إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم الكتاب بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة المُسلِمون:
روى الإمام ابن خُزيمة – رحمه الله تعالى – في صحيحه عن صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سلمان الفارسي، قال – رضيَ الله تعالى عنه – خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في آخر يوم من شعبان، فقال يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مُبارَك – يعني شهر رمضان -، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدى فريضةً فيما سواه، ومَن أدى فريضةً فيه كان كمَن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المُواساة، وشهر يُزاد في رزق المُؤمِن فيه، مَن فطَّر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيئ.
قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يُفطِّر الصائم، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُعطي الله هذا الثواب مَن فطَّر صائماً على تمرة، أو على شربة ماء، أو على مذقة لبن، ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين تُرضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضان بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه – أي التهليل والاستغفار -، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار، ومَن خفَّف فيه عن مملوكه غفر الله ذنبه وأعتق رقبته من النار.
ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وختم حديثه الطويل المُبارَك هذا بقوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – كالمُؤكِّد مرةً أُخرى ومَن سقى صائماً – أي شربة ماء – سقاه الله من حوضي شربةً، لا يظمأ حتى يدخل الجنة، قال الإمام ابن خُزيمة صح الخبر، وفي بعض نُسخ الصحيح – أي في بعض نُسخ صحيح ابن خُزيمة – إن صح الخبر، والله أعلم – سُبحانه وتعالى – بذلك.
أيها الإخوة المُسلِمون:
نستروح في هذه الأيام وفي هذه الليالي نسمات أسحار رحمة الله، لقد أقبلت جحافل الفيض، وتراسلت جنود الرحمة والجود، لتنكفئ وتهرب وتستوحش أرسال الأبالسة وجنود الشياطين، تُفتَّح أبواب الجنان، وتُغلَق أبواب النيران، ويُنادي مُنادٍ من قبل الرحمن يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ارتدع وانزع واترك ما أنت فيه، المحروم مَن حُرِم في هذا الشهر، والسعيد مَن سعد فيه، اللهم أسعِدنا بجودك ورحمتك يا رحيم، يا ودود.
شهر رمضان أُعطيت فيه أمة محمد من الخصال ما لم يُعطها حتى الأنبياء وليس أمم الأنبياء، فقد روى الإمام أبو بكر البيهقي – رحمه الله تعالى – في سُننه وفي شُعب الإيمان له، عن جابر بن عبد الله الأنصاريين – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال لقد أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً لم يُعطهن نبي قبلي، فأما واحدة – يعني الأولى – فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله – تبارك وتعالى – إليهم، ومَن نظر الله – تبارك وتعالى – إليه لم يُعذِّبه أبداً، اللهم إنا نسألك أن تنظر إلينا بنظر الرحمة والمغفرة يا رب العالمين.
وأما الثانية فإن خلوف أفواههم – أي تغير روائح أفواههم – حين يُمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة فإن الله – تبارك وتعالى – يأمر جنته، فيقول تزيَّني واستعدي لعبادي، فقد أوشكوا أن يستريحوا من عناء الدنيا وتعبها إلى كرامتي، وأما الخامسة فإنه إذا كان آخر ليلة من رمضان غفر الله لهم – سُبحانه وتعالى – جميعاً، لجميع الصوّام أو الصائمين، فقال رجل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ فقال كلا، ألم تر إلى العمّال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم؟! هذا غير ليلة القدر، غير كرامة ليلة القدر وما يكون فيها أيضاً من المغفرة والتجاوز والصفح العميم والعطاء الجزيل والرحمات المُتراسِلة، ألم تر إلى العمّال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم؟! اللهم ارحمنا في رمضان، واغفر لنا، وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا ومشايخنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين من نار جهنم يا رب العالمين، بفضلك ومنّك ورحمتك.
المحروم مَن حُرِم التوفيق والسعادة في هذا الشهر يا إخواني، لا يهلك على الله إلا هالك، هذا الشهر الكريم الذي أظلنا حقاً ومن قريب فُرصة ليسبر الإنسان نفسه، ليعرف حقيقة هذه النفس الخبيثة، هذه النفس المُسوِّلة، المُسوِّلة بالمعاصي والمروق والصغائر والكبائر من الذنوب.
