وهذه اشتغلت طبعاً في الاتحاد السوفيتي وفي أوروبا الشرقية وفي آسيا وفي إفريقيا، هذه كانت الوفية لمبدأ ماركس Marx في التغيير العنيف الذي شرحناه باختصار وإيجاز، وهناك الاشتراكية الديمقراطية التي ظلت وفية لمبدأ الاشتراكية وإنصاف العمّال والمسحوقين لكن ضمن عمل سلمي وبطيء، يُسمونها الثورة على خُطوات، الثورة ببطء، هذه اشتغلت في أوروبا الغربية، وبلا شك رأينا مع الحرب العالمية الثانية أنها استطاعت أن تعود بخير وتمثَّلت في دولة الرفاه، لولا الدعوات الماركسية والنشاط الماركسي ما حصل هذا، وكان بقيت الرأسمالية تتغوَّل، فهذا من باب المُدافَعة، الله – عز وجل – يدفع الأفكار بالأفكار والمُجتمَعات بالمُجتمَعات النقيضة والطروحات بالطروحات وهكذا، هذا كله من باب التوازن.

نكتفي بهذا القدر ونأتي الآن إلى الفلسفة الأمريكية الصميمة، الأمريكان أيضاً عندهم فلسفة واحدة، لم يُقدِّموا أي فلسفة أُخرى، وهي الفلسفة البراجماتية، يُسميها العرب الفلسفة الذرائعية أو الفلسفة الوسائلية أو الفلسفة النفعية أو الفلسفة الوسلية، أي Pragmatism، هذه الفلسفة أمريكية صميمة فعلاً، وأنشأها وشيَّد أركانها ثلاثة من الفلاسفة الأمريكان، شارل ساندرس بيرس Charles Sanders Peirce وويليام جيمس William James – مُؤسِّس علم النفس التجريبي – وجون ديوي John Dewey وهو مشهور طبعاً، هو فيلسوف مُلحِد كبير، ومن ناحية فلسفية قد يكون أعظم الثلاثة حقيقةً، بيرس Peirce له جهود مشكورة ومعروفة في علم اللغة – Linguistics – أيضاً وفي الميتالُغة وبُنيَ عليها الكثير، لكنه أيضاً كان فيلسوفاً براجماتياً، ويليام جيمس William James – كما قلت – مُؤسِّس علم النفس التجريبي، أشهر هؤلاء الفلاسفة وأعظمهم يداً على الفلسفة البراجماتية، إذا ذُكِرَت البراجماتية يُذكَر ويليام جيمس William James مُباشَرةً، البراجماتية معناها ويليام جيمس William James، طبعاً له أكثر من كتاب عن هذه الفلسفة، منها كتاب مشهور يقع في زُهاء خمسمائة صفحة اسمه البراجماتية يشرح فيه منظوره لهذه الفلسفة، ما هي البراجماتية؟ طبعاً البراجما Pragme معناها العمل – كلمة البراجما Pragme معناها العمل – ولذلك ربما تكون الفلسفة العملية أدق ترجمة من الوسلية والذرائعية والنفعية، بالنسبة للنفعية تُوجَد نفعية جيريمي بنثام Jeremy Bentham وميل Mill وهذا شيئ مُختلِف، فلسفة أخلاقية مُختلِفة تماماً، ومن ثم يحدث خلط في الترجمة، على كل حال هذه الفلسفة باختصار ترى أن معيار التحقق من الحقيقة – أي صدقاً أو كذباً – ومعيار سبر الأشياء – هل هي حقائق أو زيوف؟ والحقائق هل هي صادقة أو كاذبة بعد ذلك لكي لا تكون حقيقة فيما بعد؟ – ليس هو شيئاً من المعايير التي درج عليها المناطقة والفلاسفة من قبل والتي سنذكر منها ستة – إن شاء الله – في حلقتنا ربما القادمة عن الإبستمولوجيا Epistemology، لدينا ستة معايير سنذكرها بالتفصيل ونشرحها، لكن الفلسفة البراجماتية ترى أن المعيار هو الجدوى العملية، النفع في الحياة، الحياة الفردية والاجتماعية بعد ذلك، بعض الناس حاول أن يتجنى عن البراجماتية وقال هذه الفلسفة ستقود إلى فوضى، لماذا؟ لأن كل أحد من الناس طبعاً يكون له معيار ربما يختلف قليلاً أو كثيراً عن معايير الآخرين في الجدوى، ما ينفع لديك ربما يضر عندي، فويليام جيمس William James قال لا، أنا لم أقل هذا، أنا تحدَّثت بالذات عن النفع المجموعي، ليس عن نفع الأفراد وإنما عن النفع المجموعي، حتى التجربة التي دعا إليها ويليام جيمس William James وهو فيلسوف نفسي تجريبي لا تقتصر على التجربة الحسية، وهو مُؤسِّس علم النفس التجريبي وعنده كتاب ضخم اسمه علم النفس، وهو في علم النفس التجريبي، كتاب مشهور جداً، وقد خدم به علم النفس خدمةً جليلية، يقول حتى التجربة التي دعوت وأدعو إليها ليست تقتصر على التجربة الحسية، بل هي أشمل وأعم، تدخل فيها التجربة الحسية وتدخل فيها التجربة الباطنية والحدسية وتدخل فيها التجربة الدينية بعامة.

إذن باختصار الفلسفة البراجماتية تقول إذا أردت أن تعرف هذه الفكرة أو هذه النظرية أو هذه الطروحة صحيحة أو خاطئة لا تبحثها كما يبحثها الفلاسفة التقليديون، وإنما انظر إذا طُبِّقَت هل تُجدي في الحياة العملية؟ هل يستفيد منها المُجتمَع؟ هل يسعد بها الناس؟ هل تُساعِد على تنمية حياتهم وترقية أفكارهم وترقية مدنيتهم؟ إن كان الأمر كذلك فحياهلاً، هذه الفكرة صحيحة، مع أنها قد تكون في حد ذاتها بالمعايير التقليدية للحقيقة مُتهافِتة أو باطلة أو مُتناقِضة، قال لا يعنيني، هي براجماتياً صحيحة، وهذا عجيب، لذلك لدينا أحد الفلاسفة البراجماتيين وهو سانتيانا Santayana، جورج سانتيانا George Santayana كان براجماتياً أيضاً، وجورج سانتيانا George Santayana كان مُلحِداً وكان يقول عن الإله أنه كذبة، قال هذا كذب، لا يُوجَد شيئ اسمه إله، ولكنها كذبة مُفيدة، قال هي مُفيدة ومُمتازة، ويليام جيمس William James كان مُؤمِناً بمعنى ما بطريقته الخاص، كان مسيحياً بطريقته الخاصة لأنه كان يرى مُتأثِّراً بدراوين Darwin طبعاً وبهربرت سبنسر Herbert Spencer وبالتطوريين عموماً أن الله – تبارك وتعالى – ليس كائناً كاملاً Perfect، بل هو كائن يتطوَّر، أستغفر الله العظيم، آمن بالإله الناقص، قال الإله ناقص، وبعد ذلك عبر التاريخ يتطوَّر، وربما حتى تأثَّر بهيجل Hegel، لكن هيجل Hegel تحدَّث عن تجلي الروح وليس عن التطوّر للروح المُطلَق، وإنما عن التجلي، لكن هذا تحدَّث عن تطوّر وليس عن تجلٍ، قال يتطوَّر عبر مراحل التاريخ المُختلِفة، قال أنا أجد هذا الإله المُتطوِّر أفضل وأكثر سحراً من الإله التقليدي التام الساكن سكوناً مُطلَقاً والذي لا يتغيَّر، قال هذا إله سلبي، طبعاً هذا عقله، وطبعاً هذه الفكرة ليست فكرة براجماتية، هذه فكرة ميتافيزيقية، وهي مُتهافِتة جداً، فهنا ويليام جيمس William James لم يكن براجماتياً، هذا الطرح ليس طرحاً براجماتياً، هذا الطرح ميتافيزيقي وهو مُتهافِت جداً، الإيمان بإله يترقى مُباشَرةً يُثير سؤالاً في أول درج البحث، ما هي الدرجة التي بدأ منها ترقي الإله؟ لو افترضنا أن عمر الكون – مثلاً – أربعة عشر مليار سنة كما يقول الكوزمولوجيون، في اللحظة التي ظهرت فيها علاقة الخلق بين الخالق وبين كونه ما هي الدرجة التي كانت يتمتع بها الإله من الكمال؟ لابد أن تكون قبل أربعة عشر مليار سنة على نحو آخر، وطبعاً ويليام جيمس William James هنا سيقول هذا سؤال مُعقَّد لم أُفكِّر فيه، أنت الآن تضطرني أن أُحدِّد سرعة تطوّر الإله، ومن ثم سأقول له طبعاً، إذا كنت فيلسوفاً – ما شاء الله – وعندك هذا الطرح حدِّد لي سرعة جري هذا الإله وقل لي كيف يتطوَّر، هل تُوجَد عندك مُعادَلة – Equation – تُحدِّد هذا؟ سيقول لا، ليس عندي، إذن هذا يعني أن تفكيرك كله كان عبثياً، هذا كلام فارغ، هذه أوهام يا أخي، فقط لأن عنده لقب فيلسوف يقول هذا، هذه يُسمونها السُلطة، لأن هو عنده لقب فيلسوف فلذلك عنده سُلطة – Authority – أن يتكلَّم في كل شيئ وأن يقول وأن نسمع نحن ونقول هذه فلسفة، وهذا غير صحيح، نُريد أن نتساءل ونُريد أن نُناقِش، وصلنا الآن في علم الكوزمولوجيا – Cosmology – إلى أن هذا الكون قبل ثلاثة عشر مليار سنة وسبعمائة مليون سنة – أي قُرابة أربعة عشر مليار سنة – انفجر وبدأ يتمدد بسرعة الضوء، العلماء المُختَصون مثل روجر بنروز Roger Penrose يقول هناك مُعدَّل للدقة في التمدد وسرعة التمدد محكوم بشيئ يفوق التصوّر البشري ويُؤكِّد ضرورة وجود الإله الحكيم العاقل الذي انبثق عنه هذا الانفجار، أي بأمره، لماذا؟ قال لأن هذا الانفجار لو كان أسرع أو أبطأ بمُعدَّل واحد على عشرة أُس مائتين وثلاثة وأربعين لما وُجِدَ الكون – هذا مُستحيل – ولما وُجِدَنا لكي نبحثه الآن، وهو رقم مهول مُخيف وليس له مصداق إلا ذاته، فنرجع إلى ويليام جيمس William James ونقول له هذا الإله الذي كان عنده هذه الدقة التي كشف عنها روجر بنروز Roger Penrose وهي دقة ترقى إلى ثلاثة عشر مليار سنة وسبعمائة مليون سنة يبدو أنه كان يتمتع بدرجة من الكمال اللانهائي، أليس كذلك؟ وأنت تزعم أنه كان إلهاً بسيطاً قِزماً – Dwarf – وبدأ يترقى وما زال حتى يُرضي غرورك بألا كامل، يُوجَد أُناس على هذا النحو في مسائل من مسائل الإلحاد، سواء إلحاد في الإيمان أو إلحاد في الأسماء والصفات، قال الله وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، هناك أُناس تُؤمِن بالله لكن تُلحِد في الأسماء والصفات الإلهية طبعاً، يقولون الله موجود لكن الله علمه غير مُحيط وإنما علمه أُنف، وهذا إلحاد، أليس كذلك؟ يقولون الله موجود لكنه ليس على كل شيئ قدير، تُوجَد أشياء لا يقدر عليها من المُمكِنات طبعاً وليس من المُحالات لذاتها، مَن يقول هذا هو مُلحِد في الأسماء والصفات وإلى آخره، فمُشكِلة هؤلاء تكون مُشكِلة نفسية، لا يُحِب أن يعتقد أن حتى يُعتقَد بعامة أن هناك مَن هو أكمل منه، أن هناك كمالاً مُطلَقاً، يقول لك لا يُوجَد كمال، كله ناقص، كيف؟ هذا غير معقول، هذه مسألة نفسية، لذلك هذه الألوان من الإلحاد تكون أموراً نفسية أكثر منها أموراً عقلية أو شُبهات عقلية، هذه أمور نفسية، قال الله إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۩، وذلك في غافر، أي في المُؤمِن، قال الله المسألة تتعلَّق بكبر داخلي وليس أن عنده تشغيبات فلسفية وتشبيهات عقلية، الرجل عنده كبر في الداخل، لا يُحِب أن يشعر بأن هناك سُلطة أعلى منه وهو مسؤول إزاءها وهي عندها حق مُساءلته، لا يُحِب أن يعترف بهذا الشيئ، ولذلك يقول لك أنا أُؤمِن بالله لكنني لا أؤمِن بالحساب يا أخي، يا سلام، يقول لك أنا أُؤمِن بالله قوة ماورائية خلقت الكون لكنني لا أُؤمِن بالشرع وبالنبوات، هؤلاء يُسمونهم الربوبيون، مثل فولتير Voltaire مثل حتى السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton لأنه كان ربوبياً، كثيرمن هؤلاء كانوا ربوبيين، يقولون لك الله موجود وخلق وسوّى وأبدع – أهلاً وسهلاً – لكن انتهت مُهِمته، مثل أرسطو Aristotle، أما أن تقول لي أنه نزَّل كتباً وشرائع وما إلى ذلك وأنه سيُحاسِبنا على الحقوق وما إلى ذلك فهذا لا نُؤمِن به، قال لك أنا لست تأليهياً وإنما أنا ربوبي، لكن هذا كلام فارغ، أنت مُتكبِّر، هذه عجرفة داخلية، لا يُحِب مفهوم أنه سيُحاسَب، أنا مرة قرأت لجوليان هكسلي Julian Huxley صديق داروين Darwin وكان مُلحِداً وهو عالم أحياء أنه يقول لو كان هناك أنبياء فلم لم نكن نحن أنبياء؟ نفس الشيئ، قال الله تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۩، فضلاً عن أنه قال أيضاً وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ۗ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ۩، هذا كبر، لماذا محمد؟ لماذا فلان؟ لماذا ليس أنا؟ قال الله له الكثير قبلك قالوا هذا من قديم، وكانوا جهلة ولم يكونوا فلاسفة مثلك، لكنهم قالوها وستظلون تقولونها، المُشكِلة ليس في العقل وإنما في القلب والعياذ بالله، فنعوذ بالله من الكبر، فهذه لمحة سريعة عن البراجماتية أو الفلسفة النفعية أو الفلسفة العملية، سنأخذ استراحة – Break – بسيطة – إن شاء الله – لأننا انتهينا الآن تقريباً من الجُزء التأريخي، إن شاء الله في الجُزء الثاني من المُحاضَرة نبدأ في مباحث الأنطولوجيا Ontology أو مباحث الوجود إن شاء الله تبارك وتعالى.

