أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين حمداً يُوافي نعمه ويُكافيء مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً. اللهم آمين:
أما بعد إخواني الأفاضل، إخواني الفضليات:
أُحييكم جميعاً بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، هذه تذكرة سريعة، ابتدأنا بحمد الله في الحلقة الأخيرة من هذه الدورة المُبارَكة بالحديث عن نظرية المعرفة، وقلنا هذه النظرية تتصدى بالبحث ومُحاوَلة المُقارَبة والجواب لمسائل ثلاثٍ كبيرة، مسألة هل المعرفة مُمكِنة أو غير مُمكِنة، لأن السفسطائيين – مثلاً – أنكروا إمكان المعرفة من الأصل ومن الأساس، ولأن من الشكّاك مَن فعل هذا أيضاً على وجهٍ آخر، والشيئ الثاني سؤال طبيعة المعرفة، والسؤال الثالث والأخير أدوات المعرفة ومنابعها، وشرعنا في الحديث في المسألة الأولى – أعني إمكان أو إمكانية المعرفة – وقلنا إن الشكّاك ينقسمون إلى أقسام، هناك أكثر من تقسيم لأصالة الشك أو للمدرسة أو للمذهبية الشكية، فهناك الشك الإبستمولوجي أو الشك المعرفي وهذا الذي يعنينا، ضمن الشك الإبستمولوجي هناك تقسيمات، هناك تقسيم يتحدَّث عن الشك المعرفي المُطلَق، وهناك تقسيم آخر يتحدَّث عن الشك المعرفي بالمعنى الأضيق، وهناك تقسيم آخر أيضاً يتحدَّث عن الشك المعرفي بالمعنى المنهجي والشك المعرفي بالمعنى المذهبي، كل هذه تقسيمات وأعتقد بالأمثلة تُصبِح واضحة إن شاء الله تبارك وتعالى، فالشك المُطلَق هو شك بيرون Pyrrhon الذي تحدَّثنا عنه، تُوفيَ في مائتين وخمس سبعين قبل الميلاد في العهد الهلنستي، بيرون Pyrrhon كان يعتقد أن كل قضية تقبل النفي والإثبات بقوة مُتعادِلة، يقول كل قضية، فكل قضية يُمكِن أن تُثبِتها وبنفس الطريقة وبنفس القوة يُمكِن أن تنفيها، ما يُسميه علماء الأصول والفقه لدينا تكافؤ الأدلة، فبيرون Pyrrhon كان يقول بتكافؤ الأدلة، يُمكِن إثبات وجود الله ويُمكِن إثبات عدم وجود الله، أي نفي وجود الله، يُمكِن إثبات خلود النفس ويُمكِن إثبات نفي خلود النفس، يُمكِن إثبات وجود العالم الخارجي أو العيني الخارجي كما يقول الفلاسفة الميتافيزيقون ويُمكِن نفي العيني الخارجي عن الأشياء، وهكذا بقوة مُتعادِلة، هذا يُسمى الشك المُطلَق، هذا هو الشك المُطلَق.
طبعاً قلنا هناك تلميذ كان لبيرون Pyrrhon اسمه تيمون Timon هو الذي حمل لواء هذه المدرسة أو هذه الطريقة في التفكير، وبموت تيمون Timon تقريباً اختفى هذا الشك لكي يُبعَث بعد قرن وبعضهم يقول بعض قرن ونصف – المُهِم هذه اختلافات المُؤرِّخين – في الإسكندرية وبقيَ حياً إلى القرن الثالث الميلادي، فمُدة حياته وتواجده تقريباً تُغطي ستة قرون.
الشك المعرفي لا يتناقض – لأننا تحدَّثنا عن الإنكار Disbelief – مع تسليم الشاك في المُعتقَدات السائدة، لماذا؟ لأنه شكٌ معرفي، فقط بخصوص مسائل المعرفة التي نبحثها، أما الوجدانات كالحُب والكُره وهذا طيب وهذا خبيث وهذا كذا يُمكِن أن نُسلِم فيها بالذوق العام أو الحس البدهي – Common Sense – أو العقل المُشترَك، هذا أمر طبيعي، اعتقادات الناس كذلك، يُمكِن أن يكون الشاك – مثلاً – مُوافِق على دين من الأديان – غريب – ويتدين به مع أنه شاك معرفياً، اللافت للنظر أن كل أعلام الشك الإبستمولوجي كانوا يُسلِّمون بالعقائد السائدة، وهذا شيئ غريب، الآن يأتينا شخص يدّعي أنه شاك ويسير في طريق هؤلاء ويُشكِّك في كل شيئ، في أذواق الناس وفي عقائدها وفي موروثاتها وفي آدابها، نقول له أنت بدعٌ من كل الشكّاك، لم يُوجَد شاك على هذا النحو، لا بيرون Pyrrhon ولا تيمون Timon ولا أي أحد، كلهم من غير استثناء – من عند آخرهم – كانوا يتدينون بالأديان السائدة ويخضعون لمُقتضيات الذوق العام والتقاليد الشائعة بين الناس ومع ذلك عندهم شك معرفي في مسائل المعرفة، فهذا لا يتناقض مع هذا، فلابد أن نفهم هذا.
الآن الشك المعرفي من جهة منهجية ما الفرق بينه وبين الشك المعرفي من جهة مذهبية؟ طبعاً واضح، الشك إذا أصبح مذهباً فمعنى ذلك أنه أصبح عقيدة، أي أيدولوجيا، نستطيع أن نقول شبه أيديولوجيا، هو يُريد أن يشك ليشك، أصبح الشك أو آض الشك غايةً في ذاته، هو يُريد أن يشك لكي يشك فلا يُسلِّم بشيئ، هذا شك مذهبي، أما الشك المنهجي فهو كما قلنا وعبَّرنا عنه بأنه أشبه بالسلم أو الطريق التي ينتهجها الإنسان بيصل إلى غاية، فإذا وصل إلى الغاية استغنى عنها، إذا صعد بهذا السلم إلى سطحٍ استغنى عنه، لأنه وسيلة إلى غيره، فالشك المنهجي وسيلة، وسيلة إلى ماذا؟ إلى اليقين، الشك منهجياً يطلب اليقين، فإما وصل وإما انقطع، وضربنا مثلاً بمونتين Montaigne وبالذي عاصره تقريباً رينيه ديكارت René Descartes، مونتين Montaigne تُوفيَ في ألف وخمسمائة واثنين وتسعين، هذا الرجل بدأ شاكاً، طلب اليقين فشك شكاً منهجياً، لكنه لم يصل، قُطِعَ بالرجل ومات وهو في حالة عدمية نيهلية كما يُقال من التفكير، لم يصل إلى أي شيئ وتشتت، وفي آدابه وكتاباته يعرض لهذه الحالة النفسية المُؤرِّقة التي اجتاحته وهصرته هصراً في آخر حياته، رينيه ديكارت René Descartes جاء بعده بقليل – كان مُعاصِراً له – وخاض تجربة الشك وهي طبعاً الواضحة في كتبه المشهورة، في التأملات وفي مباديء الفلسفة وفي مقال في المنهج، وهذه كتب رينيه ديكارت René Descartes الشهيرة الثلاثة، الشك المنهجي يطبع هذه الكتب ثلاثتها، ديكارت Descartes انتهى من الشك إلى ماذا؟ إلى اليقين، والعجيب أن ديكارت Descartes وهو المعدود كأب للفلسفة العقلية الحديثة وهي الفلسلفة التي نهضت لمُناهضة فلسفة الشك سواء في شكل ثورة مونتين Montaigne أو غيره استثنى النص الديني، نحن قلنا بدايةً من عشر النهضة اجتاحت موجات من الشك العقل العام، وذكرنا بعض الأسباب، منها الكشوف الجغرافية ومنها عودة المُبشِّرين من الشرق الأقصى وإلى آخره، فحدث شك عند الناس، بدأوا يشكون في دينهم وفي أصالة دينهم وفي صدقية مُعتقَداتهم، موجة شك تصدى لها رينيه ديكارت René Descartes، وفي الفلسفة أيضاً معرفياً تصدى ديكارت Descartes، العجيب أن ديكارت Descartes مُؤسِّس الفلسفة العقلية ويُعتبَر أبا الفلسفة الحديثة – أبو الفلسفة الغربية الحديثة رينيه ديكارت René Descartes، وهو طبعاً أبو الفلسفة العقلية الغربية على وجه التخصيص – استثنى النص الديني، من ماذا؟ من سُلطة العقل، قال النص الديني شيئ آخر، النص الديني يُؤخَذ بلطف إلهي، طبعاً مفهوم اللطف أو النعمة – Grace – مفهوم نصراني، قال النص الديني نازل ويُؤخَذ ويُفهَم بلطفٍ إلهي، وليس من الصحيح أن نُعمِل فيه قوة العقل، فهو جعله استثناءً، الذي أُرجِّحه والذي رجَّحه كثير من مُؤرِّخي الفلسفة أن ديكارت Descartes فعل هذا مُحافَظةً على حياته، وإلا الرجل فيلسوف مذهبي نسقي، فعليه أن يُطبِّق مبادئه على كل شيئ، فلماذا استثنى النص الديني؟ خاف، مع أنه في الوقت عينه عارض وناهض كلتي السُلطتين: السُلطة الدينية مُمثَّلةً في الكنيسة والسُلطة العلمية مُمثَّلةً في أرسطو Aristotle ومدرسته، فهو ناهض السُلطتين وعبَّر عن ذلك، لكنه قال المسائل الوحيانية – مسائل الوحي والعقائد – على العين والرأس، وهذه حتى لا نُعمِل فيها العقل، فهنا لم يكن عقلانياً، لدى حديثنا بعد قليل عن العقلانية – Rationalism – سوف نرى أن لها عدة معانٍ، من ضمن هذه المعاني ما لا يستثني النص الديني، يُعاد تأويل النص الديني بمُقتضى العقل كما فعل الديكارتي الكبير أيضاً – أول خلف ديكارت Descartes من العظماء – باروخ سبينوزا Baruch Spinoza اليهودي الهولندي إسباني الأصل، فهذا أعمل العقل في كل شيئ وبالذات النص الديني، ورسالته الشهيرة جداً رسالة في اللاهوت والسياسة تشهد بذلك وتشهد عليه.
الشك المنهجي إخواني لم يبدأ مع ديكارت Descartes، نحن قلنا في الحلقة السابقة أبو حامد الغزالي – مثلاً – كان أستاذ ديكارت Descartes الحقيقي في هذا الباب وهو صورة مُستنسَخة منه أو بالأحرى مسروقة، صورة مسروقة وغير معزوة، لكن حتى أبو حامد لم يكن هو البداية، في تراثنا هناك الحسن بن الهيثم مثلاً، وكان يُؤكِّد على قيمة الشك المنهجي، وكان يقول الحقيقة تكمن في بطن الشك، وعنده كتاب اسمه الشكوك طبعاً، هذ المنهج الإسلامي، لا تُوجَد حقيقة تُؤخَذ من غير مُساءلة ومن غير اختبار وإعادة اختبار وطرح تشغيبات وشُبهات، هذا التفكير الإسلامي الأصيل وليس التفكير التقليدي، الجاحظ – مثلاً – المُفكِّر والأديب المُعتزِلي الشهير يتكلَّم عن الشك بتمجيد طويل في كتبه ويدعو إليه، فلابد أن تبدأ شاكاً، لكن الجاحظ ليس البداية وليس حتى النص الإسلامي هو البداية، البداية أيضاً تنحدر قدماً إلى سقراط Socrates، سقراط Socrates يُعتبَر من شيوخ الشكّاكين منهجياً، وشكه كان ذا شُعبتين، الشُعبة السلبية والشُعبة الإيجابية، الشُعبة السلبية المعروفة بالتهكم السقراطي سوفرتاطك Socratic irony، وكانت وظيفة التهكم السقراطي التخلية، أن يُخلى العقل من الأفكا الفاسدة والأفكار غير الصالحة بالتهكم، يطرح عليك شيئاً فأنت تُعرِب عما تعتقد ويبدأ هو يسخر من هذا أو يحملك أو يحمل الآخرين على أن يسخروا من هذه الفكرة، يقول لك هل أنت تعتقد بهذا الكلام؟ بطريقة مُعيَّنة، هذا اسمه الشك السقراطي، وبعد أن تتنازل عن هذه الفكرة وتكون وتُصبِح مُستعِداً أن تتخلى عنها – مُصطلح التخلي هو مُصطلَح صوفي، التخلية والتحلية – وتُخلي ذهنك من هذه الفكرة يبدأ بالجانب الإيجابي أو بالشُعبة الثانية الإيجابية وهي استيلاد الفكرة الصحيحة، سقراط Socrates لا يُلقِّن، سقراط Socrates طريقته لم تكن تقوم على التلقين وإطعام الأفكار واستجوافها وبلعها، لا يُوجَد استجواف في الأفكار، وإنم تقوم طريقته على استيلاد الأفكار، بطريق ماذا؟ الحوار Dialogue، الحوار العميق والهاديء، أي على نار هادئة، في نهاية المطاف أنت تشعر من نفسك بأنك تَلميذ – مفتوحة التاء – وأستاذ، فأنت تلميذ عبر الحوار مع سقراط Socrates وأستاذ لأنك تشعر أن هذه الفكرة فعلاً كانت لديك وأنه أمكنك أن تصل إليها بضرب من ضروب الهداية، فهو هداك عبر هذا الحوار حتى لا يشق عليك، وهذا أسلوب تربوي ناجح، فهو لا يقوم على التلقين فقط وإنما على المُحاوَرة، لدينا في الفقه الإسلامي أكبر إمام اشتغل على هذه الطريقة ونجح فيها وهو أبو حنيفة النعمان رضوان الله عليه، أبو حنيفة لم يكن يُلقِّن تلميذه، كان يستخرج الأحكام بالمُحاوَرة الدائمة معهم، والمسألة قد تستخرج أسبوعاً أو أسبوعين أو شهوراً، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، بعض المسائل تستغرق شهوراً طويلة، ومع كم؟ مع ألف من التلاميذ، كان له ألف، فحلقته فيها ألف من طلّاب العلم الذين يتخرَّجون به، يُحصَرون ويُختزَلون ويُصفَون بعد ذلك في مائة والمائة في عشرة والعشرة في اثنين، يعقوب بن إبراهيم الكُليني المعروف بأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني صاحب الكتب الشهيرة طبعاً وله فضل كبير على المذهب، فسقراط Socrates كان كذلك.
