إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۩ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۩ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
عجيبٌ أن يكون مثار شك وتشكيك في صدق نبوته – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – النجاح الذي أصابه، الحظ العظيم والطائل من النجاح الذي أصابه رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في ميادين مُختلِفة ومجالات مُتباينة! فقد نجح – عليه الصلاة وأفضل السلام – نبياً بلا شك، نحن أُمته إلى اليوم، نذكره ونُوحِّد الله بفضله ونُصلي عليه، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ونجح سياسياً، لم تغرب شمس حياته الآسرة حتى مد الإسلام رواقه وبسط ظله على جزيرة العرب، بؤرة الشرك والوثنية من قبل! وهذا القبل كان قبلاً يسيراً جداً، وذلك في ثلاث وعشرين سنة فقط، طبعاً مثل هذا لم يحدث في التاريخ الإنساني على طوله وعرضه، طوله في الزمان وعرضه في المكان، لم يحدث مرة واحدة، انتبهوا! وهذا ما يُقرِّره كل الدارسين في الشرق والغرب!
في الطبعة الحادية عشرة من الإنسكلوبيديا بريتانيكا Encyclopædia Britannica أو الموسوعة البريطانية تحت مادة القرآن جاء بالحرف الواحد: لم يحدث لمُصلِح ديني عبر التاريخ الإنساني كله أن أصاب حظاً من النجاح مثل محمد بن عبد الله، مُستحيل! لم يحدث هذا، في ثلاث وعشرين سنة حدث، ثلاث وعشرون سنة تمضي مِن حياة مَن يتسلى بالتشغيب على نبوة محمد والتنكيت ربما على إنجازاته وهو قابع مكانه، لم يُحصِّل شيئاً، ماذا فعلت أنت؟ أنت لم تفعل شيئاً لنفسك حتى، لأسرتك لم تفعل شيئاً، أتتسلى وتشغب على رجل غيَّر العالم وغيَّر التاريخ؟ ما هذا العته؟ ما هذه الغيبوبة العقلية؟ غيبوبة! اختبر نفسك أنت، ماذا يُمكِن أن تفعل؟ ما الذي حدث وفعلته أصلاً حتى تتكلَّم على رجل التاريخ وعلى صانع التاريخ، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم؟ لكن هكذا تغيب العقول!
يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ حتى يرى حَسَناً ما ليسَ بالحَسَنِ.
يرى قبيحه حسناً، ويرى عظيم بل عظائم وأوائل وخوالد محمد سيئات وهانات، صلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، نسأل الله أن يُتِم علينا نعمة العقل ونعمة الدين، اللهم آمين.
على كلٍ نجح سياسياً، ونجح عسكرياً، كسب جولات كثيرة، بل كسب معارك وحروباً عُظمى، غيَّر بها التاريخ أيضاً، نجح! نجح ثائراً ومُصلِحاً اجتماعياً، نجح عبقرياً في الإدارة والتربية، نجح في كل هذه الميادين، عجيب! هل هذه النجاحات التي نفخر بها – وحُقَّ لنا أن نكون بها فخورين – هي مثار التشغيب والتشكيك والشك في نبوته؟ نعم، هكذا بالذات هنا في الفكر الغربي، يتساءلون كيف يتسنى له أن يكون نبياً وهو مع ذلك سياسي وعسكري بالذات وثائر؟ صعب جداً! لماذا؟ هناك جواب قصير أسعفتنا به كارن أرمسترونغ Karen Armstrong في كتابها محمد سيرة حياة نبي Muhammad a biography of the prophet، قالت يبدو علينا أننا لا نُريد أن نرى طريقاً أُخرى للوصول إلى الله غير الفشل الذي مُنيَ به المسيح، وهذه السيدة كانت في بداية حياتها راهبة، ثم آضت مُفكِّرةً عالميةً، وهي مُنصِفة إلى حد مقدور ومشكور.
مايكل هارت Michael Hart في المائة الأوائل – وهو كتاب عجيب، تُرجِم إلى أكثر لُغات العالم، والرجل حائز على الأقل على أربع شهادات دكتوراة في علوم وفنون مُختلِفة، رجل واسع الثقافة بلا شك، لكنه ليس واسع الحيلة على خلفية تعصب، ومن هنا إنصافه – أراد أن يُؤرِّخ لأعظم مائة شخصية في جميع الميادين والمجالات أثَّرت ورسمت خُطى البشرية، ماضيها وحاضرها وربما مُستقبَلها! فلم يجد مناصاً وبُداً من أن يبدأ بمحمد، محمد رقم واحد، لكن لماذا؟ طبعاً هو قال في كتابه – تُرجِم نُسخِة مُختصَرة منه للأسف بواسطة أنيس منصور – وقد يعجب بنو قومي ويتساءلون لماذا لم أُقدِّم المسيح وأنا مسيحي؟ قال هذا عن نفسه، هو مسيحي أمريكي، وهل ينقص عيسى أو يسوع المسيح عن محمد عظمةً؟ قال قدَّمت محمداً لأنه ليسوع المسيح من الأثر في تأسيس ونشر ديانته كما كان لمحمد.
