ريان، شفشاون، في المغرب العربي الأقصى، إلى رحمة الله، إلى أعالي فراديس الجنان، برحمة الله وفضله، عصفورا من عصافير الجنة، روحا بريئة استردها خالقها سُبحانه وتعالى، ف إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *. وحيا الله السواعد السُمر والبيض والشُهل، التي دأبت من غير تاون، على مدى أيام خمسة وليال خمس، في مُحاولة إنجاء هذه الروح الصغيرة الطاهرة البريئة، حمي الله حبات العرق، وبارك الله وأحسن جزاء الدعوات الضارعة الواجفة الصادقة، التي انطلقت بها حناجر مؤمنة، أعربت وأفرغت عن قدر مُعجب من الرحمة والتعاطف، الذي هو أكرم وأجمل وأجل ما يسم الإنسان، ويُمكن أن يُنعت به الإنسان! الراحمون يرحمهم الرحمن. مَن لا يَرحم، لا يُرحم. هذا قضاء الله، وهو أمر في ذهن المؤمن وفي اعتقاد المسلم يمر بتسليم مطلوب لازم؛ لأن الإيمان بقدر الله تبارك وتعالى أحد أركان الإيمان الستة، وهو لازم التسليم بوجود الله تبارك وتعالى، كلي الخيرية، وكلي الحكمة، وكلي العلم، مُدبر العوالم، ورب المُلك والملكوت، لا إله إلا هو! لا مُعقب لحكمه، ولا مُستدرك لأمره، ولا راد لقضائه. يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ *، و: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ *، و: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *.
هذه القضايا تُعد ضمن بدهيات وركائز الإيمان الأولى، إلا أنه لا يخفاكم، أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، ما أثارته هذه الواقعة من تساؤلات هنا وهناك! على المُستوى الشخصي وصلني عدد، من أحبابي؛ من إخوتي وأخواتي، الذين يُتابعون، حول العالم، عدد من التساؤلات، المملوءة والمسكونة بروح الاعتراض، حتى أن بعضهم، وهي أخت فاضلة – أسأل الله أن يثبتني وإياها وسائر المؤمنين والمؤمنات على ما يرضاه من الإيمان والتسليم واليقين الراسخ -، قالت بمعنى الكلمة وبنبرة استغاثية؛ أدركني بجواب، فإن إيماني تضعضع. وهي أرادت ضعضعة الإيمان وتزعزعه، إثر هذه الواقعة، للأسف الشديد صدر هذا من أكثر من رجل وامرأة، من أكثر من مسلم ومسلمة، حول العالم!
فهل هذا الاعتراض، هل هذه الطنطنة، هل هذه الزعزعة أو التزعزع، منطقي تماما، أو هو عاطفي أكثر منه منطقيا؟ أنا مُنحاز إلى الشق الثاني، أو الاحتمال الثاني؛ هو عاطفي وبامتياز أكثر منه منطقيا. هذا ربما ما سأفصل فيه القول في درس ما بعد صلاة العصر – إن شاء الله تبارك وتعالى -.
إخواني وأخواتي/
هذا السؤال الذي تجدد، وليس سؤالا جديدا، إنما سؤال يتجدد عبر القرون، هو نفسه سؤال مُشكلة الشر، ولا أحب أن أدعوها مُعضلة الشر؛ لأنها ليست مُعضلة، على الأقل بالنسبة للمؤمن! وأنا لا أتحدث حتى عن مؤمن عادي، مع أن المؤمن العادي لا تُشكل هذه المسألة بالنسبة إليه مُعضلة. قد تكون مُشكلة أحيانا، أحيانا وليس في كل الأحايين، ولكنها ليست مُعضلة. وسوف نرى كيف نُبرّر ذلك، في حق المؤمنين العاديين، الذين لا يُمكن أن نُحصي أعداد مَن تحلى منهم بأجمل صبر، وتكشف عن أعلى درجات التسليم لله تبارك وتعالى، في قضائه وقدره المحفوفين بحكمته البالغة، لا إله إلا هو! مسلمون مؤمنون عاديون!
هل نُذكركم بقصة الأستاذ السعودي؟ ليس فيلسوفا كبير، وليس لاهوتيا عالميا، نعم أستاذ جامعي. فقد في سويعة واحدة كل أسرته، قصته معروفة، وموجودة على اليوتيوب Youtube، ومن سنوات طويلة، أكثر ربما من عشر سنوات أو قريب من عشر سنوات. أستاذ جامعي فقد زوجه وأحد عشر ولدا له، أبناء وبنات؛ أربع بنات والبقية ذكور، في سويعة واحدة! وكانوا – رحمات الله على أرواحهم متجددة – راجعين من مُشاركة في حفل عرس أو زواج في القصيم، إلى المدينة المنورة، حيث يسكنون، وفي آخر ساعة وقع لهم حادث سير، قضوا فيه من عند آخرهم، اثنا عشر! وما صلى الجنازة – صلاة الجنازة على هؤلاء الاثني عشر – إلا الأستاذ نفسه، الزوج والوالد. لم يكفر، لم يُلحد، لم يتزعزع.
يقول بعض الأساتيذ، الذين زاروه ليعزوه، ولم تسبق لبعضهم معرفة به من قبل، قالوا والله ما عزانا إلا هو! درجة غير قابلة ربما للوصف، من الصبر والتسليم. نسأل الله دوام العافية، وتمام العافية في الدين والدنيا والآخرة، لنا ولجميع الأحباب، بل لجميع الناس والعالم، والعالم كما تعلمون ربما على أعتاب حرب، نسأل الله العفو والعافية للجميع، والسلام والاستقرار لهذا الكوكب المسكين الضعيف.
نذكركم بقصة الرجل السعودي أيضا؟ وهو سعودي، ولذلك بالله، بالله حذار ثم حذار ثم حذار من خطيئة التعميم! من خطيئة التعميم؛ السعوديون، الخليجيون، الوهابيون. إياكم! التعميم خطيئة، كيف التعميم؟ إذا كان تعميما، بأحكام سلبية وسيئة، وأنا أتحدث بخصوص النطاق الديني، يقول لك الوهابيون. الوهابيون أناس، هؤلاء الوهابيون. هل لدينا ربما عُشر معشار ما أعربوا عنه من درجات التسليم هذه واليقين بقدر الله؟ اللهم اغفر لنا، اللهم غفرا. نسأل الله أن يرزقنا الإنصاف، أن يرزقنا الإنصاف والعدل والقصد في الرضا والغضب، في الرضا والغضب! وأن يُحلينا بحلية المؤمنين العارفين الصادقين.
هل نُحدثكم عن هذا الرجل السعودي؟ والمقطع فيديو Video، إلى الآن مُحمل على اليوتيوب Youtube، فقد ستة من أولاده، في وقت أيضا بلغ…الآن لم أعد أذكر، لكن ربما أقل من سنتين، أو حدود سنتين، ستة! وما شاء الله، صابر ومُحتسب.