أرسطو Aristotle في كتابه ما بعد الطبيعة – هو طبعاً لم يُسمه كذلك كما قلنا لكم، لكنه سُميَ ما بعد الطبيعة – يدعو إلى الشك المنهجي، لا يُسميه شكاً منهجياً لكنه يدعو إلى الشك، أنت تشك في كل شيئ وأن تُعيد اختبار كل شيئ، إذن أرسطو Aristotle كان يقول بالشك المنهجي، وهكذا أفلاطون Plato إلى حدٍ ما، والتراث الإسلامي كما قلنا، وبعد ذلك جاء رينيه ديكارت René Descartes، ديفيد هيوم David Hume شكّاك واسمه شيخ الشكّاك، ديفيد هيوم David Hume اليوم سنقف معه وقفة مُطوَّلة قليلاً لكي نفهم فلسفته ونرد عليه، ديفيد هيوم David Hume كان يدعو إلى الشك ويُسميه الشك الأكاديمي، أصالة الشك الأكاديمي، الشك الأكاديمي – Academic skepticism – هو الشك العلمي كما نُسميه الآن، وطبعاً بعد ذلك مُعظَم الفلاسفة صاروا يحترمون ويُوقِّرون هذه الطريقة في البحث القائمة على الشك.
ذكرنا لكم أمثولة في حلقة سابقة وهي أمثولة سلة التفاح، حين بعث ديكارت Descartes إلى الأب ميلان Milan – والأب ميلان Milan كان أحد أصدقائه وأيضاً كان مُفكِّراً – بهذه الأمثولة التي تُوضِّح مذهبه في الشك المعرفي أو الشك الإبستمولوجي، نأتي الآن إلى مسألة أُخرى وهي طبيعة المعرفة، ما معنى طبيعة المعرفة؟ طبيعة المعرفة تعني كيفية العلم بالأشياء، كيفية علم الإنسان بالعالم الخارجي، طبيعة العلاقة بين قوانا المُدرِكة وبين الأشياء المُدرَكة هل هي علاقة مُطابَقة ومُشابَهة أم علاقة استنساخ – مثلاً – أم علاقة وهمية زائفة؟ لا ندري، وفي الجواب عن هذه الأسئلة الكبار يتحصَّل لنا مذهبان كبيران، مذهب المثالية – Idealism – أو الصورية، يُقال له الصورية أو المثالية، وطبعاً مشهور المثالية أكثر من الصورية في الترجمة، وبالإزاء – أي في القُبال – مذهب الواقعية Realism، إذن لدينا المثالية والواقعية، باختصار قبل أن نتكلَّم عن كلٍ بكلمات أيضاً مُوجَزة نُحِب أن نُعرِّف كل من المذهبين بجُملة واحدة، ما هي المثالية؟ وما هي الواقعية؟ باختصار المثالية لا ترى حقيقة للأشياء الخارجية، لا تعترف بخارجية الأشياء، كيف هذا؟ وما هذا العالم الذي أمامنا؟ وما هي قيمته؟ يقول لك هذه كلها أفكار، تعترف بوجود العالم لكن على أنه أفكارنا، فهي تعترف بالعالم لكنها تقول العالم أفكارنا، لا يُوجَد عالم مُتخارِج وحده، بمعنى أنه لو عُدِم المُدرِك ينعدم العالم، أي ينعدم الخارج، فهذه كلها أفكار، وهذا أمرُ عجيب، هل هذه كلها أفكار نحن نُولِّدها؟ هذه أفكاري أنا فهل هي أفكارك؟ ولماذا هي مُتطابِقة إذن؟ سوف نرى، طبعاً هؤلاء فلاسفة وليسوا أُناساً عُبطاً، وهذه نظرية في مئات الصفحات ويُجيبك عن كل شُبهة، يُخرِّج لك كل شُبهة، وسوف نرى أكثر الطروحات المثالية إسرافاً في المثالية وهب أطروحة جورج بيركلي George Berkeley وكيف يُجيب الرجل عن هذه الأشياء، يُجيب عن كل شيئ ويقول لك أعترف بالوجود لكن على أنه موجودي كأفكاري أنا، لو أُعدِمت أنا ينعدم كل شيئ، هذه هي المثالية، ما علاقتها بمثالية أفلاطون Plato؟ سوف نرى الآن، هناك الواقعية، وهي على الضدد من المثالية على طول الخط، تُسلِّم وتُقِر بعينية الأشياء، تقول بالعكس هي موجودة في عين الواقع، سواءٌ رصدناها أم لم نُوجَد لنرصدها هي موجودة، أدركناها أم لم نُدرِكها هي موجودة، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا المنهج وهذه الطريقة هي الطبيعية، وهذا صحيح طبعاً، البشر عموماً واقعيون، البشر ليسوا مثاليين، انتبهوا إلى أنني لا أتحدَّث عن مثالية في الأخلاق – يُقال هذا مثالي – وإنما في المعرفة، فالكلام الآن في المعرفة وليس في الأخلاق والسلوك والقيم وإنما في المعرفة، البشر بطبيعتهم واقعيون، ولذلك لو سأل أحد ماذا تُقدِّرون في الأسبقية بالنسبة لهذين المذهبين أو هاتين الطريقيتين في التفكير؟ الأسبقية لمَن: للواقعية أو للمثالية؟ للواقعية، لأنك بشر فطبيعي أن تكون واقعياً، فهو لا يشك في هذه الأشياء، هذا كله موجود، ولذلك الواقعية سبقت المثالية، وبعد ذلك تلتها المثالية، نعود الآن إلى موضوع الروحية – مثلاً طبيعة الوجود – والمادية، ماذا تُقدِّرون في الأسبقية؟ أيهم أسبق: المذهب الروحي أو الروحاني في تفسير العالم – الروحية الواحدية أو الروحية المُتكثِّرة كما شرحناها – أم المادية؟ المادية، هذا نفس الشيئ، البشر يرى القريب، القريب هو المادة، ويقول كل شيئ مادي ويُفسِّر بهذا ثم يترقى بعد ذلك ويُجرِّد أفكاره ويقول لا، يبدو أن العالم عنده جوهر روحاني أكثر، لا تكفي المادة لتفسيره، فالبداية الطبيعية هي المادية وهكذا يقول على الأقل الفلاسفة، قد نُخالِفهم وقد يُخالِفهم بعض الفلاسفة الدينيين ويقولون الإنسان كائن فطري ومُزوَّد بالإيمان بالمُجرَّد والمُفارِق بالفطرة في قعر النفس، وهذ الكلام أيضاًغير بعيد من الصواب، لماذا؟ ذات مرة فكَّرت في ظاهرة غريبة جداً جداً ربما لم تُدرَس بشكلٍ كافٍ وهي ظاهرة تسليم الأطفال الصغار لعقائدة كبيرة جداً، وهي عقائد مُحيِّرة، فهي تُحيِّر الكبار، حين كنا صغاراً كنا نسأل مَن رب هذه الأشياء كلها؟ هذا سؤال فلسفي كبير وهو دليل من الأدلة على إثبات وجود الله وهو دليل قرآني لم يُلتفَت إليه، أنا حقيقةً لم أقع على عالم من علماء الكلام التفت إلى هذا الدليل وهو دليل قرآني ودليل ملموس في كل طفل صغير، الطفل يسأل لمَن هذا؟ ولمَن هذا؟ نقول لله، والقمر لمَن؟ لله، مَن رب القمر؟ الله، مَن رب السماوات والأرض؟ الله، ويتقبَّل هذا، مَن الله؟ نقول له الله هو خالق كل شيئ وهو كبير، فيتقبَّل الطفل مُباشَرةً مع أنها فكرة صعبة جداً جداً جدا وهي أكثر الأفكار تجريداً، المفروض أن يقول الطفل ما معنى الله؟ وكيف يكون الله؟ وكيف يكون رب هذه الأشياء؟ ويرفض، لكن الطفل لا يرفض ويتقبَّل، بسرعة يتقبَّل وهذا شيئ غريب، بعد ذلك حين يبدأ ينضج قليلاً يبدأ يسأل عن طبيعة الله، يظن أن لله طبيعة مُعيَّنة، أي أن لله ماهية مُعيَّنة، أليس كذلك؟ وطبعاً إذا أردنا أن نكون دقيقين فالمفروض أن ليس لله ماهية، ماهية كل شيئ تتكوَّن من جنسه وبعد ذلك من فصله، هل الله له جانس؟ ليس له هذا، لا إله إلا هو، هو وحده وانتهى الأمر، فهو ليس له ماهية، نعم هناك وجود لكن الماهية غير موجودة لعدم وجود جنس، جنس ماذا؟ لا يُوجَد جنس لكي يتميَّز بعد ذلك من آحاد جنسه بفصل يخصه، هذا الكلام غير موجود، لكن الطفل يتقبَّل هذا، كيف يتقبَّل هذا، هذا برهان وهو برهان عميق جداً جداً، ركزه الله في فطرة النفس الإنسانية والنفس البشرية، والقرآن ملآن وطافح بتقرير هذا البرهان على وجوه مُتعدِّدة، كيف؟ يسأل الله دائماً قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، قال الله لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۩، كل الآيات التي تتحدَّث عن مُلك الله – تبارك وتعالى – وعن مِلكه – يُوجَد مُلك ويُوجَد مِلك لله وهما قريبان في المعنى – تتحدَّث عن برهان التابعية، أنا أسميته برهان التابعية، اليوم أنتم ترون قبل أن يرتقي البشر هذا المُرتقى الصعب في التقنيات وهذه الأشياء كان يُمكِن أن نجد جزائر – جمع جزيرة Island – غير مأهولة ولا تتبع أحداً، قبل خمسمائة سنة وقبل الكشوف الجغرافية أماكن كثيرة لم تكن لا مأهولة ولا مُكتشَفة، أليس كذلك؟ لكن بعد أن استبحر الإنسان في العمران وفي التقنيات ولم يدع شبراً على ظهر هذه البسيطة ولا في قعر البحر إلا اكتشفه وإلا وضع سُلطانه عليه لا تجد الآن جزيرة صغيرة في البحر إلا تتبع قوة عُظمى، هذه تابعة لبريطانيا أو لأمريكا أو لفرنسا أو لهولندا وهكذا، فهذا ضروري، أليس كذلك؟ مع قوة سُلطان الإنسان وضع يده على كل شيئ، ربنا قال لك مُنذ البداية كله تحت يدي، لا يُوجَد شيئ خارج عن مُلكي إطلاقاً، فاليوم العقل لا يُمكِن أن يستوعب أو يحلم بعض الطامعين من الرأسماليين أن يبحث عن جزيرة ويأخذها له، أنت مسبوق إليها، أينما تذهب سوف تجد أنها تتبع أحداً، كل شيئ يتبع شيئاً، حتى في كواكب المجموعة الشمسية التي تتبع الشمس، والمجموعة الشمسية جُزء من المجرة، والمجرة جُزء من المجموعة المحلية، هكذا صنَّف العلماء، وهذا هو الصحيح فعلاً، وهناك أشياء رياضية مُعيَّنة تجعل هذه التابعية الكونية مقبولة، لماذا بنى الله الكون وهذا المعمار الكوني الهائل على هذا القانون، أي قانون التابعية؟ لكي نسترشد به دليلاً عليه وإليه لا إله إلا هو، أليس كذلك؟ وهكذا الطفل يُفكِّر بهذه الطريقة، ما دام كل شيئ يتبع شيئاً فهذا الكون كله وكل شيئ يتبع مَن؟ يتبع الله، هذا هو، هذا برهان التابعية، ويستوعبه الطفل بالفطرة، حين تقول له هذه الشمس البعيدة جداً – هذه مائة وخمسون مليون كيلو متر – لله يقول لك نعم هي لله، هو ربها، فهو يقبل هذا، لأن الفطرة تقبل أن كل شيئ لابد أن يكون تابعاً لشيئ، لا يُوجَد شيئ همل وسُدى، فهذا اسمه برهان التابعية، فلو قيل إن الإنسان رُكِزَ في فطرته مُنذ البداية الإيمان وقابلية الإيمان هذا سوف يكون صحيحاً، فيُمكِن أن يكون التفسير الروحي أو الروحاني للعالم أسبق من التفسير المادي، قال الله كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ۩ وإلى آخره، فهم بدأوا على التوحيد، وبالمُناسَبة أنا الآن تذكَّرت – مثلاً – عالم السنسكريتية المشهور والخبير في الميثولوجيا Mythology – علم الأساطير – ماكس مولر Max Müller اليهودي الألماني في بداية القرن العشرين، ماكس مولر Max Müller خبير في الأشياء التي ذكرت لكم، هذا الرجل انتهت به أبحاثه إلى أن البشرية بدأت بالتوحيد ثم تطرَّق إليها الشرك والتعديد، هذا جميل جداً، وهذا ينطبق مع القرآن الكريم، بخلاف المشهور جرياً على عادة التطوّريين الاجتماعيين، أتباع منهج أو مدرسة هربرت سبنسر Herbert Spencer، قالوا البشرية بدأت بالشرك والتعديد وبعد ذلك انتهت إلى التجريد والتوحيد، القرآن يقول لا، قال الله كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، لأن أول الناس مَن هو؟ آدم عليه السلام، وهو كان مُوحِّداً، إذن المُجتمَع البشري بدأ مُوحِّداً وبعد ذلك تطرَّق إليه التعديد والشرك، وهذا هو الصحيح، ماكس مولر Max Müller وغيره انتهوا إلى هذه النتيجة ببعض الأدلة والأشياء، التطوّريون قالوا العكس، للأسف وجدنا بعض المُفكِّرين الذين نحترمهم مثل الأستاذ الكبير عبّاس العقّاد ومُصطفى محمود وغير هؤلاء رددوا لمُجرَّد التقليد نظرية التطوّريين وهم من أذكياء المُفكِّرين ومن الناس الطيبين، قالوا كان يُوجَد الشرك وبعد ذلك البشرية وصلت إلى التوحيد، وهذا غير صحيح على كل حال.
