبحان الله – لما استطاع الإنسان ربما أو مُعظَم الخلق أن يتحكَّموا في نواياهم، سوف يُريد وجه الله ووجه الملك الطيب الذي يدعو له ويفرح به ويستبشر بعبادته، ولن يقلب عليك الملك هذا، طالما أنت مُحسِن هو دائماً يدعو لك ويستبشر، إلا البشر! أنا أقول لكم البشر يُوجَد منهم – كثير من البشر – مَن يحسدك على دينك، لو رآك أتقى لله – والله – يحسدك ويكرهك لأنك أتقى لله، لم تبع دينك مثلاً، لم تُنافِق، لم تكذب، وقفت موقفاً مُشرِّفاً، يكرهك لذلك، يقول لك لماذا؟ لماذا أنا مُنافِق وهو لم يُنافِق؟ يا ليته يُنافِق، ويتهمك بالنفاق، يقول هذا مُنافِق، يدّعى التقوى وهو مُنافِق، يغار لدينك، لا أتكلَّم عن دنياك، دنياك هذه الكل يغار منها إلا مَن رحم الله، قل أن يُفتَح على أحد بشيئ في الدنيا ويفرح له الناس، أليس كذلك؟ أُناس هذا حالهم لماذا نُرائيهم يا حبيبي؟ أليس كذلك؟ والذي يرضى اليوم غداً يسخط، والذي يسخط اليوم ربما يظل ساخطاً أو يرضى، هؤلاء لا يستحقون أن يُراءوا والله العظيم، أنا أقول لكم تام العقل لا يُرائي بعمله فعلاً، ينظر إلى الناس وإلى الدنيا نظرة زوالية، يعلم أن كل هذا زائل فانٍ لا يستحق، لا يستحق! ولا الدنيا أيضاً، من غير مُراءة حتى الدنيا لا تستحق أن تُطلَب أيها الإخوة لذاتها، إن طُلِبَت لوجه الله وللآخرة يا حيهلاً، أما إن طُلِبَت لذاتها فلا، والله العظيم يا إخواني لا تستحق، لأنها سريعة الزوال، هل عندنا دنيا أوناسيس Ωνάσης؟ هل عندنا دنيا عبد الناصر وصدّام حسين ودنيا فرعون وقارون وهامان ودنيا هارون الرشيد ودنيا مُعاوية ودنيا فلان وعلان؟ كلها راحت، كل هؤلاء راحوا، أليس كذلك؟ والآن هم مُرتَهنون بأعمالهم، أليس كذلك؟ أنا مُتأكِّد كل واحد فيهم – والله – يتمنى ليس إلى انقطاع النفس وإنما إلى انقطاع الزمن وليس له انقطاع أن يُعاد إلى الدنيا ليعيش حياة أفقر فقراء الدنيا على أن ينقلب إلى ربه بعد ذلك راضياً مرضياً – تصوَّر – لا حساب عليه ولا عذاب، لكن أنى له ذلك؟ فلماذا إذن؟ لماذا نعمل للدنيا ونتقاتل من أجلها ونتدابر ونتخاصم ونتكاذب ونتشاكس ونتباغض ونتعادى؟ لا تستأهل، لا تستأهل أبداً، سريعة الزوال، كل يوم يموت أصحاب الملايير والملايين، كل يوم! كل يوم يموت ساسة، وكل يوم يُعزَل رؤوساء ووزراء وملوك، كل يوم يحدث هذا، لا تستأهل، ليس فيها أي شيئ يستأهل، لا مُلك ولا وزارة ولا مال ولا منصب ولا شُهرة، والله العظيم لا يُوجَد شيئ يستأهل، ولكن نسأل الله أن يُغنينا في قلوبنا وأرواحنا، ليس الغنى عن كثرة العَرض ولكن الغنى عنى النفس، إذا أراد الله بعبدٍ خيرٍ جعل غناه في قلبه النبي يقول، يكون عنده غنى قلبي، أدبرت الدنيا أو أقبلت ورضيَ الناس أو سخط الناس وصعدت الدنيا أو نزلت لا يُحرِّك ساكناً، أهم شيئ عنده علاقته بالله تبارك وتعالى.
الآن لأن في الحلقات ربما المُقبِلة – بإذن الله – سنتكلَّم عن الغزّالي المُتفنِّن – في فن الكلام وفي فن الفلسفة وفي فن التصدي للباطنية والتعليمية – فلابد أن نأخذ الآن فكرةً أيضاً مُجمَلةً عن هذه الفنون وعن موقف أبي حامد منها بسرعة حتى نعرف!
