فنهاية أستاذه المأساوية ألقت بظلالها على موقفه الشاجب للديمقراطية، لأنه بأصوات الجماهير والغوغاء تم إعدام أستاذه، فظل مُتنكِّراً للحكم الديمقراطي إلى آخر حياته، غير مُتعاطِف معه أفلاطون Plato، فهذا تعبير قد يبدو مقبولاً لموقفه المُستنكِر للديمقراطية، طبعاً سافر إلى أكثر من بلد، إلى الهند وإلى مصر ويُقال أنه دخل فلسطين أيضاً ولبنان وإيطاليا، التحق في فترة من الفترات في سرقوسة Saragossa – سرقسطة Zaragoza – بالمدرسة التي أنشأها فيثاغورس Pythagoras وتلاميذه، وكانت طبعاً تعتبر الحساب والرياضيات والهندسة، وتأثَّر بهم وبمنهجم كثيراً، حين عاد إلى أثينا Athens أنشأ ما يُعرَف بالأكاديمية، إلى اليوم موجودة آثارها، أي الـ Académia التي كُتِبَ على واجهتها مَن لا يعرف الرياضيات محظورٌ عليه أن يدخل هذه الأكاديمية، طبعاً الرياضيات بالمعنى الأعم، يدخل فيها حتى الهندسة في زمانهم.
تتلخَّص فلسفة أفلاطون Plato في نظرية المُثل، أبرز شيئ في فلسفته الميتافيزيقية نظرية المُثل، نظرية المُثل باختصار حاول أن يُلخِّصها بعض الناس بأنها تعني أن العالم وما فيه أفكار في دماغ أو في عقل الإله، وهذا تلخيص مُخِل، أفلاطون Plato لم يتحدَّث على هذا النحو وإن كان صحيحاً أن أفلاطون Plato كان يُؤمِن بالله – تبارك وتعالى – وهذا الذي يُفرِّق بينه وبين تلميذه أرسطو Aristotle، يُؤمِن بالله خالقاً، أرسطو Aristotle يُؤمِن به مُحرِّكاً غير خالق لأنه يُؤمِن بأزلية الكون، لكن أفلاطون Plato كان يُؤمِن بأن الله – تبارك وتعالى – هو الذي خلق هذا الوجود، أي أوجده من عدم، فصحيح أنه أوجد الزمان بإيجاد الوجود، لأننا سنُفضي إلى المُشكِلة الشهيرة في علم الكلام وفي الفلسفة، مسألة قِدم العالم أو حدوث العالم، قال العبارة الشهيرة التي اقتبسها بعد ذلك Saint Augustine of Hippo، أي القديس أوغسطين Augustine في القرن الخامس الميلادي، وهي أن الله – تبارك وتعالى – أوجد الزمان بخلق الكون، لكنه لم يُوجِد الكون في زمان، إذ لا زمان أصلاً، لكنه مع ذلك أقر بأن الله أوجد الكون، وهذا مُهِم وكافٍ على الأقل، في هذه المرحلة كافٍ تماماً، كما آمن بخلود النفس، وهذا طبعاً يتواطأ عليه كل الآلهيين سواء من رجال الثيولوجيا Theology أو من الفلاسفة المُتألِّهين، النفس خالدة، أما المُثل أو نظرية المُثل فأفلاطون Plato يرى أن كل ما نراه في هذا العالم إنما هو صور مُشوَّهة للحقيقة المثالية الكامنة في العالم الآخر، في عالم الماوراء، فمثلاً نرى في هذا العالم عدداً هائلاً جداً من الأكواب أو من الطاولات أو من البشر – بني آدم – أو من الأحصنة والأفراس أو من البيوت أو من الزجاجات وإلى آخره، تتشابه في أشياء مُشترَكة هي التي تُعطيها كيانيتها، أن هذه زجاجة وهذه زجاجة وهذا إنسان وهذا إنسان وتلك إنسان وإلى آخره، وتتمايز في أشياء، كل هذه الأشياء مُجرَّد صور للمثال الكامل والتام، هل الموجود في الماوراء؟ لا، ففي ذلكم العالم يُوجَد المثال الكامل للحصان، الحصان الكامل التام، ما يُوجَد في هذا العالم مُجرَّد صور شائهة له، ليست تامة وكاملة، وكذلكم لكل الأشياء، ولديه أمثولة أو مجاز – Metaphor – الكهف الشهيرة، جماعة من الناس يجلسون في كهف ولا يستطيعون أن يخرجوا منه لسببٍ أو لآخر، وهناك نار تتقد أمامهم، وعلى جدار الكهف تنعكس صور الأشياء التي تمر في العالم الخارجي الذي لا يرونه، وهم يُتاح لهم فقط أن يروا صور هذه الأشياء التي تمر ويعكسها الضياء بطريق الحجب، أي الظلال، هذه الصور دائماً تكون شائهة أو مُشوَّهة قليلاً عن المثال الأصلي، هكذا شبَّه أفلاطون Plato موجودات هذا الوجود بالقياس إلى أمثلتها الكاملة التامة في عالم الماوراء.
إذن هذه نظرية المُثل، كان يعتقد أيضاً أفلاطون Plato بأن القيم كل القيم والفضائل موجودة وراسخة في فطرة الإنسان – وأشرت إلى هذا قُبيل قليل – وبعد ذلك على الإنسان أن يستخرجها، أما مصدرها الأصيل فهو أيضاً من العالم الماورائي، أي من هناك، هي تنتمي إلى عالم آخر، الإنسان في يوم من الأيام علم هذا، وهذا ربما له علاقة بما يُسمى في المُصطلَح الديني لدينا عالم الذر، قال الله في سورة الأعراف وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۩، فنحن لنا وجود في عالم آخر حقيقةً، ليس في هذا العالم الفاني الذي ينحل، عالم الكون والفساد كما يُسميه أرسطو Aristotle وإنما في عالم آخر، وسمعنا هذا الخطاب الإلهي وشهدنا بالحقيقة المُطلَقة، ويقول أفلاطون Plato شيئاً مُشابِهاً، وهذا عجيب، هذه مشابه عجيبة، فهو يقول شيئاً مُشابِهاً، لكن حين وفد الإنسان إلى هذا العالم نسيَ هذه الأشياء، نسيَ كل ما تلقاه من معلومات عن الفضائل والقيم وهذه الأشياء، يبدأ بعد ذلك بالتعليم والتريبة يستذكر هذه الأشياء، علماً بأن أيضاً هذا مُصطلَح قرآني، القرآن يُؤكِّد دائماً على أن مُهِمة الأنبياء والمُرسَلين وأتباعهم هي التذكير، قال الله فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۩، لماذا قال الله فَذَكِّرْ ۩؟ لماذا؟ أُذكِّر بماذا؟ أُذكِّر بشيئ كان حاصلاً في لحظةٍ ما وفي ظرفٍ ما وتم نسيانه وتم حجبه، لابد الآن أن نُذكِّر، هذه النظرية تُعرَف بنظرية الاستذكار الأفلاطونية وهي عجيبة، وهي طبعاً نظرية سنعود إليها بالتفصيل حين نُناقِش الإبستمولوجيا Epistemology أو نظرية المعرفة، وهو أحد أثلاث الفلسفة الثلاثة، فنعم سنُقيِّم هذه النظرية، أعني نظرية الاستذكار الأفلاطوني.
أختم بالحديث عن النظام السياسي الذي كان يتعاطف معه أفلاطون Plato وقد وقف كتاباً بأكمله – كتاباً ينيف عن أربعمائة صفحة – لتبيان وجهة نظره في هذا الباب، وهو مُحاوَرة الجمهورية التي قلنا إن سقراط Aristotle يُشكِّل الشخص المحوري الرئيس فيها، أي في الجمهورية، نستطيع أن نُحوصِل أو نُلخِّص هذه النظرية كالتالي، يرى أفلاطون Plato أن على السُلطة المعنية في المُجتمَع الفاضل أو الذي يُريد أن يكون مُجتمَعاً فاضلاً – المدينة الفاضلة يوتوبيا Utopia – أن يأخذ الأطفال من صغارهم لكي يُنقِذهم من مُعتادات آبائهم ومُجتمَعهم الصغير السيئ، ويتم تدريب هؤلاء الأطفال تدريباً خاصاً يعتمد على التعليم بالمباديء المعروفة ولكن بقدر أكبر على الرياضة البدنية، يقول بعد ذلك حين يكبرون لا نحتاج أن نُعالِجهم من الأمراض، لأنهم لم يمرضوا، الأمراض تأتي من الكسل والدعة والخمول، أما الشخص الذي يعتاد الرياضة باستمرار والحركة ويكون عارم النشاط لا يتعرَّض إلى أمراض قد تُؤثِّر على عافيته، وهكذا نظل نعتني بتعليمهم وفق المباديء وبتربيتهم بدنياً إلى أن يُصبِحوا في سن العشرين، فنُجري لهم فرزاً أولياً، امتحان تتساوى فيه فرص الجميع، فرص أبناء الذوات وأبناء المُعدِمين المُترَبين لابد أن تتساوى، حتى تتساوى فيها فرص البنات مع الأولاد دون تمييز، فأفلاطون Plato لا يُميِّز على أساس الجنس، التمييز عنده في الجمهورية وفي المدينة الفاضلة على أساس الكفاءة، وهذا شيئ يُحسَب له، شيئ جيد هذا وقد سبق به عصره بلا شك، مَن ينجح منهم يُواصِل، ومَن يفشل منهم لابد أن يُستصفى ويبقى بعد ذلك إما أن يعمل كمُزارِع بحسب مرتبته وإما أن يعمل كمُعين، كأن يكون جندياً من الجند مثلاً، بعد ذلك نبدأ في تعليم هؤلاء الحكم، هذه السن مُناسَبة لتعليمهم الحكمة، أما الأطفال الصغار فمن العبث أن نُلقِّنهم الحكمة لأنها ستضيع لديهم، طبعاً هذه النظرية أنا أعتبر فعلاً نظرية إلى حدٍ ما ذكية، وتفرض علينا أو بالذات على التربويين منا أن يُعيدوا النظر في مناهج تعليم الأشياء الحسّاسة كالدين مثلاً، فشيئ سيئ أن يُعلَّم الدين في المدارس بطريقة تفتقد إلى الجدة وإلى الامتاع وإلى الإبهار وإلى مُناسَبة حتى المرحلة العُمرية وإلى التركيز على جوهر الدين والتدين، نحن نتعلَّم الدين تقريباً في المدارس بطريقة تقليدية وربما مُبتذَلة، نصوص وتُشرَح بطريقة خالية من المضمون وهكذا، فإذا ما كبر الإنسان وصار في المرحلة الجامعية يظن انه تعلَّم الدين ويعرف الدين ولا يُريد حتى أن يستمع إلى المُختَصين فيه، وهذا يكون بمثابة حجاب، أفلاطون Plato تلَّمح هذا الشيئ لكن بخصوص الفلسفة وليس بخصوص الدين، قال لا تُعطى في هذه المراحل، تُعطى في مرحلة مُتقدِّمة تماماً حتى يُقبِل عليها الإنسان بنهم وبجد ويرى أنه مُحتاج إلى هذا الشيئ، قال حتى إذا صار في سن الثلاثين أجرينا لهم اختباراً جديداً، مَن ينجح يُواصِل، قال الآن طبعاً سنكون بإزاء تحدٍ كيف نُقنِع هؤلاء الفاشلين الذين رسبوا في الامتحان بألا يثوروا على المُجتمَع وخاصة أن منهم مَن يحمل السلاح ومُدرَّب تدريباً قوياً عسكرياً ورياضياً، هؤلاء قد يقومون بثورة مُضادة على المُجتمَع وعلى قيادته، قال نُقنِعم في الجُملة بأمرين، بأمثولة المعادن وبالآخرة وبالحساب، أن الله – تبارك وتعالى – سوف يُحاسِب عباده، فهو يُؤمِن بهذا وذكر هذا، ومَن يعمل شراً سوف يُجزى به ومَن يعمل خيراً سوف يُكافأ عليه، فعليك أيضاً أن تنظر إلى مُستقبَلك الأبدي، ولذا يجب أن تتقي الله في نفسك وفي مُجتمَعك، وتكلَّم حتى عن المطهر، ولذلك بعض الفلاسفة يقول المسيحية مُتأثِّرة في هذه الأشياء بأفلاطون Plato أيضاً تأثراً واضحاً، وأكَّد على هذا، أي على الجانب اللاهوتي في استصلاح النفوس، وأمثولة المعادن تعني أن نُقِر في أذهان هؤلاء أن البشر كالمعادن، منهم الذهب وهؤلاء هم الحكماء المُؤهَّلون للحكم في يوم من الأيام في سن الخمسين، ومنهم الفضة وهؤلاء هم مُساعِدو هؤلاء، ومنهم الحديد ثم القصدير ثم الأشياء والمعادن الخسيسة وهؤلاء يشتغلون في أعمال الاحتراف والزراعة والفلاحة وما إلى ذلك، عليهم أن يُؤمِنوا بهذا، النبي نفسه يقول تجدون الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهوا، وفي رواية إذا فُقِّهوا، أي إذا عُلِّموا بالبناء للمفعول.