توق نفسك لا تأمن غوائلها فالنفس أخبث من سبعين شيطاناً.
إذا كانت الشياطين تُغَل وتُصفَّد في شهر رمضان فلماذا نرى من المُسلِمين مَن يُذنِبون ومَن يعصون ومَن يكذبون ومَن يغشون ومَن يأكلون الحرام ويفعلونه ويتقحَّمون الكبائر؟ النفس، النفس الخبيثة، ليس من الشيطان، إن ذلك من تأثير النفس كما قال السادة العلماء، فُرصة ليعرف الإنسان حقيقة نفسه، هل ارتاضت هذه النفس على الخيرات والمبرات؟ هل لانت مقادتها في يد صاحبها أم أنها لا زالت حرون، شموساً، لم تلن مقادتها، لا تُطاوِع في الخير، ولكنها تنزع إلى شر غاية – والعياذ بالله -؟!
في حديث كعب بن عُجرة – وتلوته عليكم مرات في مثل هذه المُناسَبات – حين صعد النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – درج المنبر – أي درجاته – قال في الأولى آمين وقال في الثانية آمين وقال في الثالثة آمين، فلما نزل سأله الصحابة يا رسول الله لقد رأيناك قلت أو فعلت شيئاً لم نرك من قبل تفعل أو تقول مثله، فقال نعم، لقد عرض لي جبريل عند المنبر، أي حين أردت أن أصعد المنبر عرض لي جبريل، فقال يا محمد قل آمين، لمَن؟ مَن؟ لا نُريد أن نذكر الخصال الثلاثة، مَن أدرك شهر رمضان ولم يُغفَر له، أبعده الله، قل آمين، فقلت آمين، أبعده الله أي لعنه وطرده، أبعده من رحمته، إنه الخزيان، إنه العاري الخزيان، الذي باء بخزي الدنيا وخزي الآخرة أو بخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه الإمام أبو القاسم الطبراني في مُعجَمه الكبير، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أمتى لن تخزى، إذن شهر رمضان شهر يُجلِّل هاماتنا بالعز لو أننا وفينا حقوقه واحترزنا مما ينبغي أن نحترز منه واستثمرناه خير استثمار وعبدنا الله وحقَّقنا فيه معنى العبودية الحقة لله، إن أمتى لن تخزى، ما أقاموا شهر رمضان، قال رجل يا رسول الله وما خزي الأمة في شهر رمضان؟ كيف تخزى الأمة في رمضان؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – بانتهاك المحارم، الذي ينتهك المحارم يخزى، لأن السيئات كما ستعلمون بانتهاك المحارم، ومَن زنى فيه أو شرب خمراً لعنه الله ومَن في السماوات أجمعين إلى مثله من قابل، عاماً كاملاً والله يلعنه والملائكة تلعنه، شهر رمضان له قدسية خاصة، وله مثابة خاصة، ولذا ينظر المُسلِمون إلى مَن ينتهك حُرمة هذا الشهر، وفي المُسلِمين مَن يُدخِّن الدخائن أو السجائر في رمضان، أن يكون من المُفطِرين، ومنهم مَن يتقحَّم المعاصي وكبائر المعاصي في رمضان – والعياذ بالله -، فهذا هالك خزيان ذليل – والعياذ بالله -، إن لم تُدرِكه رحمة الله في رمضان آخر فليس له حسنة، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فإن لم يُدرِك رمضان القابل – أي مات قبل أن يُدرِك رمضان القابل، أي الجائي، أي الآخر – لم تكن له حسنة يتقي بها النار، حبط عمله.
يقول الإمام الذهبي – شمس الدين الذهبي، رحمة الله عليه، علم الرجال، وشيخ المُحدِّثين والمُؤرِّخين في عصره – إن الأمة تنظر إلى مَن يُفطِر في نهار رمضان كما لا تنظر إلى ما يترك الصلاة أو غيرها من الفرائض، ويظنون به الزندقة وانحلال العُقدة، أي انحلال عُقدة الإيمان، لا يفعل ذلك إلا زنديق، إلا إنسان ليس في قلبه – والعياذ بالله – ذرة من الإيمان، يلعنه الله والملائكة في السماوات – أي مَن في السماوات – أجمعون إلى مثله من قابل، سنة كاملة والله يلعنه – سُبحانه وتعالى -، شيئ مُخيف، شيئ فظيع، لم تكن له حسنة يتقي بها النار، فاتقوا الله في شهر رمضان، يقول نبيكم – عليه الصلاة وأفضل السلام – فاتقوا الله في شهر رمضان، فإن الحسنات تُضاعَف فيه ما لا تُضاعَف فيما سواه، وكذلك السيئات، حتى السيئات أيضاً تُضاعَف في رمضان ما لا تُضاعَف في غير رمضان، لعِظم حُرمته ومثابته، وأما الحسنات فكلها تُضاعَف، وقد سمعتم حديث سلمان، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدى فريضةً فيما سواه، ومَن أدى فريضةً فيه كان كمَن أدى سبعين فريضةً فيما سواه.
سُئل – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال صدقة في رمضان، رواه الترمذي، وفي الشيخين – أي البخاري ومُسلِم – يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – عُمرة في رمضان تعدل حجة، وفي رواية معي، تعدل حجة معي، ورى أبو بكر البيهقي عن الإمام العلّامة إبراهيم النخعي – شيخ الكوفة في عصره -، قال صلاة في رمضان خير من ألف صلاة، وصوم في رمضان خير من ألف يوم، أي صوم يوم، وتسبيحة خير من ألف تسبيحة، وتهليلة خير من ألف تهليلة، تُضاعَف الأعمال الصالحة كما تُضاعَف الذنوب والسيئات – والعياذ بالله -، فينبغي على المُؤمِن أن يحترز من الكبائر ومن الصغائر جهده في شهر رمضان، وهذه هي حكمة الصوم، هذه هي حكمة الصوم ولعلها المُشار إليها من طرف خفي في الحديث الذي خرَّجاه أيضاً في الصحيحين، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله – عز وجل – إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، اختصه بنفسه، نسبه إلى ذاته، نسبه إلى نفسه – سُبحانه وتعالى -، فإنه لي، قال إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته – أي شهوة الفرج يعني – وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، اللهم أمتعنا بلذة النظر إلى وجهك الكريم عند لقائك، وأمنا مما يفزع منه المُفزَّعون يا رب العالمين، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم – في بعض روايات الصحيح حين يُمسي – أطيب عند الله من ريح المسك.
اختلف العلماء اختلافاً عريضاً، لماذا نسب الله – تبارك وتعالى – الصوم إلى نفسه؟ لماذا اختصه بنفسه – سُبحانه وتعالى -؟ لا نُريد أن نخوض في هذه المسألة، خُضنا فيها في خُطبة قبل سنين، هناك أقوال كثيرة للسادة العلماء، كلها خير ونور – إن شاء الله تعالى -، ولكن نقول كلمة جامعة، يبدو أن السر الجامع لكل ما هنالك أن الصوم يُحقِّق في المُؤمِن الصائم أو الصائمة من العبودية لله وتشحيرها وتمحيضها ما لا يُحقِّقه غيره من العبادات، ولذلك رُويَ في الحديث الضعيف الصيام لا رياء فيه، هذا حديث ضعيف، ولو صح لكان مقطع الحق عنده، لكنه لا يصح، وفيه شيئ من صحة المعنى بلا ريب، الصيام من أبعد العبادات من الرياء أو أبعد العبادات من الرياء، يدخله الرياء بلا ريب، يدخله ولا نُريد أن نُفصِّل في ذلك، لكن هو من أبعد العبادات.
حكمة الصوم الجامعة والكُلية التي تشمل الصوّام أجمعين، ذكورهم وإناثهم، أغنياءهم وفقراءهم، واجديهم ومحدوديهم أو الواجد والمحدود منهم، وعلماءهم وجهلاءهم – تشمل الجميع -، هي أن تمتلك النفس، أن تمتلك نفسك، لا أن تمتلكك نفسك، مَن ملك نفسه حقَّق العبودية لله، وتحرَّر من إلحاح الضرورات، أكثر الضرورات التي تُلح على الإنسان ما هي؟ شهوة البطن والفرج، ولذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الآخر الصحيح مَن يضمن لي ما بين لحييه – أي ما بين فكيه – وما بين رجليه أضمن له الجنة، فذكر الفرج هنا، وفي حديث الإمام أحمد في المُسنَد إنما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، النبي قال هذا ما أخافه عليكم، إنما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومَضَلات الهوى، وليس مُضِلة، جمع مَضَلة وليس مُضِلة، ومَضلات الهوى، قال شهوات الغي في البطن والفرج ومَضلات الهوى – والعياذ بالله -.