قلنا بالأمس في آخر ربما ساعة مباحث الفلسفة جرت تقسيمها في العادة إلى ثلاثة، مباحث الوجود أو ما يُعرَف بالأنطولوجيا Ontology ومباحث نظرية المعرفة الإبستمولوجيا Epistemology ومباحث القيم: الحق والخير والجمال، نبدأ اليوم – إن شاء الله – بالتعريف العام والوجيز بالمبحث الأول وهو مبحث الوجود – الأنطولوجيا Ontology – ونعتمد مُنذ البداية على أن الأنطولوجيا Ontology تُساوي الميتافيزيقا، طبعاً هذا ليس موضوعاً اتفاقياً، لكن أدلته كثيرة وأكثر الفلاسفة على ذلك، إذا قلنا مباحث الوجود هي الميتافيزيقا أو ما كان يُدعى في البداية بالفلسفة الأولى وهي الميتافيزيقا فما معنى كلمة ميتافيزيقا؟ فيزيقا تعني الطبيعة، وميتا تعني ما بعد أو ماوراء، أي ما بعد الطبيعة أو ماوراء الطبيعة، في الحقيقة هذه التسمية لم يبتدعها أرسطو Aristotle لهذا المبحث من مباحث الفلسفة، أعني الميتافيزيقا، وإنما أول مَن ذهب إليها هو الرئيس الحادي عشر للمدرسة الأرسطية أو المدرسة المشائية، بعد وفاة أرسطو Aristotle تعاقب عليها أساتيذ، الحادي عشر منهم كان يُدعى أندرونيقوس Andronicus، أندرونيقوس Andronicus في مُنتصَف القرن الأول الميلادي، أرسطو Aristotle تقريباً في ثلاثمائة واثنين وعشرين قبل الميلاد، أي في القرن الرابع تُوفيَ، فهذا بعده بكثير، زُهاء أربعة قرون إلا يسيراً أو قليلاً جاء أندرونيقوس Andronicus، أندرونيقوس Andronicus حين قام بجمع أعمال أرسطو Aristotle واستنساخها وأتاحتها للطلّاب – طلّاب الفلسفة – بدأ بالأعمال الفلسفية الطبيعية، أي التي بحث فيها أرسطو Aristotle في الطبيعة، جعلها في البداية، وبعد ذلك وصل إلى أعمال أرسطو Aristotle في الإلهيات أو في الفلسفة الأولى، أي الأنطولوجيا Ontology، فقال هذه إذن هذه ما بعد الطبيعة، أرأيتم؟ أي في الترتيب ضمن سلسلة الكتب، هذه كتب في الطبيعة أو أعمال في الطبيعة، هذه تأتي بعدها، أي بعدها في ترتيب الكتب نفسها، فسماها الميتافيزيقا، بعد ذلك أصبحت اسم علم على هذا المبحث وانبت عن أصله، فإذا سمعنا كلمة ميتافيزيقا نقول هي مباحث الوجود أو الفلسفة الأولى أو الحكمة الأولى أو الإلهيات بالمعنى الأعم، هذا هو.

الإلهيات بالمعنى الأعم أو الميتافيزيقا تبحث في ماذا؟ تبحث في الوجود مُجرَّداً، أي الوجود المُطلَق أو الوجود بما هو، الوجود بما هو موجود، أرسطو Aristotle   عرَّفها هكذا، قال الحكمة الأولى تبحث في الوجود بما هو أو بما هو كذلك، أي في الـ Being as being or as such، بما هو كذلك، ما معنى الوجود بما هو كذلك؟ الآن لو نظرنا حولنا أيها الإخوة والأخوات سنرى أشياء كثيرة تُسمى باللغة الفلسفية هذه الأشياء حقائق، نرى حقائق كثيرة، هذه الحقائق يُعبَّر عنها بماذا؟ بالماهيات، انتبهوا إلى أن هذه الألفاظ مُترادِفة، فنحن نرى أشياء أو نرى حقائق أونرى ماهيات، الكرسي ماهية، هناك ماهية اسمها ماهية الكرسي، وكذلك ماهية الإنسان أو ماهية الكوب أو ماهية السقف أو ماهية الصالة أو ماهية الكاميرا – Camera – أو ماهية الكذا، هذه كلها ماهيات، هذه الماهيات طبعاً لها لون اعتلاق بالوجود، من مباحث الأنطولوجيا Ontology – يُمكِن أن نتعرَّض له إذا بقيَ وقت لكنه بلا شك مبحث مُهِم ودقيق – الأصالة لمَن؟ الأولوية لمَن؟ للوجود أو للماهية؟ أصالة الوجود أو أصالة الماهية؟ هذا المبحث، لكن نحن الآن فهمنا ما هي الماهية، أي حقائق الأشياء التي تُعيِّن حدودها، فالماهية هي حقائق الأشياء طبعاً التي تقع في جواب ما هو، ما هو هذا الشيئ؟ فأنت تُعرِّفه بالتعريف المنطقي المُستجمِع لشروطه، إذن الماهية ما يقع في جواب ما هو، أي شيئٍ هو في ذاته؟ لتُعيِّن حدوده التي تفصله وتميزه من الأشياء الأُخرى، طبعاً الأفصح أن نقول يفصله من وليس عن، عندنا لحن كثير في العربية، لا ينبغي أن نقول نفصله عنه، وإنما نفصله منه، وكذلك يميزه منه وليس عنه، فهذه هي الماهية، علاقتها بالوجود – كما قلت – مبحث فلسفي كبير ودقيق، الأصالة لمَن؟ والأولوية لمَن؟

عموماً نحن إذا نظرنا في أي انعكاس لشيئ عياني في الذهن الإنساني فإنما ينعكس في شكل ما يُعرَف في المنطق بالهلية البسيطة، فمثلاً نقول الكوبُ من خزفٍ، هذا الافتراض – Proposition – أو هذه القضية فيها طرفان، طرف وقع في إطار الموضوع وطرف آخر وقع في إطار المحمول، أي مفهوم في الموضوع ومفهوم في المحمول، سنشرح هذا ببساطة ربما لبعض الإخوة والأخوات، ما معنى الموضوع؟ وما معنى المحمول؟ باللغة العربية وبلغة النحو وهي أيسر من لغة المنطق الموضوع هو المُسنَد إليه عند البلاغيين وعند علماء البيان أو سنقول هو الموصوف، أي الشيئ الموصوف، فحين نقول – مثلاً – الشمس طالعةٌ مَن الموضوع؟ الشمس، مَن المحمول؟ الصفة، أي المُسنَد بلغة علماء البيان، بلغة المنطق يُسمى بالمحمول، المحمول هو الصفة أو هو المُسنَد، والموضوع هو الموصوف أو المُسنَد إليه، مثل الشمس طالعةٌ، والمجموع من المحمول والموضوع قضية أو افتراض Proposition، هذه هي القضية، فسوف نرى مفهوماً في الموضوع ومفهوماً في المحمول، أحد هذين المفهومين مفهوم ماهوي والآخر مفهوم وجود أو موجود، في العربية لا يظهر هذا دائماً بشكل واضح، في اللغات الهندوأوروبية يظهر مثلاً، بالإنجليزية – مثلاً – لابد من Is، أليس كذلك؟ أي لابد من يكون، است بالفارسية، Ist بالألمانية، أي يكون، الكوب يكون من خزف، أي موجود من خزف، كائنٌ من خزف، لكن موجود أدق، لذا نقول Is بالإنجليزية، الكوب موجود من خزف، أي كوب خزفي موجود، إذن هذا الكوب الخزفي مفهوم ماهوي، وموجود مفهوم موجود، أليس كذلك؟ وهو مفهوم فلسفي، لأن الوجود مفهوم فلسفي وليس مفهوماً منطقياً، وهو أكثر المفاهيم بداهةً.

في نهاية اليوم – إن شاء الله – سوف نُعالِج مسألة كيف يتوصَّل الذهن إلى استمداد المفاهيم الماهوية؟ وكيف يتوصَّل إلى استمداد المفاهيم الفلسفية مثل مفهوم الوجود؟ وهذه المسألة طبعاً لم تُبحَث وهذا السؤال الثاني لم يبحثه أحد قبل الفيلسوف الإيراني المُعاصِر المرحوم محمد حسين الطباطبائي، الوحيد الذي حاول أن يتصدى بجواب هذا السؤال، الفلاسفة لم يتكلَّموا فيه، قالوا الوجود مفهوم بدهي وهو أبده المفاهيم فقط، كيف نتحصَّل عليه؟ لم يتكلَّموا مع أنه مفهوم فلسفي ولابد أن نعرف، هو عنده مُحاوَلة وهي مُوفَّقة إلى حد بعيد ما شاء الله، وكان فيلسوفاً ضخماً، الرجل فيلسوف عقلي بلا شك من الفلاسفة الكبار وهو صاحب كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، وأنا أنصح بهذا الكتاب، كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي – اصول فلسفه و روش رئالیسم – بسيط، وهو كتاب فارسي وقد تُرجِم منه مُجلَّدان، هو في حدود أربع مُجلَّدلت وللأسف لم يُترجَم كله إلى الآن، مُمتاز وهو بتعليقات مُرتضى مُطهري، وهو فيلسوف أيضاً راسخ القدم، مَن أحب أن يتعلَّم الفلسفة الإسلامية بتعمق جزل فليقرأ تعليقات مُرتضى مُطهري على شرح المنظومة لمهدي السبزواري، شرح مُمتاز وعميق جداً ويحل إشكالات فلسفية كثيرة، وهذا في مُجلَّدين كبيرين في أربعة أجزاء، على كل حال نعود إذن.