قال بعد ذلك هؤلاء نُعطيهم فترة خمس سنين، يُصبِحون الآن في الخامسة والثلاثين، بعد سن الخامسة والثلاثين نتركهم لكي يختبروا لياقاتهم في أتون المُجتمَع، الآن هذه ليست مسألة رعاية وتدريب وتهذيب، الآن مسألة اختبار لمتانة ونفاسة هذا المعدن، كيف؟ قال لابد أن يعود هؤلاء الآن ليكسبوا أرزاقهم ويُثبِتوا جداراتهم في فرن المُجتمَع وفي مصهر المُجتمَع، ولكي يدخلوا في تنافس مع رجال الأعمال الكبار الذين التحقوا بهذا الباب قبل ربما خمس عشرة سنة في سن العشرين، وسوف نرى، قال الضعيف منهم والتاعس سوف يسقط ويُثبِت أنه غير صالح، فهذا لا نحتاجه، غير صالح للحكم، والقوي منهم حتى في هذا الميدان سوف يمهر وسوف يجتاز الاختبار، فإذا ما بلغ سن الخمسين وثبت أنه من الناجحين بشكل طبيعي وتلقائي هؤلاء سيكونون هم المُؤهَّلون لقيادة المُجتمَع كما قال، إنهم الفلاسفة الحاكمون أو الحكماء الحاكمون، أي الذين يحكمون المُجتمَع وهذا في سن الخمسين.
إذن أيضاً أفلاطون Plato يرى أنه لا يجوز أن يحكم أحد قبل سن الخمسين، أنا أقترح قبل سن الأربعين، سن الأربعين هو السن التي نُبيء فيها مُعظَم أنبياء الله تبارك وتعالى، وهي سن بلوغ الأشد، قال الله حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۩، بالعكس هذه سن – سن الأربعين – مُناسِبة لهذا الشيئ، هو اقترح سن الخمسين وهذا مُمكِن، مُمكِن بالفارق الزمني، لماذا؟ حتى الثقافات ومُستوى التعليم يختلف من عصر إلى عصر ومن حقبة إلى حقبة، في زمن أفلاطون Plato كما قال كارل ساجان Carl Sagan في بعض كتبه – وأفلاطون Plato ذكر هذا وهو نقله عن أفلاطون Plato – كان تقريباً الذي يعرف مائة وخمسين معلومة في شيئ مُعيَّن يُعتبَر خبيراً، هذا مُعلِّم كبير جداً، لكن اليوم هذا يُعتبَر أُمي ولا شيئ، فيختلف هذا الشيئ من زمن إلى زمن، هؤلاء الحاكمون حتى لا يُسيئوا استخدام السُلطة والنفوذ يقترح أفلاطون Plato ممنوع أن يتملَّكوا، علماً بأنكم سترون أنفسكم غير مُتعاطِفين مع هذا النموذج الحديدي ومع هذا القفص، حتى وإن كان قفصاً ذهبياً يبقى قفصاً، وهو نموذج تقريباً يمنع الحراك الاجتماعي Sociability، لا يُوجَد أي حراك اجتماعي لأنه نموذج مُقيَّد بطريقة مُعيَّنة لدرجة أنه قهري فعلاً، ولذلك لو تحرَّرنا نحن من الدعاية ومن سطوة اللقب وسُلطة الاسم – أفلاطون Plato الفيلسوف الكبير – سوف نرى أن هذه اليوتوبيا Utopia ليست يوتوبيا Utopia، هي جحيم، جحيم للمُجتمَع وجحيم للناس حقيقةً، لأن فيها قهرية، يقول أفلاطون Plato حتى لا يُسيئ هؤلاء استخدام نفوذهم وسُلطتهم ممنوع أن يتملَّكوا، تملّك أي شيئ ممنوع، حتى البيت ممنوع أن يتملَّكه، ممنوع أن يتملَّك بيتاً خاصاً به وله حرّاس أقوياء، قال هذا ممنوع، يعيش وبقية الحكّام من طبقته في بيوت مُخصَّصة لهم، ممنوع أن يمتلك أموالاً خاصة، ولكن له رزقه الذي يُجرى عليه والشعب يقوم بدفع هذا بما يُناسِبه، ممنوع أن يُدخَر له ولطبقة الحكّام رزق يزيد عن سنة، أكثر شيئ لسنة، هذا أكثر شيئ، أما أكثر من ذلك ممنوع، ممنوع أن يتزوَّج، ممنوع لأنه إن تزوَّج صارت له عائلة وأولاد ومن ثم سيبدأ في تأمين مُستقبَلهم وإسعادهم ويبدأ يتغوَّل أموال الشعب، فممنوع أن يتزوَّج، كيف يقضي حاجته الطبيعية، أي الحاجة الغرزية؟ قال يقضيها خارج مُؤسَّسة الزواج، نأتيهم بنساء – دخلنا في أشياء عجيبة – يقضون حاجاتهم، ماذا عن الأولاد؟ قال يُسمَح أن يكون لهم أولاد لكن على أن يُؤخَذوا منهم، ممنوع أن يبقوا لهم، هؤلاء الأولاد يُؤخَذون والمُجتمَع يتكفَّل بتربيتهم، لا يلتحق الولد بأبيه، وأشياء مثل هذه، أشياء فظيعة لكن هذا تصوره للحكم الرشيد، حكم الفيلسوف هو أحسن الأنواع في نظر أفلاطون Plato.
أفلاطون Plato أيضاً – وهذا يُحسَب عليه وليس له – كان تقريباً مِن أوائل مَن تكلَّم في اليوجينيكس Eugenics، أي التحسين الوراثي، قبل داروين Darwin ودالتون Dalton وأمثال هؤلاء تكلَّم أفلاطون Plato في الجمهورية، فرأى أنه لابد حين يُريد أحدهم أن يتزوَّج بفتاة أو بسيدة ما أن يأتي هو بشهادة وأن تأتي هي بشهادة تُثبِت اللياقة الصحية البدنية لهما، أي لكلٍ منهما، وهذا الآن مُعترَف به، أفلاطون Plato ذكر هذا في الجمهورية، ممنوع أن يتزوَّج كل أحد كما يُريد، لابد أن يكون كل من الطرفين صحيحاً بدنياً، وهذا كان أولاً، ثانياً أن يتزوَّج القوي امرأة قوية حتى لا يضعف نسله، إذا تزوَّج ضعيفة ضعف نسله قليلاً، فيتزوَّج القوي قويةً، ممنوع أن يُنجِب الزوجان قبل سن الثلاثين، وممنوع أن يُنجِبا بعد سن الخامسة والأربعين، فحصر أفلاطون Plato الزواج في الفترة بين الثلاثين وبين الخامسة والأربعين، ماذا إن حصل إنجاب قبل ذلك أو بعد ذلك؟ لابد أن يُجهَض، لابد من الإجهاض Abortion، وطبعاً هذه شمولية، هذا حكم شمولي، وهذه نظرية واضحة في اليوجينيكس Eugenics أو التحسين الوراثي القسري بهذه الطريقة، وهذا شيئ مُخيف، لكن على كل حال هذه نظرية أفلاطون Plato، بعض الفلاسفة يرى أن هذه النظرية طُبِّقت إلى حدٍ ما في التاريخ الأوروبي، بعضهم يرى أن البابوات تقريباً حكموا بنفس المنطق، لأن البابوات – بابوات الفاتيكان Vatican – كان هم الحكماء، هم تقريباً كانوا المُستحوِذين على المعرفة، أكثر الناس معرفةً بالعلوم المشهورة – علوم الثالوث وعلوم الربوع – هم البابوات، وحكموا بإرادة الشعب، الشعب أراد ذلك، الشعب سلَّطهم على نفسه، كان العلية والنبلاء والإقطاعيون وحتى بعض الأباطرة يأتون ويُقبِّلون قدمي البابا ويعتذرون إليه برغبتهم، لكن ماذا كان النتيجة؟ يتساءل الفلاسفة، النتيجة لم تكن حميدة، لم تكن طيبة، إذن هذه الدول الشيوعية إلى حدٍ ما حُكِمَت بهذا على نحو مُقارِب، أليس كذلك؟ الدول الشيوعية حصل فيها هذا والنتيجة كارثية مهولة.
على كل حال نترك هذا الشيئ، ونأتي الآن إلى تلميذ أفلاطون Plato وهو أرسطو Aristotle، طبعاً نحن إلى الآن نتكلَّم عن الفلسفة – وطبعاً تاريخ سريع هذا ومُوجَز – في الحقبة القديمة، لأن تاريخ الفلسفة يُحقَّب في ثلاثة أحقاب، الحقبة القديمة والحقبة الوسيطة والحقبة الحديثة، طبعاً بعد ذلك لنا أن نتحدَّث عن الفلسفة المُعاصِرة الموجودة حالياً والراهنة، لكن عموماً هي ثلاثة أحقاب، الحقبة القديمة تمتد ألف سنة، والوسيطة ألف سنة، والحديثة مُمتَدة إلى اليوم ومُتصِلة بالمُعاصِرة، الحقبة القديمة من القرن الخامس قبل الميلاد – تكلَّمنا عن السوفسطائيين وإلى حدٍ ما عن الفلاسفة قبل السقراطيين، أي الفلاسفة الطبيعيين – وتمتد إلى القرن الخامس الميلادي، وذلك تقريباً في أربعمائة وست وسبعين، وهو سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وليس الشرقية البيزنطية، فتنتهي تقريباً بعد ألف سنة، بعد ذلك الحقبة الوسيطة من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي وبالتحديد في ألف وأربعمائة وثلاث وخمسين – مُنتصَف القرن الخامس عشر – وهو سقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية على يد المُسلِمين – القسطنطينية – فتنتهي الحقبة الوسيطة بعد ألف سنة، بعد ذلك عندنا عصر النهضة – Renaissance – ويُمكِن أن نبدأ العصر الحديث منه، بعض الناس يجعله شيئاً بحياله من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر على أن يبدأ العصر الحديث من القرن السابع عشر، وبعضم يتساهل ويقول بعد القرن الخامس عشر وما يتلو ذلك هو العصر الحديث، هذا هو التحقيب العام للفلسفة في العالم، هكذا يجري أكثر المُؤرِّخين، فما زلنا في الحقبة القديمة لكي نعرف إلى أين نسير.
نأتي الآن إلى أرسطو Aristotle، شيخ الفلاسفة بلا شك وأكبرهم وأنبلهم ذكراً، مشهور جداً، أشهر مشاهير الفلاسفة، الذي عبَّر ابن رشد عن إعجابه عنه بطريقة لافتة حين قال أنا أعتقد أن الله – تبارك وتعالى – خلق هذا الإنسان لكي يُقيم منه برهاناً ودلالة على كمال الإنسان، الإنسان كائن كامل ومُتفرِّد وعجيب، أين تمثَّل يا ابن رشد؟ قال في أرسطو Aristotle، تأمَّل أنت في أرسطو Aristotle وسوف ترى ما هو الإنسان، هذا إنسان عجيب، هذا الرجل لم يزِد عمره عن الستين إلا بقليل، ولك أن تتخيَّل هذا، أي أنه شيخ ستيني فقط، ترك ما يزيد عن مائة وخمسين مُؤلَّفاً، بعضها موسوعات، موسوعات في مُجلَّدات عدة، غطت أعماله تقريباً كل العلوم التي كانت تُتعاطى في عصره، لا يُوجَد علم لم يتكلَّم فيه أرسطو Aristotle، تكلَّم في الخطابة، تكلَّم في فن الشعر، تكلَّم في علم النبات، تكلَّم في علم المعادن، تكلَّم في الهيئة والفلك والميكانيكا Mechanics، تكلَّم في الطب والبدن الإنساني، وتكلَّم في كل آفاق الفلسفة طبعاً بمباحثها المُختلِفة، تكلَّم في المنطق، بالعكس إيمانويل كانط Immanuel Kant كان يرى أن المنطق وُلِدَ كاملاً مع أرسطو Aristotle، وطبعاً هذه مُبالَغة غير صحيحة، أفلاطون Plato كان منطيقاً أيضاً، سقراط Socrates له إسهاماته في المنطق، السفسطائيون كان لهم إسهامات في المنطق، لكن تنظيم وترتيب المنطق بهذا الشكل المُذهِل والذي طُبِعَ في العربية مُحقَّقاً بتحقيق المرحوم عبد الرحمن بدوي هنا في الكويت – طُبِعَ في الكويت في ثلاثة مُجلَّدات – فعلاً كان شيئاً عجيباً، حين تقرأ منطق أرسطو Aristotle في ثلاثة مُجلَّدات بتحقيق بدوي تقول هذا شيئ غريب، هذا الرجل كيف استطاع أن يجمع كل هذا الكم في تلكم الحقبة المُتقدِّمة من تاريخ علم المنطق؟ شيئ مُذهِل بلا شك، فهذا الرجل – أرسطو Aristotle – مُذهِل، يفترق مبدئياً عن أستاذه أفلاطون Plato في أن أفلاطون Plato كان لا يذكر مصادر اقتباساته، بلا شك أفلاطون Plato اطلع على تراث فلاسفة كثيرين مِمَن ذكرنا ومِمَن لم نذكر لكنه لم يكن يذكر، كان يُعيد إنتاج هذه الأفكار بأسلوبه الخاص وكأنها من بنات أفكاره، أرسطو Aristotle لم يكن كذلك، كان علمياً، كان توثيقياً، يذكر الفكرة ويذكر مصدره فيها، يقول هذه الفكرة لفلان وأدلته كذا وكذا، وهذا هو الأسلوب العلمي حقيقةً، وهذا يُحسَب لأرسطو Aristotle.