الصوم نوع من إقدار الإنسان، من تمكينه، أن يتملَّك نفسه، وأن يتحكَّم نفسه، وأن يتحدى هذه الضرورات ولو إلى أمد، ضرورة البطن والفرج، في حديث الصحيحين الذي سمعتم إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، قال إنه ترك شهوته، أي شهوة الفرج، قال وطعامه وشرابه، أي شهوة البطن، هما الشهوتان أكثر ما يُلِح على الإنسان من الضرورات، الصائم الذي يُؤدي حق الصوم يتحرَّر من إلحاح هاتين الضرورتين، من إلحاح جميع الشهوات، يملك نفسه، ويُصبِح عبداً حراً، عبداً لله، حراً في كون الله، حراً أمام نفسه.
ملكت نفسي وكنت عبداً فزال رقي وطاب عيشي.
لا يطيب عيش الإنسان إلا إذا امتلك نفسه، إن أمرها ائتمرت، وإن نهاها انتهت، وحقيقة الصوم أنه عبادة سلبية، عبادة كف، ليس فيه ما يُفعَل، إنما فيه ما يُكَف، تكف شهوات البطن وشهوات الفرج، تكف لسانك عما حرَّم الله، تكف جميع الجوارح عن الجولان فيما نهى الله – تبارك وتعالى – عنه، حقيقة الصوم أنه عبادة سلبية، وليس معنى سلبية كما نستخدمها في اللُغة العامية، أي شيئ غير طيب، لا! عبادة سلبية أي عبادة كف، ليس فيها ما تفعل، كالصلاة أن تركع وأن تسجد، وكالحج أن تطوف وأن ترمي وأن تحلق وأن تُقصِّر، وكالزكاة أن تُعطي، أبداً! عبادة كف، امتنع فقط، والامتناع في نظري أكثر من نصف الإرادة، الأستاذ العقاد مرة قال امتلاك النفس نصف الإرادة، لأن الإرادة الكاملة هي التي تُمكِّن صاحبها أن يُقدِم حيث ينبغي الإقدام، وأن يُحجِم – هذا هو الكف – حيث يلزم الإحجام.
إذن فتعويد النفس أن تُحجِم حيث ينبغي أو يلزم الإحجام نصف الإرادة، وأقول أكثر من ذلك، نُخالِف الأستاذ الكبير، أكثر من ذلك! الإنسان قد يُقدِم حيث ينبغي الإقدام، ولكنه لا يستطيع أن يُحجِم حيث ينبغي أو يلزم الإحجام، ضعيف أمام الضرورات، ضعيف أمام الشهوات، بعض الناس يُصلي، بل يقوم الليل بأجزاء من كتاب الله، لكنه أمام الشهوات والمُغريات ضعيف هش مُتهالِك فلا يستطيع أن يحتفظ بقوامه دوماً أو الدوام، ولذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وفيه تأييد لرأينا، قال إذا أمرتكم بشيئ فأتوا منه ما استطعتم، أي الأمر فيه سعة، وإذا نهيتكم عن شيئ فانتهوا، هذا الأمر أهم، لم يقل فانتهوا كما استطعتم، قال فانتهوا، إذا أمرتكم بشيئ فأتوا منه ما استطعتم، إذا نهيتكم عن شيئ فانتهوا.