– ملحوظة: سأل أحد الحضور الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هل الكتاب المذكور مُترجَم؟ فأجاب قائلاً نعم مُترجَم، مُترجَم ومطبوع في بيروت، ثم قال تعليقات مُطهري على شرح المنظومة لمهدي السبزواري أربعة أجزاء في مُجلَّدين، وهو كتاب ممتاز، هذا كتاب قمة حقيقةً، ويُوجَد شرح السبزواري نفسه على المنظومة مطبوع أيضاً بالعربي، لكن تعليقات مُطهري مُمتازة ولا يُستغنى عنها على الإطلاق.

كما قلت لكم إذن نحن نُلاحِظ الماهيات، واعتلاقها بالوجود كما قلنا – وهو موضوع بحث فلسفي سنعود إليه لاحقاً – إن شاء الله – ربما غداً، لكن الآن نحن يُمكِن أن ننطلق من هذه الكثرة الماهوية أو الكثرة الحدودية لنصل إلى الوحدة، ما الذي يُوحِّد؟ كيف يُمكِن أن تتوحَّد هذه الكثرة؟ تتوحَّد على حد ماذا؟ على حد الوجود، فالوجود الذي لا يتعيَّن ولا يتشخَّص – أي في ماهيات مُحدَّدة – هو هذا الوجود بما هو، Being as being or as such، كما قلنا وكما عرَّفه أرسطو Aristotle، الوجود في حد ذاته، الوجود بما هو بغض النظر عن أي تعيّن ماهوي له، هذا مبحث الميتافيزيقا، إذن الوجود مبحوثاً فيه من زاوية ماذا؟ من زاوية الوحدة لا من زاوية الكثرة، ومن زاوية التجانس لا من زاوية التخالف، العقل لكي يبحث في هذه المسائل لابد أن يكون بلغ ذروةً عاليةً من التجريد، هو هذا، والعقل الفلسفي عقل تجريدي بلا شك، ومن هنا صعوبة الفلسفة، ومن هنا سخط التجريبيين والحسيين على الفلسفة الميتافيزيقة، لأنها تُبعِد عن المُعطى الواقعي الحسي المُباشِر وترمي بنا في أحضان المُجرَّد، هذا المُحيط الطمطام الذي يضل فيه حتى الخرِّيت، لكن هي كذلك.

هناك لواحق للوجود، ما معنى لواحق للوجود؟ لكي يكون التعريف دقيقاً، تبحث في الوجود بما هو وهناك لواحق لواحق للوجود بما هو، اللواحق هي النعوت والمعاني التي تليق بالوجود بغض النظر عن أي ماهية اكتسبت التعيّن في الوجود، لا ننظر أيضاً إلى الماهية، وهذا عجيب، مثل ماذا؟ العرض والجوهر أحسن منهما وأقوى منهما – مثلاً – العلة والمعلول، الثابت والسيّال، الوجود بالقوة والوجود بالفعل، هذه الأشياء كلها تُسمى لواحق الوجود، ويبحث فيها الفيلسوف الميتافيزيقي، هذه مباحث وكل مبحث فيه كلام ونقاشات وخلافات كبيرة ومُعقَّدة، طبعاً في البداية إلى ما قبل ديكارت Descartes كانت تُعتبَر الفلسفة الأنطولوجية أو الميتافيزيقية ذروة التفكير الفلسفي، كما قلت لكم قُبيل قليل نحن ننتقل من الكثرة إلى الوحدة ومن التشتت إلى التجانس، وهكذا نصل إلى القمة، جاء ديكارت Descartes وعكس الآية، قال لا، أنا سأبدأ من الميتافيزيقا، ومن الميتافيزيقا كجذر أبدأ منه سأنتهي بعد ذلك إلى الطبيعة وإلى العلوم الأُخرى، ولذلك شبَّه عمله بأنه يبحث في شجرة، شبَّه الفلسفة عموماً بشجرة، قال جذورها هي الميتافيزيقا، جذعها الطبيعة، أي الفيزياء، وأما فروعها فهي الطب والميكانيكا والهيئة – الفلك الأسترونومي Astronomy – وما إلى ذلك، فعكس الآية، فبدل أن تكون الفلسفة هي الذروة – أي ذروة البحث فانتبهوا – انعكس الأمر، ليس في الأهمية، لأنها هي الأهم، وهي عنده أساس أيضاً، وعند أولئكم هي الأهم أيضاً لأنها الذروة، لكن سير البحث صار معكوساً، جعلها البداية والعلوم الأُخرى هي النهاية، الفلاسفة التقليديون كانوا يسيرون سيراً مُعاكِساً، يبدأون من هذه الأشياء ثم ينتهون إلى الميتافيزيقا على أنها ذروة البحث الفلسفي.

هناك مُلاحَظة أيضاً مُهِمة لدارسي الفلسفة نُفضي بها، الفلاسفة قبل المُحدَثين – أي الفلاسفة في العصور الوسطى وفي العصور القديمة كما رأينا، لدينا ثلاثة أعصار إذن – كان لا يُنسَب إلى واحد منهم فلسفة أنطولوجية خاصة، هي ميتافيزيقا والكل يتحدَّث فيها وينتهي الأمر، لا نستطيع أن نقول هذه ميتافيزيقا خاصة – مثلاً – بابن رشد بشكل واضح، هذا صعب، بخلاف ما صار في العصر الحديث، عكسوا الآية مرةً أُخرى، هذه مُلاحَظة وهناك مُلاحَظة ثانية، الفلاسفة الأقدمون والوسيطون أيضاً كانوا ينطلقون من الأنطولوجيا Ontology إلى نظرية المعرفة، فدائماً كانت مذاهبهم ونظرياتهم في باب المعرفة تعكس موقفهم في الأنطولوجيا Ontology، هكذا هذه تتناغم مع هذه، الفلاسفة المُحدَثون بدءاً من جون لوك John Locke وربما حتى قبله بقليل إلى الآن عكسوا الآية، فبدأوا بالبحث في الإبستمولوجيا Epistemology وصار بعد ذلك موقفهم من قضايا الميتافيزيقا يعكس موقفهم من نظرية المعرفة، هذا مُهِم كناحية منهجية في دراسة المحصولات الفلسفية المُختلِفة.

أنا ذكرت في الجُزء التاريخي قبل قليل أن كانط Kant رغم أنه تصدى للميتافيزيقا إلا أن الميتافيزيقا شهدت ازدهاراً وانتعاشاً واضحاً بعد كانط Kant على يد تلاميذته، أليس صحيح؟ لكن هذا كان في الدائرة الألمانية، بخلاف الدائرة الإنجليزية، لم تنتعش فيها الميتافيزيقا إلى اليوم، بالعكس الإنجليز يميلون إلى الفلسفة الوضعية والحسية والتجريبية وفي القرن العشرين الفلسفة التحليلية، الأمريكان نفس الشيئ تقريباً، صورة مُشابِهة من الإنجليز، لم يهتموا بالفلسفة إلا فلاسفة قلة، فجوسيا رويس Josiah Royce – مثلاً – عنده اهتمامات وعنده كتب منشورة ومُتاحة لكن قليل عموماً، نأتي الآن إلى إلماعة سريعة أيضاً عن مذاهب الفلاسفة الميتافيزيقيين في تفسير الوجود، طبعاً هناك اتجاهان عامان ورئيسان، الاتجاه المادي وهو ما يُسمى بالفلسفة المادية أو أصالة المادة – Materialism – والاتجاه الروحي أو الاتجاه الروحاني، الاتجاه المادي – اسم على مُسمى – ينفي وجود الروح ويُبالِغ فينفي حتى لياقات العقل ويجعل كل شيئ مُجرَّد وظائف للمادة ونتائج لحركة ونشاط المادة، حقيقة العالم وحقيقة الوجود حقيقة مادية، ليس أكثر من هذا، طبعاً كل الملاحدة يتقيلون هذه الطريقة، الفيلسوف المادي إذا أخذ بهذا المبدأ وحده وفسَّر به الوجود ننعته بأنه فيلسوف واحدي، أي Monist، والواحدية هي Monism، فهو واحدي لأن عنده مبدأ واحد يُفسِّر به الوجود، ما هو؟ المادة، يقول لك المادة وليس الروح أو العقل، وبالإزاء يقف أصحاب النزعة الواحدية أيضاً العقلية أو الروحية، لكن عموماً نُسميهم بالنزعة الروحية أو المذهب الروحاني أو أصالة الروح، ويرون أن جوهر العالم وحقيقة العالم والمبدأ الذي يُمكِن أن يُفسَّر به العالم بما فيه ظواهر العالم المادية – كل الظواهر المادية – إنه مبدأ روحي أو روحاني، الروح أو العقل وبعضهم يقول الله بشكل عام، لا مُشكِلة المُهِم أنه مذهب روحي أو عقلي أو تأليهي، وأيضاً هؤلاء فلاسفة واحديون، لأنهم يكتفون بمبدأ واحد يُفسِّرون به كل شيئ ويعزون إليه تفسير كل الظواهر، لذا واحدون أيضاً هؤلاء، إذا وجدنا فيلسوفاً يُفسِّر العالم بمبدأين سوف نقول هذا فيلسوف ثنائي أو اثنيني، مذهب الاثنينية Dualism، ليس الاثننية وإنما الاثنينية، نسبة إلى اثنين – واحد واثنان – لذا هذا مذهب الاثنينية Dualism، كالذين يقولون الوجود لا يُمكِن أن يستقل مبدأ واحد بتفسيره، هناك ظواهر أو ظاهرات كثيرة صحيح يصح تفسيرها بمبدأ روحي – هذا موجود – لكن هناك بالإزاء ظواهر لا يُمكِن ولا يصح تفسيرها إلا بالمبدأ المادي، فإذن نحن نعتمد مُقارَبة ثنائية في تفسير الوجود، الروح والمادة، يُقال هذا فيلسوف ثنائي Dualist، وتحدَّثنا بالأمس عن نظريته في الذرات، الجواهر المُفرَدة التي يقول إنها دقائق صغيرة جداً ولها أشكال مُختلِفة ودائمة الحركة والنشاط ولا تقبل القسمة بالفعل لكن تقبلها بالذهن، بالذهن يُمكِن أن تنقسم لكن بالفعل في الواقع لا تنقسم، بحركتها وتواليفها وتعالقاتها تتكوَّن الأشياء المُختلِفة، كل الأشياء تتكوَّن من تعالق هذه الأشياء، إذا انفك الارتباط بين هذه الأشياء المُتراكِبة والمُتعالِقة يحدث الفساد، بلغة أرسطو Aristotle الكون والفساد، التركب والبناء ثم الانحلال Decay، نوع من الانحلال Decay، هكذا فسَّر العالم بطريقة مادية، طبعاً تصدى له الثلاثة الكبار، سقراط Socrates وأفلاطون Plato وأرسطو Aristotle، كانوا ضد ديموقريطس Democritus ولم يقبلوا هذه النظرية المادية في تفسير العالم والوجود، لكنها ابتُعِثَت من جديد على يد الفيلسوف المشهور إبيقور Epicurus، إبيقور Epicurus – Epikur – أعاد فلسفة ديموقريطس Democritus المادية، وأيضاً الشاعر الروماني المُلحِد لوكريتيوس Lucretius أعاد أيضاً الحياة لهذه الفلسفة المادية، من هنا نستطيع أن نعرف لماذا كانت رسالة الدكتوراة لكارل ماركس Karl Marx عن ديموقريطس Democritus وعن إبيقور Epicurus، لأنهما فيلسوفان ماديان طبعاً، اختار أن يكون رسالة الدكتوراة عن هذين الفيلسوفين، أي ديموقريطس Democritus وإبيقور Epicurus، لكي يُؤسِّس للمادية في العصر الحديث، طبعاً المادية في العصر الحديث وجدت دفعةً هائلة بفضل مَن؟ بفضل العلم وبالذات بفضل العالم الكبير النابغة السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton المُتوفى في أول القرن الثامن عشر، في سنة ألف وسبعمائة وسبع وعشرين، لماذا؟ إسحاق نيوتن Isaac Newton طبعاً – كما قلت لكم – كان عالماً، هم كانوا يُسمونه فيلسوفاً طبيعياً، عنده كتاب الشهير الكلاسيكي اسمه المباديء الرياضية للفلسفة الطبيية، ما هي الفلسفة الطبيعية؟ الفيزياء، هكذا هو سماه، وهو كتب ضخم، أعظم كتب إسحاق نيوتن Isaac Newton، سماه المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعية، فكان يُعَد فيلسوفاً، لكن هو بلغتنا الآن كما تقرَّر الأمر عالم، هو عالم طبيعي، بلغتهم فيلسوف طبيعي كما سمى كتابه، وكان ربوبياً، لم يكن تأليهياً، يُؤمِن بوجود الله ويُؤمِن بعناية الله بالكون لكن ليس بالإنسان عن طريق الشرائع والنبوات مع أنه كان يتلو الكتاب المُقدَّس ويُصلي أحياناً ويذهب إلى الكنيسة، لكن اعتقاده الصميم بالربوبية فقط مثل الربوبيين الذين شاعت هذه الصرعة في زمانه، كان يرى أن الله يعتني بالكون لكن بشكل مُتقطِّع، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – خلق الكون ونظَّمه بقوانين بثها وجعلها سارية في تضاعيفه وأنحائه هي التي تتكفل بضبط كل شيئ فيه، لكن يحدث بين الحين والآخر ولو على فترات مُتباعِدة تراكم بعض الاستثناءات والأخطاء البسيطة فيظهر شذوذ في الظواهر الكونية الطبيعية والفلكية فيُضطَر الله تبارك وتعالى – أستغفر الله العظيم – لأن عمله غير مُتقَن بنسبة مائة في المائة أن يتدخَّل لإصلاح هذا الخطأ، طبعاً واضح أن الله ليس كذلك ولا المسألة كذلك، واضح أن هذا قصور العقل العلمي البشري، أي النموذج الذي بناه إسحاق نيوتن Newton – ولك أن تتخيَّل هذا – والنماذج السابقة عليه والتي اعتمدها واصطنعها في تفسير العالم علمياً يبدو أن كان فيها قصور، قصور واضح، مثلاً الشذوذ في حركة الكوكب عطارد – Mercury – لم تستطع فيزياء نيوتن Newton أن تُفسِّره، لم تستطع وفشل نيوتن Newton، مَن الذي فسَّره لأول مرة؟ ألبرت أينشتاين Albert Einstein في النسبية العامة، فسَّره بدقة شديدة جداً، طبعاً النموذج أوسع وأكثر ذكاءً ومرونة لأن العلم تطوَّر، نيوتن Newton لم يُؤمِن بهذا، ومن المفروض أن يُوجَد توضع العالم لكن أين التواضع إذا لم يكن عنده تصوّر ديني دقيق؟ فقال لك هذه أخطاء القوانين الإلهية التي يُضطَر بسببها أن يتدخَّل هذا الإله لإصلاح وملء الفجوات Gaps، ولذلك سُميَ بالسخرية هذا الإله إله الفجوات، لأن فقط شغله لما تظهر ثُغرة مُعيَّنة يضطر أن يأتي لكي يسدها ويُعيد الأمور إلى أنصبائها، وهذا غير صحيح.