هل نُذكركم بقصة البروفيسور Professor المصري، عالم النفس الكبير، والناقد الأدبي – هو عالم تحليل نفسي، وعالم! طبيب نفسي هو كبير، وناقد أدبي، ومُفكر جليل، أسأل الله أن يُمتع بطول عمره في عافية – يحيى الرخاوي، البروفيسور Professor يحيى الرخاوي. حدثتكم مرة، وقصصت عليكم هذه الحكاية؛ قال قصة لا أنساها ما حييت. وله تجارب مع عشرات آلاف المرضى، عشرات آلاف المرضى! لأنه مُعمّر، ما شاء الله! قال هذه القصة لا أنساها ما حييت. لماذا؟ يقول إيمان وصبر فوق الوصف، لا يُوصف! قال فلاح من هؤلاء الفلاحين السُمر الطوال، الذين يملأون العين مهابة وإجلالا! ثقة، قوة، ثبات، مظهر. قال جاءني. ماذا تُريد يا حاج؟ أهلا وسهلا. قال له أن تُساعدني. ما الذي حدث لك؟ ما مُشكلتك؟ مِمَ تعاني؟ قال ابني يا دكتور، فقدت ابني. قال كم عمره؟ قال في العقد الثالث. أربع وعشرون أو خمس وعشرون أو ست وعشرون، في العقد الثالث! وهو وحيدي. يا الله! ليس ابنا من تسعة أو ثمانية أو سبعة! ابنه وحيده! قال كيف مات؟ في حادث؟ قال أبدا! ليلة عُرسه. لا إله إلا الله! شيء مُؤلم، مُزلزل، ولم يتزلزل، مُقلق، ولم يقلق، لم يكفر، لم يشك، لم يرتب. عانى! حتى النبي عاني، وقال إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون. يؤكد، بأكثر من مؤكد، إنه محزون مألوم! نحن بشر ضعاف، طين وماء، نحن طين وماء! كيف لا نتأثر؟
قال ليلة عرسه يا دكتور. ليلة دُخلته مات! قال فأنا اعترتني هِزة. تضعضع، البروفيسور Professor الرخاوي تضعضع، أمام هول الحدث! ابنه، وحيده، شاب، ما شاء الله في العقد الثالث، ليلة عرسه، الله أكبر! قال فلما رآني هكذا قال ما لك يا دكتور؟ ما بك يا دكتور؟ نحن نرضى بقضاء الله، الله استرد… قال بدأ يُعالجني. شيء مبكي! اكتبوا أنتم هكذا؛ يحيى الرخاوي مع فلاح مصري فقد ابنه. اسمعوا بأنفسكم، أفضل، بالسند المُتصل، عبر اليوتيوب Youtube. قال بدأ هو يُعالجني، قال ما بك يا دكتور؟ ما لك يا دكتور؟ نحن نرضى بقضاء الله، الله استرد وديعته. قال إيمان فوق الوصف!
لم يفقد سيارته، لم يفقد عشرة آلاف يورو، سقطت منه أو سُرقت منه، لم يفقد بُضعا من أبضعائه؛ يده، عينه، أذنه، ساقه! فقد ابنه ووحيده، الذي هو – أنا مُتأكد – مُستعد على الدوام أن يفديه، بأن يموت عوضا منه مئة مرة، وليس مرة واحدة، وهكذا هم الآباء، وخاصة إذا كان الابن أو البنت وحيدهم أو وحيدتهم. اللهم لا تبتلينا، وأتم علينا العافية، وإذا ابتليتنا…ولا بُد من الابتلاء، الحياة لا تخلو من ابتلاء، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا *، هي مخلوقة من أجل الابتلاء. والإنسان مُستهدف يا إخواني كما قال السيد الجليل عيسى – المسيح عليه السلام -، مُستهدف للأمراض والأوجاع أو الكوارث والأحزان، تناوشه كل هذه البلايا والمصائب والكوارث، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ *. مَن؟ مَن الذي عاش ومات دون أن يُبتلى؟ مُستحيل، هذا غير موجود! حتى الأنبياء، حتى الرسل، مُستحيل، هذا غير موجود! هذه دار المحن، دار للاختبار، دار للابتلاء.
قال فلما بدأ هو يُثبتني، يُعالجني – صار هو الطبيب النفسي -، قلت له إذن يا حاج لِمَ أتيتني؟ قال لتُساعدني. هو يُريد مَن يستمع إليه، يُريد مَن يعود عليه بكلمة تثبيت. ولذلك مَن عزى مُصابا، فله مثل أجره. لكن التعزية هنا التي تُوجب للمُعزي مثل أجر المُعزى، لا بُد أن تكون تعزية حقيقية، ليست كلمة يُشقشق بها اللسان، أبدا! تعزية حقيقية، بحيث تألم على الأقل بعض الألم بألمه، وتحزن بعض الحزن بحزنه، أن يرى منك الاحتضان، أن يرى منك الدموع الصادقة، أن يرى منك التعاطف، تعاطف! تتقمص حالته. هذه أيضا درجة من أعلى درجات الإنسانية، Empathy، ليس Sympathy، تقمص! كأنك تعيش هذه الحالة.
ولذلك كلمة منه، من مثل هذه الروح المُفعمة بالتعاطف، قد تشد أزره، قد تُعيد إليه توازنه، قد تُشعره أن الحياة فيها الجانب المُشرق أيضا، نعم فقد وديده، فقد حبيبه، ابنه، مُفرده، وحيده، ولكن هناك مَن شاركه ألمه، والألم – سُبحان الله! من حكمة الله – إذا شورك، خف. بعكس السعادة، إذا شوركت، زادت. شيء غريب! حكمة! هل هذا مُنتج تطوري؟ هل هذا أحد مُنتجات المادة الصماء العمياء البكماء الخرساء التي تتحرك بلا خُطة؟ أن الفرح إذا شورك، يزدد. والحُزن إذا شورك، ينقص. لا إله إلا الله! لا بُد من عزاء، لا بُد من عزاء! هذا بعض العزاء الإلهي إلينا، بعض العزاء الإلهي لنا، في هذا الوجود، في هذا العالم الفاني؛ عالم الابتلاء.
إذن إخوتي وأخواتي انتبهوا، أول ما نقول لهؤلاء المُتشككين والمتزلزلين، فضلا عن المُلحدين، والشكوكيين، والربوبيين الذين يؤمنون بوجود الله، ولكن يُنكرون أنه مُعتن بعباده، يقولون لا عناية إلهية. يقولون لا عناية إلهية، الله لا يُبالي، الله إله خامل، غير فاعل. هكذا يصفونه، هؤلاء الربوبيون! هو موجود، يبدو أن أدلة وجوده لا يُمكن دحضها، أقوى من أن تُدحض. فسلموا بها، وبنتيجتها؛ أنه موجود، ولكن كل هذا الشر، كل هذه المُعاناة والآلام والتباريح في العالم، تؤكد أنه غير مُعتن، وأنه إله غير فاعل، لا يتدخل، لا يعتني، لا يهمه أمرنا! كل هؤلاء يُمكن أن نرد عليهم، وهذا رد من ردود كثيرة، والموضوع طويل الذيول والشعوب كما تعلمون، ولا يُمكن حتى استقصاء واحد من المئة في ساعة أو ساعتين من أطراف هذا الموضوع. الموضوع كبير جدا، لكن أنا أريد أن أُشير إلى نُقطة الآن سأُفرغ لكم عنها.
يُمكن أن نقول لهؤلاء ألم تُلاحظوا أن كل تجربة ألم، كل ابتلاء بمحنة وكارثة ومُصيبة، دائما تُنتج مسلكين مُتعارضين على طول الخط؟ هناك مَن يتزلزل ويُلحد ويفقد إيمانه وثقته وتسليمه ويقينه، وهناك المُلحد الشكوكي المُتزلزل القلق، الذي يعود إلى الإيمان، بعد المحنة، بعد البلية، بعد الفقر، بعد المُعاناة، وبعد الألم. وحتى الفلاسفة الغربيون لفرط ما لاحظوا مؤيدات ومصاديق هذه الحالة، أطلقوا عليها اصطلاحا، أطلقوا عليها اصطلاحا، foxhole conversions تحولات الخنادق، تحولات الخنادق! تحولات الخنادق هي ما شرحت لكم! مؤمنون يكفرون بسبب المحنة، ملاحدة يُؤمنون بسبب المحنة.
إذن ردة الفعل إزاء هذه المسائل ليست ردة فعل طبيعية، مثل نار وبنزين: حريق، أليس كذلك؟ مُستحيل، هو هذا! ردة فعل واحدة. لا، مع بنزين المحنة، يُمكن أن يُنبت بُستان، يُمكن أن ينشب حريق يأتي على الأخضر واليابس. نحن بشر، نحن خارج قانون الطبيعة الحتمي المادي الخطي الواضح البسيط. نحن كائنات مُعقدة جدا، كائنات فيها من روح الله، لا إله إلا هو!
ولذلك الآن مُجرد تسليم هذه المُلاحظة، تسجيل، تعليق هذه التعليقة، تعليق هذه المُلاحظة، كاف في دحض شُبهة الشر المنطقية، أو ما يُعرف بمُشكلة الشر المنطقية ال Logical problem of evil، انتهت! ما هي؟ مُشكلة الشر المنطقية التي تزعم أن هناك أطرافا للمُشكلة لا يُمكن أن تتعايش منطقيا، فلا بد أن بعضها صادق، والبعض الآخر كاذب. إذا صدق البعض، كذب البعض. وهي المُشكلة المشهورة من أكثر من ألفي سنة، والتي أثارها الفيلسوف الحسي أبيقور Epicurus، ولوكريتيوس Lucretius، صاحب طبيعة الأشياء، أيضا صاغها شعرا، ثم أعادها وأحياها ديفيد هيوم David Hume في مُحاضراته عن الدين الطبيعي، ثم ظل يلغط بها الملاحدة والربوبيون والشكوكيون إلى تقريبا مُنتصف العقد الثامن من القرن العشرين، ثم طفأت. لكن شكوكيون وملاحدة وأصحاب نزعات في العالم العربي والإسلامي، لم يقفوا على هذه الحقيقة، ويظنون إلى اليوم أن مُشكلة الشر المنطقية قوية جدا، بل مُعضلة ولا جواب عنها. لا، هذا وراؤنا، هذا تركناه وراءنا. ملاحدة الغرب هنا، وهم فلاسفة كبار، ليسوا أطفالا صغارا – وبعضهم قضى عمره يُناقش هذه المسائل؛ مسائل الإيمان والإلحاد، وبالذات مُشكلة الشر -، قالوا ليس بين أيدينا إلا أن نُسلّم أن مُشكلة الشر المنطقية لم تعد بتلك القوة والصلابة والتماسك، لندعها وراءنا، ولنأت بمُشكلة أخرى، إنها مُشكلة الشر الإثباتية Evidential problem of evil، مُشكلة الشر الإثباتية، وليست مُشكلة الشر المنطقية.
مُشكلة الشر المنطقية؛ حتى أوضح المُراد بالمُصطلحات، هي مُشكلة كما قلت أبيقور Epicurus، التي تقول المفروض أن الرب كلي العلم، يعلم! إذن هو عالم بالمُعاناة التي يُعانيها البشر. وحتى الآن طبعا أدخلوا الحيوانات، وحتى بعضهم أدخل البكتيريا، انتبهوا، نعم! الله إذن عالم، كلي العلم، إذن هو لا يخفى عليه مُعاناة الكائنات، وخاصة البشر. ثانيا، كلي الرحمة أو الصلاح أو الخيرية أو المحبة. ثلاثا كلي القدرة. جميل! هذه ثلاثة مُقدمات! لكن لدينا مُقدمة رابعة؛ العالم فيه شر، العالم فيه ألوان كثيرة من الشر، صنوف كثيرة من العذابات والتباريح والآلام والمظالم، أليس كذلك؟ والكوارث والمصائب. ثم هذا الشر نوعان؛ شر أخلاقي، وهو الذي يصدر عن البشر، ويتسبب به بعض البشر لبعضهم أو لبعض آخرين، يتسبب فيه الإنسان لأخيه الإنسان، هذا الشر الأخلاقي! ثم هناك شر طبيعي، لا علاقة للبشر به! الزلازل، البراكين، الطوفانات، الأمراض، الطواعين، الأوبئة، إلى آخره! هذه الأشياء ليست من صُنع البشر. الله إذن هو المسؤول عنها!
كيف نُجيب عن الشر الأخلاقي، ثم عن الشر الطبيعي، الذي يزحم العالم، ويحيل حياتنا إلى عذاب وإلى ألم؟ هكذا يقولون، مع أن الصراحة من غير فلسفة ومن غير كذا، مُعظم حياتنا أو مُعظم حياة مُعظم البشر ليست عذابا وألما، والألم الذي فيها موجود الألم باستمرار، لكن مُحتمل. لا أريد في الجواب الحلي؛ لكي أتحدث عن فوائد الألم؛ لأن مُعظم حديثي في خُطبة اليوم سيكون نقضيا وليس حليا، وأيضا سأشرح الفرق بين الأجوبة النقضية والأجوبة الحلية. هذه مُصطلحات الإسلاميين قبل مُصطلحات الغربيين، نحن الذين طورنا هذه الفلسفات، نحن الذين طورنا هذه الجوابات أو الأجوبة، قبل هؤلاء بمئات السنين – بفضل الله تبارك وتعالى -. تقريبا…صدقوني، بالنسبة للعبد الفقير، أنا لم أجد لديهم؛ لدى الغربيين، جديدا في هذه المسألة. لم أستفد نُقطة لم أعرفها من تراثي الإسلامي. هذا ليس من باب التبجح، من باب الإنصاف أيضا، إنصاف نفسي كمُسلم، إنصاف نفسي كتراث إسلامي. لم أجد! لو وجدت، معروف عني دائما شجاعتي وعرفاني بالجميل، سأرد الفضل إلى صاحبه، حتى وإن كان نيتشه Nietzsche، الذي سأقتبسه اليوم، واستفدت منه حكمة جديدا تُناسب المقام! لكن لم أستفد منهم شيئا لم أتعلمه من تراثي وديني ولاهوتي. موجود، موجود لدينا – بفضل الله تبارك وتعالى -.
على كل حال إذن سأقول…مُعظم كلامي سيكون نقضيا، ولن يكون حليا، وسأوضح هذا. هذه المُشكلة المنطقية! هذه المُشكلة المنطقية، يقولون بما أن العالم فيه شرور وفيه مُعاناة، إذن سنتساءل أين قدرة الرب؟ أين خيرية الرب؟ هو يعلم بهذه الشرور والمُعاناة، وهو على إزالتها قدير، والمفروض أنه كلي الرحمة والمحبة، لماذا لا يُزيلها؟ إذا كان يعلم بها، ويقدر على إزالتها، وهي موجودة، ولا يُزيلها – أستغفر الله، اللهم غفرا -، فإذن هو – يظنون والعياذ الله، أستغفر الله – شرير، غير رحيم، غير مُحب، إذن، ماذا؟ كلي الرحمة والخيرية والصلاح والمحبة. لا ليس كليا، أين؟ أين المحبة؟ وأين الخيرية؟ وأين الصلاح؟ إذن انتهى! إذن هناك توتر Tension، هناك توتر منطقي بين هذه المُقدمات.
هذا التوتر غير موجود، والآن سأستشهد بطفل صغير، سأستدعي طفلا في العاشرة من عمره، طفلا افتراضيا؛ ليُجيب عن مُشكلة الشر المنطقية، وسيفعل هذا بطريقة من أجود ما يكون وبسيطة ومفهومة له، وربما يقدر على إفهامها لأخيه ابن الخمس السنوات، الطرف الآخر في القضية. والقضية ذات ثلاثة أطراف أيضا؛ والد وولدان، والد وابنان. حيث هناك توتر منطقي، توتر فلسفي.
ثم إن كان الله العالم بهذا الشر والمُعاناة، والمُريد لرفعه، لكنه لا يقدر على رفعه، فهو عاجز، وبالتالي ليس إلها. أنتم افترضتموه إلها، وقلتم من صفاته كيت وكيت وكيت؛ كلي العلم، كلي الخيرية، كلي القدرة. وغير قادر! معناها ماذا؟ عاجز. إذن هو إما شرير، وإما عاجز، وإما غير موجود! لأنك ترفض أن يكون الإله شريرا أو عاجزا، وهذا ليس الإله على كل حال. إذن الصحيح؛ لأن الشر موجود، وهذه حقيقة يقينية، والمُعاناة لا تبرح حياتنا ولا تُزايلها، إذن الرب غير موجود، فرضية باطلة. ما شاء الله! وهذه مُشكلة حقيقية وتوتر فلسفي وتوتر منطقي وعاشت أكثر من ألفي سنة؟
هيا يا بُني، يا ذا العشر سنوات، أجب هؤلاء. أخوك الصغير ابن الخمس سنوات يقول – انتبهوا – أبي يزعم أنه وافر الشفقة، وافر المحبة، مسؤول، مُعتن بي على أحسن وجه، وصالحي وهنائي وسعادتي تهمه كثيرا، أبي يزعم هذا. الطفل يقول، الطفل الصغير يزعق ويتألم، ابن الخمس سنوات.
ثانيا إلا أنه مُصر على أن يُجرعني كل ثماني ساعات شيئا كريه الطعم، مُر الطعم جدا، يُصيبني بعد أن أشربه بالغثيان! بالغثيان! وهو كريه الطعم، ومُر جدا. وأبي – المُقدمة الثانية – قادر على ألا يفعل، قادر على ألا يُجرعني هذا الدواء الكريه…عفوا، هذا الشيء الكريه – وهو لا يعلم أنه دواء، ربما يسمه يسمع، لكن لا يفهم ما معنى كلمة دواء. هذا الشيء، هذا المشروب الكريه -. وبدل أن أحتسي مشروبا حلوا، لذيذ المذاق، أحتسي هذا السُم الزعاق، هذا السُم الزعاق الزعاف! وهو قادر على ألا يفعل، إلا أنه مُذ أربعة أشهر لم يزل مُصرا على أن يفعلها، وثلاث مرار في اليوم. إذن أبي كاذب في زعمه! أنه ماذا؟ أنه يُحبني بإخلاص ووافر الشفقة ومُعتن بي ويهمه هنائي وسعادتي، أبي يكذب.
والطفل مُمتلئ يقينا بهذه الحقيقة، مثل هؤلاء الذين امتلأوا يقينا بحقيقة أن الرب إما وإما وإما أنه غير موجود، ما شاء الله! لكن الطفل لم يُغامر بأن أباه غير موجود، لماذا؟ لأنه يراه. هذا فارق في القياس، وكل قياس فيه فارق. هو يراه، فلا يستطيع أن يُغامر بإنكاره! يأتي أخوه ابن العشر سنوات، ويقول له يا أخي المُقدمة الأولى موجودة، والمُقدمة الثانية أنا أُسلّمها، والمُقدمة الثالثة – أن والدنا لا يزال مُصرا على أن يفعل هذا – موجودة، ولكن أنت فاتتك مُقدمة رابعة، خُذها في الحساب، ضعها في الميزان، ضعها في كفة اليمين، وسترجح كفة اليمين بالشمال، ستعلم أن أباك صادق في زعمه، وأنه صادق في محبته وشفقته وعنوه بك وحرصه على هناك وسعادتك.
يقول له ما هي؟ يقول له أبوك يُريد هذا ويُصر عليه لأنه دواء من مرض دب فيك، وبحمد الله اكتشفه الطبيب في الوقت المُناسب، ولولا تعاطيك هذا الدواء، لأورثك هذا الداء، أو هذا المرض، داء عُضالا يجعل حياتك جحيما إلى أن تموت! فلا بُد من احتمال هذا (الدواء)، لمُدة شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين؛ حتى تنقه، وتبرأ من علتك يا أخي. هنا سيُسلم الطفل الصغير أن الأب إذن صادق في محبته، وأنه يفعلها! وهو لا يُحبها، ولكن لا بُد منها، لاستصلاح صحتي، وطرد علتي. أليس كذلك؟
هذه هي القضية، ليس فلسفيا، هذه يعلمها أبسط مؤمن، أبسط مؤمن توحيدي؛ يهودي، مسيحي، مُسلم، ببساطة! لأنه لا يقصر المُقدمات على أن الله كلي العلم، كلي القدرة، كلي المحبة، أيضا يتبع أنه كلي العلم، كلي ماذا؟ الحكمة. له حكمة، له غرض. لماذا لم تُدخلوا هذا الغرض والحكمة في المسألة؟ مَن قال لكم إن محبته لنا وإن إرادته الرحمة (بنا)…(بنا)، هذا الضمير؛ النا، يُراد به نحن كما نحن، نحن كما نحن! نحن الكائنات المُلهمة الفجور والتقوى، الكائنات ذوات الاستعداد أن تبني وأن تُدمر، أليس كذلك؟ أن تُحيي وأن تُميت، أن تُسعّر الحروب، تكون مساعر حرب، أو تبني الحضارات والمدنيات، وتكون رسائل سلام ومحبة ومودة وتعارض بين الشعوب، كائنات عجيبة غريبة! تعلو وتسفل كما نقول دائما، نتحدث عن نحن كما نحن، ليس عن نحن كما لو كنا ملائكة، ولسنا بملائكة، أليس كذلك؟
إذن على فكرة هذه الطريقة طريقة نقضية، نحن هكذا نقضنا، نقضنا ماذا؟ نقضنا عليهم استدلالهم من حيث أننا طعنا في شرعية السؤال. لا نُسلم لكم أن سؤالكم مُكتمل، لا نُسلم لكم أن سؤالكم مُسلّم، سؤالكم ملغوم وخاطئ ويُفجّر نفسه ذاتيا، سؤالكم ناقص. هذا ما يُعرف بال Defence أو بالجواب النقضي. لا تُسلّم شرعية السؤال، وأظهر ما فيه من عوار، تكون قد نقضته.
على فكرة ضمن قضية النقض الآن، يقول لك هؤلاء المُعترضون من أبناء وبنات المسلمين – ثبتنا الله وإياهم جميعا وآنسنا بالإيمان الحق واليقين الصدق -، يقولون ما باله لا يستجيب لنا؟ نقضيا يستجيب. كيف؟ لماذا لم يستجب؟ هو لم يستجب في قضية ريان، فيما يبدو لك، واستجاب في آلاف القضايا.
اليوم، وشكر الله لمَن زودني بهذا البوست Post، شيء مؤثر جدا جدا جدا! طفلة صغيرة سودانية، سنة ألفان وعشرة، بنت عشر سنوات، تخرج مع أبيها، وترعى طرش الغنم أو المعز، ترعى! في يوم من الأيام عادت، وبعض القطيع ناقص، تغيظ أبوها وغضب جدا جدا! أين ذهب؟ ما الذي حصل؟ قالت هكذا! لعله ضل، لعله اختطفه الذئب. أخذها بغضب شديد وحنق، وحالة إبليسية شيطانية – والعياذ بالله، تسبب فيها الغضب، فالغضب من الشيطان – ابنته، عشر سنوات، طفلة صغيرة، وتُساعد في الرعي! لكن هناك أُناس قساة للأسف الشديد! أخذها وأتى بها إلى فوهة بئر، عُمقها ليس مثل بئر ريان – رحمة الله عليه – اثنين وثلاثين مترا، لا، ثمانية وثلاثون مترا، والبئر قديمة مهجورة، تقطنها الحيات السمان الضخام والعقارب، و…و…اكتبوا عنها، قصة بالاسم! قصة واقعية في السودان، ألفان وعشرة. ثم عاد وتركها! سألوه، قال لا أدري أين! وأظهر الانزعاج والقلق! لا أدري أين ذهبت، لم تعد. وبدأ الناس يبحثون عنها، لم يجدوها.
ثم قدر الله تبارك وتعالى أن يأذن بها من خلال صوت والأنين أحد الرعاة في مكان قريب! شاب صغير راع، فسمع، فأذن الناس حول المكان، فأتى الناس، جماعة من الناس أدركوا أن هناك طفلا أو طفلة في عُمق البئر. أدلوا لها بحبل، ثم أخرجوها مثل قفص من العظم، هيكل عظمي! بعد كم هذا؟ أربعين يوما. ريان خمسة أيام – رحمة الله على روحه الطاهرة البريئة -. أربعون يوما وأربعون ليلة، في عُفر، في غيابة جُب بعيدة المهوى، بعيدة القعر. وجدوا في رأسها، عقارب ميتة في شعرها، وعقارب حية تسعى. وأخبرتهم بعد ذلك أنها كانت بجوار حية ضخمة، كأنها كانت ترعاها وتدفع عنها، بدل أن تلتهمها.
والحيايا الضخمة هذه مثل الأناكوندا Anaconda وكذا بعد فترة…حين تربيها في بيتك… انتبهوا، هذه المعلومة معروفة جدا! إذا بدأت هذه الحية الضخمة، الأناكوندا Anaconda، تُقايس نفسها بك، فاحذر، تخل عنها؛ لأنها تفكر في ابتلاعك. معروفة هذه في العلم! تأتي الحية تبدأ تضع نفسها بإزاء الطفل مثلا أو الشاب الصغير اليفع، تُقايس! إذا وجدت أن الطول مُناسب ويُمكن التهامه، التهمته، وهو الذي يُربيها! لأن الزواحف ليس لديها المُخ العاطفي، انتبهوا! الزواحف ليس لديها المُخ العاطفي، اسمه المُخ الثديي أو الثديياتي، أي ال Mammalian brain، وهذه زواحف! التماسيح والحيات والعقارب ليس عندها عاطفة، ليس عندها! وليس عندها حفظ الجميل وجحد الجميل، هذا غير موجود أصلا، فهكذا! طبقة تطورية نازلة، الزواحف، علميا! لكن سبحان الله! زواحف ماذا؟ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا *، زواحف ماذا؟ إبليس نفسه بأمر الله يستحيل في لحظة إلى خاتم لك، يعمل لمصلحتك، من حيث يُريد ضُرك، أليس كذلك؟ أو ضَرك. بأمر الله! لا يُوجد شيء يخرج عن أمره. أتاها الأمر الإلهي بكل بساطة، أتاها الأمر الإلهي بالرعاية والمُحافظة عليها…أربعون يوما وليلة! قالوا لها كيف عشت؟ أربعون يوما وليلة! قالت لهم حدث معي شيء غريب عجيب! كان يأتيني كل يوم تقريبا – وهي لا تدري اليوم من الليلة، ثمانية وثلاثون مترا! لكن هي تُقدر هكذا، كل يوم. يأتيني تقريبا كل يوم – رجل لم أر وجهه، لكنه يلبس الأبيض، ويُعطيني إناء فيه لبن إبل.
هذه القصة مثلها تماما حدث مع رجل في ليبيا، لا أريد أن أستوعبها الآن بالقص، ولكن مَن حدثني بها ثقة وصادق، ويعلمها ليبيون كثيرون عاشوا في المكان، ومكث فترة طويلة مردوما، تحت ردم! ثم أُفرغ بعد، الآن نسيت أنا الفترة؛ حتى أكون دقيقا وصادقا، ونفس الشيء؛ كان يأتيه رجل يلبس الأبيض، ويأتيه بلبن، يشربه! لكن في الإناء الذي كان يصب فيه للفقراء والمساكين. هو نفسه! صدقته. والعجيب أنني قرأت قبل زُهاء أيضا عشرين سنة أو أقل أو أكثر في البدر الطالع في محاسن من بعد القرن السابع، للقاضي محمد بن علي الشوكاني – رحمة الله تعالى عليه – صاحب نيل الأوتار. في البدر الطالع قرأت للإمام الشوكاني يُحدث عن رجل من المُعاصرين؛ من مُعاصريه، اتفق له شيء مُشابه، وبقي سنة كاملة، في قعر البئر. ولما أُخرج – وكان رُدم، هذا البئر مردوم – ولما أُخرج بعد ذلك بتوفيق إلهي، حدث عن أن هناك كائنا؛ رجلا، ملكا، روحا طيبة، لا ندري! يُسمونه الروح الحارسة. أي ملك! كان يلبس الأبيض، وكان يأتيه أيضا باللبن، اللبن غذاء كامل، يتغذى به! سنة! وخرج كالغول، كله شعر، مُشعر، شيء عجيب! قال لك سنة. مُغالب الغلّاب مغلوب، لا إله إلا هو!
سمعت كثيرا من العوام لدينا، يقولون مَن لم يأت أجله، فلا قتّال له. اضربه بصاروخ، والله لو لم يأت أجله لا يموت. مَن يُنكر، فليُنكر.
نعود إلى أختنا آمنة بنت وهب؛ لأن الناس أسموها آمنة بنت وهب. الفتاة السودانية ذات العشرة الأعوام أسماها الناس بآمنة بنت وهب – عليها السلام -، أم سيدنا رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله -. قالت كان يأتيني بإناء فيه لبن الإبل، وبالأمس – أي في اليوم التاسع والثلاثين أو الليلة التاسعة والثلاثين – قال لي غدا يأتيك مَن يُخرجك بإذن الله. وفي اليوم الأربعين، اكتبوها هذه، وتحققوا بها، وسلوا إخواننا السودانيين! وأسموها بآمنة. الآن استجاب الله أو لم يستجب؟ على كل حال استجاب لأمها، وربما لأبيها، إذا ندم، لا أدري! لأخواتها الصغار، لخالاتها، لجداتها.
على كل حال الله قضى بهذا، قضى ألا تهلك، وعندها حيات وعندها عقارب. ريان – رحمة الله على روحه الطاهرة – فرق إنقاذ، ألوف الناس مُحيطة بالمكان، ملايين الناس حول العالم تدعو ليل نهار وتبكي، على مدى خمسة أيام وخمس ليال، ومات رحمة الله تعالى عليه، مُغالب الغلّاب مغلوب، الذي يُريده الله هو الذي ينفذ، هو الذي يكون، لا اعتراض على حُكمه، لا إله إلا هو! الله ليس برسم أن يُقدّم لأي منا كشف حساب؛ أنني أحسنت أو لم أحسن؟ برىء أو مُتهم أنا؟ انتبهوا، الرب رب، والعبد عبد، لن تنقلب! الله لا يُختبر، الله يَختبر. الله لا يُبتلى، الله يبتلي، وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ *، الله مُبتل، ونحن مُبتلون، ونحن مُبتلون! لكن هو المُبتلي، والله لا يُبتلى، لا يُمكن لأحد أن يختبره، لا يُمكن للمحدود العاجز البسيط الصغير الضعيف الهش أن يختبر وأن يبتلي المُطلق، لا إله إلا هو! أين يُذهب بنا؟ مساكين نحن، لنعترف بكل تواضع أن إيماننا حين يُختبر، قد يتكشف عن إيمان ضعيف، عن إيمان مهزوز، لكن لا نعد باللائمة على الله ونتهم الله في حكمته ومشيئته.
العامة كما قلت لكم، العامة يُجيبون عن هذه المُشكلات بطريقة ولا أوضح ولا أبسط! ليس لأنهم عباقرة، بل لأنهم يستندون إلى مقولات إيمانية بكل بساطة. العامي، “الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ *. المُهتدون – إن شئتم -، المُهتدون منطقيا – إن شئتم -، المُهتدون فلسفيا – إن شئتم -، المُهتدون سجاليا حجاجيا – إن شئتم -، هم اهتدوا إلى الخُطة التي هي أوقى وأتقى وأزكى، وهي أصوب وأسد وأقصر **. انظر؛ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *، ثلاثة أركان! المبدأ من الله، واهب الوجود وواهب الحياة هو، لا إله إلا هو! نحن لم نختر أن نُوجد، ولا نستطيع، ولا يستطيع أحد، إلا الله، أن يُوجد شيئا من لا شيء، أليس كذلك؟
أصعب سؤال علي الإطلاق في الفلسفة والعلم والفكر البشري عموما؛ لماذا وُجد الشيء؟ الشيء، أي شيء، من أين؟ وكيف؟ أصعب سؤال، الله هو، وعلى أن يجعله شيئا حيا ودرّاكا وفهّاما وواعيا، وقال مُعترض! يعترض! التراب يعترض على رب الأرباب، دعه يفرح، دعه (يهيص)، بهذه القدرات العقلية والإدراكية البسيطة المُتواضعة! التي لا تعرف حدودها، وسأُثبت هذا بُعيد قليل، لم تعرف حدودها! أنت تكون درّاكا حقا، ودرّاكا في الطريق السليم، بالكيفية الصحيحة، إذا عرفت حدودك. إذا لم تعرف حدودك، فأنت حتى مُصاب بعوق – أي مُعاق البعيد، أو مُعوّق، أو مَعوق مُعاق غير صحيحة، مَعوق أو مُعوّق، هذه من عاق وهذه من عوَّق -، مَعوق أو مُعوّق فكريا، إدراكيا، فهميا، فلسفيا. سأُثبت لكم لماذا الآن، انتبهوا!
إذن الله مبدأنا، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *، الله غايتنا، الله مُنتهانا، الله مرجعنا، إليه المصير، لا إله إلا هو! طبعا هو أولى بنا من آبائنا وأمهاتنا؟ نعم طبعا، ومن أنفسنا، الله أولى بنا من أنفسنا. الذي أوجدنا من العدم، ومنّ علينا بنعمة الوجود، أخرجنا من كتم العتم، إلى أنوار الوجود وأضوائه، من غير اختيار منا. العدم يختار؟ العدم بطول أو بطلان محض، لا شيئية محضة، هذا هو العدم! ولكن رحمة منه، محبة منه، لا إله إلا هو! أخرجنا، أعطانا هذه الهبة، وجعلنا كما قلت كائنات حية درّاكة فهّامة.
وهو تبارك وتعالى مَن يُقرر متى وبأي كيفية نعود إليه. يستردنا حين يُريد، لا إله إلا هو! أليس كذلك؟ لا اعتراض. إذن تُريد أن تعترض… انتبه، إذا تود أن تكون منطقيا ومُنسجما مع نفسك ومع اعتراضاتك وزلزلاتك ووجوه قلقك، فلا تعترض على موت ريان بعد خمس ليال من الدعاء المُتواصل، لا! اعترض على الموت من حيث هو، اعترض على موتك أنت، أنت! لا تعترض حتى على موت زوجك وابنك وابنتك، على موتك أنت، وهو آتيك لا محالة، إذا لم يكن الموت، ولو بعد مئة سنة، آتيك آتيك آتيك! أكثر يقين، مع أن مُعظم الناس تعيش كأنه شك، هو الموت، أليس كذلك؟ هل هناك أحد يشك أنه سيموت؟ لا أحد، الكل عارف أنه سيموت، مع أنهم، مُعظم الناس يعيشون كأنهم لا يموتون للأسف، وهذا هو…أي ماذا أقول إذن؟ غباوة؟ بلادة؟ غفلة؟ جهل؟ غرور! الله سماه ماذا؟ الغرور. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ *. غرور، نوع من الجهل، والغرور هو الجهل طبعا، الغرور هو الجهل! جهل، نوع من الجهل، واضح؟
إذن لا تعترض على موت ريان ولا موت ابنك ولا ابنت – أسأل الله لكم ولي جميعا العافية والمُعافاة -، اعترض على موتك، بل اعترض على الموت من حيث هو. وإذا اعترضت على الموت من حيث هو؛ لأنه شر، وغير مُناسب، ومؤلم، وغير جيد، ولا يُستدرك – انتهى، الذي مات لا يرجع -، فاعترض على العالم كما هو؛ لأن هذا العالم ليس فيه موت فقط، وفيه خسارة، وفيه مرض، وفيه شيخوخة، وفيه ضعف، وفيه محدودية؛ محدودية في الصحة وفي الجمال وفي العلم وفي الفهم وفي الإدراك وفي الملك، كل شيء محدود فيها، نسبي، أليس كذلك؟ اعترض على العالم ككل، ولن تقدر عليه، وسأقول لك لماذا، واعتراضك عليه لن يكون في محله، وغير منطقي، وغير فلسفي، وسأقول لك لماذا، وهذا من رسائل الخطبة اليوم على فكرة، ومن أهم ما ستؤديه الخُطبة من رسائل – بفضل الله تبارك وتعالى -.
إذن العامي حين يقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *…الله هو المبدأ، الله هو المصير، وإليه المرجع! ثم هو مَن؟ لا إله إلا هو! هو الله، الذي هو رحمن رحيم، رحمة مُطلقة، لا إله إلا هو! إذن مرجعي إليه، إذا كنت ممن حفظ الأمانة، وأدى الوديعة. ما هي الوديعة؟ نفسي، نفسي التي بين جنبي. وأحسنت الخلافة، في أي أرض؟ في أرض نفسي، في أرض ذاتي، أنا مُستخلف في سُقع نفسي، في سُقع نفسي! في أرض كياني. أحسنت التصرف، وكنت العبد في الجُملة، ولا بُد من خطأ، ولا بُد من غفلة، ولا بُد من نسيان، نحن أبناء النسيان، نحن أبناء الزمان، نحن أبناء آدم، وإن كنت، ولكن في الجُملة، أنا كنت واجتهدت أن أكون العبد الذي يرضاه الله، العبد الصالح الحسن الطيب الذي يرضاه الله، والآن سأعود إلى الله، أعود إلى مَن؟ إلى أرحم الراحمين، إلى أكرم الأكرمين، الذي أخبرني وصدق ولا مُكره له كما قال نبيه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه سيعوضني عن كل ما فاتني، وعن كل ما أحزنني، وعن كل ما أشقاني، وعن كل ما آلمني، حتى الشوكة شاكتني مرة في الدهر. هناك تعويض، هناك عوض، نظرية الأعواض تُسمى، هناك تعويض! لن أتكلم في نظرية الأعواض؛ لأن الكلام في نظرية الأعواض والعوض سيكون جوابا حليا، وأنا لا أتكلم في الجواب الحلي، أنا سأتكلم، أُريد أن أتكلم في الجواب النقضي، إلى الآن! لكن لئلا أغادر النُقطة من غير إضاءة بسيطة، لعل فيها ذكرى لمَن ألقى السمع أو كان له قلب. ما هي؟
فقط سآتي بنص واحد، وهو معلوم لكم جميعا، سمعتموه عشرات المرات، لكن من باب التذكير، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ *. الحديث الصحيح الجميل الجليل المُبلسِم، الذي يُبلسم الجراح، يُبلسم جراحنا، يُسكّن قلقنا، يُطمئن شقاءنا؛ حديث أنس بن مالك في صحيح مُسلم، الذي يقول فيه مولانا وسيدنا رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه – يقول يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار. أكثر واحد كان مُنعما في الدنيا من أهل النار، أي كافر، مُشرك، حطت عليه كلمة العذاب، لكن كان في الدنيا أنعم أهل الدنيا! ليس سيارات، لا! يختات وطائرات وجُزر وخدم وحشم وفلوس وصحة ونساء وشهوات وكل ما تُريد، وكل ما لا يخطر على بالك كان عنده! فيُصبغ في النار صَبغة واحدة. اسم مرة هذا، صَبغة اسم مرة، أي صَبغة وليس صِبغة، صَبغة، صَبغة واحدة! يُدلى في جهنم هكذا! يُخرج، ويُقال له يا عبد الله هل رأيت نعيما قط؟ هل رأيت خيرا قط؟ عشت أنت حياة ونعيما! يقول لا والله يا رب، ما رأيت نعيما قط. هي صَبغة واحدة أنسته متاع الدنيا، أنسته المليارات والحسناوات الغيد الخمصاوات، مجالس الطرب والقصف واللهو والشُرب، السُلطة والنفوذ والتحكم في البشر وفي الناس واستضعاف البشر واستذلال مَن أكرم الله بقوة المال والسُلطان، كل هذا أصبح نسيا منسيا! لا والله يا رب، لا والله يا ربي ما مر بي نعيم قط، ولا رأيت خيرا قط. قال: ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، ويُصبغ في الجنة صَبغة. صَبغة واحدة، ويُخرج! ستقول لي النارعرفناها، نار! فالجنة ماذا؟ أنسامها، روائحها، الله أعلم! هواؤها، ما لا يخطر على بال بشر أصلا. كيف يُصبغ؟ صَبغ! يُخرج، يا عبد الله هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شدة قط؟ يقول لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة. أنا حياتي كلها من أحسن ما يكون. بالصبغ في الجنة، لا إله إلا هو!
أحبتي في الله/
لعلكم سمعتم أكثر من مرة أننا أبناء الزمان، محكومو الزمان، وهو – لا إله إلا هو – رب الأزمان، رب الزمان والمكان، ورب كل شيء ومليكه، أليس كذلك؟ نحن نتصرف في حدود ماذا؟ الزمان. والسنة طويلة، وخمسة أيام على ريان طويلة جدا، أشقتنا وزلزلت إيماننا. الله تبارك وتعالى بيده الأمد كله والأزل كله! الآن انتبه، جمد لحظة زمان، لحظة من لحظات حياتك، جمد زمانها، ما النتيجة؟ نعيم دائم لا ينتهي، أو شقاء دائم لا ينتهي. جمد لحظة ألم شديدة، شُق جوفك، بمبضع جراح، من غير Narkose، من غير بِنج، أو بِنج بالأحرى. ألم رهيب، لا يُحتمل، وسيُغمى عليك طبعا، أكيد! وهذا من رحمة الله. جمد هذه اللحظة، لتستمر بعدها، كيف سيكون الوضع؟ هذا مُخيف مُرعب، أليس كذلك؟ جمد لحظة مُتعة شهوية من أي نوع، جمدها! تُصبح الحياة شيئا جميلا جدا، لا يُوصف! مُستمرة، مُستمرة! لحظة مُستمرة، أليس كذلك؟ الآن بالمقابل، نحن أحيانا لا نفتقر إلى المنطق، نفتقر إلى الخيال، خيالنا ضحل أحيانا! نحتاج، وعلى فكرة الذي يُعين الفلاسفة الكبار والعلماء الفطاحل أن خيالهم خصيب، عندهم قدرة طفولية على أن يشققوا الاحتمالات، أن يبعجوها، أن يولدوها. سقراط Socrates، هذا الطفل الفيلسوف الكبير، كان عنده هذه القدرة، على أن يبعج الاحتمالات، وأن يولد المُفترضات، الفروض، بشكل تقريبا لا نهائي، بعضها من بعض، بعضها من بعض! ولذلك كان فيلسوفا عظيما جدا. هؤلاء العباقرة، لكن مُعظم الناس عندهم ضحالة حتى في الخيال! يرى في احتمالين أو ثلاثة؛ كلي القدرة، كلي العلم، كلي المحبة. الشر موجود؟ إذن هو غير موجود. ما شاء الله! خيال ضحل، خيال فقير جدا، انتبهوا! ولذلك الآن في الجهة الأخرى؛ خمسة أيام، ضرب أربع وعشرين ساعة، ضرب ستين، ضرب ستين: ثوان، ألوف الثواني، وخمس ليال، عجيب! ريان المسكين البريء الطاهر، سلام الله على روحه الطاهرة، في عليين إن شاء الله، وعلى كل الأرواح الطاهرة والبريئة والمظلومة، وهي بالملايين حول العالم، ومُعظمها من المسلمين للأسف الشديد، نحن أكثر الناس مظلومية، وأكثر الناس مذبوحية، وأكثر الناس شقاء. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، وارفع ما بنا من شقاء ومن مظلومية، اللهم آمين، وعن العالمين، نُحب الخير للعالمين، والله.
نرجع الآن، اختصر ولا تجمد، عكس التجميد؛ اضغط الخمسة الأيام والخمس الليالي، ولكي تُصور إمكانية ضغطها؟ ماذا تفعل؟ تخيلها في جانب الأبد، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا *. أي قيمة مقسومة على الما لا نهاية ماذا تُساوي؟ صفرا. يصير عندك خمسة أيام وخمس ليال: صفر، صفر! لكن لا نُريد هذه الصفرية العدمية، جمدها، اختزلها، اضغطها إلى طرفة عين، طرفة عين! طرفة عين ثم وجد ريان نفسه في أعلى فراديس الخُلد، في جنان الله، في جوار رب رحيم، لا إله إلا هو! الآن افترض نفسك أنك ترى هذا المشهد كله، وأنت فوق الزمان، بالله الذي لا إله إلا هو، هل كنت ستعترض على أن ريان رحل الآن؟ كنت ستتمني لنفسك وأولادك وذرياتك أن تكون هناك مع ريان، وتقول أف وتف لهذه الدنيا!
حدثتكم مرة عن ابنة عمي وابنة خالتي، ولا تزال تعيش إلى اليوم، أعطاها الله العمر المديد في طاعته وعافية تامة. قلت لكم مرة – وهذا قبل حوالي ربما أربعين سنة – رأت الجنة في المنام. مكثت تقريبا أسبوعا كاملا تبكي ليل نهار. يا فلانة ماذا رأيت؟ قالت لا أستطيع أن أصف. لا يُوصف – قالت -، شيء ليس من عالمكم هذا. وتبكي، تدعو على نفسها أن ترتحل، أن تموت. وتقول مَن يحبني، يدع لي، ادعوا لي أن أرتحل إلى هناك. في المنام! لمحة في المنام. وإنا مُتأكد ما رأته في المنام ليس مما يحكي الواقع الحقيقي للجنة؛ لأن عقليتنا وقدرتنا الاستعابية الفهمية الإدراكية ونحن في هذه النشأة تعجز عن أن تستوعب النعيم هناك. ذاك النعيم يحتاج إلى نشأة أخرى، ما رأيكم؟ إلى تحرر على الأقل كامل الروح من إسار البدن، ما رأيكم؟ من كل ما يُسمى بالمُعدات الإدراكية في الفلسفة العقلية المشائية، من كل المُعدات، روح هكذا! ومع ذلك أسبوعا كاملا قضته تبكي، وتقول مَن يحبني، فليدع لي بالموت. أريد أن أذهب إلى حيث رأيت. لا إله إلا الله، اللهم أعطنا من عطاياك، ولا تحرمنا يا الله. فنحن فقط فقيرو الخيال.
قبل أن أُغادر، وقد أزف الوقت، أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، أُريد أن أجلي هذه النُقطة الجميلة، وكما قلت لكم أنا آخذ في النقض وليس في الحل. الحل، الآن عرفتم ما هو النقض! الاعتراض على مشروعية السؤال من حيث أتى وإثبات أنه غير مُتسق وغير كاف ومغلوط وملغوم، هذا النقض، فقط! هذا النقض. قالوا لماذا لم يستجب؟ استجاب، ويستجيب كثيرا، أليس كذلك؟ استجاب، ويستجيب كثيرا.
حدثتكم مرة عن حالة وقعت للعبد الفقير، إخواني هنا في المسجد كانوا لدينا، وكان لدينا ضيف أستاذ تشريع من مصر، بروفيسور Professor فاضل، جاء يومها، ورجل أعمال من تونس أيضا، وكنا في حفل، ليس في حفل، عفوا! في مأدبة غداء، عند صلاة المغرب، وجاءني الخبر؛ ابنتي، فلذة كبدتي، بها مرض خطير جدا جدا، نُقلت على إثره إلى المُستشفى. وباختصار نقص في الصفائح الدموية، ليس إلى حد عشرة آلاف، ألف!
بإجماع كل علماء الفسيولوجي Physiology والطب الألف أكثر من قاتل، وعشرة آلاف قاتل، حد خمسون ألفا حد مرضي، غير طبيعي. عشرة آلاف قاتل، ألف في أي لحظة ينفجر دماغها وتنتهي، في أي لحظة! ذهبت أنا وأمها، وأصبحت في حالة – لا أراكم الله -، وسُبحان الله! الظاهر شيء، والباطن شيء، ألقى الله عليه، والله الذي لا إله إلا هو، في هذا اليوم وكان يوم جُمعة، وأنا لا أنسى ما حييت تلك الخُطبة، الخُطبة كانت عن هذا الموضوع. الخُطبة يومها قلت ولا أنسى…إن أنسى لا أنسى ما قلت يوم ذاك، جُمعة ذاك…قلت أيهما المُفلح، أيهما الغني؛ مَن عنده ملايير، وابتُليَ في لحظة بابنه وحيده، الذي عضل داؤه بالأطباء الكبار في لندن وفي برلين وفي باريس وفي المايو كلينك Mayo Clinic حول العالم، ثم اختُطف منه في بضعة أيام…هذا فقير أو غني؟ والفقير الآخر الذي ربما ليس عنده حتى الملاليم، ولكن عنده علاقة مع ربه، إذا دعا، رأى الفلاح قبل الصباح …هذا ما قلته بالحرف، هذا! حتى قلت العبارة. قلت هذا الفقير إذا دعا ربه، رأى الفلاح قبل الصباح. ويُبتلى بابنه أو ابنته أو زوجه، فيدعو الله، ويشاء الله…أحيانا لا يشاء، انتبه، الله حكيم، حكمته فوق عقل العاقلين وفهم الفاهمين، لكن نُسلّم بها إجمالا، ولا نطلب تفاصيلها في كل شيء، لا نستطيع، وسأقول لكم لماذا.
وجاءني هذا الخبر في نفس اليوم، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! الظاهر مُتزلزل، الظاهر عجيب، أنا وأمها، وهي بكر أمها، والباطن غير مُرنق، غير قلق، هادئ بارد. قلت هذا، وكانت…وهي تبكي! قالت وأنا نفس الشيء. أشعر أننا لن نفقد فلانة. قلت لها وأنا نفس الشيء. والبنت عاشت يوما، يومين، وظلت ترتفع الصفائح، وتعدت حال الخطر، ثم ظهر بها مرض عُضال آخر، غير قاتل، ولكن سيؤثر على كامل صحتها، وستظل تتعاطى العلاج إلى أن تلقى الله! قلت لهم كيف؟ ليس في العائلة واحد منا مُصاب بهذا المرض، وهذا المرض طبيعته وراثية على الأقل، قالوا نحن تعجبنا! تعرفون كم فحصا عملوا لها؟ فحصا في مُستشفى الأطفال في الحي الثامن، ثم فحصين أو ثلاثة؛ لأنني نسيت، حتى أكون صادقا، على الأقل اثنين، وبلا شك في AKH، المُستشفى الجامعي، الثالث أو الرابع على مُستوى أوروبا، ثلاثة أو أربعة فحوص، وكلها تؤكد أنها مُصابة بهذا الداء.