إذن المثالية أو الصورية لا تعترف بعينية الأشياء ولا بخارجيتها وتراها مُجرَّد أفكار، أما الواقعية فتعترف للأشياء بوجدوها المُستقِل العياني الخارجي والذي لو قدَّرنا معه فناء الجنس البشري وفناء كل مَن يعقل ويُدرِك لبقيت الأشياء كما هي موجودة، ولو قدَّرنا بعث هذا المُدرِك مرة أُخرى لوجدها على حالها، وطبعاً واضح أنه من ناحية علمية لابد أن يكون مذهب الواقعية هو الصادق، أليس كذلك؟ لا يُمكِن تفسير حقائق العلم مُطلَقاً إلا ضمن الطريقة أو المنظور أو المُقارَبة الواقعية، وإلا كيف نقدر على أن نُقدِّر عمر الصخور ونستخدم طريقة الكربون 14 Carbon-14؟ هذا يعني وجود واقع خارجي، رصدته أم لم ترصده هو موجود وتعمل فيه قوانينه، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، فالعلم كله يسقط بالنظريات المثالية إلا مع تكلّف شديد جداً جداً جداً، أشعة Röntgenstrahlen – أشعة إكس X rays كما يُسمونها – كيف تم اكتشافها؟ بالصُدفة، حين رأى تأثير مصدر هذه الأشعة في اللوح الحسّاس، هو لم يكن على باله ولا في خاطره موضوع هذه الأشعة، لكن هذه الأشعة اكتشفنا أنها موجودة من ملايين السنين، من أول يوم خلق فيه الله هذا الكون كانت موجودة على الأرض لكن الآن اكتشفناها، سواء اكتشتفها أو لم تكتشفها هي موجودة وفاعلة، وقد تأخَّر اكتشافنا لها عشرات ألوف السنين كجنس بشري، لكنها موجودة وتفعل، وتاركة آثارها في مُؤثِّراتها، وهكذا في كل الأشياء، أليس كذلك؟ كما يترك الزمن بصمته وآثاره في الصخور وفي الجبال وفي سيف البحار وإلى آخره.
نعود الآن مرة ثانية، نبدأ نُفصِّل كلمة عن الواقعية لنعود إلى المثالية لأنها أكثر تعقيداً وغموضاً نوعاً ما، فنبدأ الآن بالواقعية، الواقعية ليست واقعية واحدة وإنما هي واقعيات، أنا سأذكر منها فقط مدرستين لأنهما الأهم والأخطر، الباقي تنويع عليها وخاصة على الواقعية النقدية المُسماة بالتقليدية، الواقعية الأولى مُسماة بالواقعية الساذجة، علماً بأن كلمة ساذَج بفتح الذال، فالواقعية الساذجة هي Naïve realism، لماذا سُميَت ساذجة؟ هي واقعية ساذجة لفرط ثقتها بالحس، تثق بالحس ثقة مُطلَقة، ما يُؤديه إلينا الحس يقع منا موقع الثقة والقبول، وهذه سذاجة، هذا يعتبَر سذاجة لأن الحس – كما قلنا – يُخدَع والحس يُخطيء، مثل قضية القلم الذي ينكسر في الإناء، فهنا الحس أخطأ، وكذلك يرى الإنسان البعيد صغيراً والقريب كبيراً مع أن ذاك كبير في ذاته وهذا صغير في ذاته، فإذن هو ينخدع، لو أتينا بثلاثة من الآنية – وهذ مثال مشهور جداً – مثلاً، الأول فيه ماء شديد الحرارة، والثاني فيه ماء شديد البرودة، والثالث فيه ماء عادي فاتر كالذي نشرب مثلاً، ووضعنا يدنا اليمين في الماء شديد الحرارة ثم أخرجناها فوضعناها في الماء الفاتر كيف نجده؟ شديد البرودة، مع أنه ليس شديد البرودة، فالحس هنا خدعنا، أليس كذلك؟ نجده شديد البرودة وهو ماء عادي فاتر، ولو وضعنا يُسرانا أو شمالنا في الماء شديد البرودة وأخرجناها ثم وضعناها في الماء الفاتر سوف نجده شديد الحرارة، أي حار جداً، لأنها كانت في ماء شديد البرودة، إذن يُخدَع الحس، فالحس يُمكِن خداعه بسهولة وهذا أمر واضح، ولو لم يكن من خداع الحس إلا أننا نلحظ ونرصد أن الأشياء يتغيَّر مظهرها وتتغيَّر هيئاتها باختلاف زاوية النظر لكفى، أليس كذلك؟ زاوية النظر لابد أن تُؤدي إلى اختلاف المنظر، طبيعي أن تُؤدي إلى اختلاف المنظر، وهذا كان أولاً، ثانياً بالقُرب والبعد يختلف حجم الأشياء، وأحياناً تختلف هيئاتها، بقوة الإضاءة أو ضعفها أو انعدامها يحدث نفس الشيئ، لو انعدمت لن نرى شيئاً، ولو كانت ضعيفة نرى رؤية مُغبَّشة ومُشوَّهة، ولو كانت قوية نرى رؤية أقرب إلى الكمال، وهذا عجيب، هذا يعني أن الحس ليس موضعاً للثقة المُطلَقة لكي نثق به، واضح أنه ليس على هذا النحو، ولذلك هذه الواقعية كانت واقعية ساذجة، يُعبَّر عنها كالتالي، جون ستيوارت ميل John Stuart Mill ابن جيمس ميل James Mill قال العالم قبل إدراكنا له هو هو بعد إدراكنا له، وطبعاً أبوه فيلسوف كبير وهو ابن فيلسوف، وهو أحد العباقرة العجيبين، هذا كان عمره أربع سنوات وكان يعرف الإنجليزية واللاتينية والإغريقية ودرس المنطق والفلسفة، ولك أن تتخيَّل هذا، جنَّنه أبوه، وحين بلغ الثامنة عشرة من عمره أُصيب بعُقدة نفسية طبعاً وانهار الرجل عصبياً، أبوه من الصغر علَّمه هذا وهو شيئ غريب، كان عمره أربع سنوات وكان يعرف هذه الأشياء، فجون ستيوارت ميل John Stuart Mill فيلسوف كبير، ومع ذلك كان في رؤوس القائلين بالواقعية الساذجة، كان يقول العالم قبل إدراكنا له هو هو بعد إدراكنا له، نحن نُدرِك العالم كما هو تماماً، وهذا يعني أن العلاقة بين قوى الإدراك وبين العالم علاقة استنساخ وعلاقة مُطابَقة وعلاقة مُشابَهة، فصوة العالم في إدراكنا هي نُسخة طبق الأصل للعالم في ذاته، أي كما هو في ذاته، وهذه سذاجة، واضح أن الأمر ليس كذلك، اليوم لا يُمكِن أن يُوافِق عالم في الأعصاب على هذا الشيئ، لا يُمكِن أن يُوافِق، حتى الأدلة العصبية العلمية ترفض هذا، لا يُمكِن فهذا خطأ واضح جداً، ولذلك عدلوا بعد أن عدَّلوا في هذه الواقعية الساذجة عنها إلى الواقعية النقدية، فهم عدلوا عنها بعد أن عدَّلوها إلى الواقعية النقدية وهي تُسمى أيضاً بالواقعية التقليدية، أي الواقعية النقدية Critical realism أو الواقعية التقليدية Traditional realism، هذه جميلة وسوف ترون أنها ستروق لكم حقيقةً، وهذه الواقعية النقدية أو التقليدية هي المُعتمَدة في العلوم الطبيعية، ماذا تقول الواقعية النقدية؟ تقول نحن نُدرِك بقوانا العقلية والإحساسية – قوى الحس فينا – ليس عن طريق المُطابَقة وإنما عن طريق التعديل، طبعاً نُريد أن ننتبه دائماً يا إخواني إلى خطأ كبير يقع في أكثر المُتكلِّمين منا، حيث يُعادَل بين الشعور والأحساس وهذا خطأ، الشعور هو قوى الباطن أما الإحساس قوى الظاهر، فلا تقل أحسست بأنه يكرهني، هذا خطأ، قل شعرت بأنه يكرهني، الإحساس يعني أنني رأيته أو سمعته أو ذقته أو لمسته أو شممته، هذا الإحساس، إذا قلت فهذا هو الإحساس، وإذا كنت ستقول شعرت لا تقل شعرت بأذني وما إلى ذلك، فشعرت تأتي مع القوى الباطنة، هذا هو الشعور وهذا هو الإحساس، الإحساس ليس باطنياً عموماً إلا على سبيل المجاز، فالإحساس ظاهري، إذن هذه قوى الإحساس وهذه قوى الإدراك، أي الظاهرة والباطنة، قالوا نحن نُدرِك العالم لكن ليس على طريقة المُطابَقة – ليست مُطابَقة أو نُسخة كربون Carbon، فهذا غير صحيح – وإنما على طريقة التعديل، فالصورة الحاصلة عن العالم أو أشيائه في أذهاننا هي صورة مُعدَّلة عن هذا العالم، ما الذي قام بتعديلها؟ الذهن أو العقل، أي قوانا العقلية، فإذن العقل ليس قوة سلبية أو قوة غير ذات فعل، بالعكس هو قوة فاعلة ونشيطة ودائماً يظهر فعلها، حتى مع أي إحساس بسيط يظهر فعلها، وسوف نرى هذا بعد ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
سأضرب لكم مثالاً وأي أحد درس هذه العلوم سوف يقو هذا كلام صحيح، لماذا؟ لأننا درسنا أن القط يرى الأشياء بطريقة مُختلِفة، الألوان الحصان يراها بطريقة مُختلِفة، النحل تراها بطريقة مُختلِفة، الفئران تراها بطريقة مُختلِفة، كل أحد يرى بحسب جهازه البصري وبحسب تكوين دماغه، كيف يُترجِم هذه الأشياء؟ نحن نراها بهذه الطريقة، ونحن نعرف ما معنى اللون في الفيزياء، هذه موجات ذات تردد مُعيَّن تقع بعد ذلك عن طريق موجات الضوء على الشبكية ويحدث تصالب في المخ والمخ يُفسِّر هذا الشيئ بشيئ اسمه اللون، اللون الأخضر أو الأحمر أو البنفسجي وإلى آخره، وهذا جميل جداً، إذن قدرة هذا القلم ليست حقيقة مُستقِلة بذاتها، لكن شروطها الخارجية قائمة هناك لا تتغيَّر ولا تتوقَّف علينا، وهذا التعبير دقيق وهو من عندي، أعني تعبير شروطها الخارجية، عموماً في الكتب الفلسفية يُقال شروطها وهذا غير صحيح، فشروطها قسمان لمَن تأمَّل، شروط إدراك خُضرة الأخضر وحُمرة الأحمر وزُرقة الأزرق وإلى آخره شروط مُركَّبة من شيئين، شروط خارجية مُستقِلة هنالك وحدها بغض النظر عنا، وهي لا تُساوي الخُضرة، وإنما تُساوي شطر الخُضرة، تُساوي جُزءاً منها ولا تُساوي الخُضرة ككل، وشروط خارجية تتعلَّق بجهازنا الإبصاري وبدماغنا، أي بقوانا الإدراكية، إذا اجتمعت هذه الشروط وتكاتفت وتآزرت مع هذه الشروط وفعلت معها سويةً ماذا ينتج؟ إدراك خُضرة الأخضر وحُمرة الأحمر وإلى آخره، لكن هذه الواقعية النقدية تعترف – كما قلت لكم وهو مُهِم – بأن على الأقل شطر الشروط أو جُزء من الشروط أو بعض شروط خُضرة الأخضر وحُمرة الأحمر – طبعاً والأشياء الثانية، والملمس والشم وكل شي، فالأمر لا يتقصر فقط على الألوان – موجودة في الخارج ومُستقِلة عنا، وُجِدَنا أم لم نُوجَد هي موجودة، لكن لا يُمكِن أن ينشأ الإحساس باللون الأخضر إلا مع تكاتف الشروط الأُخرى الداخلية الذاتية، أعني شروط الإنسان، فيأتي الإنسان ويُعمِل حواسه ثم يعمل عقله ودماغه فيُدرِك منظر الأشياء وحجمها وبُعدها وقُربها وملمسها ورائحتها وإلى آخره، وهذا الكلام علمي وهو الصحيح، وهذا يُذكِّر بالذي قلته في أول يوم في هذه الدورة لبعض إخواني لكنهم لم يكونوا في الجلسة، قلت لهم هناك سؤال مشهور يسأله العلماء والفلاسفة، لو وقعت شجرة في غابة وهذه الغابة ليس فيها إنسان هل يصدر لها صوت؟ الآن نحن فهمنا الجواب، إذا قلت نعم تكون غلطت وإذا قلت لأ تكون غلطت، فالجواب بنعم غلط والجواب بلا غلط، الجواب مُركَّب، سوف تقول أول شيئ قبل أن أُجيب – هناك مُغالَطات كثيرة يقع فيها الناس بسبب أنهم يُخدَعون بالسؤال، السؤال فيه خطأ او فيه نقص، السؤال غير مُحرَّر – عرِّف لي الصوت، ما هو الصوت؟ كما اللون أيضاً، الصوت كاللون، ما هو اللون؟ لا يُوجَد شيئ في الخارج اسمه اللون أبداً، لكن يُوجَد جُزء من شروط إدراك اللون موجودة في الخارج، والأجزاء الأُخرى تختص بي أنا كإنسان وكمُدرِك، وكذلكم الصوت، أليس كذلك؟ ما هو الصوت؟ حين تقع الشجرة وترتطم بالأرض نسمع صوتً، حتى وهي واقعة ترتطم بالهواء وتتضاغط طبقات الهواء نسمع صوتاً مثل (شششششش)، أليس كذلك؟ وهي واقعة نسمع (شششششش)، ما هذا؟ لماذا نسمعه؟ لأن هذا تضاغط الهواء وبالاحتكاك مع الفروع والأغصان يحدث هذا الصوت وكذلك نفس الشيئ مع الارتطام بالأرض فنسمه هذا الصوت، هذا التضاغط والانضمام بغير جهازنا السمعي لا يُمكِن أن يصير صوتاً، هو يُساوي صوتاً عندنا نحن بجهازنا السمعي والإدراكي، هكذا يحدث الصوت، لكن لو لم تكن هناك شجرة ولم تكن هناك عوامل إحداث التضاغط هل سوف نسمع؟ لن نسمع، فهذا يعني أن الصوت ليس ظاهرة صوتية، وفي نفس الوقت ليس ظاهرة موضوعية، هو ظاهرة ذاتية موضوعية مُركَّبة من الاثنين، هذا ليس حلاً وسطاً، هذا حل علمي، وهذا باختصار ما تقول به الواقعية النقدية، وهو كلام جميل وجميل جداً، فعلاً عنده بُعده فلسفي وفي نفس الوقت عنده صدقيته العلمية، فالعلم يقول كذلك.