على كل حال نيوتن Newton – كما قلت لكم – كسائر العلماء في عصره كان عالماً طبيعياً ميكانيكياً، يُؤمِن بالنموذج الميكانيكي وهو نموذج مادي ونموذج حتمي – Deterministic – وتحديدي، كل شيئ مضبوط بالرياضيات وبالحساب ما عدا هذه الفجوات فقط كما ذكرنا قُبيل قليل، والكون يُدير نفسه بفضل هذه القوانين، يُمكِن لو أُتيحت لنا – مثلاً – معرفة الشروط البدئية كما يُسمونها لأي ظاهرة أن نتنبأ بما ستؤول بعد مائة سنة أو بعد ألف سنة أو حتى بعد ملايين السنين، ولذلك لما ألَّف أيضاً أحد العلماء الطبيعيين – علماء الطبيعة والفلك – وكان عالماً ميكانيكاً مثل نيوتن Newton وأكثر حتى مُبالَغةً وهو السير لابلاس Sir Laplace الفرنسي موسوعته الفلكية الطبيعية في ست مُجلَّدات وأهداها إلى نابليون Napoléon، قرأ نابليون Napoléon أشياء فيها – طبعاً هو لا يعرف هذه الأشياء فقرأها – وبعد ذلك قال له يا سير لابلاس Sir Laplace بلغني أنك لا تُؤمِن بالله، يُقال أنك لا تُؤمِن بالله، فقال له ولماذا؟ لا حاجة إلى الإيمان به، قال له كيف؟ هل أنت لا تُؤمِن بالرب؟ قال لا حاجة إلى الإيمان به، العلم يُفسِّر كل شيئ، الكون مُنظَّم وكل شيئ بقوانين، ثم استتلى يقول لو عرفت أنا الشروط لأي ظاهرة تُحدِّدها أيها الإمبراطور فأنا أستطيع أن أقول لك ما ستؤول إليه بعد مليون سنة، وطبعاً هذا غرور وغطرسة كبيرة، هذا كان يُسمى التفكير الخطي Linear thinking، هذا تفكير خطي لأن الفيزياء كانت خطية، أليس كذلك؟ فيزياء مُعادَلات وما تضعه في اليمين تجده في الشمال، وظل هذا الموضوع سائراً هكذا، متى حدثت الهزة؟ في أوائل القرن العشرين مع ميكانيكا الكم، بدأت الأمور تبدو أنها غير خطية، لكن تماسكنا، الضربة الثانية القاسمة في سبعينيات القرن العشرين – أوائل السبعينيات – مع نظرية الشواش أو الفوضى Chaos theory، أيقن العلماء أن الكون ليس محكوماً بنظم خطية، على الأقل إلى الآن، وإنما بنظم شواشية ليست نظماً خطية، وطبعاً هذا أزعجهم جداً جداً جداً وخفَّف من غلواء غرورهم وغطرستهم وعُدنا الآن مرة أُخرى إلى ما كنا فيه، وطبعاً أنا أستغرب من بعض أيضاً الملاحدة العرب الذين يدّعون استناداً إلى الفوضى – Chaos – أن الله طبعاً غير موجود، هذا مُستحيل بل بالعكس، الآن الحاجة إلى وجود إله يُدبِّر هذا الكون ويُسيطر عليه أكثر من أول مئات آلاف المرات حقيقةً، ووجدنا أن هذا الإله – تبارك وتعالى – الذي تعرَّف إلينا في القرآن الكريم هو الإله المُناسِب الوحيد الأوحد الذي يُمكِن أن يتعامل مع كون يبدو أنه كون هيولاني أو شواشي Chaotic، إله القرآن فقط، لماذا؟ لأن هذا الإله أفاد أنه لا تسقط ورقة إلا يعلمها، لماذا يعلمها؟ ابن سينا كان يقول ليس شرطاً، ابن سينا مُتأثِّراً بأرسطو Aristotle شيخه ومُعلِّمه الأكبر فقال الله فقط مشغول – كما قال أرسطو Aristotle – بالتفكر في ذاته، أرسطو Aristotle كان يعتقد أن أعظم شيئ يقوم به الإنسان الفاضل الكامل هو الفكر، والفكر أعظم ما يكون إذا كان في أمور تامة وأمور شريفة، وأشرف الأمور وأكملها وأتمها هو الذات الإلهية، ولذلك يقتصر تفكير الله في ذاته، أما الكون فليس لله علاقة به، هذه الأصول البعيدة للتفكير الفيزيائي الفلسفي الميكانيكي عند أرسطو Aristotle، أرسطو Aristotle اعتقد أن الله بلغة عصرنا كأنه فعلاً صنع هذه الساعة الكونية المهيبة وعبأها وملأها ثم تركها تسير لحالها على وجهها وأصبحت تسير بدقة شديدة جداً جداً جداً، أحياناً يحتاج إلى أن يملأها من جديد لكي تستعيد الحركة، هذا إله الفجوات، وفيما عدا ذلك أرسطو Aristotle يعتقد أن الله كان وما زال مشغولاً بالتفكر في ذاته، لا يهتم بنا ولا يبعث لنا رسلاً ولا أنبياء ولا يرى ماذا نفعل ولا يهمه أي شيئ ولا يعلم الجُزئيات، أي شيئ جُزئي الله لا يعتني به، وهذا غريب، ابن سينا للأسف قلَّد أرسطو Aristotle في هذه المسألة وأنكر علم الله بالجُزئيات، قال علم الله فقط يقتصر على الكُليات، أما الجُزئيات الله لا حاجة له بها، لذلك أنا قلت مرة العبقرية قد تتورَّط في غباوة في لحظة تقليد، أي عبقري مهما كان ذكياً إذا سمح لنفسه أن يُقلِّد قد يقع في غباوة، ابن سينا لم يكن غبياً أبداً بل هو رجل ذكي جداً جداً جداً لكنه تورّط في الغباوة حين كان مُقلِداً لأرسطو Aristotle، أنت مُسلِم – وهو مُسلِم إسماعيلي باطني – إذا قرأت القرآن ألا يُقنِعك؟ قال الله وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ۩، آية مُذهِلة، هذه الآية أنا مُتأكِّد أي عالم يشتغل في نظرية الشواش – Chaos theory – سيبخع أمامها، سيقول عجيب، هل هذا الرب هكذا يُصوِّر نفسه؟هذا يعني أن عنده – وهو يُفيدنا بهذا – ورقة شجرة التي تسقط مُهِمة جداً لكي تُرصَد وتُكتَب وتُزبَر في كتاب مُبين وتُعلَم، طبعاً مُهِمة لأنها قد تُسبِّب عاصفة أو إعصاراً أو طوفاناً في بلد آخر أيضاً، هذه نظرية الشواش Chaos، وهذه أهمية أن الله – لا إله إلا هو – يعلم كل شيئ، وهو يُحيط بكل شيئ، إذن هذا الإله نعم يتناسب تماماً مع تفكير الشواش – Chaos – طبعاً، والله -لا إله إلا هو – هو الذي يُدبِّر هذا الكون، كل شيئ عنده بمقدار وكل شيئ عنده بحسبان، قال الله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ۩، قال مُجاهِد جماعة الحساب، ليس حساباً واحداً وإنما حسابات كثيرة مُعقَّدة لكي تنتظم هذه الظاهرة.