تحدَّثنا عن الباطنية وقلنا أبو حامد له ثلاثة كُتب تصدى فيها لكشف عوار الباطنية، كتاب فضائح الباطنية وكتاب قواصم الباطنية وكتاب المُستظهِر، ألَّفه للخليفة المُستظهِر بالله، فما هي الباطنية؟ لن نتحدَّث عنها من منظور تاريخي – كيف تطوَّرت وما إلى ذلك – فهذا لا يعنينا وهو موجود في كل كتب الفرق، لكن ما هو مبنى القول بالباطن؟ وكما قلت لكم أشهر الباطنية الإسماعيلية، ومنهم طائفة الحشّاشين، أُلِّفَت عنهم دراسات وكُتب كثيرة في الشرق والغرب، منها كتاب المُستشرِق الأمريكي الإنجليزي الأصل اليهودي برنارد لويس Bernard Lewis، عنده كتاب عن الإسماعيلية والحشّاشين، هم فرقة واحدة، هذه من فرقهم، الباطنية باختصار يا إخواني أُناس عندهم ذكاء بلا شك وعندهم خبث شديد جداً، ليسوا أغبياء وليسوا حمقى وإنما أُناس أذكياء، لذلك ليس كل ذكاء يُعتبَر شيئاً طيباً، هناك الذكاء السلبي، مثل ذكاء هؤلاء، وفيهم كتّاب قرأوا الفلسفة والعلوم العقلية، أخذوا بشيئ من المنطق، استفادوا من بعض براهين المُعتزِلة بل من كثير من براهين المُعتزِلة وأهل العقل والفلاسفة المشائيين وغيرهم، خلطوا هذا كله وتوسَّلوه وسيلةً وأداةً خبيثةً لهدم الشريعة على رؤوس أصحابها، كيف؟ ذكاء رهيب، خُطوة ذكية، اليوم أخي حمدي قلت له هؤلاء الباطنية هم أول أُناس ما بعد حداثيين، قبل كل ما بعد الحداثيين المُعاصِرين، قال لي كيف؟ قلت له هذا واضح جداً، الآن تقرأ نهج ما بعد الحداثيين في علم اللُغة أو في علم الدلالات خاصة مع جاك دريدا Jacques Derrida – الفيلسوف المشهور صاحب علم الكتابة – وتجد أن مُلخَّص رحلة هؤلاء أو مذهب أو طريقة هؤلاء فك الارتباط في نهاية المطاف بين الدال والمدلول، لدينا نحن لفظ قلم، هذا اسمه دال، والمدلول هو القلم نفسه الذي في أمسكه، هذا مدلول قلم، كما نقول باللُغة البسيطة الاسم والمُسمى، الاسم قلم، والمُسمى هو القلم نفسه الذي أمسكه، أليس كذلك؟ عندنا دال اسمه خاتم، دال بلفظة أو مُصطلَح خاتم، وعندنا المدلول وهو الخاتم الذي في أًصبعي، وهكذا، هذا الدال والمدلول، واضح أن الحياة لا يُمكِن أن تستمر ولا للبشر أن يتواصلوا ويتعارفوا ويتناقلوا أفكارهم وثقافاتهم وأن يُطبِّعوا أجيالهم تطبيعاً اجتماعياً وتربوياً ولا حتى أن يُقيموا بُنيانياً فكرياً ولا أن يُبدِعوا أفكاراً ونظريات ولا أي شيئ خارج وسيلة اللُغة، أليس كذلك؟ أي خارج فلسفة علاقة الدال بالمدلول، الآن ما طبيعة علاقة الدال بالمدلول؟ مبحث آخر استفاض فيه العلماء من قديم، خاصة علماء الكلام عندنا، تكلَّموا فيه سُبحان الله، غريب جداً، مبحث الاسم والمُسمى، وهذا المبحث من المباحث الشديدة الراهنية الآن – لا أقول المُعاصِرة بل الراهنية – في ما بعد الحداثة Postmodernism، خاصة في الأدبيات – Literature – أو اللآداب، في علم الأدب واللُغويات، هو هذا!
لكن باختصار أيها الإخوة الصحيح أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة تعسفية اعتباطية، بمعنى أن هذا المدلول الذي ترونه ولن أُسميه لما اختار العرب أن يُسموه خاتماً فعلوا هذا بطريقة تعسفية، كان يُمكِن أن يُسموه – مثلاً – تابادر أو تاربار أو تاخمان أو تامخان وينتهي الأمر، أليس كذلك؟ بالألماني اسمه Ring، أي حلقة أو خاتم، هذا عادي ولا تُوجَد مُشكِلة، أليس كذلك؟ ليس عندنا مُشكِلة، علاقة اعتباطية، لكن هذه العلاقة الاعتباطية مُفيدة أو غير مُفيدة؟ مُفيدة، مُجدية أو غير مُجدية؟ مُجدية، فاعلة أو غير فاعلة؟ فاعلة، ناجعة أو غير ناجعة؟ ناجعة وانتهى الأمر، نحن كعرب تسالمنا وتواطأنا على أن نُسميه الخاتم، فإذا سمعت لفظة خاتم مُباشَرةً قفز إلى ذهنك هذا المدلول، انتهى الأمر، ليس عندنا مُشكِلة، وكل لُغة تُسميه بما تُريده، إلى الآن نحن مُتفِقون والبشر كلهم مُتفِقون على هذا، لكن ما بعد الحداثيين هؤلاء وقالوا لا، طبعاً بفلسفة كسيحة سخيفة جداً جداً جداً من السهل نقدها، من السهل وليس من الصعب، قالوا لا، أصلاً كل دال يأخذ مدولوله والمدلول يأخذ معناه من دال آخر وهكذا تستمر اللعبة إلى ما لا نهاية، غير صحيح، وهناك دليل دون أن ننقد هذا، أنا كان لي مُحاضَرة في الموضوع هذا قبل ربما سنة ونصف، دون أن نتكلَّم عن نقد هذ الفكرة يُوجَد شيئ في البين – في الوسط – يُؤكِّد أن هذه الفكرة كسيحة وغير صحيحة وغير عملية، هل تعرفون لماذا؟ لأن العمل على ضدها، الذي يحصل أننا دون أن نذهب مع أي لفظة إلى آخر جذرها الدلالي نحن نفهم مدلولها ونتواصل ونتعاطى، إذن هذا كلام تخبيص، هذا كلام سفسطات، الباطنية هؤلاء الزنادقة الخبثاء والأذكياء – الذكاء السلبي – قالوا لا سبيل إلى نقد الشريعة المُحمَّدية هذه، أصول الباطنية مَن هم؟ أصولهم أُناس أعاجم دخلوا في دين الله على كرهٍ وعندهم ثارات عصبية فلم يقتنعوا بالدين هذا، يكرهون هذا الدين، يكرهونه ولكن لا يُمكِن تركه، في الأعصار كلها كان حد المُرتَد القتل، وحتى حد المُعادي الدين والمُناويء طبعاً سوف يكون صعباً، إما أن ترسخ في الدين أو تخضع في الدين – تصوَّر – وتدفع الجزية وإما أن تُقتَل، هذا كان صعباً، فبماذا تحيَّلوا؟ تحيَّلوا بهذه الحيلة، أظهروا الإسلام وقالوا نحن نُريد أن نفهم الإسلام ولنا مناهج خاصة، ما هذه المناهج؟ تعتمد – هذه حقيقة الباطنية بجُملة واحدة – العمل على فك الارتباط بين الدال والمدلول، وهذا شيئ خطير جداً جداً جداً، بحُجة ماذا؟ طبعاً بحُجة مُقدَّمات كلها ليست جدالية، مُقدَّمات مدخولة ومُغالَطية كلها، مُغالطَات فارغة، أن هناك لكل شيئ – قالوا – ظاهراً وباطناً، كذلك النصوص الشرعية والأوضاع الشرعية لها ظواهر ولها بواطن، الظواهر حين سبرها مُقارَنةً ببواطنها تتناقض معها، مُتناقِضة مع البواطن، البواطن هي المُرادة، والظواهر لا يُريدها الشارع، وهذا كذب، هذا للجهلة وللعوام والطغام، يأخذون الظواهر كما هي، هل هذا واضح؟
ما العلاقة بين الظاهر والباطن؟ قالوا لك علاقة تناقض، علاقة تناقض؟ غريب! الظواهر تُؤخَذ بالدوال، أليس كذلك؟ لها مدلولات، قالوا لا، غير صحيح، في الوضع الشرعي غير صحيح، المدلول الذي ذهبت إليه أنت ليس هو المدلول المُراد للشارع، طبعاً من أين لهم هذا؟ لا يُوجَد أي دليل، قالوا عن المعصوم، لذلك يُسمون التعليمية، ما المُراد بالتعليمية؟ قالوا العلوم والمعارف الدينية اللدنية لا تُؤخَذ من كُتب ولا بالعقل ولا بالمُحاجة، تُؤخَذ من إمام معصوم موجود في كل زمان، هذا الإمام هو الذي يُعلِّمنا هذه الأسرار، نتحفَّظ عليها ونُعلِّمها أبناءنا وبناتنا ونساءنا وأحبابنا والذين ندعوهم – يُوجَد دُعاة لهؤلاء الإسماعيلية – واحداً عن واحد، فماً لفم، رجلاً لرجل، امرأة لامرأة، وهكذا!
