بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأشرفان الأتمان الأكملان على سيد الأنبياء والمُرسَلين سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.
في الحقيقة فاتني بالأمس أن أشكر الإخوة والأخوات القائمين على هذه الدورة وفي رأسهم أختنا الفاضلة أم محمد الداعية المُوفَّقة، في البداية – سبحان الله – ربما لأنني كنت مُحرَجاً – هكذا أنا في طبعي – نسيت أن أشكر الإخوة والأخوات القائمين على هذه الندوة والذين أسعدوني وشرَّفوني بأن أتاحوا لي فرصة أن ألتقي بهذه الوجوه الكريمة المُبارَكة – باركها الله في الدنيا والآخرة – وفي رأسهم أختنا الأستاذة الكبيرة الداعية المُوفَّقة أم محمد، بارك الله فيها وفيهم وفيهن جميعاً وجمعوات وشكر الله سعيهم وبلَّغهم الأمل. اللهم آمين.
بلغنا إخواني وأخواتي أمس في حديثنا إلى نُقطة أن ديكارت Descartes أبا الفلسفة الحديثة كما يُلقَّب أو كما يُنعَت كان فيلسوفاً عقلانياً أو عقلياً، وكان يعمل ضد موجة الشك التي اجتاحت أوروبا بدءاً من عصر النهضة وما تلاه، وذكرنا أنه اعتمد فكرة الأفكار الفطرية واعتمد الحدس كقوة أيضاً لمعرفة الحقائق وقال بالاثنينية أو بالازدواجية أو بالثنائية في تفسير الوجود فتكلَّم عن المادة على أنها امتداد وتكلَّم عن العقل على أنه تفكير، أي قوة تفكير، هذا مُلخَّص طبعاً مُشوَّه لفلسفة هذا الرجل، لكن في المُقابِل في نفس عصر رينيه ديكارت René Descartes بدأت بذور الحسية والتجريبية تنمو وتُنبِت نباتاً غير كريم وغير حميد، الفلسفة الحسية والتجريبية بصورها المُتطرِّفة بلا شك تعمل في اتجاه مُضاد لكل الفلسفات الروحية بل والفلسفات العقلية، ولذلك بلغت نهايتها وغايتها المنطقية في دعوات إلحادية تتنكر لكل غيب ولكل معنى روحي بل لكل لياقة عقلية مما اعترفت به الفلسفة العقلية بأقطابها المشهورين، من جهة أُخرى اجتماعية وأخلاقية انتهت مثل هذه الفلسفات إلى عدمية اجتماعية وعدمية قيمية، دائماً القيمي أو الأخلاقي يحتاج إلى سند مُفارِق، طبعاً هذه المسألة – إن شاء الله – سنتعرَّض لها ربما في دورات أُخرى – إذا قدَّر الله وفسح في الأجل – حين نتحدَّث عن قيام أخلاق بلا دين، هل يُمكِن أن تقوم أخلاق بلا دين كما يزعم كثير من الماديين؟ ونحن بكلمة واحدة نقول مُستحيل، مُستحيل أن تقوم أخلاق بغير معنى ديني، كل معنى خُلقي هو في بطانته وفي حقيقته في النهاية يستند إلى معنى روحاني أو معنى ديني، فكانت هذه الغاية الطبيعية التي انتهت إليها هذه الفلسفات الحسية والتجريبية والواقعية كما يُسميها بعضهم.
فرانسيس بيكون Francis Bacon الذي كان مُعاصِراً لديكارت Descartes – قلنا ديكارت Descartes تُوفيَ في ألف وستمائة وخمسين وفرانسيس بيكون Francis Bacon تُوفيَ في ألف وستمائة وست وعشرين – صاحب الـ Novum Organum أو الآلة أو الأداة الجديدة في مُقابِل الأداة القديمة وهي المنطق الصوري Formal logic – المنطق الأرسطي طاليسي المشهور – اعتمد التجريبية والمُلاحَظة والحس واكتفى بها للوصول إلى الحقيقة، في الحقيقة بيكون Bacon لم يكن مهموماً بمعرفة الحقيقة كما اهتم بها الفلاسفة الميتافيزيقيون بمقدار اهتمامه بالسيطرة على الطبيعة، هو لم يشتغل بمسألة معرفة الحقائق الماورائية والميتافيزيقية، رأى أن هذا يُشكِّل عبثاً فارغاً وترفاً يُمكِن أن نتجاوزه، المُهِم في المعرفة أن تُمكِّننا من السيطرة على الطبيعة، وله العبارة المشهورة التي تقول المعرفة قوة، إلى اليوم طبعاً هذا المنطق لا يزال يتخلَّل الفكر الغربي وبالذات الجُزء العلموي منه، طبعاً كان أيضاً مُعاصِراً بمعنى أو بآخر لهما الفيلسوف الإنجليزي السياسي توماس هوبز Thomas Hobbes صاحب كتاب الوحش Leviathan، هذا الوحش المذكور في العهد القديم أو في التوراة، طبعاً توماس هوبز Thomas Hobbes من ناحية الفلسفة السياسية كان يرى ضرورة الحكم المُطلَق ويُبرِّر للحاكم الفرد المُطلَق أن يُعيد حتى تأويل النصوص القانونية على ما يرى، على ما يرى فيه مصلحة المُجتمَع، فكان رجلاً مُتطرِّفاً في هذه الناحية، في ناحية نظرية المعرفة ونظرية الوجود في الإبستمولوجيا Epistemology والأنطولوجيا Ontology الرجل أيضاً كان حسياً تجريبياً مُتطرِّفاً، إذن هو جرى في نفس الاتجاه، لكن كبار التجريبيين هذه الحقبة المشهودة في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر تمثَّلوا في ثلاثة إنجليز، في الحقيقة الفلسفة التجريبية بتشكيلاتها المُختلِفة أكثر مَن دعمها وأكثر مَن استشهد لها وشيَّد أركانها هم الإنجليز عبر العصور، ففرانسيس بيكون Francis Bacon إنجليزي، توماس هوبز Thomas Hobbes إنجليزي، جون لوك John Locke إنجليزي، جورج بيركلي George Berkeley، ديفيد هيوم David Hume اسكتلندي – Scottish – لكنه من نفس النطاق، لبرتراند راسل Bertrand Russell إنجليزي، جون ستيوارت ميل John Stuart Mill إنجليزي، كل هؤلاء إنجليز، فهم عندهم هذه النزعة، على كل حال علي عزت بيجوفيتش Alija Izetbegović له تصوّر آخر لهذا المجال الأنجلوسكسوني لكن يبدو أنه أغفل مُلاحَظة هذه الناحية الفلسفية في تاريخ الفكر الفلسفي، لو كان وقف عليها لتغيَّر منظوره، المُهِم مَن قرأ كتابه الإسلام بين الشرق والغرب يفهم ماذا أُريد أن أقول، فجون لوك John Locke إذن وجورج بيركلي George Berkeley وديفيد هيوم David Hume هؤلاء الثلاثة هم الأبرز، والثلاثة إنجليز، أقربهم إلى المذهب العقلي جون لوك John Locke، طبعاً أنا مُتأكِّد وأستمحيكم عذراً أن هناك بعض الأشياء أقولها وهي غير واضحة خاصة ربما لمَن لم يتمرَّس بدرس الفلسفة من قبل أو لمَن حتى لم يطلع ربما أي اطلاع على الفلسفة، أشياء كثيرة يسمعها وتكون غير واضحة بالنسبة إليه، فما هي حقيقة التجربيبة – مثلاً – أو أصالة التجربة؟ ما حقيقة العقلية أو المذهب العقلي بالضبط؟ غير واضح هذا، لكن هذا – إن شاء الله – سيضح شيئاً فشيئاً حين نبدأ نخوض في مباحث الفلسفة، سوف تُصبِح الأمور – إن شاء الله – أكثر وضوحاً وتبياناً، فجون لوك John Locke هو أقرب هؤلاء الثلاثة إلى المذهب العقلي، وسيضح لنا هذا تماماً عند مذهب الإبستمولوجيا Epistemology إن شاء الله، أما أكثرهم تطرّفاً فهو الاسكتلندي ديفيد هيوم David Hume، هو أكثرهم تطرّفاً على الإطلاق، جورج بيركلي George Berkeley اليوم سنتكلَّم عنه بإسهاب قليل يُناسِب المقام بعد قليل، الرجل مثالي من جهة لكنه يدعم التجريبية، تُوجَد لا أقول تناقضات وإنما مُفارَقات في موقفه الفكري، هؤلاء الثلاثة تصدوا بالنقد لديكارت Descartes ومنهجه وطريقته، انتقدوا موقفه من الأفكار الفطرية، لماذا؟ لأنهم يكتفون بالحس مصدراً أساسياً ورئيساً ووحيداً لاستمداد المعرفة، لماذا نحتاج إلى أفكار فطرية كالتي ادّعاها ديكارت Descartes واستند في صدقيتها إلى الله – تبارك وتعالى – المُفارِق المُجرَّد والذي لا يخدعنا لأنه ليس خبيثاً؟
بعد ذلك تُفضي النوبة إلى الفيلسوف العظيم والكبير – بعض الناس يُبالِغ في قيمته ويقول أنه حتى أعظم الفلاسفة باستثناء أرسطو Aristotle، وبعضهم يضعه على قدم سواء مع أرسطو Aristotle – وهو الفيلسوف النقدي إيمانويل كانط Immanuel Kant صاحب الكتب النقدية الشهيرة، مثل نقد ملكة الحكم ونقد العقل العملي، وأشهرها طبعاً وأضخمها وأصعبها نقد العقل المحض أو العقل الصرف، أي Critique of Pure Reason بالإنجليزية أو Kritik der reinen Vernunft بالإلمانية، سنتحدَّث عن حقيقة موقف كانط Kant, وهو طبعاً فلسفته مُعقَّدة جداً، مكث في تأليف كتابه هذا خمس عشرة سنة ثم أهداه إلى أحد زملائه من المُفكِّرين والفلاسفة، فمكث عنده أسابيع ثم أعاده إليه وقد كتب عليه مع الشكر الجزيل إلا أنني لا أحتاج إلى هذا الكتاب، لقد خشيت على عقلي، أي سوف أُجَن لو استمريت في قراءة هذا الكتاب، سوف أفقد عقلي، كتاب صعب جداً جداً ومُتقَن، علماً بأن هذه هي الطريقة الألمانية، الألمان عندهم دقة غير عادية، كل شيئ بشكل هرمي وSystemically – من System – وعندهم نسق مُعيَّن يخدمونه وكل شيئ يُفضي إلى شيئ، حتى اللغة الألمانية هكذا، كل شيئ مُرتبِط بكل شيئ فيها، إذا لم تعرف أداة التعريف لا تستطيع أن تتكلَّم الألمانية، وأداة التعريف لا يضبطها منطق، كل كلمة لها أداة تعريفها من غير منطق، الشيئ يكون مُؤنَّثاً في الحقيقة وتكون أداته مُذكَّرة، هو هكذا، لابد أن تحفظ هذه الكلمات، هذه طريقة التفكير الألماني وهذه طريقة اللغة الألمانية، كانط Kant باختصار كان عدواً للميتافيزيقا، طبعاً لم يكن فيلسوفاً عقلياً إذن أو ميتافيزيقياً، لماذا؟ في البداية طبعاً بدأ ككل الفلاسفة المشاهير فيلسوفاً ميتافيزيقياً يعتقد بالميتافيزيقا ويشتغل إلى مباحثها إلى أن قرأ للفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم David Hume، وهو لم يسبقه بكثير، على كل حال قرأ لديفيد هيوم David Hume، وديفيد هيوم David Hume تُوفيَ في ألف وسبعمائة وست وسبعين، كانط Kant تُوفيَ في ألف وثمانمائة وأربع، فهما تعاصرا بمعنى أو بآخر، قرأ كانط Kant له فقال لقد أيقظني ديفيد هيوم David Hume من سُباتي الدوجماطيقي، علماً بأن الدوجماطيقية – Dogmatism – عكس الشكية، عندنا الشكية وعندنا الدوجماطيقية – Dogmatism – وهي الاعتقاد الجازم بأشياء مُعيَّنة من غير أن يكون لدى المرء الأدلة الكافية التي تُبرِّر اعتقاده، نقول هذا يعتقد بدوجما Dogma أو عنده دوجما Dogma أو ينطلق من تفكير دوجماطيقي، هذا معنى ذلك الكلام، أن هذه الأشياء هكذا، رأسه وستون سيفاً أنها هكذا، وحين نبدأ نتحاور نجد أن ليس عنده أي أدلة كافية لكنه يعتقد بها ومُستعِد أن يموت من أجلها، بالمُناسَبة سُئل مرة الفيلسوف الإنجليزي التحليلي برتراند راسل Bertrand Russell هل أنت مُستعِد أن تموت من أجل أفكارك؟ قال لا، أنا غير مُستعِد، أنا لست شهيداً، قيل له لماذا؟ قال لأنني لست واثقاً منها، ولذلك قيل في التنكيت على هذا الرجل قالوا مَن أراد أن يعرف فلسفة برتراند راسل Bertrand Russell فلينظر إلى الساعة، كل ساعة يُغيِّر فلسفته، كان يتطوَّر باستمرار، الرجل طبعاً يُحِب أن يصل إلى الحقيقة، يبحث عن الحقيقة فدائماً يتغيَّر، من الصعب أن تقول هذه فلسفة برتراند راسل Bertrand Russell، هذا من الصعب جداً، لابد أن تقول في أي سنة ومن أي كتاب لأنه يتطوَّر باستمرار.
على كل حال كانط Kant يقول لقد أيقظني ديفيد هيوم David Hume من سُباتي الدوجماطيقي، اليوم طبعاً سنتوغَّل قليلاً في موقف ديفيد هيوم David Hume، ماذا قال ديفيد هيوم David Hume عن الميتافيزياء مثلاً؟ كيف تأتى له أن يُحاوِل زعزعتها – مثلاً – أو اجتثاث جذور شجرتها؟ طبعاً أشياء كثيرة من ضمنها التشكيك في المعقولات والتشكيك في المفاهيم الكُلية، المفاهيم الكُلية يُسمونها المعقولات بأقسامها، وربما سأُضطَر طبعاً – وأرجو ألا أكون ثقيلاً – إلى أن أشرح لكم أقسام المعقولات، المعقولات الأولى ثم المعقولات الثانية، المعقولات الثانية المنطقية والمعقولات الثانية الفلسفية والفرق بينهما والإضافة الإسلامية في هذا الباب وهي إضافة دقيقة جداً جداً بل وعبقرية، إضافة لم يستوعبها لأنه لم يقف عليها لا هيجل Hegel ولا كانط Kant من قبل ولا ديفيد هيوم David Hume ولا الوضعيون المناطقة ومن هنا تخبطهم الفلسفي، أما الإسلاميون فقد كانوا في مُنتهى الدقة بهذا التقسيم الثُلاثي للمعقولات، ديفيد هيوم David Hume لم يُؤمِن بالمفاهيم الكُلية أصلاً، وسنرى مذهبه فيها لكن في وقت لاحق اليوم إن شاء الله تبارك وتعالى، فكانط Kant اختلف موقفه بعد أن قرأ هيوم Hume، انتهى بعد ذلك – بعد رحلة نقدية طويلة مُتعالية كما تُسمى – إلى أن العقل النظري ليس جديراً وليس مُؤهَّلاً وليس مُقتدِراً على أن يتعاطى مع القضايا المُسماة بالميتافيزيقية، سوف تقول لي ما هي؟ هذا الجُزء الثاني من درسنا اليوم، سوف نقول ما هي الميتافيزيقا وما إلى ذلك، وسوف نضرب طبعاً أمثلة مُسهَبة لبعض قضايا الميتافيزيقا وكيف تُعالَج وكيف تكون فيها المُحاجَجة لكي نفهم ما هي الميتافيزيقا، فكانط Kant قال غير مُمكِن، العقل النظري لا يستطيع أن يتعامل مع القضايا الميتافيزيقية، مُستحيل، مُستحيل أن ينتهي فيها إلى شيئ يُستعصَم بعروته، كلها أوهام وتخليطات وتخبيطات، أشياء لا يُمكِن أن يُعتصَم بها فلنتركها، هذا كلام فارغ، طبعاً ديفيد هيوم David Hume الذي أثَّر في كانط Kant له كتاب مُهِم تُرجِم إلى العربية والحمد لله، وهو ليس كتاباً كبيراً وإنما هو مُتوسِّط الحجم، اسمه An Enquiry Concerning Human Understanding، أي بحثٌ في الفاهمة البشرية أو بحثٌ في الفهم الإنساني، بالضبط ترجمته هي بحثٌ بخصوص الفهم الإنساني لكنه تُرجِم بحثٌ في الفهم الإنساني، قال فيه ديفيد هيوم David Hume إذا وقع في يدك كتاب في اللاهوت – أي الثيولوجيا Theology – أو في الفلسفة الميتافيزيقية – كانت تُسمى الفلسفة عموماً، أهم شيئ في الفلسفة هي الميتافيزيقا، إذا كنت لا تعرف الميتافيزيقا لن نتعرف الفلسفة، هذا أهم شيئ خاصة في العصورالقديمة والوسطى، بعكس العصر الحديث اختلف اهتمام الفلسفة وتعريفها تبعاً لذلك أيضاً صار مُختلِفاً – فانظر فيه، هل يبحث ويتعاطى مع مسائل وقضايا رياضية بتفكير رياضي مُجرَّد؟ ثم – طبعاً لن تجده هكذا، لا اللاهوت ولا الميتافيزيقا، ليس عندهما هذا المنهج – اسأل واستشر هذا الكتاب، هل يبحث هذا الكتاب في قضايا علمية طبيعية بالأسلوب التجريبي؟ أي أسلوب العلم، العلم التجريبي بمعنى الـ Science، فإن وجدته لا يفعل أنصحك أن تُلقي به في النار – مُباشَرة أرمه في النار – ولن تأسف عليه لأنه لا يحتوي إلا على أوهام وسفسطة وكلامٌ بلا معنى، هذا هيوم Hume، كان شديداً جداً في موقفه من الميتافيزيقا، طبعاً ليست مُجرَّد دعوى، الرجل عنده بناء من الاستدلالات وقد قرأها كانط Kant وتأثَّر، فالرجل عنده استدلالات قوية، وكما قلت لكم سنعرض لبعضها – إن شاء الله – بُعيد قليل، كانط Kant انتهى إلى أن مسألة وجود الله – تبارك وتعالى – ومسألة خلود النفس أو الروح – الناس يُسمونها الروح مثلاً – والآخرة والخلود هي أشياء لا يُمكِن للعقل النظري أن يتوصَّل فيها إلى شيئ ذي جدوى، وإنما يُمكِن أن نُوافِق عليها لا على أنها من مُقتضيات النظر العقلي بل على أنها من مُقتضيات تسليمنا للموقف العملي الأخلاقي، كان يُظَن قبل كانط Kant أن الموقف العملي الأخلاقي والقيمي هو نتاج للتصوّرات في الأبواب الثلاثة، في باب وجود الله وفي باب حرية الإرادة وفي باب الخلود أو الآخرة بشكل عام، إذن حرية الإرادة والخلود أو الآخرة ووجود الله تبارك وتعالى، كانط Kant أثبت العكس، قال بالعكس مُسلَّمات العقل العملي والأخلاقي تقتضي أن نُوافِق على هذه الأشياء، لكن أن يُدّعى أنها أشياء مُبرهَنة ومُدلَّلة بالأسلوب العقلي البحت هذا كلام فارغ، دعوى ميتافيزيقية، فقط رجال الدين يدّعون هذا والفلاسفة الميتافيزيقون، لكن ليس عندهم قدرة على أن يُبرهِنوا هذا، وطبعاً كانط Kant تحداهم، ولذلك كانط Kant جاء ليُقوِّض أُسس الميتافيزيقا – عجيب – وفي نفس الوقت ليُعيد الاعتبار إلى القيم الأخلاقية والمُجتمَعية التي زلزلتها وقلقلتها مباديء وروح عصر النهضة وما تلاها، أعاد إليها الاعتبار كانط Kant، كانط Kant كان أخلاقياً وكتبه تُؤكِّد ذلك تماماً لكنه لم يكن ميتافيزيقياً، هو في ذاته كان أشبه بالمُتدين – ليس عنده مُشكِلة – لكن ليس على أُسس نظرية، طبعاً هذه ضربة هائلة جداً للميتافيزيقا، من أقوى الضربات على الإطلاق، ومن أصعب ما يُمكِن أن يتصدى له فيلسوف ميتافيزيقي هو الرد على كانط Kant، أنا أرى أن الأقدر بإطلاق في مسألة الرد على كانط Kant هم الفلاسفة الإسلاميون الذين حذقوا الفلسفة الإسلامية، وطبعاً هي فلسفة ليست سهلة، فلسفة عميقة وصعبة جداً، طبعاً مَن درسها بتأنٍ ودرس مسائلها يعلم صدق هذا التقرير، وبعد ذلك لو قارن بين الفلسفة الإسلامية وبين الفلاسفة الغربيين الكثر وهم مشاهير وكبار سوف يرى مدى هلهلة مناهج هؤلاء ومدى ضعف ملكاتهم بالنسبة إلى الفلاسفة الإسلاميين، فالعقل الإسلامي عقل مُحترَم إلى حد أبعد مما يتخيَّل الدارس إلا أن يكون دارساً مُتعمِّقاً ومُقارِناً، سوف يستعيد الثقة بعد ذلك بنفسه حقيقةً.