إذن في الحاصل الإدراك والمعرفة ليسا صورة مُطابِقة كما زعمت الواقعية الساذجة ولكنهما صورة مُعدَّلة كما ادّعت الواقعية النقدية أو التقليدية، نأتي الآن إلى المثالية أو الصورية، إيمانويل كانط Immanuel Kant أو عمانوئيل كانط – عمانوئيل ترجموها بالإلماني إيمانويل Immanuel، وهذه الكلمة تعني عطية الله – ادّعى في نقد العقل المحض أمراً مُهِماً، علماً بأن هذا كتابه الأعظم بلا شك والأشهر على مُستوى العالم، ادخلوا على أي موقع في الإنترنت Internet واكتبوا كانط Kant وسوف ترون أي مقالة عن فلسفته مُترجَمة تقريباً بحوالي أربعين أو خمسين لغة، شيئ غريب، وهناك لغات لا نفهمها حتى، فالعالم كله يعرف كانط Kant، العالم كله يدرس كانط Kant، فهو فيلسوف هائل القيمة، وكتابه هذا مُهِم إلى درجة غير عادية على الإطلاق حقيقةً، فكانط Kant حين تحدَّث عن المثالية تحدَّث عن أفلاطون Plato، لكن الرجل كان من الذكاء ومن الدقة الفلسفية بحيث أعطى مثالية أفلاطون Plato فعلاً قدرها اللازم لأنها ليست مثالية كما نعتقد، نعم تُسمى مثالية بسبب موضوع الأفكار والأفكار في العالم لكن أفلاطون Plato لدى التحقيق ليس فيلسوفاً مثالياً بمقدار ما هو فيلسوف واقعي مُسرِف في الواقعية، قل لي كيف؟ أولاً ليس من دليل في كل مُحاوَرات وكتب أفلاطون Plato على أن هذا الرجل يُنكِر العالم الموضوعي، لا يُوجَد هذا أبداً، فهو لم يُنكِره، كان يعترف به، كان يعترف بموضوعية الإحساسات وموضوعية الأشياء لكنه زاد على ذلك فأسرف في الاعتراف بموضوعية الأشياء مُجاوِزاً إياها إلى الاعتراف بموضوعية الأفكار الكُلية، أليس كذلك؟ فاعتقد أفلاطون Plato عكساً للاسمانيين أو الاسميين الذين أنكروا الكُليات بعكس ما اعتقدوا، قال بالعكس هذه الكُليات موجودة ولها وجود حقيقي، هي ليست مُجرَّد عمل عقلي، لها وجود حقيقي ماثل هناك في عالم آخر، وهو عالم كامل Perfect world، فهي موجودة وهي موجودة حقيقةً، موجود مثال الحصان ومثال الكوب ومثال الإنسان – مثلاً – وهو المثال المُطلَق الاكامل، نحن صوَّر مُشوَّهة منه، لنا واقع لكنه واقع مُشوَّه، الواقع الكامل في العالم الآخر، الآن هذه الفلسفة مثالية كما نفهم المثالية أم اتضح أنها واقعية؟ واقعية، هي مُسرِفة في لالواقعية لكنها تُسمى مثالية بسبب موضوع مُصطلَح الأفكار أو المُثل، أعني المُثل التي لها وجود موضوعي حقيقي، فعلينا ألا نظلم ونقول عكس هذا، لكن للأسف كثير جداً من الكتب الفلسفية المُتعجِّلة حين تُترجِم للمثالية تبدأ بأفلاطون Plato، تقول تجد جذورها عند أفلاطون Plato وهذا غير صحيح، فلسفته ليست مثالية وإنما واقعية، وهي مُسرِفة في الواقعية، تعترف بالواقع الموضوعي لكل ما يتعلَّق بالمحسات وتزيد عليه اعترافاً بالواقع الموضوعي للمُتعقَّلات أيضاً وهذا غريب، فهي موجودة وجوداً حقيقياً، طبعاً هل نقبل بهذا؟ لا نقبل، ونحن رددنا على الاسمانيين ورددنا على وليام الأوكامي William of Ockham وعلى ديفيد هيوم David Hume وعلى أمثال هؤلاء ومُمكِن أن نرد الآن بكلمة واحدة على أفلاطون Plato ونقول له هذا غير صحيح، سوف تنقول له هذه المُثل التي تحدَّثت عنها بمعنى المفاهيم الكُلية الماهوية – المفاهيم الأولى الماهوية – يا أفلاطون Plato غير صحيح أن لها أي وجود كامل في عالم آخر كما تعتقد، سوف يقول لماذا؟ سوف نقول له لأن منها ما لا يقبل الوجود أصلاً كمفهوم المُستحيل والمعدوم، وهنا سوف يُخربّط الرجل ويقول هذا صحيح فأنا لم انتبه إلى هذه المسألة من قبل، وهذا هو الصحيح طبعاً، ولذلك أفلاطون Plato في آخر حياته شك في فلسفته المثالية هذه، فهو شك طبعاً وكتب أشياء تُؤكّد أنه بدأ يشك فيها ويتراجع عنها، لوجود مفاهيم كُلية ومعقولات أولى أو مفهومات أولى لا مصداق لها ولا يُمكِن أن يُوجَد لها مصداق بطبيعتها كمفهوم المعدوم ومفهوم المُستحيل وهو مفهوم كُلي General term، كذلك المفاهيم الكُلية الأُسطورية كمفهوم الرُخ والعنقاء وإلى آخره، فهذه مفاهيم كُلية وغير موجودة، فهي أساطير والعقل يُؤمِن بها لكن من حيثية المفهوم، كما قلنا أمس لابد أن نُفرِّق بين حيثية الوجود وحيثية المفهوم، فالعقل قادر على أن يُكوِّن مفاهيم كُلية أُسطورية، لكن هي مفاهيم كُلية وليس لها وجود في عالم المُثل، فأفلاطون Plato مذهبه ضعيف، وهكذا نكون رددنا عليه كما رددنا على الاسمانيين، وفي النهاية يسلم لنا مذهب التجريد والانتزاع الذي أسمينه أيضاً مذهب التقشير، ولكي لا تنسوا التقشير يُشير إلى المطبخ، فنرجع الآن إلى المثالية.
في الحقيقة المثالية كما تُشرَح في الكتب الفلسفية المدرسية كالتالي، وأنا أنصح أن تقرأوا الفلسفة من كتب مدرسية، كيف؟ أي من كتب جامعية، أحسن ما تقرأ الفلسفة في كتبها العتيدة، إياك أن تتورَّط وتذهب تقرأ كانط Kant من كتبه، سوف تكره الفلسفة وسوف تشك في نفسك، أنا ذات مرة سألني أستاذنا الحبيب عبد الوهاب المسيري – رحمة الله عليه – في آخر لقاء معه حين كنت أُوصِّله إلى المطار قائلاً أُريد أن أسألك شيئاً يا عدنان، فقلت له تفضَّل يا أستاذ، قال لي ما رأيك في أبي يعرب المرزوقي؟ قلت له لا يُفهَم، من الصعب جداً أن يُفهَم، قال لي هل أنت مُتأكِّد؟ قلت له طبعاً، قال لي الله يُعطيك العافية، فأنا كنت أشك في ذكائي، حين كان يقرأ له لا يفهم المسكين شيئاً، لم أجد أحداً إلا سألني عنه، وكنت أقول أنه لا يُفهَم، وطبعاً أنا لا أُحِب أن أجرح في هذا المُفكِّر والفيلسوف العربي الكبير، ونحن نعتز به، لكن عندي قناعة بأن الذي يفهم جيداً سوف يقدر على أن يُفهِم غيره، أرسطو Aristotle قال هذا، صفة المُعلِّم الناجح أن الذي يفهم جيداً سوف يقدر على أن يُفهِم غيره، أليس كذلك؟ وسوف يقدر على التبسيط، والبوطي حدث معه نفس الشيئ – حوارات لقرن جديد عن تجديد أصول الفقه – وقال لي يا سيدي المرزوقي كذا وكذا، وهو حينها كان يكتب ويرد عليه، فقلت له ما له؟ قال لي عمل كذا وكذا، قلت له أنت لم تفهمه، أليس كذلك؟ قال لي لم أفهمه بالمرة، قرأته مرة ومرتين ولم أفهم، فقلت له هو أصلاً لا يُفهَم، قال لي مُمتاز، هكذا نحن فهمنا القصة، فحين تذهب تقرأ كانط Kant مُباشَرةً سوف تكره الفلسفة وتكره نفسك وتشك في قدراتك، فلا تفعل هذا، ولا تقرأ أيضاً هيوم Hume من كتبه ولا جون لوك John Locke ولا فلان ولا علان، ولا حتى ابن رشد ولا ابن سينا، ماذا تفعل؟ اذهب إلى كتاب جامعي، أُناس يدرسون فلسفة في الجامعة، وأول كتاب في أول فصل دراسي – Semester – خُذه واقرأه، هذا مُمتاز، سوف يُعطيك خُلاصات واضحة ومفهومة وقابلة أن تُفهَم، وهي خُلاصات دقيقة لأنها جامعية، هذا ليس أي كلام مثل كلام الجرائد والصحافة أو كلام شخص هاوي في الفلسفة، هذا كلام مُتقَن وهذه خُلاصة صحيحة لفلسفة الفيلسوف، أليس كذلك؟ وهذه نصيحة ليست من عندي، لست أنا مَن ينصح بها وإنما ينصح بها فلاسفة كبار بعد أن جرَّبوها، قالوا اذهب إلى الكتب الجامعية، فهذا أفضل لك من قراءة الكتب الفلسفية الأصيلة لأنها سوف تُتعِبك، نأتي الآن إلى المثالية ونبدأ مع الرجل فعلاً الذي بدأت معه المثالية الحديثة بشكلٍ صارخ وهو جورج بيركلي George Berkeley، وقلنا مات هذا الرجل الإنجليزي في ألف وسبعمائة وثلاث وخمسين، وهو كان قساً وكان مثالياً مُسرِفاً، سوف نُلخِّص مثالية جورج بيركلي George Berkeley – واحفظوا هذه الجُملة – بكلمة واحدة له، ماذا قال؟ قال To be is to be perceived، أن يُوجَد معناه أن يُدرَك، هذه فلسفة جورج بيركلي George Berkeley المثالية فقط، أن يُوجَد معناه أن يُدرَك، ما معنى هذا الكلام؟ هل جورج بيركلي George Berkeley يشك في العالم الخارجي؟ قال لك لا، أنا لست كذلك، لست شكّاكاً، أنا فيلسوف واقعي، كيف أنت واقعي؟ قال أنا واقعي لكنني أختلف معكم في معنى الوجود Existence، الوجود عندكم شيئ لكنه عندي شيئ ثانٍ، كيف يا شيخنا؟ ماذا عن الوجود عندك يا مولانا؟ قال الوجود في الأفكار وفي الذهن، فالعالم موجود لكن في ذهني، وهذا يعني أنه مثالي طبعاً، والعجيب أن هذا الرجل يُحوِّل المعاني إلى أشياء، بعض الناس يُحوِّل الأشياء إلى معاني، لكن هذا يُحوِّل المعاني إلى أشياء، قال لك أصالة الوجود هي التي في ذهني أنا، أي شيئ إذا أردنا أن نحكم له بوجود – وهذا وجود غير حقيقي – لابد أن يكون في الذهن، فما ليس في الذهن ليس له وجود، أن يُوجَد معناه أن يُدرَك، وطبعاً جاء بعد ذلك الخبيث وشيخ الشكّاك ديفيد هيوم David Hume وقال له مُمتاز لكن إذا كان ذلك كذلك فالله ليس له وجود، وأنت قسيس كبير مُؤمِن بالله، فبيركلي Berkeley كان مُؤمِناً، قال له هيوم Hume الله ليس له وجود وهذا أولاً، ثانياً الروح ليس لها وجود، وقال له آخر شيئ هو أنني سأضربك ضربة قاسمة، فالإدراك نفسه ليس له وجود، أليس كذلك؟ الإدراك ليس له وجود.
نرجع إلى جورج بيركلي George Berkeley، طبعاً بعض الناس حاولوا أن يُقزِّموا فلسفته، أصعب شيئ على الفيلسوف هذا، كما قال أفلاطون Plato أحق الناس بالرحمة عالمٌ بين جُهّال، بعض الناس يأتون باسم الجهالة وباسم عدم التعمق ويختزلون كل فلسفته التي كتب فيها – مثلاً – خمسمائة صفحة أو ألف صفحة في جُملتين بتراوين – مثنى بتراء – ويقولون هذه فلسفته وسنضربها بجُملة واحدة، لكن هذا لا يصح، هذا ظلم وبُهتان، جورج بيركلي George Berkeley تصدى له الأديب والمُفكِّر الكبير وأول مُعجَمي إنجليزي صمويل جونسون Samuel Johnson، أول مَن ألَّف Dictionary هو صمويل جونسون Samuel Johnson، فجونسون Johnson السمين الضخم تصدى له، قال المعتوه بيركلي Berkeley يدّعي في فلسفته كذا وكذا وكذا وأنا أقول له اضرب الحجر، هذا هو فقط، سوف أقضي على فلسفتك، أي اضرب برجلك الحجر وسوف تعرف أن العالم الخارجي موجود، لم يُحِب أن يقول سنضربك بحجر في وجهك لكي تفهم أن هناك عالماً خارجياً، لكن بيركلي Berkeley ليس بهذه السخافة، فهو فيلسوف كبير ويفهم هذا الكلام، ولو سألته يا بيركلي Berkeley لو ضربناك بحجر ماذا سوف يحدث؟ سوف يقول سينشج رأسي وينزل الدم وهذا كله في دماغي، أي أنه غير حقيقي، وطبعاً سألوه وقالوا له ما هذا التفكير العجيب جداً؟ الرجل مُؤمِن وهو مُؤمِن إيماناً عجيباً بالله، يرى أن الخلقية المُطلَقة كلها لله فقط، هذا هو معناه، ولعل هذا الذي حفزه أن يقول بهذا المذهب، في البداية الفلاسفة سألوه أسئلة ذكية وقالوا له إذا كنت ترى أن يُوجَد هو أن يُدرَك فإذا لم يُدرَك ليس له وجود إذن كيف نحن نتلقى إحساسات بما حولنا بشكل مُتواصِل؟ طالما نحن في اليقظة وأعيننا مفتوحة وآذاننا مُصغية وصاخية باستمرار نسمع أشياء وهواء ونرى ألوان وأشياء تتحرَّك وما إلى ذلك، ولا إرادة لنا في إيجادها، أليس كذلك؟ بالعكس قد أكتب الآن شيئاً وأرى شيئاً يتحرَّك رغماً عني على هامش الشعور، أليس كذلك؟ أحياناً وأنا أكتب يُزعِجني ظل يدي، أليس كذلك؟ أنا لا أُريده لكنه موجود رغماً عني بحسب الزاوية، أي زاوية الضوء، فأنا لا أُريد هذا وهو موجود رغماً عني، أي أنه فرض نفسه علىّ، وهذا يعني أن له وجوداً حقيقياً، فهم قالوا له هذا، وهذا اعتراض قوي جداً جداً جداً، قالوا له من أين تأتي هذه الإحساسات المُنهمِرة المُتلاحِقة المُتوالية علينا ونحن في غفلة منها وعلى غير إرادة منا أو توجه أو عزيمة؟ نحن لا نُريدها لكنها تأتينا باستمرار شئنا أم أبينا، ما رأيك يا بيركلي Berkeley؟ قال لهم الجواب حاضر وسهل، يخلقها الله، نحن غير مسئولين عنها، الله الذي يخلق كل شيئ كما يُريد هو، هو يخلق هذا الشيئ وأنت لا تستطيع أن تنفيه، إذا أراد الله أن يخلقه في ذهنك وأن يجعلك ترى هذا الظل ويُشوِّش عليك وأنت تكتب سوف يفعل هذا، قال هذا كله مخلوق لله، الذي يُنسِّق بين هذه الأشياء التي لا يقوم الذهن بالتنسيق بينها ولا القوة المُريدة في الإنسان على خلقها هو مَن؟ هو رب العالمين، لأن الله هو الذي يُريد هذا، هذا الكلام قد يُقنِع رجلاً صوفياً أو رجلاً عارفاً أو رجلاً استُهيم بحُب الله تبارك وتعالى، لكنه لم يُقنِع هيوم Hime الذي قال له والله نفسه وفكرة الله من أين أتت؟ هذا يعني على طريقتك في التفكير أن الله غير موجود، وهذه ضربة قاسمة طبعاً، أليس كذلك؟ الله – لا إله إلا هو – لا يخلق نفسه ولا يخلق فكرته، قال له من أين هذا؟ وماذا عن الروح؟ الروح غير ملموسة وغير داخلة في إطار الحس بالمرة، وكذلك الإدراك نفسه، أي إدراكك أنت نفسه، أنا طرحت تساؤلاً على بيركلي Berkeley حين قرأت فلسفته، لو تصوَّرناه وقلنا له يا سيد جورج George يا قس يا مُحترَم أنت الآن تجلس على كُرسي وجاء أحدٌ من خلفك ودون أن تدري أو تأذن به دعك دعة قوية قوية فسقطت، انفعلت سقوطاً قبل أن تُدرِك ما الذي حصل، وهذا معروف حين يأتي أي حدث سريعاً للإنسان، ماذا يحدث؟ ينفعل قبل أن يُدرِك، يحصل الانفعال وبعد ذلك يأتي الإدراك، ما الذي حصل؟ كالزلازل مثلاً، فبعد ثوانٍ يُدرِك الإنسان، والقرآن أشار إلى هذه الحالة وطبعاً هذا تفسير في جُزء آخر، قال الله لَوِ اطَّلَعتَ عَلَيهِم لَوَلَّيتَ مِنهُم فِرارًا وَلَمُلِئتَ مِنهُم رُعبًا ۩، حتى هنا تُوجَد ردة فعل – Reaction – قبل الانفعال، والانفعال قبل الإدراك، أرايتم كيف رتَّب القرآن هذا؟ لم يقل لمُئلت منهم رعباً ولولّيت منهم فراراً، وإنما قال لَوَلَّيتَ مِنهُم فِرارًا۩ وبعد ذلك قال وَلَمُلِئتَ مِنهُم رُعبًا ۩، فإدراكك للانفعال مُتأخِّر، أرأيت؟ إدراكك الحضوري للانفعال مُتأخِّر عن ردة الفعل، فهذا يحدث للإنسان، وهذا اعتراض مني، سوف نقول له يا سيد يا مُحترَم ما رأيك الآن؟ هنا لا يُوجَد أن أُدرِك Perceive، هذا الشيئ لم يُدرَك، وحصل حدث قابل للإدراك – هذا نقدي أنا – أنك وقعت، إذا حاول الرجل أن يُباهِت وأن يُكابِر سوف نقول له مثالاً أوضح من هذا، أنت نائم على تختك ونحن جئنا وألقينا بك من على هذا التخت أو السرير فوقعت على الأرض وتهشَّمت ثنيتك وسال دمك، وبعد ذلك لم تُدرِك إلى الآن، سوف تحتاج إلى دقيقة وتفتح الضوء وتقول ما الذي حصل؟ أليس كذلك؟ حصلت مجموعة أشياء انفعلت بها – هذا اسمع الانفعال وهو أحد المقولات العشر العرضية – وبعد ذلك بدأ الإدراك، رغم أن هذه الأحداث التي وقع الانفعال بها بحد ذاتها قابلة للإدراك، أليس كذلك؟ وهذا يعني أنه لم يصر وجود الشيئ رهناً بأن يُدرِك، فهو له عينية وله وجود قبل أن يُدرِك، هذا ما تقدَّمت به نقداً على جورج بيركلي George Berkeley، لم أقرأه لأحد وأرى أنه في نوع – إن شاء الله – من القوة، فهذا بالنسبة لجورج بيركلي George Berkeley.
طبعاً هناك نقود كثيرة أدق تتحدَّث عن كيف أن الرجل لم يُفرِّق بين التصوّر والتصديق، لكن هذه موضوعات موسَّعة سنتركها، عندنا فيشته Fichte أو فيخته المُتوفى في عام ألف وثمانمائة وأربعة عشر وهو التلميذ المُباشِر لكانط Kant، فيشته Fichte ماذا قال؟ قال هذا العالم مُجرَّد عالم من قوانين ومن دساتير، وهو ليس عالماً خارجياً موضوعياً، إنها قوانين فكري أنا، وكل تشويش أو مُفارَقة في إدراك العالم يعكس تشويشاً أو مُفارَقة في فكري أنا، فلو صححت هذا وتحكمت فيه سوف يتصحح العالم أمامي ويعود إلى سويته، لأنه عالم أفكر وليس عالماً خارجياً، وواضحة هنا المثالية، هذه مثالية ذاتية Subjective، سمى كانط Kant هذا الضرب من المثالية بالمثالية المادية، وقد وقع فيها تلميذه فيشته Fichte حيث قال بهذه المثالية المادية، وبعد ذلك ماذا قال؟ قال افتراض العالم الخارجي أصلاً هو خاطيء، قال افتراض وجود عالم خارجي هو افتراض خاطيء، ليس إلا عالم العقل والأفكار في داخل العقل فقط، وكل تناقض لابد أن يكون تناقضاً بين الأفكار فقط وليس أكثر من هذا، وطبعاً هذه مثالية مُغرِقة، فهو صورة أُخرى من جورج بيركلي .George Berkeley
نأتي الآن إلى المثالية النقدية، وسوف نرى لماذا أسموها مثالية وهل هي فعلاً مثالية، وهي مثالية كانط Kant، وقد أسموها المثالية المُتعالية Transcendental أو المثالية النقدية Critical للفيلسوف الألماني كانط Kant صاحب نقد العقل المحض أو نقد العقل الخالص Pure reason، أولاً ما معنى العقل المحض؟ وما معنى النقد Critique؟ ماذا يُريد بالنقد Critique؟ لا يعني النقد عليه أبداً، وإنما تمييز شيئ من شيئ، تمييز ماذا؟ العقل الخالص أو العقل المحض عند كانط Kant هو ماذا؟ هو العقل السابق على التجربة، أي أحكامه، فأحكامه تكون سابقة على كل تجربة وليست مُستمَدة من التجربة، وهي ضرورية لفهم كل تجربة، ومن غيرها لا يُمكِن أن تعني التجربة لنا شيئاً، تجربة حتى رؤية شيئ أو استطعام شيئ أو الإمساك بشيئ أو إدراك شيئ تصوراً أو تصديقاً، تصوراً إدراك الأشياء مُفرَدةً، تصديقاً بشكل قضايا، يُوجَد عندنا – مثلاً – السخونة: تصور، وكذلك الماء: تصور، هذا الماء الساخن: تصديق، فهو فيه حكم، هذا الماء يكون – Is – ساخناً، هو ساخن أو كائنٌ ساخن وإلى آخره، هذا هو التصديق، فقال العقل المحض هو هذا العقل، العقل غير المُستمَد من التجربة، وعنده أحكام قبلية، ما معنى قبلية؟ سابقة على كل تجربة، قال هذا النقد الذي أُحدِّثكم عنه وأكتب فيه هو تمييز ما هو حكمٌ قبلي سابق على كل تجربة وما هو مأخوذ ومُستمَد من التجربة، إذا قدرت على تمييز هذا الشيئ سوف تكون فيلسوفاً نقدياً، آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer صاحب العالم إرادةً وتمثّلاً كتب يقول إن فضل كانط Kant وميزة كانط Kant أنه ميَّز بين الأمرين، ميَّز بين الشيئ في ذاته وبين الشيئ في إدراكنا، لماذا؟ هذا له علاقة بالنقد، لأن كانط Kant اعتقد أن الأشياء لها وجود واقعي حقيقي، إذن كانط Kant بهذا المعنى ليس مثالياً ذاتياً، أليس كذلك؟ ليس مثالياً مادياً مثل بيركلي Berkeley، بيركلي Berkeley أيضاً مثاليته مادية وذاتية، أن يُوجَد أن يُدرَك يُراد بها عندي، أي أن يُدرَك عندي، وأيضاً بيركلي Berkeley سألوه السؤال الذي طرحته قُبيل قليل، هذا العالم موجود عندي بهذا التناسق، أنا الآن أرى هذه الوجوه الطيبة، لكن كل مَن يجلس هنا يراها أيضاً كما أراها، فقالوا له كيف هذا؟ قالوا لبيركلي Berkeley لو لم يُوجَد وجوداً حقيقياً كيف نرى جميعاً نفس المرائي؟ قال الله يُنسِّق بينها ويخلقها نفس الخلق، فهو يخلقها كلها عندك وعندي بنفس الطريقة، فهو أجاب عن هذه المسألة أيضاً لكن المُهِم أنه لم يجب عن الشُبهات التي أوردناها، فكانط Kant في مُقدَّمة الطبعة الثانية لنقد العقل المحض ماذا كتب؟ كتب هذه الطبعة فيها إضافة وحيدة وهي إضافة مُهِمة وأصيلة، وهي الرد على المثالية المادية، مثالية بيركلي Berkeley قال رددت عليها، فكانط Kant ليس مثالياً بهذا المعنى، اعترف بأن للأشياء عينية وخارجية، أي أنها مُتخارِجة عنها واعترف بأنها مُستقِلة عن إدراكنا، لكن ماذا قال؟ وفعلاً هذا ذكاء وهي نُقطة كبيرة جداً، قال بعد ذلك نحن نُدرِكها ولا نُدرِكها إلا على النحو الذي نُدرِكها عليه، أما كيف هي قبل إدراكنا لها؟ قال لا نعرف ولا أحد يقدر على أن يعرف، وهذ الكلام في الظاهر ليس من السهل نقده وفي الظاهر هو كلام صحيح إلى حد بعيد جداً، مَن يُدرِك الأشياء في واقعيتها كما هي إلا رب العالمين؟ نحن قلنا قبل قليل أننا نرى الأشياء بألوان لكن ليست كل الكائنات تراها بنفس الألوان، أليس كذلك؟ وهذا معناه أن حتى الحجوم والحدود لا تراها المخلوقات بنفس الطريقة، وهذا أكيد وصحيح، أنا أُريد أن أطرح سؤالاً هنا، كيف تكون الأشياء هي في ذاتها؟ هذا أسماه بالـ Noumenon، وكلمة Noumenon تعني الشيئ في ذاته بالألمانية، الشيئ في ذاته قبل أن نُدرِكه وقبل أن يتعلَّق به الإدراك، أنا أقول لكم واحد وحيد يقدر على أن يعرف الشيئ في ذاته وهو رب العالمين، غير رب العالمين لا يقدر أحد على معرفة ذلك، ومن المُؤكَّد أن جبريل والملائكة والجن والإنس والحيوانات طبعاً وكل المخلوقات مُركَّبة بطريقة مُعيَّنة لكي تُدرِك العالم بطريقة مُحدَّدة، العالم هو كما هو، كيف؟ لا نعرف، رب العالمين يعرف هذا، نحن نناله بحسب ما هُيّئنا له.
هناك عبارة لطيفة جداً تقول إذا اجتمع اثنان كم يتحصَّل منهما؟ سوف تقول لي اثنان، وهذا غير صحيح، يتحصَّل منهما على الأقل ستة، وأنا يُمكِن أن أجعلهم ثمانية أو اثنتي عشرة بسهولة، يتحصَّل منهم: الأول في ذاته كما يعلمه الله، هو لا يعلم نفسه كما يعلمه الله، هذا مُستحيل، قال الله وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۩، مَن يعرف نفسه؟ كل أحد منا مخدوع بنفسه ولو على كل تفاوت، والثاني كما هو في ذاته، كما يعلمه الله تبارك وتعالى، وبعد ذلك الأول كما يرى نفسه، والثاني كما يرى نفسه، وبعد ذلك الأول كما يراه صاحبه، والثاني – هذا السادس – كما يراه صاحبه، وأنا زِدت من عندي أيضاً، هم قالوا ستة لكنني زِدت السابع والثامن، والأول كما يظن أن صاحبه يراه لا كما يراه صاحبه طبعاً، هذه صورة سابعة، والثاني كما يظن أن صاحبه الأول يراه لا كما يراه صاحبه فعلاً في واقعه وفي واقع رؤيته، إذن أصبحوا ثمانية، أليس كذلك؟ ويُمكِن أن تأتي بما هو أكثر من هذا، وهذه مسألة صعبة جداً، مَن أنا؟ ما حقيقتي؟ صعب جداً أن تعرف، أليس كذلك؟ وحتى سؤال مَن أنا؟ ومَن أنت؟ مِن أصعب الأشياء التي يُجاب عليها والله، فلسفياً صعب جداً جداً جداً، وكلما أجبت بسؤال سوف يأتي عليه ما يُشكِّك فيه، على كل حال نعود إلى كلام كانط Kant، نُريد أن نُبسِّط هذا الكلام المُعقَّد الكبير، وإن شاء الله سنُوضِّحه بأشياء قريبة بإذن الله تعالى.
كانط Kant ماذا قال؟ قال المعرفة تبدأ بالتجربة لكنها لا تنشأ عنها، هل يُوجَد فرق؟ يُوجَد فرق كبير بين الأمرين، واكتبوا هذه العبارة فهي مُهِمة جداً، تُلخِّص شطراً عظيماً من نقد العقل المحض، قال المعرفة تبدأ بالتجربة لكنها لا تنشأ عنها، لو قلنا المعرفة تنشأ عن التجربة فهذا سوف يعني أن العلة الكافية والعلة التامة للمعرفة هي التجربة، وهذا يعني أن كانط Kant آض أو صار فيلسوفاً تجريبياً حسياً مثل كل التجربيين، مثل ديفيد هيوم David Hume، وهيوم Hume سابق عليه كما قلنا، أليس كذلك؟ هيوم Hume في عام ألف وسبعمائة وستة وسبعين تُوفيَ، كانط Kant في عام ألف وثمانمائة وأربعة تُوفيَ، وهو يُعتبَر أستاذه لأن هو الذي أيقظه من سُباته الدوجماطيقي، فهيوم Hume تجريبي محض، وسوف نرجع إليه كما قلنا وكما وعدناكم، كانط Kant قال لولا الأحكام السابقة المُتعالية Transcendental – هذا يُسمونه التحليل السامي أو التحليل المُتعالي – وهي أحكام فطرية مركوزة فينا ولم تُؤخَذ من تجربة ولا تُستمَد من تجربة لما أمكن قيام معرفة لدينا أصلاً، والتجربة لا تقدر على أن تُعطيك شيئاً له معنى، لكن مع هذه الأحكام سوف يكون هناك معنى لمُدخَلات التجربة، كيف؟ قال كالتالي: أنت تُسلِّط البصر على أي شيئ فتراه، البصر ماذا يُؤدي إليك؟ يُؤدي إليك مُجرَّد صور لا تعني شيئاً، صور وألوان وأشياء وما إلى ذلك فقط، والمُشكِلة أن البصر لا يعمل وحده، يعمل مع السمع ومع وسائل الإحساس الأُخرى، قال فيأتيك باستمرار مئات إن لم يكن ألوف المُدخَلات الحسية، كلها تأتي إلى الدماغ من كل الجهات، وشبَّهها ديورانت Durant بالرسائل التي تأتي إلى القائد العسكري من كل الجبهات ومن أوقات مُختِلفة، واحدة أُرسِلت قبل أسبوع وواحدة قبل شهر وواحد قبل يومين وهذه من الجبهة الشرقية وهذه من الجبهة الغربية وهذه من إفريقيا وهذه من آسيا، وهذا كله أتى إلى قائد عسكري كبير في حرب عالمية مثلاً، أليس كذلك؟ وهذا تشبيه جيد، ما الذي يحدث؟ لو تُرِكَت كما هي على ما افترض ديفيد هيوم David Hume لما عقل الإنسان شيئاً، كم هائل وركام هائل غير مُتناسِق وغير مُتآزِر من الصور والمشمومات والمسموعات وإلى آخره، ولا هي صور ولا هي مشمومات ولا مسموعات أيضاً، هي مُجرَّد إحساسات ساذجة وبسيطة ومُتنافِرة ومُتشاكِسة ولا تعني شيئاً، هنا يتدخَّل كانط Kant ويقول ماذا؟ العقل، ماذا يُساوي؟ يُوجَد شيئ يُسميه كانط Kant القوالب، القوالب Categories، هذه قوالب مُعيَّنة، وهذه القوالب هي كقلب الزمان – قال هذا أهم شيئ – وقالب كانط Kant، وهذا يعني أن كانط Kant لا يعترف بأن المكان شيئ يُدرَك في ذاته، قال لا يُوجَد شيئ اسمه المكان طبعاً، ولا يُوجَد شيئ اسمه الزمان أبداً، فماذا هما يا كانط Kant؟ قال هاتان مقولتان أو قالبان فطريان مركوزان في العقل الإنساني، العقل الإنساني يعمل وفق هذه الكيفية، يستقبل مُدخَلات الحس ويُعيد مُباشَرةً موضعتها، يقوم بعمل مُعالَجة – Processing – ضمن قالبين، شيئ اسمه قالب الزمان وشيئ اسمه قالب المكان، إذن قالب الزمان وقالب المكان، بمعنى أنك الآن – مثلاً – أخذت تفاحة ونهست منها نهسة – نهس مثل نهش لكن بطرف أسنانه – فكيف يستقبل العقل هذا؟ يستقبل أن هذه تفاحة وأنا أخذت منها قضمة، أي قضمت منها قضمة، كيف عرف أنها تفاحة؟ الذي وصل عن طريق الحس للإنسان ما هو؟ لون، انفعالات لونية، اللون وحده، مثل لون التفاحة الأخضر والأحمر، أليس كذلك؟ وملمس ناعم، وإحساس بالضغط ما بين الأنامل، يُسمونه إحساس بالضغط بين الأنامل، وطبعاً الإحساسات أكثر بكثير من أن تكون خمسة أو ستة، هي كثيرة جداً لكن هذه مأنوسة للكل، فيُوجَد إحساس بالضغط ما بين الأنامل، وكذلك الطعم والريح أو الرائحة – رائحة التفاحة – وإلى آخره، كل هذا يُعالِجه العقل ويُعيد مُعالَجته ضمن قالبين، هما الزمان والمكان، فيفهم العقل أن هذه الأشياء كلها أنت تلقيتها في زمن واحد وهي مُتموضِعة على هذا الشيئ وهذا يُساوي تفحة، هذا عجيب، هذا الرجل عنده عقل كبير، وهم أسموه آلة Machine، قالوا عنه أنه آلة مُفكِّرة، فهو ليس بشراً عادياً، عنده دماغ كبير، لذلك قلت لك العالم كله مُهتَم به، ولم يكن العلم مُتطوِّراً كثيراً في أيامه، مات الرجل في عام ألف وثمانمائة وأربع، فكيف لو عاش اليوم وقرأ علوم الأعصاب والفسيولوجيا Physiology؟ هذا الرجل مُخيف، هذا الرجل مُصيبة، هؤلاء هم الألمان، فقال لك هذا الذي يحدث، لو لم يكن عندنا قالب الزمان وقالب المكان ما حدث هذا، سوف نقول له هل الزمان والمكان الآن يا كانط Kant ليسا أشياء قابلة للإدراك؟ سوف يقول انتبهوا ولا تتورَّطوا في هذا الغلط، الزمان والمكان ليسا أشياء قابلة للإدراك، قال كل الفلاسفة الميتافيزيقيين للأسف الشديد – وهذا صحيح – عاملوا الزمان والمكان من أرسطو Aristotle إلى ابن سينا إلى طبعاً المدرسيون وإلى آخره على أنهما موضوعان للإدراك، وهذه أكبر خطيئة فلسفية، الزمان والمكان وسيلتا إدراك المُحسات وليسا موضوعين للإدراك، إذا أردت أن تُعامِلهما على أنهما موضوعان للإدراك تقع في التناقض رُغماً عنك، وسر هذا التناقض الذي لا حل له سيقوله كانط Kant، فهو كان واثقاً من نفسه جداً وكان يقول كتابي هذا بغض النظر عن موقفك منه أنا أزعم – هو قال هذا – أنك لن ترتطم بأي مُشكِلة ميتافيزيقية إلا ألفيت لها حلاً فيه، أنا سوف أُعطيك الحل، وطبعاً الكثير من الناس اقتنعوا بكل فيه، وهناك مَن بدأوا ينتقدون، لماذا؟ قال مثلاً أنت الآن تسأل هل العالم محدود أو لانهائي؟ وهذا سؤال غبي وعبيط ولا يُوجَد جواب عنه وسوف تقع في المُفارَقة وسوف تقع في التناقض، لماذا؟ لأنك تُعامِل المكان – الفضاء – على أنه موضوع إدراك، قال وهو ليس موضوع إدراك، هو قالب إدراك، أي طريقة عمل تفكيرك، لكي يُنظِّم الأشياء التي يأتي بها الحس فقط ويُعطيها معنى، هل أنت تظن المكان شيئاً خارجياً يُدرَك؟ قال هذا غلط وهو مُستحيل، فما هي المُفارَقة؟ سوف تقول العالم محدود، لكن العقل نفسه سوف يقول لك لا، هو ليس محدوداً، لعدم وجود حد يُمكِن أن تتخيَّله إلا ويتخيَّل العقل نفسه شيئاً وراءه، أليس كذلك؟ وفي نفس الوقت لو تخيَّلت أنه مُستمِر بلا حد سوف تقول لابد من وجود حد، قال دائماً تقع في التناقض، وهذا بسبب ماذا؟ أنك ظننت أن المكان موضوع إدراك، هو ليس موضوع إدراك، هو وسيلة إدراك وليس موضوع إدراك، قالب للذهن، وهذا كان أولاً، ثانياً قال الزمان ينطبق عليه نفي الشيئ، خطير هذا الكلام، قال سوف تسأل وتقول هل للكون بداية؟ هل للزمان بداية؟ وسوف تقع في تناقض مُشابِه تماماً، إذا قلت نعم له بداية وكانت قبل خمسة عشر بليون Billion سنة أو قبل خمسة عشر جوجل Google سنة أو قبل خمسة عشر جوجل بليكس Googel Plex سنة لن يقنع العقل، هل تعرفون جوجل بليكس Googel Plex؟ هذا أكبر رقم إلى الآن، لا يُوجَد ما هو أكبر منه على الإطلاق، لا تقل – مثلاً – عشرة أُس مائتين وثلاث وأربعين، ليس هذا، فأكبر رقم على الإطلاق جوجل بليكس Googel Plex، لكن ما هو؟ مَن يقول لي ما هو؟ ما هو الجوجل Google؟ عشرة أُس مائة، الجوجل Google عشرة أُس مائة، الآن عشرة أُس جوجل Google اسمه جوجل بليكس Googel Plex، حين تضرب العشرة ليس مائة مرة أو مائة صفر وإنما جوجل Google مرة، أنت الآن تخيَّل الفرق بين مليون وبين رقم المليون، رقم المليون ما هو؟ واحد أمامه ستة أصفار، لكن لو ضربنا العشرة في نفسها مليون مرة – عشرة في عشرة في عشرة في عشرة في عشرة وهكذا – قل لي ماذا سوف يخرج الآن؟ فكيف إذا ضربتها في نفسها جوجل Google مرة؟ ليس مليون وليس تريليون وليس كدريليون مرة وإنما جوجل Google مرة، الذي سوف يخرج رقم اسمه جوجل بليكس Googel Plex، وهو أكبر رقم، نحن سنتحدَّث باسم كانط Kant وطبعاً أيامه لم يُوجَد لا جوجل Google ولا جوجل بليكس Googel Plex، وأنتم تعرفون جوجل Google، هو كان عالماً رياضياً أمريكياً وعالماً فلكياً وقد فكَّر في هذا العالم، قال سوف نقول عشرة أُس مائة وهو رقم كبير جداً جداً، واحد وأمامه مائة صفر، قال لابن أخته وكان ولداً صغيراً عمره تسع سنوات يا ولد إذا أردنا أن نضع واحد وأمامه مائة صفر ماذا نُسميه؟ قال له جوجل Google، هذه كلمة من عند الطفل مثلما نقول زنجل أو بنجل أو أي شيئ، فهو قال له جوجل Google ومن يومها وُضِعَت، فقط لأن خاله عالم كبير في الرياضيات دخل التاريخ هذا الولد الأهبل، أبو جوجل Google، هذه الكلمة فيها نوع من الاستهبال لكنه دخل التاريخ، فافترضنا على لسان كانط Kant – طيَّب الله ذكره – أنه يقول التالي، علماً بأن كانط Kant مات ميتة جيدة، هذا الرجل حين كان يُنزَع ابتسم وقال كان كله جيداً أو كان كله طيباً وأغمض عينيه، وكأن الرجل رأى بُشرى أو شيئاً كهذا، وطبعاً أنا أُؤمِن بهذا، أنا أُؤمِن أن أي إنسان لم يسمع بالإسلام ولم يعرف الإسلام ولم يبلغه الإسلام بلاغاً مُبيناً سوف يُحاسِبه الله على ما يعلمه وعلى مدى صفائه وصدقه في خدمة قضية الإيمان وما إلى ذلك، هذا هو، أما إذا بلغته الحُجة وكابر فهذا هو الذي يُسمى كافر، فهو أنكر ومن ثم ذهب في ستين دهية، علماً بأن هناك شُبهة في إسلام كانط Kant، الرجل قد يكون أسلم، له بعض المخطوطات في أولها: بسم الله الرحمن الرحيم، وفي بعضها قول الله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ۩، فلعل الرجل آمن في داخله فعلاً لكنه لم يقدر في عصره أن يُعلِن هذا وإلا يُقتَل، على كل حال نعود، لو افترضنا على لسان كانط Kant – مثلاً – أن هذا الفيلسوف العظيم قال نفترض أن هذا الكون قبل جوجل بليكس Googel Plex له بداية فسوف يرجع العقل ولا يقف ويتمرَّد قائلاً هذه البداية لكن ماذا قبل البداية؟ لا يُمكِن أن يقنع العقل، لابد أن تكون قبل البداية بداية، أليس كذلك؟ سوف تقول له هناك بداية، إلى ماذا؟ سوف يقول لك هذا غير موجود، فمُستحيل أن الأمور تتسلسل بلا بداية، سوف يعود ويفترض بداية، وكلما افترض بداية رفض العقل أن تكون بداية، قال سوف تقع في التناقض ولن تنتهي، لماذا؟ قال هذا سؤال عبيط لأن ليس له أي جواب، لأن الزمان ليس موضوعاً للإدراك، يا ربي!
طبعاً كنت أُود أن أُلقي مُحاضَرة من أجلكم عن الزمان بالطريقة التي أُحِبها وكنتم ستسمعون أشياء عجيبة جداً جداً جداً، الزمان مَن يظن أنه يفهمه؟ مسألة صعبة جداً جداً جداً جداً، لكنكم سوف تسمعون أشياء فلسفية وعلمية وفيزيائية لطيفة جداً جداً، وسوف نقدر على تفسير أشياء كثيرة، مثل كيف يُمكِن لإنسان أن يجلس ويتصل بالمُستقبَل أو يتصل بالماضي أو يتصل بشيئ حاضر بعيده عنه؟ وكأن الزمان نوع من الوهم، وهو كذلك عند كانط Kant طبعاً، لا يُوجَد شيئ اسمه زمان في الحكاية، لكن نحن تفكيرنا محدود بصدد هذه الأشياء، وتحدث أشياء عجيبة، سأحكي لكم قصة واحدة فقط وهي قصة غريبة جداً جداً جداً، فيليب ك. ديك Philip K. Dick أديب أمريكا المشهور وهو صاحب رواية – أخذ عليها جائزة – اسمها “Flow My Tears, the Policeman Said”، أي “انهلي يا دموعي، قال رجل الشرطة”، وقد أخذ عليها في ألف وتسعمائة وأربع وسبعين جائزة كُبرى في أمريكا، قصته غريبة جداً فيها، يحكي عن نفسه شيئاً عجيباً، وطبعاً هذا وُثِّق وعُولِج وكتب عنه دراسات وأشياء، وتحدَّث عن هذا علماء الباراسيكولوجي Parapsychology ورجال الدين وإلى آخره، مسألة غريبة جداً، هذا الرجل من مواليد ثمانية وعشرين وتُوفيَ في سنة ألف وتسعمائة واثنين وثمانين، يقول في يوم من الأيام ذهبت إلى حفل دُعيت إليه فتعرَّفت على سيدة – هل تعرفون هذه القصة؟ هل قصصتها عليكم؟ إذا قصصتها سوف أشطب عليها وأقول غيرها، وهذا كله من أجل إيضاح الزمان، فالزمان قصته غريبة – وإذا باسمها كاسم السيدة التي هي بطلة قصتي، قال هذا عادي وحصل بالصُدفة ويُمكِن أن يحصل، هناك أكثر من عشرة آلاف سيدة لها نفس الاسم، فلا تُوجَد مُشكِلة، قال بعد ذلك كنت تحدَّثني وتشكو من زوجها، فقلت هذا يُوافِق ما في قصتي، قال هذا لنفسه طبعاً ولم يقل لها هذا، فهذه السيدة التي تحمل هذا الاسم كان عندها مُشكِلة مع زوجها، وللأسف اتضح أن السيدة أثيمة وعندها علاقة مُحرَّمة للأسف مع رئيس الشُرطة في البلد، قال هذا أيضاً في القصة عندي، البطلة التي تحمل نفس الاسم عندها نفس العلاقة، قال لها ما اسمه؟ ما اسم رئيس الشُرطة؟ قالت لها فلان، قال هذا نفس الاسم، ثم قال عند هذه الدرجة استشعرت الخوف، يُوجَد شيئ غير طبيعي يحدث، ما الذي يحدث هنا؟ شك الرجل في نفسه، قال فتركت الحفل، هذا غير معقول، هذه توافقات دقيقة، وطبعاً هذه يُسمونها التوافقيات، أي Synchronicity، فكارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung أسماها Synchronicity، التوافقيات Coincidences، فقال تركت الحفل وكان معي رسالة أردت أن أودعها مكتب البريد، فذهبت إلى مكتب البريد وأنا أنتظر الدور لكي أودع الرسالة رأيت رجلاً يقف بالخارج عند سيارتي، وكان مُصاباً الهواجس ويشك في الناس وما إلى ذلك، قال فذهبت إليه، قلت له يا سيد هل هناك أمر؟ قال في الحقيقة انقطعت بي السبيل، سيارتي ليس فيها البنزين، ولا أعرف كيف أتدبَّر حالي، قال فأخرجت محفظتي وأعطيته بعض النقود، ثم ركبت سيارتي بعد ذلك، قال قبل أن أبلغ البيت قلت ليس هكذا يكون عون العباد، هذا الرجل مُنقطِع به، كيف سيصل إلى قرب محطة بنزين؟ علىّ أن أعود وأن أُقله بسيارتي إلى محطة البنزين ونعود بالبنزين إلى سيارته بعد أن نضعه في جالون مثلاً، قال وذهبت، عند هذه اللحظة تذكَّرت أن كل هذه الأحداث مكتوبة في روايتي، رجل يكون في حفلة ويحدث معه ما حدث معه تماماً وبعد ذلك يخرج ويذهب إلى البريد ويجد رجلاً وتُوجَد مُشكِلة تتعلَّق بالبنزين ثم يعود إلى بيته وإلى آخره، نفس الأحداث تقع، قال فدخلني فزع شديد، وطبعاً الشهود كلهم شهدوا على هذا الشيئ وكُتِبَت في الجرائد وما إلى ذلك، فيليب ك. ديك Philip K. Dick أديب أمريكي، قال ثم ذهبت إلى القس وقلت له يا مولانا انظر إلى هذه القصة، هناك شيئ غير معقول يحدث معي، قال له هذا سفر الأعمال، هذه الأحداث تُوجَد منها صورة تقريباً كربونية في سفر الأعمال، قال له ما هو سفر الأعمال؟ قال له هذا في كتابك ألم تقرأه؟ فقال لم أقرأه، قال موجود فاذهب واقرأه، قال فأدركت أن الزمان مُجرَّد وهم، يبدو أن الأمور كلها فعلاً كذلك، بتعبير لاهوتي كل شيئ مخلوق وكل شيئ حاضر وناجز في لحظة واحدة بل من غير لحظة، لا يُوجَد زمان، ونحن أدمغتنا – وسأُوضِّح لكم هذا الآن بمثال بسيط – مخلوقة بطريقة بحيث تُدرِك الأشياء شيئاً فشيئاً، مثل فيلم موضوع على كاسيت فيديو Videocassette ويستغرق أربع ساعات أو ثلاث ساعات، فأنت تُمسِكه – لو افترضنا أنه يُمثَّل لحظياً فهو لحظة مثلاً – وحين تضعه في الجهاز لا يُمكِن أن تراه إلا في ثلاث ساعات، لأن دماغك يعمل هكذا، انتبه إلى هذا، لو كانت عين الإنسان تلتقط ليس بسرعة واحد على ستة عشر لاختلف الأمر، وأنتم تعرفون أن الصور حين تتردد ست عشرة مرة في الثانية نرى لكن لو كانت أكثر من هذا سوف نرى الصورة ثابتة، وهذا هو فن السينما Cinema، السينما Cinema أكثر، حوالي عشرين تردد في الثانية، وأنت تراها مُتحرِّكة وهي كلها صور ثابتة، لو العين عندها القدرة – مثلاً – على أن تلتقط مائة ألف تردد في الثانية ماذا سوف نرى؟ سوف نرى كل شيئ مُتحرِّك أم ثابت؟ أنا أقول لك لو عينك كانت ترى الترددات بسرعة شديدة سوف ترى كل شيئ في أشبه بلا زمان لسرعة التردد، فهذا الفيلم كله يُمكِن أن تراه في عُشر الثانية أو في واحد على ألف من الثانية رُغم أن الفيلم يستغرق ثلاث ساعات، أليس كذلك؟ لو عُرِض عليك بهذه السرعة سوف تراه على هذا النحو وسوف تُدرِك كل شيئ، علماً بأن هذا هو بسط الزمان الذي يحدث لأولياء الله، يقولون الواحد منهم قد يقرأ خمس مُجلَّدات في ليلة، هذه هي، والنبي ليلة المعراج ذهب وجاء ورجع، هذه هي.
نرجع إلى ما كنا فيه، أنا الآن – كما قلت – أراكم وأنتم ترون أنفسكم في نفس اللحظة، أليس كذلك؟ في الحقيقة هل المفروض أن تكون لحظة واحدة أو لحظات مُتعاقِبة، لماذا؟ لأن الضوء حين يأتي – مثلاً – من أخي الذي يبتعد عني مترين يقطع هذه المسافة في زمن أقل من المسافة التي يقطعها بيني وبين أُختي التي تبتعد عن عشرين متراً، أليس كذلك؟ وأنت تقدر على أن تعرف هذا، فالضوء يسير بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، اضرب في ألف متر وبعد ذلك في مائة سنتيمتر وسوف يخرج لك المقدار بالسنتيمتر في الثانية، أليس كذلك؟ لكن العين لا تستطيع التقاط هذه الأبعاد البسيطة جداً، فأرى أنني أراكم في نفس اللحظة، لو كانت عيننا مخلوقة – كما قلت لكم – بحيث تلتقط هذه الأشياء بسرعات أكبر – ألفان تردد مثلاً أو ثلاثة آلاف تردد في الثانية – هل تعرف ما الذي سوف يحدث؟ لو افترضنا أن العين تلتقط ثلاثمائة ألف كيلو ضرب ألف ضرب مائة سنتيمتر في الثانية ما الذي سوف يحدث؟ سوف ترى كل أحد قبل الآخر بمسافة زمانية وليس في نفس اللحظة، الذي يأتي قبل سوف تراه قبل وهكذ، لكن هذا لا يحدث، فهناك علماء يقولون الزمان عنده نفس هذه الطريقة، نحن مُركَّبين لكي نُدرِكه على هذا النحو، لكن لو خلق الله لنا عقولاً على نحو مُختلِف سوف يختلف الأمر، فهنا طُرِح تساؤل عجيب وغريب، قالوا ما الذي يحدث مع هؤلاء الأدباء والفلاسفة ورجال الدين الذين يقولون علمنا الغيب أو مخرنا عُباب المُستقبَل أو عُدنا إلى ظُلمات وغياهب الماضي السحيق؟ ما الذي يحدث هنا؟ تُوجَد مسألة لها علاقة بالذهن بإذن الله، فهي لها علاقة بالذهن وهذا من الله طبعاً، هذه كرامة من الله وعطية من الله، وطبعاً هناك قصص مُشكِلة وروايات كثيرة جداً جداً جداً تُؤكِّد صدقية هذه الظاهرة، سوف نرى – إن شاء الله – مرة أُخرى ما هذه القصة.