على كل حال المُهِم أن الفيزياء النيوتينية بشكل عام للأسف دعمت المذهب المادي الميكانيكي على حساب المذهب الروحي، فرسخت جذور النظرة المادية الميكانيكية طبعاً، وجد هذا المذهب ذروته مع النظرة الميكانيكية، طبعاً بعد ذلك وجدنا من الماديين مَن يُفسِّرون كل الظواهر الروحية والمعنوية على أساس أنها تجليات لنشاط المادة، كابانيس Cabanis – مثلاً – كتب يقول التفكير مُجرَّد إفراز للدماغ، الدماغ يُفرِز ليس مادة وإنما يُفرِز التفكير، وهذا عجيب، التفكير ليس شيئاً مادياً، قال لك هذا من إفراز الدماغ كما تُفرِز الكبد الصفراء، لكن الصفراء مادة، فحتى هذا القياس قياس غبي، أليس كذلك؟ هكذا قال كابانيس Cabanis، أن تقول لي يُفرِز الدماغ الفكر كما تُفرِز الكبد الصفراء غير صحيح، والكبد تُفرِز الصفراء صحيح – مادة تُفرِزها مادة، أليس كذلك؟ – لكن أنت تتحدَّث عن لا مادة، فأين القياس هنا؟ لكن هكذا قالوا حتى التفكير هو مُجرَّد شيئ من وظائف المادة، بلغة ماركس Marx والجدل الماركسي التفكير هو منتوج لمادة شديدة التعقيد والتنظيم كما قال، وهي مادة الدماغ، هناك مواد أقل تنظيماً وأقل تركباً لا تقدر على إنتاج الفكر، لكن بهذا القدر من التركيب والتعقيد والتنظيم بدأ يظهر لدينا الفكر، أنا أقول لكم هذا كلام لا معنى له، كلام لغوياً يُقال لكن ليس له أي دلالة علمية أو فلسفية، فقط صف كلام، صف كلام وينتهي الأمر، في المُقابِل أنا قرأت أبحاث عالم الفسيولوجي الشهير جداً الحاصل على جائزة نوبل Nobel بنفيلد Penfield، أبحاث من أعجب ومن أروع ما يكون، بنفيلد Penfield قضى حياته يبحث في الدماغ والأعصاب، هذا تخصصه الأصيل، هذا الرجل مات مُعترِفاً بأنه لم يفهم بعد وليس من السهل أن يفهم أحد كيف نُبصِر، قال الله فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۩، قال بنفيلد Penfield أنا لا أفهم، وطبعاً أنت اسأل أي طفل في الإعدادية وسوف يقول لك هذه سهلة جداً جداً وسأشرح لك، يظن أنه يفهم، فكيف لو كان طبيباً مغروراً مسكيناً؟ سيقول لك هذه مسألة سهلة، لكنها ليست كذلك، بنفيلد Penfield وهو أستاذ الأساتيذ في هذا المجال قال لا، لم يفهم أي أحد، ولا يقدر أحد على أن يفهم، كل هذا الكلام السخيف الذي نقرأه في كتب العلم عن الانعكاس والتصالب وما إلى ذلك كله كلام وصفي لا يُفسِّر شيئاً، بنفيلد Penfield عاجز عن الفهم، قال أنا عاجز أن أفهم كيف أن في داخل هذه العلبة السوداء الهُلامية التي اسمها الدماغ Brain – سوداء مُظلِمة ولا تدخل فيها قطرة ضوء ولك أن تتخيَّل هذا – تتم رؤية الألوان؟ آية من آيات الله، والله – لا إله إلا هو – يُقسِم بهذا، شيئ مُعجِز ومُحيِّر والله العظيم، هذا مُعجِز ومُحيِّر ولذلك بنفيلد Penfield قال أنا لا أفهم ولا أظن أن أحداً يفهم هذا، يُوجَد شيئ غير مفهوم، وطبعاً في المُقابِل – مثلاً – الفلاسفة الروحانيون – وأنا الآن سأتحدَّث عن المذهب الروحاني – بذكاء – ذكاء أشد وأعمق – وفيهم الفيلسوف الحيوي الفرنسي الكبير هنري برجسون Henri Bergson، قال أنا لا أُنكِر العلاقة – مثلاً – بين النفس والبدن، تُوجَد علاقة بين النفس والبدن، كما لا أُنكِر العلاقة بين الدماغ والفكر، تُوجَد علاقة، لكنها ليست علاقة علية، ليس الفكر معلولاً أو أثراً – Effect – للدماغ، لكن تُوجَد علاقة، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ لم نفهم، كيف تُوجَد علاقة لكنها ليست علاقة علية؟ العلاقات طبعاً من المُمكِن ألا تكون علاقات علية، هيجل Hegel – اليوم تكلَّمنا عنه – حين تكلَّم – مثلاً – عن العلاقات الأشياء في الوجود قال أشياء الوجود مُتعالِقة لكن العلاقات التي بينها وبين الروح في المُطلَق ليست علاقات فلسفية وليست علاقات علية سببية وإنما علاقات منطقية، مثلاً هذا ضرب من العلاقات، وسوف نرى اليوم وسوف نفهم بدقة – إن شاء الله – إذا بقيَ وقت ما الفرق بين المفاهيم المنطقية والمفاهيم الفلسفية وبالتالي بين العلاقات الفلسفية والعلاقات المنطقية، سوف نفهم هذا بدقة وهو مُهِم.

نعود الآن إلى موضوعنا، هذا الآن يُدخِلنا في المذهب الروحاني في تفسير الوجود، كيف نُثبِت علاقة بين العقل والفكر لكنها ليست علاقة علة ومعلول، والعلاقة موجودة، أنا سأُوضِّح لكم هذا، طبعاً بدايات الفسيولوجيا الحديثة – علم وظائف الأعضاء – كيف كانت؟ كانت تجريبية، نأتي إلى الدماغ – مثلاً – ونُعطِّل فيه شيئاً ثم نرى الأثر، الأثر – مثلاً – اليد تُشَل، إذن هذا الذي يُؤثِّر على اليد، البصر – مثلاً – يعتريه غباش، وكذلك الحال مع السمع وما إلى ذلك، هكذا كانت البداية، فطبعاً اقتنع هؤلاء وفي رأسهم الطبيب والفيلسوف الفرنسي المادي كلود برنار Claude Bernard صاحب كتاب مُدخَل لدراسة الطب التجريبي – وهو كتاب مادي صرف في زُهاء ثلاثمائة صفحة – وقال هذا واضح ويعني أن كل هذه الأشياء بما فيها السمع والبصر والفكر فعلاً هي ظواهر وآثار ومعلولات للجُزء المادي فينا وهو الدماغ مثلاً، هذه هي القضية، لكن هذا غير صحيح، هذا تبسيط مُخِل، وذلك برجسون Bergson – هنري برجسون Henri Bergson – درس هذه المسألة لسنوات مُتطاوِلة واضطُر أن يقرأ في هذه العلوم، قرأ في الفسيولوجيا – Physiology – وفي أشياء كثيرة – قرأ أشياء كثيرة جداً هذا الفيلسوف الفرنسي الكبير – وانتهى أيضاً إلى إثبات العلاقة، لكنه قال هذه العلاقة فعلاً ليست علاقة علة بمعلول، وسأُوضِّح هذا بمثال أكثر إيحاءً إن شاء الله.

التلفاز – جهاز التلفزيون Television – مَن يُنكِر أن بينه وبين البث الأثيري إن جاز التعبير – لا يُوجَد شيئ في الفيزياء اسمه الأثير لكن هكذا عندنا يُسمونه – علاقة؟ تُوجَد علاقة، وهذا واضح جداً، أنت إن لم تفتح هذا الجهاز لن ترى المُسلسَل، أليس كذلك؟ إذا فتحته سوف ترى المُسلسَل، إذن تُوجَد علاقة، وهذا مُمتاز لكن أي نوع من العلاقة؟ سوف نرى هذا، نحن نفهم هذه العلاقة، هذه كلها علاقة عرض واستقبال وليس تخليقاً، وليست علاقة علية في إطار إنجاز الشيئ أو تخليق الشيئ، وهذا كان أولاً، ثانياً لو جئنا وعطَّلنا الجُزء المُختَص باللون الأصفر من الألوان الثلاثة سوف تختل الألوان المعروضة، أليس كذلك؟ سوف تختل تماماً، سوف تظهر الصورة لكنها ستكون مُختَلة، ومن ثم سنقول هذا يعني فعلاً وجود علاقة، وإذا جئنا وعطَّلنا Check مُعيَّن أو ترانزستور Transistor سوف تختفي الصورة بالكامل، أليس كذلك؟ فيأتي فيلسوف مادي – ما شاء الله – مثل كلود برنار Claude Bernard ومثل كابانيس Cabanis وبوخنر Buchner وإرنست هيكل Ernst Haeckel الألماني وغيرهم ويقول نحن قلنا لكم المخ مصدر التفكير مثلما التلفاز – جهاز التلفزيون Television – مصدر المُسلسَل، طبعاً لا أحد يتقبَّل فكرة أن التلفاز – جهاز التلفزيون Television – مصدر المُسلسَل، رغم أن العلاقات واضحة، إذا عطلَّت شيئاً هنا سوف يُعطَّل شيئٌ هناك، أليس كذلك؟ إذا عطَّلت شيئاً مُعيَّناً سوف يُعطَّل الصوت ويتوقف الجهاز عن النطق، هل هذا يعني أنه المصدر؟ لا، ليس هو المصدر، وأنتم تعرفون طبعاً النتيجة، هو جهاز عرض، وبغير هذا الجهاز لا يُمكِن استقبال هذا البث بشكل مفهوم لنا مرئي ومسموع، أليس كذلك؟ لماذا لا تكون علاقة الدماغ بالفكر على هذا النحو مثلاً؟ طبعاً هذا يعني أن الفكر والوعي والإدراك ورؤية الأشياء وسماعها وإلى آخره منحة إلهية ومدد رباني وعطاء إلهي، والدماغ شرط ومُهِم جداً لكنه جهاز استقبال، لابد أن يستقبل ثم يُعيد مُعالَجة هذه الأشياء لكي يُنتِجها في شكل أفكار وصور، فهو يُعيد إنتاجها، كما أن التلفاز – جهاز التلفزيون Television – طبعاً ماذا يأخذ؟ يأخذ أشياء لا نراها في الهواء، أليس كذلك؟ لا يُمكِن بأيدينا أن نُعيد إنتاجها أو تصنيعها، ولكن التلفاز – جهاز التلفزيون Television – يفعل هذا، والدماغ أيضاً يفعل هذا، إذا اختل فيه شيئ سوف يختل شيئ في المُنتَج وفي الأثر كما يحدث في التلفاز – جهاز التلفزيون Television – تماماً، لكن ليس هو المصدر، قد يقول لي أحدكم هذه طريقة ضعيفة في الاستدلال العلمي والفلسفي، وطبعاً هي ضعيفة، لماذا؟ لأنها تقوم على المُشابَهة Analogy، وليس شرطاً أن يكون الدماغ تلفازاً – جهاز التلفزيون Television – لكن لماذا؟ يُمكِن أن تُوجَد فروق رئيسية، لكننا سوف نذهب خُطوة روحية أيضاً إلى الأمام لكي نستوثق من صحة ما انتهينا إليه، كيف؟ كالتالي.