العجيب أنه بعد كانط Kant وبعد مرحلة كانط Kant شهدت ألمانيا بالذات – وهو كان ألمانياً طبعاً وعاش في كونيغسبرغ Königsberg – ازدهاراً جديداً للمثالية، ليس للحسية وليس للتجريبية أبداً وإنما شهدت ازدهاراً جديداً ومُؤمِّلاً للمثالية، مذاهب مثالية كثيرة، أول هذه المذاهب على يد التلميذ المُباشِر لكانط Kant فيشته Fichte، في النمسا يُسمونه فيخته، اسمه فيشته Fichte أو فيخته والعرب يتأثَّرون طبعاً باختلاف هذه اللهجات، فيشته Fichte أو فيخته تُوفيَ في ألف وثمانمائة وأربعة عشر، أي أنه تُوفيَ بعد كانط Kant بعشر سنين، وهو تلميذه المُباشِر، كان فيلسوفاً مثالياً ورومانسياً، وطبعاً للتنبيه هناك نوعان من الرومانسية، رومانسية الفلسفة ورومانسية الأدب، رومانسية الأدب معروفة، من رومانسيي الأدب نوفاليس Novalis وجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau وفيكتور هوجو Victor Hugo ولامارتين Lamartine وشيلي Shelley وبيرون Byron وأمثال هؤلاء وهم مشهورون، هؤلاء رومانسيو الأدب، رومانسيو الفلسفة أشهرهم على الإطلاق مَن سنذكرهم، مثل فيشته Fichte وشيلينج Schelling وبعضهم يعد هيجل Hegel إلى حدٍ ما لكنه ليس رومانسياً حقيقاً، فهؤلاء رومانسيون، ففيشته Fichte كان فيلسوفاً مثالياُ رومانسياً، ما معنى رومانسياً؟ أنه بدأ بالموقف الشخصي، بدأ بالموقف أو بالموقف الذاتي وانتهى في النهاية إلى تقرير حرية الإنسان وحرية الإرادة – Free will – وجعلها شيئاً أساسياً في فلسفته المثالية، من أقوال فيشته Fichte المشهورة أن الكون محكوم بقوانين ضرورية، أي بقوانين مضبوطة ودقيقة تماماً، هو نظام من القوانين، الكون كله نظام من القوانين، على تشبيهنا أمس – مثلاً – للجسر، نحن نراه كومة من حجارة ومن أشياء ويراه المُهندس بناء من قوانين، كذلك فيشته Fichte رأى أن العالم ليس مُجرَّد أشياء وكواكب وأجرام وأجسام وإنما رآه قوانين تعمل، وهذه القوانين ضرورية، القوانين لا تتخلَّف، قال الله وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۩، قال أما الإنسان فهو استثناء، الإنسان عالم من الحرية، الإنسان ليس عالماً من الحتميات، في جوهره وفي حقيقته هو عالم من الحرية، ولذلك قال فيشته Fichte نحن لا نتبع هذا الكون المحكوم بضرورة القوانين، إنما في الحقيقة العكس هو الصحيح، هذا الكون يتبعنا نحن، ونحن القادرون على أن نُعيد إنتاج وتشكيل هذا الكون بما يُعطيه هذا التصوّر مثلاً، أنه كون قوانين، نحن الذين فعلنا هذا، لماذا نفعل هذا؟ لأننا عالم من الحرية.
طبعاً سُميت أو نُعِتت مثالية فيشته Fichte بالمثالية الذاتية Subjective idealism، اسمها المثالية الذاتية وقد فهمنا لماذا، بعد ذلك جاء شيلينج Schelling، علماً بأن شيلينج Schelling تتلمذ عليه فيلسوفان كبيران أو مشهوران، كارل ماركس Karl Marx أخذ دورة على شيلينج Schelling وتتلمذ له وعليه وأيضاً الدنماركي مُؤسِّس الفلسفة الوجودية الروحية أو المسيحية سورين كيركغور Søren Kierkegaard تتلمذ على شيلينج Schelling فترةً من الزمن، شيلينج Schelling أيضاً فيلسوف ألماني مثالي، تُوفيَ في ألف وثمانمائة وأربع وخمسين، أي أنه مُتأخِّر قليلاً عن هيجل Hegel، هيجل Hegel تُوفيَ في ألف وثمانمائة وواحد وثلاثين لكن هذا تُوفيَ في ألف وثمانمائة وأربع وخمسين، لكن الثلاثة في حقبة واحدة، نفس الشيئ كان له فلسفة مثالية تنطلق من الشخص وأكَّد أيضاً أصالة الروح الإنسانية، ودُعيَت مثيالته بالمثالية الموضوعية – Subjective idealism – في مُقابِل ميثالية شيلينج Schelling الشخصية أو الذاتية، ثم أتى بعد ذلك آخر فيلسوف نسقي كبير، طبعاً الفلسفة إلى هذا الفيلسوف كانت نسيقة، ما معنى نسقية أو نظامية؟ كان يُطلَب من الفيلسوف أو هو ينتدب نفسه دائماً بطبيعة العمل الفلسفي والنشاط التفلسفي إلى أن يُقيم بناءً هرمياً مُتكامِلاً يُفسِّر كل القضايا التي اعتاد الفلاسفة أن يعتوروا البحث فيها، وهي قضايا الإبستمولوجيا Epistemology وقضايا الأنطولوجيا Ontology وقضايا القيم، لابد أن يتكلَّم في كل هذه القضايا ويكتب فيها، لكن كيف؟ ليس كلام دارس مثل أي أحد فينا، وإنما كلام فيلسوف، بمعنى أن عنده نسق واحد يتكلَّم بمُوجبه في كل هذه المسائل، هو هذا، الفلسفة المذهبية النسقية مثل أفلاطون Plato ومثل أرسطو Aristotle ومثل ديكارت Descartes ومثل هيجل Hegel، آخر فيلسوف نسقي، بعد هيجل Hegel لا يُوجَد فيلسوف نسقي، سوف نرى فلاسفة كُثر، الفلاسفة الوجوديون والفلاسفة البراجماتيون والفلاسفة التحليليون والفلاسفة الوضعيون والوضعيون المناطقة وإلى آخره لكن لا أحد فيهم هو فيلسوف نسقي أبداً، كل أحد اعتنى بجانب مُعيَّن وانتهى الفلسفة النسقية بوفاة الفيلسوف المثالي الكبير صاحب المثالية المُطلَقة – Absolute idealism – وهو هيجل Hegel.
هيجل Hegel كان يرى عكس الرومانسيين، طبعاً هو – كما قلت لكم – بمعنى ما امتداد للرومانسيين لكنه انحرف عنهم، ولذلك ثاروا عليه بعد ذلك، وأول مَن ثار عليه كيركغور Kierkegaard، وماركس Marx أيضاً ثار عليه، لكن لا انتقاماً للرومانسية وإنما كان انتقاماً لشيئ آخر، هيجل Hegel نظر إلى العالم وإلى التاريخ على أنه يسير من العام إلى الخاص ومن المُطلَق إلى المُتعيِّن، ووجد أن هذا الكون والتاريخ والعالم محكوم بقوانين أسماها قوانين الروح، الروح المُطلَقة أو العقل المُطلَق، وهذه القوانين قوانين جدلية، أي أنها ليست قوانين ميكانيكية، ليست ميكانيكية، الميكانيكية تعمل في اتجاه واحد، لكنها قوانين جدلية ديالكتيكية تعمل بالتآثر، فرأى – مثلاً – أن أعم الأفكار على الإطلاق كانت فكرة الوجود Being، فكرة الوجود أعم الأفكار على الإطلاق فجعلها البداية، هذه الفكرة أنتجت نقيضها، وهي فكرة العدم، وبعد ذلك بامتزاج النقيضين صار عندنا مُركَّب ثالث وهو الصيرورة، مُركَّب اسمه الصيرورة، ليس الوجود وليس العدم وإنما الصيرورة، وهو مُركَّب من الاثنين، بالألمانية يُسمون الأولى الطريحة أو الطروحة كما يقول بعض العرب، أي These بالألمانية وهي تُشبِه الإنجليزية، الأُخرى النقيضة، أي نقيضة الطريحة أو الطروحة اسمها Antithese، هذا المُركَّب اسمه Synthese بالألمانية، وهكذا هذا القانون الجدلي يفعل في الوجود بمُستويين، الذهني والعياني، الوجود الذهني يتعلَّق بعالم الأفكار وحتى عالم المُجرَّدات، والعالم العياني الخارجي الواقعي يخضعان كلاهما لقوانين الديالكتيك، هذا الجدل، كل شيئ يبدأ هكذا ويُولِّد نقيضه ويصطرع النقيضان وتأتي تركيبة ثالثة، هذه التركيبة تُولِّد نقيضها ويصطرعان وتأتي تركيبة وهكذا باستمرار، لكن يُوجَد ترقٍ، يحدث الترقي بهذه الطريقة، طبعاً واضح أن كارل ماركس Karl Marx قد استفاد هذا الجدل من هيجل Hegel، والجدل طبعاً عنده أصول يونانية معروفة مع هرقليطس Heraclitus، لكن هذا الجدل بالذات هو جدل هيجلي.
نأتي الآن إلى الفلسفة الوضعية، نحن إلى الآن لا نشرح وإنما نُؤرِّخ لكن تأريخاً سريعاً ولم ندخل في مباحث الفكرة، فقط نُريد أن نأخذ فكرة عامة عن تطوّرالفكر الفلسفي في تحقيباته المُختلِفة الثلاثة، نأتي الآن إلى الفلسفة الوضعية مع الفيلسوف الفرنسي الشهير أوجست كونت Auguste Comte الذي يُدعى أبا علم الاجتماع طبعاً زوراً وبهتاناً، أبو علم الاجتماع بجدارة ومن غير مُبالَغة هو ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون رحمة الله تعالى عليه، وطبعاً تكفينا شهادة المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير الثقة الحُجة آرلوند توينبي Arnold Toynbee في A Study Of History الكتاب العظيم الذي ألَّفه في ثنتين وأربعين سنة وقال فيه بالحرف الواحد توينبي Toynbee إن التاريخ الإنساني لم يشهد في أي عصرٍ من الأعصار ولا في أي سُقع من الأسقاع – أي في أي مصر من الأمصار ولك أن تتخيَّل هذا، في أي مكان وفي أي زمان – مُؤرِّخاً وفيلسوف اجتماع مثل عبد الرحمن بن خلدون، توينبي Toynbee قال هذا، قال مُستحيل، هذا رجل فعلاً مُنقطِع النظير وغريب، وتخيَّلوا أن هذا في القرن التاسع الهجري، تُوفيَ في أول التاسع الهجري ابن خلدون، هو من أهل القرن الثامن وتُوفيَ في أول التاسع، ولذلك ترجمه السخاوي في الضوء اللامع، وقد ترجمه ترجمة من أسوأ ما يكون، على كل حال أبو علم الاجتماع هو ابن خلدون وليس أوجست كونت Auguste Comte، لكن هذه هي المركزية الأوروبي، أوجست كونت Auguste Comte أتى بالفلسفة المدعوة بالفلسفة الوضعية أو الفلسفة العلمية، بعض الناس سماها علمية، لكن هو سماها بالفلسفة الوضعية، ما معنى الفلسفة الوضعية؟ الفلسفة الوضعية بجُملة واحدة تكتفي بالمُعطيات المُباشِرة للحس، هذا هو فقط، طبعاً قد يقول بعضكم أنا استمعت أو قرأت مرة أن كونت Comte كان يُفسِّر تطوّر الفكر البشري بقانون المراحل الثلاث أو الثلاث، وانتبهوا إلى أن المُؤنَّث إذا وصفناه بكلمة تتلوه يجوز أن تُذكَّر وأن تُؤنَّث، نقول ثلاث مراحل لكن لا يُمكِن أن نقول ثلاثة مراحل هنا، وإنما نقول مراحل ثلاث ومراحل ثلاثة، هذا يجوز وهو صحيح، فقانون المراحل الثلاث أو الثلاثة صحيح، هذا من أشهر ما عُرِف عن أوجست كونت Auguste Comte، قال في البداية كانت المرحلة الثيولوجية، أي التأليهية، ثم تلتها المرحلة الميتافيزيقية، وفي النهاية الختام والانتصار النهائي والظفر التام – نهاية التاريخ الفلسفي والعلمي للبشرية – مع المرحلة الوضعية، ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أن البشرية في البداية كانت تنزع إلى تفسير الظاهرات الطبيعية – أي ظواهر الطبيعة – بأسباب قابعة أو كامنة أو موجودة خارج الطبيعة، أي وراء الطبيعة، ليس في عالم الطبيعة، مثل ماذا؟ مثل الله أو مثل الملائكة أو مثل الأرواح، هذه لا تنتمي إلى عالم الطبيعة أيضاً وإنما هي خارج وماوراء – Behind – عالم الطبيعة وخاصة الله، قال هذه مرحلة ثيولوجية تأليهية – من Theos بمعنى إله أو آلهة – تجاوزتها البشرية إلى المرحلة الميتافيزيقية، وفيها نزعت أو جنحت البشرية والناس إلى تفسير الظاهرات الكونية والطبيعية بأسباب موجودة في الطبيعة لكنها ليست أسباباً محسوسة وإنما أسباب مُجرَّدة وخفية، لكن في الطبيعة موجودة، هذه المرحلة الميتافيزيقية، وبعد ذلك قال بلغنا المرحلة النهائية وهي أرقى مرحلة بلغها العقل الإنساني وتحرَّر فيها من كل هذه الخُرافات الميتافيزيقية والتأليهية وهي المرحلة الوضعية، في المرحلة الميتافيزيقية كان العقل الإنساني مُشتغِلاً على ومهموماً أو مُهتَماً بمعرفة علل الحوادث، يُريد أن يصف وأن يعرف لماذا، لماذا تحدث هذه الأشياء؟ يبحث عن الغايات، كونت Comte قال الآن في المرحلة الوضعية العلمية العقل تحرَّر من هذا البحث، هذا البحث بحث جُزافي غير مُفيد، ليس المُهِم أن تعرف لماذا تحدث هذه الأشياء ومن أجل أي غاية إنما المُهِم أن تعرف كيف تحدث، لكن لماذا تحدث لا يعنينا، وهذا الفرق بين التفسير الميتافيزيقي والتفسير الوضعي، الوضعي يهتم بماذا يحدث وكيف يحدث، ولذلك الآن فلاسفة العلم إلى اليوم – من أيام كونت Comte إلى اليوم – يعترفون ويُقِّرون بكل تواضع ويقولون ليست مُهِمتنا أن نُفسِّر، نحن لسنا معنيين بالتفسير، ما المقصود بالتفسير؟ ليس تفسير آلية الحدوث وكيفية الحدوث، وإنما التفسير الغائي، لماذا تحدث؟ وإلى أي غاية تهدف؟ قالوا هذا لا يعنينا، هذا التفكير ميتافيزيقي وهو تفكير عفا عليه الزمان، لكن يهمنا أن نصف، قالوا نحن نصف ولا نُفسِّر، وفعلاً النشاط العلمي في النهاية ليس تفسيرياً، النشاط العلمي مهما زعم له بعض الناس الذين لا يعرفون فلسفته أنه تفسيري هو ليس تفسيراً، هو وصف، مُجرَّد وصف لكن ليس تفسيراً، نأخذ الآن بعض القوانين – مثلاً – المُعقَّدة في عالم الذرات، تُقدِّم – مثلاً – الفيزياء الحديثة وخاصة فيزياء الكم – مثلاً – بعض الطروحات المُعقَّدة جداً جداً، هذه الطروحات تقتصر على أن تصف ماذا يحدث، لكن لماذا كانت الأمور تحدث على هذا النحو تقول لك هذا لا يعنيني، أنا فقط اكتشفت كيف تحدث وقدَّمته لكم وهذا كافٍ، وبهذا يتطوَّر العلم، أما لماذا هي هكذا، لماذا كانت الشُحنات – مثلاً – في عالم الطبيعة بالطريقة الفلانية؟ تُوجَد عندنا ثوابت، قالوا هكذا هي موجودة، نحن لا نبحث عن العلل، لكن في نهاية المطاف الآن يُوجَد بعض العلماء وجدوا أنفسهم مُضطَرين أن يُعيدوا السؤال من جديد، لماذا؟ وجدوا ثوابت كثيرة بغيرها لا يُمكِن أن يكون الكون على ما هو عليه، هناك تقريباً زُهاء أربع وعشرين ثابتة لا أقول حيَّرت بل بالعكس خصَّبت خيال العلماء، فهم وجدوا أن الكون بغير هذه الثوابت لا يُمكِن أن يكون على ما هو عليه الآن، سوف يكون شيئاً مُختلِفاً تماماً، ولكي يكون الكون على ما هو عليه الآن والساعة وجدوا أنه لابد من بقاء كل هذه الثوابت، هذا يعني أن هذه الثوابت لم تُوضَع جُزافاً ولم تنتخبها الطبيعة بطريقة الانتخاب الأعمى – انتخاب داروين Darwin ودوكينز Dawkins وأمثال هؤلاء – أبداً، لماذا؟ لأنها موجودة مُنذ البداية تقريباً، من البدايات الأولى، وهذا يعني وجود قوة عاقلة أكبر من الكون، وهي وراء الكون وتُهيمن على الكون وهي التي قنَّنت قانونه، بول ديفيز Paul Davies وهو رياضي تطبيقي ويعتني بهذه المسائل فعلاً بشكل جاد حقيقةً ومُحترَم ختم كتاباً له يبحث فيه كما سماه في عقل الإله بسؤال عجيب جداً وهو سؤال فلسفي وليس سؤالاً علمياً، هل هناك إمكانية لأن يكون الكون هو الذي أفرز قوانينه؟ وأجاب الرجل بوضوح قائلاً مُستحيل، علمياً حتى مُستحيل، طبعاً فلسفياً لا، واليوم سنقف وقفة مُسهَبة – إن شاء الله – مع الوضعية المنطقية لكي نُناقِشها بعض الحساب.
نعود إلى هيجل Hegel والذين ثاروا عليه في نقدٍ عاصفٍ، قلنا كان أول هؤلاء الفيلسوف الدنماركي الشاب سورين كيركغور Søren Kierkegaard، كيركغور Kierkegaard رأى أن هيجل Hegel خان الرومانسية وانحرف بها عن طريقها ولم يعد وفياً للإنسان ولحرية الإنسان ومسئولية الإنسان، كيركغور Kierkegaard كان يهتم بالإنسان، لا يهمه موضوع الطبيعة وموضوع الميتافيزياء، كان يهتم أكثر شيئاً بالإنسان، ومن هنا – كما قلنا – الفلسفة النسقية انتهت الآن، صار الاهتمام أكثر شيئاً مُصَباً على حياة الإنسان، الإنسان الفرد بالذات في الوجودية والإنسان في المُجتمَع في الماركسية والدعوات الشمولية والاشتراكية بعامة، كيركغور Kierkegaard كان يرى أن جوهر الإنسان يتجلى في ارتباطه بالله وفي موقفه إزاء الله، الموقف المسؤول إزاء الرب سبحانه وتعالى، والرجل كان مسيحياً لكنه كان ناقماً على مذهب بلده المسيحي وهو البروتستانتي، كان مذهباً بارداً، يرى أنه يفتقر إلى الروح، تحدَّث كيركغور Kierkegaard طبعاً عن القلق الوجودي الذي ينتاب الإنسان، هذا جوهر الوجودية، القلق الذي يعتصر الإنسان حين يُريد أن يُحدِّد أو يختار أو ينتخب خياراته في الحياة، طبعاً هذا جاء انعكاساً لتجربته الخاصة مع الفتاة التي أحبها وهويها ثم اضطُر إلى فسح خِطبته منها وسبب له هذا مأساة اجتماعية وعاطفية أيضاً، وظل يعود المرة تلو المرة إلى هذه الحادثة الأليمة ويُفسلِفها خاصة في كتابه إما أو، عنده كتاب عجيب اسمه إما أو، فكيركغور Kierkegaard تكلَّم كثيراً وكان يتحدَّث عن الإنسان، هذا هو حديث الوجودية، الوجودية التي ترى أن الإنسان يأتي وجوداً بلا ماهية، أما تحديد ماهيته فهو موكولٌ إليه تماماً، ولذلك الإنسان لابد أن يضطلع بحمل حمل ثقيل جداً، وهو أن يرسم ماهيته ومعالم ماهيته شيئاً فشيئاً، والخيارات كلها لك والكرة في ملعبك، لا تستطيع أن تُعوِّل لا على القدر ولا على أي شيئٍ آخر، هذه مُهِمة صعبة جداً، شبَّهها مرة كيركغور Kierkegaard بمَن ينظر في البئر، مَن ينظر في بئر لا قعر لها، بئر سحيقة تماماً، يُمكِن أن يُصاب بالدوار وأن يقع وتنتهي حياته، الفلسفة الوجودية مَن قرأها عموماً تلذ له وتشوقه، لأنها تتحدَّث عن جوانب لا يخلو منها فردٌ منا رجلاً كان أو امرأةً، لذلك نجد معالم هذه الوجودية عند أُدباء حتى وليس عند فلاسفة مشهورين، مثل الأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoyevsky، دوستويفسكي Dostoyevsky هو أديب صحيح ولكن هو أيضاً فيلسوف وجودي بمعنى مُعيَّن، حين تقرأ كتابات هذا الرجل تُدرِك هذا، وهو من أروع الوجوديين، برديائيف Berdyaev الروسي – مثلاً – كان فيلسوفاً وجودياً ومُؤمِناً، كيركغور Kierkegaard – كما قلنا – تصدى بالنقد العاصف لهيجل Hegel، لماذا؟ لأن هيجل Hegel لم يعد مُهتَماً بالفرد إنما اهتم بالروح العامة، اهتم بجدل التاريخ، أين الفرد؟ الفرد الآن أصبح شيئاً لا يُنظَر إليه، مأخوذ دائماً في غمرة فعل هذا الديالكتيك التاريخي، ديالتكيك الروح أو جدل الروح، فلا مكانة مُتميِّزة له، وهذا عكس النزوع الرومانسي الذي تبدى مع فيشته Fichte ومع شيلينج Schelling وحتى مع الرومانسيين الأدباء، عكسه تماماً ولذلك تصدى له كيركغور Kierkegaard بالنقد.
من ضمن الأشياء التي أكَّد عليها سورين كيركغور Søren Kierkegaard هو التعالي من أو الترقي من الموقف الجمالي إلى الموقف الأخلاقي وأخيراً استحداث القفزة الأشد خطورة في حياة الإنسان وهي القفزة الدينية، قفزة الإيمان التي نعتها بأنها قفزة في مجهول، طبعاً الموقف الجمالي هو أن تُميِّز بين ما يلذ وما يُؤلِم وبين ما يُمتِع وما يُقلِق، وهذا طبعاً نشاط إنساني لكنه أشبه بالترف يمر به كل فرد، لكن علينا ألا نقتصر عليه، إذا اقتصرنا عليه لم تنضج ذاتيتنا، لا تنضج شخصياتنا ونبقى كالحصرم، فلابد أن نرتقي بعد ذلك إلى الموقف الأخلاقي الذي يُلزِمنا بأن نتخذ إجراءات مُعيَّنة وسلوكات مُعيَّنة قد لا تلذ لنا لكننا نرى أنفسنا مع ذلك مُلزَمين بها، قد تُخنِقنا، قد تُصيبنا بالسآمة والملل، كيركغور Kierkegaard يقول لا بأس، لكنها مواقف أخلاقية تعكس نضج الشخصية، عكس المواقف الجمالية، كأن يُقال أنا أعمل فقط ما أهوى وما يلذ وما يُريحني، هذه حياة بوهيمية، حياة عبثية أشبه بالحياة بالبدائية، لكن الحياة الأخلاقية حياة التزام وارتسام صعبة، يقول كيركغور Kierkegaard أصعب شيئ بعد ذلك – كما قلت لكم – القفزة، أن تُحدِث هذه القفزة وهي قفزة في مجهول، بمعنى أن كيركغور Kierkegaard أيضاً كأنه مُتأثِّراً بكانط Kant أكَّد أن العقل أعجز من أن يقضي في حقائق الإيمان، لا يستطيع، لا يُمكِن أن تقول لي العقل يستطيع أن يقضي ويستدل، كيركغور Kierkegaard كفيلسوف طبعاً قال لك هذا غير صحيح وهذا كلام فيه نوع من الدعوى والزعم الفارغ، العقل لا يستطيع، بالعكس أحياناً تكون حتى أدلة العقل وهي أدلة مُتعارِضة مُتكافئة، قال هذه المسألة لا تعود إلى أدلة تُكتَب وتُتحفَّظ ثم تُعاد وتُكرَّرد، تعود إلى خيار شخصي مُرتبِط بالإرادة الحرة، إرادة الإنسان، تُريد أو لا تُريد، يقول كيركغور Kierkegaard إذا أردت فالمُهِم الآن ليس أن تعرف أو لا تعرف وإنما بالعكس، المُهِم أن تسلك، اتخذ الخُطوة، اتخذ الإجراء، والآن عليك أن تُحدِث قفزة في المجهول، فإما أن تقع على أرض صُلبة وإما أن تهوي في هُوة سحيقة وينتهي أمرك، قال هذا الإيمان قفزة، إيمان قفزة، كأنه يُذكِّرنا أيضاً – وقد يكون مُتأثِّراً أيضاً ببرهان الرهان لبليز باسكال Blaise Pascal، باسكال Pascal صاحب برهان الرهان، أنت تُجري رهاناً، إما أن تنجح وإما تفشل، مع أن بليز باسكال Blaise Pascal كان أوثق حتى من هذا الكلام، على كل حال هذه القفزة الإيمانية، كيركغور Kierkegaard كان مُؤمِناً، كان مسيحياً على طريقته الخاصة، ويبقى كيركغور Kierkegaard هو أبو الفلسفة الوجودية، فالآن نتكلَّم عن الوجودية أيضاً كلمات سريعة.
مُلخَّص الوجودية إخواني – كما شرحت لكم قُبيل قليل – هي الفلسقات، لا أُحِب هي فلسفة لأنها فلسفات في الحقيقة، هناك فلاسفة وجوديون وهم مُؤمِنون بالله وإيماناً عميقاً وجميلاً، وهناك فلاسفة وجوديون وهم ملاحدة عُتاة، مارتن هيدجر Martin Heidegger الإلماني مُلحِد كبير، تلميذه جان بول سارتر Jean-Paul Sartre الفرنسي مُلحِد عتي، لكن كاريوس karius الألماني مُؤمِن، مُؤمِن جميل وعنده فلسفة في الإيمان رائعة جداً جداً في كتاباته، جابرييل مارسيل Gabriel Marcel الفرنسي مُؤمِن، وأيضاً نيكولا برديائف Nikolai Berdyaev الروسي مُؤمِن، هؤلاء وجوديون مُؤمِنون وهؤلاء وجوديون ملاحدة، وكلها فلسفة لكنها ليس فلسفة واحدة، هي أشبه بالفلسفات، لكن يجمعها أنها تهتم بالإنسان الفرد بالذات وبعد ذلك – كما قلنا – تُؤكِّد أن الوجود سابق على الماهية، الوجود – Existence – سابق على الماهية Essence، بمعنى أنك تأتي – كما قلنا – ولا تُوجَد ماهية مُقدَّرة لك أو مرسومة لك، تأتي أنت Tabula rasa كما قال جون لوك John Locke، Tabula rasa تعني لوحة بيضاء، عندك هذا العقل وينمو شيئاً فشيئاً وعندك التجارب الشخصية وتبدأ تختار أنت وتُحدِّد اختياراتك وتمحو وتُثبِت وتنقد وتُبرِم شيئاً فشيئاً وتتطوَّر، وهذه مسئوليتك أنت، جان بول سارتر Jean-Paul Sartre طبعاً له عبارة مُرعِبة، أراها عبارة مُرعِبة حقيقةً، بعض الناس مِمَن يُقدِّسون القوة بالمنطق النيتشوي – نسبةً إلى نيتشه Nietzsche – وأيضاً الإرداة – إرادة القوة – تلذ لهم هذه العبارة، تُعجِبهم عبارة حتى المعوق – أي الشخص المُعوَّق – في كرسي مُدولَب لو دخل سباقاً وعلى الأرجل ولم يفز فهو الملوم، ولك أن تتخيَّل هذا، سارتر Sartre يقول هذا، قال هو الملوم، لا يُوجَد قدر لكي نلومه لأن الرجل كان مُلحِداً، لا يُوجَد قدر، وليس أباه وليس أمه وليس المُجتمَع الملوم وإنما هو، كان لابد أن يكون وهو أشل الرجلين ولا يستطيع أن يسعى عليهم أن يُحقِّق النصر لنفسه وأن يفوز بإزاء مُتسابِقين أبطال في العدو، وطبعاً أنا أرى أن سارتر Sartre هنا لم يكن غبياً، كان قاسياً بلا شك، كان قاسياً جداً جداً، هذه العبارة قاسية، لماذا هي مُرعِبة؟ لأنها قاسية، هذه العبارة غير رحيمة، لكنها عبارة ذكية، من منظور مُعيَّن أراها عبارة ذكية، كيف؟ يُريد أن يكون مُتساوِقاً ومُنسجِماً ومُتسِقاً مع مُقدِّماته، أليس كذلك؟ أنت تقول لي لا قدر والأمر أُنف كالقدرية الأول، هذا الشخص المسكين بهذه الشروط الضعيفة والمُتأخِّرة يُسابِق فقال لك هو عليه أن يُحدِّد ماهيته، يخلق خياراته ويُنشيء ظروفه ويُعوِّض كل الخسائر، إذا لم ينجح هو الملوم، لذلك – سبحان الله – أنا أقول الإيمان أمل – Hope – والإيمان أيضاً سلوى وعزاء، والحياة بلا أمل وبلا سلوى لا تُساوي، تكون صعبة جداً ولا تُعاش، أليس كذلك؟ وطبعاً بلا شك يُمكِن أن يكون لإنسان إزاء إنسان – أي لفرد إزاء فرد – مجال يتحرَّك فيه بخصوص الخيارات وبخصوص المُواجَهات، لكن أحياناً ماذا تكون خيارات الفرض – مثلاً – إزاء نظام؟ نظام عسكري شمولي مُخيف يُمكِن أن يتورَّط في قتل مائة ألف من شعبه، ما خياراتي كفرد أنا؟ خياراتي أن أُسجَن وأن أُقتَل وأن يُنتهَك عِرضي وأن يُقتَل أهلي، هذه خياراتي، لا أستطيع شيئاً على الأقل في مرحلة مُعيَّنة، هناك خيارات للشعب إزاء النظام – صحيح – مفتوحة وقوية لكن كفرد ما خياري يا أخي؟ ليس عندي أي خيار كفرد، أليس كذلك؟ بالذات حين أتحرَّك في لحظة لا يتحرَّك فيها الشعب، خياراتي معدومة، خياراتي أن أموت وأن أُقتَل وأن أُذَل وأن أُهان وأن أجلب العار والمأساة على أهلي وأولادي مثلاً، فإزاء نظام لا تُوجَد خيارات، إزاء عمل الجينات Genes لا تُوجَد خيارات، أنا مولود بلا بصر أو بلا سمع، كيف تقول لي تُوجَد خيارات؟ هذا لم يكن عملي، هذا عمل الجينات Genes، ولذلك حتى مادية بوخنر Buchner في القرن التاسع عشر اعترفت بدور الوراثة وبدور العلل المادية أحياناً في سحق الإنسان، سارتر Sartre لا يُريد أن يعترف، كذب، ولذلك سارتر Sartre أنا أجبت عنه بجُملة واحدة، هو طبعاً حين تعرَّض لماركس Marx تأثر بالماركسية وبالمادية وهذا معروف، لكن في النهاية عاد طبعاً ناقداً لأشياء كثيرة فيها وعنده نقد جميل وله عبارة في مُنتهى الروعة يقول فيها سارتر Sartre في نقد ماركس Marx إذا كان بول فاليري Paul Valéry – الأديب والناقد الفرنسي الكبير – هول بول فاليري Paul Valéry لأنه برجوازي – من طبقة برجوازية – فلماذا لم يكن كل برجوازي بول فاليري Paul Valéry؟ وهذا نقد قوي جداً جداً، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، أي أنه قوَّض جُزءاً كبيراً من الصرح الماركسي بعبارة واحدة، ليس دائماً الشروط التحتية والبنى التحتية هي التي تُنتِج وتتحكَّم في البنى الفوقية، هذا ليس دائماً، هذا غير صحيح، وإلا لو كان بول فاليري Paul Valéry أصبح بول فاليري Paul Valéry بهذه القدرة واللياقة النقدية والأدبية والفنية لأنه من طبقة برجوزاية قذرة سمحت له بذلك وأعطته مزيد من الوقت ومزيد من الترف ومزيد من المال وسدت حاجاته وضروراته وأتاحت له أن يُبدِع في وقت فراغه – لأنه برجوازي وليس عاملاً مطحوناً بُرُولِيتاريا – فلماذا لم يكن كل برجوازي بول فاليري Paul Valéry؟ كما قال سارتر Sartre، تُوجَد عوامل فردية هنا وتُوجَد لياقات حتى فردية ووراثية، نحن نقول قدرية في النهاية، قال الله نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ ۩، تُوجَد قسمة إلهية مُعيَّنة حتى لحكمة بالغة، فأنا بطريقة أيضاً مُشابِهة رددت على جان بول سارتر Jean-Paul Sartre بجُملة واحدة، وهي جُملة صاعقة، طبعاً تقرأ كتابه الوجود والعدم وتعلم أنه كتاب كبير ولا يُستهان به، سارتر Sartre طبعاً يهتم بسؤال مَن أنت؟ وليس ما أنت؟ في البداية مَن أنت؟ وبعد ذلك هذه الماهية أنت تخلقها، أنا أقول له إذا لم أتصد ولم أُوفَّق في معرفة جواب ما أنا؟ لن أستطيع أن أعرف مَن أنا؟ طبعاً، بمعنى أن الإنسان مُنذ البداية – حتى الطفل المُراهِق أو الشاب الذي راهق البلوغ – إذا لم يكن لديه تصوّر كوني – ما يُسميه دلتاي Dilthey الألماني الـ Weltanschauung أو الـ Big picture أو Worldview، نحن نُسميها العقيدة، يُسميها الفرس الرؤية الكونية، وهذه كلها ألفاظ مُتشابِهة – موجود ومُتاح وعنده بعض القناعة تجاهه كيف سيتسقبل حياته؟ سيستقبلها في تخبط وفي متاهات، سيُقال لك لا، تستطيع أن تختار ويُمكِن أن تُصلِح أخطاءك، لكن يُوجَد عندي اعتراض آخر، عمر الإنسان أقصر من أن يُجرِّب كل الخيارات وأن يُصلِح أخطاء كل الاختيارات، هذا غير صحيح، نحن لا نعيش ستة آلاف سنة، يا ليت الأمر كذلك، أعنس لو كنا نعيش ستة آلاف سنة مثلاً، جورج برنارد شو George Bernard Shaw – المسرحي الأيرلندي والفيلسوف طبعاً الكبير والاشتراكي الفابي – كتب مرةُ يقول في مسرحيته عن سوبر مان Superman الإنسان يحتاج أن يعيش ثلاثمائة سنة على الأقل لكي يُمكِنه إجراء اختبار معقول للأفكار والمذاهب والطروحات، لابد من ثلاثمائة سنة، خمسون وستون كلام فارغ، لن تقدر على هذا، وهذا صحيح، ونحن نقول ولذلك مست الحاجة إلى النبوات، أليس كذلك؟ الهداية الإلهية تقصير للطريق، لأن هذا العمر قصير، أول خمسة عشر سنة ليس لها أي اعتبار تقريباً في الاختبار، تقريباً لا يكاد يختبر الإنسان شيئاً فيها وإنما يُختبَر له ويُنتقى له كل شيئ ويُحدَّد له كل شيئ سواء على مُستوى الأسرة أو مُستوى المدرسة أو المُجتمَع وكذا وكذا، وبعد ذلك يبدأ المسكين في إطار ما أُعطيَ ينتخب بعض الأشياء ويختار بعض الأمور ويُجرِّب، يبقى له كم من ثمانين سنة؟ خمس وستون سنة، هذا إن عاش لثمانين سنة، إذن في المُتوسِّط خمس وستون سنة، أحياناً بعض الاختيارات الأخلاقية قد تُهشِّش الشخصية وتُدمِّرها ليس لستين سنة وإنما لستمائة سنة لو عاش الإنسان، خيار أخلاقي مُعيَّن حين أُجرِّبه أنتهي، ولا أستطيع أن أتعافى منه، أليس كذلك؟ بالأمس كنت أُحدِّث أخي الشيخ عبد الله وأقول له علماء التطوّر والبيولوجيا – Biology – يتحدَّثون أن دماغ الإنسان في آخر مليون أو مليوني سنة كما يقول بعضهم قد تضاعف مرتين، ألف وثلاثمائة وخمسون جرام، وهذا حجم كبير، الإنسان لكي يعيش – يأكل ويشرب ويُنجِز الأشياء الحيوية المُعتادة ويُدافِع عن نفسه حتى ضد عوادي الطبيعة والحيوانات والأشياء وما إلى ذلك – يحتاج إلى نصف هذا الدماغ، سبعمائة جرام مُمتاز ويكفي، لماذا ألف وثلاثمائة وخمسون؟ هذا كثير، يُثقلِل هذا الرأس، هذه الطنجرة تُصبِح ثقيلة، فلماذا ألف وثلاثمائة وخمسون؟ قال لي لماذا؟ قلت له من أجل التمثل Assimilation، من أجل أن نتمثَّل، وطبعاً استخدمت هذه الفكرة التي سأُوضِّحها الآن في إقناع بعض أبنائي وإخواني الشباب هناك في أوروبا للأسف الذين يتلقون التعليم في المدارس النمساوية وهم يتلقون أشياء خطيرة جداً جداً، يُعلِّمونهم أن من حقك أن تُجرِّب كل شيئ، وهذه روح الحداثة، هذه هي الحداثة Modernism، الحداثة تقوم على مباديء مُعيَّنة في رأسها من حق الإنسان إن لم يكن حتى من واجبه أن يُجرِّب كل شيئ، لابد أن تُجرِّب، لا تقل لي هذا غير صحيح أو هذا شرير أو هذا قبيح أو هذا كذا وكذا، لابد أن تُجرِّب، ولذلك أحياناً تتعجَّب كيف يأكلون الثعابين ويأكلون الديدان القذرة ويأكلون أمخاخ القرود، يُحاوِلون أن يُجرِّبوا، لأنه Modern، الحداثة أن نُجرِّب، نُجرِّب حتى أي شيئ، وطبعاً هذا أيضاً في المسالك الجنسية وفي أشياء كثيرة، شيئ عجيب، فأولادنا تأثَّروا بهذا الشيئ، قلت لهم لا يا أولادي، سألتهم سؤالاً فقالوا نُجرِّب، وطبعاً راعني هذا، أصابني بالروع، أبناء مُسلِمين ومعنا في المسجد ويتعلَّمون هذا المساكين، قالوا نُجرِّب، لكي نُميِّز ونُفرِّق لابد أن نُجرِّب، قلت لهم لا، غير صحيح، قالوا كيف يا شيخ هو غير صحيح؟ قلت لهم أنا سأقول لكم لماذا هو غير صحيح، لكن سأبدأ بطُرفة لعلها تُعجِبكم، وهذه الطُرفة هي مُدخَلي إلى هذا المفهوم الفيلسوف العلمي، قالوا ما هي؟ هي طُرفة تونسية، قلت لهم رجل مُهندَم يلبس لباساً – ما شاء الله – جيداً، أي هندام طيب، ويبدو أنه من الذوات ومن الناس المُثرين الأغنياء، ويركب أحدث سيارة، مرسيدس Mercedes 2011، وكل يوم يأتي إلى محل آيس كريم Ice cream وينزل بهيبته وجلاله ويسأل البائع هل يُوجَد عندك جيلاتي أو آيس كريم Ice cream بالثوم؟ فاستغرب الرجل وقال لا، ليس عندي، توكَّل على الله، فركب الرجل سيارته وذهب، في ثاني يوم سأله هل عندك آيس كريم Ice cream بالثوم؟ وطبعاً هذا شيئ مُقزِّز، قال له ليس عندي، في ثالث يوم قال هذا إنسان غير طبيعي، مخه يبدو أنه تائه، سنصنع له طبقاً كبيراً من الثوم ونأخذ منه خمسين ديناراً ونترك هذا المُغفَّل، فصنع له – سبحان الله – طبقاً كبيراً من الثوم في مُنتهى القرف، وجاء هذا المُهندَم في اليوم الرابع وسأل هل يُوجَد آيس كريم Ice cream بالثوم؟ فقال له يا للقرف وذهب، لم يأخذه طبعاً، قالوا لي ماذا تُريد أن تقول يا شيخ؟ قلت لهم سأقول ماذا أُريد، هل أنتم ضحكتم؟ قالوا نعم، فقلت لماذا ضحكتم؟ قالوا لأنه مُقرِف فعلاً، قلت لهم كيف؟ هل جرَّبتم هذا؟ لم يُجرِّب هذا أي أحد ولا أنا، هل جرَّب أحد آيس كريم Ice cream بالثوم؟ قالوا لا، إذن كيف يُقال هذا مُقرِف؟ أنت جرَّبت الثوم وأكلته وحده لكنك لم تُجرِّب آيس كريم Ice cream بالثوم، هؤلاء يأكلون الديدان وأمخاخ القرود ويأكلون أشياء غريبة عجيبة، جرِّبوا إذن، قالوا لا، لن نُجرِّبه يا شيخ، هذا لا يُجرَّب، من المُؤكَّد أنه قبيح، قلت لهم هل تعرفون لماذا من المُؤكَّد هو قبيح؟ نحن جرَّبناه في الحقيقة، جرَّبناه مراراً في الدماغ، يقول علماء البيولوجيا – Biology – والتطوّر هذا الدماغ تضاعف مرتين والظاهر أنه لا تُوجَد حاجة لهذا، لكن تُوجَد حاجة، تُوجَد حاجة لكي ترتقي الحضارة وبسرعة، لكي تمشي وتدور العجلة بسرعة شديدة، كيف؟ بهذا التمثّل الذهني، مثلاً ليس شرطاً – والعياذ بالله – أن أتورَّط في قتل عجوز كبيرة لكي أدخل خبرة الجريمة والعقاب لدوستويفسكي Dostoyevsky وأرى ماذا يُمكِن أن يحدث معي مثلما وضَّحها ومثَّلها نور الشريف في الفيلم الشهير مع محمود ياسين وما إلى ذلك، بالعكس أنا من خلال الذهن وحده والتخيل والانتقام بالخيال أقدر على أن أعرف ما هي عاقبة هذه الفعلة الشنعاء، أليس كذلك؟ ما الذي يُعطيني هذه القدرة على ذلك؟ قالوا تضاعف حجم الدماغ، المُشكِلة لو لم يكن دماغنا مُتضاعِفاً بهذه الطريقة – يا ويلتاه – كنا سنُجرِّب فعلاً كل حاجة، سيُجرِّب الواحد منا أن يقتل أباه لكي يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك، ماذا سيحدث في ضميره أيضاً، كيف سيُؤنِّبه ضميره لو قتل أباه، يقتل أباه لكي يعرف ماذا سيحدث من القانون ومن الأهل ومن كذا وكذا، ثم يفعل كذا لكي يرى كذا، لكن هذا غير صحيح، ربنا – سبحان الله – أعطانا إمكانية تدارك هذا الشيئ، طبعاً نحن نقوم بهذا الشيئ كثيراً، حين ننتقم من بعض الناس بالخيال، أليس كذلك؟ حين كنا أطفالاً في المدرسة يجور علينا الأستاذ – مثلاً – ويضربنا ظلماً كنا ننتقم منه بالخيال، نسبه ونلعنه ونتخيَّل أننا ضربناه – مثلاً – في وجه وسقط وما إلى ذلك، وبعد ذلك نثوب إلى رشدنا وينتهي كل شيئ، ونرتاح كأننا جرَّبنا، هذا في الدماغ.
إذن الإنسان ليس عنده – هذا رداً على سارتر Sartre والوجودية – هذا الترف وهذه الإمكانية وليس عنده ستة آلاف سنة يتصرَّف فيها ويُنفِقها هنا وهناك ويُجرِّب لكي يختبر، هذا غير صحيح، يجب أن أنطلق مُنذ البداية كحد أدنى من تصوّر كوني ما ومن عقيدة كونية ومن صورة للعالم، الدين يُعطي هذا، الدين أحسن مصدر لإعطاء هذا التصوّر الكوني والرؤية الوجودية التي أنطلق منها، ومنها وعليها أبني تجاربي واختياراتي، ويُمكِن أحياناً – وهذه فلسفة المعصية – أن أزل أو أُخطيء، حتى الرؤية الدينية شملت هذه الأشياء ضمن تفاصيلها، قالت لك هذا يحدث، يحدث أنك تُخطيء بالزنا أو بالقتل أو بالسرقة أو بالكفر وما إلى ذلك وعندك خط رجعة وباب التوبة مفتوح، قال الله وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، هذه الأشياء الاستثنائية أيضاً والخروج عن الجدة مشمولة في تضاعيف وأنحاء الرؤية الكونية الدينية، موجودة لكن ليس كسارتر Sartre نبدأ من لا شيئ ويُمكِن أن نُجرِّب أي شيئ، كأن نقول نحن أحرار ونفعل ما نريد، لا يُمكِن، هذه فوضى، وطبعاً هم لم يدعوا – مثلاً – إلى الخروج على قوانين المُجتمَع وعلى سياسة النظام وإلا كانوا أناركيين، سيُصبِحون أناركيين، أي فوضويين، وسوف يدخلون الزنازين والسجون، هم طبعاً دخلوا الزنازين والسجون من أجل قضايا عدالة، كقضاياً – مثلاً – مُحارَبة الحروب ومُناهَضة الاستعمار للشعوب المُستغَلة في علاقات غير مُتكافئة، وهذا شيئ طيب ويُحسَب لهم، لكنه لا يتفق كثيراً مع أصول مبادئهم، أصول المباديء تدور على أن نُجرِّب كل شيئ أياً كان، فإذن مَن لم يُجِب عن سؤال ما أنا؟ لا يستطيع أن يُنجِز جواب مَن أنا؟ سيفشل وسيرى نفسه في نهاية المطاف ضائعاً، وصدق الله إذ يقول وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ – وفي قراءة الرياح – فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ۩، سيتشتت ويضيع ويتهشش ويتشعع ولن يلتئم بعد ذلك، بالتعبير المسيحي سوف تذوب نفسه بين يديه ولن يجدها مرة ثانية، من بين أصابعه ستتسرب وينتهي كل شيئ.
جوهر الوجودية إذن التأكيد على الوجود قبل الماهية، والماهية تأتي بعد ذلك وفق خيارات البشر، نأتي الآن إلى ماركس Marx، كارل ماركس Karl Marx كان هو الشخصية الثانية التي تصدت بالنقد لهيجل Hegel، ليس لهيجل Hegel وحده بل للفلاسفة السابقين حتى على هيجل Hegel وخاصة الفلاسفة العقليين والمثاليين والروحيين، أما الفلاسفة الماديون فطبعاً ماركس Marx متح من معينهم واستمد منهم وبنى، فمثلاً أخذ الجدل – جدل التاريخ – وأخذ هيكله من هيجل Hegel وأخذ المادية من لودفيغ فيورباخ Ludwig Feuerbach، وفيورباخ Feuerbach هو صاحب كتاب جوهر المسيحية، فهو أخذ من الاثنين، وطبعاً تأثَّر بالاقتصاد السياسي الإنجليزي أيضاً وبأوضاع العمّال والطبقات المسحوقة في عصره، كارل ماركس Karl Marx طبعاً رأى – كما تعلمون جميعاً بلا شك – أن الشروط المادية هي التي تُحدِّد البُنى الفوقية للمُجتمَع، أي الثقافة والدين والأدب والفن والموسيقى والسياسة والقوانين وأنماط العيش وهكذا، هذا كله يُسمى بالبُنى الفوقية، البُنى التحتية أو الشروط السُفلى طبعاً شروط مادية اقتصادية ومُجتمَعية، أهمها الشروط الاقتصادية بالذات، طريقة الإنتاج وأساليب الإنتاج وأساليب التوزيع ومُقاسَمة الخيرات هي التي تُشكِّل عقلية الناس ونمط عيشهم، لكن لا بطريقة ميكانيكية، هذا لا يعني أن التأثير من أسفل إلى عالٍ وينتهي الأمر، قال لا، ويعود التأثير بعد ذلك من عالٍ إلى أسفل، ولذلك كان ماركس Marx فيلسوفاً جدلياً ديالكتيكياً، لم يكن فيلسوفاً مادياً ميكانيكياً، هو ليس ميكانيكياً، هو ضد التفسير الميكانيكي دائماً، لكنه فيلسوف جدلي بمعنى أنه يُؤمِن بالجدل، أي بالتآثر، التحتي يُؤثِّر في الفوقي والفوقي يُؤثِّر في التحتي والدائرة مُتصِلة، لكنه يُؤكِّد طبعاً في أعماله على أنه لم يحدث مرةً أن البناء الفوقي وحده وباستقلال عن التحتي كان له تاريخه الخاص، هذا مُستحيل، تاريخه دائماً مُرتبِطان، وطبعاً هذه نظرية يقتنع بها الإنسان باديء الرأي لكنها خطيرة جداً جداً، في إطار الأخلاق والقيم والدين خطيرة بشكل غير عادي، وطبعاً للأسف مَن قرأ – مثلاً – قصور أو حصون الفلسفة – The Mansions of Philosophy- لويل ديورانت Will Durant يعلم هذا، وهو كتاب رائع أنصح أنا بقرائته، أجمل من كتاب قصة الفلسفة بمرات، هو يُناقِش موضوعات فلسفية بحيالها موضوعاً موضوعاً، لكن ويل ديورانت Will Durant كشأن فلاسفة كثيرين تأثَّروا بالماركسية في تلكم الحقبة بالذات في أول القرن العشرين – نشره في ألف وتسعمائة وثماني عشرة – كان يعتمد المنظور الماركسي في تفسير الأخلاق، مثلاً – وهو مثل قبيح فاعذورنا – حين يُفسِّرون مفاهيم الشرف والعفة – لماذا الشرف والعفة؟ وخاصة طبعاً في حق النساء – يقولون هذه مفاهيم تعود وتنحدر إلى العصور الزراعية وإلى المُجتمَعات الزراعية، قبل المُجتمَع الزراعي لم يكن الأمر كذلك، في المُجتمَع المشاعي لم يُوجَد هذا، في المُجتمَع الزراعي بدأ مفهوم الشرف والعفة، لماذا؟ لأن في المُجتمَع الزراعي ومع المُجتمَع الزراعي نشأ مفهوم ومبدأ الملكية، هذه أرضي وهذه غنماتي وهذا بيتي وإلى آخره، ولذلك الرجل كان يهمه جداً أن تذهب ثروته وعرق جبينه وكد يمينه إلى أولاده الصُلبيين، أليس كذلك؟ لا أن تُدخِل عليه زوجته ولداً من خارج وإلى آخره وبعد ذلك يأخذ تعبه، من باب الأنانية، فقالوا هذا المنشأ الأصيل لمفهوم الشرف، وهذا أمرُ عجيب، بهذه الطريقة إذا المُجتمَع الزراعي تلاشى وضعف وصرنا في مُجتمَع كالحديث ماذا سيحدث؟ قالوا أنت ترى النتيجة، لا يُوجَد شرف وهذا أمر عادي، مُدن كبيرة ومفتوحة والأمور عادية، الزواج في القديم – مفهوم الزواج – ومُؤسَّسة الزواج وهي مُؤسَّسة اجتماعية كانت أكثر مشروطية وأكثر تركباً، كانت تُوجَد شروط مُعقَّدة جداً جداً فيمَن نختار لأبنائنا بسبب موضوع الثروة وانتقال الثروة، في المُجتمَع الحديث قالوا هذا غير ضروري، يتم الزواج في جلسة هكذا في المقهى في خمس دقائق، تُوافِق ويُوافِق ويتزوجا وينتهي كل شيئ، فهكذا هم يُفسِّرون الأخلاق والقيم المُجتمَعية والفردية بناءً على تطوّر نمط الإنتاج والشكل الاقتصادي للمُجتمَع، وطبعاً هذا كلام غير صحيح، وواضح أنه غير صحيح، لكننا لسنا الآن في معرض النقد لأن هذا الموضوعت يُعتبَر موضوعاً طويلاً.
على كل حال الماركسية انشعبت إلى قسمين، ماركسية لينينية واشتراكية ديمقراطية، الماركسية لينينية وهي الوفية لأفكار ماركس Marx الأصيلة – ظلت وفيةً لأفكار ماركس Marx الأصيلة – ترى ضرورة تعيير المُجتمَع وخاصة المُجتمَع الذي عاش فيه ماركس Marx وهو مُجتمَع يسحق الطبقة العاملة، مُجتمَع علت فيه طبعاً الطبقة البرجوازية وطبقة الرأسماليين بشكل عام هي امتداد لها وتغوّل على حساب هؤلاء العمّال المساكين الذين يعملون وبلغة ماركس Marx يغتربون عن عملهم حيث أصبح العامل مُجرَّد ذيل للآلة التي يشتغل وراءها، لا استقلالية له ولا فردية ولا حرية ولا شخصية، وفائض القيمة يُبذَل، شيئ مُعيَّن في إنتاج سلعة مُعيَّنة، لكن أكثر ما يُبذَل وأهم ما يُبذَل هو عرق العامل، ويأتي الرأسمالي أو صاحب العمل أو صاحب المنشأة يأخذ هذه السلعة ويبيعها ليحصد أكثر ربما من تسعين أو خمس وتسعين في المائة من هذا الفائض زيادةً على ما تكلَّف فيها، مصدر هذا الفائض عرق العامل، كان أولى به العامل، لكن أخذه الرأسمالي صاحب المكان، هو أعطى هذا العامل شيئاً بسيطاً، أحياناً كان يحدث في أوروبا أن العامل يعمل ثنتي عشرة ساعة – هم عموماً كانوا يشتغلون ثنتي عشرة ساعة، أي اثنتي عشرة ساعة – فقط بملء بطنه، يأكل فقط، وطبعاً بلا شك ماركس Marx كان إنساناً، أنا أحترم فيه هذا الجانب أنه ثار لأجل هذا الوضع، هذا إنسان، وطبعاً نحن نسخط على الجانب الفلسفي ربما فيه، أنه مُلحِد وغير مُتدين، وأنا أقول والله عنده الحق، الرجل عنده الحق يُلحِد ويُلحِد ويُلحِد، لأنه رأى الدين للأسف يُشارِك في هذه المقبحة، هذه مقبحة إنسانية، الدين كان يُشارِك فيها، وبتعبير المرحوم علي شريعتي – المُفكِّر الاجتماعي والمُؤرِّخ الإيراني – ماركس Marx لم ير في وجه البابا وجه المسيح، بالعكس رأى الإمبراطور في وجه البابا، ولذلك كره البابا وكره الكنيسة، ولو أنه رأى وجه المسيح الفلسطيني في وجه البابا – بالعكس – لتعاقد معه ضد ظلم البرجوازيين، فهذا هو، أحياناً هؤلاء الذين كفروا وألحدوا لم يكفروا ولم يُلحِدوا بالرب الذي نعرفه نحن – إله القرآن لا إله إلا هو – وإنما برب آخر أُعيد تخليقه وإنتاجه لكي يكون – والعياذ بالله – مصدراً ومنبعاً لمأساة البشر والناس حقيقةً واستعباد الشعوب وهكذا، فعلى كل حال هذا هو الإله الذي كفر به ماركس Marx، إله غير رحيم وغير مُتعاطِف مع طبقة العمّال، أي البُرُولِيتاريا، فقال لابد أن يُغيِّر هذا الوضع، هذا الوضع له جذور تاريخية، يقول ماركس Marx في البداية بدأنا بالمشاعية، بدأنا بالمُجتمَع الشيوعي أو المشاعي، كل شيئ فيه كان مُتاحاً للجميع من غير أن يظهر أو يبرز مفهوم الملكية، لم تكن هناك ملكية، بعد ذلك مع الزراعة والتوطن في أحواض الأنهار ونشوء بدايات المُجتمَع والأسرة صار عندنا المُجتمَع الزراعي، في المُجتمَع الزراعي نشأت ظاهرة العبودية، أي الاستعباد، شخص يعمل وشخص لا يعمل، بعد ذلك تطوَّرت هذه الظاهرة وخفت قليلاً فنشأت ظاهرة الإقطاع أو أقنان الأرض، أي عبيد الأرض، وهؤلاء غير العبيد الحقيقيين الكملة أو الكاملي العبودية، وبعد ذلك أتينا إلى مرحلة الرأسمالية، التي كان يعيش ماركس Marx طبعاً في ذروتها وتوحشها، بشَّر هو ومَن معه بالاشتراكية حيث يحكم العمّال، العمّال لابد أن يثوروا بالقوة على هذا الوضع وأن يُغيِّروه بالعنف، أي العنف الدموي، ماركس Marx طالب بهذا، وقال في المانيفستو Manifesto الذي نشره مع إنجلز Engels في سنة ألف وثمانمائة وثماني وأربعين يا عمّال العالم اتحدوا، ليس لدى هؤلاء – أي العمّال والبُرُولِيتاريا – ما يخسرونه سوى أغلالهم وسيكسبون العالم، فطبعاً هو حرَّض على العنف المُؤدلَج، أي عنف أيديولوجي مدروس ومطلوب ومُبرَّر في نظره، وبعد ذلك حين نُحقِّق ونُنجِز المُجتمَع الاشتراكي سنكون على مشارف تحقيق المُجتمَع الشيوعي، المُجتمَع الشيوعي ليس فيه دولة أصلاً، ليس فيه حكومة، لسنا بحاجة إلى حكومة، لماذا؟ الناس هم الذين سيحكمون، الناس هم الذين سيتقاسمون أرزاقهم بالعدل، كلٌ بحسب ما يحتاج وكلٌ يُعطي بحسب ما عنده وما يقدر، وهذه أرقى فترة يُمكِن أن يصل إليها المُجتمَع الإنساني وهي نهاية التاريخ، فماركس Marx أيضاً من مُفكِّري نهاية التاريخ، ومثل هيجل Hegel قبل فوكوياما Fukuyama، هؤلاء أيضاً بشَّروا بنهاية التاريخ، طبعاً هذه أوهام وأحلام لم تتحقَّق وتعلمون لماذا.
انقسمت طبعاً – كما قلنا – الطروحات الماركسية بعد ماركس Marx إلى ثنتين، إلى الماركسية اللينينية والاشتراكية الديمقراطية، والماركسية اللينينية سُميَت بهذا نسبةً إلى فلاديمير ألييتش Vladimir Ilyich “لينين Lenin” المشهور طبعاً وهو أول رئيس للاتحاد السوفيتي.
(تابعونا في الحلقات القادمة)
أضف تعليق