فذهبوا – مثلاً – إلى لفظ الجماع – نفترض – في كتاب الله أو النكاح، قالوا النكاح أو الجماع ليس هو كما تظنون بحسب الظاهر السخيف هذا، الشريعة لا تعلم بهذه الأمور، إذن ما هو؟ قالوا الجماع – والعياذ بالله – هو مُكالَمة ودعوة مَن لا عهد له بأسرار الباطن، هذا هو الجماع، فإذا قرأت كلمة جماع أو نكاح في الكتاب هو السُنة اعلم أن هذا المقصود بها، أنك تأتي تُبلِّغ الدعوة إلى الخالي منها، لا عهد له بهذه المعاني، هذا اسمه الجماع، عجيب! والطهارة ماذا عنها؟ قالوا الطهارة أن تُخلي نفسك من كل العقائدة الرديئة المُردية التي تُخالِف مذهبنا الباطن الصحيح، هذه الطهارة، أما حكاية الوضوء والغُسل كله كلام فارغ، هذا للكفرة، يُسموننا الكفرة، يُسمون أهل السُنة والزيدية والإمامية والإباضية والمُعتزِلة وما إلى ذلك الكفرة، هؤلاء كفّار، اسمنا أهل الظاهر الكفّار المُشرِكون، نحن – قالوا – المُؤمِنين، نحن المُؤمِنين، عجيب! وقالوا هذا معنى الطهارة، لذلك الباطني لا يتطهَّر، يأتي أهله ولا يغتسل، لا يُؤمِن بهذه الأشياء، يقول لك هذه الأشياء كلها كلام فارغ، المقصود أن تُطهِّر نفسك من أي عقائد مُخالِفة للباطن، الزكاة ماذا عنها؟ ما هي الزكاة؟ الزكاة بث هذه العلوم، ليست المال، لا تُخرِج مالاً وما إلى ذلك، قالوا لك لا، هذا كلام فارغ، مال ماذا؟ بث هذه العلوم، ادع إليها غيرك من الناس واقنعهم بها، وعندهم طرق غريبة ومراتب، مراتب للدُعاة ومراتب للإقناع، وتقوم كلها على المكر والخبث والدهاء، لا يأتيك أحدهم من أول مرة ويقول لك نحن باطنية وما إلى ذلك، يأتيك مُوافِقاً لك في مُعظَم عقائدك، يُسعِدك بالمُوافَقة هذه، ويبدأ بعد ذلك يُلقي إليك الشُبه قليلاً قليلاً، كلما اقتنعت بشُبهة زادك منها – أعطاك هذا السم القتّال – حتى ينتهي بك الأمر إن غلبت عليك الشقاوة إلى اعتناق مبادئهم الباطنية الزنديقة هذه، هذه زندقة! زندقة وانحلال حقيقي والعياذ بالله، لذلك هؤلاء ليس عندهم مُحرَّمات كالتي نعرفها، هذا غير موجود، يأتون الأمهات والبنات والرجال وما إلى ذلك، كل شيئ عندهم مُباح، لأن هذه الأشياء وهذه الأوضاع كلها يعتبرونها شكراً وكفراً لا يُتعبَّد بها!
الحج ماذا عنه؟ قالوا الحج ليس الحج إلى هذه الكعبة السمراء، هذا كلام فارغ ليس له معنى، هذه وثنية، إذن ما الحج؟ الحج إلى طلب العلم الباطني، وخاصة إلى الإمام، إذا وُجِدَ إمام معصوم مثل آغا خان – الإمام الإسماعيلي – تذهب وتسافر له، هذا هو الحج، تطلب العلم على يديه، قال الله إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۩، قالوا المقصود بقوله الصَّفَا ۩ النبي، ليس هذا الجبل الصغير الذي ترونه، والمقصود بقوله وَالْمَرْوَةَ ۩ عليّ عليه السلام، وكم لقيَ عليّ من هؤلاء الزنادقة؟ اليوم الأخ حمدي قال لي المُشكِلة في مُوالاة عليّ – عليه السلام – أن هناك طوائف ألَّهته، طوائف – مثل هذه الطوائف – والعياذ بالله – باطنية زنديقة، قلت له ماذا يعني؟ هل معنى ذلك أن ننزع عن مُوالاة عليّ أو نقصه حقه وقدره من أجل ألا يُتخَذ ذلك ذريعةً إلى تأليهه كما ألَّهه قومٌ، حاشا لله يا أخي، عيسى – عليه السلام – أُلِّه، هل هذا يعني أن أحسن شيئاً أن ننزع عنه النبوة ومن ثم نقول هذا لا هو نبي ولا هو رسول، هذا عبدٌ عادي؟ غير صحيح، الصحيح أن تقول عبد الله ورسوله وكلمته إلى مريم وروح منه، هكذا قال الله، قال إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ ۩، يجب أن تُؤمِن بهذا، كلمة من الله وروح من الله وعبد الله ورسوله وواحد من الخمسة أولي العزم من الرُسل، لا تنقصه عن مقامه قيد أنملة، وكذلك الحال مع مَن؟ مع عليّ عليه السلام، كل ما ثبت له بصحيح الشريعة نُثبِته له، كل فضائله وكل شيئ ثبت له نقوله، لكن لا نزيد، لا نُؤلِّف شيئاً من عندنا، لكن ما دام ثابت نُثبِته ولا نتراجع عنه، ونُظهِر محبته ومُوالاتنا على القدر الذي أراده الله ورسوله، مثلما أوصانا الله ورسوله في هذا الرجل العظيم، قال لي صحيح، قلت له هذا هو العدل، لكن لا يجوز أن نقول غيره، وإلا بنفس الذريعة نقول خشية أن يتذرَّع الناس في النهاية ببعض الأشياء عن رسول الله إلى تأليه الرسول وتربيبه ربما سوف نسكت عن بعض معاجز الرسول وعن بعض خوارقه وندفنها حتى لا يعظم النبي مزيد تعظيم، بالعكس نحن نفعل كما فعل الرسول مع أصحابه وأتباعه، قال لهم دعوا هذا، لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله، رسول هذا، لا أنقصه عن مرتبة الرسالة، أليس كذلك؟ كذلك عليّ – عليه لسلام – لا أنقصه عما ثبت له شرعاً، وإلا هذا – والله العظيم – من الظلم البيّن، علماً بأن بمثل هذا الظلم يُظلَم علماء ودُعاة، قالوا لا، علينا أن نغض منه قليلاً وأن نُحارِبه قليلاً وأن نُزهِّد الناس فيه وأن وأن وأن لئلا يُفتَن الناس به وهذا كذب، كذب كله من أجل ماذا؟ من أجل شفاء الغيظ – والعياذ بالله – ومن أجل إنفاذ الحسد المكنون في قلوبهم، قالوا هذا باسم المُحافَظة على عقائد الناس ودين الناس حتى لا يُفتَنوا بهذا العالم فنُريد أن نغض منهم، لا تخافوا، الله – تبارك وتعالى – يُقيم من الحُجج والبيّنات والأدلة حتى في حق أنبيائه لئلا يُؤلَّهوا، عيسى – عليه السلام – قبائل في أستراليا رفضت ما زُعِمَ فيه من الألوهية، قبائل الأقزام البدائيين Primitive، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، قبائل بدائية لما بلغتهم دعوة عيسى رفضوا، قالوا لا، هذا كلام فارغ، لماذا؟ زعيمهم هناك وهو رجل أُمي بدائي لكن على الفطرة قالوا له عيسى كذا وكذا وهو ابن الرب والرب افتدى البشرية به وكذا وكذا فقال كيف هو الرب وابن الرب؟ قال لهم هل يمشي على الأرض؟ قالوا له يمشي على الأرض مثلنا، قال لهم هل كان يأكل ويشرب؟ – والله أسترالي قال هذا -فقالوا نعم، قال لهم هل كان يُخرِج؟ قالوا أكيد، قال لا، هذا كذب، هذا الدين كله غلط، أنا لا آخذ هذا، لا تخف، ربنا جاعل في حق الأنبياء وفي حق الأولياء والأئمة وما إلى ذلك علائم البشرية والمخلوقية، أليس كذلك؟ أن يُقتَل وأن يُسفَك دمه وأن يتعب وأن يشتكي وأن يمرض وأن وأن وأن، هذا بشر يا حبيبي، هذا ليس إلهاً ولا يكون إلهاً، هذا كلام فارغ، إلا على طريقة الباطنية، أرأيت؟ طريقة الباطنية تُفكِّك الصلة وتفك الارتباط بين الدال والمدلول، العقل الباطني هذا المخبول، هذا عقل مخبول وبتعبير أبي حامد الغزّالي لا حاصل له، قال والحاصل أنه لا حاصل لهم، هكذا ببساطة، قال أتُريد أن أُلخِّص لك قضية الباطنية؟ الحاصل أنه لا حاصل لهم، هل تعرف لماذا؟ لا يُوجَد شيئ تمسكهم منه أصلاً، لا يتفقون معك على أي مبدأ، هناك أشياء يُسمونها المباديء في الفكر، قال لك كل البشر وكل الفلسفات عندهم قوانين للفكر، أليس كذلك؟ وقوانين للنقاش والمُحاجة، مباديء يتفق عليها الخصمان، هذا لا يتفق معك على حتى مدلولات الدوال، لا يُمكِن النقاش مع هؤلاء، هؤلاء هم الزنادقة الحقيقيون والعياذ بالله، هؤلاء زنادقة حقيقيون، غير هذا أي أحد مِن أهل المِلة كأن تقول لي هذا سُني أشعري أو ماتُريدي أو حنبلي أو شيعي أو زيدي أو إباضي أو مُعتزِلي يُمكِن أن يُناقَش، فكل هؤلاء على العكس يُمكِن أن تُناقِشهم وأن يُناقِشوك وأن تلتزموا بأشياء مُعيَّنة على الرغم من الطرفين، لن تقرأ كلاماً ككلام أبي حامد في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، كلام من أجمل ما يكون وكان بودي اليوم أن أقرأه، الرجل أتى بقانون عجيب غريب، لم يُسبَق إليه، طبعاً وهو ضد التكفير، قال لك الذي لا يُسارِع إليه إلا الجهلة، ما حقيقة التكفير؟ ما حقيقة التصديق؟ قال لك سأُعطيك إياها بكلمة واحدة وسأُعطيك علامة مُطرِدة مُنعكِسة، هذا هو التصديق وهذا هو الكفر، جيد لكن هذا لا يزال غير كافٍ، كيف؟ قال لك الوجود خمس مراتب، كل مَن أوَّل نصاً شرعياً بحيث يتفق مع إثبات المُخبَر عنه – مدلول النص – وفق مرتبة وجودية أنا لا أُكفِّره، شيئ عجيب الرجل، قال لك هناك الوجود الذاتي والوجود الحسي والوجود الخيالي والوجود العقلي والوجود الشبهي، خمس مراتب! إذا أوَّلت النص بطريقة تحمله على مرتبة منها أنا لا أستطيع أن أُكفِّرك ولا تكون مُكذِّباً للنص، رهيب الرجل، واسع الرحاب، واسع المنادح ما شاء الله عليه، لذلك هذا من أجمل ما في الغزّالي، قال لك ماذا يبقى من الغزّالي لنا في هذا العصر؟ أنا أقول لك يبقى هذا، يبقى أن الرجل – سُبحان الله – واسع الرحاب والمنادح ضد التكفير، الرجل بنى سدوداً عالية لكن بعيدة المدى – ولك أن تتخيَّل هذا – ضد طوفان التكفير، شيئ غريب، رحمة الله عليه، عقل جبّار فعلاً، وهذا ليس عقل فقيه، الفقيه لا يستطيع هذا ولا يعرفه، هذا عقل فعلاً مُتكلِّم أصولي فيلسوف منطيق فقيه، هذا عقل الغزّالي، فالذي عنده فيصل التفرقة أنا أنصحه أن يقرأه، وتقرأه أيضاً في جلسة، في أربعين دقيقة، من أجمل ومن أغرب ما يكون، ويأتيك بأمثلة لمعرفة كيف يُحمَل النص على الوجود الذاتي وعلى الوجود الحسي وعلى الوجود الخيالي وعلى الوجود العقلي وعلى الوجود الشبهي، وهكذا لا يُكفِّر أحداً من أهل القبلة، قال وأختم لك بوصية وقانون، وصيتي كف لسانك ما أمكن عن تكفير أهل القبلة، هؤلاء أُناس يُصلون الصلوات الخمس لكن الباطنية لا يصلون، لا يعترفون بهذا لأنهم زنادقة، ولا يحجون ولا يُؤمِنون بكل هذه المسائل، يقولون هذا ويُعلِّمونه لأولادهم والعياذ بالله، أما الذين يُصلون الصلوات الخمس ويصومون رمضان ويحجون إلى مكة إياكم أن تُكفِّرهم قال أبو حامد، إياك وألا تتورَّط ورطة كبيرة، وأتى بمسائل مما يُكفَّر بها وقال هذه لا يُكفَّر بها مثل الإمامة والخلافة، قال هذه ليست من مسائل أصول الدين، هذا كذب، وأثبت لك هذا بطريقته الخاصة رحمة الله عليه.
على كل حال إذن هذه طريقة الباطنية والعياذ بالله، أخطر طريقة مُمكِنة، وبالمُناسَبة لا يقبلها سليم العقل – تام فعلاً مقبول – إلا لو تأتى للكفر، هو يُريد أن يكفر، يتزندق ويستحل كل ما حرَّمت الشرائع، يقول لك أنا أُؤمِن بطريقتي هذه، آمن يا حبيبي، آمن لكن أنت هلكت في الدنيا والآخرة والعياذ بالله، لكن هؤلاء الناس بلغ من شرهم – والعياذ بالله – أنهم لم يكتفوا بإضلال بعض العامة وبعض الأغمار وإنما بدأوا في تصفية جسدية لمَن يتصدى لأفكارهم ودعواتهم، فكما قلت لكم قضوا على قيادات روحية وقيادات سياسية، من أشهر الساسة الذين قُضيَ عليهم – كما قلنا لكم – نظام المُلك، هذا الوزير العظيم والفقيه إلى حدٍ ما – لك أن تتخيَّل هذا – والرجل الصالح – رحمة الله عليه – حارب الباطنية حرباً شعواء، وفتح هذه الجامعات النظامية لكي يُحارِب الباطنية وتيار الباطنية، بالذات من أجل تيار الباطنية فاغتالوه، قتلوه! كان عندهم طرق عجيبة جداً جداً في الوصول إلى الملوك والوزراء، مثل طرق الجماعات السرية العالمية هذه، يتوسَّلون وسائل مُختلِفة فيُصبِح أحدهم خادماً أو سائساً للفرس ثم يُنفِّذ ما يُريد، هذا عادي بالنسبة له، ويفدي نفسه، يُقتَل بعد ذلك، يقول لك أُقتَل في سبيل الدعوة، ليس عندي أي مُشكِلة لكن أقتل هذا المُجرِم، يقتل هذا المُسلِم، يقول أبو الفرج بن الجوزي في المُنتظَم في تاريخ الملوك والأمم – تاريخ ابن الجوزي – حتى دب الهلع والخوف والرُعب في الناس – والعياذ بالله – فصار إذا خرج رجل أو طفل أو امرأة ولم يعد بعد العصر – قُبيل المغرب – أُيسَ منه، يُعرَف أنهم أخذوه فقتلوه، قتل! يأخذونه ويذبحونه ثم يرمونه في بئر أو في مغارة أو في صحراء بعيدة بحسب الطريقة التي سيُنفِّذونها ضد هذا المسكين، ففي هذه الظروف أبو حامد تصدى لهم رحمة الله تعالى عليه.
قد يكون من الجميل في المُحاضَرات المُقبِلة أن آتي بكتابه فضائح الباطنية وأتلو عليكم بعض أنماط ونماذج من نقاشه لهم، كيف ناقش هؤلاء؟ لأن أصعب شيئ أن تُناقِشهم، وفي الحقيقة هو ليس نقاشاً وإنما هدم، هو هدم، لأن هؤلاء لا نقاش معهم كما قلنا لك، كيف تُناقِش مَن لا حاصل له؟ كيف تُناقِش مَن لا يتفق معك على مبدأ؟ بالمُناسَبة هذا الباطني يُحتمَل عنده تماماً – لأن لا مبدأ لديه في الفكر – أن تُلزِمه بشيئ مثلاً فيُوافِقك في اللحظة ثم يقول لك لا، تقول له ولكن هذا يلزم من هذا، يقول لك لا، لا يلزم هذا منه، أنا عندي لا يلزم، لماذا؟ تقول له بناء على قانون التناقض هذا يلزم منه كذا وكذا، يقول لك لا، أنا لا أُؤمِن بهذا القانون أصلاً كله، لا أُؤمِن به، غير صحيح، لا مبدأ لهم، شيئ صعب جداً، إذن واضح أن هؤلاء ليسوا أرباب فكر ولا أصحاب مُعتقَد سليم ولا طلّاب حقيقة أصلاً، هؤلاء لديهم ثأر أرادوا أن يُصفوه مع الإسلام، فقط هذا هو، عندهم ثأر مع توحيد ومع دين محمد، فقط هذا هو، عندهم اعتقاد مُطلَق ببطلان هذا الدين، وأرادوا أن يُبطِلوه من الداخل، فلذلك انظر إلى مدى النعمة على هذه الأمة لما يقوم عالم مثل أبي حامد ويتصدى لهم بهذه الكُتب التي طبَّقت فعلاً شهرته الشرق والغرب، طبعها مُستشرِقون وطبعها إسلاميون وغير إسلاميين، فهذا ما يتعلَّق بالباطن على جهة الاختصار إن شاء الله تعالى.
بالنسبة لموقف أبي حامد من علم الكلام فيه طبعاً كلام طويل لكن نُلخِّصه في جُمل إن شاء الله تعالى، علم الكلام ما هو باختصار؟ علم الكلام يا إخواني هو علم العقيدة أو علم التوحيد أو أصول الدين لكن الذي يستخدم ويصطنع الطرق والبراهين العقلية لإثبات الحقائق المِلية العقدية، أي أنه لا يكتفي بالنقل، لا يُثبِت لك العقيدة عن طريق قوله قال الله تعالى وقال الرسول إذن هذه الرسول ثبتت، هذا لا يكفيه، لذلك علم الكلام ينقسم إلى قسمين رئيسين: دقيق الكلام وجليل الكلام، هذا معروف، هناك دقيق الكلام وهناك جليل الكلام، دقيق الكلام ما هو؟ باختصار هي المُقدِّمات المنطقية والعقلية التي يصطنعها علماء الكلام في المُحاجة الكلامية، أي الحديث عن الجوهر والعَرض وعن المقولات العشر بشكل عام والحديث عن الإمكان وأنواع الإمكان والوجوب وأنواع الوجوب والاستحالة وأنواع الاستحالة وأمثال هذه المباديء، فضلاً عن الحديث عن جوهر الفرد، أي الذرة وهل تنقسم أو لا تنقسم؟ كل هذا يدخل فيما يُسمى بطبيعيات الكلام أيضاً، أي عقليات الكلام وطبيعيات الكلام، الحديث في البسيط والمُركَّب، في الجوهر الفرد ينقسم أو لا ينقسم؟ في الملاء والخلاء، في توسع الكون وهذا عجيب، لأن حتى الفلاسفة تكلَّموا في هذا وكذلك علماء الكلام، علماء الكلام تكلَّموا حتى في توسع الكون، والغريب أن أبا حامد الغزّالي رحمة الله عليه – ولعلي أختم بهذا إذا الوقت تضيَّق – تناول هذه المسألة ورد عليه فيها ابن رشد في تهافت التهافت إلا أن أبا حامد كان موقفه راسخاً جداً ضد الموقف الفلسفي الذي يُنكِر أن الكون يتوسَّع، الفلاسفة كلهم قالوا لا، أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato وابن رشد وغيرهم قالوا لا، الكون ثابت، لا يتسع، هذا مُستحيل، مُستحيل أن يتسع، أبو حامد قال لهم كيف يُقال مُستحيل؟ بالعكس مُستحيل كلامكم هذا والمفروض أن الكون قابل للاتساع باستمرار، وأتى بأدلة – لو المقام كان يتسع لذكرناها – من أجمل ما يكون، طبعاً أنتم تعلمون الآن أن العلم أبى إلا أن ينصر مَن؟ أبا حامد الغزّالي، The Expanding of Universe، العلم قال لا، وهذه تقريباً أصبحت حقيقة تجريبية مرصودة بطريقة الـ Redshift and blueshift، أي الإزاحة الحمراء والإزاحة الزرقاء، أليس كذلك؟ كلما كانت ناحية الأحمر دل هذا على أنها تتباعد عنا، وكلما كانت ناحية الأزرق دل هذا على أنها تقترب منا، فأصبحت قضية شبه محسوسة هذه، انتهى الأمر، قضية إمبريقية تجريبية رأيناها بالوسائل، فجاء العلم ونصر موقف أبي حامد الغزّالي، رجل – كما قلت لك – ذكي ذكاء غير طبيعي، مثل هذه المسألة لفتني تماماً موقفه من مسألة البسيط والمُتعدِّد، أي المُركَّب، وذلك حين أنكر الفلاسفة حشر الأجساد، قالوا ليس عندنا مُشكِلة مع حشر الأرواح، تُحشَر وتُنعَّم وما إلى ذلك، لكن الأبدان مُستحيل، لماذا؟ قالوا الأبدان هذه مُركَّبة، أليس كذلك؟ هي مُركَّبة من جواهر كثيرة، بعد ذلك يحدث لها ماذا؟ الانحلال والفساد، ثم لا تعود كما كانت بخلاف البسيط، البسيط الذي لا ينحل كالنور، هم يُمثِّلون للبسيط بماذا؟ بالنور، اليوم بلُغة الفيزياء – Physics – ما هو؟ الفوتون Photon، الفوتون Photon فعلاً بسيط وهذا معروف، قالوا لا ينحل إلى ما هو أقل منه، قالوا هذا البسيط لا ينحل، يبقى كما هو، الروح بسيط، البدن مُركَّب، فالبدن ينحل وهذا يعني أن الكلام غير صحيح، هل تعرف ماذا قال لهم أبو حامد؟ غريب الرجل هذا يا أخي، غريب! قلت لك عقل جبّار، فعلاً من الصعب إدراك مدى سعة هذا العقل واندياحه، قال لهم أصلاً هذا المُركَّب لو تنظرون فيه هو ينحل إلى بسائط، وأصله في نهاية المطاف بسيط، كل مُركَّب بسيط، وهذا اليوم هو لُغة الفيزياء، أليس كذلك؟ كل الكون هذا – النجوم والكواكب والسُدم والحيوان والإنسان وكذا وكذا – في النهاية مُركَّب من ذرات، وكل الذرات من جُسيمات دقيقة جداً، وهذه الجُسيمات تنحل إلى ما هو أدق حتى نصل في النهاية إلى عائلات دقيقة من الجُسيمات الدقيقة المفروض أنها إلى الآن لا تنحل إلى ما هو أدق منها، فكل مُركَّب اتضح أنه في النهاية بسيط، فما الذي يمنع من إعادته؟ قال لهم، لكن هذا لم يكن معروفاً أيام أبي حامد الغزّالي، هذا عُرِف في هذا العصر، عقله عرف هذا!