إذا كان الدماغ هو مصدر التفكير والمصدر العتيد للتفكير إذن لابد من الخبرة المادية، وعلى حد قول كل الحسيين والتجريبيين طبعاً لا يُوجَد في العقل شيئٌ لم يُوجَد من قبل في الحس، أي لابد أن تكون هناك خبرة مادية في الأول وبعد ذلك يأتي الشيئ العقلي، هكذا هؤلاء المساكين يعتقدون، وهذا يعني أنني على مُستواي كفرد أو أنت أو هو أو هي أو أي أحد فينا مُستحيل أن يخبر خبرة من المُسماة بالفكرية أو العقلية ولا يكون لها أسس مادية في حياته وخبراته هو، هذا مُؤكَّد وهو يُوجَد في جهازه، لكن نحن نرى كل يوم العكس، كيف؟ هناك أمثلة كثيرة، مثلاً أنا الآن في المنام أنام وأرى رؤيا تتعلق بك وبعلاقتك – مثلاً – مع أولادك وآتي أقصها عليك وأقول لك حصل كذا وأنت طبعاً يُسقَط في يدك، من أين عرفت هذا؟ هذا بالضبط ما حدث أمس في بيتي، لكن حدث معي أنا وبين أولادي، وأنت تعيش في مكان آخر وربما في دولة أُخرى، مَن الذي طالعك به؟ أليس كذلك؟ هذه ليست خبرتي أنا المادية، يُوجَد مثال ثانٍ، وسنأتي الآن بأمثلة حية، عبر هذه الرؤيا الإنسان يُمكِن أن يرى – مثلاً – بلداً مُعيَّناً أو معلماً أثرياً في بلد مُعيَّن وبدقة أو شخصاً مُعيَّناً لم يلتقه من قبل، ويحدث بعد شهر أو بعد سنين أن يلتقي هذا الشخص لأول مرة ويراه على النحو الذي رآه في المنام وربما تتفق أشياء بينهما أيضاً تنبأ بها، كيف هذا؟ أين الأصل المادي لهذا الشيئ؟ أين الأصل؟ ولذلك بذكاء سيجموند فرويد Sigmund Freud طبعاً في كتابه الضخم عن تفسير الأحلام أنكر هذا الشيئ وألح في إنكاره، قال مُستحيل، هذا كذب ولا يُوجَد شيئ اسمه أحلام تنبؤية، هذا كله كلام فارغ، كل الأحلام تحليلية، وهذا الكلام طبعاً مُهاتَرة ومُباهَتة، الأحلام التنبؤية موجودة وسجَّلها مئات من الفلاسفة والأدباء والمُفكِّرين والملاحدة والمُؤمِنين ومُستمِرة باستمرار، من آخرهم في أيام فرويد Freud وروديارد كبلينغ Rudyard Kipling، كبلينغ Kipling الشاعر الاستعماري البريطاني الكبير وهو صاحب عبارة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، هذا هو كبلينغ Kipling، وهو أديب وروائي استعماري مشهور، كبلينغ Kipling كتب يقول أنا لم أكن أُؤمِن أصلاً بالروح ولا بالأحلام التنبؤية – كان لا يُؤمِن بهذا في البداية، كان يُؤمِن بطريقة تحليلية، أي شيئ يكون في الحس وتخبره يُعاد إنتاجه في المنام وينتهي الأمر مثل طريقة فرويد Freud، لكن لا يُوجَد أكثر من هذا – إلى أن رأيتني ذات ليلة مدعو في قصر الملك، قال ولم أدخله من قبل، لم يُدع إليه ولو مرة، وقد قضى كبلينغ Kipling فترة من حياته في الهند طبعاً مع والده هناك، قال ودخلت قصراً من صفته كذا وكذا وكذا، وذكر الصالة الرئيسة في القصر ووصف بلاطها، قال وأنا في المُنتصَف لدى بلاطة مُعيَّنة جاء شخص طويل وربت على كتفي من الخلف فنظرت إليه وكان أشقر الشعر وقال لي جُملة كذا وكذا – أنا في الحقيقة نسيتها لأنني قرأتها قبل سنين، لكنه قال له جُملة أو عبارة مُعيَّنة – ثم انتبهت من نومي، ثم سجَّل هذا الحلم، قال وبعد أيام يسيرة جاءتني دعوة لأول مرة إلى القصر، لم يربط هذا بذاك وقال فلنذهب، قال ذهبنا ولم يفجأني ألا منظر هذه الصالة يُطابِق تماماً ما رأيته في منامي، هي الصالة التي رأيتها، ووقفت حيث وقفت في الرؤيا عند بلاطة مُعيَّنة وجد أنها نفسها، قال والأعجب من ذلك يأتي شخصٌ طويل أشقر الشعر ويربت على كتفي ويقول لي العبارة ذاتها، قال من تلك الواقعة أنا صرت أُؤمِن بالروح وبقدرة الروح على التنبؤ، إذن هذا موجود، الإنسان كائن روحاني وليس كائناً مادياً، هذه تجربة لا تستطيع أن تُشكِّكه فيها، لك الحق أن تشك أنت فيها، أنا حدَّثت إخواني عن تجربة أغرب من هذه بكثير، كان أحد الإخوة ناقشني قبل يومين في هذا الموضوع وقلت له يُمكِن أن تُشكِّك أنت في القدرة العقلية لرائي هذا الحلم وتقول أنه تخيَّل أو أنه تشوَّش أو أن عقله يعمل بطريقة انتقائية انتخابية – Selective mind – وإلى آخره، يُمكِن أن تأتي بأشياء كثيرة لكن يُوجَد شيئ لا تستطيع أن تنقده، قال لي ما هو؟ قلت له حين تتعلق هذه الرؤيا بأُناس آخرين، فيُمكِن اختبارها باستناد خارجي، وهذه طريقة في البرهنة عجيبة، لا تستطيع حين تتعلق هذه الرؤيا بأُناس آخرين، الرسول عليه السلام – وقلت له حتى هذا وذكرته في اعتقادي كعقلية ضخمة قبل أن يكون نبياً عظيماً خاتماً بلا شك يتعرَّض للشك، انتبهوا إلى هذا وهو ليس عيباً، وهو القائل نحن أولى بالشك من إبراهيم، وطبعاً أنا أعرف شروحات العلماء، بعضهم قال المقصود إبراهيم لم يشك ومحمد لم يشك والنبي قال هذا تواضعاً والمقصود أن إبراهيم لو شك فأنا أولى منه بالشك مع أنه ليس أولى منه لكن هذه هضيمة نفس وما إلى ذلك، هذا كله كلام فارغ، كلام النبي واضح جداً، والله قال الله فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ۩، ألَّفوا حديثاً من عندهم وقالوا روى عبد بن حميد وأبو بكر بن المنذر لا أشك ولا أسأل، ما هذا الكلام يا أخي؟ وكأن الشك نقيصة، بالعكس يا أخي، في الأدبيات الإسلامية عند ابن الهيثم صاحب البصريات وحتى عند الجاحظ المُعتزِلي اليقين يكمن في بطن الشك، أنا أقول لك مَن لم يشك هو لا يبحث، مَن لم يشك كيف يعرف معنى الإيمان؟ يا أخي الإيمان بالغيب، الإيمان ليس بشيئ محسوس، الإيمان بشيئ غيبي، والإيمان تحدي، كما قال كيركغور Kierkegaard قفزة، الإيمان قفزة كبيرة جداً، فالإنسان أحياناً يشك، والنبي طبعاً له من الذكاء فعلاً وله من رسوخ العقل والقدم ما يجعله يشك، أنا مُتأكِّد من أن النبي تعرَّض للشك، علماً بأن أول ما فاجأه الوحي شك، قال يا خديجة لقد خشيت على نفسي، خشيَ من أن يكون شيطاناً، كيف يعرف؟ قال لعله يكون شيطاناً ويضحك علىّ، قالت له كلا، فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فهو شك، بعد ذلك لم لا يشك؟ النبي بذكائه مُمكِن في مرة من المرات أن يقول لماذا لا يكون كل هذا الذي يحصل معي إنما هو إفراز داخلي باطني؟ وهذا يحدث، وبعض الحالات النفسية يحدث فيها هذا، ومن قرأ الاخوة كارامازوف لدوستويفسكي Dostoevsky يجد أن بطل القصة حدث معه هذا تماماً، وبدأ يرى شخصاً ويُخاطِبه ويرد عليه، وهذه كلها إفرازات داخلية، الرسول له من الذكاء ما يجعله يضع حتى هذا الاحتمال، لكن انظروا إلى القرآن الكريم، لا أقول عبقرية وإنما إلهية القرآن الكريم، القرآن أعطاه الحل النهائي وانتهى الأمر، ما هو؟ أنت الآن من داخل منظومتك الذاتية لا تستطيع أن تُبرهِن أو ان تُبرِّر، لا تستطيع فماذا تفعل إذن؟ استند إلى استناد خارجي أو مرجع خارجي، اسأل أهل الكتاب، فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ۩، فإذا قالوا لك أنت بالاسم مذكور في توراتنا، أي محمد، في آخر ثلاثة أسطر من نشيد الأنشاد – السفر البذيء في التوراة مذكور، هذا في آخر أسطره فارجعوا إليه – سوف تقرأون مُشتهى الأمم، وهذا كلام فارغ، هذه ترجمة سخيفة، أما بالعبري فيُقرأ مخمد، هذا اسمه وهذا تبشير به، يُقال له باسمك أنت موجود عندنا، أي محمد، يُترجَم في باب آخر دماد، أي أمةً كثيرة، ويُرمَز له بحساب الجُمّل، وهو حساب جُمّل كلمة محمد، حذفوا محمد ووضعوا دماد، أي أمة كثيرة، وهذا كلام فارغ، هو محمد، قال اسألهم – اسأل الصادقين – وستجدك باسمك مزبوراً في كتابهم، اسأل النصارى، باسمك أحمد، وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ ۩، طبعاً باليونانية القديمة التي كُتِبَ بها الإنجيل في مرحلة لاحقة باراكليتوس Parakletos، باراكليتوس Parakletos لا تعني محمداً أو محموداً وإنما تعني أحمداً، هناك قصة رائعة جداً للعلّامة الأزهري الجليل عبد الوهّاب النجّار صاحب قصص الأنبياء، كان يتماشى يوماً مع البروفيسور Professor الإيطالي كارلو نلينو Carlo Nallino، وهذا كان يُدرِّس اللغات الشرقية ويتكلَّم في العلوم الإسلامية في جامعة القاهرة، فقال قلت له بروفيسور Professor نلينو Nallino ما معنى كلمة باراكليتوس Parakletos؟ طبعاً هو خبير باللغة العربية والسنسكريتية واليونانية طبعاً، قال له تعني المُعزي، هي مُترجَمة بالمُعزي، خيرٌ لكم أن انطلق لأنه أن لم انطلق لا يأتيكم المعزي، قال له أنا لا أسأل نلينو Nallino المُتعصِّب الكاثوليكي – علماً بأنه إيطالي – وإنما أنا أسأل البروفيسور Professor نلينو Nallino الخبير في اللغات الشرقية، قال فاحمر وجهه – انظر إلى هذا، يكتمون الحقيقة والعياذ بالله، تعصب عجيب يا أخي – ونكس برأسه وقال باراكليتوس Parakletos تُساوي صيغة أفعل التفضيل من الحمد، أي أحمد، ليس محمداً وإنما أحمد، والقرآن يقول هذا: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ ۩، فإذا وجد محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – هذا حقاً عند اليهود وعند النصارى وقيل له باسمك مذكور وبنعتك مزبور وموصوف وبمولدك وبمُهاجرك – المدينة – وبصفة وبنعت أصحابك حصل له ثلج اليقين بأنه نبي مُرسَل يا أخي وانتهى الأمر، هذه طريقة عجيبة، ولذلك انتبه إلى هذا، ثم حكيت لأخي الفاضل هذا قصة اتفقت لي قبل ربما أقل من سنة ونصف، ذات ليلة من الليالي – بت بشر ليلة، لماذا؟ قلت لنفسي يا ولد أنت كان أملك طيلة حياتك ألا ترتزق من الدعوة، وأنا مُشتغِل بالعلم – بفضل الله – وبالدين من نعومة أظفاري، وكان أكبر أملي أن أبقى داعية إلى الله دون أن أرتزق من هذا الشيئ وأن يكون باب رزقي من شيئ آخر، لكن للأسف ها أنت – أقول لنفسي – قد انتهيت أن تُدرِّس العلوم الشرعية في الأكاديمية في هناك وترتزق من هذا فيا للأسف، بت حزيناً على نفسي وأسيان والله، كانت ليلة سيئة، في الصباح التالي في الساعة التاسعة وإذا بالتليفون المحمول فيه رسالة قصيرة SMS، قلت مَن هذا؟ وكان هذا في الصباح واستقبلت الرسالة – SMS – بالألمانية واتصلت مُباشَرةً ولا يُوجَد خط، اتصلت عدة مرات ولا يُوجَد خط، بالألمانية يقول لي أو تقول – لا أدري ولا أعرف مَن الذي أرسل هذا الشيئ والله العظيم – لقد رأيتك بالأمس في المنام في مكة المُكرَّمة وأنت تغسل أو تمسح أرض الحرم الشريف، واشتغلت حتى تصببت عرقاً، ثم لما أُذِّن لصلاة الجُمعة تركت العمل وكالمُعتاد ارتقيت المنبر لكي تخطب الجُمعة، فقلت في نفسي مال عدنان كله حلال، وهذا الجُزء بالذات كتبه بالعربية لكن بالحرف اللاتيني، البقية بالألمانية لكن هذا كتبه هكذا بالعربية، MAl Adnan kolho halal، والله العظيم كُتِبَ MAl Adnan kolho halal، قال ثم انتهى، هذا كان بالأمس، أنا صرت في حالة غير طبيعية، لماذا؟ طبعاً أنا من طبعي الشك أيضاً، كل إنسان باحث لابد أن يكون من طبعه الشك في كل شيئ وخاصة في نفسه وفي مواقفه، لو أنا أردت أن أُبرِّر لنفسي أن مالي حلال وكل العلماء يرتزقون لن أقنع بهذا، لن أقنع أبداً، ولو شعرت بأي شعور من الراحة لن أقنع، فالله قال سآتيك باستناد خارجي، هذا مُستنَد خارجي ليس لك علاقة به، تلق هذه الرسالة، فاقتنعت وارتحت بفضل الله تبارك وتعالى.