والله الذي لا إله إلا هو، وأنا في هذه…يوم الاثنين كان لا بُد أن أذهب بها إلى المُستشفى الآن، في…نذهب لكي نلتقي بالأطباء في برنامج العلاج المُمتد ال Extended، يمتد بعدها، انتهى، إلى ما شاء الله، باستمرار! طيلة حياتها. كيف؟ كم مرة في الأسبوع، ولا بُد أن تأتي إلى المُستشفى، قصة طويلة عريضة! لا أتحدث بتفاصيلها. قلت لها يا بُنية – وأنا صليت الليل – بفضل الله تبارك وتعالى -، ودعوت لها، ولأخ حبيب على قلبي، مُهندس من السعودية، وطلب مني قبل أن أُتابع ابنتي، فقدمته في الدعاء على ابنتي، والله في صلاة الليل، دعوت له أولا ثم دعوت لابنتي.
وقلت لها وأنا أقود بها السيارة يا بُنيتي أنا دعوت الله تبارك وتعالى بدعوة، وأشعر أن الله أجابني، فأكثري من الاستغفار الآن، أكثري من الاستغفار، وسلي الله أن يُصدّقني في دعوتي، أن يُجيبني. قالت بماذا دعوت يا أبت؟ والله، وأنا ذاهب بها إلى المُستشفى، قلت لها دعوت، طلبت من ربي لا إله إلا هو، أن يُريني عجائب لُطفه، عجائب صُنعه. قالت وما هو؟ قلت لها طلبت من ربي لا إله إلا هو أن أذهب إلى المُستشفى، فيقول لي الطبيب أو الطبيبة هناك يا سيد إبراهيم ابنتك لا تُعاني من هذا المرض. فكيف إذن؟ وثلاثة فحوص، واثنان أو ثلاثة منها في AKH، وأكدتم علينا عدة مرات! قلت لها الله يا بُنيتي يقلب كل شيء بقدرته، كُن فَيَكُونُ *، أنا طلبت هذا من ربي. لم أطلب تسهيل برنامج العلاج وأن تُعالجي طيلة حياتك، وعلاجك كل أسبوع مرتين أو ثلاث، لا نُريد هذا.
والله الذي لا إله إلا هو، انتظرت أنا وابنتي ربما رُبع ساعة، وإذا بطبيبة جميلة طيبة، كم عندها رحمة! فرحة، كأنها ابنتي ابنتها، معها أكلسير أو ملف، فتحته وقالت سيد إبراهيم تفضل أنت وفلانة. دخلت، قالت نبدأ بالخبر الحسن. قلت لها ما هو؟ قالت فلانة ليس عندها هذا الداء. فأنا هويت إلى الأرض مُباشرة، سجدت أمامها، سجدت وسبحت ربي وحمدته، وابنتي أجهشت في البكاء، وأنا أيضا. ولولا أنه لا يحل لي، لاحتضنت هذه الدكتورة الطيبة من كثرة ما كان فيها فرح! ولكني دعوت لها وقلت لها بارك فيك الرب، بارك فيك ربي. وأسأل الله أن يُباركها وأن يهديها إلى الإيمان الذي يرضاه من عباده – لا إله إلا هو -، وأن يُحسن ختامها.
يقول لك الله لا يستجيب! يستجيب، يستجيب، لكن انتبهوا، هو لا يستجيب بشروطنا، ولا يستجيب لنا في كل مرة، ولا يستجيب لنا في الوقت الذي نُريد وبالكيفية التي نُريد، هو يستجيب لنا – صدّقوني – بما يعلم ويُقدّر أنه خير لنا، حتى وإن كنا نرى أنه شر لنا. هو أرحم بنا من أنفسنا، والله العظيم! وأرحم بأولادنا منا بأولادنا، أليس كذلك؟ كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُباركين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعليكم والمسلمين معهم برحمته ومنّه وفضله أجمعين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها. نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن عين لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمع، ومن عمل لا يُرفع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. احفظنا يا ربي من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك وعزتك أن نُغتال من تحتنا. اغفر لنا ما كان منا في الزمان الأول، اغفر لنا همنا كله، دقه وجله، قديمه وحديثه، ظاهره وباطنه، ما علمنا منه وما لم نعلم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
جزاك الله خيرا شيخنا الجليل على تفاعلك مع حادثة الطفل ريان، و هو بالفعل موضوع يستحق وقفة تأمل صريحة لكي نفهم معنى الرسالة التي بعثت لنا من طرف الخالق عز و جل. و العجيب أن هذه الواقعة المؤلمة في ظاهرها و التي لم نستطع معها صبرا تماما كحال سيدنا موسى مع الخضر بعد قتله للغلام. أفاقت قلوب الناس على اختلاف معتقاداتهم و ألسنتهم طيلة الخمس أيام التي قضاها ريان في الحفرة إلى حين خبر وفاته، .الأمر المحير هنا هو أن هناك أطفال تموت بالآلاف كل يوم لكنها لم تحضى بنفس التفاعل الروحي الذي عشناه مع الطفل ريان، مما يدعونا للتساؤل بشكل منطقي(من منطلق لا وجود للصدفة عند العبد المؤمن) حول حقيقة شأن هذا الطفل عند الخالق عز وجل. لذلك اسمحوا لي أن أضيف أن وفاة ريان موضوع يستحق البحث العميق، لأن مجموع من المعطيات و القرائن تفيد بأنه ربما استشهد خلال صراع بين الخير و الشر.
أتمنى من الله العلي القدير أن يرزق والديه الصبر هما و كل من هم في حالهما، كما أتمنى من خالص القلب أن يحفظ أبنائنا و أبنائكم من كل شر و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.
جزاك الله خير الجزاء شيخنا وعالمنا الفاضل عدنان إبراهيم وجزاك الله خيرًا من كتب لنا وصور ونشر لنا.والله أبكتني هذه المحاضرة المكتوبة، سبحانك ربي لا إله إلاّ أنت. جزاكم الله خير الجزاء وأسأل الله لنا جميعًا بالحفظ وبالعافية وبالمعاناة لأنفسنا ولأهلينا ولأحبتنا
جزاك الله خيرا شيخنا الجليل على تفاعلك مع حادثة الطفل ريان، و هو بالفعل موضوع يستحق وقفة تأمل صريحة لكي نفهم معنى الرسالة التي بعثت لنا من طرف الخالق عز و جل. و العجيب أن هذه الواقعة المؤلمة في ظاهرها و التي لم نستطع معها صبرا تماما كحال سيدنا موسى مع الخضر بعد قتله للغلام. أفاقت قلوب الناس على اختلاف معتقاداتهم و ألسنتهم طيلة الخمس أيام التي قضاها ريان في الحفرة إلى حين خبر وفاته، .الأمر المحير هنا هو أن هناك أطفال تموت بالآلاف كل يوم لكنها لم تحضى بنفس التفاعل الروحي الذي عشناه مع الطفل ريان، مما يدعونا للتساؤل بشكل منطقي(من منطلق لا وجود للصدفة عند العبد المؤمن) حول حقيقة شأن هذا الطفل عند الخالق عز وجل. لذلك اسمحوا لي أن أضيف أن وفاة ريان موضوع يستحق البحث العميق، لأن مجموع من المعطيات و القرائن تفيد بأنه ربما استشهد خلال صراع بين الخير و الشر.
أتمنى من الله العلي القدير أن يرزق والديه الصبر هما و كل من هم في حالهما، كما أتمنى من خالص القلب أن يحفظ أبنائنا و أبنائكم من كل شر و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.
جزاك الله خير الجزاء شيخنا وعالمنا الفاضل عدنان إبراهيم وجزاك الله خيرًا من كتب لنا وصور ونشر لنا.والله أبكتني هذه المحاضرة المكتوبة، سبحانك ربي لا إله إلاّ أنت. جزاكم الله خير الجزاء وأسأل الله لنا جميعًا بالحفظ وبالعافية وبالمعاناة لأنفسنا ولأهلينا ولأحبتنا