ولذا قال الفيلسوف المُسلِم المُهتدي رجاء جارودي Ragaa Garaudy – بارك الله في عمره -، قال هذا الرجل الصوم انقطاع إرادي في إيقاع الحياة، يختلف كل إيقاع الحياة اليومية، الفردية والاجتماعية، بمعنى ما طبعاً، والفردية أكثر، انقطاع إرادي في إيقاع الحياة، دليلاً – أي كدليل – على وصول المُسلِم الصائم إلى درجة التحكم في اختياره ورغباته، درجة التحكم في اختياره وفي رغباته مثل أُريد ولا أُريد، وأنتم تعلمون أن الإنسان يمتاز من الحيوان بما يُعرَف في فلسفة الأخلاق بالبُعد الثالث، الحيوان له بُعدان، إمكان الفعل في ذاته، والرغبة في الفعل، حين الحيوان يُريد أن يُسافِد، يُريد أن يأكل، يُريد أن ينهش، ويُريد أن يفترس، هل هذا الأمر مُمكِن أو غير مُمكِن؟ لا يستطيع الذئب أن يفترس الأسد، الأمر غير مُمكِن في ذاته، لكن الأسد يستطيع أن يفترس الذئب، فالأمر مُمكِن، البُعد الثاني هل يرغب أو لا يرغب في ذلك؟ إذا كان يرغب فإنه يفعل ذلك، والمسافة معدومة بين الرغبة والإمكان أبداً، الرغبة تدور فقط مع الإمكان، يرغب في شيئ وهو مُمكِن أن يفعله، المُسلِم يختلف أو الإنسان بشكل عام وبالذات المُؤمِن، عبد الله المُنقاد لشرع الله يختلف، هناك بُعد ثالث، وهو المشروعية، ليس فقط أن هذا الفعل مُمكِن أن أفعله أو أُريد وأُحِب وأرغب أن أفعله، هل يسمح لي ربي، خالقي، المُشرِّع – سُبحانه وتعالى -؟ هل يسمح لي ديني وضميري – محكمة الضمير في القلب -؟ هل يسمح لي كل أولئكم أن أفعل أو لا يسمحون لي؟ هل يسمحون أو لا يسمحون؟ إذن هنا الإرادة والرغبة تدور مع المشروعية، أي البُعد الثالث.
قبيحٌ بالإنسان أن يُريده ربه حُراً، وهو يأبى إلا أن يظل عبداً، ومُطاوَعة الشهوات، وبالذات شهوات البطن والفرج، أقصر طريق إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أقصر طريق – والعياذ بالله -، والعوام لدينا في بلادنا وبحق يعتقدون أن مَن كان ضعيفاً أمام شهوة البطن فهو ضعيف أمام شهوة الفرج، وضعيف في كل أو أمام كل الخيارات الصعبة، والله هذا حق، مَن كان ضعيفاً أمام بطنه يصعب جداً أن يكون مُتماسِكاً أمام شهوة الفرج، يكون ضعيفاً أيضاً أمامها، ولذا قرن النبي بينهما، شهوة البطن والفرج! وقد قال الحُكماء من قديم، قالوا إذا جاعت النفس شبعت الأعضاء، وإذا شبعت النفس جاعت الأعضاء، كيف؟ عبارة حكيمة، تنطوي على معانٍ غزيرة، قالوا إذا جاعت النفس، وتجويع النفس يكون بمثل الصوم – مثلاً – وخرق المألوفات ومُخالَفة المُعتادات، فإذا جاعت النفس شبعت الأعضاء، أي زايلها الاضطراب وسكنت وقرت، كل الأعضاء، أبداً! ولذا الصائم يجد من نفسه الداعية إلى الشر وإلى مُعاطاة المعاصي ضعيفة – بحمد الله -، ضعيفة وقليلة، هذا عند الصائم، البدن حتى لا يستطيع أن ينبعث إلى ذلك، فعليه بالصيام فإنه له وجاء، في موضوع شهوة الفرج صُم، قال فإن له وجاء، فإذا جاعت النفس شبعت الأعضاء، وإذا شبعت النفس – أي شبع البطن والنفس – جاعت الأعضاء، كل الشهوات تُريد، العين تُريد أن تُبصِر، اللسان يُريد أن يفسق وأن يتكلَّم فيما يُغضِب الله وأن يغتاب وأن ينم وأن يفتري، والفرج أيضاً، الشهوات! إذا شبعت النفس جاعت الأعضاء.
ولذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي تعرفونه وهو صحيح إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فقال السادة العارفون بالله – هذا ليس من قول رسول الله، هذا مُدرَج من قول العارفين -، قالوا ضيِّقوا مجاريه بالجوع والعطش، إلى هذا المعنى يُشيرون، وإذا كان الصوم هو عبادة الكف فينبغي على المُؤمِن يا إخواني أن يكف، هذا أكثر ما ينبغي أن يحترز منه، أكثر من اجتهادك أن تقوم رمضان – أي صلاة التراويح – وأن تقرأ القرآن وأن تُخرِج الصدقات وأن تذكر الله وما إلى ذلك، وهذا شيئ طيب ولازم وضروري أن نستكثر منه في شهر رمضان بلا شك، فُرصة ومغنم ومعرض للتجارات الأُخروية، إنه مضمار المُتسابَقين ومرقاة المُصعِدين وميدان المُتقين العاملين، ينبغي ألا نُضيِّعه سُدى، لا ريب! ولكن ينبغي أن نجتهد وأن نحترز أكثر من ذلك أن نكف، نكف الألسنة، نكف المسامع، نكف الأبصار والجوارح، نكف الفرج، نكف هذه الجوارح أن تجول فيما حرَّم الله – تبارك وتعالى -، حتى نمتلك أنفسنا، فإذا امتلكنا أنفسنا تحرَّرنا، شعرنا بالحرية.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يغفر لنا وأن يرحمنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، يغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين.
الخُطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، والعاقبة للمُتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيئ قدير، قاهر الجبّارين، وقاسم المُتكبِّرين، ومُعادي المُعتدين – سُبحانه -، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وبُعِثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعِل رزقي في ظل رُمحي، وجُعِلت الذلة والصغار على مَن خالف أمري، صَلَىَ الله – تعالى – عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
بأي حال عُدت إلينا يا رمضان؟! بأي حال يُوافينا هذا الشهر؟! وبأي حال تُعقِبه الأعياد في كل عام وفي كل سنة؟! بحال الخزي والهوان والذل والعار، لقد صرنا – إي والله – إلى حال، ربما أشفق علينا العدو قبل أن يرحمنا الصديق، ما هذا الذي يحدث في أمة العرب؟! ما هذا الذي يحدث في أمة محمد وأمة الإسلام؟!
كيف يُمكِن؟! كيف يُمكِن أن يرضى ضميرنا كمُسلِمين أن يُضرَب إخواننا وأن يُروَّع الآمنون بغير حق بعد أن طال الظلم في حقهم والله؟! طال عليهم ليل الظلم، طال على إخواننا في العراق وفي ليبيا وفي السودان وفي فلسطين وعلى غيرهم وعلى غيرهم في كل مكان، كما طالهم ظلم الظالمين وعدوان المُعتدين في البوسنة والهرسك والآن في كوسوفو، والأمة كأنها ميتة، يتحدَّثون ويتساءلون الأجانب، يتساءلون هنا عن موقف الشارع العربي، تعجب إحدى الصحافيات الألمانيات، وكانت تقول مُتعجِّبة إلى الآن الشارع العربي لم يُبد تحركاً، إنهم لا يتوقَّعون من هذه الأمة التي كانت في يوم من الأيام وقد صارت في خبر كان أن تفعل شيئاً، أن يكون رد فعلها ولو بالكلام.
إنهم يُعامِلوننا وإنهم يضربوننا ويُذِلوننا بأحدث وسائل الذل والقهر، بأقوى الأسلحة، مرة من البحر، ومرة من الجو، ومرة في البر، ولا يرحموننا، ودون مُبرِّر! قبل سنين كانوا يبحثون عن المُبرِّر الخدّاع الكذّاب الخوّان الأثيم، الآن ما عادوا يحتاجون إلى مُبرِّر، لأنهم رأوا أن الأمة العربية والمُسلِمة لم يعد هناك مُبرِّر أصلاً لوجودها، هكذا يعتقدون! والله لو كانوا يعتقدون أن أمتنا ما زالت تحتفظ بمُرِّر وجودها ما بغوا علينا هذا البغي، ولا عدوا علينا هذا العدوان، لكنهم على يقين أننا أموات في أجداث أحياء، نتحرَّك ونمشي ونأكل ونشرب ونُمارِس شهواتنا – حتى شهوات الجنس – دون أن نشعر بشيئ، إن الجهاز العصبي في الأمة الإسلامية مبتوت الأواصر، مُتقطِّع، إنه لا يُؤدي وظيفة النقل، لا نُحس بشيئ، ما لجُرح بميتٍ إيلامُ، ما الذي حدث لهذه الأمة؟! إنها تُؤكَل وتُقضَم يا أحبابي كل يوم والله، هذه الأمة تُؤكَل وتُقضَم، وستُقضَم كلها إذا بقيت على هذه الحال.