أحد إخواني في المسجد سأذكر اسمه اتفق له شيئ كهذا، اسمه أحمد الطاهر أبو أنس معنا في الإدارة وهو – إن شاء الله – أحسبه من الناس الصالحين وهو من أبناء الصالحين، آباؤه وأجداده كانوا كذلك وهو رجل ذاكر ويُوجَد نور يلوح على وجهه، المُهِم هو يُحِب والدي جداً، وإن شاء الله والدي أحسبه من كبار الصالحين، فلما جاء والدي إلى فيينا اتفق له معه أشياء عجيبة، لكن المُهِم حتى لا أُطوِّل عليكم أن من أعجب ما اتفق له مع والدي كالتالي، يقول الأخ أبو أنس أحببت أن أحج ذات سنة وليس عندي ما أحج به، وسافرت إلى المملكة السعودية وقد أغلقت باب إعطاء الفيز Visas، فرأيت ليلة الجُمعة – الخميس – كأنني في مسجد كبير – قال ليس الحرم وإنما مسجد آخر كبير جميل – ودخل وقت الصلاة كأنها الظهر، فقيل لي تعال أذِّن، فقلت لهم لا، أنا صوتي غير جميل، قالوا تعال أنت، يجب أن تأتي، قال فذهبت أُؤذِّن، فلما شرعت في الأذان وإذا بصوتي جميل جداً وصيّت، قال فجعلت أُنغِّم، قال جعلت أُنغِّم في الأذان وفرحت بنفسي، قال وانتهى الأمر، فقمت مُتفائلاً وقلت بعون الله أحج، قال الله وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ۩، وفعلاً حج، في خلال ثلاثة أيام أتى المال وأخذ الفيزا Visa والسفارة أغلقت الباب وحج، المُهِم ليس هذا هو، قال لي يا شيخي العجب أن والدك – والله والدي لم يحك لي هذا، والدي لا يحكي هذا، لكن إذا سألته سوف يقول لك نعم حصل – جاء في اليوم الثاني طبعاً لكي يُصلي الجُمعة خلفك معنا، قال وبعد الجُمعة مُباشَرةً يأتي إلىّ – وهو يُحِب أبا أنس وأبو أنس يُحِبه كثيراً ويُجِله – ويضع يده على ظهري ويقول لي يا أخي يا أبا أنس ضروري لما تُؤذِّن تُنغِّم، تفضَّل، قال له يا أخي يا أبا أنس ضروري لما تُؤذِّن تُنغِّم، قال فاقشعر بدني، ما هذا؟ كيف؟ تفضَّل، رجل يرى رؤيا وحده في المنام ويُطالَع به رجلٌ آخر، يُخبِره بها مُباشَرةً، كيف يحدث هذا؟ قل لي، وطبعاً يحدث ما هو أعجب من هذا بكثير، لكي يُؤكِّد أن في الإنسان جُزءاً غير مادي، هو جوهر الإنسان وهو المُسيطر عليه.

كيف نُفسِّر الذين يرون بغير أعين؟ هناك مَن يرون بغير عين، يرون حسيات، كيف؟ بعض الناس قد يرى بيده، بعض الناس قد يقرأ بيده، يقرأ كل شيئ باليد، وهذه الكتابة ليست كتابة برايل Braille وإنما الكتابة العادية، ويرى الأشياء باليد، وبعضهم – أكرمكم الله – بقدمه يرى الأشياء، بعضهم وهو مُغمَض العينين يرى الأشياء، يرى الشارع ومَن يمشي فيه ويصف كل شيئ بدقة، كيف؟ معنى ذلك كما انتهى بعض الباحثين والدارسين أن العين وسيلة للإبصار، لكنها ليست مصدر البصر، قال تعالى وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ۩، ويحدث العكس أيضاً، ينظر ولن يُرى، وقد يرى دون أن ينظر بعينه، ويسمع من غير أذن، هذا يعني أن الذي يرى والذي يسمع والذي يُدرِك ليس العين وليس الأذن وليس الدماغ وإنما الروح، أي الجوهر، وسأُعطيكم برهاناً آخر، هذا كله في المذهب الروحي وهذا كله له علاقة بالفلسفة الآن لكن استناداً على أشياء ومُعطيات واقعية وعلمية، سأُعطيكم برهاناً ابن سينا أتى به وهو في مُنتهى الذكاء، رحمه الله – فعلاً – على هذا البرهان العجيب، أثبت فيه وجود النفس ووجود الروح في الإنسان، كيف؟ الآن يا إخواني مَن منكم دون أن يتحرَّك في الهواء بعنف حوله يشعر بضغط الهواء عليه مثل خمسة عشر أو عشرين رطلاً على كل بوصة مُربَّعة؟ لا أحد، لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد أي ضغط علينا ولا أي شيئ، هذا عادي وطبيعي، تماماً كما لا تشعر السمكة وهي تمخر في عُباب المُحيط أو البحر بأي ضغط، لكن إذا أخرجناها ستشعر أنها كانت في بيئة وصارت في بيئة مُختلِفة، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأنها تمخر في هذا من جميع الجوانب وهو يُحيط بها من جميع جهاتها فلا تشعر به، وهذا يحدث بتجانس طبعاً وبتوازن مثل الهواء، الآن الزمان يمخر في كل شيئ في الوجود، أليس كذلك؟ ما عدا الخالق – لا إله إلا هو – كل شيئ مُتزمِن، لا يُوجَد شيئ لا يخضع للزمان، كل شيئ على هذا النحو ولو حتى بعد ملايين السنين، ويفسد وينحل بفعل الزمان، هكذا كل شيئ، السؤال الآن: الزمان يتخللنا تماماً ويُؤثِّر على كل شيئ فينا ظاهراً وباطناً فكيف نشعر به؟ المفروض ألا نشعر به، أليس كذلك؟ المفروض ألا نشعر به تماماً لأنه يتخللنا، نحن نسبح في الزمان، ينتهي ابن سينا إلى القول إذن في الإنسان مُكوِّن لا يسبح في الزمان، غير خائض في الزمان، يقف على الحافة أو على الشفير، الزمان يسير ويتخلل البدن وهو الجُزء المادي فينا، وذاك الجُزء الآخر واقف على الشفير لا يُؤثِّر فيه الزمان، فهو غير مُتزمِّن، قال هو النفس، هو الروح، وإلا لن نشعر، من المُستحيل أن تشعر بالزمان بدونه، الآن إذا ركبت في أسانسير وكان يسير بتسارع – Acceleration – مُنتظِم أو عجلة مُنتظِمة ولا يُوجَد أي استناد خارجي تراه لن تشعر هل هو يسير أو يقف، مثل الطائرة، أليس كذلك؟ تسير بهذه العجلة المُنتظَمة ولا تُوجَد غيوم في الخارج وأنت تسمع فقط صوت الموتور Motor وهي واقفة، إذا رأيت غيمة تقول هي تمشي، أليس كذلك؟ هذا هو، إذن هذا الجُزء غير المادي فينا فعلاً لا يتأثَّر بالزمان وهو الذي يُعطينا الشعور بوحدة الشخصية، ليس كما يقول الماديون الخلايا العصبية النبيلة، وإنما الروح، الروح وهي عنصر أو مُكوَّن جوهر غير مادي، هكذا يُفكِّر الروحيون أو الروحانيون، المذهب الروحي أو الروحاني في فلسفة الكون والطبيعة يُفكِّر على هذا النحو ويقول جوهر الوجود وجوهر الإنسان هو الروح وليس المادة، والمادة بكل ظواهرها إنما هي مُتأثِّرة بالروح، عكس المذهب المادي تماماً، هذه صيغة وهذه صيغة، ولذلك يُمكِن للإنسان – كما قلنا – أن يسمع بغير آلة وأن يُبصِر بغير آلة وأن يعقل حتى بغير هذه القدرة، بالعكس يُوجَد شيئ أصعب من هذا، يُمكِن للإنسان أن يعقل خارج حدود كل المُتعارف عليه في العلم والفلسفة والمنطق لقوانين العقل، وهذا ما يحدث حقيقةً مع أهل الله ابارك وتعالى، كلهم يُؤكِّدون بلغة أبي حامد في المُنقِذ من الضلال أن من وراء كهف العقل أفقاً أو آفاقاً للتفكير أوسع بكثير، وأبو حامد هو فيلسوف وعارف بالله، كان دائماً يقول اعلم أيها المُعتكِفُ في كهف العقل أن من وراء كهف العقل أفقاً أو آفاقاً للتفكير أوسع بكثير، العقل إليها كالحس إلى العقل، أين الدائرة التي يُغطيها الحس؟ تُعتبَر محدودة، العقل أوسع بكثير، العقل نفسه محدود جداً بالنسبة إلى طور ماوراء العقل، طور وسيع وغريب ولا يخضع لكل القوانين المعروفة لدينا في المنطق الصوري وفي العلم وما إلى ذلك، شيئ أوسع بكثير، وطبعاً له علاقة بالروح، أي بالروح الإنساني، يُؤمِن بهذا العارفون ويُؤمِن به بعض الفلاسفة الروحيين، ويحدث لبعض الناس على جهة الاستثناء ويُؤكِّد لهم هذا.