هناك مسألة أغرب من هذا، قلت لك عقل جبّار، لكي تتكلَّم عن أبي حامد المُتكلِّم ينبغي أن تعرف هذا، بعض المُستشرِقين – ومنهم كرا دي فو Carra de Vaux – اعتبروا أن علم الكلام الإسلامي أدق وأعمق وأبعد غوراً من الفلسفة، قالوا بالعكس، دقيق جداً جداً جداً وذكي هذا العلم، وفعلاً العلم الآن يُؤيِّد مقولات المُتكلِّمين الكثيرة على مقولات الفلاسفة، سُبحان الله العلم اليوم يفعل هذا، العلم الإمبريقي يقول هذا حتى في حدوث الكون، العلم الآن يُؤيِّد حدوث الكون وحدَّد له مبدأ لحدوثه، لكل الكون هذا! ثلاثة عشر ملياراً وسبعة مليون سنة، عجيب! العلم يقول هذا، وأبو حامد أثبت هذا، لكن كيف أثبته؟ شيئ لا يُصدَّق، أبو حامد رفض التفكيك بين المكان والزمان، وكأنه سبق ألبرت أينشتاين Albert Einstein، شيئ غريب، لكن هذا سوف نشرح فيما بعد بالتفصيل، سوف أوضِّح لك هذه الجُزئية شيئاً فشيئاً، جميل أن تفهمهما، لكن موضوع – كما قلنا – السببية – انتهينا من موضوع حشر الأجساد – من أكثر ما شُهِر به أبو حامد الغزّالي في علم الكلام، أبو حامد في المُستصفى وفي تهافت الفلاسفة قال لك لا يُوجَد شيئ اسمه سببية بالطريقة التي استسلفها الفلاسفة، أن هناك علاقة جوهرية علية حقيقية بين سبب وما مُسبَّب عنه، أي Cause and Effect، بين العلة والمعلول، بين السبب والظاهرة، قال هذا غير صحيح، كيف غير صحيح ونحن نرى هذا دائماً؟ أرى أن الشمس تُشرِق ومن ثم النهار يعم الكون، أليس كذلك؟ تُضيء الدنيا، أرى أنني عطشان وحين أشرب أرتوي، وحين أكون جائعاً وآكل أشبع، كيف إذن؟ أليس كذلك؟ الورقة حين أُقرِّبها من النار تحترق، تُصبِح رماداً، هذه أسباب! قال لك لا، قال لك هذا كله وهم، وهذه ملكة أبي حامد الفلسفية، الرجل عنده قدرة يا جماعة عجيبة، اليوم حكيت هذا لإخواني، هل تعرفون ما سر الإبداع يا جماعة ومفتاح الوصول إلى الحقيقة؟ أن تُفكِّر خارج الصندوق كما يُقال، طالما كنت تُفكِّر داخل الصندوق لن تقدر على الإبداع، ونحن نقول من وراء الغزّالي هذا تالي أدنى ما يُميِّز العالم من العامي الغمر، تالي أدنى ما يُميِّزه، هو قال أدنى ما يُميِّز كذا وكذا، أليس كذلك؟ بعد ذلك تأتي مسألة أصعب منها قليلاً لكنها تالي أدنى ما يُميِّز العالم من الغمر الجاهل، ما هي؟ أن تُفكِّر خارج التاريخ، أن تُفكِّر خارج الرواية، أن تُفكِّر خارج المألوف، أن تُفكِّر خارج السائد، كيف؟ الآن – مثلاً نفترض – الشيعي إذا أبى أن يُفكِّر مُتناوِلاً أصحاب رسول الله – مثلاً نفترض – إلا داخل الرواية الشيعية مُستحيل – مُستحيل من جهتنا نحن الآن – أنه يفهم ما نُريد حتى تفهيمه إياه من تصور آخر – مثلاً – لمُشكِلة أبي بكر وعمر مع سيدنا عليّ مثلاً، لا يقدر على هذا، عنده هذا غير مُمكِن، لأنه يُصدِّق كل رواياته ويعتبرها حقاً مُطلَقاً، وكذلك السُني نفس الشيئ، السُني مُستحيل أن يتقبَّل وجهة نظر أخيه الشيعي في أبي وعمر – تصوَّر – من داخل الصندوق السُني، يستحيل، كيف؟ أحاديثه تقول كذا وكذا، لا يضع احتمالاً بنسبة واحد في الألف أن هذه الأحاديث عليه أيضاً علامة استفهام، هذا مُمكِن، لكنه لا يضع، يأتي الدور لمَن هنا؟ للعالم، لكن للعالم الحقيقي طبعاً، لا تقل لي الشيعي أو السُني، العالم الحقيقي لا هو سُني ولا شيعي، يخرج من هذه الصناديق ويُلقي نظرة على أُسس ومُستنَدات الشيعة والسُنة وفق مبادئهم في التصحيح والتضعيف والتصديق والتكذيب، وهذه المباديء التي عنده تخضع أيضاً للرقابة والنقد وإعادة البحث أيضاً، أليس كذلك؟ نحن أمس في الخُطبة فعلنا هذا، وهذا يعتبرونه كارثة وسوف يُكفِّروننا بسببه، لكن هذا هو، أنت تقول لي هناك حديث صحيح يُفيد بأن أعمالك سيحملها عنك اليهود والنصراني ثم تدخل الجنة، هذا مُؤكَّد عندك بنسبة مائة في المائة، لكن نحن نظرنا في الحديث ولم يكفنا أنه صحيح، هو حديث آحاد ويقبل أصلاً الظن من الأول والتخطئة، ووجدناه عن رجل شاهد زور تسبَّب في قتل صحابة، رجل كان يُبشِّر قاتل عمّار، يقول له أبشر بالجنة، ويقول له مرحباً بأخي، مُشاكِس ومُعانِد لرسول الله، تابعي – لا نقوله عنه جليل – مُعثَّر باعس تائس – والعياذ بالله – اسمه أبو بُردة بن أبي موسى، قالوا كيف هذا وقد وثَّقه فلان وعلان؟ لا يهمنا أنه وثَّقه، قالوا أخرج له الجماعة، لكن هذا لا يهمني، أنا عندي مباديء وأقوم بتطبيقها، هذا تفكير خارج الصندوق، أرأيتم؟ خارج الإطار، هذا التفكير يجعلك تتجرأ على إعادة النظر في أحاديث في الصحيحين بل في الكتب الستة، بدأنا نُفكِّر خارج الإطار، الشيعي حين يفعل هذا سوف يجد أنه تمرَّد على أشياء كثيرة في مروياته، بدأنا الآن نُصبِح خارج الصندوق، يُمكِن أن نصل إلى أشياء جديدة لا هي عند الشيعة ولا هي عند السُنة، وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ۩، أمور لم يُهتَد إليها بعد، لماذا؟ لأن كل المطروح هو تفكير داخل الصندوق، أبو حامد قدرته خارقة – رحمة الله عليه – في قضايا العقيدة بالذات وعلم الكلام، لو طبَّق هذا في علم الكلام في مباحث أُخرى لخرجت منه أشياء كارثية أعتقد بالنسبة لمذهبنا وما إلى ذلك، لكنه لا يقدر، لا يقدر والأمور صعبة، هو أصلاً مات وهو مُتهَم هنا بالزندقة والعلماء كانوا مُتألِّبين عليه ويدسون له في كُتبه، فأبو حامد ماذا قال لك؟ قال لا، باختصار – سوف نرجع لها طبعاً وهناك مبحث طويل له علاقة بديفيد هيوم David Hume وكل هؤلاء الجماعة لكن سنتحدَّث باختصار الآن – أبو حامد – رحمة الله تعالى عليه – لاحظ أن هذه السببية هي وهمية أوجبها توهم اقتران العلي – أن هناك علاقة اقتران علي وليس اقتراناً ظاهرياً – في حين أن الواقع هو مُجرَّد اقتران ظاهري أو تعاقب ظاهري، أي شيئ يعقب شيئ وشيئ يعقب شيئ باستمرار أو يقترن به باستمرار فأنت تظن في النهاية أن هذا سبب حقيقي في هذا – سبب حقيقي يُحدِث هذا – وأن هذا لا يحدث إلا بهذا لا عند هذا، قال هذا وهم وعنده أدلة كثيرة، هل تعرف ماذا قال وهو من أعجب أدلته؟ قال عبارة الآن تُعَد علمية في عصرنا، وهذا يجعلك – لا أعرف كيف – مذهولاً حائراً من عقل هذا الرجل الجبّار في عصره، يقول ماذا؟ يقول نحن في العادة ندأب على أن نعزو هذه السببية وهذه الاقترانات التي نُسميها علية إلى مباديء سابقة عليها، مثلاً التُراب خاصيته – يقول لك – اليبوسة والرطوبة بحسب ما يُمازِجه من ماء، نظن أن هذا هو السبب، هذا السبب في أن هذا أصبح يابساً وهذا أصبح رطباً، فضلاً عن الهواء والخفة التي هي بسبب كذا وكذا، قال ما يُدرينا؟ ما الذي يجعل مُثبِت هذا في أمان من أن تكون هذه الظاهرات لها أسباب خفية لا تزول ولا تحول ولا تتغيَّر وهي غائبة عنا ولو كانت ظاهرة لنا وظهرت مرة وغابت لعرفنا أنها هي السبب في هذا لكنها غائبة؟ هل تعرفون عن ماذا يتحدَّث الرجل؟ يتحدَّث عن التركيب الذري للمادة، اليوم عرفنا أن خواص المادة ليست تابعة للرطوبة واليوبسة والهواء والخفة وإنما تابعة لطبيعة التركيب والاعتلاق الذري والجُزيئي، وهذه الأشياء تُعزى إلى كائنات دقيقة جداً جداً اسمها إلكترون Electron وبروتون Proton ونيوترون Neutron لا نراها ولا تظهر لنا، تظهر آثارها، لكن هي لا تظهر ولا تغيب ومن ثم لا نعرفها، الرجل عجيب، أنا قلت ما هذا الخارق؟ خارق الرجل، أُقسِم بالله خارق، ذهنه غير طبيعي الرجل، ويبدو أنه فتح إلهي، هذا نوع من الفتح الإلهي!
إذن يا إخواني فعلاً هذه المسألة تُبرِز لنا عمق هذا الرجل وخارقيته في التفكير، على أنه ليس بمعصوم، ولذلك رحمة الله عليه – وربما هذا الذي يُفسِّر لنا بطريقة نرتاح معها ما قاله حين ذكر أنه عالج طرق المُتكلِّمين وجدها وافية بمقصودهم لا بمقصوده وعالج طرق الباطنية وعالج طرق الفلاسفة وبعد ذلك عالج طرق الصوفية – في نهاية المطاف قال إنه وصل إلى الحق وإلى الهُدى بنورٍ قذفه الله في قلبه، نور إلهي، المسألة تعود إلى نور إلهي، سُبحان الله! ولذلك ما أضيق الطرق على مَن لم تكن دليله يا إخواني، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُسعِدنا بالدلالة عليه والتعرف عليه وأن يقذف من نوره المُقدَّس في قلوبنا فيهدينا سُبل السلام، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: وعليكم السلام، جزى الله عنا شيخنا الفاضل الشيخ عدنان إبراهيم خيراً على هاته المُحاضَرات المُبارَكة – إن شاء الله – التي قومنا بها في مسجد الشورى في فيينا في ديسمبر عام ألفين وأحد عشر بمُناسَبة مرور تسعمائة سنة على وفاة الإمام حُجة الإسلام أبي حامد الغزّالي، سيكون للحديث بقية – إن شاء الله – فتابعونا، وإن شاء الله ستكون هناك حوالي خمس عشرة مُحاضَرة لإعطاء هذا العالم الجليل شيئاً من حقه وبعضاً من حقه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)
أضف تعليق