أرسطو Aristotle أوسع دائرة من أفلاطون Plato، أفلاطون Plato تكلَّم – مثلاً – في الجمهورية تقريباً في كل شيئ، تكلَّم في علم النفس، تكلَّم في علم التربية، تكلَّم في الاقتصاد، تكلَّم في السياسة والكتاب أصلاً في السياسة، تكلَّم في أشياء كثيرة لكن في كتاب واحد، أما أرسطو Aristotle فقد فعل هذا في مئات الأعمال، وتكلَّم بإسهاب ملحوظ وبدقة علمية، الفارق الأكبر بينهما أن أفلاطون Plato فيلسوف مثالي، أما أرسطو Aristotle ففيلسوف واقعي وعقلاني وإلى حدٍ ما مادي، هو هذا، ولذلك هناك صورة مشهورة جداً جداً وهي صورة أفلاطون Plato يُشير بيده إلى السماء وأرسطو Aristotle واقفاً إلى جنبه يُشير بيده إلى الأرض، هذا فيلسوف الواقع وذاك فيلسوف المثال، اسمها مدرسة أثينا Athens، وهذه الصورة مشهورة.
نستطيع أن نُلخِّص فلسفة أرسطو Aristotle في باب اللاهوت أو الإلهيات، طبعاً نحن نقول الإلهيات – وهذا قسم من أقسام الفلسفة بمعنيين، بالمعنى الأخص وبالمعنى الأعم، الإلهيات بالمعنى الأخص هي التي تبحث عن الله – تبارك وتعالى – وما يتعلَّق به، هذه إلهيات بالمعنى الأخص، الإلهيات بالمعنى الأعم هي الميتافيزياء Metaphysics، أي الميتافيزيقا، هذه الإلهيات بالمعنى الأعم، ليست تقتصر على البحث عن الله – تبارك وتعالى – وما يختص به بل تُوجَد أمور أوسع من هذا بكثير سوف نعرض لها – إن شاء الله – في الحلقات القادمة من هذه الدورة، فأرسطو Aristotle يرى في باب الإلهيات أن الله – تبارك وتعالى – لم يخلق العالم وهو ليس خالقاً – Creator – لكنه مُحرِّك Mover، هو مُحرِّك وليس خالقاً، بخلاف أفلاطون Plato الذي كان دائماً يُؤكِّد حقيقة الله كصانع ومُهندِس وخالق الكون، دائماً يتكلَّم عن الله كمُهندِس، يخلق ويُهندِس تبارك وتعالى، شبَّهها أحدهم بأنك حين تمر على الجسر الذي تراه كإنسان عامي مجموعة من الحديد والأخشاب – مثلاً – والدعامات وهذه الأشياء، هذه هي الأشياء التي تراها، الذي يراه المُهندِس مجموعة من القوانين، المُهندِس لا يرى الحديد والخشب – هذا لا يعنيه كثيراً – وإنما يرى القوانين، أي القوانين التي تم بها تشييد هذا الجسر واعتماده كتُحفة هندسية، كذلكم أفلاطون Plato كان ينظر دائماً إلى العالم على أنه هندسة الله تبارك وتعالى، أحياناً كان يُعادِل الله بالقوانين ذاتها، هو – أي أفلاطون Plato – لم يكن وحدوياً، لكن كلامه في جهة المجازات – Metaphors – يُعادِل به بين الله وبين القوانين، كأن الله هو مجموع هذه القوانين الحاكمة في الكون من الذرة إلى المجرة، أرسطو Aristotle قال لا، الله لم يخلق الكون، وإنما هو فقط مُحرِّك غير مُتحرِّك، هو مُحرِّك غير مُتحرِّك لأنه لو تحرَّك لاعتراه الحدثان فزايلته الألوهة أو الألوهية، لكونه إلهاً لابد أن يكون ثابتاً ثباتاً مُطلَقاً، علماً بأن هذه الفكرة تأثَّر بها الإسلاميون، الفلاسفة والمُتكلِّمون الإسلاميون تأثَّروا بها كثيراً ولذلك عبَّروا عنها بأن الله – تبارك وتعالى – لا تحله الأعراض، فهو عالم من الثبات، وجود من الثبات المُطلَق، فهذه هي الفكرة أرسطية، طبعاً أثر أرسطو Aristotle يظهر أكثر ما يظهر في اللاهوت وفي المجال الإسلامي والمسيحي، أفلاطون Plato ترك أثره نستطيع أن نقول إلى آخر الحقبة القديمة مع سانت أوغسطين Saint Augustine، وسوف أعرض لهذا بعد قليل، بعد ذلك بدأ يتسلل أرسطو Aristotle شيئاً فشيئاً، مع توما الأكويني دخل أرسطو Aristotle وانتهى أفلاطون Plato، في الحقل الإسلامي الأثر الغالب عموماً كان لأرسطو Aristotle، لكن أفلاطون Plato أيضاً ترك أثراً في بعض المدارس كالمدرسة الإشراقية، مدرسة الشهاب السهروردي.
نعود إلى ما كنا فيه، أرسطو Aristotle أيضاً كان يرى لإنكاره خالقية الله – تبارك وتعالى – أن العالم وما فيه أزليٌ غير حادث في الزمان، لأنه غير مخلوق هو أزلي، فلا معنى لأن تسأل متى ابتدأ الله خلق العالم أو متى خُلِق العالم، العالم غير مخلوق، وهذه نظرية قِدم العالم التي تبناها طبعاً للأسف من الإسلاميين كل المشائين، الفارابي وابن سينا وابن رشد وأتباعه، فأشهرهم طبعاً هؤلاء الثلاثة الذين تبنوها وفرَّقوا بين الله وبين العالم، قالوا الفرق في الرُتبة وليس في الزمان، في الزمان كله قديم، الله قديم والعالم قديم، طبعاً نحن نرفض هذا، مُعظَم علماء الكلام الإسلاميين يُكفِّرون مَن يقول بقِدم العالم، وأعتقد أن الحل يكمن في طرح ثالث، إذا اعتمدنا الآن على مُقرَّرات العلم لابد أن يكون العالم مخلوقاً، في الكوزمولوجيا Cosmology العالم لم يكن هكذا أزلاً، هذا مُستحيل، الآن تسأل أي عالم كونيات – Kosmologe – يقول لك العالم أو الكون – الكوزموس Cosmos – عمره ثلاثة عشر مليار – بالامريكي بليون Billion، أي ألف مليون Million – وسبعمائة مليون سنة، أي أنه قريب من أربعة عشر مليار سنة، وهذا عجيب، قبل ذلك أين كان العالم؟ العالم كان في مُتفرِّدة – Singularity – من رُتبة عشرة أس ناقص ثلاثة وثلاثين سنتيمتر، وهذا شيئ عجيب.
ذكرت أنا قُبيل قليل أن البروتون Proton من رُتبة عشرة أس ناقص ثلاثة عشر سنتيمتر، أما هذا الكون كله بنصف قطر ثلاثة عشر فاصل سبعة مليار سنة ضوئية، لأن هذه مسافة نقول سنة ضوئية، هذا كله كان قبل ثلاثة عشر فاصل سبعة سنة – ليست ضوئية طبعاً وإنما سنة زمنية – كان من رُتبة عشرة مرفوعة للأس السالب ثلاثة وثلاثين – أي ناقص ثلاثة وثلاثين – سنتيمتر، أي جُزء من مليار – هذه عشرة أس تسعة – تريليون تريليون جُزء من السنتيمتر، شيئ لا يُصدَّق، أحد علماء الكونيات قال نحن نتحدَّث عن العدم – لنكن صادقين – Nothingness، هذا هو العدم، أرسطو Aristotle لم يكن يستوعب هذه الفكرة ولا حتى كانط Kant ولا كل الماديين، الماديون يظنون أن الكون لم يزل، بلا بداية ودائماً هو هكذا، وهذا غير صحيح، الكون يتطوَّر وكان في البداية عدماً فعلاً ولا شيئ.
إذن نحن بالاعتماد على مُقرَّرات هذا العلم – الكوزمولوجيا Cosmology – قلنا العالم خُلِق إذن، وصحيح أننا لا نستطيع أن نقول أنه خُلِق في لحظة، لأن أين اللحظة؟ الزمان عدّاد الحركة، ولا تُوجَد حركة لعدم وجود مُتحرِّك، لم يكن هناك أي شيئ مخلوق، أليس كذلك؟ نفترض أن أول شيئ خلقه الله هو الماء، حين خلق السماوات والأرض كان عرشه على الماء، فأول مخلوق لابد أن يكون الماء وبعد ذلك العرش وبعد ذلك السماوات والأرض، كأن تقول هذا الماء حين خُلِق حدث كذا وكذا، والسؤال خطأ لأنك تقول حين، وليس هناك أي حين أصلاً، لكن هذا قصور اللغة، تقول حين خُلِق أو عند خُلِق أو لدى خلقه، وهذا كله سؤال خطأ، لا يُوجَد حين، لكن نحن نُسلِّم بأنه خُلِق، وهكذا نستطيع نحن الآن – فقط هذه مشكلة لُغوية – أن نقول هناك قديمان، الله – تبارك وتعالى – والكون، صحيح لكن الله قديمٌ خالق والكون قديمٌ مخلوق، والمُشكِلة أنه مخلوق في لا زمن، هذا لا يعنينا لكنه مخلوق، تسلَّط الله عليه بالخالقية، وهو مُتسَّلط عليه بالمربوبية والمخلوقية، وهذا يكفينا، كُموحِّدين يكفينا – إن شاء الله – ونستطيع أن نتوسَّط بهذا الرأي بين مَن يقول بقِدم العالم ويُساوي بين الله وبين العالم ويُسقِط اعتبار الزمن وبين مَن يرى أن هذا محض الكفر، فنحن نقول بشيئ ثالث يتفق مع الحقيقة الفلسفية وأيضاً يتساوق مع الحقيقة العلمية، وفي نفس الوقت لا يصطدم مع المُقرَّرات الدينية العقدية بفضل الله عز وجل.
إذن أرسطو Aristotle يقول بقِدم العالم، العالم غير مخلوق لله، العالم لم يزل، وهناك نظرية لأرسطو Aristotle أيضاً وهي نظرية الهيولى، يتحدَّث عن الهيولى، الهيولى الأصل الأصيل للمادة، المادة بلا تشكل وبلا صورة، طبعاً هذا مفهوم بالغ الغموض وفي نفس الوقت في نظري بالغ الدقة والعمق، عجيب أن أرسطو Aristotle فهم هذا الشيئ، أرسطو Aristotle حتى تعدّى موضوع الدقائق الأولى التي تكلَّم عنها ديموقريطس Democritus مثلاً، أي الـ Atoms، هو يتحدَّث عن المادة بلا تعين وبلا أي شكل وبلا أي صورة وهذا غريب، كيف استطاع أن يستنبط أو أن يصل إلى هذه الفكرة التي تحدَّث عنها؟ وهي يُضرَب بها المثل في الإلغاز والإغماض، يقولون أغمض من هيولى أرسطو Aristotle ومن طفرة النظّام ومن كسب الأشعري، هذه ثلاثة أشياء، علماً بأن طفرة النظّام الآن يُفسِّرها ميكانيكا الكم، هذا النظّام – إبراهيم بن سيّار النظّام – تلميذه الجاحظ، كان يُسمى شيطان المُعتزِلة، وهو من أذكى علماء المُسلِمين، هذا الشيطان ذكي جداً وكان رجلاً عبقرياً، وقد أثبت الطفرة في الطبيعة، ما هي الطفرة؟ هذا الرجل عقله اتسع لقبول فكرة أو فرضية أن شيئاً ما – جسماً أو جُسيماً ما – يتحرَّك من مكان إلى مكان آخر دون أن يمر بالمسافة بينهما، قالوا ما هذا؟ هذا كلام فارغ؟ الناس قالوا هذا كلام فارغ، الآن ميكانيكا الكم في القرن العشرين والحادي والعشرين تُقرِّر هذا، نعم هذه ميكانيكا الكم، يُمكِن لجُسيم مُعيَّن أن ينتقل من حيز إلى حيز آخر دون أن يمر بمسافة بينهما، وهذا ثابت تجريبياً، كيف استوعب النظّام هذه الفكرة؟ لأن هذا الرجل كان عبقرياً، كان رجلاً سابقاً لزمانه، ورُفِضَت في عصره لكنها الآن مقبولة فيزيائياً في ميكانيكا الكم، وكسب الأشعري معروف طبعاً، لكنه أيضاً ليس واضحاً، كسب الأشعري ليس واضحاً، بعض الناس يُعادِل بينه وبين الجبرية ويقول هو أراد أن ينتصر للاختيار بالكسب لكن وقع فيما فر منه وهو الجبرية، لكن في الحقيقة ليس الأمر كذلك، يُوجَد شيئ مُختلِف.
نعود إلى ما كنا فيه، أرسطو Aristotle أيضاً عُرِفَ بالمقولات العشرة، أي بالـ Categories العشرة، الـ Predicates العشرة، كيف؟ تستطيع أن تقول هذا هو الإطار الذي أدخل فيه أرسطو Aristotle كل شيئ يخضع للفكر البشري، في إطار المقولات كل شيئ، أي شيئ تُفكِّر فيه لابد أن يخضع لنظرية المقولات الأرسطية، هذا إذا بقينا أوفياء لها، وهو كان وفياً لها، باختصار أيضاً – لا نُريد أن نُطوِّل، وهذا مبحث في المنطق – هو يرى أن كل شيئ إما أن يكون جوهراً وإما أن يكون عرضاً، الجوهر ما قام بذاته، العرض ما لم يقم بذاته ولابد له من جوهر يقوم به، إذن هذا الجوهر وهذا العرضي، مثلاً الكيف أو الكيوف أعراض، اللون عرض، الطعم عرض، الزمان – متى – عرض، المكان – أين – عرض، فالزمان والمكان من الأعراض، الإضافة – ابن مَن؟ – أو النسبة من الأعراض وهكذا، وقد جمعها بعض العلماء الطرفاء في قولهم:
زَيْدُ الطَّوِيلُ الأَزْرَقُ ابْنُ مَالِكِ فِي بَيْتِهِ بِالأَمْسِ كَانَ مُتَّكِي.
بِيَدِهِ غُصْنٌ لَوَاهُ فَالْتَوَى فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولاَتٍ.
على أن زيداً هو الجوهر في النهاية ذات الكيان، هذه المقولات مُهِمة جداً وأساسية في فلسفة أرسطو Aristotle وفي منطق أرسطو Aristotle، إطار يُدخِل فيه كل شيئ لإدراكه، طبعاً بعد ذلك لا نقول ناقضه ولكن عارضه وناكده كانط Kant وأتى بمقولات جديدة، أتى بالمقولات الكانطية، ومُمكِن أن نتعرَّض لها حين نبلغ هذا الموضع من البحث إن شاء الله تعالى.
أرسطو Aristotle – كما ذكرت في مُقدِّمة الحديث – لم يكن فقط مُجرَّد فيلسوف عقلي، وإنما كان أيضاً فيلسوفاً تجريبياً، هذا ثابت عنه وواضح ولابد من إنصافه، لكن ما معنى فيلسوف عقلي؟ إذا قلنا أرسطو Aristotle فيلسوف عقلي فما معنى فيلسوف عقلي؟ يعني يرى أصالة العقل، يعني يصطنع المذهب العقلي في التفكير، بمعنى أنه يرى أن للعقل لياقةً وقدرةً على معرفة الحقائق، العقل مُؤهَّل لذلك، هل لابد أن يخوض التجربة؟ ليس شرطاً، من غير تجربة، العقل وحده، أرسطو Aristotle كان يعتقد أن النظام الذهني الإنساني مُركَّب ومُهيَّأ لكي يتساوق ويعكس نظام الوجود العياني، يعني تطابق ما بالذهن مع ما بالعيان أو ما بالذهن مع ما بالخارج، فهو كان هكذا يعتقد هذا، لذلك كان يعتقد ويُصِر على أن الإنسان إذا فكَّر بطريقة صحيحة وسليمة يُمكِن أن يعرف الحقيقة في أي موضوع شاء دون أن يستخدم أي أداة من أدوات البحث غير اللياقة العقلية، قال هو يستطيع، وطبعاً هذا كلام مُبالَغة إلى حد بعيد وهذا الكلام بالذات هو الذي أخَّر تطور العلم بالمعنى الحديث للعلم – أي Science – الذي نشأ في القرن السادس مع آباء العلم الكبار مثل كوبرنيكوس Copernicus وكيبلر Kepler وجاليليو جاليلي Galileo Galilei وأمثال هؤلاء، هذه الطريقة أخَّرت حقيقةً وجنت على العلم بالمعنى المُعاصِر أو الحديث له، يُقال أن أرسطو Aristotle – هذا مأثور عنه – كان يعتقد أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل، ولكن لأن السيد لا يعمل بيديه – العبد هو الذي يعمل بيديه – فإنه لم يُكلِّف نفسه – وقد تزوَّج، كان أرسطو Aristotle مُتزوِّجاً – أن يفحص فم زوجته، لو فحص لأدرك أنه كان مُخطئاً، لكن يعتقد أن المرأة أنقص إذن لابد أن يكون عدة أسنانها أقل من عدة أسنان الرجل، قال بالعقل، هذه حقيقة خاطئة، يُمكِن تزييفها ببحث يسير جداً جداً يقوم به كل مُتزوِّج – مثلاً – أو كل أب، كذلك اعتقد بأشياء أُخرى على هذا النحو اعتقادات خاطئة في عالم الحيوان وفي عالم النبات مع أنه – كما قلت لكم – كان لديه مزرعة كبيرة هيَّأها له تلميذه الإسكندر Alexander، الإسكندر Alexander كان تلميذاً لأرسطو Aristotle، فيليب الثاني Philipp(os) II أبو الإسكندر Alexander طلب من أرسطو Aristotle أن يُعلِّم ابنه، فعلَّمه بضع سنين يسيرة، وظل الإسكندر Alexander يعتز بهذه التلمذة وحفظ هذا الجميل إلى أن وقعت الخصومة بينهما بسبب إعدام الإسكندر Alexander لابن أخي أرسطو Aristotle، كان ابن اخيه معروفاً بكاليسثينيس Callisthenes، طبعاً يُوجَد اثنان كاليسثينيس Callisthenes، يُوجَد Pseudo-callisthenes ويُوجَد كاليسثينيس Callisthenes ابن أخي أرسطو Aristotle، الـ Pseudo إسكندراني وكان بعد حوالي أربعمائة سنة، المُهِم كاليسثينيس Callisthenes الحقيقي ابن أخي أرسطو Aristotle كان مُصاحِباً للإسكندر Alexander وكان مُؤرِّخاً له ولحملاته، عارضه حين طلب من الناس أن يسجدوا له وأن يتخذوه إلهاً في مقدونيا، قال له هذا لا يجوز، هذا كلام فارغ، هذه وثنية وأنتَ لست إلهاً، هذه كلها أساطير شرقية، فسجنه ستة أشهر ثم عذَّبه وأعدمه، فوقعت الخصومة بينهما والجفوة، وماتا من قريب، هذا مات في سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرين قبل الميلاد وذاك في سنة ثلاثمائة واثنين وعشرين قبل الميلاد، أي أن الفرق بين موت الإسكندر Alexander وأرسطو Aristotle سنة واحدة فقط.
على كل حال نعود إلى أرسطو Aristotle، كما قلنا غطَّت أعمال أرسطو Aristotle تقريباً كل مجالات العلم في عصره، حين تحدَّث عن العلم أرسطو Aristotle بشكل عام أو الحكمة كما تُسمى تحدَّث عن نوعين من الحكمة، الحكمة النظرية والحكمة العملية، الحكمة العملية عكس النظرية، وهي ثلاثة أقسام كلها تدور على السياسة والتدبير، عندنا تدبير المنزل وهو ما يُعرَف أو عُرِف بعد ذلك بالاقتصاد Economy، وهذا معنى الكلمة، تدبير المنزل أو سياسية المنزل أو سياسة ميزانية المنزل، هذا اسمه الاقتصاد المنزلي، وبعد ذلك يُوجَد عندنا تدبير المدينة، وهذه هي السياسة Politics، أي السياسة بالمعنى المعروف، ويُوجَد عندنا بعد ذلك تدبير النفس وتدبير الفرد، أي سياسة الإنسان لسلوكه، الحكمة النظرية أهم جانب فيها على الإطلاق والذي ركَّز عليه أرسطو Aristotle الإلهيات، بالمعنى الخاص – كما ذكرت قُبيل قليل – وبالمعنى العام، هذا أهم شيئ، وهناك طبعاً الرياضيات، ويدخل فيها الحساب والهندسة وما إلى ذلك، وهناك الطبيعيات وكل ما يتعلَّق بالعلوم الطبيعية ويدخل فيها حتى الموسيقى والفلك وما إلى ذلكم، هذا كله كان يُسمى الحكمة، وواضح أن العلوم في جُملتها وتفاصيلها تدخل في هذا التصنيف، أرسطو Aristotle تعامل مع الحكمة وفق هذا التصنيف، كتب واشتغل على الحكمة العملية بفروعها وعلى الحكمة النظرية بفروعها، وهذا معناه أنه كان موسوعة عصره، لم يند عنه تقريباً علم من العلوم ولا فن من الفنون، كتب في كل شيئ الرجل وعالج كل شيئ.
من أعظم شرّاح أرسطو Aristotle في التاريخ العلّامة المُسلِم أبو الوليد بن رشد، طبعاً له شرّاح كثيرون لكن أعظمهم على الإطلاق ابن رشد، وهو من أدقهم شرحاً لأرسطو Aristotle، وعبر ابن رشد أرسطو Aristotle دخل إلى أوروبا في الفترة المعروفة بالرشدية اللاتينية، وهذا قبل عصر النهضة Renaissance، ففي القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر شاعت هذه الرشدية اللاتينية وتعرَّفت أوروبا بشكل دقيق ومُفصَّل على الفيلسوف الإغريقي أو اليوناني أرسطو Aristotle، في القرن الثالث عشر وفي العهد المدرسي بالذات ومع توما الأكويني Thomas Aquinas أرسطو Aristotle أصبح مُعتمَداً بعد أن كان محظوراً وملعوناً بفضل الفكر الإسلامي.
نعود الآن مرة أُخرى، بوفاة أرسطو Aristotle – كما قلنا – في القرن الرابع قبل الميلاد – في ثلاثمائة واثنين وعشرين قبل الميلاد تحديداً – يكون زوى غصن الفلسفة وانكسف وجهها، هذه كانت المرحلة الذهبية لها في العهد القديم، ودخلنا الآن في العصر المعروف بالهلنستي، أي Hellenistic age، بعض العلماء يجعل الهيليني هو الهلنستي ولا يُفرِّق بينهما، وبعضهم يُفرِّق ويقول العصر الهيليني هو إلى وفاة الإسكندر Alexander، بوفاة الإسكندر Alexander انتهت الحقبة الهيلينية التي تميَّزت بالإسكندر Alexander الذي وُفِّق فيها إلى حد ما بالمزج بين الفكر العقلي الإغريقي أو اليوناني وبين الفكر الشرقي الروحاني أو الصوفي، هذه ميزة الحقبة الهيلينية، بوفاة الإسكندر Alexander انتهت، دخلنا الآن الحقبة الهلنستية، في الحقبة الهلنستية التي امتدت من ثلاثمائة وثلاث وعشرين تقريباً قبل الميلاد إلى عشرين قبل الميلاد – أي أقل من أربعة قرون بقليل – الفلسفة تراجعت وجفت المباحث النظرية وبدأت تهتم بالإنسان، بسعادة الإنسان وبوضع الإنسان وبالفضائل الشخصية وبالفضائل المُجتمَعية وإلى آخره، وظهرت مدارس من أشهرها المدرسة الرواقية Stoicism، والمدرسة الإبيقورية Epicureanism – نسبة إلى الفيلسوف إبيقور Epicurus – وأخيراً مدرسة الشُكّاك أو الشكية Scepticism، المدرسة الشكية، وهذه الثلاثة إذا ما اطلعت عليها وقرأت إنتاجات لا تُعتبَر فلسفات حقيقية بالقياس إلى الهرم العظيم الذي بناه أفلاطون Plato والأهرام التي بناها وشيَّدها أرسطو Aristotle، تلك فلسفة حقيقية أما هذه شيئ فيه ريح الفلسفة وليس فيه روح الفلسفة، فيه ريحها وليس فيه روحها، هؤلاء – مثلاً – يعتمدون أن الفلسفة هي السعادة – أعني الإبيقوريين – وأولئكم يرون أن الفلسفة هي الفضائل والفضيلة ولهم تفصيلات كثيرة يُمكِن أن يتعمَّقها الإنسان إذا درس ما يُعرَف بالفلسفة الخُلقية، مكان هؤلاء في الفلسفة الخُلقية في تدبير الفرد، وأما الشُكّاك وزعيم بيرون Pyrrhon فهم شكلٌ آخر مُطوَّر من السفسطة، نفس الشيئ هؤلاء، لكن بيرون Pyrrhon كان لا يجزم بشيئ لا على جهة النفي ولا على جهة الإثبات، Suspension، أي أنه يُعلِّق، يقول لا أدري، لا أجزم لا هكذا ولا هكذا، هذا هو الشك البيروني.
بعد ذلك في مائتين وسبعين ميلادية وُلِدَ الفيلسوف أفلوطين Plotinus ومعه وجدنا ما يُعرَف بالأفلاطونية المُحدَثة Neoplatonism، وهي مزيج من فلسفة أفلاطون Plato المثالية ومن الثيوصوفيا Theosophy أو العرفان الشرقي، أفلوطين Plotinus – رأى أنه يُمكِن الاتصال بالله – تبارك وتعالى – عبر الانجذاب Ecstasy، مُمكِن بالجذبة كما يُسميها الصوفية، مُمكِن بهذه الجذبة أو الإنجذاب أن نتصل بالله تبارك وتعالى، وتحدَّث عن ثالوث Trinity، تحدَّث عن الواحد الـ One الذي يصدر عنه العقل، وعن العقل تصدر النفس Soul، قال هذا الثالوث، والثالوث في جوهره شيئٌ واحد، تحدَّث عن التغيرات التي تعتري الوجود، أفلوطين Plotinus في الأفلاطونية المُحدَثة أو الجديدة تحدَّث عن التغيرات التي تعتري الوجود وقال أنها تخضع لقانون جدلي مُعيَّن، جاء بعد ذلك سانت أوغسطين Saint Augustine ووافق على هيكل النظرية مع إضافة أن الله – تبارك وتعالى – هو المسؤول عن هذه التغيرات، لا تحدث من تلقائها ولا تحدث بنفسها لكن الله هو الذي يُدبِّرها ويرعاها، لكنه وافق على هيكل النظرية المعروفة بالأفلاطونية المُحدَثة، طبعاً الأفلاطونية المُحدَثة أثَّرت أيضاً في السياق الإسلامي، فنجد لها بعض الملامح للأسف في الفلسفات الصوفية المُتأثِّرة بالفلسفة الأفلاطونية المُحدَثة، أيضاً في فلسفة الشهاب السهروردي المقتول تأثّر أيضاً واضح بالأفلاطونية المُحدَثة، تأثّره أيضاً بالأفلاطونية وتأثره بالعرفان الشرقي الفارسي، وتأثَّر إلى حد أقل من هؤلاء بفلسفة أرسطو Aristotle، كل هذا مزيج في الإشراق السهروردي.
هذا تقريباً ما يختص بهذه المرحلة، طبعاً في سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرين أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين ابن هيلانة Constantine son of Helena دخوله في الديانة النصرانية، للأسف هذا الدخول أثَّر على الفلسفة وعلى الحرية التي كانت تتمتع بها، بدأ يضيق نطاق هذه الحرية لصالح اللاهوت الذي يتنامى برعاية السُلطة الرومانية، وبلغ الأمر أسوأ وهدة انتهى إليها في القرن الخامس الميلادي مع الإمبراطور الروماني جستنيان Justinian – وهو معروف، صاحب المُدوَنة الشهيرة في القانون، مُدوَنة جستنيان Justinian – الذي أصدر أوامره المُحتَمة بإغلاق مراكز الدرس الفلسفي في كل من أثينا Athens والإسكندرية، طبعاً الإسكندرية وخاصة بعد الأفلاطونية المُحدَثة كانت هي المركز الأكثر ازدهاراً للفلسفة وصار يُهاجِر إليها حتى بعض الأغارقة والمقدونيين، كانوا يتعلَّمون في الإسكندرية، فصدر الأمر بإغلاق مركز الإسكندرية ومركز أثينا Athens، وكانت ضربة قاسمة للفلسفة، وطُورِد الفلاسفة واضطُهِدوا من قِبل المسيحيين، كما قلنا في الثلث الأخير من القرن الخامس الميلادي سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية، وبهذا يكون هذا الفصل أو هذه الحقبة من تاريخ الفلسفة وهي الحقبة القديمة قد انتهت، امتدت على مسافة زمانية غطَّت ألف سنة تقريباً، من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي، برز في آخرها أبرز النجوم القديس أوغسطين Augustine، المُسمى بـ Saint Augustine of Hippo، في تونس التي كانت أفريقية وقتها وكانت داخلة حتى مع حدود الجزائر، المُهِم أنه وُلِد هناك وهو صاحب مدينة الله وصاحب الاعترافات وهو الذي كان فيلسوفاً أفلاطونياً، لم يتأثَّر بأرسطو Aristotle بل تأثَّر بأفلاطون Plato، وواضح – كما قلنا – أن أفلاطون Plato يعترف بالله ويعترف بخالقية الله ويعترف بالعالم الآخر والجزاء والحساب ويعترف بخلود النفس ويعترف بتجرّد النفس، وكل هذا مُناسِب جداً للثيولوجيا Theology المسيحية والثيولوجيا Theology الدينية عموماً، بعضهم يعتبر أن سانت أوغسطين Saint Augustine ليس من الحقبة القديمة، بل من الحقبة الوسيطة ضمن ما يُعرَف بحقبة الآباء، لأنها تنقسم إلى قسمين، فالآن ندخل إذن في الحقبة الوسيطة، من القرن الخامس الميلادي وتمتد إلى القرن الخامس عشر الميلادي، أهم إنتاج فلسفي في الحقبة الوسيطة لم يكن للأوروبيين بل كان للإسلاميين، الذي تصدَّر وتسيَّد في هذه الحقبة هم الفلاسفة الإسلاميون وفي رأسهم فيلسوف العرب الكِندي، ثم بعد ذلك الثالوث الشهير وهم فلاسفة مشاؤون أو مشائيون، طبعاً لماذا نُسميهم الفلاسفة المشائين؟ لأنهم تبعاً لأرسطو Aristotle، كان فيلسوفاً مشاءً، وطبعاً ربما أرجح ما قيل في سبب هذه التسمية أنه كان في اللزيوم Lyceum يمشي وهو يُعلِّم، علماً بأن مدرسة أفلاطون Plato هي الأكاديمية أما مدرسة أرسطو Aristotle اسمها اللزيوم Lyceum، والعرب يُسمونها اللسيوم، فاللزيوم Lyceum مدرسته وكان يُعلِّم العلوم المُختلِفة والفنون وهو يمشي، يرى أن هذا أصح للإنسان وأفضل للعافية، فكان يمشي ويُعلِّم، يمشي ويتكلَّم، فسُميَ فيلسوفاً مشاءً، والفلاسفة الإسلاميون سُموا الفلاسفة المشاؤون، طبعاً أولهم – أول هؤلاء المشائين – الفارابي Al-Farabi، الفارابي Al-Farabi تُوفيَ في ثلاثمائة وتسع وثلاثين هجرياً، بعده بقرن يأتي تقريباً الشيخ الرئيس ابن سينا، أبو عليّ بن سينا، بعد ذلك يأتي أبو الوليد بن رشد، أيضاً أزيد من قرن، لأنه في خمسمائة وخمس وتسعين هجرياً تُوفى، إذن أكثر من قرن، أي زُهاء قرنين تقريباً بعد ابن سينا أو أقل بقليل أبو الوليد بن رشد، في المُنتصَف يتوسَّط أبو حامد الغزالي الذي اشتُهِر بأنه عدوٌ للفلسفة وأنه ضربها ضربة كما يقول بعض الرومانسيين المُعادين للفلسفة لم يقم منها أبداً، في الحقيقة أبو حامد كان فيلسوفاً، حتى وهو يُعالِج الفلسفة، طبيعي أن يكون فيلسوفاً، هو درس الفلسفة وتوفَّر على درسها بعقله الخصب والجبّار الهائل سنتين كاملتين، وسنتان من أبي حامد كعشرين أو ربما كمائتي سنة من أناس آخرين، كان عقلاً جبّاراً وهائلاً رحمة الله عليه، وهو الذي قال فيه الأستاذ الكبير عبّاس محمود العقّاد أنا اعتقادي أن العالم في شرقه وغربه وعبر العصور لم يعرف مُفكِّراً في حجم أبي حامد الغزالي، محمد – رحمة الله تعالى عليه – رجل هائل وعقل كبير جداً أكبر مما يتخيَّل أكثر الدارسين، فتوفَّر في سنتين وكتب كتابه الشهير مقاصد الفلاسفة، شهد له بعض فلاسفة عصره بأنه أتقن وحذق الفلسفة وفهمها أكثر مما يفعلون هم، في كتاب مُتوسِّط الحجم من ثلاثمائة صفحة لخَّص كل مقاصد الفلسفة لكي يدخل على علم، وبعد ذلك أتبعه بكتابه الشهير تهافت الفلاسفة، هدم فيه صروحهم أو حاول هدمها، الكتاب الذي تصدى له بدوره أبو الوليد بن رشد في ضعف حجمه بكتابه تهافت التهافت، وفي الحقيقة مَن يقرأ الكتابين يرى أن ابن رشد وُفِّق في مسائل كثيرة، وكانت حُجته أقوى من حُجج أبي حامد للإنصاف، كانت حُججه في مسائل كثيرة أقوى من أبي حامد، رحمة الله على الفيلسوفين الكبيرين.
المرحوم محمد عابد الجابري له مُلاحَظة علمية ودقيقة، قال أنا أعتقد عكس ما هو شائع أن أبا حامد لم يُسئ إلى الفلسفة بمقدار ما أحسن إليها، بدليل أنه بعد عمل أبي حامد نشأت لدينا أعمال فلسفية ومناشط فلسفية لم تكن معروفة من قبل، وبدأ يُمثِّل لها المرحوم محمد عابد الجابري، وفعلاً أشياء غير داخلة في حساب لمَن يُطلِق هذا الكلام على عواهنه، فأبو حامد أثار الاهتمام بالفلسفة، فيبدو أن بعض علماء السلف كانوا مُحِقين حين كانوا يلتزمون بالصمت إزاء مسائل كهذه حتى لا تأخذ زخماً أكثر مما يُراد لها، لأن تناولها يجعل لها زخماً في حس الناس، وهذا يُعطيها حياة على عكس ما يُراد لها، علماً بأن هذه هي طبيعة الأفكار، الأفكار لا يُمكِن أن تُجتَث ولا يُمكِن أن تُقتَل، الأفكار لا تموت، الأفكار كالماء كما قال بعض الفلاسفة، الأفكار كالماء تخترق الصخر، الماء إذا أردت أن تحجز عليه حتى بصخر فإن هذا الماء ولو في مائة سنة ينقب هذا الصخر ثم يخرج، الأفكار كالماء لابد أن تنساب، ولذلك أحسن طريقة لمُواجَهة الأفكار هي بالأفكار، لا أن تقتلها ولا أن تُعدِم مَن يحملها، وإنما واجه الفكر بالفكر يا أخي، لابد من قرع الحُجة بالحُجة، أما أن تمنع وأن تحظر فهذا لا يُمكِن، انتهى عهد المنع والحظر والغلق على الناس، هذا مُستحيل وقد انتهى، فأبو حامد الغزالي إذن في المُنتصَف، لدينا الشهاب السهروردي، لدينا بعد ذلك قائمة تلاميذ أو الرشديين بشكل عام مثل ابن طُفيل وابن باجه صاحب تدبير المُتوحِّد وحتى ابن مسرة – الفيلسوف الذي اتُهِم بالزندقة – إلى حدٍ ما، ولدينا أيضاً في السياق الفارسي المير داماد أستاذ المُلا صدرا الشيرازي رحمه الله، مُلا صدرا الفيلسوف الهائل صاحب الأسفار العقلية الأربعة المشهور، في ألف وخمسين ميلادية تُوفى، أي في القرن الحادي عشر، وهذا الرجل مشهور جداً، صاحب الفلسفة الجوهرية والفلسفة المُتعالية أو الصدرائية كما تُسمى، وغير هؤلاء مِمَن يدور في فلكهم.
الفلسفة الإسلامية عند المُحقِّقين والدارسين لها استطاعت أن تُخصِّب مسائل الفلسفة الموروثة عن الأغارقة بنحو الضعفين، فقد انتهى إلى الإسلاميين في مسائل الفلسفة مائتا مسألة، وبالذات إذا تكلَّمنا عن الفلسفة يُراد بها الميتافيزياء Metaphysics، أي الميتافيزيقا، إذن هناك مائتا مسألة، فخرجت من تحت يد الإسلاميين سبعمائة مسألة، وهذا يعني أن الإسلاميين أضافوا خمسمائة مسألة جديدة لم يتعرَّض لها لا سقراط Socrates ولا أرسطو Aristotle ولا أفلاطون Plato، وفي هذا وحده ما يكفي لإدحاض وبيان تهافت شغب بعض مُؤرِّخي الفلسفة من الزاعمين أن الإسلاميين لم يُقدِّموا شيئاً للفلسفة الإنسانية وكانوا مُجرَّد ساعي بريد وواسطة وناقلة لأنهم لم يُقدِّموا شيئاً، وهذا غير صحيح، لقد قدَّموا خمسمائة مسألة جديدة تُساوي أكثر من ضعفين ما انتهى إليهم من فلسفة الأغارقة أو الفلسفة اليونانية، نأتي الآن إلى السياق الغربي، فالحقبة الوسيطة قلنا تنقسم إلى قسمين، عصر الآباء وعصر المدرسيين أو العصر المدرسي Scholastic، عصر الآباء أشهرهم هو سانت أوغسطين Saint Augustine الذي تحدَّثنا عنه قُبيل قليل، صاحب الاعترافات وصاحب مدينة الله، العصر المدرسي أبرز نجومه على الإطلاق هو توما الأكويني Thomas Aquinas – Tommaso d’Aquino – في القرن الثالث عشر الميلادي، حوالي ألف ومائتين وسبع وأربعين، هذا هو توما الأكويني Thomas Aquinas، أولاً ما معنى المدرسي؟ ما معنى الفلسفة المدرسية Scholasticism؟ الفلسفة المدرسية هي الفلسفة الدينية أصلاً التي توسَّلت المنهج العقلي وبالذات الفلسفة المشائية أو الأرسطية لتبرير الوحي الديني بالعقل، أي أن هدفها في النهاية هو هدف ديني، تُريد أن تُدافِع عن العقائد الوحيانية بإثبات وبرهنة أن عقائد الوحي لا تُخالِف مُقتضيات العقل الفلسفي بل تتطابق معه، طبعاً واضح أن هذا صدىً أيضاً للمُهِمة العظيمة التي اضطلع بها الفيلسوف المُسلِم أبو الوليد بن رشد رحمة الله تعالى عليه، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، هذا العمل الصغير هو كُتيب تقرأه في ربع ساعة لكنه عظيم القيمة وعظيم الأثر، هذا منهج ابن رشد بشكل عام، وهو القائم على تعدد الحقائق أيضاً، فكان يُؤمِن بتعدد الحقائق، لكن المُهِم هو أن هذه النظرية إشكالية، فتوما الأكويني Thomas Aquinas تأثَّر، مع أن توما الأكويني Thomas Aquinas شهد شهادة جد سيئة في ابن رشد، وهذا من باب الشعور بالنقص للأسف الذي لم يُفلِت منه الغربيون تقريباً حتى إلى اليوم، يفعلون هذا دائماً، يستفيدون منا ثم يسبوننا من باب أنهم لم يستفيدوا ولم يطلعوا على شيئ، في الحقيقة هو كان عالة على ابن رشد بشهادة كثير من مُؤرِّخي الفلسفة الغربيين، لكنه شهد شهادة في مُنتهى السوء في ابن رشد وفي إيمانه وفي عقله، مثل جون ستيوارت ميل John Stuart Mill – مثلاً – في الكتاب الشهير نظام المنطق حين تحدَّث عن مناهج الاستقراء لا أقول اقتبس بل سرق وانتحل بشكل كامل كلام الأصوليين في مسالك العلة، كما هي أخذها، ثم أتى بمثال سبَّ فيه محمداً صلى الله عليه وسلم، أي أنه لم يجد ما يُمثِّل به إلا الرسول محمداً ليسبه – عجيب – لأنه مُدرِك أنه مُجرَّد لص مُتلصِّص على تراث الإسلاميين ويُريد أن ينفي التُهمة عن نفسه فسَّب أنبل شخصية في تاريخهم، وهذه وضاعة، وضاعة نفسية للأسف الشديد، وهذا عكس الإسلاميين، الفلاسفة والعلماء الإسلاميون كانوا دائماً كلما اقتبسوا شيئاً عزوه إلى مصدره وبكل تواضع يذكرون هذا، هذه صدقية الإسلاميين.
المُهِم هذا مُلخَّص تعريف الفلسفة المدرسية، توما الأكويني Thomas Aquinas عنده كتاب في خمس مُجلَّدات – وفي الحقيقة هو كتاب له قيمته – اسمه الخُلاصة اللاهوتية، وبفضل مُترجَم إلى العربية هذا الكتاب، أتى في خمس مُجلَّدات الخُلاصة اللاهوتية، هذا أهم كتاب تركه توما الأكويني Thomas Aquinas، وطبعاً كله مدرسي الطابع، وناقش فيه مسائل لاهوتية كثيرة جداً جداً، من ضمنها – مثلاً – هل يستطيع الله أن يُغيِّر شيئاً حصل؟ نفترض – مثلاً – أن إنساناً ضرب إنساناً فجُرِح، أي هذا الإنسان جُرِح، هل يستطيع الله أن يُغيِّر هذا الشيئ؟ بمعنى أن يجعله كأن لم يحصل؟ هو قال لا، أستغفر الله العظيم، قال لا يستطيع لأن هذا حصل، يستطيع أن يشفيه، يستطيع أن يُزيل آثاره، لكنه لا يستطيع أن يجعله كأن لم يحصل لأنه حصل، أي أنه قيَّد إرادة الله هنا، وطبعاً هذه مسائل ناقشها اللاهوت الإسلامي أو علم الكلام الإسلامي بإسهاب واسع جداً، وأكثر مَن تعنت فيها ابن حزم – رحمة الله تعالى عليها – في الفِصل في الأهواء والمِلل والنِحل، وزعم أن مَن يقول بأمثال هذه الأشياء فهو كافر كفرة صلعاء وشنعاء، ويقصد الأشاعرة، الأشاعرة يرون – مثلاً – أن قدرة الله – تبارك وتعالى – لا تتعلَّق بالمُحال، هذا بعد تعريف المُحال، والمقصود طبعاً المُحال لذاته وليس المُحال لغيره، المُحال في ذاته ولذاته، الأشاعرة يقولون نعم قدرة الله لا تتعلَّق بمُحال، علماً بأن هذا الحق، هذا الحق لأن المُحال لذاته أو المُحال في ذاته لا معنى له أصلاً، ولو تعلَّقت به إرادة الله – تبارك وتعالى – وجوَّز العقل هذا لعنى هذا في آخر المطاف القضاء على نظام العقل نفسه، فدخلنا في سفسطة الآن، دخلنا في عدمية فكرية، فالأشاعرة كانوا مُتناسِقين، لكن ابن حزم لم يكن كذلك، أخذ بظواهر الأمور، كما يأخذ بظواهر النصوص في الفقه أخذ في الاعتقاد وقال الله على كل شيئ قدير، هل يدخل في كلمة شيئ الذي لا يُعَد شيئاً لأنه مُتناقِض ولا معنى له؟ هذا يعني أن قدرة الله تتعلَّق بإيجاد خالق مثله إذا كان الأمر كذلك، أليس كذلك؟ في حين أن خالقاً مثل الله لا معنى له، لا يُوجَد له معنى، لا يُمكِن أن يكون خالقاً وأن يكون مخلوقاً، هذا تناقض، هذا كلام فارغ، فليس كل ما تُعطيه اللغة يكون له صدقية عقلية، أليس كذلك؟ يُعبَّر عنه في إطار اللغة لكن لا معنى له عقلاً، وهو مُتناقِض لابد أن يُلقى به في كل وعرٍ وحزن ولا يُؤبَه به.
على كل حال توما الأكويني Thomas Aquinas مُهِم جداً لأنه سيُؤثِّر بعد ذلك على علاقة العقليين بالتجريبيين، وسيدعم الاتجاه التجريبي فلابد أن أشرحه، ما معنى الاتجاه الاسمي؟ وما معنى الفلسفة الاسمية أو أصالة التسمية Nominalism، أي المذهب الاسمي أو أصالة التسمية؟ ببساطة هناك ما يُعرَف بالكُليات، هناك ما يُعرَف بالكُليات إزاء الجُزئيات، هذا كوب وهذا كوب وهذا كوب وهذا كوب، هذه كلها جُزئيات، لكن هناك مفهوم جرَّده العقل اسمه مفهوم الكوب، ليس هذا الكوب بذاته لكن هذا مصداق له، مصداق أو مثال في الواقع، وليس هذا بذاته، لكن هذا مصداق من مصاديقه، يُوجَد شيئ اسمه الكوب مصاديقه كل الأكواب التي وُجِدَت والتي ستُوجَد حتى إلى يوم الدين، هذا اسمه المفهوم الكُلي General، أي المفهوم العام أو المفهوم الكُلي، الفلاسفة العقليون يُؤمِنون بوجود الكُلي، لكن على أي نحو؟ سنعرض – إن شاء الله – لهذا في الإبستمولوجيا Epistemology، هناك نظريات مُختلِفة من أفلاطون Plato إلى ديفيد هيوم David Hume وفي المُقابِل يُوجَد نُفاة الكُلي وهم الاسمانيون، كيف يُمكِن الوصول إلى الكُلي؟ أيضاً هذه نظريات مُختلِفة، إما بالاستذكار وإما بالتجريد، التجريد أو الانتزاع نظرية أرسطو Aristotle، الاستذكار نظرية أفلاطون Plato، هيوم Hume لا يُؤمِن بالكُلي ويرى أنه خُدعة فقط لفظية وله طريقة في تفسير نشوء هذا الوهم المُسمى بالكُلي، ديفيد هيوم David Hume الاسكتلندي، وسنعرض أيضاً إلى هذا – إن شاء الله – كما قلت لكن في الإبستمولوجيا Epistemology، الآن الذين يُنكِرون الكُليات ويرونها مُجرَّد أسماء – هذا اسم، أي أنه لفظ في اللغة فقط لكن لا حقيقة له – يُنكِرون أصالة العقل، لأنهم ليسوا فلاسفة عقليين، لا يُؤمِنون بأن العقل عنده القدرة أن يفعل هذا، ليس عنده هذا، هذا نشاط لفظي فارغي، أنت تُسميه الكوب، لا يُوجَد شيئ اسمه الكوب أصلاً، يُوجَد هذا الكوب وذاك الكوب وذلك، لكن لا يُوجَد شيئ اسمه الكوب، يُوجَد هذا فقط في المُعجَم، وبالتالي لا يُمكِن أن تقول لي هذا نشاط عقلي والعقل ولَّد هذا المفهوم، ليس العقل باللسان، هذا لفظ فقط، ليس أكثر من لفظ، الذي يعتقد هذا الاعتقاد يُسمى فيلسوفاً اسمانياً Nominalist، والمذهب هو مذهب التسمية أو الاسمية أو أصالة الاسم، وهو مذهب خطير طبعاً، ضد العقل ويُمهِّد للفلسفة المادية والفلسفة الحسية والفلسفة التجريبية، فهو كان من الاسمانيين مع أنه ينتمي إلى الحقبة المدرسية، هذا تقريباً أيضاً مُلخَّص سريع للفلسفة في العصر الوسيط إسلاميةً ومسيحية، نأتي بعد ذلك إلى التمهيد للعصر الحديث.
التمهيد للعصر الحديث كان مع عصر النهضة، وقعت وقائع وجدت كوائن أحدثت تأثيراً هائلاً في الجو العام للفكر الفلسفي، في رأس هذه الأشياء ظهور ما يُعرَف بالنزعة الإنسية Humanism، والنزعة الإنسية في بداية عصر النهضة ما هي؟ هي نوع من الردة إلى دراسة التراث اليوناني والروماني، بالذات الشعري والأدبي الذي يهتم بالإنسان وبالجوانب الحياتية والجوانب الجمالية والفنية، الآداب والفنون والمعمار وما إلى ذلكم، وصار الإنسان بحسب النزعة الهيومانية هو مركز الاهتمام، ليس الله وليس الأنطولوجيا Ontology ومباحث الوجود والميتافيزيقا وإنما الإنسان، الإنسان نفسه، لابد أن يهتم بنفسه، بصحته وبجماله وبحياته وبسعادته وباستقراره، النزعة الهيومانية واضح أنها نزعة بعيدة عن الفلسفة بمباحثها الميتافيزيقية، هذا كان أولاً، ثانيا – كما قلنا – ظهور النزعة الاسمية أثَّر أيضاً على مسار الفلسفة العقلية الميتافيزيقية، وهذه النزعة بدأ يقول بعض الفلاسفة، يشك في قدرة العقل على توليد المفاهيم الكُلية ويُناضِل من أجل ذلك، ثالثاً أيضاً سقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية على يد المُسلِمين – محمد الفاتح في ألف وأربعمائة وثلاث وخمسين – أثَّر تأثيراً هائلاً في المجال السياسي وفي المجال الاجتماعي وفي المجال الفكري الفلسفي بالذات، لماذا؟ لأن وُجِدَ أن رجال الدين الذي مثَّلوا في تلكم الحقبة الفلسفة وهي الفلسفة المدرسية مسؤولون بطريقة أو بأخرى عن هذه الهزيمة الساحقة، فقدنا الشطر الغربي والآن فقدنا الشطر الشرقي، فإذن لابد أن ننصب العداء للدين وما يُمثِّله رجال الدين بما فيه الفلسفة المدرسية، لا نُريد هذه الفلسفات كلها، هي سبب في وبالنا وخسارنا، فهذا كان له تأثير كبير، أيضاً العلم الجديد مع نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus البولندي وكيبلر Kepler الألماني وجاليليو جاليلي Galileo Galilei الإيطالي أثَّر تأثيراً هائلاً، لماذا؟ لأنه علم تظهر مزاياه وثماره محسوسةً ملموسةً مُباشَرةً ونستفيد منها ويُغيِّر حياتنا، يُغيِّر مفاهيمنا ويُغيِّر نظراتنا وكما قلنا ملموس، أما الفلسفة فهي مباحث فقط جدلية وطَحن – كما نقول – بغير طِحن، نطحن ونطحن ثم لا نرى إلا الهواء، فقالوا هذا الكلام فارغ، العلم أوثق والعلم أفضل، فظهور العلم الحديث هذا أيضاً أدى إلى تأخّر المباحث الفلسفية، خاصة أنه اعتمد المناهج التجريبية، فبدأ يعلو الآن شأن التجريب والمباحث التجريبية، لذلك هذا كله في الجُملة له أثر، طبعاً هناك كشوف جغرافية أيضاً أثَّرت، مع الكشوف الجغرافية انتبه الفرد أو المُواطَن الأوروبي لأول مرة أن هناك عوالم أُخرى واسعة جداً جداً، هذه العوالم لها أديانها ولها فلسفاتها أيضاً ولها تصوّراتها للحياة وللدين وللإنسان، فهذا معناه أن ليس ما عندنا هو فقط الصحيح وهو فقط القول الفصل في المسألة، فبدأت بذور الشك تُنبِت نبتاً جديداً، بدأ الناس يشكون في صدقية وفي حقية ما عندهم، بعض المُؤرِّخين الظرفاء يقول كان عودة المُبشِّرين الذين خرجوا من أوروبا يُبشِّرون بالدين المسيحي سبباً رئيساً في انتشار الإلحاد والشرك، لماذا؟ لأنهم خرجوا يظنون أن العالم كله يحتاج إلى السيد المسيح لإنقاذه وأنه بغير رسالة المسيح العالم في مُدلهِمات وفي حندس وفي ظُلمات مُتراكِبة، فمثلاً بلغوا الشرق الأقصى ووجدوا الصينيين يعيشون آلاف السنين بفلسفات دقيقة وعميقة ويقوم عليها استقرار المُجتمَع وهناء الناس، هناك الكونفوشيوسية – مثلاً – والطاوية، فشك المُبشِّرون أنفسهم وعادوا ناقلين هذا الشك لأقوامهم، فهذا أيضاً ساهم في بذر بذور الشك في المُجتمَع، كل هذه الأشياء نعم بذرت بذور الشك فرأينا عصر الشك الآن وقد علا نجمه مما قد وجد أثره المُعاكِس، وهذه ظاهرة فكرية تحدث باستمرار، كل فكر لابد أن يُولِّد نقيضه وهكذا باستمرار عبر العصور، الآن لدينا شك فلابد أن تتولَّد فكرة ضد الشك ثم شك في هذه الفكرة وهكذا، هذه طريقة الفكر الإنساني، فجاء لدينا أول الفلاسفة المُحدَثين في العصر الحديث وأعظمهم قامةً وهو الفيلسوف والرياضي والمُهندِس الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes المُتوفى سنة ألف وستمائة وخمسين، ديكارت Descartes جاء لكي يتصدى للشك ولكي يهدم بُنيان الشك، طبعاً الذي يعرفه الناس والعامة أنه فيلسوفٌ شكّاك، أي أنه يشك، لكن هذا غير صحيح، هو لم يشك شكاً مذهبياً، شكه كان شكاً منهجياً، اعتمد الشك كمنهج لكي يسبر ما يُزعَم أنه حقائق ولكي يفرز الحقائق من الأباطيل والمُجازَفات، وهكذا كان، فبدأ بالشك وانتهى إلى اليقين، هذه طريقته في الشك المنهجي، فهناك شك مذهبي كشك الشكّاك أنفسهم، هذا شك مذهبي، هو يشك من أجل أن يشك فقط وإن شكَّك غيره، أم شك ديكارت Descartes اسمه شك منهجي، يتخذ الشك سلماً فقط لكي يصعد به، فإذا صعد به ألقاه واستغنى عنه، منهج ووسيلة وطريق يُسار فيه حتى إذا بلغنا الغاية انتهت وظيفة هذا الطريق، هذا معنى المنهج، المنهج هو الطريق، النهج والطريق والسبيل، فشك ديكارت Descartes كان شكاً منهجياً، وعنده أُمثولة مشهورة وهي أُمثولة سلة التفاح، كتب إلى أحد أصدقائه يقول له نحن لا نستطيع أن نُميِّز الحق من الباطل حتى نُعيد اختبار كل آرائنا، لابد أن نُعيد اختبار كل الآراء، ليس فقط بعض الآراء وإنما كلها، قال ومثل هذا مثل سلة فيها تفاح، فيها تفاحات سليمة وصحيحة وفيها ربما تفاحة أو أكثر من تفاحة معطوبة، إن تركناها سرى وتمادى العطب من المعطوب إلى الصحيح فانعطب الجميع، هكذا تفعل الأفكار المريضة والمُعتَلة وقد تكون قاتلة كما سماها مالك بن نبي، هناك أفكار قاتلة وهناك أفكار مُعوَّقة ومريضة ومُعتَلة وجامدة وقد تفعل فعل السم وفعل المُبيد للأفكار الصحيحة، فلابد أن نفرز، فقال نُفرِغ سلة التفاح من عند آخرها، وبعد ذلك لا نُعيد إلى السلة – طبعاً السلة هي أُمثولة للدماغ وللعقل – إلا التفاحة السليمة، نتأملها فإذا كانت سليمة نضعها، أما إذا كانت معطوبة نستبعدها، وهكذا نكون بمنجاة من أن تغتال الأفكار الباطلة الحقائق الصحيحة التي ينبغي أن تُودَع في أذهاننا، وهذه خُطة سليمة طبعاً، حين نقرأ نحن مقال عن المنهج التي ترجمها الفيلسوف المصري الشهير عثمان أمين نجد أن ديكارت Descartes نُسخة لا أقول مُطوَّرة كثيرة وإنما نُسخة شبه مُتطابِقة من أبي حامد الغزالي، قبل أن تقرأ مقال عن المنهج لابد أن تقرأ المُنقِذ من الضلال، واضح أن الرجل مُتأثِّر تأثراً بعيداً وعميقاً بأبي حامد الغزالي.
هناك باحث تونسي نسيت اسمه لأنني قرأت هذا قبل حوالي عشرين سنة أثبت بالدليل وبالبرهان وصوَّر هذا في سبعينيات القرن العشرين المُنصرِم أن رينيه ديكارت René Descartes سرق أبا حامد الغزالي، سرقه سرقة حقيقية، كيف؟ في المكتبة الوطنية بباريس وصل إلى النُسخة المنقولة من المُنقِذ من الضلال – وطبعاً نُقلِت إلى اللاتينية وما إلى ذلك – ووجد عليها تعليقات بخط ديكارت Descartes بالقلم، وديكارت Descartes يكتب تقريباً في مُعظَم الصفحات تُنقَل إلى مقالة في المنهج، يحد بعض الفقرات ثم يكتب: تُنقَل إلى مقالة في المنهج، تُنقَل إلى كتابنا المنهج، تُنقَل إلى مقالة في المنهج، وهكذا بالخط الأحمر، هذا الباحث التونسي وجد ذلك بخط ديكارت Descartes، وهذه سرقة واضحة، ولم يُشِر إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد على أنه فكره، ثم أين هذا؟ الكوجيتو – Cogito ergo sum – الديكارتي أنا أُفكِّر إذن أنا موجود في الحقيقة هو ليس برهاناً وليس طريقة جديدة في الاستنباط ومُتهافِت وضعيف تماماً، أنت حين تقول أنا أُفكِّر مُباشَرةً أنت تقول أنا، إذن أثبت وجوداً للأنا، إذن أنت مُوقِن من وجود ذاتك، لا تحتاج أن تستدل عليه لكي تقول لي أنا أُفكِّر إذن أنا موجود، أنت موجود حين قلت أنا، فهذه ليست طريقة دقيقة بالمرة، هذا البرهان بالذات – أنا أُفكِّر إذن أنا موجود – سُبِق إليه ديكارت Descartes على الأقل مرتين، أول مَن قال سانت أوغسطين Saint Augustine، أوغسطين Augustine قال أنا أُفكِّر وأشعر وأنا موجود، أي إذن أنا موجود، وأما ابن سينا في الشفاء فقد ذكره تماماً أيضاً ونقده، قال هذا البرهان لا يجوز، غير صحيح، نقده من ثلاثة وجوه ابن سينا، لكن ديكارت Descartes غُرَّ به واعتبر نفسه فيلسوفاً هائلاً، وإلى الأن الناس يعتبرون أنه من مُبتدَعات وخوالد ديكارت Descartes، أعني الكوجيتو – Cogito – الديكارتي، هذا غير صحيح، برهان ضعيف جداً جداً جداً على كل حال، لكن ديكارت Descartes بشكل عام – كما قلنا – تصدى للشك، وكان فيلسوفاً عقلانياً – Rationalist – واعتمد المباديء العقلانية واعتمد الحدس أيضاً، آمن بدور الحدس – Intuition – في الوصول أيضاً إلى الحقيقة مُتعاطِفاً ومُتآزِراً مع المباديء العقلية، بعد ديكارت Descartes أتى فلاسفة يُسمون بالديكارتيين، أيضاً ساروا في مسار ديكارت Descartes في مُعارَضة الشك وفي خدمة الفلسفة بالصورة الحديثة، من أشهرهم باروخ سبينوزا Baruch Spinoza اليهودي الهولندي من أصل إسباني، مشهور سبينوزا Spinoza ورسالة في اللاهوت والسياسة وحياته الصاخبة وكذا، وقد مات في حدود الأربعين من عمره، فيلسوف كبير لكنه كان وحدوياً Pantheist، كان يُؤمِن بوحدة الوجود، لا يعتبر أن الله ذات مُتميِّزة من الخلق والخليقة وإنما شيئٌ واحد، كما قلنا عن أفلاطون Plato هو هكذا، القوانين السارية المُدبِّرة لهذا الوجود هي الله نفسها، فالوجود والله شيئ واحد لا يُمكِن تمييز أحدهما من الآخر، هذا معنى الوحدوية Pantheism، أي وحدة الوجود، هذه النظرية الهندية الشهيرة، باروخ سبينوزا Baruch Spinoza جاء بعده جوتفريد فيلهلم لايبنتز Gottfried Wilhelm Leibniz صاحب النظرية المشهورة بالمونادات، علم المونادات، باختصار كان لايبنتز Leibniz يعتقد أن كل شيئ مُكوَّن من المونادات Monads، ما هو الموناد؟ شيئ دقيق جداً جداً مُغلَق على نفسه – غير مفتوح – ويحوي صورة وسر العالم كله – كل شيئ – لكن تتمايز هذه المونادات إلى أن ترتقي إلى موناد المونادات وهو الله تبارك وتعالى، هو سماه هكذا، موناد المونادات هو الله تبارك وتعالى، كأنه يقول في كل شيئ مهما صغر ومهما ضؤل – ما يُسميه المونادات – يستكن كل شيئ أيضاً، هذا يُذكِّرنا الآن بالتصوير الهولوغرافي، يُمكِن أن تأخذ أي دقيقة منه لتُعيد إنتاج الصورة كاملةً، فهذا موجود وطبعاً هذه التقنية معروفة في التصوير، لكن هذه في المجال العقلي المثالي طبعاً، هذه فلسفة مثالية في نهاية المطاف، لدينا إذن باروخ سبينوزا Baruch Spinoza ولدينا جوتفريد فيلهلم لايبنتز Gottfried Wilhelm Leibniz ولدينا أيضاً مالبرانش Malebranche وهو ديكارتي كبير، وكوندياك Condillac أيضاً، مالبرانش Malebranche عُرِف أكثر ما عُرِف بنظريته في الخلق المُستمِر وهي نظرية غزالية بل نظرية أشعرية، الأشاعرة يُؤمِنون بعدم إمكان بقاء العرض زمانين، أخذنا نحن تعريفاً عاماً لكلمة العرض، العرض لا يبقى زمانين، ما معنى أنه لا يبقى زمانين؟ لابد أن يُخلَق العرض في كل زمان زمان وباستمرار، مَن الذي يخلق؟ هو الله – تبارك وتعالى – طبعاً باستمرار، ولذلك الله – عز وجل – ليس مُجرَّد خالق بل هو خلّاق عليم، وهذه نظرية هائلة ولها بُعدها الصوفي أيضاً والعرفاني، أنا شخصياً أُؤمِن بها، أُؤمِن بأن الله – تبارك وتعالى – يتولى إعادة خلق العالم باستمرار، تُوجَد أمداد مُتوالية باستمرار لو انقطعت في أقل من لحظة أو أقل من لُحيظة يطوي العدم الكون مرةً أُخرى وينتهي كل شيئ، قال الله وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ ۩، فقط مُجرَّد أن ينقطع هذا المدد ينتهي كل شيئ، تماماً كهذه الصالة الجميلة التي نجلس الله فيها – جمَّل الله أيامي وأيامكم بالستر والعافية إن شاء الله – مثلاً، طبعاً لو جاء إنسان من العصورالقديمة ولا علم ولا دراية له بشيئ اسمه الكهرباء وهذه الأضواء والمصابيح سيظن من بعيد أن هذه الصالة تُنير من ذاتها، تُوجَد خاصة مُعيَّنة في السقف والجدران تجعلها تلتمع كالكهرمان – مثلاً – وما إلى ذلك، فهو يظن هكذا، لكن لو جاء المُوظَّف هنا ونزل الزر في لحظة ستغرق في الظلام، في لحظة أو في أقل من لمح البصر ستغرق في الظلام وسيقع هذا الرجل في الدهشة والعجب لأنها ليست مُضيئة من ذاتها، والكون ليس قائماً بذاته، أليس كذلك؟ لا يقوم بذاته، هذا معنى أن الله هو الحي القيوم، فيعول كما يقول الصرفيون، من القيام، أي أنه يقوم بذاته – لا إله إلا هو – لكن به يقوم كل شيئ، قال الله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا – أي ما، هذه ما النافية هنا – مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ۩، لا إله إلا هو، فهذه باختصار نظرية الخلق المُستمِر، مالبرانش Malebranche كان أشهر القائلين في السياق الأوروبي بالخلق المُستمِر مُتأثِّراً بالنظرية الغزالية وهي الأشعرية في أصلها، لأن العرض لا يبقى زمانين وهكذا.
ننتهي من هؤلاء ونأتي بعد ذلك إلى الفيلسوف الشهير فرانسيس بيكون Francis Bacon وبعد ذلك خلفه جون لوك John Locke، العلاقة بينهما أنهما فيلسوفان تجريبيان، فرانسيس بيكون Francis Bacon كان مُعاصِراً لديكارت، هذا إنجليزي وديكارت Descartes فرنسي، ديكارت Descartes تُوفيَ في ألف وستمائة وخمسين أما فرانسيس بيكون Francis Bacon تُوفيَ في ألف وستمائة وست وعشرين، وهو صاحب الـ Novum Organum، أي الأداة الجديدة، طبعاً الأداة القديمة هي المنطق – Logic – الأرسطي، هذه الأداة القديمة في التفكير، فرانسيس بيكون Francis Bacon قال لا نُريدها، الأداة القديمة وهي المنطق الأرسطي ما عادت صالحة لنا، هذا غير مُفيد وقد استُهلِك وإلى حدٍ ما نستطيع أن نقول فرانسيس بيكون Francis Bacon وأمثاله عندهم الحق، لو نحن رأينا الطريقة الكلاسيكية في التفكير سنتساءل كيف كانت تقوم؟ تقوم على ثلاثة أنماط، على التمثيل وعلى الاستقراء وعلى القياس، لا أتكلَّم بلغة أصول الفقه – انتبهوا لوجود فرق – وإنما أتكلَّم الآن بلغة المنطق الأرسطي، فما هو التمثيل؟ وما هو الاستقراء؟ وما هو القياس؟ باختصار التمثيل هو انتقال وارتحال من جُزئي إلى جُزئي، أن يثبت لدينا مُشابَهة أو مُماثَلة أو حتى مُطابَقة من وجوه كثيرة أو من كل وجه بحسب الظاهرة بين شيئين، ويثبت لأحدهما حكم، مُباشَرةً ننتقل إلى إثبات الحكم هذا إلى الشبيه، هذا يُسمى التمثيل، أي نقل الحكم من جُزئي إلى جُزئي لوقوع المُشابَهة، هذا يُسمى في لغة المنطق بالتمثيل، انتقال من جُزئي إلى جُزئي، أما الاستقراء – Induction – فهو انتقال من جُزئي إلى كُلي، هذا منهج العلوم، وهو قسمان، استقراء تام واستقراء ناقص Perfect and imperfect induction، الاستقراء التام هو الذي يستوعب كل الأفراد في كل الحالات، مثلاً نأتي نقول الأسبوع سبعة أيام ونعدها ونُعطيها حكماً، هذه أيام الأسبوع إذن ولا يُوجَد ما هو أكثر منها، يُقال هذا استقراء تام، الاستقراء الناقص كالتالي، هذه قطعة معدن تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، وهذه قطعة معدن آخر، وهذه قعطة ثالثة ورابعة وخامسة وهكذا، والآن نختبر خمسمائة أو خمسة آلاف لكن من بلايين القطع، لا نختبر الكل، هذا استقراء ناقص، ثم نخرج بالقانون الكُلي، إذن هو سير من جُزئي إلى كُلي، ونقول ماذا؟ كل معدن يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة، هذا حكم استقرائي ثبت بالاستقراء، طبعاً تُوجَد فجوة مُعيَّنة، ما الذي سوَّغ لنا أن نكون على يقين أو على إيمان أو على جزم أو حتى ترجيح أن كل القطع التي لا نختبرها وهي حتماً وبالضرورة أكثر بكثير مما وقع اختباره ستخضع لنفس الحكم؟ أليس كذلك؟ كيف نختبرها نحن؟ هذا مُستحيل، الباقي لا يعده إلا الله، كيف عرفنا أن كل قطعة ستخضع لنفس الحكم، تُوجَد فجوة هنا وهي فجوة ليست سهلة، أرسطو Aristotle فشل في أن يسدها، آخر مَن حاول علاجها برتراند راسل Bertrand Russell الفيلسوف الإنجليزي المُلحِد، وفشل أن يسدها، يُوجَد رجل واحد حاول أن يسدها ونجح في سدها، الفيلسوف العراقي الشيعي المرحوم محمد باقر الصدر في عمله الجبّار غير المسبوق في أربعمائة وخمسين صفحة – شيئ عجب – الأسس المنطقية للاستقراء، شيئ عجيب، أنا أنصح كل فيلسوف وكل طالب فلسفة أن يقرأ هذا الكتاب، لكن هذا طبعاً سوف يكون تحدياً، قراءة هذا الكتاب تُشكِّل تحدياً حقيقياً للذكاء الإنساني، كتاب عجيب وغريب، طبعاً قرأه أكثر من فيلسوف في الشرق والغرب، منهم الفيلسوف المصري الكبير – رحمة الله عليه – زكي نجيب محمود، وقال حين قرأه إن مُؤلِّف هذا الكتاب فيلسوفٌ حقاً، طبعاً زكي نجيب محمود لم يكن فيلسوفاً، هو دارس فلسفة ومُدرِّس فلسفة مثل بدوي وحسن حنفي والدكتور إمام وما إلى ذلك، ليس عنده فلسفة خاصة، لكنه قال باقر الصدر فيلسوف حقيقي، الرجل أنتج فلسفة وأضاف شيئاً عجز عنه أرسطو Aristotle لأنه كان فيلسوفاً مع أنه لم يكن يُتقِن أي لغة أجنبية لكن عده دماغ فلسفي يتحرَّك فعلاً حركة مضبوطة ودقيقة جداً جداً، فسبحان مَن أعطاه، فهذا هو الاستقراء، إذن يُوجَد الاستقراء التام والاستقراء الناقص، بعد ذلك يُوجَد القياس، القياس انتقال من كُلي إلى جُزئي، عكس ماذا؟ عكس الاستقراء، انتقال من كُلي إلى جُزئي، بمعنى أن الحكم الذي ننتهي إليه في النتيجة يكون مُنذ البداية مشمولاً في ومُضمَّناً في المُقدِّمات، شرطه لكي يكون قياساً صحيحاً – يُسمونه قياساً برهانياً وعنده شروط طبعاً في المنطق وأشياء ضمن مباحث كثيرة – أن تكون المُقدِّمات سليمة صحيحة، لا تكون مدغولة أو مدخولة، وإلا لا شك نقع في خطأ لدى استخراج أو استيلاد النتيجة، فهذا هو أسلوب التعقل، هذا أسلوب التعقل بأصنافه المُختلِفة من تمثيل ومن استقراء ومن قياس.
فرانسيس بيكون Francis Bacon قال هذا الأسلوب كله على بعضه بكل مراحله غير مُفيد وغير مُنتِج، في نهاية المطاف أنت لن تصل إلى جديد، طبعاً لن تصل بهذه الطريقة إلى شيئ جديد حقيقةً، فلابد أن نتخذ أسلوباً آخر، ما هو؟ قال أسلوب التجريب، نعم نعتمد الاستقراء لكن ليس الاستقراء فقط في الحدود النظرية، لابد أن يُدعَم ويتظاهر بالتجريب، لابد من اختبار هذه الأشياء تجريبياً وباستمرار، ونتخلى عن بقية الوسائل الأُخرى، وسماه الآلة الجديدة، وحاول طبعاً أن يدعم عمله ببعض الأشياء البسيطة – لم يكن فيلسوفاً تجريبياً عملياً وإنما كان نظرياً – ومات بسبب ذلك، أراد فرانسيس بيكون Francis Bacon أن يختبر إمكانية حفظ اللحوم في درجات حرارة مُتدنية، فأتى بدجاجة والمُهِم أنه دفنها في ثلج وخرج في يوم مُثلِج شديد الصقيع والبرودة وكان مُصاباَ بمرض، فكانت تلك الخرجة سبب حتفه، لقيَ فيها حتفه ولم يصل إلى النتيجة، أي أنه كان يُحاوِل، علماً بأنه كان رجلاً موسوعياً إلى حدٍ ما وله إسهامات كثيرة وكان رئيس وزراء وكان سياسياً وفشل في السياسة ودفع الثمن مثل ابن خلدون، أي أن الرجل عنده رحاب واسعة، الأستاذ العقّاد عنده كتاب عنه، فهو ترجمه في كتاب، أعني فرانسيس بيكون Francis Bacon، فإذن فرانسيس بيكون Francis Bacon فيلسوف تجريبي في خُطته العامة ضد الفلسفة العقلية والتأملية، ليس مُتعاطِفاً معها، سار في أثره أو في مساره فلاسفة تجريبيون كبار آخرون، أشهرهم ثلاثة، جون لوك John Locke هو فيلسوف تجريبي كبير ومُهِم، وجون لوك John Locke تُوفيَ سنة ألف وسبعمائة وأربعة في أول القرن الثامن عشر، بعده بمائة سنة بالضبط إيمانويل كانط Immanuel Kant، وقد تُوفيَ في ألف وثمانمائة أربعة، إذن هناك مائة سنة بينهما، وجون لوك John Locke هو الأشهر من بين هؤلاء والأكثر قرباً وتعاطفاً مع المنهج العقلي.
(تابعونا في الحلقات القادمة)
أضف تعليق