طبعاً المادي يُحاوِل دائماً إلى آخر لحظة أن يُعيد تأويل هذه الظواهر مادياً، يقول لك هذا يحدث مادياً، لكن دائماً يفشلون، وخاصة في الأشياء التي مثَّلت لبعضها وهي تٌشكِّل تحدياً حقيقياً، مثلاً الظاهرة المعروفة في الباراسيكولوجي Parapsychology بالتليباثي Telepathy أو التخاطر عن بُعد وهي ظاهرة معروفة تماماً، أعجب شيئ في هذه الظاهرة أنها لا تخضع لقانون التربيع العكسي مما يُؤكِّد أنها ظاهرة غير مادية، لماذا؟ أي ظاهرة مادية لابد أن تخضع لقانون التربيع العكسي، وهو قانون نيوتن Newton، بين كل جسمين ماديين قوة تجاذب، كل منهما يجذب صاحبه، وهي تتناسب طردياً مع كتلتيهما وعكسياً مع مُربَّع البُعد بينهما، تُساوي ثابت الكتلة الأولى في الكتلة الثانية على مُربَّع المسافة، هذا قانون التربيع العكسي، لو كان هذا القانون يسير على ظاهرة التليباثي Telepathy إذن لاستنتجنا بكل يُسر وسهولة أن هذه الظاهرة مادية وأنها من مفاعيل الدماغ، لكن في الحقيقة العكس هو الصحيح، قال كلما كانت المسافة قريبة بين المُتخاطِرين التليباثي Telepathy لا يشتغل جيداً، إذا صارت بعيدة – هذا يعيش في بلد وذاك في بلد آخر – تعمل جيداً، هذا تحدي، وهذه الأشياء – قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ ۩ – كأنها تقول لك أنا لست ظاهرة مادية ولا أخضع لقانون التربيع العكسي، كلما زادت المسافة كلما ازددت تألقاً وتوهجاً لأنني لست مادية، لست ظاهرة مادية، أنا أعرف شخصين صالحين – وأنا جرَّبت هذا، لم أسمع وإنما جرَّبت، يجلس أحدهما – مثلاً – لدى العصر ويقول أخي صالح – الأخ الآخر اسمه صالح – اليوم – إن شاء الله – قرَّر أن يأتينا زيارة، غداً – بعون الله تعالى – في حدود كذا يكون لدينا، أقول له كيف عرفت؟ يقول هو الآن ينوي هذا ويُحدِّث أهله به، في الوقت الثاني تماماً يأتي الرجل – عجيب – ويقول لهم حدَّثهم، يقول نعم أنا بالأمس حدَّثت أهلي بكذا وكذا وكذا، يُوجَد تخاطر وكأنهما يجلسان في نفس الحيز مع أن هذا بينه وبين صاحبه تقريباً ما يقرب من مائتين وخمسين كيلو متر، كيف؟ تخاطر تليباثي Telepathy، وأنتم تعرفون قصة سيدنا عمر – رضوان الله عليه – حين قال يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، قالوا ما معنى الجبل الجبل؟ ما له أمير المُؤمِنين؟ ما الذي حدث له؟ كان يخطب يوم جُمعة، فقطع الخُطبة وبدأ يُناشِد سارية، قال يا سارية الجبل الجبل ومَن استرعى الذئب فقد ظلم، وكان سارية في معركة مع الفرس وفعلاً قد أصاب منهم – بفضل الله تبارك وتعالى – لكنهم التفوا حول جيشه من خلف جبل ولم يشعر بهم، فعمر آذنه وسمعه سارية والتفت وكانت له الغلبة بفضل الله تبارك وتعالى، فقالوا ما بال أمير المُؤمِنين يقول كذا؟ فعليّ قال اتركوه، ما دخل في أمر إلا خرج منه، قال هذا الرجل صالح ويعرف ماذا يفعل، هل أنتم مثله؟ كيف؟ يتكلَّم وبلغ الكلام وسمعه سارية، هذه أصعب من ظاهرة التخاطر، هذا تسامع، لكن هذه قدرة الله، ورحمة الله على الإمام الأشعري الذي قال إن الله – تبارك وتعالى – قادر على أن يُسمِع – ولعلي ذكرت أمس هذه المقولة – أطروش قرطبة طنين بعوضة مراكش، بعوضة تطن في مراكش الله يستطيع أن يُسمِع رجلاً أطرشاً في قرطبة طنين هذه البعوضة، وطبعاً هو أقدر أن يُسمِع سارية بن زنيم مُناشَدة عمر بن الخطاب له، هذه ظواهر روحية، المادة لا علاقة لها بها.

طبعاً يبقى الآن السؤال الأخير، وهل فعلاً هذه الظواهر الباراسيكولوجية ظواهر الآن بدأت تتوثَّق وتُوثَّق علمياً؟ نعم، قبل مائة سنة وأيام ويليام كروكس William Crookes وآرثر فندلاي Arthur Findlay وفلان وعلان كانت الأمور مُختلِفة ولم تكن دقيقة، لكن في العقود الأخيرة بعض العلماء انتدبوا أنفسهم وغامرهم بسُمعتهم العلمية أن يُعيدوا اختبار هذه الظواهر علمياً وفق أحدث المناهج العلمية، والحمد لله بموازين العلم هي ظواهر ثبت توثيقها، تفسيرها غير موجود، لا يُوجَد تفسير، لا يُمكِن أن العلم المادي يُفسِّر الظواهر إلا أن يُسلِّم – كما قلنا – بالمكُوِّن الماوراء مادي والمُكوِّن الروحي وهو الأصيل، الأصالة في الوجود له وليس للمادة، الأصالة للمُكوِّن الروحاني على كل حال، طبعاً المذهب الروحي يا إخواني – علماً بأنه بقيَ لدينا ربع ساعة – بعض الناس يقول أنه يجد جذوره الأولى وبذوره البعيدة في نظرية المُثل الأفلاطونية، طبعاً واضح أنها نظرية روحية، لكن هذا ظلم لمُساهَمة الشرق في هذا الباب، بالعكس هذا غير صحيح، أصول الفلسفة الروحية كلها في الشرق، سواء الشرق الأدنى أو الشرق الأقصى، أما أن تقول أصول يونانية فهذا ظلم شديد جداً جداً، مَن أحب أن يتوسَّع في هذه المسألة وأن يقف على تُحف من الفكر فليقرأ بعض أعمال المرحوم عبد الواحد يحيى، الفيلسوف الفرنسي المُؤمِن رينيه جينو René Guénon – رحمة الله عليه – عنده كتاب عن تراث الهنود – تراث الهندوسية – عجيب وغريب، وعنده كتاب أزمات العالم الحديث، وكتبه تقريباً تُرجِمَت إلى مُعظَم لغات العالم للأسف إلا العربية، لم يُترجَم منها إلا فصول يسيرة جداً جداً، وهو الذي قال فيه أديب فرنسا الأكبر إن حُجج رينيه جينو René Guénon لا يُمكِن نقدها، والرجل فيلسوف روحاني، طبعاً كان مسيحياً، وهو رجل ذكي، من أذكياء البشر، وأسلم – بفضل الله – في مطلع شبابه وتصوَّف وأصبح عارفاً بالله ومات في مصر وقد تزوَّج بنت شيخ من شيوخ الطرق الصوفية الكبار وهو مدفون – رحمة الله تبارك وتعالى عليه – في مصر، وظل يكتب إلى أن مات، هو رجل عجيب غريب، هذا يُثبِت أن الأصل الروحاني في الشرق وليس في الغرب، ويُثبِت عكس ما يظن المُغتَرون بالعلم وبالحضارة الحديثة أن أزهى وأزهر العصور البشرية كانت العصور القديمة، يُسميها العصور الذهبية، وبعد ذلك بدأنا في الترذل، قال عصرنا هذا أسوأ العصور التي مرت بها الروح الإنسانية، قال هذا العصر عصر لا روح فيه على الإطلاق، عصر مُفرَغ، وطبعاً هذا يجد أيضاً سناده في مثل قوله – تبارك وتعالى – كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، بإجماع المُفسِّرين على التوحيد، الإنسان الأول والمُجتمَعات الأولى كانت أقرب إلى التوحيد وأقرب إلى الصفاء وأقرب إلى الروحانية الحقة، وبعد ذلك بدأت الاختلاطات والتشبيهات، وتوالى وتواتر إرسال النبيين والمُرسَلين، لكن هم هكذا يقولون نظرية المُثل هي الأصل، الغربيون يُؤكِّدون هذا.

في التفسير الروحي للعالم هناك منهجان أو مدرستان كُبريان، مدرسة أو منهج يُعيد الظواهر إلى مبدأ واحد كما أشرنا ربما في البداية، وهو مبدأ روحي طبعاً واحد، وهناك مناهج ومدارس تُعيد ذلك إلى أكثر من مبدأ روحي وتُسمى المذاهب الروحية المُتكثِّرة، فالمذاهب الروحية المُتكثِّرة من أبرز أعلامها – مثلاً – الفيلسوف الألماني الذي ذكرته أمس لايبنتز Leibniz المُتوفى في عام ألف وسبعمائة وستة عشر، لايبنتز Leibniz صاحب نظرية المونادات والمونادولوجيا Monadology، طبعاً هو أراد أن يرد بها على نظرية ديموقريطس Democritus المادية، قال نعم العالم والأشياء وكل شيئ مُتكوِّن من دقائق صغيرة غير قابلة للقسمة، لا بالفعل ولا بالذهن، ديموقريطس Democritus قال ماذا؟ دقائق غير قابلة للقسمة بالفعل لكنها قابلة للقسمة بالذهن، لكن لايبنتز Leibniz قال لا بالذهن ولا بالفعل، هذا هو الفرق، وهي ذرات روحية – ليست مادية طبعاً وإنما روحية – لا شكل لها، ديموقريطس Democritus قال لها أشكال ولها سنون وزوائد وما إلى ذلك، مثل اللوجو Logo أو شيئ كهذا، لكن هذا قال لا شكل لها ولا مقدار، وهي ذرات روحية مُغلَقة على نفسها، كل واحدة تحكي الوجود كله، وهذا عجيب، فما الذي أوحى إليه بهذا الشيئ؟ في تراث الشاعر الفارسي – لعلي ذكرته أمس أيضاً، لا أعرف لأنني أعمل هنا وأُسجِّل في التلفزيون Television فأصبح عندي لبس – محمود شبستري في حديقة السر يقول الكون كله انطوى في جناح بعوضة، صاحب منطق الطير فريد الدين العطار – رحمة الله عليه – في منطق الطير يقول نفس الشيئ، يقول يا صاحبي لو فلقت ذرة – لا يقصد الذرة الحديثة وإنما يقصد بالذرة الهباءة – لوجدت فيها شمساً، نظام كامل في الذرة أيضاً، وهذا عجيب، قال لو فلقت ذرة لوجدت فيها شمساً، فهو يُؤمِن بالمونادات، هذه المونادات مونادات روحية تصدر عن الله تبارك وتعالى، قال يعني الله تبارك وتعالى، فهي تصدر عن الله، إذن فكرة المونادات يُمكِن أن تقترب من فكرة – لكن هذا ليس كلاماً قطعياً، حاشا لله – كُن فيكون، كل شيئ بالكلمات التكوينية، قال الله وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۩،طبعاً الكلمات التكوينية وليس المُصحَف، المُصحَف يُكتَب بقلم واحد، وإنما يُراد الكلمات التكوينية، لأن كل شيئ بكُن، سواء من جهة الخلق أو من جهة التحوّل، هذا ينطبق على كل شيئ وكل حالة، وكما قلنا أمس نحن مُتعاطِفون مع نظرية الخلق المُستمِر، كل شيئ قائم بالله لحظة بلحظة ومدداً مدداً، قال لايبنتز Leibniz تصدر عن الله كما تصدر ذرات الضياء عن الشمس، كيف يفيض النور عن الشمس؟ هذه المونادات تصدر عن الله، طبعاً واضح هذا لكن هو قال ليست ذرات مادية، قال ذرات روحية، فالرجل ليس مُتورِّطاً بشكل واضح في تشبيهية أو تجسيمية أبداً ولا في انفصال شيئ عن الله بالمعنى المادي، لا يقول هذا، قال هي ليست مادية، وفي نفس الوقت ليس لها شكل، وليس لها مقدار، هذا يعني أنها قد تكون هذه الكلمات التكوينية، أعني كُن فيكون، أليس كذلك؟ هي ليست مادية، لأن حتى الكلمة في النهاية هي بمعنى ما شيئ مادي أيضاً وطاقة مُعيَّنة، هي الوجه الآخر للمادة كما في الفيزياء الحديثة، قال هذه ليست مادة وليس لها مقدار وليس لها شكل ومُغلَقة على نفسها وتحوي كل شيئ في ذاتها أيضاً، لكن لهذه المونادات عند لايبنتز Leibniz درجات من الإدراك، أي أنها مُدرِكة، هي تُدرِك لكن إدراكها يتفاوت قوةً وضعفاً بحسب الرُتبة الوجودية، فمونادات الأشياء الجامدة – مثلاً – إدراكها ضعيف جداً جداً، مونادات النبات أكثر إدراكاً، مونادات الحيوان أوسع إدراكاً، مونادات الإنسان أوسع إدراكاً، مونادات الملائكة أوسع إدراكاً، قال إلى أن نصل إلى موناد المونادات وهو رب العالمين، سماه هكذا وأستغفر الله، قال هذا موناد المونادات، هذا الذي لا يند عن علمه أي شيئ في الوجود، كل شيئ داخل ومشمول في علمه، وهذا صحيح طبعاً فلا يُوجَد شيئ يند عن علم الله، لكن تسمية الله بموناد المونادات طبعاً من تهويمات الفلاسفة، فهم لا يلتزمون طبعاً بالضوابط الشرعية.

لعلنا نكتفي اليوم بهذا ونحن لا نزال للأسف في نفس الموضوع، هذا بعض المرات نتحدَّث به لكننا بلغنا الغاية اليوم، نكتفي بهذا القدر على أن نُكمِل معكم – إن شاء الله – غداً، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: