إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ۩ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ۩ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۩ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ۩ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۩ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ۩ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۩ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ۩ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ۩ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩ أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۩ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
يفرح المرء ويُسَر غاية السرور، إذا أثنى عليه رجلٌ صالحٌ عارفٌ مُبارَكٌ بالخير. إذا أثنى أحد أهل الله عليك بالخير، تفرح غاية الفرح وتُسَر مُنتهى السرور. فكيف يا أحبابي – إخواني وأخواتي – بمَن أثنى عليه مالك المُلك، رب العالمين – لا إله إلا هو -؟ هل ثمة شهادة أعظم من هذه الشهادة أو شرف أبذخ وأعلى من هذا الشرف وأشرف؟ كلا والله.
مثل هذه الآيات الكريمات من أواخر سورة الفرقان في كتاب الله، ولها أمثال، هي شهادة رب العزة والجلال للصالحين من عباده، الذين نسبهم إلى نفسه العلية القدوسية، وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ ۩، قال هؤلاء عبادي، ليسوا عِبَاد الشياطين، وليسوا عُبّاد الشياطين، وليسوا عُبّاد أنفسهم، وليسوا عُبّاد الدنيا والشهوات، إنهم: عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ ۩، الذين سيُنزِلهم الله – تبارك وتعالى، جعلني الله وإياكم جميعاً بفضله ومنّه منهم – في الآخرة مُنزلاً خيراً، ويُكرِم وفادتهم، ويُعلي مثابتهم ومُقامهم عنده – لا إله إلا هو -، ويُؤبِّده – أي يُؤبِّد هذا المقام – في نعيم خالد غير منون، في جوار الرحمن – لا إله إلا هو -، وهذا هو الشرف الذي ما بعده شرف، والسعادة التي لا سعادة وراءها.
لما سُئلت رابعة العدوية – رضوان الله تعالى عليها – أن تُحدِّثهم عن الجنة، وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم المُقيم، قالت الجار قبل الدار. هناك ما هو أهم من الجنة، ليست الجنة هي الأهم، إنما الجار قبل الدار. رضوان الله عليها، ما أدق فهمها! وما أعظم عرفانها! ثم تلت قول الحق – سُبحانه وتعالى – إِذْ قَالَتْ ۩، أي امرأة فرعون، إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ۩، عِندَكَ ۩، شبه الجُملة هنا، شبه الجُملة هو المُهِم، هذه الظرفية، ابْنِ لِي ۩، لم تقل ابن لي بيتاً في الجنة. لا! ابْنِ لِي عِندَكَ ۩، الجار قبل الدار. الجار قبل الدار! لمَن؟ لعباد الرحمن.
إخواني وأخواتي:
مثل هذه الآيات الزاكيات المُبارَكات الطيبات العاليات الشريفات نوع تفصيل – هذه الآيات نوع تفصيل – للأمر الجُملي (الإجمالي) بتزكية النفس، بتزكية النفس والإشادة بهذه التزكية، قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ۩، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۩، يا ربي وكيف السبيل إلى تزكية نفوسنا؟ قال اتلوا هذه الآيات، اتلوا كتابي، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩، كل ما يتعلَّق بشأن الربانية، بشأن الدين، بشأن التقرب إلى الله وإرضائه، موجود بتفاصيله في كتاب الله، أو بالإشارات إليه، إجمالاً أيضاً، موجود، وتفصيله عند النبي المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، والفهم الذي يُؤتاه الرجل في كتاب الله، كما في حديث أبي الحسنين – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه -، الفهم – في الصحيح – الذي يُؤتاه الرجل أيضاً في كتاب الله – تبارك وتعالى -.
استمعت إلى قصة عن أحد أولياء الله المُعاصِرين – في هذا العصر -، وهو الشيخ محمد أمين كفتارو – قدَّس الله سره -، من علماء وأولياء الشام، من أصل كُردي، وكم أخرج هذا أو كم أخرج هؤلاء القوم (الأكراد) لهذه الأمة من علماء وعارفين وأولياء وشعراء! شيئ غريب، هؤلاء أُناس مُبارَكون في جُملتهم، بارك الله في أمة محمد جميعاً، وما أحلى أمة محمد! إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، ليس لعربي فضل على أعجمي ولا غير أعجمي إلا بالتقوى، وباب الله مفتوح للجميع، وطريقه سالكة ناهجة للجميع، وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۩.
الشيخ محمد أمين – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حين أخذ العهد على شيخه عيسى الكُردي، وهو أيضاً كُردي، وكان رجلاً كبيراً، وعالماً جليلاً في علوم الشرع على اختلافها، ومن أهل الله، صاحب قدم راسخة، عاد إليه بعد أيام في حال عجيبة، قال يا شيخي، يحدث معي أمرٌ عجيبٌ جداً يا شيخي. قال ما هو يا ابني؟ قال يا شيخي، كنت قبل أن أتعرَّف إليك وآخذ العهد منك أتلو في اليوم في سحابة النهار أجزاء كثيرة من كتاب الله، عشرة أجزاء أو خمسة عشر جُزءاً، أي نصف المُصحف في اليوم، أما اليوم فلا أستطيع أن أُغادِر في اليوم كله بطوله آية. ابتسم الشيخ، قال ولِمَ يا بُني؟ قال يا شيخي، كلما تلوتها بدت لي منها أسرار وعلوم، حتى إذا كررتها، بدت لي منها أسرار وعلوم، النهار بطوله! فابتسم الشيخ، قال هو ذاك، هو هذا. مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۩.
وبعض الناس يعيش ويموت – من المُسلِمين، هو من المُسلِمين – يتلو كتاب الله خاراً عليه، أصم، أعمى! وقد برّأت الآية عباد الرحمن من هذا الوصم ومن هذا العيب، يتلوه خاراً عليه، أصم، أعمى. هذا المسكين لا يكاد يفقه ما يتلوه، ولذلك لا يكاد يعود منه بنفع، ينتفع به، يُنوِّر ساحة نفسه، يُنوِّر قلبه، ويهديه إلى توبة نصوح صادقة، يفتح له باب تلمح الخيرات والقُربات، باباً جديداً! لا شيئ من هذا. نسأل الله فتوحه وعطاياه – لا إله إلا هو -.
إذن يا إخواني هذا هو، ولذلك انتبهوا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۩، وقد سمعتم أن الزكاة في أصل الوضع اللُغوي هي النماء والزيادة. زكى الثمر، أي زاد. زكى الشيئ، أي زاد وربا واتسع. هذه هي الزكاة! ولذلك تزكية النفس… ماذا؟ زيادة للنفس. وبلُغة للقرآن شرحٌ، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۩، قال ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – ألم نُوسِّع لك صدرك؟ ليست توسعة حسية، وإنما توسعة روحانية ربانية نورانية معنوية. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۩، سعة!
لذلك يُعجِبني – إخواني وأخواتي – ويُعجِبكم بالحري القول الآتي للعامة في بلادنا العربية، العامة يتلمَّحون هذه المعاني، ولعلهم أخذوها عن أهل الله، إذا رأوا رجلاً كريماً تقياً عفيفاً صيّناً ديّناً مُتجاوِزاً مُغضياً – مُغضياً عن سفاسف الناس، وعن وقوعهم في حقه، وعن أشياء كثيرة -، ماذا يقولون؟ يقولون إنه كبير، كبير! هذا كبير. وطبعاً لا يقصدون أنه كبير في السن، ولا يقصدون أنه كبير في الجسم، ولا يقصدون أنه كبير في المثابة الاجتماعية. إذن كبير في ماذا؟ كبير في روحه، كبير في نفسه. أي صاحب نفس زكية، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۩، قابله – تبارك وتعالى – بماذا؟ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ۩، وأصل دسَا دسَّ بتضعيف السين، بتضعيف السن! دسَّ، أي دسس. دسَّ! لكن للتخفيف – هذا أجمل وأحلى – أبدلوا ماذا؟ أبدلوا من السين الألف، فقالوا دسَّا، دسَا. دسَّا، وذلك بدل دسس. والدس هو ماذا؟ الإخفاء. أن تأخذ شيئاً، فتُخفيه في جيبك أو في كمك أو تحت إبطك، لأنه صغير. ما أجمل القرآن! ما أعظم كلام ربي!
الله يقول نفس زكية، كما قال محمد إقبال – رضوان الله عليه – المُؤمِن حارت الأكوان فيه. كبير! المُؤمِن كبير، أكبر من السماوات والأراضين. ولذلك ورد في الأثر الإلهي لم تسعني سماواتي وأراضي، ووسعني قلب عبدي المُؤمِن. القلب المُنير، القلب الألماس الطاهر الأبيض كالصفا، المُبرأ من كل شوائب الشرك، صغيره وكبيره. هذا يسع رب العالمين، أن ينظر فيه، وأن يتجلى على عرشه، أي على عرش هذا القلب. فخُذ ما شئت من فتوح، وخُذ ما شئت من أمداد، وخُذ ما شئت من علوم ومعارف. الله يقول قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۩، نفس كبيرة، تسع الأكوان. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ۩، ونفس أُخرى تدور على الشهوات وعلى اللذائذ وعلى مُقتضى المادة وعلى مُقتضى الظلام والحس فقط، صغيرة حقيرة، يُمكِن أن تُخبّأ أو تُخبأ تحت الإبط أو تحت الأرض أو في الحمام أو في أي مكان، نفس صغيرة حقيرة، وأي شيئ يستخفها، أي شيئ يستخفها! بقليل من الشهوات والمُغريات تأتي، تُستخَف بها مُباشَرةً، تترك دينها الظاهر.
يا رجل الآن كنت معنا في المسجد، الآن فرغت من صلاة الجُمعة، خرجت تبحث عما حرَّم الله؟ خرجت تفوه بما حرَّم الله؟ لأنها نفس مُدساة، نفس حقيرة، نفس لم تزك، ليست زاكية. النفس الزاكية كبيرة مُتعالية على كل هذا السفساف. ولذلك روى ابن جرير وعبد الرزاق الصنعاني وغيرهما كثيرون، أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – فسّر قوله – تبارك وتعالى – من سورة الأنعام فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۩، وفي كتاب الله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۩، يُوسِّع! اللهم وسِّع صدورنا بالإيمان والإحسان والقرآن والفرقان. فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۩، القرآن فسَّر ما معنى الشرح، التوسعة والاندياح. عكسها ماذا؟ الضيق والحرج. الضيق! صدر ضيق.
ولذلك ترى أهل الله – تبارك وتعالى – في عموم أحوالهم أرضى عباد الله، بغض النظر عما يُصيبهم من لأواء الدنيا ومشاقها وابتلاءاتها وأتعابها. أرضى خلق الله، في سعادة، في رضا، في سكينة، في فرح. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۩، من الدنيا وما فيها، وترى أهل الدنيا وهم مُسلَّطون فيها، نافذون، مسموعة كلمتهم، حيزت لهم الدنيا بحذافيرها، عندهم ملايين، وربما الملايير، وأضيق الناس صدراً، في قلق، في توتر، في (نرفزة) كما نقول، في عصبية، في خوف، لا يهنأون بنوم كما نهنأ، لا يهنأون بأكل، لا بشرب، لا بولد، لا بزوجة، لا بمُلك. ما الذي حصل؟ بكل بساطة وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ۩. هذا القرآن، هذا القرآن! يعرفه مَن عاشه، يعرفه مَن عاشه، يعرفه مَن جرَّبه.
تُريد السعادة والسكينة والاستقرار والأمن والطمأنينة والسرور؟ اهرع إلى الله، فر إلى الله – تبارك وتعالى -، اتصل بالله، تواصل مع الله، ازدلف إليه، تقرَّب إليه. وسوف تجد هذا، ومرة أُخرى بغض النظر عن لأواء الدنيا ومشاقها ومتاعبها وتنغيصاتها. والعكس صحيح!
فإذن ماذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لما سُئل يا رسول الله وكيف تُشرَح؟ الصحابة أذكياء، يُحِبون أن يفهموا، لا يخرون صُماً وعُمياناً، يتوهَّمون أن كل شيئ واضح ومفهوم، لا! يُحِبون أن يفهموا، هذه كنوز، كنوز الرحمن! الله يتكلَّم إلينا، حري أن نقف العمر كله، نُفكِّر في هذا الكلم الإلهي العلوي، وليس ساعة أو ساعتين في درس أو درسين، وإنما طيلة حياتنا، نتلو ونبكي ونتأمَّل، الله يُخاطِبنا – لا إله إلا هو -، بكلامه العُلوي المحفوظ المُتواتِر. فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ ۩، اللهم اهدِنا. يَشْرَحْ صَدْرَهُ ۩، إذن الهداية تُريد شرحاً. معناها الدين شيئ كبير، الدين لا يُمكِن أن تستقبله نفس صغيرة حقيرة مُدساة ضنكة، لا تستطيع، لا تستطيع! غير مُستعِدة، غير مُهيأة. أنت لا تستطيع أن تضع في إناء سعته عشرة لترات – مثلاً – مليار لتر من الماء أو من البحر. مُستحيل! الدين أكبر من هذا، الدين أكبر من كل شيئ، كلمات الله أكبر من كل شيئ. فهذه تُريد ماذا؟ تُريد صدراً مُنشرِحاً واسعاً، نفساً كبيراً.
فالله – تبارك وتعالى – يقول – عز من قائل – أنا حين آذن بهداية واحد من عبادي، أشرح صدره، لكي يصير مُستعِداً مُستأهِلاً لاستقبال هذه الهداية الباذخة العظيمة الجليلة. فقالوا – أي الصحابة – يا رسول الله وكيف يشرحه؟ كيف يصير هذا؟ المفروض أنها غير مفهومة، هذا الصدر كيف يتوسَّع؟ فقال مُعلِّم الناس الخير – أرأيتم؟ هذا رسول الله طبعاً حين يُفسِّر القرآن، ما شاء الله، ما أسعدنا به! صلوات ربي وتسليماته عليه إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنة عرشه، ومِداد كلماته، حتى يَرضى ويُرضينا – إن النور إذا وقع في الصدر، انفسح. قال لهم بالنور الإلهي. الله يُلقي من نوره – لا إله إلا هو – في صدر هذا العبد المُوفَّق المُعان – اللهم وفِّقنا وأعنا، في كرامة منك وعافية – المسعود المبرور، يُلقي من هذا النور في صدره، هي مُجرَّد إلقاءة، هذا النور إذا وقع في الصدر، انفسح. يُصبِح هذا الصدر مُنشرِحاً.
بعض الناس يقول لك وهو مُسلِم، وربما يُصلي ويُقطِّع، يقول لك يا أخي – سُبحان الله – لا أحتمل حتى أن أستمع إلى القرآن كثيراً، يضيق صدري. لا إله إلا الله، أعوذ بالله، نعوذ بالله من الشقاء، نعوذ بالله من الخذلان. يقول لك أنشرح وأفرح وأكون مُستعِداً حين أسمع الموسيقى والغناء والطبل والكلام الفارغ هذا، أجلس بالساعات! لكن حين أفتح القرآن لدقائق، يضيق صدري. مسكين! علامة – والله – يا أخي من أسوأ ما يكون. أنت حين تخرج لك بثور أو تطبعات حمراء أو غيرها، تخاف جداً، تخشى أن تكون سرطاناً، أو علامة مُنذِرة بأمراض في الكبد. تُهرَع إلى الطبيب المُختَص مُباشَرةً. يا رجل هذه علامة أخطر بكثير – والله العظيم -، قسماً بالله هذه علامة أخطر بكثير من كل هذه العلائم والأعراض البدنية، نهايتها ماذا؟ هلاك البدن. لا بأس، كلنا سنموت، إن عاجلاً أو آجلاً، ما من أحد مُخلَّد، لكن إن نجت الروح والنفس ونُعِّمت، فليهلك البدن. البدن مثل هذا اللباس، نلبسه ونخلعه. لا بأس، لكن إن هلكت الروح، ماذا يُفيد أن يعيش البدن مائة سنة مُنعَّماً؟ تعيش مائة سنة أو مائة وخمسين – مَن يعيش مائة وخمسين – ثم ستهلك، وماذا بعد؟ إلى الشقاء الأبدي. لا! نسأل الله أن يُتمم علينا عقولنا، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩، الإيمان يُريد عقلاً، عقلاً حقيقياً راسخاً، ولكن هذا كله – كله فعلاً – تختصره هذه القذفة من النور الإلهي، اللهم نوِّرنا وافسح صدورنا بالإيمان واشرحها يا رب العالمين.
الصحابة – انظروا إلى هذا – أذكى من أن يكتفوا بهذا الجواب الجامع المانع، أرادوا ضابطة، فهمنا أن الله إذا قذف وألقى من نوره في صدر عبده، انفسح. فهمنا! لئلا نقع في التوهم نُريد ضابطة، قد يظن الإنسان أنه من الذين شرح الله صدورهم بالإيمان وللإسلام، فلئلا نقع في هذا نُريد ضابطة. الصحابة أذكياء جداً، يتهمون أنفسهم، ويُفتِّشون أنفسهم على الدوام، أرادوا ضابطة، أي معياراً، مسباراً. أرادوا ضابطة بها يُعرَف حقيقة استنارة الصدر من إظلامه، هل حصل أن الله ألقى في هذا الصدر من نوره؟ وأنت سوف تقول لي والله هذا سؤال عظيم، جزاهم الله عنا خيراً. أرأيت؟ جزى الله أصحاب محمد – صلى الله على محمد وآل محمد، ورضيَ عنهم بما سألوا هذا السؤال – عنا وعن امة محمد خيراً. أفادونا علماً جماً، وانظروا مرة أُخرى إلى مُعلِّم الأكوان، مُعلِّم الدنيا ومَن فيها الخير، قال نعم حين سألوه يا رسول الله وهل لهذا من علامة؟ هل لذلك من العلامة؟ أي هل هناك علامة لكي نعرف أن الله ألقى من نوره في صدر الواحد منا أو لم يُلق يا رسول الله؟ نُريد أن نعرف، المسألة جد، أهم مسألة هذه، أهم مسألة! أن نكون من أهل الله، أن نكون من أهل عنايته، عُنيَ بنا. قال نعم. ما هي العلامة؟ الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور. يُنيب – يعود، يرجع – الإنسان، إلى ماذا؟ إلى طلب الآخرة، إلى طلب ما عند الله. يصير التحدي والجهد والوكد والعمل ماذا؟ رضوان الله، والنعيم المُقيم الأُخروي. والتجافي عن دار الغرور، الدنيا دار غرور، دار كذب، دار أحلام، دار أوهام.
بعض الناس سينبعث الآن للأسف الشديد، ليقول هو هذا، هو هذا الذي أضر بدنيانا، وربما بديننا، تدعون الناس إلى أن يتركوا الدنيا ويزهدوا فيها ويتركوها. مَن قال هذا؟ هل القرآن قال هذا؟ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، مَن قال هذا؟ الصحابة كان بعضهم من أصحاب الملايير، الذهب عندهم والفضة كانت تُجرَف بالمجاريف، بعضهم زرع في بُستانه عشرة آلاف شجرة، تخيَّل أن بُستاناً فيه عشرة آلاف شجرة، مَن قال هذا؟ لا! إياك أن تعترض على دين الله قبل أن تفهم الحقيقة، الآن ستسمع نظرية – هي حقيقة على فكرة، حقيقة قرآنية ونبوية – والله العالم كله يحتاجها، لكي يسعد ويستقر، والعالم شقي اليوم، العالم شقي! وكما نقول دائماً (على كف عفريت).
والآن على فكرة كما تعرفون وتُتابِعون في أي لحظة يُمكِن أن تثور حرب عالمية ثالثة أو رابعة – إذا اعتبرنا أن الحرب الباردة هي حرب ثالثة -، وهم يقولون هذا، في أي لحظة! وسيموت عشرات – إن لم يكن مئات – الملايين، وربما الملايير، ربما يموت أكثر من مليار، لا نعرف! عالم شقي، عالم شقي بعيد عن الله، مقطوع مبتوت الصلة بالسماء وبالله، فهو شقي، يتخبَّط.
في الدين، في الإسلام، في القرآن، في الهدي المُحمَّدي – صلى الله على محمد وآل محمد -، عمل الدنيا يُمكِن أن يُطاوِل عمل الآخرة، وليس بالضرورة أنه يُعارِضه. فقط هذا الجواب بكلمة واحدة، وما أحلاها من كلمة! بمعنى ماذا يا إخواني؟ بمعنى ماذا؟ بالمثال يضح المقال كما يُقال.
أنت الآن تنطلق من المدينة أ، إلى المدينة ج، في الوسط بينهما المدينة ب. المدينة ج هي الآخرة، المُنطلَق هو لحظتك الزمانية في هذا العالم الدنيوي، اللحظة التي أنت فيها زماناً ومكاناً وأحوالاً وقدرات وإمكانات. الآن ب بين أ وج، ب ما هي؟ منازل الدنيا، أعمال الدنيا، الأهداف الدنيوية. يُمكِن أن تعمد إلى ب من طريق هكذا مُنحنية، من طريق لا تنتهي إلى ج بالمرة. هذا عمل مُعظَم الناس، الذين يُريدون النجاح والإنجاز في الحياة الدنيا وحسنة الدنيا، وما لهم في الآخرة من نصيب، ما لهم في الآخرة من خلاق، ما لهم من خير. نعوذ بالله من مثل أحوالهم.
الإسلام يقول لك أنا لا أمنعك مُطلَقاً (البتة) أن تطلب الدنيا، بكل نعيمها، بكل علومها، بكل إنجازاتها، بكل نجاحاتها، بشرط – يقول بشرط – أن تطلبها بنية صالحة، أن تُبارِك هذه الدنيا بهدي الله، بدين الله، بشرع الله، بعبادة الله. أي يُمكِن أن تُصبِح طبيباً جرّاحاً على مُستوى العالم، لا تطلب إلا محمدة وإلا مغنماً دنيوياً، مُمكِن! ويُمكِن أن تفعل هذا وتطلب ماذا؟ رضا الله – تبارك وتعالى -، عبر خدمة عباده ورحمتهم وإسداء النُصح والمعروف إليهم. الشيئ نفسه! وهكذا قل في كل شيئ آخر مما أباح الله، مما أباح الله! والحمد لله الله ما حرَّم علينا إلا ما تسوء به الحياة وتتجهم – والله – وتنقطع به الوصلات بين الناس والعباد، فقط! والمُحرَّمات معدودات، ثم أباح لنا كل ما سوى هاته المُحرَّمات المعدودات، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۩، والأصل في الأشياء الإباحة. ولم نر حتى مُتفقِّهاً مُدّعياً للعلم يقول أثبت لي أن هذا مُباح. نقول له الأصل في الأشياء الإباحة. ما الدليل؟ نقول له الأصل الإباحة، هذا الأصل! وهذا مُؤصَّل في الكتاب والسُنة، مُخالِف الأصل هو المُطالَب بالدليل، كل شيئ إذا سُئلت عنه، قل أظنه أنه مُباح على الأصل. إن قال لك أحد إنه مُحرَّم. قل له يا حيهلاً بالدليل، أسعدنا بالدليل، هل عندك من دليل شرعي موثوق؟ إن قام الدليل على حُرمته، قل سمعنا وأطعنا، ننتهي إلى أمر الله ورسوله، انتهى كل شيئ. لأن مُخالِف الأصل مُطالِب بالدليل. هذا خالف الأصل وقال هذا غير مُباح. ما الدليل؟
انظر إلى هذا الدين، ما أجمله! ما أكرمه! ما أعظمه! وما أفسحه! دين فعلاً هذا، أي دين إلهي هذا، هذا ليس ديناً للبشر، لا يُوجَد بشر يقدر على أن يعمل ديناً بالطريقة هذه، بهذه الجامعية، بهذه المانعية. هل هذا واضح؟
إذن المُؤمِن يُمكِن أن يتحرَّك من مُنطلقه، من ألفه، إلى كل أهداف ومطالب الدنيا، أي ب، لكن على طريق وعلى منهاج ينتهي بماذا؟ بــ ج. لا إله إلا الله! يفوز بالدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا منهم. يفوز بالاثنتين، وهذا معنى قول الفلاسفة أن عملين ما أو شيئين أو غرضين يتطاولان. يُمكِن أن يقع أحدهما في طول الآخر، ولا يتعارضان. هناك أعمال تتعارض، الدين قال لك عمل الدنيا ليس بالضرورة أن يتعارض مع عمل الآخرة، بل يُمكِن أن يتطاول، أن يُطاوِله، يقع في طوله. فطاول أعمال دنياك بعملك لآخرتك، تكن من المسعودين – بإذن الله تبارك وتعالى -، وبالعكس! الدين يقول لك تقريباً السبيل الأعرض والأوسع والأضمن للفوز بخيرات الآخرة، تتمثَّل في ماذا؟ في النجاح الدنيوي. ليس في القعود والبُعد والانكفاء والفقر والإقلال والجهل والانعزال، ثم تقول لي هذا طريق الله. غير صحيح! الله يقول لك الطريق الأوسع والأضمن أنك تخوض في هذه الدنيا بأمر الله وبنور وعلى نور من الله وشرعه. وتُحقِّق فيها النجاحات والإنجازات، طالباً ماذا؟ مرضاة الله – تبارك وتعالى -. وستُبتلى طبعاً، لِيَبْلُوَكُمْ ۩، ستُبتلى، تُبتلى أحياناً بفشل، عادي! الحمد لله، الذي قدَّر النجاح قدَّر الفشل. ستُبتلى أحياناً بإفقار أو بفقر أو بإدقاع، الحمد الله، الحمد لله، هو الذي أعطى وهو الذي أخذ، نُسلِّم، نصبر على بلواء الله، لا نسخط، لا نغضب، أبداً! هذا أمره، هذه ابتلاءات، ويزيدنا الله – تبارك وتعالى – بهذا النجاح هُدى، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ۩.
إذن الصادق الأبر – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – قال العلامة الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور. علامة التجافي عن دار الغرور ليس ترك الدنيا برُمتها، الإلقاء بها بقرنيها. ليس هذا! وإنما – كما قلنا قُبيل قليل، وفرغنا للتو – أن تكون الدنيا في يدك، وليست في قلبك، ألا تكون هي أكبر همك، أكبر همي الآخرة، لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا. الدنيا أكبر هم ومبلغ علم ماذا؟ المُشرِكين والكافرين. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ۩، صفر! بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ۩، ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ ۩، علم واطئ سافل، لا علم لهم، صفر Zero، الله يقول. يقول علم هؤلاء بالآخرة صفر، ما عندهم أي فلسفة، أي فهم، وأي معرفة بالآخرة. ماديون غلاظ قُساة عُصاة – والعياذ بالله تبارك وتعالى -. هل هذا واضح يا إخواني؟
إخواني وأخواتي:
من التزكية – وصلاً بما مضى في الخُطبة السابقة، أي تزكية النفس – أن نُقبِل على الله بكُلنا، وأن نرغب إليه بكُليتنا، وأن ندعوه، لكن انتبهوا، هناك نُقطة مُهِمة، أُريد أن أُبيّنها وأمضي إلى غيرها:
كثيرٌ من الصالحين، من أسلاف هذه الأمة المُبارَكة، لفتوا إلى أن الدعاء ينبغي أن يكون في البر – أي في العمل – كالملح في الدقيق. وهذا من دقيق فهمهم، من دقيق فهمهم! لئلا أنسى أُريد أن أقول شيئاً عن الآيات التي تلوتها من سورة الفرقان المُبارَكة بدءاً من وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ۩، كم مرة ذكر الله فيها وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ۩؟ هو دعاء، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ۩، هذا أمر لله أم إلينا؟ لله. هذا لا يملكه إلا الله، ولذلك رغب إليه النبيون والمُرسَلون، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۩، أن يصرف الله عنهم ماذا؟ العذاب في الآخرة. هذا لله، لا نملكه، لذلك ندعوه به، هل نملك أن نُصلِح أزواجنا وأولادنا؟ كم ترى لعالم تقي وصالح ابناً فاسداً! ورأينا هذا كثيراً، يكون هناك أحد الصالحين، أحد العباد المُكرَمين، وابنه – والعياذ بالله – أحد الطالحين الفاسدين المُسرِفين على أنفسهم، تصير ابتلاءات! نوح – عليه السلام – ابنه كفر، كفر! وزوجته ينطبق عليها الشيئ نفسه، لوط زوجته كفرت، ودلت على أضيافه من الملائكة، فأهلكها الله، إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ۩، هل هذا واضح يا إخواني؟ ولذلك هذا أمر لا نملكه، نسعى إليه بأسبابه، لكن نعلم أننا لا نملكه، ولذلك وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩، ويعلمون ما هو طريق الإمامة في الدين، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا – في الم ۩، السجدة – لَمَّا صَبَرُوا ۩… صَبَرُوا ۩ على ماذا؟ ترك معمولها، أتى بالعامل وترك المعمول، صَبَرُوا ۩، على ماذا؟ كأنه يقول لك قدِّر أنت، صَبَرُوا ۩ على أقضية الله المُرة، على وجوه البلاء والابتلاء، صَبَرُوا ۩ على ماذا؟ على المُداومة على الطاعة، صَبَرُوا ۩ عن المعاصي، لم يندلعوا وراءها، لا، لا! اصبر نفسك، أعوذ بالله، مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩، صبر! تحتاج إلى صبر، مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩، انظر إلى هذه الآية، كان يقرأها بعض الصالحين ويبكي مُر البكاء، بعض الناس يتعجَّب، لماذا تبكي؟ يوسف يقول مَعَاذَ اللَّهِ ۩، رفض أن يستجيب لنزوة ورغبة زُليخة هذه، وقال مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ۩، عن زوجها، قال هذا سيدي، أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩، هل أُكافئه بأن أهتك عِرضه؟ هذه الآية يقرأها العارفون ويبكون مُر البكاء، هل تعلمون لماذا؟ لأنه ما من امرئ إلا له منها نصيب. مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ۩، رب السماوات والأرض، أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩، وأئتمنني على هذه الحُرمة، أهتكها؟ أئتمنني على هذه الأمانة، أهتكها؟ أتغولها؟ هكذا يفهم العارفون، إشارات! يفهمون هكذا، يقولون إذا كان الكريم ابن الكرام – عليه الصلاة وآبائه والتسليمات – استعظم واستفظع واستهول – هو استهول هذا – أن يُكافئ عبداً أحسن إليه بانتهاك حُرمته، فكيف يُكافئ الإنسان ربه – لا إله إلا هو -، الذي أحسن إليه مُبتدأً ومُنتهىً، خلقه من عَدم وأمده من عُدم، بانتهاك مُحرماته، التي ائتمن عليها؟ وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩، هذه أمانات، واختبرك الله بشيئ من مال، يُمكِن أن تتغوله بارداً، لا أحد يُفاتِشك فيه، تقول مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩، أنا؟ أنا أخون الأمانة؟ مُستحيل، والله لو كنت مُحتاجاً إلى تعريفة، أو إلى فلس، ما أخذته من هذا المال وهو بالأطنان، حاشا لله! أنا شاب قوي، في العشرين من عمري، وجاءت هذه الفتاة، زميلتي في الكُلية، أو في الدراسة، تُريدني، مُتيمة، مَعَاذَ اللَّهِ ۩، حاشا لله، حاشا لله! الله أعطاني وجودي وخلقي وشبوبيتي وقوتي، كان يُمكِن أن يخلقني عنيناً، عاجزاً أصلاً، أعطاني كل شيئ، أهتك حُرمة الله؟ مَعَاذَ اللَّهِ ۩. هكذا يقرأ العارفون كتاب الله، وليس أن هذا وقع فقط مع يوسف، بل هذا يقع معنا كل لحظة وكل حين، أرأيتم؟ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩. اللهم حقِّقنا بهذه المقامات.
ولذلك يا إخواني أقول لكم ما أدق ما عرف هؤلاء العارفون – رضوان الله عليهم، عرَّفنا الله وإياكم به، ونوَّرنا بأنواره، لا إله إلا هو، كما عرَّفهم ونوَّرهم -! يقولون اجعل دعاءك ملحاً، واجعل عملك بُراً أو دقيقاً. أنت ترى الدقيق، يكون هناك خمسة أو ستة كيلو جرامات من الدقيق، عجينة كبيرة! ويكون هناك قليل – بضعة جرامات – من الملح، وإلا تفسد العجنة كلها. أليس كذلك؟ قال لك الدعاء ينطبق عليه الشيئ نفسه، وانظر إلى الآيات، وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ ۩، يفعلون كذا وكذا وكذا وكذا وكذا وكذا، وفقط في مرتين: يَقُولُونَ ۩ يَقُولُونَ ۩. دعوا في أشياء لا يملكونها، لا يد لهم فيها ولا يدان، ليس من مُمكِناتهم ولا مُستطعاتهم، وإنما دعوا إليها أيضاً مُتوسِّلين بماذا؟ بصالح أعمالهم طبعاً. هناك قيام، وهناك صلاة، وهناك ذكر، وهناك إنفاق، وهناك اقتصاد، وهناك تواضع وإخبات، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ۩، هناك ربانية يا إخواني، وهناك إمساك عن شهادات الزور والكذب والإفتراء وظلم العباد، وهناك… وهناك… وهناك… وكل الصفات المذكورة في هذه الآيات الجميلة، من أجمل الآيات، والقرآن كله جميل جليل، ودعوا، ودعوا!
ولذلك إذا أردت من الله – تبارك وتعالى – أن يستجيب دعوتك، هل تعرف ما هي الطريقة؟ سهلة، ليست أن تبحث عن دعوات مُستجابات، افتح يا سمسم! أي وكأنها أسرار، وكأن الله – أستغفر الله العظيم – حتماً سيُلبيها، لا! لا يُوجَد الكلام هذا عند الله، لا يُوجَد الكلام هذا أبداً أبداً أبداً، هل يُوجَد أعظم من أدعية القرآن إذن؟ لا تقل لي هذا دعاء سيدي فلان وسيدي علان والكلام الفارغ هذا، كله لا ينفع هذا، القرآن! هذه أدعية القرآن، أدعية الأنبياء، أدعية الأنبياء والحواريين والصدّيقين، ادع بها، لا تُستجاب! وأنت تقول لماذا؟ لم يُستجب لي! طبعاً لأن مفتاح إجابة الدعاء، هل تعرفون ما هو؟ إصلاح العمل. أصلِح عملك، تُجب دعوتك. وإصلاح العمل بالقانون الشرعي، بقانون الشرع، ومن ضمنه – وليس فقط هذا، وكله مطلوب، لكن ليس فقط هذا – المفروضات والنوافل في الصلاة والصيام والحج والعمرة والصدقات، وليس هذا فقط أيضاً، هناك تطييب الطُعمة، إياك أن تدخل جوفك لُقيمة واحدة فيها شُبهة، إياك! إياك أن تُلبي دعوة مَن تعلم أن طُعمته من حرام، إياك أن تذهب فتأكل و(تدب بطنك)، لا يُوجَد هذا، قل له لا، لا يُمكِنني، عندي التزامات، لا أستطيع. لماذا؟ عندي التزامات، لا أستطيع. إياك أن تأكل أو تشرب منه، كله من حرام هذا، فكيف تأكل وتشرب عنده أنت؟ حتى لو كان ابنك! وأقول هذا للآباء والأمهات والله، حتى لو كان ابنكِ إياكِ والحرام، وأنا أعرف نساء صالحات على هذا النحو، وهن من أهل العصر، وبعضهن يعيشن إلى اليوم – مد الله في أعمارهن، وبارك فيهن -، والله واحدة غبر عليها عشرون سنة لا تأكل من طعام أحد أبنائها شيئاً، وهو حزين، قالت له لا يُمكِن أن آكل وأنا أعلم من أين تأتي بهذا المال، اذهب، ادرج، تُريد أن تُسعِدني، وأنا أُفسِد ديني، وأُفسِد روحي، تتسمم الروح!
أيما بدن أو جسد نبت من سُحت، فالنار أولى به. وقلنا الحديث الصحيح في الخُطبة السابقة، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه للسماء، يا رب، يا رب. مُنقطِع في الصحراء، وقد يهلك، مفازة، مُدوية، مهمه، لا يُعرَف لها حد ولا ساحل، يا رب، يا رب. النبي يقول ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، أنى يُستجاب له؟ اذهب – قال له – ولن يُستجاب لك، لن يُستجاب لك! روح مُظلِمة، التي تدعو روح مُظلِمة، ليس فيها نور، لا يطلع! قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، أحد الوجهين في تفسير الآية أتى على النحو الآتي، وهو وجه دقيق وجميل، ولعل الصالحين أخذوا ما أنا بصدد بيانه من هذه الآية الجليلة، من فاطر، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩، ومن الكلم الطيب الثناء على الله وتمجيده والتوسل إليه ومُناجاته ودعائه، هذا من الكلم الطيب، كل هذا من الكلم الطيب، بلا شك! وأطيب الكلم لا إله إلا الله، محمد رسول الله. عليها نحيا، وعليها نموت ونُبعَث – إن شاء الله بفضل الله ورحمته ونعمته ومنّته -، قال لك وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، هل تُريد أن يكون الكلام الخاص بك أو الدعاء يُرفَع إلى السماء؟ كيف؟ ليس بكثرة الدعاء والإلحاح، فتظل تدعو نصف ساعة وتُتعب الناس خلفك، بعض الأئمة – وهذا غير مُستحب على فكرة، هذا لم يستحبه العلماء والفقهاء – يظل يدعو في رمضان بالذات ربما نصف ساعة أو أربعين دقيقة، هذا مكروه وبدعة، النبي لم يفعل هذا، ولعله أيضاً يتطرَّق بهذا التفصيل وبهذا الإلحاح إلى عدوان في الدعاء، لا! النبي كان يُحِب جوامع الدعاء، ادع بجوامع الدعاء، أنت يُمكِنك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل. وهذا من دعاء المُصطفى الأبر – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -، أسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل. انظر إلى هذا، انظر! هل يُوجَد ما هو أجمع من هذا؟ كل ما يُقرِّب إلى الجنة ورضوان الله من قول وعمل. انتهى! لا نذكر لا الصلاة ولا الصوم ولا الزكاة ولا الحج ولا الإمساك عن كذا وكذا ولا… ولا… لا! دخل فيها كل هذا، وأعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل. وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وعبادك الصالحون، وأستعيذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وعبادك الصالحون، وأسألك ما قضيت لي من أمرٍ أن تجعل عاقبته لي رشداً. يا سلام! ومن غير لحن، ومن غير سجع، ومن غير تكلف، ومن غير إعراب. دعاء جامع مانع من أجمل ما يكون.
وحتى لا أنسى أنصحكم بالآتي، لأنني والله أُحِب الخير لي ولكم – إخواني وأخواتي -، ولن يُؤمِن المُؤمِن حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه. أنصح لنفسي أولاً ولإخواني وأخواتي، أنصحكم بالآتي إذا ذهبتم – وعليكم أن تذهبوا – إلى ذكر الله – تبارك وتعالى -، بكل أنواع الذكر، بما فيها طبعاً الصلاة على النبي الأفخم والرسول الأنبل الأعظم الأكمل – صلوات ربي وتسليماته عليه -، وهي باب عظيم من أبواب الفتوح، لأنك حين تُصلي عليه صلاة واحدة، الله يُصلي عليك وملائكته عشر صلوات، وأين صلاتك أنت – أي من دعائك للنبي بالرحمة والرفعة وكذا – من صلاة الرحمن الرحيم عليك؟ لا إله إلا الله! هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ۩، فإن صلى عليك، قذف في صدرك من نوره، لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۩، اللهم ارحمنا يا رحمن، يا رحيم، يا عفو، يا بر، يا كريم، يا مُفضِل، يا مُجمِل، يا مُحسِن، يا رب العالمين. هل هذا واضح يا إخواني؟
ما هي النصيحة؟ حين تذهب تُصلي على رسول الله، تستغفر، تُسبِّح، تحمد، تُهلِّل، تُكبِّر، ضاعف ذكرك وصلواتك بهذه الجُملة النبوية المُصطفوية: عدد خلقك، ورضا نفسك، وزِنة عرشك، ومداد كلماتك. يا الله! قد يقول لي أحدكم مداد كلمات الله؟ كل ما في الوجود، كل ما كائن، وهو كائن، وما سيكون، إنما كُوِّن وكان عن ماذا؟ عن كُنْ ۩، عن أوامر الله التكوينية. ولذلك وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۩، أوه! قال لك مداد كلماتك. الله أكبر، ملايير ملايير ملايير ملايير إلى انقطاع الدنيا لن تنتهي، وأكثر من هذا زِنة العرش، قال لك عن العرش لو وُضعت السماوات السبع والأراضون السبع وبُسطت ومُدت، ما كانت إلى العرش إلا كخاتم، كحلقة – كحلقة أو خاتم – في فلاة، أي في صحراء. الله! قال لك زِنة العرش. صل على محمد أو قل سُبحان الله وبحمده أو الله أكبر أو لا حول ولا قوة إلا بالله أو لا إله إلا الله عدد خلقك، ورضا نفسك، وزِنة عرشك، ومداد كلماتك. الله الله الله الله الله الله، كم الأجر! لو الله – والله، لا إله إلا هو – تقبَّل منا صلاة واحدة عن النبي أو تسبيحة واحدة بهذه الصيغة، لانتهى الأمر، ثُقلت موازيننا، ثُقلت موازيننا بصدق، والله لا أحد يُخادِعه، فلا يأت الشيطان ويلعب عليك، لأن الشيطان فيلسوف كبير، أكبر فيلسوف في الشر إبليس، يعيش من يوم آدم إلى اليوم، لعنة الله عليه هذا البعيد، نجانا الله منه، فيلسوف كبير رهيب، دماغ قد هذه الدنيا، الحقير هذا لابد وأن تكون أذكى منه، لكن هذا ليس بشطارتك، وإنما بنور إلهي. قد يأتي ويقول لك انتهى الأمر يا رجل، لقد قالها عدنان، قالها عدنان المسكين هذا، لا صلاة ولا صوم واعمل ما تُريد، واجلس هكذا وتباك وصل على النبي وسبِّح واحمد ألف مرة بالصيغة التي قالها، انتهى الأمر وثقل ميزانك. لن يُقبل منك شيئ، لأن الله لن يُيسر لك من الأصل القبول، أن يقبل منك لفظة واحدة من هذه الألفاظ، إلا أن تكون من أهل القبول، ولن تكون من أهل القبول إلا إن كنت من أهل الطاعة، أليس كذلك؟ وتوقير الشرع، والعمل بالفرائض، والبُعد عن المُحرَّمات، وتقوى الله والتورع، وخير دينكم الكف، خير دينكم الورع. اتق المحارم تكن أعبد الناس. لا أحد يُخادِع الله، ولكن الشيطان خادعك، فإياك من هذا، أنت كُن فيلسوف إيمان، قل له هذا لا يسوغ علىّ، العب غيرها، لست أنت مَن يخدعني، أهبل أنت. يغضب طبعاً هو، ويتصاغر ويتقامأ – أي هذا البعيد -، يُصبِح كالذرة أو كالنملة، بالنور الإلهي الذي الله فهَّمك به، ومن ثم خرجت من ألاعيبه.
بعض الناس هكذا، يقول لك أنا سمعت حديثاً عن أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ومن ثم سأذهب إلى هناك لكي أُصلي، فتُحسب لي الصلاة بألف صلاة، وبالتالي لن أُصلي طيلة حياتي. هؤلاء مُصابون بالهبل، هذا الهبل، هذا ليس الفقه، هذا الهبل في الدين، هذا الغباء والحماقة، لا يفهمون هؤلاء شيئاً، وفقط! لكي تُكشَف هذه الشُبهة الإبليسية قل له وما أدراك أن الله قَبِل منك قياماً من ركعة – ليس ركعة، وإنما قياماً هكذا – أو تكبيرة؟ ما أدراك أنه قَبِل منك تكبيرة الإحرام؟ أصلاً بعض الناس يذهب إلى الحج، وحين يُلبي – يقول لبيك اللهم -، يُقال له لا لبيك ولا سعديك. النبي قال هذا، عُد – قال له -، ولن نستجيب لك ولن نقبل منك لا الحج ولا العمرة ولا الطواف ولا السعي، اذهب، اذهب! تضحك على مَن أنت؟ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ۩، أتيت وقد سرقت أموال الناس وعليك ديون وتُطالب بالديون من السنين، ولكنك تُنكِر ديون الناس، ثم أتيت لكي تحج؟ كذّاب!
– (ملحوظة هامة):
انفعل فضيلة الشيخ أثناء كلامه وإنكاره على مَن يفعل هذه الصفات، فقال: سامحوني على هذا الانفعال، لكن هذا الذي يحصل مع بعض المُسلِمين، هدانا الله وأصلحنا وإياهم جميعاً يا رب.
– أكمل فضيلة الشيخ الخُطبة قائلاً: كذب هذا، كذب ولن يسوغ على الله، طبعاً سيسوغ على الناس من أمثالك، لأنك ترجع – وهذا هو القصد، هذا هو المُرام – بلفظة وبلقب الحاج، ذهبت سعيداً وعُدت الحاج سعيد، ذهبت سعيداً وعُدت الحاج سعيد، يا حاج، يا حاج! لكي تتغول أموالهم أكثر، وتقع في أعراضعهم أكثر، وتضحك عليهم أكثر. مَن قال لك إنه قُبل منك مائة ألف صلاة؟ مسكين أنت، تضحك على مَن؟ تضحك على مَن؟
ولذلك لن يقبل منك هذا، إن الله لا يقبل التطوع، حتى تُؤدى ماذا؟ الفريضة. هكذا فهم أبو بكر الصدّيق، وهو في فراش موته، رضوان الله على صدّيق الأمة الأكبر، وهذه وصيته لعمر وللأمة، قال لهم وإن الله – تبارك وتعالى – لا يقبل التطوع، حتى تُؤدى الفريضة. هؤلاء كانوا يفهمون الدين، هؤلاء كانوا فلاسفة الإيمان طبعاً، ليسوا مثلنا، نحن الذين أُصبنا بالهبل، الصغار الحمقى، نضحك على أنفسنا، قال أعمل هذا وينتهي الأمر. تضحك على مَن؟ فقَّهنا الله في الدين، فقَّهنا الله في الدين يا إخواني، هو هذا.
ولذلك يا إخواني ضاعفوا أذكاركم بهذه الصيغة الكريمة، قد يقول لي أحدكم وأين زِنة عرش الرحمن من رضا نفسه – لا إله إلا هو -؟ ورضا نفسك، لا إله إلا الله! إذا كنا نقول الأولياء نفوسهم كبيرة، تسع السماوات والأرض، فكيف بنفس الرحمن – لا إله إلا هو -؟ الرحمن! قال لك رضا نفسك. لا إله إلا الله، صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله. يا الله، يا الله! والله ما أوحى إليه بهذا إلا الذي أرسله، هل هذه عبارات بشرية؟
ولذلك روى مُسلِم في صحيحه – رحمة الله عليه – عن أم المُؤمِنين جويرية بنت الحارث، قالت دخل علىّ رسول الله بعد صلاة الفجر (الصبح)، وأنا جالسة أذكر الله، أُسبِّح وأحمد وأستغفر، ثم عاد إلىّ عند الضحاء – ارتفعت الشمس، وكانت هناك ضحوة واضحة شديدة -، ووجدني في مكاني. أرأيت؟ ليس أنا زوجة النبي، أُصلي الصبح وأنام، وسوف أدخل الجنة. لا يُوجَد الكلام هذا، لأنه هو نفسه قال له وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ۩، وفي صحيح مُسلِم تقول أمنا عائشة – رضوان الله عليها، الصدّيقة بنت الصدّيق – لقد قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم وآله – حتى تفطرت قدماه. تفطرت، تشققت، وخرج منها الدم. طيلة الليل! يُصلي لسبع أو لثمانى ساعات حتى تعبت رجلاه، بسبب الضغط (ضغط الدم) كما تعرف، هناك دوالي ومشاكل، فقلت يا رسول الله لِمَ تصنع هذا بنفسك – عائشة تقول له هذا، أشفقت عليك وحزنت – وقد غُفِر لك ما تقَّد من ذنبك وما تأخَّر؟ قال يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً؟ أي هذه نعمة، تستحق الشُكر، هل أنام عليها؟ هل أكفرها؟ لو نمت عليها، أكون قد كفرتها. هذه نعمة عظيمة، ولذلك لابد أن أشكره. أرأيتم؟ هذا الفاهم، وأزواجه فهمنا طبعاً، نعم! طبعاً أخذنا من فهمه وعرفانه، ليس لأنني أم المُؤمِنين سأذهب وأنام، ولن أُصلي حتى، وسوف أدخل الجنة. لا يُوجَد الكلام هذا. اعملوا لأنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم، لا أُغني عنكم من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم. يقول هذا لأهله وقراباته، هذا الدين، هذا الدين الرباني الحقيقي، هو هذا.
المُهِم أنه عاد إليها، وهي في مكانها لم ترم، لم تُغادِره، تذكر وتُسبِّح، أي ربما امتد هذا لساعة أو ساعة ونصف، وهي في ذكر، مجلس ذكر مُتواصِل، هذه أم المُؤمِنين جويرية، فقال لها ما زلتِ في مكانك؟ قالت له نعم يا رسول، أنا ما زلت في نفس المكان قاعدة أذكر الله. قال لها أما إني قد قلت حين انصرفت من عندك أو آنفاً كلمات ثلاث مرات – أنا قلت هذه الجُملة ثلاث مرات – لو وُزنت بما قلتِ لوزنتهن. أنت تُسبِّحين من ساعة أو ساعة ونصف أو ساعتين، ما شاء الله، أكيد سبَّحتِ ألوف المرات، ولكن أنا قلت جُملة ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ لوزنتهن. أي الكلمات! يا رسول الله إذن ما هذه الكلمات؟ علِّمنا، جميل، نُريد هذه الطريق القصيرة.
مَن لي بمثل سيرك المُدلَّل تمشي رويدا وتجي في الأول.
سير خفيف جميل هيّن، ودائماً يكون في الأول. النبي علَّمك، علَّمك هذه الجوامع، قال قلت سُبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنة عرشه، ومِداد كلماته. ثلاث مرات – قال لها -، فقط!
ولذلك هناك وصية لنفسي المُفتِقرة إلى رحمة الله وبره وعطائه وفضله، وإليكم جميعاً يا إخواني وأخواتي، يا ليتنا نفعل الآتي، ونحن الآن في شعبان، والنبي كان من دعائه اللهم بارك لنا في شعبان، وبلِّغنا رمضان. يا رسول الله ما رأيناك تصوم في شهر بعد رمضان – أي غير رمضان – ما تصوم في شعبان! تصوم كثيراً – قالت له -، عند أبي داود عن أم سلمة – رضوان الله عليها، هذه أم المُؤمِنين -، قالت كان يصوم شعبان كله. ولكن العلماء رجَّحوا رواية أم المُؤمِنين عائشة، قالت كانت يصوم شعبان كله إلا قليلاً. لا! ليس كله بمعنى كله – قالت -، هناك أيام يفطرها، أي في يوم مثل هذا (يوم جُمعة) افطر، بسبب الناس ولقاء الناس والتعب، مُمكِن أن تفطر، في غير هذا صُم، صُم! افطر لك أربعة أيام في الشهر، ومن ثم سوف يبقى لك كم؟ خمسة وعشرون يوماً أو ستة وعشرون يوماً. هذا من أحلى ما يكون، شيئ عظيم! فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ذاك شهرٌ بين رجب ورمضان، يغفل الناس عنه، تُرفَع فيه الأعمال إلى الله. أي رفعاً مخصوصاً، الأعمال تُرفَع كل يوم أصلاً، كل صباح وكل مساء تُرفَع، لا! هو قصده ماذا؟ رفعاً مخصوصاً. إذن وما معنى رفعاً مخصوصاً؟ أي أكيد هناك تضعيف مخصوص للأعمال الصالحة، في غير رمضان – مثلاً – بسبعمائة ضعف أو سبعة آلاف أو كذا، في شعبان الله أعلم بكم! قال يُوجَد شيئ خاص، قال هذا، ثم قال فأُحِب أن يُرفَع عملي وأنا صائم. عندي أعمال من الصدقات، من الجهاد، من قراءة القرآن، من الذكر، من تعليم العلم، من… من… من… من… أُحِب أن تُرفَع لي كل هذه الأعمال الطيبة، وأنا ماذا؟ وأنا صائم. فصوموا – بارك الله فيكم – ما استطعتم من هذا الشهر الكريم، واستقبلوا به رمضان، هكذا توقير واستقبال واستهلال وفرح برمضان، أننا نصوم من الآن، من شعبان، وليس من أول يوم رمضان، من الآن الصوم والعبادة والأذكار والصدقات، نستعد للشهر الكريم، ففيه ليلة خيرٌ من ألف شهر. إن وُفقت إليها، أحسن من عبادتك ثمانين عاماً، ليلة واحدة – بإذن الله تعالى -، إن قُبلت، ولكي تُقبَل تحتاج إلى كل هذا الاستعداد والصدق والتوبة النصوح، وقلباً وروحاً من الألماس، خالية من كل الدنس والشرك والرياء والنفاق وقاذورات الذنوب، كلها! أقول كلها، انتبه، هذا لكي تُقبَل.
قال سيدنا ابن عطاء الله – قدَّس الله سره – العمل المُشترَك لا يقبله. لأنه أغنى الأغنياء عن الشرك، والقلب المُشترَك هو لا يُقبِل عليه. إذا قلبك حتى مُشترَك، فإن الله لا يُقبِل عليه، هو يُريد منه أن يكون له وفقط، لأنه رب العالمين، هو له السماوات والأرضون، أنت تبخل عليه بحتة من قلبك؟ تقول له يا ربي قلبي كله لك، إلا الحتة هذه. لأجل ماذا هذه؟ لأجل الشهوة الكذائية. أنا عندي شهوة غيبة الناس، فسامحني فيها. سوف يقول لك لا، خلك وقلبك لنفسك، لا حاجة لي فيك، لا غرض لي فيك، اذهب. أنت انتهيت، مسكين أنت!
لذلك كُن قوياً على كل شهواتك وذنوبك وضعفك البشري، تُب من هذه اللحظة، الآن وأنت تسمعني عاهد الله أن تتوب من كل الذنوب، قد تموت بعد سويعة، قد تموت معنا في الصلاة – لا قدَّر الله -، قد تموت بعد ساعات، قد تموت قبل رمضان. ومن ثم تكون مت على أحسن العزائم، وأحسن النيات، وأحسن الأعمال، تفز! تفز – بإذن الله تبارك وتعالى -، هل هذا واضح؟ هو هذا.
ولذلك أكثروا من العمل، ومن ضمن الأعمال يا إخواني الإكثار من ذكر الله، وظِّفوا لأنفسكم أوراداً، وظِّفوا لأنفسكم أوراداً! يُمكِن فعل هذا بعد الصلاة. يا ليت بعد كل صلاة – مثلاً – تقومون بالصلاة على النبي مائة مرة فقط بالصيغة التي ذكرت، أي يُمكِن أن تقولوا اللهم صل على سيدنا محمد وآله عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنِة عرشك، ومِداد كلماتك. وقولوا اللهم صل على سيدنا محمد وآله، لأنه قال لك هناك الصلاة البتراء، وهي صل على محمد. لا! وأين الآل؟ والآل في أرجح الأقوال أمة محمد كلها، كلنا! نحن داخلون في الآل، أنت تُصلي على محمد وأمة محمد. أرأيت؟ انظر إلى التراحم، أمة! قل صل على محمد وآل محمد وسلِّم تسليماً كثيراً، عدد خلقك، ورضا نفسك، وزِنة عرشك، ومِداد كلماتك. سوف تقول لي صعبة. صدِّقني سريعاً وقريباً ما يزل بها نفسك، وحين يزل بها لسانك، أنت سوف تعمل المائة مرة في خمس أو سبع دقائق فقط. تقول لي فقط سبع دقائق؟ سبع دقائق. تقول هذه مائة مرة، وأجرها لا يعلمه إلا الله طبعاً، لأنني أقول عدد خلقه، رضا نفسك، زِنة عرشه، مِداد كلماته. خمسمائة مرة! عندك خمس صلواتك مفروضات، وبعد كل صلاة تفعل هذا مائة مرة، أي خمسمائة مرة! بعض العلماء قال مَن صلى على النبي في اليوم والليلة ثلاثمائة مرة، فهو من المُكثِرين من الصلاة عليه. فهنيئاً له! وقال أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علىّ صلاةً. أي من المُكثِرين، ليس المُكثِر بالإطلاق، من المُكثِرين! وبعضهم قال ألف مرة، على كل حال بهذه الصيغة – بهذه الصيغة حتماً دون مثنوية -تكون الصلاة أفضل، هذه الصيغة الصلاة الواحدة بها – والله أعلم – أفضل من ألوف الصلوات العارية عنها، الخالية منها. أليس كذلك؟ وَاللَّهُ – تبارك وتعالى – يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۩.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. نفعني الله وإياكم ورفعنا بالقرآن العظيم وهدي النبي المُستقيم، استغفروا الله، فيا فوز المُستغفِرين!
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم أجمعين، اللهم آمين آمين آمين، يا رب العالمين.
إخواني وأخواتي:
قد يسأل سائلكم، إذن وأنا في هذه الأوقات المُرتجاة المُبارَكة، التي نستروح فيها نسائم رمضان – بلَّغنا الله وإياكم جميعاً رمضان – بماذا أدعو أكثر شيئ؟
أولاً أنا أُحذِّرك من شيئ، حذاري أن تدعو الله بما ليس لك به علم، فتدعو الله بمقامات الكبار مثلاً، كأن تقول اللهم آتني مقام سيدي فلان ومقام الصحابة ومقام العرفاء الكبار. إياك إياك إياك إياك إياك! أنت لا تدري ما الذي تصلح له ولا ما الذي يصلح لك، وكأنك – ما شاء الله – بمُجرَّد التوبة من ذنوب كثيرة، ربما غبر عليها عشرون أو ثلاثون أو أربعون سنة، الآن صرت مُستأهلاً مقامات كبار العارفين، هذا من سوء الأدب مع الله – تبارك وتعالى -. أنا أقول لك في شعبان وفي رمضان وبعد ذلك وقبل ذلك ادع الله بما أوصاك به سيدنا محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – إن وُفقت لليلة القدر: اللهم إنك عفو – وفي روايات كريم – تُحِب العفو، فاعف عني. سل الله أن يعفو عنك، سل الله أن يتجاوز عما أسلفت من الذنوب، كبيرها وصغيرها. أتُريد مقامات الأولياء ووالكبراء؟ كبير جداً عليك هذا، كبير كبير كبير كبير! ولا تستعجل، لماذا؟ ولست أنت مَن يقول هذا لله، هو الذي يُعطيك هذا حين تستأهله وتستحقه في وقته وإبانه، فتأدَّب مع الله، اطلب منه أن يغفر لك، اطلب منه أن يعفو عنك، اطلب منه أن يُعينك على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، اطلب منه أن يُيسر لك التوبة النصوح الصادقة.
وأخيراً لئلا أُطيل عليكم أكثر من هذا إخواني وأخواتي، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ۩، اندمج، اندمج، عاشر، وثِّق علاقتك بالصالحين، الذين يُذكِّرونك بالله، وإذا ذكرت الله والدار الآخرة، أعانوك، مَن إذا ذكرت الله، أعانك، وإذا نسيت، ذكَّرك. يقول لك أين هذا يا أخي؟ وإياك وصُحبة الفاسدين الطالحين المُظلِمين القُساة، الذين ما إن تراهم، تشعر بقسوة في قلبك، وظُلمة في روحك، وتهجم عليك الدنيا بشهواتها، تتذكَّر كل المُحرَّمات والشهوات. ابتعد عن هؤلاء، ادع لهم بظهر الغيب أن الله يُصلِحهم، كما أصلحك – إن شاء الله تعالى -، واقترب من الصالحين المُبارَكين الطيبين، هم الجُلساء، لا يشقى بهم جليسهم، والله! لو نزلت الرحمة وأنت معهم، تنزل عليهم وعليك، بما أنك ماذا؟ في ذكر الله، وفي عمل حسن مُبارَك. هل هذا واضح؟ لو قضيت – أي مِت – وأنت معهم، تذهب إلى رحمة الله. الحمد لله! هم الجُلساء، لا يشقى بهم جليسهم.
الإمام عبد الكريم القُشيري عنده كتاب لطيف جداً وعجيب، اسمه نحو القلوب الكبير. النحو، أي الــ Grammar، القواعد الخاصة بالقلوب. هو يأتي بالقاعدة النحوية، ويُطبِّقها في مجال ماذا؟ في مجال السير والتزكية. شيئ عجيب يا إخواني، فمثلاً في علم النحو يقول لك الجر بالجوار. الجر بالجوار! أي شيئ من حقه أن يكون مرفوعاً أو منصوباً، لكن إذا جاور مجروراً سافلاً مكسوراً، يُجَر. هو هذا! جاور السعداء تسعد، جاور الأشقياء تشقى. قال لك مَن جالس جانس. مَن جالس جانس! والطبع سرّاق. والطبع سراّق، والصاحب ساحب. وهذا معنى مَن جالس جانس. مُباشَرةً! فتفتر حين تجلس مع إنسان فاتر، إنسان ليس عنده تعلق بالله، ليس عنده مواجيد إلهية، ليس عنده عشق لله وأهل الله وأنبياء الله، حين تجلس معه تفتر، أليس كذلك؟ تفتر مُباشَرةً، الآن تعال وخُذ أي شيئ دافئ، ثم ضعه في براد أو ثلاجة، سوف يبرد بعد قليل، أليس كذلك؟ الشيئ نفسه يحصل حين تجلس مع هذا الفاتر تفتر، لكن ماذا لو كنت فاتراً وجلست مع واحد يتهلب شوقاً ومحبةً إلى الله؟ تحمى، مثلما تأخذ كأس الشاي الساخن، ويدك طبعاً أبرد منه، تسخن يدك. هو هذا! مَن جالس جانس. مَن جالس جانس. هذا قانون الإنتروبيا Entropy، شيئ عجيب، لا إله إلا الله! هو هذا.
فلذلك جالس هؤلاء، واحرص على صُحبتهم، ولك القدوة الأمثل الأفخم برسول رب العالمين – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه أجمعين -، المقول له في الذكر الحكيم وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ۩، لا يُوجَد استقرار، لا يُوجَد انجماع، مُتوزِّع، الهموم توزعته، عنده خمسون ألف أو مليون هم، المُؤمِن الصالح عنده هم واحد، وهو رضاء الله، الله – تبارك وتعالى – هو همه، اجلس مع هؤلاء، اجلس مع هؤلاء!
يقولون جُحرُ ضبٍ خربٍ. الخرب هو ماذا؟ هل هو الضب؟ الضب لا يخرب، هذا حيوان، يعيش أو يموت، ما الذي يخرب؟ الجُحرُ. فإذن هو جُحرُ ضبٍ خربٌ. الجُحرُ خربٌ. قال لك لا، نُريد أن نجرها، لأن الذي قبلها مجرور، جُحرُ ضبٍ، وهذه مجرورة بالإضافة، هناك مُضاف وهناك مُضاف إليه، جُحرُ ضبٍ خربٍ. أو كما قال امرؤ القيس كبيرُ أُناسٍ في بجاد مُزملِ. أي كبيرُ أُناسٍ مُزملُ. وقال لك كبيرُ أُناسٍ في بجادِ – البجاد مكسورة – مُزملِ. عجيب، عجيب! ولذلك عليك دائماً بأصحاب الصدور.
عليك بأرباب الصدور فمن غدا مُضافا لأرباب الصدور تصدرا.
وإياك أن ترضى صحابة ناقصٍ فتنحط قدراً من علاك, وتُحْقَرَا.
فرفع (أبو مَن) ثم خفض (مُزملٍ) يُحَقق قولي مُغرياً وَمُحذِّرا.
ما معنى رفع (أبو مَن)؟ هذا من نحو القلوب، من نحو القلوب! ويقول لك عرفت زيداً، أبو مَن هو. هي حقها ماذا؟ عرفت زيداً أبا مَن هو. هذه من أخوات ظن، عرفت زيداً، أبا مَن هو. قال لك لكن أبا هذه أُضيفت إلى مَن، ومَن اسم استفهام، وحقه الصدارة في النحو – هذا لمَن درس النحو -، دائماً حقه ماذا؟ التصدير. فبما أنه التصق وأُضيف إلى المُصدَّر، صُدِّر، فصار مرفوعاً. عرفت زيداً أبو مَن هو.
إذن صاحب أصحاب الصدارة، تتصدَّر. صاحب الرفيعين، ترتفع – بإذن الله تبارك وتعالى -، صاحب المخفوضين المجرورين، تُجَر بالجوار. تُجَر بالجوار! صاحب المعارف – هناك أُناس معروفون عند الله وعند الملائكة -، تُصبِح معروفاً. يقولون لك مَن هذا؟ هذا ليس عنده عبادة كثيرة! هذا صاحب فلان، ومن ثم تصير معروفاً، ذاك – أي فلان الآخر – دائماً الملائكة تتحدَّث عنه بأنه الرجل الصالح، لأنه دائماً في ذكر الله، على مدار الأربع والعشرين ساعة وهو في ذكر وفي عبادة، شيئ عجيب، وأنت معه، وأنت معه! المعارف عندنا في اللُغة العربية كم؟ خمسة. خامسها ما هو؟ أنت عندك الضمائر، وعندك أسماء الأعلام، وعندك الأسماء المُبهَمة، الأسماء الموصولة، وأسماء الإشارة، وعندك المُعرَّف بال، وخامسها المُضاف إلى مُعرَّف، المُضاف إلى معرفة، يصير معرفة. أنت أُضيفت إلى معرفة، فتُعرَف – بإذن الله تعالى – عند الله وعند الملائكة في الصفيح الأعلى، في الصفيح الأعلى تصير معروفاً.
فرفع (أبو مَن) ثم خفض (مُزملٍ) يُحَقق قولي مُغرياً وَمُحذِّرا.
مُغريًا: عليك بأصحاب الصدور، وَمُحذِّرا: وإياك أن ترضى بغير ذلك – رضيَ الله عنه -.
وأجمل منه وبه أختم القول الآتي للشاعر الحلبي، هذا من أجمل ما تسمع في حياتك، في إبراز هذا المعنى النبوي والإلهي الجليل، وهو شاعر حلبي:
رأيت الطين في الحمام يومًا بكفّ الحِب أثر ثم نسم.
ما هذا الطين؟ ما هذا؟ رائحته رائحة أوراد وأزهار، طين برائحة عجيبة فوّاحة!
فقلتُ له أمسْكٌ أمْ عبيرٌ….
أنت لست طيناً، أنت لست كذلك، أنت مسك أو عبير، لعلك تكون عجينة مسك أو عجينة عبير، لست طيناً. وهو طين!
فقلتُ له أمسْكٌ أمْ عبيرٌ لقد صيرتني بالحب مُغرم.
أي مُغرَماً، ضرورة الشعر.
أجاب الطينُ أني كنتُ تربًا “صحبتُ الوردَ” صيّرني مُكرم.
ألفت أكابرًا وازددت علمًا كذا مَن عاشر العلماء يُكرم.
اصحب أهل الله، اصحب العلماء الذاكرين العاملين بعلومهم.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا إلى أحسن مراشدنا، وأن ينهض بنا في طاعاته، وأن يقبض بنا عن معاصيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونُثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع مَن يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نُصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفّار مُلحق.
صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ومولانا رسول الله وعلى آله الطيبين، عدد خلقك، ورضا نفسك، وزِنة عرشك، ومِداد كلماتك. حتى تَرضى ويَرضى وتُرضينا يا رب العالمين.
اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيتث، أصلِح لنا شأننا كله، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، برحمتك يا أرحم الراحمين، جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۩، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
(فائدة بخصوص صوم النصف من شعبان)
تقبَّل الله إخواني وأخواتي منا جميعاً صالح الأعمال، أيها الإخوة من باب التذكير بالخير أيضاً نقول النصف من شعبان (يوم النصف من شعبان) يُندَب صيامه، وله أيضاً مكانة مخصوصة، فلا تُضيِّعوا هذا الأجر وهذا اليوم عليكم، وأيضاً قيام ليلة النصف من شعبان ورد فيها أخبار وآثار كثيرة، تُنوِّه بها، وجماهير العلماء والمُفسِّرين على أن ليلة الفرق التي فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩ – بل إن بعضهم قال هي ليلة القدر. وهذا قول ضعيف – هي ليلة النصف من شعبان. في ليلة النصف من شعبان الله – تبارك وتعالى – يُنزِّل على الملائكة الأعمال والأرزاق والمكرومات والمقضيات والمقدورات لسنة كاملة. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۩، في ظرف سنة كاملة، قيل في أرجح الأقوال هي ليلة النصف من شعبان. ولذلك اعتنوا بهذه الليلة، واعتنوا بذلك اليوم – إن شاء الله تعالى -، ولا تُفوِّتوا صيامه، أعانني الله وإياكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
(انتهت الفائدة بحمد الله)
فيينا 12/4/2019
أضف تعليق