لورنس العرب Lawrence of Arabia – لورنس Lawrence الحكيم، صاحب أعمدة الحكمة – تعرفونه، هذا الإنجليزي الخبيث الذي ادّعى الإسلام وسمى نفسه بأسامي المُسلِمين وعاش في الجزيرة سنين – سنين عدداً – كتب ونشر كتابه أعمدة الحكمة السبعة، وفي الستينيات نشر تقاريره السرية، وكتب فيها بالحرف الواحد يقول إن وعد بلفور Balfour في الحقيقة لم يكن عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، لقد أُعطي لهم بعد أن صدر قانون الأجانب والذي أصدره اللورد بلفور Lord Balfour نفسه بسنة واحدة، قانون الأجانب كان في عام ألف وتسعمائة وخمس، وكان ضد اليهود، في عام ألف وتسعمائة وست أصدر هذا الرجل سرياً وعد بلفور Balfour وصار عليه المُداوَلات والكلام، لكن – يقول لورنس Lawrence بالحرف الواحد – كان ينبغي أن تتوفَّر جُملة شروط أو جُملة شرائط، حتى يُعلَن عن هذا الوعد، وحتى تقوم إسرائيل، هذا الخنجر المسموم في خاصرة الأمة العربية المُسلِمة، لابد من توفير شرائط مُعيَّنة لوضع هذا الخنجر ولوضع هذا الإسفين، وبعد ذلك لكي تتمكَّن إسرائيل من أن تلتقم جيرانها لُقمةً لُقمةً، هذا ما كتبه لورنس العرب Lawrence of Arabia، دولةً دولةً، إقليماً إقليماً.
شقهم لا دولاً، بل عُصباً ثم أشقاهم بحرب العُصب.
إننا مُشقَّقون ليس إلى دول، إلى عُصب، خمسمائة ألف دولة وأربعمائة ألف دولة، كلنا دول، خطَّطوه لنا على الرمال، وفرضوه علينا في واقع الأمر، على الرمال خطَّطوا مُخطَّط العالم العربي.
شقهم لا دولاً، بل عُصباً ثم أشقاهم – كما ترون، وهم والله أشقياء – بحرب العُصب.
يا رسول الله أهذه أمتك؟ أهذه أمتك يا رسول الله؟ أهذه أمتك يا مَن بُعِثت بالسيف بين يدي الساعة وجُعِلت الذلة والصغار على مَن خالف أمرك؟ الذلة والصغار على أمتك اليوم.
يا رسول الله يا خير الورى يا مُنيل العُرب غايات الفخار.
قُم تأمَّل حالهم في العالمين كيف ذلوا بعد العز بالإسار أو بالأسار.
صاروا أسرى لأعدائهم وشهواتهم ومناصبهم وأنانياتهم الصغيرة، إنها الأنانية والله، والله كلمة خيانة – الحُكام الخونة والأنظمة الخائنة – لا تُفسِّر شيئاً، الأنانية التي تجتاحنا في كل مكان، في المسجد، في الشارع، في الكلية، في البيت، في المدرسة، وعلى مُستوى الحُكم، في كل مكان أنانيتنا هي التي تصرعنا، كل إنسان لا يُريد أن يتجرَّد عن مصالحه وعن منافعه وعن مطالبه الشخصية الصغيرة، ولتذهب الأمة إلى الجحيم، ليجتاحها ألف طوفان.
مثل هذه الأمة ماذا تستحق إذن؟ هذا الذي يفعل الله بها، ما أذكى دعاء الأئمة والوعاظ السُذج حين يقولون – لكنهم أذكياء في هذا الدعاء – ولا تُسلِّط علينا بذنونبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا! أي والله، إن الله أعدل – سُبحانه وتعالى – وأقوم في حُكمه وقدره من أن يُسلِّط على أمة محمد – عليه السلام – مَن يسومها الخسف والذلة والعار بغير ذنب، إنها ذنوبنا.
قُم تأمَّل حالهم في العالمين كيف ذلوا بعد العز بالأسار.
أركضوا الأهواء فيهم خبباً ورموا وحدتهم بالشجب.
كل مَن تراه ينحو مذهباً ويحهم لم يتركوا من مذهب.
كل مَن تراه! حتى في حقل العمل الإسلامي، ألف اسم واسم، ألف لائحة ولائحة، ألف مذهب ومذهب، ألف فكر وفكر، ما الذي يُريدون؟ ألا يكفينا ما نحن فيه من تمزق وما نحن فيه من هوان؟ شيئ غريب هذا الذي يقع لأمة محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
المُبرِّر لدى أعدائنا، أعداؤنا رحماء، لابد أن تلحظوا بعين الامتنان رحمتهم، لأنهم أشفقوا علينا أن يضربونا في شهر رمضان، مُراعاةً للشهر المُقدَّس، هكذا قال زعيمهم وكبيرهم، أنا لا أدري لماذا تُصفى المسائل الغرامية ومسائل العُهر والدعارة – أكرمكم الله – على حساب الشعوب المقهورة، إذا كان لدى هذا الرجل مسائل كما وصفتها – لا أُريد أن أُدنِّس لساني بوصفها مرة أُخرى – فلماذا يُصفيها على حساب الأمة؟ هو لا يُريد أن يضرب العراق عشرة أسابيع، يوم أو يومان كافيان، قبل شهر رمضان حُجة، حتى يحتفظ بمنصبه، هكذا يقول! صرنا هكذا طُعمة لكل طاعم، كما وصف النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، الكل يلقم، والكل ينهش، والكل يتعرَّق عظامنا حتى، ما بقي على عظمنا من لحم، لحم على وضم، إنهم يتعرَّقوننا وينهشوننا ويحتسوننا، ونستحق – والله – ما نحن فيه، ينبغي ألا نتظلَّم إلى السماء، ينبغي أن نتظلَّم إلى أنفسنا، أن نُراجِع أنفسنا مرة وألف مرة.
في الليلة التي شاهدنا فيها هذه المأساة التي مررت أكبادنا ومررت نفوسنا أردت وعن قصد أن أرى ماذا تبث الإذاعات العربية الأُخرى، وكان لدي أحد الإخوة الأحبة، بعضهم – إي والله – يبثون الموسيقى والغناء ولقاء مع الفنانين، إي والله يا إخواني، والله في نفس اللحظة، كلام لا يُصدَّق، وقناة أُخرى لدولة عربية عظيمة تبث فيلماً عربياً غرامياً بالأسود والأبيض، الفن الكلاسيكي بالأسود والأبيض، مشاهد التقبيل وقلة الأدب والعراق يُضرَب والمُسلِمون يُضرَبون.
بعض الناس يُريح ضميره قائلاً صدّام هو السباب، ما دخل صدّام بضرب شعب آمن؟ ليس حديثنا عن صدّام ولا غير صدّام، كلهم سواء، حديثنا عن الشعب وعن موقف الشعوب، ماذا يفعل الشعب؟ وماذا تفعل الشعوب الأُخرى؟ سيأتيها نفس المصير، والله سيأتيها نفس المصير، وبما كسبت أيدينا.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فإنك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، اللهم مَن نصب للمُسلِمين الشدائد والفخاخ والمصائب فاهتك اللهم ستره، وافتح قبره، واجعل نهايته في العالمين عبرة.
اللهم عليك بأعدائنا وأعداء الدين، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، يا رب العالمين، وأدِر عليهم دائرة السوء، إلهنا ومولانا، يا جبّار، يا قهّار.
اللهم هيئ لهذه الأمة المرحومة المسكينة أمر رشد تُعِز فيه أولياءك، وتُذِل فيه أعداءك، يُعمَل فيه بطاعتك، يُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المُنكَر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا، وإذا بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، يا رب العالمين.
اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (1998)
الضحوك القتال ما بك شيخنا؟!!!