إذن في منوضوع الزمان قال كانط Kant سوف تقع في مُفارَقة، وله رأي في موضوع العلية، وهذا طبعاً للأسف يسوءنا جداً، ولذلك كانط Kant قال لا تُوجَد إمكانية لإثبات وجود الله بالعقل، قال العقل النظري أو العقل المحض – Pure reason – غير قادر على أن يُثبِت وجود الله، كيف يا كانط Kant؟ ماذا عن قانون العلية؟ قال علية ماذا؟ لا يُوجَد شيئ اسمه علية، قانون العلية قالب عقلي، قالب مثل الزمان ومثل المكان يُوجَد في العقل، وسيلة للإدراك فقط وليس شيئاً يُدرَك، لا يُوجَد شيئ في الخارج اسمه علية، قال ولذلك إذا قلت أنت – مثلاً – أن وجود الله – تبارك وتعالى – ضروري بسبب قانون العلية سوف تكون أخطأت مرتين، أول خطأ في كلمة ضرورة، الضرورة قالب ذهني أو قالب عقلي، وأنتم تسمعون بقوالب كانط Kant، فهو عنده اثني عشر قالباً، هذه يُسمونها قوالب أو مقولات، قال قالب أو مقولة عقلية لا تُدرَك لكن بها تُدرَك الأشياء، بها نستطيع أن نُنظِّم مُدخَلات الحس ومُدخَلات التجربة ونتائج، لكن إذا أردت أن تُعامِل الضرورة على أنها معنى يُدرَك في ذاته كشيئ يُدرَك سوف تكون ارتكبت خطيئة فلسفية عُظمى، قال كذلك العلة، أنت سوف تسأل وتقول هل لهذا العالم أو ليس له علة؟ فإن قلت له علة – مثلاً لهذا علة – فما علة العلة؟ سوف تقول له علة أُخرى، يقول كانط Kant بعد ذلك إما أن تقف عند علة أخيرة ليس لها علة – قال هذا تناقض، كيف؟ لابد أيضاً أن تقول وما علة هذه العلة؟ ما علتها؟ قد تقول هذه علة بلا علة – ولن يقبل العقل هذا وإما أن تُسلسِل العلل والعقل أيضاً لا يقبل هذا، ما سبب هذه المُفارَقة؟ أنك ظننت أن العلية شيئ يُدرَك، أي موضوع إدراك، قال هذا ليس موضوع إدراك، هو وسيلة إدراك، يُوجَد فرق بين موضوع إدراك ووسيلة إدراك، هذه طريقة كانط Kant، وطبعاً كيف ردوا عليها؟ هذا يحتاج إلى مُحاضَرة طويلة، وكما قلت لكم في مرة سابقة أحسن مَن يرد على كانط – وليس من السهل مُطلَقاً الرد عليه، الكثير من الناس اقتنعوا بكلامه في الشرق والغرب – الفلسفة الإسلامية، سبحان الله هي الوحيدة التي عندها هذه القدرة، لماذا؟ كانط Kant أخطأ في تقييم بعض المفاهيم الفلسفية وظنها من قبيل المفاهيم المنطقية، وقد شرحت لكم هذا، ظن المعقولات الثانية الفلسفية معقولات ثانية منطقية، بعض الناس كانوا يقولون ما أهمية الفلسفة؟ الآن عند هذا الحد سوف يبدو لكم ما أهمية الفلسفة طبعاً، قد تقول لي أنا مُسلِم عادي، ونعم أنت مُسلِم عادي وليس شرطاً أن تكون فيلسوفاً لكن حين يأتيك رجل دارس ومُتعلِّم وذكي جداً وعقل ضخم وعبقري ويقول لك أنا غير مُقتنِع يا سيدي بكل براهين وجود الله سوف تقول له كيف؟ الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟ لكنه سوف يقول لك اسكت، ألم تقرأ كانط Kant؟ تعال هنا Come here، ماذا تقول؟ بَعْرَة ماذا؟ وبعير ماذا؟ أين نجلس نحن؟ فينتقدك وأنت ترتجف، وسوف يُثبِت لك رأيه ويتحدَّث عن كانط Kant ويأتي لك بأمثلة فيُضيِّعك ويُضيِّع مَن حولك، فهنا لابد أن يُوجَد في المُسلِمين مَن يتخصَّص فعلاً ويفهم هذا الأشياء بعمق حقيقي لكي يرد على كبار الفلاسفة، وإلا لن ينفع هذا، أذكر ذات مرة أثناء قرائتي للفلسفة قبل حوالي سبع عشر سنة كنت أقرأ برتراند راسل Bertrand Russell وواجهتني شُبهة، وكما قلت لكم ليس من السهل قراءة راسل Russell الخبيث، هذا مُلحِد عتي، المُفكِّر الهندي الكبير وحي الدين خان أنتم تعرفونه، هو صاحب الإسلام يتحدى، وهو كتاب رائع جداً، هذا الكتاب هدى الله به أناساً كثيرين – سبحان الله – أيام طفولتي وكانوا ماركسيين، هذا الكتاب جميل وأنصحكم أن تقرأوه – والله – وأن تعطوه لأولادكم، اسمه: الإسلام يتحدى “مُدخَل علمي إلى الإيمان”، وحيد الدين خان في كتاب آخر ماذا يقول؟ يقول قررت في صيف تسع وستين أن أقرأ راسل Russell، لابد أن أقرأ برتراند راسل Bertrand Russell، هذا مُفكِّر هندي وليس عربياً، هؤلاء عندهم صدقية، قال لابد أن أقرأ كل أعمال راسل Russell لكي أرد عليه، ورد عليه في فصول بسيطة، حوالي عشر صفحات، لكنه رد قوي أيضاً ومُحكَم، قال ومن حُسن حظي وجدت مجموعة أعماله كاملة في مكتبة قريبة من بيتي فتأبطتها وعُدت إلى البيت، وزوجته – أي زوجة وحيد لدين خان – كانت مُثقَّفة مثله ما شاء الله، قال فلما رأتني زوجتي قالت برتراند راسل Bertrand Russell! أراك ستُلحِد عما قريب، قال دخلت عالم راسل Russell وخرجت أرسخ يقيناً بفضل الله تبارك وتعالى، فكنت أقرأ راسل Russell ذات مرة وشبَّه علىّ بشُبهة في الإلحاد من أخطر ما يكون، لأول مرة أقرأ هذه الشُبهة ولم أسمعها قبل من بشر لكن قالها هذا الرجل، هل تعرف ما هي؟ طبعاً ضد برهان النظم نفسه، قال هو أقوى برهان لكن يُوجَد ردان، رد من داروين Darwin والرد الثاني لم أذكره لكم لكن الآن سأذكره، ما هو الرد الثاني؟ قال أصلاً هذا البرهان كله قائم على تسليم مفهوم الحكمة، أن هناك حكمة، الأشياء مُتعاضِدة وتعمل كلها إلى غاية، هذا يعني وجود حكمة ومن ثم وجود حكيم أوجد هذا الشيئ، قال ما مفهوم الحكمة؟ أنا لا أُسلِّم به، لماذا نُسمي هذه الحالة في الكون والأشياء بالحكمة ونقول أنها حالة دقيقة ومُنظَّمة؟ أنت لكي تحكم عليها أنها دقيقة ومُنظَّمة وما إلى ذلك لابد أن يكون عندك إمكان المُقارَنة، ولا تُوجَد مُقارَنة، عندك كون – Universe – واحد وهو هذا، وهو موجود هكذا، هو انوجد هكذا، أليس كذلك؟ فسمه كما شئت ولن يُناقِشك أحد، لا يُوجَد مجال للمُقارَنة، قال أنا أفترض لو انوجد كون آخر عكس هذا الكون يسير فيه كل شيئ بقوانين مُناقِضة سوف نقول ما شاء الله، هذا كون مُمتاز جميل ومُنظَّم، هذه شُبهة خطيرة وملعونة، فقلت لي يا ربي ما هذا؟ بفضل الله لم تمر دقيقتان أو ثلاث دقائق وألهمني ربي الصواب – بفضل الله – إلى اليوم، هل تعرف ما هو؟ هذا الكلام من برتراند راسل Bertrand Russell وأمثاله كلام لا يعني التشطيب على وجود الذات الإلهية بقدر ما يعني – وهو كذلك فعلاً – التشطيب على العقل الإنساني طبعاً، لأن الذي ابتدع أو عقل أو يتعقَّل مفاهيم النظام والانتظام والغائية والعلية هو العقل، ولا يرى شيئاً ولا يرى نفسه ولا يعقل نفسه العقل إلا ضمن هذه القوالب أيضاً، فإذا أنت قلت هذه ليس لها معنى وهي أشياء اعتباطية فهذا سوف يعني أن العقل كله أصبح اعتباطياً، ومن ثم أصبح كل كلامه اعتباطياً ونقاشنا أصبح اعتباطياً والأقوال وأضدادها اعتباطية ودخلنا في عدمية نيهلية، أليس كذلك؟ ولذلك كان هيجل Hegel أذكى من راسل Russell، ماذا قال هيجل Hegel؟ قال قوانين العالم هي قوانين المنطق، أليس كذلك؟ وأن يُوجَد فعلاً بمعنى أن يُعقَل، هذا هو، لأن نظام العقل يشتغل هكذا،علماً بأن هذه عبارة أرسطية، وهي عبارة سينائية أيضاً، ابن سينا كان يقول هذا، ابن سينا حين عرَّف ماذا قال؟ قال الفلسفة هي سعيٌ وجهدٌ لجعل العالم الذهني على صورة العالم العياني، أي لكي يتطابقا تماماً، هذه الفلسفة وهذه كلمة هيجل Hegel، راسل Russell قال لا، وطبعاً أصبح عدمياً، شطب على العقل لكي يبقى مُلحِداً ومن ثم شطب على كل شيئ وسقط إلحاده أيضاً، أصبح إلحاده بلا دلالة لأنه عدمي، هو داس على العقل نفسه فانتهى كل شيئ ومن ثم انقطع النقاش.
فإذن هذا كانط Kant، كانط Kant قال لك بسبب هذا موضوع الله – تبارك وتعالى – وموضوع بداية العالم وخلق العالم كلها قضايا تُسلِم إلى مُفارَقات لا يُمكِن للعقل المحض أن يصل إلى البرهنة عليها والاستدلال الصحيح، فماذا نفعل يا كانط Kantوقد أضعتننا وأضعت الدين بهذه الطريقة؟ قال هذه القضايا نحن نُسلِّم فيها ليس بالعقل المحض وإنما بالعقل الأخلاقي والاجتماعي، على عكس ما كنا نعتقد نحن، كنا نعتقد أن قواعد الأخلاق والقيم الاجتماعية تتبع العقل النظري، قال لا، هذه الأشياء تابعة لمُسلَّمات العقل الأخلاقي، فمُقتضيات العقل الأخلاقي والاجتماعي تجعلنا نُؤمِن بأن الله موجود وأن الروح خالدة وبالحساب والعالم الآخر، أهلاً وسهلاً بهذا، لكن حين تقول بالعقل أستطيع أن أُثبِت هذه الأشياء فهذا غير صحيح، لا تستطيع ولا يستطيع أحد، قال لا أنا ولا أنت، هذا ليس ضمن حدود العقل، لكي أُوضِّح لكم أرجو أن تُركِّزوا معي في هذه الجُملة فقط التي سوف أختم بها ونأخذ الاستراحة – Break – إن شاء الله، ماذا يُريد أن يقول؟ يُريد أن يقول العقل النظري مُؤسَّس مفطور مخلوق مُركَّب ومُهيَّأ فقط ضمن هذه المقولات التي فيه – وهي مقولات سابقة، هذه كلها سابقة – Prior – على التجربة ومُتعالية على التجربة – فقط لإدراك وتنسيق مُدخَلات الحس ومُدخَلات التجربة، وليس لإدراك الأشياء في ذاتها، لا تستطيع هذا، ولذلك حين نقول له ماذا عن شيئ يتعلَّق بالله وبالآخرة وبالروح؟ سوف يقول هذا ليس حساً، هذه ليست أشياء محسوسة، أليس كذلك؟ العقل ليس له علاقة بها ولا يستطيع أن يتقدَّم خُطوة واحدة، العقل ليس مُهيَّأً لكي يتعامل مع هذه الأشياء، العقل مُركَّب ضمن هذه المقولات كلها – الزمان والمكان والضرورة والعلية والعنصر أو مفهوم العنصر وإلى آخره – فقط لكي يتعامل مع عالم الحس ومُدخَلات التجربة والحس، أي شيئ ليس من عالم الحس المُباشِر العقل لا يستطيع أن يتعامل معه، إن عاملته بهذه القوالب التي تُعامِل مُدخَلات سوف تقع في مُفارَقات، سوف يقول لك ما وضَّحته لك في قضية نهاية العالم ولا نهائيته وبداية العالم في الزمان ولا بدائيته وقضية خلود الروح من عدمه، لماذا؟ قال لأن الذين يقولون الروح خالدة عللوا ذلك بأنها عنصر غير قابل للفساد لكن مفهوم العنصر مفهوم Category، أي مفهوم قولبي، قال هذا قالبي وليس موضوع إدراك، فأنت أثبت الروح وخلودها بكلام فارغ وجعلتها موضوعاً وليست هي موضوعاً لأن العنصر نفسه ليس موضوعاً بل قالباً إدراكياً.
نكتفي – إن شاء الله – بهذا القدر لكي نأخذ الراحة ثم نُكمِل – إن شاء الله – فتفضَّلوا.
(تابعونا في الحلقات القادمة)
أضف تعليق