بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، يُوافي نعمك ويُكافيء مزيدك، نعوذ برضاك من سخط ونعوذ بمُعافتك من عقوبتك ونعوذ بك منك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.
أما بعد إخواني في الله وأخواتي:
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، ومع المبحث الأخير – إن شاء الله – من مباحث الفلسفة وهو مبحث القيم، أي الإكسيولوجيا Axiology، طبعاً هذه القيم التي بحث فيها الفلاسفة عبر العصور البحث فيها لم يستجد في القرن العشرين، إنما الذي استجد فوق هو المُصطلَح، الإكسيولوجيا Axiology لأول مرة يُستخدَم في بدايات القرن العشرين، ولأول مرة تُكتَب دراسات تحت هذا العنوان في القرن العشرين، لكن المادة والموضوعات والمسائل نفسها قديمة قِدم الفلسفة، بدايةً لموضوع القيم أو علم القيم يتحدَّث الفلاسفة والدارسون عن نوعين من القيم، قد يكون الشيئ غايةً في ذاته وليس وسيلةً إلى غيره، بمعنى أننا حين نذهب نُقوِّمه – نُقوِّم هذا الشيئ – فإنما ننظر إليه على أنه غاية لا يُسار إلى شيئٍ بعدها، فيُقال حين إذن إن قيمته باطنية، إن قيمته ذاتية، إن قيمته جوهرية، هذا نفس الشيئ، أسامٍ مُتعدِّدة لمُسمى واحد، وقد ننظر إلى الشيئ تقويمياً على أنه وسيلة تُصطنَع وتُتخَض لبلوغ هدف وغاية وراءها، وحين إذن يُقال في تقويمه إن قيمته خارجية أو وسلية Instrumental، أي قيمة وسلية، لأن طبعاً النسبة إلى فعيلة في الصرف العربي فعلي، المفروض أن نقول – مثلاً – هذا رجل مدني، ونحن نقول هذا، لا نقول مديني، نقول مدني من المدينة المُنوَّرة مثلاً، ونقول قبلي ولا نقول قبيلي لأنها من قبيلة، وهكذا النسبة إلى فعيلة فعلي، وهذا سر قولنا وسلي لأن النسبة إلى وسيلة، المُهِم هذه قيمة خارجية أو قيمة وسلية إذن، طبعاً واضح أن هذه الأشياء والقيم الخارجية أو الوسلية ليست محل عناية البحث الفلسفي، الفلاسفة لا يهتمون بهذه الأشياء، يهتم بها غير الفلاسفة، مثلاً إذا أردنا أن نُقوِّم الزهرة – مثلاً – وجمال الزهرة هل قيمة جمال الزهرة قيمة داخلية أم قيمة خارجية؟ واضح أنها قيمة داخلية تقف عند ذاتها، لكن العربة أو السيارة – مثلاً – الأصل فيها أن تكون قيمتها وسلية أو قيمة ذاتية؟ وسلية، إنما تُراد للأغراض التي من أجلها صُنِعَت، الإنسان طبعاً لكونه كائناً فناناً وكائناً يُثقِّف ويفتن في كل شيئٍ حوله يُفرِّق طبعاً بين سيارة وسيارة ويُدخِل عليها من صنوف وألوان التحسينات والفنيات ما يجعل أيضاً لها قيمةً جماليةً تُراد لذاتها ولا تُراد وسيلةً، فهذا موجود، حتى الطعام الذي نأكله نحن نُريده وسيلةً لشيئٍ آخر، لكن مع ذلك نُضفي عليه جواً وطابعاً من الجمال، والعامة تقول أو يقولون العين تأكل قبل الفم، فالإنسان حتى مُثقَّف وكائن مُفتَن حتى في أكله، بخلاف – أكرمكم الله وأكرمكن – البهائم والوحش والحيوانات، فهي لا تهتم بهذا الشيئ، المُهِم أن تأكل فقط وينتهي الأمر.
إذن القيم الذاتية أو القيم الجوهرية الباطنية هي التي يعتني بها البحث الفلسفي، هناك مسألة أُخرى أيضاً كمُقدِّمة لبحث القيم اختلفوا فيها، اليوم أعطاني أخ فاضل – الأخ عبد الله – ورقة يسأل عن هذا الموضوع، هذه القيم هل هي صفات عينية في الأشياء بمعنى أنها كامنة فيها وقارة فيها بغض النظر عن عقل مُدرِكها ومُتلقيها – أي مُستقِلة عنا – ومن ثم هي موجودة فينا كأشياء عينية وكصفات عينية أما أنها من ابتداع العقل واختياره والتواضع عليها فالعقل البشري الاجتماعي أو المجموعي يتواضع؟ هناك مذهبان في هذه المسألة، وسوف نأتي على التفصيل بعد قليل إن شاء الله تبارك وتعالى، في العصر الحديث جمهرة الحديث عادوا إلى القول بأنها صفات عينية، قالوا الصفات عينية، ليست مُخترَعة وليست من وضع العقل ولا مُواضَعات المُجتمَع، وهناك اتجاهات مثلاً كالبراجماتيين العلميين، أي الفلاسفة العمليين ومثل الوضعيين بشكل عام، الوضعية بكل مذاهبها وأجنحتها قالت لا، هذه ليست صفات عينية وإنما هي من اختراع العقل وصُنع المُجتمَع، هكذا كانوا ينظرون إليها.
زعيم الوضعية المنطقية في بريطانيا تُوفيَ قبل فترة ليست بالبعيدة هو ألفريد آير Alfred Ayer صاحب كتاب “اللُغة،الحقيقة، والمنطق”، وهو الكتاب الأشهر طبعاً في الوضعية المنطقية في بريطانيا وقد طبعه أكثر من طبعة وجدَّد فيه وحذف، المُهِم أنه يرى القيم بشكل عام كالتالي، طبعاً نُريد الآن القيم الأخلاقية والجمالية وليس القيم المنطقية، رأيه في القيم المعرفية ناقشناه لدى كلامنا عن الوضعية المنطقية في الإبستمولوجيا Epistemology، لكن الحديث الآن عن القيم الأخلاقية وما إليها والجمالية، قال هذه ليست صفات عينية وليست من باب القضايا التي يُمكِن أن تكون صادقة أو كاذبة، عُدنا إلى طريقتهم، ليست من باب القضايا التي التي يُمكِن أن تكون صادقة أو كاذبة وإنما هي مُجرَّد تعبير عن وجدانات ومشاعر، قال وهذه لا تدخل في بحثنا، هذه لا علاقة لنا بها، قال وإذا أردنا أن نقول أنها أوامر فهي أوامر مُضلِّلة، في الحقيقة هي ليست قضايا يُمكِن أن تدخل في البحث المعرفي من جهة الوضعية المنطقية، هذا موقفه وهو موقف أيضاً يتسم بغير قليل من السذاجة.
نأتي الآن إلى الحق، القيم التي يبحثها الفلاسفة عموماً ثلاثة، كما قلنا نستطيع أن نقول ثلاثة أو ثلاث، نقول ثلاث قيم وقيم ثلاثة أو ثلاث، هي الحق والخير والجمال، الحق له علاقة بماذا؟ بالمنطق، والخير ماذا يُراد به؟ الخير والشر والأخلاق، والجمال هو الأستاطيقا Aesthetics، أي علم الجمال، فهذه هي القيم، وهي قيم ثلاثة كُبرى، الحق والخير والجمال، بعض الناس قال لماذا لا نقترح الحرية؟ لماذا لا نقترح العدل؟ لكن طبعاً الفلاسفة لم يقترحوا هذه الأشياء على هذا النحو، هم أدق من هذا، الفلاسفة لا يتورَّطون في هذا، بعضهم اقترح التقديس Holiness، قال قيمة القداسة، الإنسان عنده هذه القيمة، ينزع إلى أن يخلع القداسة على أشياء كثيرة، عصرنا هذا كما سماه ماكس فيبر Max Weber – من كبار مُؤسِّسي علم الاجتماع الألماني الحديث، وصاحب الطروحات المشهورة في أخلاق الرأسمالية – عصر نزع القداسة، فماكس فيبر Max Weber كان يرى أن عصرنا هذا هو عصر نزع القداسة، وهذا العصر فعلاً للأسف كذلك، في الغرب هم يعملون على هذا ويسيرون في هذا الطريق، ولذلك يسيرون في طريق ماذا؟ في طريق الخواء والعدم والظُلمات، لأن جُزء أصيل جداً في الإنسان هو التقديس، وهو جُزء ديني، هذا روحٌ دينيٌ أصيلٌ، هم قالوا لا، ينبغي ألا تكون هناك قداسة لأي شيئ، ولذلك شيئ طبيعي أن يتعاملوا بطريقة غير لائقة مع أنبيائهم وحتى مع أربابهم، يتعاملوا مع عيسى الرب على أنه كذا وكذا وأنه شاذ جنسياً، وهذا شيئ فظيع، هناك روايات وأفلام عن هذا، فإذا تكلَّموا عن رسولنا – عليه السلام – الكريم بكلمة أو بصورة غضبنا غضبة مضرية، وهم لا يفهمون لماذا، لماذا هؤلاء الناس مُتقوقِعون هكذا؟ لكن نحن لسنا مُتقوقِعين، نحن بشرٌ طبيعيٌ، البشر الطبييعي ينزع إلى التقديس يا أخي، لابد أن تكون له مُقدَّسات حقيقية، أنتم تُريدون نزع القداسة عن كل شيئ وهذا ليس مسلكاً بشرياً، فهذه القيمة نعم اقترحها جماعة من الفلاسفة لكي تكون قيمة رابعة، بعضهم اقترح قيمة قريبة منها، وهاتان هما أشهر القيم التي اقتُرِحَت عدا القيم الثلاثة المُتفَق عليها، وهي قيمة ماذا؟ العبادة، أي Worship، قالوا العبادة، لكن هذا غير ضروري لأن قيمة التقديس طبعاً قريبة جداً من قيمة العبادة، العبادة مُرتبَطة تقديس، لا عبادة لغير مُقدَّس، طبعاً مع عدم وضوح مُصطلَح المُقدَّس في ذهن أكثر الناس، قبل ربما أسبوع من مجيئي هنا جاءني أخ بعد صلاة الجُمعة وقال لي هناك مُشكِلة كبيرة يا شيخ، قلت له ما هي؟ قال لي ماء زمزم، فقلت ما له؟ قال الآن تُوجَد اختبارات وأشياء في بريطانيا أنه كذا وكذا، فقلت له وما المُشكِلة؟ إذا وجدوا فيه بعض الميكروبات وشيئ من الزرنيخ وما إلى ذلك سوف يكون هذا أمراً عادياً، يُمكِن أن يُعالَج وأن يُنقَّه، قال لي كيف يا أخي؟ هذا مُقدَّس، قلت له كيف يكون مُقدَّساً وتستنجي به؟ طبعاً زمزم يُمكِن أن تغتسل وأن تستنجي به وأن تقضي به حاجتك، فضرب رأسه واكتشف أنه غبي وأنه عبيط، قلت له كيف يكون مُقدَّساً؟ من أين لك هذا؟ قال لي الكل يقول أنه مُقدَّس، قلت له نحن نقول ما لا نفهم للأسف الشديد، كيف يكون مُقدَّساً وتستنجي به وتستغل به مع عدم المُؤاخَذة؟ قال لي صحيح يا أخي، قلت له هذا هو، المُقدَّس الحقيقي إذا كنت تُريد المُقدَّس هو الله – تبارك وتعالى – وما تعلَّق به، محمد – صلى الله عليه وسلم – ليس مُقدَّساً، قال لي كيف؟ قلت له هو ليس مُقدَّساً بالمعنى الحرفي، هل يُوجَد عندك دليل على أن النبي اسمه قدوس أو مُقدَّس أم أن ربنا هو القدوس؟ قال لي الله هو القدوس، قلت له الله قدوس وكلامه مُقدَّس، كلامه مُقدَّس لأنه منه ومنه خرج سبحانه وتعالى، قلت له النبي بشر – صلى الله عليه وسلم – معصوم وليس مُقدَّساً، وهو معصوم بالمعنى القرآني للعصمة، فالقرآن لا يقول حتى الأنبياء لا يُخطئون، القرآن يُؤكِّد خطأ الأنبياء، ملآن القرآن يا أخي وطافح بأنهم أخطأوا، أليس كذلك؟ حتى رسول الله قال الله له عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ۩، وقال عنه عَبَسَ وَتَوَلَّى ۩، هناك آيات كثيرة، لكن هو يُخطيء في أمور صغائر مُتَؤَوِّلًا يُريد الخير، هذا هو، لا يتعمد النبي الوقوع في صغيرة واحدة، هذا معنى العصمة وهذا الصحيح، وهذا رأي مُعظَم أهل السُنة والجماعة خلافاً للشيعة، الشيعة يقولون النبي معصوم قبل البعثة وبعد البعثة من الكبائر ومن الصغائر على جهة السهو والعمد والخطأ والتأوّل، وهذا غير صحيح، القرآن يقول أخطأوا لكن أخطأوا مُتَؤَوِّلًين:
رَامَ نَفْعَاً فضرَّ مِنْ غَيْرِ قصْدِ وَمِنَ البرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا.
هذا مُمكِن، فقلت له هذا هو، هذه هي العصمة، تُوجَد عصمة للأنبياء لكن لا تُوجَد قداسة، ما معنى القداسة؟ أنه مُنزَّه، أي لا يموت – ولك أن تتصوَّر هذا – ولا يمرض ولا يضعف ولا يُخامِره يأس ولا يتخوَّنه ملل ولا ولا ولا، مُقدَّس تعني أنه إله كامل Perfect، قال لي نعم، قلت له الله هو المُقدَّس – لا إله إلا هو – إذا أردت المُقدَّس، كيف تقول لي عن ماء زمزم أنه مُقدَّس؟ غير مُقدَّس، يُوجَد شيئ اسمه مُكرَّم أو فيه بركة أو فيه معنى من معاني الخير، لكنه ليس مُقدَّساً، المُقدَّس هو الله، القدوس هو الله، ماء زمزم نشربه ويخرج – أكرمكم الله – بولاً وما إلى ذلك، لكنه ماء مُبارَك، أليس كذلك؟ الله سمى ماء السماء ماءً طهوراً، وماء زمزم كذلك وفيه بركة، ولو لم يكن من بركته إلا أنه يسقي الناس من فترة مُتمادية دون أن ينضب – بفضل الله عز وجل – أو يذهب لكان هذا آية من آيات الله، هذا هو، فيُعالَج إذن، نُعالَجه دون أن نتسبب في أي مشاكل، ولا يهز هذا في اعتقادنا ولا في يقيننا شيئاً ببركة هذا الماء وليس بقدسية هذا الماء، إذا ثبت بنص مُعيَّن أن ماء زمزم مُقدَّس وأنه ماء من ماء الجنة – مثلاً – ولا يعتوره كذا وكذا وكذا وثبت وجود الزرنيخ وهذه الأشياء سوف نقول هذا يعني وجود خطأ في النص، أليس كذلك؟ لابد أن نكون دقيقين، على كل حال الذين تكلَّموا عن العبادة على أنها قيمة رابعة نقول لهم العبادة لا تكون إلا لمُقدَّس، الله هو الذي يُعبَد، وعندهم الآلهة تُعبَد وهي مُقدَّسة – Holy – طبعاً، فالعبادة والتقديس شيئٌ واحد في نهاية المطاف، نحن لا نُريد أن نتخذهما قيمة زائدة، لماذا؟ لأنهما يدخلان أو تدخلان في الخير طبعاً، وأي خير أعظم – مثلاً – من العبادة ومن الدين؟ هذا يعني أنهما داخلان، فلا يجوز هذه قيمة جديدة، وهكذا يُمكِن أيضاً عزو سائر القيم إلى قيمة من هاته القيم الثلاث، فهذه هي القيم الثلاثة الكُبرى، نبدأ بالأولى وهي الحق.
الحق يا إخواني وأخواتي – بارك الله فيكم وفتح عليكم جميعاً – يُعنى به الصدق، المقصود به الصدق، لكن أي صدق؟ الصدق بالمعنى المنطقي، حين نقول الحق يكون في ماذا مبحث يبحث هذا المبحث، أعني قيمة الحق؟ يبحث في الصدق بالمعنى المُحدَّد في علم المنطق، أعني المنطق الصوري، حين يتحدَّثون عن القضايا يتحدَّثون عن قضية صادقة وقضية كاذبة، والقضية في العُرف المنطقي تُعادِل وتُكافيء الجُملة الخبرية وليس الجُملة الإنشائية إلا أن تصير الإنشائية في تأويل الخبرية كما يقول علماء البيان، لكن تُعادِل وتُكافيء الجُملة الخبرية، أي التي تحتمل الصدق والكذب بذاتها وليس لمعنى خارج عن ذاتها كما يقول أيضاً البيانيون، فهذا الخبر هو القضية، رأينا في درس نظرية المعرفة أن من الفلاسفة مَن جعل الحس للحق مقياساً ومعياراً، يُسمونه Standard، وطبعاً سوف تجدونه في بعض الترجمات العربية المُعاصِرة المُستوى، يقولون المُستوى، مثل مُستوى الحق ومُستوى الجمال وما إلى ذلك وأنت تتفاجأ، ليس المقصود Level أو Niveau، المُستوى يعني Standard، هذه هي الترجمة ومُشكِلة الترجمة إلى العربية، الآن ما عُدنا نستخدم كلمة مُستوى، نستخدم كلمة معيار أو كلمة مقياس، العلّامة الفيلسوف توفيق الطويل – مثلاً – في كتبه وهي كتب مُهِمة ورائعة يستخدم كلمة مُستوى، يقول مُستوى الحق ومُستوى كذا وكذا، فيُمكِن أن يُخرَبط القاريء، كلمة المُستوى تعني Standard، أي المعيار، والأفضل أن نقول المعيار أو المقياس، بعض الفلاسفة اتخذ الحس معياراً ومقياساً للحق، أي لتمييز الحق من الباطل، فمعيار الحق والحقية هو الحس، ورأينا هؤلاء الحسيين أصحاب أصالة الحس أو أصالة التجربة، مثل جون لوك John Locke وبيركلي Berkeley وهيوم Hume وإلى حدٍ ما كانط Kant بشكل نسبي وليس بنسبة مائة في المائة وقد فهمنا هذا والحمد لله، ومنهم مَن اتخذ العقل معياراً، قال المعيار في التفريق ليس التجربة وليس الحس وإنما العقل، وهم الفلاسفة العقلانيون، هذا في الفلسفة العقلية Rationalism، ومَنهم مَن اقترح واستسلم وأسلم نفسه ومقادته للشك، قال أنا أُعلِّق الحكم ولا أدري وكل شيئ قابل للوجهين وكل قضية قابلة للنفي والإثبات بقوى مُتعادِلة، ومن هؤلاء الشكّاك واللاأدريين مَن قال بعدم إمكان المعرفة من أصله، فقضية الحق والباطل غير مطروحة عنده، المسألة كلها مُجرَّد علك كلام فارغ، فكل هذه معايير واتجاهات في هذه المسألة.
نأتي الآن إلى كلمة سريعة عن طبيعة الحق، طبعاً الرياضيون – أصحاب الرياضة أو الرياضيات Mathematics – وأصحاب المنطق الصوري – Formal logic – يذهبون إلى أن الحق بطبيعته عام – أي كُلي شامل – قطعي وضروري، وطبعاً هذا مفهوم، طبيعة المسائل المنطقية والمسائل الرياضية هي التي خوَّلت لهم إطلاق مثل هذه الدعوى، لأن فعلاً هي تحصيلية في نهاية المطاف، مُعظَم قضايا المنطق الصوري أو كلها بالأحرى هي كذلك، إذا استخدمت فيها القواعد بدقة لن تأتي طبعاً بجديد، وكذلك قضايا الرياضة، ولذلك آمنوا وأقروا بأن الحق صفة عينية في الشيئ، الحق صفة عينية لا يخلعها العقل على الأشياء أبداً وإنما يتعامل معها فقط، لكن هي موجودة، وسواءٌ أدركها العقل أو لم يُدرِكها هي لا تبرح، تبقى موجودة وتتصف بها الأشياء إلى أن يُوجَد العقل الذي يُدرِكها ويتعاطى معها، بالإزاء هناك البراجماتيون وهناك أيضاً الوضعيون المناطقة والوضعيون بشكل عام مثل السفسطائيين القُدامى، كل هؤلاء الأفرقاء أو الفرقاء الثلاثة قالواهذا غير صحيح، الحق لا يتصف بهذه الصفات ولا يتسم بهذه السمات والشيات، وإنما هو شيئٌ مُتحرِّك ونسبي وغير ثابت وليس مُطلَقاً وليس مُتسِماً بصفة الضرورة، هو غير ضروري، وطبعاً نحن أيضاً مررنا في الإبستمولوجيا Epistemology على آراء هؤلاء، السفسطائيون القُدماء جعلوا الفرد معيار الحقيقة كما قلنا في السفسطة العندية وليس العنادية – ليس جورجياس Gorgias وإنما بروتاجوراس Protagoras – طبعاً، في السفسطة العندية قالوا المعيار هو الفرد، قد يصح الشيئ عندي وقد يكون عندك غير صحيح لكن لا بأس ولا تُوجَد مُشكِلة، وعند الثالث على نحو ثالث دون أي مُشكِلة، البراجماتية طبعاً أُسيء فهمها من بعض فادُّعيَ فيها مثل هذه الدعوى، هم لا يقولون بهذا، هم أكثر دقةً، قالوا المعيار ليس الفرد إنما المعيار هو الإنسان، لكن الإنسان بأي معنى؟ هل يُراد بالإنسان البشر؟ كلهم قالوا لا، وإنما الإنسان في نطاق مُعيَّن، دخلنا في مُشكِلة عويصة جداً جداً وسنعود إليها اليوم لما نطرح عليكم – إن شاء الله – مثالاً من القضايا الأخلاقية التي اشتجر حولها خلافٌ كبيرٌ ولازال مُشتجِراً، وهي قضية نسبية الأخلاق وإطلاقية المباديء الخُلقية، سوف نُعالِج هذه المسألة – إن شاء الله – علاجاً خاصاً، نُسهِب فيها قليلاً لأن هذا طُلِب مني وعدة مرات سُئلت فيها في هذه الدورة فقلت – إن شاء الله – نُرجِئها إلى مكانها، إلى مبحث الإكسيولوجيا Axiology، فالبراجماتيون قالوا الإنسان وليس الفرد، لكن الإنسان في حدود ماذا؟ أين نُرسِّم؟ فطبعاً الواضح من كتاباتهم ومن تنظيراتهم الفلسفية أن المُراد هو الإنسان في حدود أمته أو شعبه، مثلاً الأمة الأمريكية أو الشعب الأمريكي، إذن يكون الأمر في إطار هؤلاء، ليس شرطاً أن يكون في إطار كل البشرية، وهذا له علاقة بنسبية الأمور، سواء نسبية الحق أو نسبية الخير، فطبعاً واضح أن الفلسفة البراجماتية كالوضعية تقول بنسبية الحق وبنسبية الخير، وطبعاً ضروري لكي تكون مُتسِقة مع نفسها أن تقول بنسبية الجمال أيضاً، فكل هذه القيم نسبية، ليست كُليةً عامةً، طبعاً يجدون عزاءً في مقولات لبعض الفلاسفة ولبعض الأدباء ولبعض المُفكِّرين في بعض النظريات كنظرية النسبية لألبرت أينشتاين Albert Einstein، هذه اعتمد عليها بعض البراجماتيين وكل الوضعيين، احتفوا بها واحتفلوا بها احتفالاً عظيماً، قالوا حتى العلم يسير بنفس هذه الطريقة، هذه طبيعة الأشياء وطبيعة الإنسان وطبيعة الأحداث الكونية، نسبية أينشتاين Einstein تُؤكِّد أن كل شيئ نسبي، الزمان والمكان والكتلة والأطوال والأشياء كلها، كل شيئ نسبي، رهن بأشياء أُخرى، أطوال الأشياء رهن بماذا؟ بالحركة، والزمان رهن بالحركة، الكتلة رهن بالحركة، وطبعاً هذا أثبته أينشتاين Einstein بمُعادَلات، فقالوا هذا عزاء.
الفيلسوف المسيحي والرجل خارق التفكير بليز باسكال Blaise Pascal صاحب الخواطر مات عن تسع وثلاثين سنة بالسُل، وكان رجلاً عجيباً، له عبارة يقول إن ثلاث درجات بحد ذاتها كافية أن تقلب الشيئ من خير إلى شر، يقصد درجات العرض على الكرة الأرضية، قال فالأشياء التي قد تكون حقاً شمال جبال برانس تُصبِح وتئيض باطلاً جنوبها، قال ثلاث درجات فقط، قال فانظروا إلى أن البشر مُختلِفين، نفس الشيئ يكون هنا حقاً وهناك باطلاً، فطبعاً الوضعيون البراجماتيون يتعزون بأمثال هذه الاقتباسات وهذه المنقولات، يقولون هؤلاء أناس كبار يقولون بهذا ونحن منهم، وطبعاً هذا كلام ضعيف.
نأتي الآن إلى موضوع معايير أو مقاييس الحق لدى كل المدارس الفلسفية المُختلِفة، لعلي قلت لكم في أول حلقة من هذه الدورة المُبارَكة أن هناك ستة معايير، أليس كذلك؟ وقلت لكم سأذكرها في آخر حلقة، هي هذه، جاء دورها الآن، هناك ستة معايير للحق عبر التاريخ البشري، أول معيار وهو أشهر وأذيع وأكثر هذه المعايير شيوعاً معيار التطابق Correspondence، تطابق ماذا مع ماذا؟ وانطابق ماذا على ماذا؟ تطابق الحكم – حين تُطلِق حكماً وتقول كذا هو كذا – مع الواقع الخارجي، حين تقول الحديد يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة هذا حكم، نأتي إلى الواقع نُجرِّب ونجده فعلاً يتطابق، إذن مُمتاز وينتهي الأمر، يُقال المريخ ليس فيه حياة، نبعث له بعثة استكشافية تصل إليه وتُصوِّر الواقع، وفعلاً نجد أنه لا حياة فيه، ومن ثم تطابق، طبعاً أول مَن أعطى هذا المعيار مثابته ودعمه بالأدلة أرسطو Aristotle، أرسطو Aristotle تكلَّم كثيراً عن معيار التطابق، لكن لاحظوا أن معيار التطابق أكثر ما يفعل حين يفعل في المسائل العملية وفي المسائل المأخوذة بطريق الاستقراء، يُوجَد عندنا معيار آخر أو مقياس آخر غير التطابق اسمه الاتساق، أليس كذلك؟ الاتساق هو عدم التناقض، أي Consistency، معيار عدم التناقض أو التناسق أو التساوق أو الاتساق، يعتمد على ماذا معيار الاتساق؟ يعتمد على قانون عدم اجتماع النقيضين، بمعنى أن الحكم الذي يُطلَق ينبغي ألا يتناقض أو ينبغي ألا يقع في التناقض، هذا يفعل أكثر ما يفعل في الأحكام المأخوذة بالاستنباط وليس بالاستقراء، معيار التطابق يعمل أكثر ما يعمل في الأحكام المأخوذة بالاستقراء، هذا يعمل أكثر ما يعمل في الأحكام المأخوذة بالاستنباط، ولذلك إذا سألك أحدهم هل أرسطو Aristotle يقول بهذا؟ قل له طبعاً، أرسطو Aristotle أكبر القائلين بهذا، إذن هو يقول بهذا ويقول بهذا، لا يقول بمعيارين مُتناقِضين، بالعكس هما معياران مُتكامِلان، طبعاً هذا هو المعيار الثاني، هل هناك مَن يرفض هذه المعايير أو يرفض بعضها؟ نعم، معيار الاتساق – مثلاً – لا يهتم به البراجماتيون، قالوا لا، هذا لا يهمنا، يُمكِن أن يكون عندك أحكام مُتسِقة من جهة منطقية ومن جهة صورية ونحن نعتبرها باطلة، لماذا تكون باطلة؟ قالوا لأن ليس لها فائدة عملية في حياة الناس، ما دام ليس لها فائدة عملية في حياة الناس سنعتبرها باطلة، بعد قليل سأُناقِش البراجماتيين حين أذكر معيارهم طبعاً في القيمة المُنصِرفة – Cash-Value – وسوف ترون كم هم مُتهافِتون، مُتهافِتون جداً جداً جداً، وبمثل هذا الفكر البراجماتي لا يُمكِن أن يقوم حتى علم ومعرفة حقيقية، هذه سذاجة، ولذلك برتراند راسل Bertrand Russell كان صائباً حين وصف البراجماتية بأنها مذهب نذل وخسيس، هو وصفها هكذا وقال هي مذهب نذل وخسيس، أي أنها مذهب لا يليق بكرامة الإنسان، الإنسان عنده آفاق أعلى من هذا، عنده كل شيئ يتعلَّق بالـ Cash-Value، يُريد القيمة المُنصرِفة الآن وكأن الإنسان كائن محصور فقط فعلاً في ضمن المنفعة واللذة وفي الحواس وأكثر من هذا ليس له أي أبعاد، هذا غير مُمكِن، هذه نذالة وخسة، وراسل Russell مُلحِد لكنه يُؤمِن بأشياء أبعاد من هذا.
يُوجَد عندنا معيار الترابط Coherence، ما هو؟ هذا يُؤمِن به المثاليون الصوريون بالذات، يقولون أنت حين تُفكِّر لابد أن تكون دائماً وفياً لمبدأ يُفسِّر لك كل شيئ، فحين تُطلِق حكماً لابد أن يكون هذا الحكم أيضاً مُترابِطاً مع سائر الأحكام، ليس مع نفسه مُتسِقاً وليس مع الواقع الموضوعي وإنما مع سائر الأحكام ضمن المنظومة، وطبعاً هذه الفلسفة المثالية بالذات لأنها فلسفة نسقية وفلسفة بنائية تشترط الترابط – Coherence – معياراً لصدق الأحكام، يُوجَد عندنا معيار الوضوح – Obviousness – الذي تكلَّم عنه ديكارت Descartes، ديكارت Descartes عنده رسالة اسمها كيف نجعل أفكارنا واضحة، هذه رسالة صغيرة اسمها كيف نجعل أفكارنا واضحة، حتى في مقال في المنهج ابتدأ بهذا الشيئ، في البدايات حين وضع قواعد قال بهذا، إياك أن تبدأ بأي شيئ لا يكون واضحاً بذاته، لا يُثير الشك، الواضح بذاته لا يُثير الشك، جون لوك John Locke مشى في ركب ديكارت Descartes مع أنه كان تجريبياً وكان ضد ديكارت Descartes، لكنه قال بمعيار الوضوح، قال هذا صحيح، ينبغي أن ننطلق من أشياء تكون واضحة وبعد ذلك نبني عليها، الواضح بذاته يُسمونه Self–evident، أي أنه بنى نفسه بنفسه، ولذا يُسمى Self–evident، فهذا هو الواضح بذاته، وطبعاً هذا المعيار في نظرنا لا يشتغل دائماً، وأحياناً يبدو عواره، من السهولة جداً أن يبدو عوار هذا المعيار، مثل ماذا مثلاً؟ الآن لو سألتكم عن الجاذبية – الأجسام تتجاذب، أي يجذب بعضها بعضاً – هل هذا سيكون صادقاً أم لا؟ طبعاً هذا صادق، هل هذا واضح أم لا؟ عندكم واضح، قبل نيوتن Newton لم يكن واضحاً، لو كان واضحاً لتوصَّل إليه أي عالم قبل نيوتن Newton، أليس كذلك؟ فهو لم يكن واضحاً، هو صادق دون أي كلام – الآن أصبح صادقاً عندنا – لكن صدق هذا الحكم ليس مأخوذاً من وضوحه، لو فعلاً كان واضحاً مع أنه صادق لاكتُشِف قبل نيوتن Newton، لاكتشفه الإنسان البدائي الأول، أليس كذلك؟ والإنسان البدائي طوال حياته كان يرى الأشياء تسقط من السماء، أليس كذلك؟ البدائي كان يُلاحِظ أنه حين يُصاعِد – أي يمشي صعوداً – في جبل يُبهَر نفسه وتتلاحق أنفاسه ويتعب، كان يُلاحِظ هذه المسألة لكنه لم يملك تعليلاً أو تفسيراً لها، حين يموت طير في السماء كان يقع على الأرض، أليس كذلك؟ كان يُلاحِظ أيضاً هذه المسألة لكنه لم يربط بينهما، لم يربط بين هذه وبين تلك إلى أن جاء نيوتن Newton، فقال أف، ما أغبانا! والله هذا مضبوط، هذا نفس السبب، نحن نتعب لأن الأرض تجذبنا وكلما ابتعدنا نتعب، إذن هذا هو السبب، والطير يقع لأن الأرض تجذبه، إلا إذا كان حياً ويعمل على مُقاوَمة الجاذبية بالطيران والرفرفة، هذا مضبوط، لم يكن واضحاً مع أنه صادق، أليس كذلك؟ فلو كان الصدق معيار الوضوح لما كانت هناك أشياء صادقة وهي ليست واضحة بذاتها، علماً بأن مشكلة الفلاسفة هي مُشكِلة البشر، مُشكِلة أي فيلسوف مُشكِلة أي بشر عادي وهي المُغالاة، يُريد أن يرد كل شيئ إلى شيئ واحد، يُريد معياراً واحداً يُفسِّر به كل شيئ، وهذا لا يصلح، يُمكِن أن تُفسِّر به جُملة أشياء لكنه سيفشل في تفسير جُملة أُخرى من الأشياء، هذه مُشكِلة البشر، أنهم يُغالون، أليس كذلك؟ وهذه اليوم مُشكِلة السلفيين مع الصوفيين مع الأشاعرة مع كذا وكذا، الكل يُغالي، السلفي يُريد ديناً بلا تصوف وهذا مُستحيل، لأن التصوف والنزعة الروحية نزعة أصيلة في البشر وتزداد أصالتها في بعض الناس، أليس كذلك؟ أنت تعمل ضدهم الآن ولن تنجح، الصوفي نفس الشيئ، يُريد من كل الناس أن يُصبِحوا على درجة من النسك والزهادة والروح لكن هذا لن يحدث، الحياة ليست كذلك أيضاً، فهذه مُشكِلة المُغالاة، لكن لو أخذنا المسألة بنوع من التكامل وبنوع من التآزر وتعاضد الأشياء والله تُصبِح المسألة طيبة ونتكامل مع بعضنا، الفلاسفة نفس الشيئ، قالوا معيار الوضوح، أي شيئ غير واضح بذاته لا يُمكِن أن يكون صادقاً، وهذا غير صحيح، هناك أشياء صادقة ولكنها ليست واضحة بذاتها وهذا مثال بسيط، وهناك أشياء العكس تماماً وسنرى هذا الآن، كُرية الأرض أو حركة الأرض – أن الأرض تتحرَّك – بالنسبة لكم اليوم هذه مسألة صادقة أم غير صادقة؟ مائة في المائة صادقة، هذه مسألة صادقة، بالنسبة للناس قبل مئات السنين كانت مسألة مُستحيلة وغير داخلة في الحُسبان، ظنوا أن الأرض ثابتة، العالم كله يمشي – السماء تمشي والأبراج تمشي وإلى آخره – والأرض ثابتة، الأرض مركز الكون، لكن مَن الذي جاء وهز هذه النظرية البطلمية؟ بطليموس Ptolemy طبعاً هو صاحب نظرية سكون الأرض، أرسطرخس Aristarchus كان يقول لأ، الأرض تتحرَّك، لكن لم يُصدِّق أحد أرسطرخس Aristarchus قالوا هذا أهبل وساروا مع كلام بطليموس Ptolemy، وهذا إلى القرن السادس عشر حتى جاء نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus، نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus قال لا يا جماعة، هذا غير صحيح، والأرض ليست مركز الكون، وبعد ذلك جاء الألماني كيبلر Kepler – يوهانس كيبلر Johannes Kepler – وأثبت هذا الكلام، قال هذا هو الصحيح، وبعد ذلك حدثت ثورة كبيرة وأتى جاليليو جاليلي Galileo Galilei طبعاً وحدثت كل القصة المشهورة، فالناس قبل العصور السابقة كانت عندهم مسألة أن الأرض ساكنة واضحة بذاتها، وفعلاً كانت واضحة، لأن بصراحة أنت ترى أن كل شيئ ثابت، أنا عمي – أخو أبي الله يرحمه – قال له أخي قديماً حين درس شيئاً يا عمي اليوم درسنا شيئاً مُهِماً جداً في المدرسة، قال له ماذا؟ قال له درسنا كيف تكون الأرض كروية وكيف أنها تتحرَّك، قال له عمي يا ابن أخي هذا كلام فارغ، هؤلاء أفسدوا أدمغتكم، قال له لماذا؟ قال أنا والله أسكن في هذه الدار أكثر من عشر سنين ولم أجد مرة باب الدار في الناحية الثانية، هذا كلام فارغ يا ابن أخي فلا تُصدِّقه، فطبعاً بالنسبة للحس العادي أو الحس المُشترَك – Common Sense – للبشر الأرض ثابتة بصراحة، نحن لانراها تتحرَّك، فالواضح بذاته إذا كان هناك ما هو واضح بذاته أن الأرض ثابتة أم مُتحرِّكة؟ ثابتة، هذا صادق أم كاذب؟ كاذب، إذن هذا واضح لكنه كاذب، أليس كذلك؟ المسائل ليست بهذه السذاجة، لا تقل لي الواضح بذاته معيار الصدق، هذا غير صحيح، قد يكون صادقاً وغير واضح بذاته كالجاذبية، وقد يكون واضحاً بذاته وغير صادق مثل حركة الأرض، وهناك أحكام أُخرى كثيرة مثل هذه، أليس كذلك؟ أكثر أحكام كذلك ويُمكِن أن نأتي بآلاف الأمثلة على ذلك.
يُوجَد عندنا المعيار الخامس قبل الأخير وهو معيار النفع في الحياة العملية للجماعة، للإنسان – كما قلنا – وليس للفرد وهذا مُهِم أنه نفهمه حتى لا نُصبِح سفسطائيين، وهذا مذهب مَن؟ تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce وجون ديوي John Dewey وويليام جيمس William James وسانتيانا Santayana وكل الفلاسفة البراجماتيين الكبار، ويليام جيمس William James عنده كتاب اسمه The Will to Believe، أي إرادة الاعتقاد، في مُقابِل مُصطلَح باسكال Pascal إرادة الإلحاد، كأنه يُنوِّع على هذه الإرادة، باسكال Pascal تحدَّث عن إرادة الإلحاد في الخواطر، وويليام جيمس William James ألَّف كتاباً اسمه إرادة الاعتقاد أو إرادة الإيمان The Will to Believe، وقد ترجمه محمود حب الله، هذا الكتاب تُرجِم قبل حوالي أربعين سنة، فهذا كُتيب غير كبير ويُمكِن أن يُقرأ بسرعة اسمه إرادة الاعتقاد، وهذا الكتاب الفلسفي البراجماتي يتحدَّث عن الدين طبعاً وعن فكرة المادة، في فصل تحدَّث عن فكرة المادة ويليام جيمس William James عند المُسلِمين الشيعة، فالرجل درس هذه الفكرة، يقول أن الدين حين تسأله حق وليس باطلاً، قال هو حق، لماذا هو حق؟ لأنه ينفع الناس، هو حق ما دام أنه نافع للناس ويبث أخلاقاً ويبث تعاوناً ويبث تراحماً ويبث تسامحاً ويُعطي الناس عزاءً، رجل ابنه مات – مثلاً – أو ابنه شُلَّ أو زوجته حدثت له حادثة أو طلَّقته أو انتكب بنكبة مُعيَّنة، فهو يُعطيه عزاء، الدين عزاء وأمل حقيقةً، كل دين هو عزاء وأمل، “مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الَأمَلِ”، فقال بما أن الدين هكذا فأهلاً وسهلاً، هو عندنا حقيقة، هو حقيقة بالمعنى البراجماتي، حين تقول له هل أنت يا ويليام جيمس William James – نحن لا نُريد هذا الكلام – تُؤمِن بأن هذا الدين فعلاً من عند الله وأنه حقيقي وأنه شرع وما إلى ذلك؟ يقول أنا لا أُؤمِن أصلاً بهذه الطريقة في التفكير، وهذه هي المُشكِلة، ليس عندي هذه المعايير في تعيير الحقائق، فهم إلى الدرجة هذه أُناس مُسطَّحون فعلاً، ولك أن تتخيَّل هذا، فليس الأمر أن ويليام جيمس William James يقول أنا أعرف – مثلاً – أن عيسى كلامه فارغ وأنه أسطورة وما إلى ذلك، وطبعاً في السياقة اللاهوتي المسيحي هناك نظريات من مائتين وسبعين سنة وموجودة إلى الآن وهي قوية جداً جداً جداً تقول أن المسيح كله على بعضه أسطورة، لم يكن ولم يُخلَق ولم يُوجَد أصلاً، مُجرَّد توليفة فارغة، إميل لودفيج Emil Ludwig عنده كتاب في مُجلَّدين اسمه ابن الإنسان، وإميل لودفيج Emil Ludwig هو أكبر كاتب ترجمات في القرن العشرين، رجل خطير وقد كتب كتاباً عن القيصر وكتب كتاباً عن النيل وكتب كتاباً عن المسيح وكان أعظم كتبه وكتب عن نابليون Napoléon، المُهِم كتب كتاباً في مُجلَّدين عن المسيح، حين تقرأه تهتز، أتى بأكثر من ثلاثين دليل – هي في الحقيقة قرائن وليست أدلة قاطعة وبعضها كالأدلة – على أن المسيح شخصية أُسطورية لم تُولَد ولم تُخلَق أصلاً، مُجرَّد توليفة، وكل شيئ في المسيح موجود في أساطير مُعاصِرة أو سابقة عليه، فالمُهِم ويليام جيمس William James لا يُؤثِّر فيه كل هذا الكلام، يقول هذا لا يهمني، سواء المسيح وُجِد أو لم يُوجَد هذا لا يهمني، لكي أعرف هل هو وُجِد أم لم يُوجَد لابد أن أرجع إلى مقاييسكم أنتم، مقياس التطابق ومقياس كذا وكذا، وأنا لا أُؤمِن بها، أنا عندي مقياس واحد، فكرة المسيح وفكرة شرع المسيح ودين المسيح وإنجليل – Gospel – المسيح إذا كانت تفيد الناس في حياتهم وتجعل الناس أكثر رقياً وأكثر جمالاً وأكثر راحة وأكثر سكينة فالدين يكون حقاً بهذا المعنى، سوف نقول له لأ، هل أنت غير مُقتنِع بأن الدين في حد ذاته كذا وكذا؟ وسوف يقول أنا لا أُفكِّر بطريقة بحد ذاته، هذا لا يهمني، وأنا أرفضه وأُحِب أن أعيش حياتي بطريقة أُخرى، يا ساتر! هل يُوجَد أُناس يعيشون هكذا؟ هم هكذا، وهذا شيئ خطير، هؤلاء هم الأمريكان، الأمريكان بشكل عام براجماتيون، هذه هي البراجماتية، وهذا شيئ ساذج جداً جداً جداً، هناك أشياء يُحِب الإنسان أن يعرفها ليس فقط لكي يعيش ويأكل ويشرب ويسعد، فأنا أُريد أن أعرف الحقيقة، أليس كذلك؟ أُريد أن أعرف الحقيقة لمعرفة الحقيقة يا أخي بغض النظر عن أي شيئ، علماً بأن العلم كله لا يُمكِن أن يقوم على هذه الطريقة، الآن هناك الجُملة القائلة – مثلاً – في المريخ حياة أو ليس في المريخ حياة، نحن – الحمد لله – لسنا من سكان المريخ ولا على المريخ يُوجَد سكان يُريدون غزونا، كوكب بعيد أحمر – كوكب إله الحرب – وليس لنا علاقة به، نسأل ويليام جيمس William James والبراجماتيين أصحاب معيار القيمة المُنصرِفة عن هذا، وأنتم فهمتم سبب تسميتها بالـ Cash-Value، نُريدها الآن وهي ليست شيكاً على بياض فحسب لأنني أُريد أن أصرفها الآن وآكل بها، أي حقيقة تُعطيني إياها الآن لابد أن تكون كذلك، فهم لا يقبلون النسيئة، يُريدون النقد بلغة المُسلِمين، يُريدون أن يكون كل شيئ نقداً، حين تقول له هناك الآخرة وما إلى ذلك يقول لك الآخرة إذا نقدتني أشياء الآن سأؤمِن بها، أما الأشياء التي سآخذها في الآخرة لا أُؤمِن بها ولا أسأل عنها، لكن إيمانك بالآخرة يجعلك في الأرض أكثر عدالة مع الناس واكثر وفاءً وأكثر صدقاً، قال جيد، هذا يعني أن الآخرة حق، لأن هذا Cash-Value، نقدر على أن نأخذ أشياء لنا الآن بهذه الطريقة، أما شيئ لا ينبني عليه أي شيئ قال هذا لا نصفه لأنه لا صادق ولا كاذب، هذا كلام فارغ لا نبحث فيه، لكن هل عبارة المريخ عليه حياة أو ليس عليه حياة بصراحة لها أي تأثير على حياتنا العملية؟ ليس لها أي تأثير أبداً، وحتى لا يُمكِن أيام ويليام جيمس William James – وهو متى تُوفيَ؟ في عام ألف وتسعمائة وعشرة، ويليام جيمس William James مات بعد نيتشه Nietzsche بعشر سنين في عام ألف وتسعمائة وعشرة – التثبت منها، عملياً وفنياً هذا مُستحيل، أليس كذلك؟ لكن يا جماعة سواء هو أراد أو لم يُرِد هذه العبارة في حد ذاتها أليست قضية خبرية؟ أليست قابلة في حد ذاتها للتحقق منها؟ قابلة، أليس كذلك؟ هي قابلة، إذن يُمكِن أن تكون صادقة ويُمكِن أن تكون كاذبة بغض النظر عما يترتب عليها من نفع، لو افترضنا أننا اكتشفنا أن فعلاً في المريخ هناك حياة واتضح أن هناك حياة هل هذه الكلمة صدقت أو لم تصدق؟ صدقت، إذن هي صادقة رغم أن ليس لها أي علاقة نفعية بحياتنا، أليس كذلك؟ هذا من أقوى ما نرد به على البراجماتيين، الفلاسفة ردوا بهذا الكلام، هذا ليس ردي وهو كلام قوي جداً جداً جداً، فهم أثبتوا له هذا وجعلوه يمسك مسك اليد هذا، قالوا هناك جُمل سنُثبِت صدقها وستكون صادقة لكنها صادقة وفق أي معيار؟ معيار التطابق Correspondence، أليس كذلك؟ معيار التطابق فعلاً، وهذا يعني أن معيار التُطابق يُحتاج أحياناً رُغماً عنا، ويُثبِت يا أخي بغض النظر عنا صدق القضايا أو كذب القضايا، أما أن تجعل لي الصدق والكذب دائماً رهناً بالنفع العملي لحياة المجموع وتتحدَّث عن الـ Cash-Value فهذا غير معقول، هذا تقزيم للإنسان، راسل Russell قال خسة ونذالة، قال هذا مذهب خسيس ونذل، وبصراحة عنده الحق.
آخر شيئ هو المعيار السادس – طبعاً ناقشناه قبل ذلك وأنتم تعرفونه – وهو التحقق من مضمون العبارات بالرجوع إلى الخبرة الحسية وإلى الواقع المحسوس، أعني مبدأ التحقق Verification، وقد قالت به الوضعية المنطقية، ورأينا طبعاً كيف حججناهم بفضل الله تبارك وتعالى، ألفريد آير Alfred Ayer الذي ذكرته اليوم – زعيم الوضعية في حينها – هو نفسه الذي سجَّل التراجع وقال نحن لن نركب رؤوسنا ولن نظل مُصِرين على اشتراط الإمكان الفعلي للتحقق، أيضاً نكتفي بالإمكان المنطقي والإمكان النظري، وتورَّطوا كما رأينا، تورَّطوا في ورطة كبيرة بهذه الطريقة، لأن طبعاً هذه طريقة ضعيفة جداً أيضاً.
جون ديوي John Dewey على ذكر جيمس James – وهو أيضاً الشخصية الكُبرى في البراجماتية – كان يقول العقل ليس أداة معرفة، أي An organ of knowledge، قال هذا غير صحيح، هو ليس An organ of knowledge، إذن هو ماذا؟ قال هو عضو ترقية الحياة Promoting life، من أجل أن يُرقّي الحياة فقط وليس من أجل أن يعرف، لا يهمنا أن نعرف، أهم شيئ أن تُصبِح الحياة أحسن وأفضل وأيسر وأجمل، العقل مخلوق لهذا، لم يُخلَق أصلاً من أجل أن يعرف، طبعاً جون ديوي John Dewey لم يُؤمِن بالله، هو مُلحِد للأسف، ويليام جيمس William James مُؤمِن على طريقته، جون ديوي John Dewey مُلحِد، وهو مُلحِد – Atheist – كامل عنيد، قال العقل لم يُوجَد ولم يتطوَّر من أجل أن يعرف أبداً وإنما من أجل أن يعمل ويُساعِد على العمل، على انتخاب العمل الصحيح للحياة، وطبعاً – كما قلنا أمس وقد ناقشناه – هذا كلام ضعيف وضعيف جداً.
انتهينا من هذا الجُزء، نأتي الآن إلى الجُزء الخاص بالخير، وطبعاً لأننا – الحمد لله – أنجزنا حلقة عن الإبستمولوجيا Epistemology أو حلقتين نُريد أن نختصر هنا، لأننا أخذنا معلومات كافية، نأتي الآن إلى الخير، الخير يعني ماذا؟ الأخلاق Morals، أي علم الأخلاق، فالخير هو علم الأخلاق، هناك مذهبان أو طريقتان مشهورتان جداً في درس المسائل الأخلاقية، ما معنى درس المسائل الأخلاقية؟ فهم طبيعة القيم الأخلاقية، وهي ماذا؟ الخيرية والشرية، قلنا هذا حق أي صدق وكذب، حق وباطل في المنطق، لكن في الأخلاق يُوجَد خير وشر، هذه قيم أخلاقية وتلك قيم منطقية، فالآن في فهم الخيرية والشرية وتحديد المعايير والمقاييس لدينا طريقتان مشهورتان، طريقة الحدسيين التي يُسمونها النظرية الحدسية والنظرية الغائية وهي طريقة التجريبيين، أي الحسيين الماديين، إذن عندنا طريقة الحدسيين التي يُسمونها النظرية الحدسية Institutional theory وطريقة التجربيين أو الغائيين من Teleology واسمها النظرية الغائية Teleological theory، ما الفرق بينهما؟ لابد أن نقوله في البداية لكي تُصبِح المسألة – إن شاء الله – سهلة جداً، ذكرنا في البداية موضوع الصفات العينية أو الصفات التي يخعلها العقل، وهذا يعني أنها ذاتية، بالنسبة للحدسيين هم موضوعيون، ما معنى أنهم موضوعيون؟ يرون أن الأشياء تحمل في ذاتها ما يجعلها خيراً أو شراً بغض النظر عنا، الخير خير في ذاته والشر شر في ذاته، أي لا يتوقَّف علينا، هؤلاء يُسمونهم الحدسيين، اسمهم الحدسيون، هؤلاء يهتمون بماذا؟ هل يهتمون بنتائج الأفعال؟ لا، يهتمون ببواعث الأفعال، ما الباعث على الفعل؟ يهتم به الحدسين فالحدسي موضوعي وهذا أهم شيئ، وهو مُهتَمٌ بالباعث على الفعل، هذا الذي يهمه، بخلاف مَن؟ بالإزاء يقف التجريبي الغائي، الغائي ذاتي، ما معنى أنه ذاتي؟ يقول الأشياء والأمور لا تحتوي ولا تنطوي على ما يجعلها خيراً أو شراً أبداً وإنما نحن البشر الذين نخلع عليها هذه الصفات فنجعلها إن شئنا شراً ونجعلها متى نُريد خيراً، ولذلك يهتم هذا التجريبي الذاتي بغايات الأفعال، إلى أين ستصل بنا؟ ماذا ستكون النتيجة؟ قال هذا الذي يهمني، ولذلك تختلف الأشياء والقيم الأخلاقية من عصر إلى عصر ومن زمان إلى زمان، فهذه نُقطة ثالثة أيضاً.
إذن الحدسيون في رأيكم إطلاقيون أو نسبيون؟ الحدسيون ماذا سيكونون؟ سيكونون إطلاقيين، هذا هو الصحيح، وهو مُهِم لكي نضبط أفكارنا بطريقة فلسفية، وبالنسبة للغائيين ماذا سيكونون؟ سيكونون نسبيين، إذن بعد قليل حين ننتهي من هذا المبحث – إن شاء الله – سوف نآخذ نموذجاً دراسياً عن موضوع نسبية الأخلاق وإطلاقيتها، ومن ثم سوف نفهم مبدئياً أن الحدسي يقول بالإطلاقية وهو مُنسجِم طبعاً مع مبادئه والتجريبي الحسي الذاتي يقول بالنسبية وهو أيضاً مُنسجِم مع نفسه.
إذن الحدسي يُؤمِن بأن الأخلاق ومباديء الأخلاق أو بناء الأخلاق كله مُؤسَّس على جُملة مباديء تتصف بالثبات والدوامية، أي ما يُساوي ماذا؟ الإطلاقية، هي مباديء – Principles – مُطلَقة لا تتأثَّر لا بالزمان ولا بالمكان، المفروض أنها لا تختلف من عصر إلى عصر ولا من أمة إلى أمة تختلف، قد تقول لي كيف هذا؟ سوف نرى هذا فيما بعد، وطبعاً هذه مُعضِلة كبيرة وتتسبب في أزمة كبيرة، سوف نُجيب عنها، هناك مَن يرى أنها تختلف وهذا غير صحيح، سوف نرى ما الذي يختلف، الذي يختلف ليس المباديء، المباديء لا تختلف، وقد ناقتشها سريعاً قبل أيام، وفي المُقابِل عكس الآية مَن؟ التجريبيون، هؤلاء الحسيون الغائيون عكسوا وقالوا لا، بناء الأخلاق في أي عصر وفي أي زمان مُبتنى على جُملة مباديء نسبية مُتحرِّكة قابلة للتغير والتناسخ، وتتغيَّر من عصر إلى عصر بخصوص الأمة الواحدة، وتتغيَّر من أمة إلى أمة في العصر الواحد، هكذا هم قالوا، قالوا في الأمة الواحدة ترى المباديء قبل مائتين سنة ليست كالمباديء الآن، وهذا صحيح، قالوا انظروا إلى أوروبا، أوروبا – مثلاً – في العصور الوسطى كان عندهم تشدد رهيب جداً جداً جداً في مسائل العفة الجنسية، شيئ عجيب، لا يتساهلون في الشذوذ الجنسي، ليس عندهم إلا القتل، إنجلترا قُتِل فيها أكثر من ملك، مَن كان يقتله؟ الخدم، كان يكتشفون أنه شاذ جنسياً فيذبحونه، والشعب يقول برافو Bravo، سلمت أيديكم، كان عندهم هذا الشيئ، في حين أن المُسلِمين للأسف الشديد في الحضارة العباسية وما إلى ذلك – سبحان الله – استشرى فيهم الشذوذ، وهذا عكس ديننا، والآن اختلف الوضع الآن، سبحان الله عندنا اختلف وعندهم اختلف، فهذا النسبي الغائي قال هذه المسائل تختلف، لا يُوجَد شيئ ثابت، لا تُحدِّثني عن شيئ ثابت وفطري وما إلى ذلك، هذا كلام فارغ، لكن المسألة ليست بهذه البساطة.
تُوجَد مسألة أُخرى أيضاً، هذه المعايير أو المقاييس التي تُحدِّد – كما قلنا – خيرية الفعل أو شرية الفعل خارج طبيعة العقل أم مأخوذة من طبيعة العقل؟ حين نقول خارج طبيعة العقل – انتبهوا – هذا لا يعني خارج قدرة العقل على إدراكها، وهذا مُهِم لكي تخلطوا الأمور، هذه مسألة ثانية مُختلِفة تماماً، لكن ما معنى خارج طبيعة العقل؟ أنها مُستقِلة عن العقل وموضوعية، سواء أدركتها أم لم تُدرِكها هي كذلك، وحين نقول هي مُلازِمة لطبيعة العقل هذا يعني أن العقل هو الذي يُولِّدها ويأتي بها، إذن هي ليست موضوعية ومُستقِلة، إذن لدينا اتجاهان بهذا الصدد، بهذا الصدد لدينا اتجاهان مشهوران، المُعتزِلة لدينا في تاريخ الإسلام يقولون بماذا؟ المُعتزِلة قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، أليس كذلك؟ المُعتزِلة قالوا بالتحسيين والتقبيح العقليين، ما معنى التحسين والتقبيح العقليين؟ أن العقل يستطيع أن يُميِّز خيرية الشيئ من شرية الشيئ بغض النظر عن الشريعة أيضاً، العقل وحده يقدر على أن يُميِّز، ليس شرطاً أن يُوجَد الشرع الإلهي، فالعقل يستطيع أن يعرف هذا، عكسهم مَن؟ الأشاعرة، قالوا لا، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعيين، ما معنى التحسين والتقبيح الشرعيين؟ أن العقل لا يستقل – سوف ترون الشيئ العجيب بعد قليل، يُوجَد اتفاق في النهاية – بتمييز الخيرية من الشرية بذاته، وإنما يستند إلى نص الوحي، هكذا قال الأشاعرة، لكن الأشاعرة مع اختلافهم مع المُعتزِلة في هذه النُقطة فإنهما مُتفِقان – أي المذهبان – على شيئٍ واحد، ما هو؟ موضوعية الخيرية والشرية، الشيئ في ذاته بعيد عن عقلي هو خير أو شر، كون عقلي يقدر على أن يُدرِكه وحده أو يُدرِكه بالوحي مسألة ثانية، لماذا؟ لماذا هما اتفقا؟ طبعاً هما اتفقا، المُعتزِلة يقولون – هذا مُهِم لكي أُوضِّح لكم المسألة – الأشياء هي خير أو شر بذاتها، قالوا – أستغفر الله العظيم – حتى الله لا يستطيع أن يجعلها على غير ذلك، هكذا هم قالوا، المُعتزِلة عندهم جرأة، المُعتزِلة في أشياء أصابوا وفي أشياء أخطأوا، وفي الأشياء التي أصابوا فيها كان عندهم قلة أدب بحسب قول الشيخ الغزالي، كان ينقصهم الأدب، عندهم – سبحان الله – جرأة، يا أخي لابد أن يكون المرء مُؤدَّباً، هناك حقائق نحن نعرفها ونُقِر بها لكن حين نُعبِّر عنها نُعبِّر عنها بتلطف وبمُحاذَرة، الآن – مثلاً – أهل السُنة والجماعة بأن كل ما في الكون هو مخلوق من الله فعلاً، فالخير والشر من الله، أليس كذلك؟ هذا هو المعنى، لكن هل يُنسَب الشر إلى الله؟ أدباً لأ، نحن نعرفه لأن مَن الذي خلق هذا وهذا وهذا؟ الله طبعاً، لكن أدباً لا نُنسِبه إلى الله، النبي قال له وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أي لا يُنسَب إليك، رغم أن كل شيئ في الكون من الله، وفي القرآن الكريم وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ۩، انظر إلى هذا، منسوب للمفعول، أي للمجهول، هذا مبني للمجهول Passive، أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ۩، الله يُعلِّمنا الأدب، رغم أن مَن الذي أراد بهم الشر؟ واضح أنه الله، لكنه لم يقل هذا من باب الأدب، أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ۩، أرأيت؟ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۩، لم يقل والذي هو يُطعِمني ويسقين ويُمرِضني ويشفين، لم يقل هذا، قال وَإِذَا مَرِضْتُ۩، أيوب قال أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ۩، هل الشيطان هو الذي أمرضه؟ مُستحيل، ربنا الذي أمرضه، لكن هذا أدب، انسبه إلى الشيطان وانسبه إلى النفس أو إلى أي شيئ، لا تنسبه إلى الله، يُوجَد أدب مع الله تبارك وتعالى، قال العلماء لا يُقال يا الله يا خالق كذا وتذكر حيواناً مهيناً، لا تقل هذا، أليس كذلك؟ رغم أن مَن الذي خلق الحمير وما إلى ذلك؟ الله، لكن لا نقول هذا أدباً مع الله، أليس كذلك؟ يُوجَد أدب مع البشر من أمثالنا، يُوجَد أدب مع البشر فكيف مع رب البشر لا إله إلا هو؟ المُعتزِلة هذا الشيئ لا يُحاذِرون فيه ويتكلَّمون بشكل عادي، قالوا لا يستطيع، أستغفر الله، ما هذه الجرأة؟ قالوا الله لا يستطيع أن يقلب هذه الحقائق، الخير خير في ذاته بخلق الله، هم يقولون بخلق الله هذا، نحن نعترف أن الله خلقه كذلك، الخير خير في ذاته بخلق الله، لكن الله لا يستطيع أن يقلبه، كيف مثلاً؟ نفترض الصدق مثلاً، الصدق هو خير بلا شك، فأنت تقول الحقيقة وتقول ما يتطابق مع الواقع، قالوا الله لا يستطيع أن يجعل هذا الشيئ شراً وسيبقى خيراً دائماً، مُطابَقة الكامل للواقع هي خير في كل الظروف، لا يُمكِن أن تقول أن أُريد أن أجعلها شراً، لن تُصبِح شراً، قالوا هذا لا يُمكِن، هو هكذا، الإنسان يُمكِن أن يُقدِّم – مثلاً – لأنسان فقير أو مُحتاج أو يُغيث ملهوفاً أو يُساعِد مُحتاجاً، قالوا هذا خير والله لا يستطيع أن يجعله شراً، سوف يظل خيراً، لن يتغيَّر، والشر شر أيضاً، أن تقتل إنساناً بريئاً أو تعتدي على عرض مصونة وما إلى ذلك قالوا هذا شر، الله نفسه لا يستطيع أن يجعله بذاته خيراً، أليس كذلك؟ هو نفسه لا يُمكِن أن يُصبِح خيراً بذاته، قالوا هذا لا يصح، إذن هذا ثبات الحقائق، فالمُعتزِلة آمنوا بثبات الحقائق الأخلاقية، هذا ثابت كامل، فالآن نُريد أن نُلخِّص المُعتزِلة بكلمة حتى لا ننسى أبداً مذهبهم والأشاعرة نفس الشيئ وسنُقارِن بطريقة جميلة جداً، هل المُعتزِلة يعتقدون أن الله أمر بالأشياء لأنها خير أو هي خيرٌ لأن الله أمر بها؟ واضح الجواب، الله أمر بها، أمر بأشياء مُعيَّنة لأنها خير أو هي خيرٌ لأن الله أمر بها؟ الأولى طبعاً، الله أمر بها لأنها خير، لأن الحقائق ثابتة في الخارج كما قلنا لكم، الخير خير والشر شر، فالله – عز وجل – سيقول هذا خير سآمر به وهذا شر سأنهى عنه، فالله أمر بالأشياء لأنها خير ونهى عن أشياء لأنها شر، وعلى الضدد عليهم أو منهم – كما قلنا يجوز أن نقول ضد عليهم وهي أفصح من ضد منهم، قال الله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ۩ – الأشاعرة، قالوا الخير خيرٌ لأن الله أمر به والشر شر لأن الله نهى عنه، ولو أن الله نهى عن هذا الذي الآن نعده خيراً بهذا المعيار لصار شراً، المُعتزِلة خالفوا وقالوا مُستحيل، قالوا هذا كلام فارغ، الله – عز وجل – لو نهى عن الصدق وأمر بالكذب لن يكون الصدق شراً والكذب لن يكون خيراً، قالوا هذا غير صحيح، تُوجَد قوة في كلام المُعتزِلة، أليس كذلك؟ تُوجَد قوة وتُوجَد عقلانية في كلامهم، هذا ليس أي كلام، الأشاعرة عينهم على ماذا؟ ما الذي تلَّمحوه؟ تلمَّحوا أن يُعطوا الله طلاقة، أليس كذلك؟ الأشاعرة لم يُعطوا الله طلاقة ابن حزم في كل شيئ، في أشياء مُعيَّنة قالوا قدرته تتعلَّق بالمُمكِنات، لا تتعلَّق بالمُحال – مثلاً – لذاته، وهذا صحيح، تتعلَّق بالمُحال لغيره، لكن بالمُحال لذاته يستحيل، وهذا كلام جيد، في هذه المسائل ضعفوا، المُعتزِلة كانوا أكثر منطقية مع أنفسهم، قالوا حتى هذه المسائل تعكس ثبات الحقائق، وبعد ذلك – كما قلنا أمس عن هيجل Hegel وعن غيره – هذه الحقائق الثابتة على الأقل في الأخلاقيات وليس في المنطق وليس في المعرفة ينطبق عليها نفس الشيئ وتعكس شيئاً في الذهن الإنساني، إذا أصبحت قابلة للانقلاب فهذا يعني أن الذهن نفسه يفقد نُقطة الارتكاز وندخل في عدمية، وفعلاً تجد المُعتزِلة هنا اتجاههم ليس ضعيفاً بدرجة كبيرة وإنما قوى.
ملحوظة: سأل الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إحد الحضور قائلاً هل أنت مَن سيُحضِّر الدكتوراة عن هذا الموضوع المُتعلِّق بالتحسين والتقبيح؟ ثم قال هذا هو، هذه بداية الموضوع، أرأيت؟
إذن قال المُعتزِلة الله أمر بالشيئ لأنه خير ونهى عن الشيئ لأنه شر، الأشاعرة قالوا الشيئ خيرٌ لأن الله أمر به والشيئ شرٌ لأن الله نهى عنه والموضوع قابل للعكس، وطبعاً كثير من المُفكِّرين حول العالم لم يسغ لهم طريقة الأشاعرة، قالوا هذا كلام غير صحيح، على كل حال ما الذي يجمع المُعتزِلة بالأشاعرة؟ موضوعية الخيرية والشرية، أن هذا الشيئ في الخارج بغض النظر عن أي شيئ، فيتفقان إذن وعجيب أنهما اتفقا، فهما من هذه الزاوية يتفقان.
الآن عندنا المذهب الثاني أو الطريقة الأُخرى التي ترى عدم موضوعية وعدم استقلال معيار الخير والشر في الخارج وإنما تتعب العقل، العقل هو الذي يقول بهذا الشيئ، طبعاً في السياق الغربي – وقد ذكرنا المُعتزِلة وما إلى ذلك – الذين وافقوا على المذهب الأول أفلاطونيو كامبريدج Cambridge في القرن السابع عشر، قالوا بموضوعية المعيار واستقلاله، هم قالوا بهذا، مَن قال به أيضاً؟ قال به توما الأكويني Tommaso d’Aquino، توما الأكويني Tommaso d’Aquino قال نعم وتأثَّر بهذه النظرة الأولى، الآن عندنا الخصم الثاني، قال لا،هذا مُلازِم لطبيعة العقل وغير مُنفصِل عنه، لو العقل عُدِم تختفي هذه الصفات، لا تبقى الأشياء لا خيِّرة ولا شريرة، ففي عدم وجود العقل لن تُوجَد إمكانية للحديث عن خير وعن شر، هناك أشياء هكذا مُحايدة عند نُقطة الصفر، فالعقل حين يكون موجوداً هو الذي يخلع عليها هذه الصفات، فيقول هذا خير وهذا شر، طبعاً بمعايير مُعيَّنة، في رأس الذين قالوا بهذا كانط Kant، الفيلسوف الألماني العظيم كانط Kant قال بهذا، وهنا قد تقول لي هل دخل في هذا الموضوع؟ طبعاً دخل وكتب في هذا الكلام في نقد العقل العلمي، كتاب ضخم كله عن هذه المسألة، وقال هذا الشيئ ليس مأخوذاً من التجربة وليس شيئاً غائياً يتغيا فوائد عملية، قال هو ليس كذلك أبداً، هو حكم صوري ومُطلَق ونافذ على الجميع، قال هو قانون، مثل القانون الحاكم على السماء وكواكبها ونجومها، كانط Kant كان عنده عبارة يقول فيها السماء تلألأ بالنجوم وما إلى ذلك فوق رأسي والقانون الأخلاقي في عقلي أو في نفسي، قال هذه هي الدنيا كلها، قانون مُمتاز وطبعاً اتضح في الأخير أنه قانون نبوي، الأنبياء كلهم أكَّدوا عليه، ماذا يقول؟ اسمه القاعدة الذهبية أو القانون الذهبي أو الأمر المقولي Categorical imperative، ماذا يقول فيها؟ اعمل ولكأنك تُريد على أن تكون قاعدة عملك أو سلوكك قانوناً عاماً للأحياء كلهم أو للبشر كلهم أو للناس كلهم، قال هذا هو، فإذن وفق كانط Kant المعيار ليس مُستقِلاً عن العقل بل هو تابع للعقل الإنساني، باختفاء العقل تختفي القضية من أساسها، تبقى الأشياء مُحايدة، هذا عكس الاتجاه الأول، مِمَن قال بهذا في السياق الغربي دانز سكوطس Duns Scotus، علماً بأن دانز سكوطس Duns Scotus من الفلاسفة المدرسيين الوسيطين المشاهير، مِمَن قال به أيضاً وليام الأوكامي William of Ockham الاسماني، قلنا هذا الرجل اسماني وهو صاحب مبدأ شهير جداً يُطبَّق فيفلسفة العلم اسمه نصل أوكام Occam’s razor، الذي يقوم على ماذا؟ على الاقتصادية، لو كان عندنا نظريتان في العلم وتنجحان بدرجة واحدة في تفسير ظواهر مُعيَّنة كيف يكون الترجيح بينهما؟ الأقل فروضاً منهما نقبلها، الأكثر فروضاً نستبعدها، هذا اسمه نصل أوكام Occam’s razor، هذا هو وليام الأوكامي William of Ockham، وهو فيلسوف مدرسي Scholastic Philosopher، وقد قال بهذه الطريقة أو بهذا المنزع.
إلى الآن نحن نتكلَّم عن اتجاه الحدسيين وقد انتهينا منه، نأتي الآن إلى الغائيين، ما هو أكبر معلم قلنا أنه يُعلَّم به مذهب الغائيين؟ ما هي أكبر سمة تسم هؤلاء؟ طبعاً من المُؤكَّد أنهم نسبيون وذاتيون، ليسوا موضوعيين وإنما ذاتيون، يهتمون بماذا؟ بغايات الأفعال، وهذا مُهِم لكي نعرف معنى الغائيين، والغائيون منهم كل الفلاسفة الأخلاقيون التجريبيون، هم من الغائيين، يهتمون بالمقاصد، أي مقصد الفعل، وتحت المذهب الغائي أو النزعة الغائية لدينا أربعة اتجاهات شهيرة، أول هذه الاتجاهات الأربعة مذهب اللذة Hedonism، هناك أناس يُترجِمونها بالمنفعة، لكن في الحقيقة هي ليست منفعة وإنما لذة، فهذا مذهب اللذة، وطبعاً المُراد اللذة بالمعنى الأعم، ليس فقط اللذة الشهوية وإنما اللذة بالمعنى الأعم، فحتى تحقيق أي مطلب سيكولوجي أو مطلب جسماني يُعطي الإنسان الشعور بالطمأنينة أو بالهدوء أو بالإشباع يُعتبَر لذة عندهم، فاللذائذ لا تعني الشهوات Lusts، المُراد المعنى العام في الفلسفة للذة، والغريبة أنك ستجد بعض اللذائذيين كانوا زُهّاداً، طبعاً لأن اللذة عند الواحد منهم مسألة أوسع من الشهوة، يقول لك أنا أرتاح بالزُهد والتنسك والبُعد عن الأشياء، إبيقور Epicurus – مثلاً – ألم يكن لذائذياً؟ وكان رجلاً زاهداً جداً جداً جداً، يقتصر على لُقيمات بسيطة ولا يأكل الرجل اللحوم، كان رجلاً زاهداً، ولذا يُقال هذا إبيقوري لأن مفهوم اللذة في الفلسفة أعم منه لدى الشهوانيين، فإذن مقياس الخيرية ومقياس الشرية عند هؤلاء ما هو؟ مقدار ما يُحقِّقه الفعل من لذة، إن حقَّق اللذة فهو خير وإن لم يُحقِّقها فهو شر، يُوجَد مذهب كان اسمه المذهب القورينائي، أين هذا قورينا Cyrene؟ كلكم تعرفون هذه، هي في بنغازي اليوم، أليس عندهم صحيفة اسمها قورينا أيضاً وسدها القذافي؟ سبحان الله منطقة بنغازي وما حولها كان فيها مدرسة فلسفية اسمها المدرسة القورينائية بالعربية، أي Cyrene school، هذه هي، هؤلاء من أصحاب مذهب اللذة، الإبيقورية ذكرتها قبل قليل ومعروف أنها مذهب لذائذي، عندنا في القرن التاسع عشر أصحاب مذهب المنفعة العامة Utilitarianism، ومنهم جيمس ستيوارت ميل James Stuart Mill وأبوه وجيريمي بنثام Jeremy Bentham صديق أبوه، جيريمي بنثام Jeremy Bentham صديق جون ميل John Mill وابن جون ميل John Mill وهو جون ستوارات ميل John Stuart Mill، هؤلاء كلهم قالوا بمذهب المنفعة العامة، ما هو مذهب المنفعة العامة؟ بكلمة ماذا يقول؟ أن الخير ما حقَّق أكبر نفع أو لذة لأكبر عدد من الناس، وهذا يعني أنه ليس مذهباً فردياً، هذا مذهب جماعي طبعاً، فالخير هو ما حقَّق أكبر لذة أو أكبر منفعة لأكبر عدد من الناس، هذا مذهب المنفعة.
إذن مذهب المنفعة داخل تحته مذهب اللذة، ليس كل شيئ فينا يهدف إلى اللذة، أليس كذلك؟ هناك أبعد من اللذة وأعمق منها، فاللذة شيئٌ من هذه القوى والقُدر أو عنصر من هذه العناصر، طبعاً مذهب الطاقة الحيوي – Energism – ينشعب إلى شعبتين، مذهب الطاقة الغيري – Altruistic – ومذهب الطاقة الأناني الذاتي، مذهب الطاقة الغيري تعاطف معه أرسطو Aristotle وحتى سقراط Socrates كان مُتعاطِفاً معه مع أنهما كانا من القائلين طبعاً بمذهب السعادة القصوى لكن لا يُوجَد تناقض، وأفلاطون Plato قال بالسعادة القصوى، فلا يُوجَد تناقض مع هذا، قالوا يكون العمل هنا في مُراعاة وتلبية وتنمية قدرات وحاجات الإنسان من حيثية ارتباطها بالمُجتمَع وبأهداف المُجتمَع وليس بأهداف الفرد معزولاً عن المُجتمَع، فهذا يُسمونه مذهب الطاقة الحيوي الغيري، أي الإيثاري، لأن الغيرية عكس الأنانية فنقول غيرية أو إيثارية، فهي عكس الأنانة أو الأنانية، والشعبة الثانية مذهب الطاقة الحيوي الأناني، لا يعبأ بالمُجتمَع ولا يُوليه اهتماماً وإنما يُركِّز الاهتمام على تنمية قدرات وقوى الفرد بغض النظر تناقضت مع المُجتمَع أو توافقت، قال هذا لا يعنينا، مَن أكثر مَن مثَّل هذا في العصر الحديث؟ نيتشه Nietzsche طبعاً، نيتشه Nietzsche قال هذا هو، الذي يهمني الفرد، السوبرمان Superman، لا يهمني المُجتمَع وما إلى ذلك، هذا كله لا يهمني، وبعد ذلك استند على موضوع صراع البقاء Survival، تحدَّث عن هذا الصراع وقال الحياة كلها صراع ومُغالَبة، عليك أن تُحقِّق نفسك وأن تُحقِّق أكبر كم مُمكِن من المكاسب ولو على حساب الآخرين الضعفاء وغير القادرين والعجزة، قال هذا صراع بقاء، والبقاء فيه للأصلح والأقوى، الضعيف لا مكان له، إذن نيتشه Nietzsche يُعتبَر أكبر مُمثِّل في العصر الحديث لمذهب الطاقة الحيوي الأناني Egocentric.
يُوجَد عندنا الآن المذهب الثالث، ذكرنا أول شيئ الـ Hedonism، وذكرنا الآن مذهب الطاقة الحيوي، ثالثاً عندنا مذهب دُعاة الخير الأقصى – Ultimate – أو الخير الأبعد، طبعاً اختلفوا في تعيين هذا الخير الأقصى، ما هو الخير الأقصى؟ ما أعظم خير؟ وما معنى الخير الأقصى؟ الخير الأقصى هو الذي لا يُطلَب خيرٌ بعده، إذا بلغته يكون هو الغاية الأبعد لكل فعل أخلاقي، إذا وجدت غاية أبعد منه لن يكون هو الأقصى، فهم اختلفوا في تحديد هذا الخير الأقصى، سقراط Socrates وأفلاطون Plato تلميذه وأرسطو Aristotle كانوا من دُعاة مذهب الخير الأقصى، والثلاثة اتفقوا عموماً أن الخير الأقصى هو السعادة، قالوا بالسعادة، قد تقول لي وماذا عن العلم؟ قالوا العلم ليس الخير الأقصى، العلم يهدف إلى السعادة، وكذلك المال يهدف إلى السعادة، والسُلطة تهدف إلى السعادة، وطبعاً هناك أهداف بينية، ما معنى أهداف بينية؟ أنك تُحدِّد بعض هذه الأهداف هدفاً ثم يضح لك أنه ليس هدفاً نهائياً فتقول هذا وسيلة لكذا وهذا الهدف أيضاً أصبح وسيلة لكذا إلى أن تصل إلى السعادة، الثلاثة قالوا آخر شيئ لا يُمكِن تخطيه السعادة، قد تقول لي حتى الدين والعبادة؟ مُمكِن، يُمكِن أن ينطبق هذا عليها، لماذا نحن نعبد الله وما إلى ذلك؟ بصراحة لكي نرتاح ونسعد، أليس كذلك؟ لو كانت النتيجة – لا قدَّر الله – أننا سنعبده ثم نذهب في النهاية إلى جهنم لن نعبده، أليس كذلك؟ إذا عبدت سوف تذهب إلى جهنم وإذا لم تعبد سوف تذهب إلى جهنم ومن ثم سوف تقول لا أُريد أن أعبد، لماذا أتعب؟ على الأقل سأعيش حياتي بالطول وبالعرض بأي طريقة، لكن ربنا – لا إله إلا هو – لم يفعل هذا، قال النتيجة سوف تكون نتيجة سعيدة، ولذلك الصالحون دائماً يقولون اختم لنا بخاتمة السعادة، طبعاً هذا المُصطلَح موجود عند العارفين، هم يطلبون هذه السعادة، وأي سعادة أعظم من أن تكون في جوار الله تبارك وتعالى؟ هذا هو طبعاً، قال الله وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۩، إذن السعادة، نحن نفعل هذا لكي نسعد، نحن نفتقر إلى هذا الشيئ، هل وجدتم في القرآن الكريم أي وصف لله بالسعادة؟ لا يُوجَد هذا أبداً، هذا غير موجود، الله لم يصف نفسه أبداً بالسعادة، أي بهذا اللفظ، رغم أنه وصف المُؤمِنين بهذا، قال فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ۩ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۩ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ۩ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ۩، هناك سعادة في حق البشر، لكن في حق الله لا يُوجَد هذا المُصطلَح.
آخر شيئ عندنا مذهب دُعاة التنسك، ما المُراد بالتنسك؟ الزُهد، هذا المذهب طريقة سلبية في تحديد الخير، قالوا الخير لا يُتحصَّل عليه عبر أشياء، إنما عبر ترك أشياء كثيرة، اترك وتخلى دائماً وسوف يكون هذا الخير، مثل ترك المال وترك الشهوات وترك مُعظَم المطعومات والمشروبات وترك الزوجات وترك الاجتماع حتى بالناس – الانعزال والانعكاف في جعفة جبل أو في قُنة جبل – وإلى آخره، هذا هو التنسك، تقلل من كل خيرات الدنيا، إذن هو طريقة سلبية، طريقة نافية في تحديد الخير، طبعاً بعض الأديان اعترفت به مثل البوذية وبعض طرق الهندوسية وبعض الصوفيين عندنا، الصوفيون المسيحيون والصوفيون الإسلاميون يأخذون بهذا، أي Mysticism، رغم أن النصوص الإلهية الكريمة والنبوية طبعاً لا يُؤخَذ منها أن الزُهد هو هذا، بمعنى أنه طريقة سلبية في بلوغ الخير وفي بلوغ السعادة، الأمر ليس كذلك أبداً، الزُهد مفهوم أوسع من هذا بكثير، في سورة يوسف وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ۩، هذا مُصطلَح الزُهد في القرآن الكريم، ما معنى وَشَرَوْهُ ۩ هنا طبعاً؟ باعوه، وَشَرَوْهُ ۩ تعني وباعوه، وهذا من عجائب القرآن، المال فعلاً يُؤدي وظيفة تبادلية، يُشترى به ويُباع به، قال الله وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ۩، لماذا إذن؟ لماذا زهدوا في أخيهم؟ طلباً لشيئ أعظم من المال وهو الستر وعدم الافتضاح، هذه مُصيبة أمام أبيهم طبعاً وأمام الناس وما إلى ذلك، فلذلك أخذ بعض الأذكياء تعريف الزُهد من هنا، قالوا هذا هو الزُهد، الزُهد ليس طلب القليل أبداً وإنما هو التضحية بالقليل من أجل الكثير، فأنا أقول لك الزاهد من أعقل الناس ومن أطمع الناس في الخير، وأحياناً يكون غير الزاهد من أحمق الناس، مثل إنسان موَّله الله – عز وجل – وخوَّله مالاً طائلاً كثيراً ولم يتصدَّق بكثير وعاش حياته لكي يأكل ويشرب فقط ويُعطي أولاده ويشترى سيارات وفيللاً وأشياء، هذا ليس عنده عقل كبير، غداً سوف يجد نفسه مُفلِساً وليس له أي شيئ يوم القيامة، لو كان يُحِب نفسه كثيراً ولو كان عقله كاملاً لمهَّد لنفسه وأعطى أكثر ما عنده، لأنه في النهاية سيجده، وعندنا حديث عائشة – رضوان الله عليها – المشهور، ذُبِح لرسول الله شاة وعائشة – ما شاء الله – كانت كريمة جداً جداً جداً وقد علَّمها الرسول هذا، كانت معروفة بالكرم رضوان الله عليها، فتصدَّقت بمُعظَم هذه الشاة وبقيَ منها الذراع، فلما جاءت قال لها النبي ما فعلت الشاة؟ قالت ذهبت كلها وبقيَ الذراع، قال لا تقولي هكذا يا عائشة، بل قولي بقيت كلها وذهب الذراع، هذا هو طبعاً، الذي سنأكله سيذهب علينا، نحن أكلناه وكان لنا في الدنيا، الذي تصدَّقنا به هو الذي بقيَ، انظروا إلى هذا المنطق النبوي، كان يعيش النبي – عليه السلام – بهذا المنطق، هذا هو الزُهد، ليس زُهداً اضطرارياً وإنما زُهد اختياري، ويترك الشيئ طمعاً في شيئ أعظم منه، الإمام الغزالي في الإحياء ماذا يقول؟ يقول سليمان بن داود في مُلكه – أي وهو في مُلكه – كان من الزاهدين، كيف كان زاهداً؟ كان زاهداً لأن قلبه مُعلَّق بالله وليس بالدنيا، وهذه الدنيا يُطوِّعها لخدمة الآخرة ولخدمة الله تبارك وتعالى، هذا هو الشرط، فقد يكون أحدهم مليارديراً ويكون زاهداً، وقد يكون أحدهم فقيراً وليس زاهداً، يكون كَلِباً على الدنيا، لأن القلب مُعلَّق بالدنيا ويدور حولها على مدار الساعة، هذا ليس زاهداً، وذاك ملياردير وهو زاهد، هذا يحدث على كل حال.
أيضاً من أشهر المذاهب الفلسفية أو التي يُمكِن أن تُعَد فلسفية وأخذت بمذهب التنسك أو الزُهد الكَلبية، تعرفون منهم رجلاً شهيراً جداً جداً جداً وهو ديوجين – ديوجانس – Diogenes الكَلبي، كان ديوجين Diogenes الكَلبي مُعاصِراً للإسكندر Alexander وأرسطو Aristotle طبعاً، وكان أرسطو Aristotle يسخر منه باستمرار ويحتقره، كان يتقزز منه ومن طريقته في الحياة، وطبعاً طريقته فعلاً تُثير العجب والاستغراب، وكان يعيش حياته بشكل بسيط، كان عنده برميل يحمله معه، حين يزهق يدخل فيه مثل القنفذ وينام، وكان يعيش بسيطاً، جاءه الإسكندر Alexander مرة ووقف أمامه – على أساس أن الإسكندر Alexander هو فاتح العالم القديم – وقال له يا ديوجين Diogenes – بعد تكلَّم معه وتجاذبا أطراف الحديث – لو لم تكن ديوجين Diogenes لتمنيت مثل مَن أن تكون؟ وطبعاً هذا شعور بالنرجسية، الإسكندر Alexander يظن نفسه شيئاً كبيراً، فقال له لو لم أكن ديوجين Diogenes لتمنيت أن أكون ديوجين Diogenes، هو راضٍ عن نفسه بالكامل، عنده الرضا الذاتي، قال له هل لك حاجة؟ قال له نعم، أن تذهب من أمامي لأنك حجبت عني الشمس، قال له هيا اذهب، ابعد عني، ماذا سأحتاج منك؟ فهذا هو ديوجين Diogenes الكَلبي، هو أشهر الكَلبيين – أي أشهر الفلاسفة الكَلبيين – الذين كانوا يأخذون بالطريقة الزُهد، الرواقيون – الطريقة الرواقية Stoicism – كانوا أيضاً يقولون بالزُهد.
أخيراً تعليق عام على مسائل الأخلاق وفلسفة الأخلاق، لو استثنينا إخواني وأخواتي الميتافيزيقا ليس من مباحث الفلسفة مبحث جر إليها الخلاف وتشعب فيه الكلام وكثرت فيه الطروحات والنظريات والنظريات المُضادة مثل علم الأخلاق، هذا باستثناء فقط الميتافيزيقا، الميتافيزيقا رقم واحد – حدثت خلافات كثيرة جداً جداً جداً – بعد ذلك ليس المنطق وليس الجمال وليس نظرية المعرفة وإنما الأخلاق، أكثر شيئ كانت الأخلاق، مذاهب مُتناحِرة – علماً بأنها إلى اليوم مُتناحِرة – ومُتناقِضة ومُتناكِدة ومُتشاكِسة، فكما رأينا التجريبيون – مثلاً – وهم غائيون يرون أن العقل هو الذي يخلع على الأشياء معيارها، أليس كذلك؟ العقل يفعل هذا، وبالتالي لم يقولوا بالثبات ولا بالإطلاق وقالوا بالتحرك والنسبية، ففتحوا باب الشر على أنفسهم وعلى الناس نظراً وعملاً كما سيأتي الآن، الحدسيون – مثلاً – قالوا لا، قالوا كل شيئ يعود إلى مباديء بسيطة وهي مباديء شاملة كُلية ومُطلَقة غير قابلة للتغير، ومعيار الخيرية مُستقِل موضوعي عن إدراك البشر، فهل علم الأخلاق إذن علم وضعي أو علم معياري؟ سؤال جديد الآن، ما هو العلم الوضعي Positive؟ ما هو العلم المعياري Normative؟ ماذا ترون؟ هل علم الأخلاق وضعي أو معياري؟ العلم الوضعي – يقولون هذا علم وضعي وهذا مذهب الوضعية – هو العلم الذي يدرس الأشياء كما هي، في حال كونها كما هي يدرسها، الآن نفترض – مثلاً – علم النفس، يدرس السلوك البشري والدوافع البشرية وكل ما تعلَّق بالسلوك الإنساني، فهل هو يدرسه كما ينبغي أن يكون أم كما هو؟ كما هو، هذا علم وضعي، نفترض الآن علم الأنثروبولوجيا Anthropology، أي علم الإناسة، فعلم الأنثروبولوجيا Anthropology يُترجَم بعلم الأناسة، هل هو علم وضعي أم علم معياري؟ هل يدرس المُجتمَعات البشرية وعاداتها وتقاليدها ونُظمها في الزواج وفي الطلاق وفي الأكل وفي الشرب وفي تقريب القرابين وإلى آخره – كل مباحث الأنثروبولوجيا Anthropology – كما هي أم يفرض عليها معايير مُعيَّنة وما إلى ذلك؟ يدرسها كما هي، إذن هذا علم وضعي Positive، وعلم الفيزياء وضعي وعلم الكيمياء وضعي وعلم الطب وضعي وإلى آخره، لكن عندنا علم الأخلاق مثلاً، هل يدرس الأشياء كما هي هكذا أم يُحاوِل أن يضع ضوابط وقواعد ويُرشِد إلى مباديء هادية لتقويم السلوك وانتخاب السلوك الأسلم والأكثر أخلاقيةً؟ الخيار الثاني هو ما يفعله علم الأخلاق، هذا ما يفعله، ولذلك علم الأخلاق هو علم معياري Normative، أي أنه علم يتحدَّث ويدرس ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن، كيف ينبغي أن نعيش؟ ما الذي ينبغي أن نفعله؟ وهكذا إلى آخره، ماذا عن الشريعة؟ الشريعة بهذه الطريقة معيارية أم لا؟ هي معيارية طبعاً، مُستحيل أن الشريعة تعكس واقع الناس، بالعكس الشريعة تُريد أن تُدبِّر واقع الناس، أليس كذلك؟ لا تدرسه كما هو وتُبرِّره وإنما تُريد أن تُدبِّره، ولذا تُخالِف أهواء الناس، وبالعكس يُقال لك حتى في تعريف الشريعة أنها موضوعة لإخراج العبد من داعية هواه وإيصاله لمُوافَقة هوى الله تبارك وتعالى، لكن أنا مُتحفِّظ على تعبير هوى الله، وللأسف أقرأه لأئمة كبار، أجدهم يُعبِّرون بهذا الأسلوب، نعم يُمكِن أن نقول هوى النبي لكن غير لائق أن نقول هوى الله، كلمة هوى غير مقبولة، ولذا لا نقول هوى الله مع أن هذا الأسلوب دائماً ما يُذكَر، بالأمس قرأتها لبعض العلماء لكن في سياق آخر، في سياق محبة الله عز وجل، قال إبراهيم الجُنيدي – ليس أبا القاسم وإنما إبراهيم – هذا التعبير، المُهِم هذه الشريعة على كل حال، فالشريعة معيارية، نعم يُمكِن أن تكون مُؤسَّسة طبعاً على بعض الأمور بلا شك وهي أشياء وضعية، أي حقائق ثابتة، هذا مُمكِن وهو موجود، فعلم الأخلاق إذن علم معياري.
من أمس العلوم بعلم الأخلاق – مثلاً – علم النفس، أليس كذلك؟ يعلم هذا الذين يدرسون السلوك البشري والضمير وتحت الضمير أو اللاشعور وإلى آخره، لكن هذا العلم ليس معيارياً، لأنه لا يُحاوِل أن يهدي ولا أن يعظ وما إلى ذلك، لا يفعل هذا أبداً، يُحاوِل أن يدرسك كما أنت، ويدرس الصحيح صحيحاً ويدرس المريض مريضاً، ثم يُقدِّم تقريره، ليس عنده مُشكِلة في هذا، بعد ذلك يأتي العلاج النفسي – علم العلاج النفسي – وطريقته، دخلنا إلى حدٍ ما في المعيارية، أما علم النفس وحده كعلم نفس هو علم وضعي وليس معيارياً، علم الطب – مثلاً كما قلنا – علم وضعي، علم التصحاح – الـ Hygiene وما إلى ذلك – علم معياري طبعاً، علم الطب الوقائي هو علم معياري في جُزء منه طبعاً، في جُزء منه وضعي وواضح أنه وضعي – يتأسَّس على الوضعيات – لكن في جُزء كبير منه هو معياري، فحقيقته كطب وقائي معياري، يُقال لك افعل هذا ولا تفعل ذاك وسوف يحدث كذا وكذا، ومن ثم أصبح معيارياً، فلابد أن نُفرِّق بدقة، المُهِم أننا مادام فهمنا ما الوضعي وما المعياري سوف يكون من السهل أن نُفرِّق، علم الأخلاق يا إخواني مُمكِن في جُزء منه أيضاً أن يكون علماً وضعياً، أليس كذلك؟ إذا تسلَّط على دراسة أخلاق الناس ومُعتاداتهم وتقاليدهم ومسالكهم كما هي بمناهجه، مثل مناهج علوم الاجتماع مثلاً، أليس كذلك؟ فيصير علماً وضعياً، لكن أساسه أنه علم معياري، يعتني بوضع القواعد – Rules – والمباديء لتحسين وترقية حياة البشر.
طريقة بحث مسائل علم الأخلاق مُختلِفة بين العقليين وبين الماديين الحسيين أو الطبيعيين كما يُسمونهم، العقليون كما أشرنا ربما وألمعنا موضوعيون، وفهمنا لماذا هم موضوعيون، العقليون والحدسيون موضوعيون، إذا كانوا موضوعيين هل سيستخدمون المنهج الاستنباطي في دراسة مسائل الأخلاق أم سيستخدمون المنهج الاستقرائي وهم موضوعيون؟ سيستخدمون المنهج الاستنباطي، لأن الواحد منهم يُؤمِن بموضوعية المعايير، أليس كذلك؟ ولذلك لكي أفهم مسائل الأخلاق فهماً دقيقاً سأستخدم المنهج الاستنباطي، بمعنى ماذا؟ أبدأ بالكُلي وانتهي إلى الجُزئي، لأن عندي قواعد مُسلَّمة ومباديء عامة ومُطلَقة، فأنا أنطلق منها وانتهي إلى أحكام جُزئية، هذه طريقة البحث العقلي، يُسمونه البحث العقلي الموضوعي في الأخلاق، وواضح أنه لائق بالحدسيين، أليس كذلك؟ إذن لو سألك أحدهم مَن الذين يستخدمون الطريقة العقلية الموضوعية الاستنباطية في الأخلاق؟ قل له الحدسيون طبعاً، تليق بهم، في المُقابِل لدينا الطبيعيون الذاتيون، يستخدمون الطريقة الاستقرائية، أي الذين يستقرون، وطبعاً لا تقل يستقرئون، يُوجَد فرق وهذا خطأ كبير يُخطيء فيه أكثر المُتحدِّثين، يقولون لو ذهبت تستقرئي هذا الشيئ سوف تجد كذا وكذا، لكن تستقريء تعني ماذا؟ تطلب القراءة، لكن من الاستقراء – Induction – نقول تستقري، أي بدون الهمزة، فلو ذهبت تستقري – مثلاً – بطريقة الاستقراء فهذا معناه ماذا؟ أنك تُحاوِل أن تدرس الواقع كما هو لتستنبط منه أحكاماً، وسوف ترى عند الشعب الفلاني الأخلاق تقضي بكذا وكذا وكذا وكذا، والمعيار هو كذا وكذا وكذا، لكن يثبت الدرس والاستقراء أنه عند الشعب العلاني المعيار مُختلِف وهو كذا وكذا، أي أنها دراسة استقرائية لا تُؤمِن بمباديء ثابتة ولا بمُطلَقات وإنما تُؤمِن بالمُتحرِّك والمُتغيِّر، هذه طريقة الطبيعيين الذاتيين، ولا تقوم على الاستنباط طبعاً، تقوم على ماذا؟ في أساسها طبعاً تقوم على الاستقراء، مثل طريقة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا Anthropology، فهي تقوم على الاستقراء تماماً، طبعاً ويختلفون، فالآن لو رأينا مناهج علم النفس – مثلاً – التي تتعلَّق بمسائل الأخلاق نجد أنها تنتمي إلى الموضوعيين العقليين أم إلى الطبيعيين الذاتيين؟ تنتمي إلى الثانيين طبعاً، طريقة مدارس علم الاجتماع الحديث وخاصة المدرسة الفرنسية – إميل دوركايم Émile Durkheim وليفي-بريل Lévy-Bruhl وهؤلاء الجماعة – أيضاً تنتمي إلى الذاتيين طبعاً، فهم لا يُؤمِنون بالإطلاقيات، فمثلاً علماء النفس كيف يُفسِّرون الضمير؟ هم يتحدَّقون عن الضمير، كيف يُفسِّرونه؟ لا يُوجَد شيئ ثابت، قال الله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، لم يقولوا هذا الكلام أبداً، قالوا الضمير هو ماذا؟ هو جهاز رمزي طبعاً يتكوَّن عبر الأوامر والنواهي والعادات والتقاليد التي يتلقاها الطفل في صغره، أيضاً زائداً أو إضافة إلى ما يمر به الطفل من تجارب سيئة وحسنة، والتجارب السيئة الأليمة يحصل لها كبتٌ وزحزحة وانزلاق إلى اللاشعور، لأننا كلما تذكَّرناها سوف نتألَّم، فلكي لا نتألَّم – والإنسان يُريد أن يعيش – لابد أن نغض عنها، كيف؟ تنزلق هذه إلى اللاشعور، إلى الإيد Id، يُسمونه الإيد Id بمعنى الهوْ، أي الهوَ، فتنطلق إلى الهوَ، وطبعاً هم يقولون الهوْ لأننا نقف عليها فنقول الهوْ، لكن المُراد هوَ، فتنطلق بطريقة الكبت Repression، يحدث لها كبت وتظل كذلك وينتهي الأمر، وبعد ذلك لا تظهر في ساحة الشعور، تظهر فقط في لحظات الهستيريا Hysteria أو لحظات مُعيَّنة أو عند التنويم المغناطيسي إذا أثرناها، لكنها تبقى هناك، ومع ذلك تبقى تُوجِّه أفعالنا من طرفٍ خفي، مثل الشاب – مثلاً – الذي جاء المُعالِج ورأى أن عنده حالة عجيبة جداً جداً، عنده عمى في اللون الأحمر، وتبيَّن أن هذا العمى ليس له أُسس عضوية، عنده كل شيئ سليم عضوياً، لكن هو لا يرى الأحمر، يراك ترتدي الأبيض وليس الأحمر، فاستغرب المُعالِج، لماذا؟ ظل يُحلِّل في جلسات تحليل وبعد ذلك تبيَّن الأمر، هذا الشاب حين كان عمره خمس سنوات رأى أمه يُغمى عليها وتقع ويُشدَخ رأسها على طرف الدرج فتموت من فورها والدم ينزل، طبعاً صُعِق الولد، خمس سنوات ورأى أمه في هذه الحالة، ومن تلكم الساعة لا يرى اللون الأحمر، لماذا؟ لأن رؤيته للون الأحمر تُذكِّره بالمشهد الأليم، كيف وقعت أمه وحدث لها ما حدث، وهو يُحاوِل دائماً أن يتناسى هذا المشهد، فاللون الأحمر مربوط ومن ثم صار عنده – سبحان الله – عمى، القرآن الكريم أشار إلى هذه الحالة، قال الله وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ۩، ينظرون لكن لا يرون، ينظر إلى الأحمر ولا يرى الأحمر مثلاً، ينظر إلى الشخص ولا يراه، يُوجَد عندنا في علم النفس نوع يُسمونه البكم الهستيري – مثلاً – أو العمى الهستيري أو الصمم الهستيري، هناك سيدة جاءت عند مُعالِج وتحدَّث عنها علماء النفس في مُعالَجة هذه الأشياء وتحليلها وهذه السيدة لا تتكلَّم، أي عندها بكم، فسأل وقال هي كانت تتكلَّم، قبل أسابيع كانت تتكلَّم بصورة عادية، طوال حياتها كانت تتكلَّم وفجأة لم تعد تتكلَّم، كانت تتكلَّم تحت كل الظروف، فالمُهِم جلس معها وبدأ يطرح أسئلة وبالكتاب وما إلى ذلك عرف السبب، هذه السيدة المسكينة فاجأها القدر بأختها – والعياذ بالله – تخونها مع زوجها، عادت من العمل ذات مرة فرأت هذا الشيئ، لا تكاد تُصدِّق وقد كانت وفية جداً ومُحِبة لأختها، وتعتقد في زوجها أنه أوفى الرجال، فحين رأت هذا المسكينة صُعِقَت، فصار عندها حالة بكم – أي خرس – هستيري، هذا ليس بكماً عضوياً، فلما طبعاً وُجِهَت بهذه الحالة والدكتور عرف وقال لها ما حدث بكت وعادت إلى حالتها، فالإنسان مُعقَّد، كائن عنده أشياء غريبة جداً جداً جداً، فالمُهِم علماء النفس يتكلَّمون بهذه الطريقة، قالوا هذا هو الضمير وليس أكثر من هذا، هذا هو فقط، ولذلك هذا الضمير ومُكوِّناته يختلف من شخص إلى شخص ومن عصر إلى عصر، أليس كذلك؟ ومن بيئة إلى بيئة وهكذا بحسب اختلاف العادات والتقاليد والأفكار والأديان والتجارب، هذا هو الضمير، ليس مسألة إلهية موجودة في الإنسان وما إلى ذلك، قال الله – كما قلنا – فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩.
سوف نُنهي الحديث إن شاء الله، وسنتحدَّث عن النسبية والإطلاقية بعد الاستراحة – Break – إن شاء الله.
علماء الاجتماع بنفس الطريقة يقولون الأخلاق هي بنت المُجتمَع وبنت العقل الجمعي، ما يتعاطاه الناس على أنه خير وما إلى ذلك لابد للإنسان أن يُوافِق عليه، لابد أن يُوافِق المجموع فيما هم عليه لكي يقدر على التكيف معهم وإلا لن يقدر على العيش معهم، لكن علماء الاجتماع وحتى علماء النفس لم يقدروا على أن يُفسِّروا لنا أشياء مُعيَّنة، كقضايا الأنبياء والمُصلِحين الكبار – مثلاً – الذين يأتون بضد عقيدة المُجتمَع على طول الخط، أليس كذلك؟ وهم أبناء هذا المُجتمَع ونشأوا فيه، أليس كذلك؟ هذه الأشياء بالذات تُشكِّل تحدياً، ماركس Marx قال من أصعب الصعوبات التي وُجِه به هو وفكره أن يُفسِّر حالته هو، كيف كانت؟ هذا صعب، أنت ابن هذا المُجتمَع، أليس كذلك؟ وتخضع لتأثير البُنى التحتية، قيل ذات مرة الخلفاء الراشدون نفس الشيئ، يُشكِّلون تحدياً الآن لأمثال هذه الأفكار الفطيرة والساذجة، فأبو بكر – رضوان الله عليه – وعمر وعثمان وعلي – هؤلاء الأربعة بالذات – كان يُمكِن أن يعيشوا في مُستوى رافه لأنهم أصبحوا خلفاء، لكنهم بعد أن أصبحوا خلفاء زاد فقرهم، أليس كذلك؟ فكانت هذه الخلافة نقمة عليهم على المُستوى الشخصي والعائلي، صاروا أكثر فقراً، سيدنا عمر كان يسير بمُرقَّعة، أليس كذلك؟ في الجاهلية وفي الإسلام لم يكن الرجل يرتدي مُرقَّعة، فكيف يستطيع ماركس Marx أن يُفسِّر هذه الحالة؟ ليس عنده تفسير، هذا مُستحيل، ماركس Marx كان يقول الذي يسكن القصر تفكيره يختلف عن الذي يسكن الكوخ، ائت برجل من الكوخ وأسكنه في قصر ثم انظر إليه بعد سنة أو سنتين، سوف يختلف التفكير، أليس كذلك؟ هؤلاء الناس كان عندهم فرصة ليس لأن يسكنوا قصراً وإنما لأن يسكنوا إينما يُريدون، ومع ذلك لم يتغيَّر أحدٌ منهم، بقيَ كما هو، أليس كذلك؟ وازداد زُهداً، إذن الإنسان فيه قدرة روحية وفيه نزوع روحي يجعله يتجاوز تأثير الشروط الاقتصادية والمُجتمَعية، وهذه عظمة الإنسان، أليس كذلك؟ هذه عظمة الإنسان، الإنسان ليس مُجرَّد آلة تخضع بطريقة آلية للشروط المُجتمَعية والاقتصادية، بالعكس أحياناً الإنسان في جُزء منه يكون مُقتنِعاً بأفكار المُجتمَع وطروحاته لأنه تربى عليها وسعد بها وبعد ذلك يحدث عنده تمرد ذاتي على ذاته وحالة سخط على النفس، أليس كذلك؟ إلى أن يحدث التصالح، ولكم أن تتصوَّروا هذا، تكون هناك شخصية جديدة لكنها تكون ثائرة، وقد يُعلَّق على صليب أو على مشنقة، هذه عظمة الإنسان، فالإنسان ليس كائناً آلياً يُمكِن أن يُفسَّر بطريقة آلية أو ميكانيكة حتى.
نكتفي – إن شاء الله – بهذا القدر، بعد الاستراحة – Break بإذن الله – سنأخذ قبل أن ندخل في علم الجمال المسألة التي وعدتكم بها وهي مسألة نسبية الأخلاق وإطلاقها وكيف نُعالِجها بإذن الله تعالى.
(تابعونا في الحلقات القادمة)
أضف تعليق