يسوع مات وكم الذين آمنوا به؟ يُعدون على أصابع اليدين أو ضعف ذلك فقط، وبحسب التأريخ النصراني والاعتقاد المسيحي مات على خشبة، عليه الصلاة وأفضل السلام، صُلِب على خشبته! هكذا يقولون، أما محمد فكما ألمعنا قُبيل قليل لم تغب شمس حياته الآسرة المُبارَكة إلا وضرب الإسلام بجِرانه في جزيرة عربه، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، هذا نجاح غير طبيعي، ما الذي فعله موسى عليه الصلاة والسلام؟ عجز حتى عن إقناع قومه أن يُحقِّقوا وعد الله لهم وفيهم بفتح الأرض المُقدَّسة، لم ينجح! نجح فيها يوشع بن نون، لكن هو لم ينجح في ذلك، محمد فعل كل هذا في ثلاث وعشرين سنة فقط، قضى منها ثلاث عشرة سنة يُقارِع الشرك والوثنية في جحورها أعظم مُقارَعة!
فهم طبعاً محصورون وأمثالهم – مَن يضرب على نفس النغمة، مَن يعزف نفس المعزوفة – ضمن تصور تاريخي للنبوة، بالذات نبوة المسيح، الإله وابن الإله! هذه النبوة فشلت، إذن لابد أن تفشل كل نبوة، مُستحيل أن ينجح محمد وقد فشل المسيح، لماذا؟ لماذا هذا الــ Projection؟ أي لماذا هذا الإسقاط؟ تُسقِطون المسيح على محمد! هذا شيئ وهذا شيئ، هذا نبي وهذا نبي، صحيح أنهما أخوان ولكن التجربة مُختلِفة، حيث أخفق هذا نجح هذا، نوح إلى حد ما يُعتبَر أخفق، ولا تُوجَد مُشكِلة، محمد نجح نجاحاً عظيماً، عليه الصلاة وأفضل السلام.
المسألة ليست طبعاً بهذا اليسر، انتبهوا! المسألة صعبة جداً، وعملياً حتى في واقع الناس إلى اليوم وبالذات في هذا اليوم هي صعبة، كيف؟ سأُوضِّحها كالتالي، بعض الناس يُبسِّطها ليسأل هل محمد نبي أو عبقري، نبي أو سياسي، نبي أو عسكري، نبي أو مُفكِّر، نبي أو مُصلِح، نبي أو ثائر؟ إلى آخره! هذا أو هذا؟ بالنسبة للفكر الإسلامي للأسف وبكل تبسيط المسألة واضحة ومحسومة، محمد نبي وليس شيئاً بعد ذلك ولا قبله ولا فوقه، هذا غير صحيح، للأسف! طبعاً هذا فيه جور – كما نبَّهت مرة في خُطبة – على إنسانية محمد، هم يعتقدون أن الجانب الماورائي، الجانب الغيبي، والجانب النبوي والرسالي قد طغى على إنسانية محمد، لم يبق من محمد الإنسان شيئ، وهذا غير صحيح، محمد قبل أن يكون نبياً كان إنساناً، وبعد أن تنبأ لم يكف عن أن يكون إنساناً، لم يُصبِح سوبرمان Superman، لم يُصبِح فوق الإنسانية، هو إنسان مُتسامٍ بلا شك، ولكنه ليس سوبرمان Superman، ليس فوق الإنسانية، ومن هنا عظمته، من هنا موضع القدوة والاتساء به، يبقى قدوةً لنا، لكن هم يقولون بعد أن أصبح نبياً كف كل جانب إنساني فيه، ولذلك لا نستطيع أن نصفه بأنه مُربٍ ناجح ولا بأنه عبقري ولا بأنه إداري ولا بأنه سياسي، وهذا غير صحيح، انتبهوا! لماذا لم يُصب نفس النجاح الأنبياء من قبل وقد كانوا أنبياء؟ أليس كذلك؟ لماذا؟ لم يُمارِسوا السياسة والعسكرية والإدارة والتربية والتبليغ بمثل النجاح الذي أصابه هو، لأنه مُتميِّز، مُتميِّز! صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ولذلك كان هو رجل التاريخ كما وصفه المرحوم فارس الخوري، رئيس وزراء سوريا، القانوني والعلّامة العظيم العربي، علّامة كبير جداً، مُمثِّل العرب في وقته في الأمم المُتحدة ورئيس وزراء سوريا، قال إنه أعظم بني آدم، والرجل كان مسيحياً إلى وقتها، يُقال أسلم بعد، الله أعلم! رحمة الله عليه، قال إنه أعظم بني آدم، أعظم رجال هذه السلالة، كان يقولها بالفم الملآن أمام المسيحيين والمُسلِمين ويُبرهِنها، والرجل واسع الثقافة جداً، فارس الخوري رحمة الله عليه!
ويل ديورانت Will Durant – لماذا فارس الخوري؟ ويل ديورانت Will Durant صاحب قصة الحضارة، قضى خمس وعشرين سنة في هذا المشروع – قال لم يعرف التاريخ نظيراً بين المُصلِحين لهذا الرجل، أي كهذا الرجل، مُستحيل! لا يُوجَد نظير له، مُتميِّز حقيقةً!
لكن جوابنا نحن – وهو أوسع بكثير من جواب كارن أرمسترونغ Karen Armstrong – هو محمد نبي وعبقري وإداري وسياسي وعسكري ومُصلِح وثائر ومُفكِّر في آن، هل هذا كلام جدلي خطابي؟ لا، العجيب في هذا والتحدي في هذا والبرهان في هذا أنه استطاع أن يكون كل أولئكم – إن جاز هذا التعبير – في الوقت الذي هو من قبل ومن بعد نبي رسول، بمعنى أنه عبقري محكوم بنبوته، سياسي محكوم برسالته، إداري، مُربٍ، مُصلِح، ثائر، ومُفكِّر محكوم بمعنى النبوة والرسالة، هذا العجيب! كيف؟ الكلام إلى الآن ليس واضحاً.
أيها الإخوة والأخوات:
قد ينجح مُفكِّر ما أن يكون مُفكِّراً ذا صدقية أو ذا مصداقية كما نُفضِّل التعبير، قد ينجح! هناك مُفكِّرون في الشرق والغرب حقيقةً – مُسلِمون وغير مُسلِمين – لهم مصداقية عالية، يُؤمِنون بما يقولون، يُؤمِنون بشرف الكلمة، بشرف الموقف، وبشرف الفكرة، يعيشون وربما يُضحون حياتهم أو مصالحهم في سبيل ما به هم مُؤمِنون، أنهم ذوو مصداقية، الآن – مثلاً – في الغرب الأمريكي ناوم هذا أو ناعوم Noam – الترجمة العربية مُختلِفة – تشومسكي Chomsky مُفكِّر ذو مصداقية عالية، الرجل نذر حياته إلى الآن وإلى اليوم – نحن نسأل الله أن يمد في عمره – في الدفاع عن قضايا العرب والمُسلِمين والمسحوقين حول العالم، وهو في ذلك يلقى حرباَ ضروساً غير عادية في بلده، وهو يهودي أمريكي، انتبهوا! من المُناهِضين للصهيونية ولإسرائيل، يهودي أمريكي! ولكنه أكثر الشخصيات حول العالم اقتباساً، أكثر شخصية مرجعية – يُرجَع إليها ويُدخَل على موقعها وتُقرأ مقالاتها وكُتبها – حول العالم بإطلاق تشومسكي Chomsky، يستحق هذا لأنه رجل ذو مصداقية، يعيش شرف الفكر وشرف الموقف وشرف الكلمة.
قبله وإلى حد قريب جداً إدوارد سعيد، المُفكِّر الفلسطيني المسيحي، كان مُفكِّراً ذا مصدقية، سيد قطب – رحمة الله عليه – بغض النظر وافقته أو خالفته كان مُفكِّراً وعالماً ذا مصداقية، ضحى حياته في سبيل ما يُؤمِن به، رحمة الله عليه، عليّ شريعتي مُفكِّر هائل ذو مصداقية، محمد باقر الصدر في العراق ذو مصداقية، مُفكِّرون كثيرون شيعة وسُنة ذوو مصداقيات، ليسوا مُتلاعِبين، ليسوا دجاجلة، ليسوا باعة مُتجوِّلين للمبادئ والأفكار، يسلخون وينسلخون من جلودهم الفكرية كل يوم وليلة بحسب ما تقتضي الظروف والطبخات والصفقات، لا! السياسي قد يكون هكذا، لكن المُفكِّر الحر ذو المصداقية لا يُمكِن أن يكون هكذا، مُمكِن هذه مسألة صعبة، لكنها ليست إلى حد الاستحالة، صعبة بلا شك! أن تكون ذا مصداقية – حتى أن تكون إنساناً عادياً ذا مصداقية – صعب، في زمان النفاق والدهان والملق والكذب – في الزمان الحربائي إن جاز التعبير، في الزمان الحربائي أبي الألوان – هذا صعب، فأن تكون مُفكِّراً وذا شخصية عامة ومُستهدَفاً للإعلام وللساسة ولأصحاب المصالح والنفوذ أصعب بكثير، ولكن هذا مُمكِن كما قلنا، هذا في إطار الإمكان.
لكن – انتبهوا الآن – لو عن لهذا المُفكِّر صاحب الصدقية أو المصداقية أن يُمارِس السياسة هل سينجح في الاحتفاظ بصدقيته الفكرية مع نجاحه سياسياً جديداً؟ صعب جداً جداً، في النهاية – انتبهوا – لن نتعرَّف فيه على فلان المُفكِّر، مُستحيل! سنتعرَّف فيه فقط على فلان السياسي أو المُفكِّر السياسي في أحسن الأحوال، مثلاً ريتشارد نيكسون Richard Nixon رئيس أمريكا السابق، هو مُفكِّر وهو أكاديمي، وله كتابات ذات قدر وذات وزن في الاستراتيجية وفي الدبلوماسية وفي الفكر وفي التجارب السياسية، ولكن في نهاية المطاف أنت لا تستطيع أن تجد فيه مُفكِّراً حراً محضاً، تجد فيه مُفكِّراً سياسياً، أكثر شيئ! فهو نيكسون Nixon السياسي وليس المُفكِّر، انتبه! صعب جداً أن تكون مُفكِّراً بمصداقية وأن تكون سياسياً في نفس الوقت، هذا معنى أن تكون سياسياً بحسب علم السياسة من أيام ميكافيلي Machiavelli طبعاً مروراً بغوستاف لوبون Gustave Le Bon وإن لم يكن سياسياً، لكنه كان مُنظِّراً كبيراً جداً، وكان أباً روحياً لكبار الساسة الذين غيَّروا وجه العالم وإن بطريقة سلبية في مُعظَم الحالات، المُهِم أن السياسة ضمن هذا المنظور الغاية فيها تُبرِّر كل وسيلة، المُهِم أن أُحقِّق ما أُريد أن أُحقِّقه، العجيب أن الدين أو الأديان بشكل عام ورجال الأديان مروا ويمرون بنفس المسار للأسف الشديد، وعندهم الغايات – انتبهوا فهذا ليس في السياسة فقط – تُبرِّر الوسائل، هذا لدى المُسلِمين، لدى اليهود، لدى المسيحيين، ولدى الجميع، انتبهوا! مَن يقرأ التاريخ بحذق – ليس بأسلوب خطابي وليس بأسلوب تمجيدي احتفائي احتفالي – ومَن يقرأ الوقائع حقاً يرى مثل هذا!
نعود، سنُفصِّل في هذا – إن شاء الله – بذكر بعض الوقائع – إن شاء الله – في إبانه وفي حينه، فأن تكون سياسياً ناجحاً لا يجتمع مع كونك مُصلِحاً صادقاً ومُفكِّراً نزيهاً، صعب جداً! أن تكون عسكرياً ناجحاً يصعب أن يجتمع مع كونك أخلاقياً حقيقياً وشخصاً أخلاقياً، صعب جداً! أين الأخلاقية في هذه الحروب وفي هذه المعارك الكاذبة؟ واحد مثل كسنجر Kissinger – هنري كسنجر Henry Kissinger – انظروا إليه، واقرأوا مُحاكَمة كسنجر Kissinger، الكتاب المشهور! هذا تسبَّب في تأخير وقف الحرب في فيتنام بضع سنين، وفي النهاية من أجل مصالح شخصية، من أجل مصالحه هو ومُستقبَله هو! وهذا ثابت بالوثائق طبعاً، واقرأوا مُحاكَمته، أين الآلاف الذين قضوا من شعبه؟ لا أتحدَّث عن الفيتناميين الضحايا المظلومين، لكن من شعبك ومن جنودك، تُضحي حياتهم على مذبح حرب مجنونة من أجل مصالحك الشخصية!
على ذكر غوستاف لوبون Gustave Le Bon هو في سيكولوجية الجماهير أو روح الاجتماع مُعجَب جداً بنابليون Napoléon، نابليون Napoléon هذا يُعتبَر نبي السياسة والعسكرة، هكذا! للأسف وبالمُقابِل يُسمون محمداً إمبراطور السماء ونابليون Napoléon السماء، غير صحيح! لا نُوافِق، هذا تقزيم لرسول الله، لكن على كل حال هذا تعظيم لنابليون Napoléon، أن يُسمى نبي السياسة ونبي الجُندية هذا تعظيم لا يستحقه، لكن أن يُقال عن محمد نابليون Napoléon السماء هذا تقزيم لرسول الله، لا نرضاه، هم يظنون أنهم يُضفون عليه شرفاً زائداً، المُهِم هو مُعجَب جداً جداً بنابليون Napoléon ويعتبره من أنجح الساسة والعسكريين، لكنه غير مُوافِق بالكُلية على الجانب الأخلاقي في شخصيته، وهو يراه لا أخلاقياً بالمرة، طبعاً لكي تكون سياسياً في هذا العصر ناجحاً وعسكرياً مُتفوِّقاً لابد أن تكون لا أخلاقياً.
نابليون Napoléon – هذا الدجّال الأكبر والناجح الأكبر طبعاً – كان يقول ما كان لي أن أكسب حرب الفاندي – هؤلاء المُتعصِّبة الكاثوليك في الجنوب – لولا أنني أظهرت تمسكي بالكاثوليكية، وما كان لي أن أفوز بقلوب كهنة إيطاليا لولا ما أظهرت من تطرفي في نزعتي البابوية، أي بابوي أكثر من البابا نفسه، فطبعاً أكلت بعقلهم حلاوة وكسبت قلوب كهنة روما وإيطاليا أجمع، وما كان لقدماي أن تستقر في مصر إلا بعد أن تعمَّمت وأظهرت الإسلام، طبعاً نابليون Napoléon ادّعى الإسلام وقال إنه دخل في الإسلام، وزَّع مناشير يشهد فيها أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الدين عنده مُجرَّد كبش فداء بسيط جداً، حيلة سخيفة! الدين والتوحيد والعقائد والفكر كله عنده كلام فارغ، وليس عنده أي مُشكِلة، نلبس وننزع هذا الشيئ لكن في سبيل أن نُحقِّق المقصد والغاية، قال ولو أردت أن أحكم عالم اليهود – لو وُجِدوا في عالم أو في بُقعة أو في أقليم وأردت أن أحكمهم – ليسلس قيادهم في يدي لدعوت إلى إعادة بناء هيكل سُليمان، طبعاً هو بعد ذلك الذي أطلق هذا النداء لأول مرة: يا يهود العالم اتحدوا، نابليون Napoléon لأول مرة أطلق هذا النداء، قبل الذين جاءوا بعده من ساسة الإنجليز، هو هذا الفرنسي، دجّال! دجّال كبير، لكن هذا التدجيل هو سر نجاحه الكبير بلا شك أيضاً، نجاح كبير، رجل مُؤثِّر بكل المقاييس، لا يزال أثره إلى اليوم في القارة وربما حتى حول العالم، ترك آثاراً حول العالم!
فالمُهِم أن تكون هذا وهذا وهذا صعب جداً، في الأخير سيطغى جانب على جانب، انتبه! سيطغى جانب على جانب، وخاصة الجوانب العملية أو ذوات أو ذات الاعتبار العملي، ستطغى على كل جانب تجريبي ونظري وتنظيري، الرسول كان سياسياً ناجحاً وعسكرياً ناجحاً ومُفكِّراً ناجحاً وإدارياً ناجحاً و… و… و… و… ناجحاً، لكن هو في كل أولئكم كان محكوماً بمعنى النبوة، وما معنى النبوة؟ معناها الصدق المُطلَق، أن تكون نبياً معناها أن تكون صادقاً صدقاً مُطلَقاً وأن تكون واضحاً وضوحاً مُطلَقاً، هذا فيما عدا تقريره – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن الحرب خُدعة أو خِدعة، تُضبَط بستة وجوه هذه الكلمة على كل حال! وطبعاً لا يُمكِن أن يُتوقَع من أي قائد ومن أي زعيم أثير لدى أُمته ويُؤثِر أمته بالخير إلا أن يُقرِّر هذه القاعدة، وإلا سيهلك طبعاً، لكن فيما عدا ذلك كان كما قلت، لم يرض لأمته أن تكون مخدوعة على يديه، لم يرض أن يخدعها لحظة، لم يخلط بين الأمة وبين العدو، فيرى في لحظة مُعيَّنة أنه لابد من إنقاذ الأمة من نفسها، لأنها عدوة نفسها، وبالتالي هي عدوته وعدو برنامجه، فتُصبِح مخدوعة ومكذوباً عليها، كالشعوب العربية اليوم والمُسلِمة، أكثر شعوب مكذوب عليها! لكن الأعجب من هذا كيف تنساق الجماهير أو قُطعان من الجماهير وراءهم؟ لا عجب في هذا لمَن درس أحوال الجماهير، للأسف الشديد يبدو أننا مُضطَرون – وليس باستعلائية، لكن بواقعية – أن نُقرِّر أن هذه الجماهير تقريباً لا تزال – نفس الشيئ – قُطعاناً من غنم، مُختلَبة العقول، ومُستلَبة ومنزوفة الوعي والإدراك، ككل الجماهير للأسف الشديد، ليس فيها أي شيئ مُميَّز، والجماهير لا عقل لها، عندها قوة الخيال، قوة الأسطورة، قوة الكذب، قوة الخُرافة، قوة الغريزة، قوة الاندفاع، وقدرة التجييش! ائت بفرد عاقل وضعه في الجماعة، يُصبِح مجنوناً لا عقل له، يتصرَّف كمجنون، فإذا أعدته إلى فرديته يعجب من نفسه، كيف صدر عنه ما صدر؟
الرسول جاء – عليه الصلاة وأفضل السلام، وسأبدأ من هنا، أي من هذه النُقطة – وقطعاً كقائد ومُؤسِّس لأمة وديانة أو دين وشرع لابد أن يكون على معرفة مُمتازة وراقية، بماذا؟ بنفسية الجماهير، بسيكولوجية الجمهور! يعرف هذا، لا يُمكِن لقائد عام أن ينجح دون أن يعرف هذا، يعرفه تماماً! لكنه لم يستخدمه ولا مرة كما يستخدمه هؤلاء النهّازون الكبار، مثل نابليون Napoléon مثلاً، مثل شيوخ الدين – ليس في الإسلام فقط وإنما في كل دين – للأسف، لم يفعل هذا! مثل بعض أصحابه الذين حادوا عن طريقه وحرَّفوا دينه ونصه، لم يفعل هذا مرة، عليه الصلاة وأفضل السلام، وهذا سر العجب!
لكي أُوضِّح هذا – وهو غير واضح بالمرة – سأقول تبسيطاً للأمر نحن نقول لهؤلاء وأمثالهم بل لأنفسنا إما أن يكون محمد – صلى الله عليه وسلم – صادقاً في دعواه النبوة والرسالة وإما أن يكون كاذباً، هل يُوجَد ما هو أكثر من هذا التبسيط؟ إما أن يكون صادقاً وإما أن يكون كاذباً، فإن كان كاذباً كيف تسنى له أن ينجح النجاح الذي حقَّقه وأصابه دون أن يُمارِس التدجيل والتزييف والكذب والدعاوى والزعم الفارغ؟ لم يفعل هذا مرة!
بالمُناسَبة كل هؤلاء القادة أياً كانوا وتحت أي عنوان أو لافتة لابد أن يُمارِسوا قدراً كبيراً أو صغيراً مما ذكرت، من المزاعم، من الدعاوى، من الانتفاخ، ومن الأسلوب أو المسلك المُزدوَج، يُخاطَبون الجمهور على أنهم يُخاطِبون العقلاء، أيتها الأمة العاقلة الشريفة الكريمة الحرة الأبية! وهم مليئون حتى مُشاشهم وحتى نُخاعهم يقيناً أنهم يُخاطِبون بُلهاً وقُطعاناً من الغنم، ويُخاطِبون – كما أوصى هتلر Hitler نازييه – الغُدد الدمعية والغُدد الجنسية فيهم، هذا هو الجمهور! قال هتلر Hitler ارق دائماً وانزل، خاطب أعلى ما فيه وأدنى ما فيه، وستحصل على كل شيئ من الجمهور، خاطب غُدده الدمعية، تحدَّث عن عذاباته، عن أطفاله، عن يتاماه، عن المحرومين، عن المسحوقين، عن تاريخ التشريد، عن تاريخ الهم، وعن تاريخ الأحزان، أبكهم! وأنت تكذب عليهم، أنت غير مُؤمِن حتى بما تقول، أنت تُتاجِر به، ميكافيلي Machiavelli! وستحصل على ما تُريد، أو أنزل بهم، كما قال تيتو Tito مرة لكم الخمر والنساء واتركوا لي السياسة، وكما قال مُعاوية لن نحول بين الناس وبين ما يُريدون ما لم يحولوا بيننا وبين أمرنا، أمر ماذا يا حبيبي؟ هناك حكومة مُسلِمة وحكومة دينية، ماذا يبقى للناس؟ الرزق بيدك، الجيش بيدك، السياسة بيدك، والحياة والموت تقريباً بيدك، تقتل مَن تشاء وتترك مَن تشاء بأي شيئ، حدود الله عطَّلتها، تقول لا نقيد من عمّالنا، لا نقيد! أي والٍ من ولاتنا يفعل ما يفعل ولا نقيد، لا يُوجَد قصاص، يُوجَد مال، نُعطيهم مالاً كتعويض، ما هذا؟ ماذا يبقى للناس؟ يبقى لهم الخمر والنساء، انتبهوا! نفس الشيئ، هذه البداية، يبقى لهم الخمر والنساء، تدجيل! قال لن نحول بين الناس وبين ما يُريدون ما لم يحولوا بيننا وبين أمرنا، ما الذي يبقى لنا يا حبيبي؟ نُريد شأننا، شأننا أن نحكم أنفسنا وأن نكون ذوي رأي في أموالنا، في قدراتنا، في إمكانات أمتنا، وفي أرضنا، هذا شأننا! قال لا، اتركوا لي هذا، أنترك هذا لفرد واحد؟ أنترك هذا لأهوائه وغرائزئه ونزواته؟ يُعطي ويمنع، لا بخلاً ولا كرماً، لكنها – والعياذ بالله – نهزات من وساوسه، شيئ غريب، نفس الشيئ! لكن النبي لم يفعل هذا مرة واحدة، وهذا هو التحدي، كيف نجح إذن؟ كيف نجح مع أنه عمل مُنذ البداية وحتى النهاية على تعقيل الجماهير؟ النبي كان يُعقِّل الجماهير، وكل إنسان يفعل هذا لن ينجح، أنا أصدقكم، صدِّقوني! كل إنسان يُحاوِل أن يفعل هذا لن ينجح النجاح الكبير الواسع، لا! سيكون نجاحه محدوداً جداً، صدِّقوني.
إذا أردت أن تُخاطِب الجماهير بطريقة هتلر Hitler سوف تزداد هذه الجماهير وتُصبِح مليونية، ولذلك تجدون الآن في الساحة الإسلامية بعض هؤلاء المُهرِّجين والمُمثِّلين وحولهم ملايين في الفضائيات والإنترنت Internet، لأنهم يستلبون العقول والوعي، طبعاً يستلبون العقل والوعي، كلام فارغ! كل صاحب عقل ووعي يعلم أنهم يستلبونها وأنهم لا وعي لهم أصلاً ولا عقل لهم، لا علم، لا ثقافة، لا فهم، ولا شيئ! لكن الذين يتكلَّمون بعقلانية جمهورهم محدود جداً، وهذا طبيعي، مَن يُريد أن يفهم الجماهير هذا هو حالها، الذي ينبغي أن نُحاوِل تغييره، ولا يتغيَّر إلا في أجيال بعد أجيال بعد أجيال.
النبي مُنذ البداية حاول أن يُعقِّل الجماهير، وكان واضحاً تمام الوضوح، وسأُفصِّل في هذا، مثلاً النبي – عليه السلام – لكي ينجح بالطريقة المعهودة لكل هؤلاء القادة والكبار وأصحاب رؤى التغيير والإصلاح كان لابد أن يُعزِّز منطق التجييش، ولا تجييش بلا امتثالية، أي بلا إمعية، أليس كذلك؟ عليك أن تُخاطِب الجماهير وأن تُفهِمها أن أمامك رسالةً واحدةً وطريقاً واحداً وهدفاً واحداً، وبالتالي طبعاً وقيادةً واحدةً، وهذا منطق تجييشي، وعلينا أن نضرب كل الجيوب وكل الأعداء وكل الفضول والذيول التي تعوق مسيرتنا وطريقنا، السماء تُنادينا، التاريخ يستحثنا، والعالم يستنهضنا، تنجح بهذه الطريقة التجييشية! محمد مُنذ البداية ضرب هذا التجييش، لأن كتابه العظيم ضرب التقليد، ضرب الآبائية، وضرب العقل الجمعي، عقل القطيع! بقوله تبارك وتعالى – وهذا شيئ عجيب ومُدهِش – قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ۩، قال هي نصيحة واحدة، ولن أُثني، الله قال هذا! أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى ۩، اثنان فقط، اثنان اثنان، وَفُرَادَى ۩، أو كل واحد على حدة وهذا أحسن، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ۩، إن جلست وحدك وفكَّرت احتمال كبير أن تهتدي إلى الحق، إن قعدت في السامر لن تهتدي إلى الحق، مائة في المائة! ليس احتمال وإنما مائة في المائة، ستُصبِح جمعياً.
انظر إلى عقليات المُتحزِّبين مثلاً، أي جماعة في أي حزب سياسي أو فكري أو أي شيئ، صعب جداً أن تنال استقلالك وأن ينمو عقلك وأن يرسخ رُشدك وأنت مُتحزِّب وتُفكِّر ضمن حزب، مُستحيل تقريباً وهذا معروف، مُستحيل! لأنك محكوم بعقل الجماعة، بعقل القطيع، بخياراتها، بأُفقها، بسقفها، برؤاها، بطريقتها، وبمِزاجها، الجماعة عندها مِزاج، الله قال لا!
طبعاً حين تُوجَد جماعة مثل جماعة محمد وأصحابه الأولين نقول أهلاً وسهلاً بهذه الجماعة، لأنها جماعة مُختلِفة تماماً، ليست حزباً، وسوف ترون هذا الآن، مُختلِفة كل الاختلاف! مَن أراد أن ينسج على منواله نقول له يا حيهلاً، سينجح، سيُربي أمة، سيُربي أفراداً مُستقِلين، وفي نفس الوقت عندهم روح جماعة وروح تعاضد، بارئة من كل هذه اللوثات الجمعية.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۩، قال لا يكن أحدكم إمعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت، جميل! ما الأمر في هذا؟ يقول إن أحسن الناس أحسنت، لا! النبي لا يُريد أن تكون خيّراً من غير تبرير، لأنك إذا كنت خيّراً وأخلاقياً بالتقليد والمُتابَعة والإمعية فأنت لست خيّراً أبداً، أنت ستنقلب، أنت مُرشَّح في كل لحظة أن تنقلب إلى عكس ما أنت عليه طبعاً! وهذا الفرق بين مَن يسلك سلوكاً مُبرَّراً لديه – مُبرَّراً إيمانياً، عقدياً، فكرياً، فلسفياً، هذا مُبرَّر وهو يعرف لماذا يفعل هذا – وبين غيره، فهذا لا خوف عليه، لا نخاف عليه، لن ينثني بإذن الله، وإن عثر لن يلج به العثار، سينهض بسرعة، بسرعة! لكن الذي يُصلي لأن الناس يُصلون، يُعطي لأن الناس يُعطون، يهتف لأن الناس يهتفون، ويُؤيِّد القضية الفلانية لأن الناس يُؤيِّدون، هذا يوم ينقلب الناس سينقلب معهم، يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، لكن وطِّنوا أنفسكم – انظر إلى هذا، فيه معنى المُجاهَدة، وطِّنوا أنفسكم على أن تكونوا هكذا – إذا أحسن الناس أن تُحسِنوا، وطِّنوا أنفسكم على أن تُحسِنوا! كأنه يقول برِّروا مسالككم الخيّرة، برِّروا فعل الخير منكم، إرادة الخير عندكم برِّروها، ينبغي أن تكون مُبرَّرة وواعية، ينبغي أن تكونوا واعين بإراداتكم وبمسالككم بعد، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، الله أكبر! هذا هو.
هذه العقلية هي التي جعلت الأعرابي، قاطع الطريق، الجلف، البدوي، غير المُثقَّف، جُندُب أو جُندَب بن جُنادة المعروف بأبي ذر الغفاري يكون على ما هو عليه، والذي حدَّثتكم مرة قريباً أو من قريب أنه مكث عند النبي ليلة أو ليلتين ثم عاد إلى غفار ولم يعد إلا بعد الخندق، أي هذا ثائر عظيم في التاريخ الإنساني، وفي التاريخ الإسلامي بالذات، ثائر كبير جداً! شيوعيو الحرب يتمثَّلون به، يقولون أبو ذر والشيوعية، أبو ذر والاشتراكية، يذكرون أبا ذر، عجيب! هذا البدوي، الأعرابي، غير المُثقَّف، ما الذي أحدثه محمد فيه؟ أحدث فيه وعياً بالإرادة، ومن ثم وعياً بكل مسلك، مُباشَرةً في أول لقاء! هذه الروح المُحمَّدية التي دفناها بالمُناسَبة، مدفونة! مدفونة فينا ومدفونة في فكرنا الآن وفي مناهجنا، مدفونة! حقيقةً مدفونة، هذا الذي جعل أبا ذر حين كان في الشام يقول عن مُعاوية هذا دجّال أكبر، والكل إلا قليلاً تقريباً يُطبِّل ويُزمِّر لمُعاوية وسياسة مُعاوية الرشيدة وحكمة مُعاوية التي ليس لها مثيل وإيمان مُعاوية ونزاهة مُعاوية، الكل يُطبِّل ويُزمِّر إلا أبا ذر، قال لا، قال هذا دجّال أكبر، مُعاوية هذا الدجّال الأكبر، وهكذا على المكشوف نزع كل أساليب وحيل أو كشف وفضح كل أساليب وحيل مُعاوية التدجيلية، هكذا! فتعب منه مُعاوية، حاول أن يأتيه من هنا ومن هنا، لكنه لم ينجح، فطلب إلى الخليفة أن يأخذه عنده، لأنه قال أوشك أن يُؤلِّب علىّ أهل الشام، أهل الشام أنفسهم الذي يُطبِّلون ويُزمِّرون لمُعاوية الآن بدأوا يقتنعون بفكرة أن ينقلبوا على مُعاوية، لماذا؟ أبو ذر ليس عنده جيش ولا أسطول إعلامي واستخباراتي وبوليسي، أليس كذلك؟ كيف ينجح؟ سأقول لكم كيف ينجح، مُعاوية تخوَّف نجاح أبي ذر، قال هذا يُوشِك أن يُؤلِّب علىّ أهل الشام، مُمكِن ينجح! فلماذا إذن وهو المُفرَد، الضعيف، وحده، بحياله، وبرأسه؟ الجواب في هذه الحكاية العجيبة، قصصتها عليكم مرة أو مرتين.
ابن سينا – الشيخ الرئيس، المنطيق، الطبيب، الفيلسوف، العالم، واللُغوي، في آخر حياته صار لُغوياً، كما ألَّف في اللُغة وفقه اللُغة، على كل حال هو موسوعة – كان ذات ليلة جالساً هكذا في بلدة فارسية، في ليلة شتوية باردة، شديدة البرد! فسأله أحد تَلامذته، قال له أيها الشيخ الرئيس لِمَ لا تتنبأ؟ لِمَ لا تدّعي النبوة؟ قال ويحك! ما هذا الذي تقول؟ قال نعم، ولماذا لا؟ ما الذي في محمد خيرٌ منك وأكثر مما عندك؟ هو كأنه خجلان، يُريد أن يقول بالعكس! عندك ما ليس عند محمد، عندك طب وفلسفة وعلم ومنطق وأشياء محمد لم يكن يدريها، لم يكن يعرفها، محمد لم يكن يعرف هذه الأشياء بهذا العمق وبهذا التفلسف! طبعاً واضح لأول وهلة أن الرجل مُعجَب بالعقل، بقوة العقل، بقوة العلم، بقوة المعلومات، وبالمعرفة، فقال له جوابك يأتيك بعد حين، ليس الآن! ابن سينا حكيم أيضاً، عنده حكمة بلا شك، تركه من غير جواب.
وقُبيل أن ينفجر الفجر نادى عليه، يا فلان، يا فلان، لكن كان نائماً، وكما قلنا يُوجَد زمهرير، برد شديد جداً، فاستفاق الرجل واستيقظ، ثم قال ماذا أيها الشيخ؟ قال لو أحضرت لي الشيئ الفلاني، أُريد خدمة بسيطة، قال يا شيخي ويا سيدي لو أنك أعفيتني، فأنا في حال صعبة جداً، أشعر بالبرد الشديد، والنوم يغلبني، قال له لا بأس، لا بأس! أكمِل نومتك، بعد قليل – سُويعة من زمان – أذَّن المُؤذِّن، فهب هذا التَلميذ الأحمق من فراشه مُباشَرةً، وقصد الماء البارد وجعل يتوضأ، فقال له ابن سينا يا فلان، قال نعم يا سيدي، قال أتاك الجواب الآن، هل علمت لماذا لا أُريد أن أتنبأ؟ قال لماذا؟ قال لأنك – وأنا نبيك المزعوم المُنتظَر – لم تُلبني في حاجة بسيطة جداً جداً جداً، لم أطلب منك روحك ولا نفسك ولا مالك، أن تقوم فقط من فراشك لدقائق، فتأتيني بشيئ طلبته، لم تجُد نفسك بهذا، لم تطب نفسك بهذا! لكنها طابت لهذا – لصاحب النداء، أشهد أن محمداً رسول الله – بعد أكثر من أربعة قرون، تُلبيه في ندائه وتقوم تتوضأ بالماء البارد وتُصلي.
جواب عظيم وحكمة حقيقةً، رحمة الله على ابن سينا لأجل هذا الجواب وهذه الحكمة، فعلاً أحسن جواب، لكن هذا الجواب بلُغتنا الآن نُريد أن نُفلسِفه، نُريد أن نُترجِمه بلُغة مفهومة، هذا الجواب يقول إن هذا التَلميذ الأحمق، ضيق العطن، كان مأخوذاً مُختلَباً – كما قلت لكم – بقوة العقل، ولم يُدرِك المسكين أن مَن يفوق العقل قوةً وعظمةً وألقاً قوة الروح، لم يدر الرجل مِن درس التاريخ أن الذي مار به مُحيط التاريخ وانعطف به عدة انعطافات حادة رسمت خطنا ومسيرنا إلى اليوم وإلى كل يوم أو في كل يوم هو الروح وليس العقل، هم الأنبياء وليس الحُكماء، ليس الفلاسفة وإنما الأنبياء، موسى وعيسى ومحمد، وأمثال هؤلاء، هم الذين أحدثوا هذا، لم يسمع بالمثل الإنجليزي طبعاً في وقته – لأنه مُتقدِّم جداً – الذي يقول الأفكار العظيمة تلدها القلوب العظيمة، ليس العقول العظيمة – انتبهوا – وإنما القلوب العظيمة، الفكرة العظيمة ليست شرطاً أن تنتج عن عقل عظيم، مثل عقل شبينغلر Spengler أو هايدغر Heidegger أو جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau أو سارتر Sartre أو ماركس Marx – عقل عظيم بلا شك – أو غيرهم، لا! الأفكار العظيمة تلدها القلوب، إنها قوة الروح.
قوة الروح ماذا تعني؟ تعني الصدق، لأن الروح لا تعرف الكذب، ولا يُمكِن أن تتجامع مع الكذب، العقل كما يعرف الذكاء يعرف الدهاء، أليس كذلك؟ الدهاء ابن العقل، ليس ابن الروح، العقل كما يعرف الصدق يعرف الكذب، والعقل كما يعرف الحقيقة يعرف المصلحة، أكثر نزاع الآن ليس بين الحقائق، ليس بين براهين الحقائق، بين حقائق وبين مصالح، مساكين! أكثر ناس أرثي لحالهم نحن، أرثي لنا، للإسلاميين بالذات، لنا نحن الإسلاميين، للأسف من ستين سنة ونحن نُقنِع أنفسنا ونكتب ونخطب ونصرخ ونبكي ونتشاكى ونتباكى ونُريد أن نُقنِع الآخرين أنكم لا تفهمون الحقيقة، الحقيقة يا جماعة كذا وكذا، ولم ندر ولا نُريد أن ندري أن الآخرين – والله – أعلم بالحقيقة منا، والله! الآخرون الذين اختلقوا مثلاً إسرائيل في أرضنا – والله – أعلم بالحقيقة منا، والله الآخرون هم الأكثر قدرة – أي الأقدر – على أن يكتبوا التاريخ الحقيقي لمظلمة ومظلومية الشعب الفلسطيني منا نحن الفلسطينيين، ما رأيك؟ يعرفون هذا، يعرفون كل ما لا نعرفه وكل ما لم يُفرَج عنه من مكر ودهاء ومُؤامَرات، يعرفون هذا، يقفون عليه، يتحكَّمون فيه، يخلقونه، ويُعيدون إنتاجه، لكن ما مُشكِلتهم؟ مُشكِلتهم ليست الحقيقة أو غير الحقيقة، مُشكِلتهم في حقيقة، حقيقتك أنت طبعاً الآن، انتبه! لا يُوجَد شيئ اسمه الحقيقة، يُوجَد حقيقتك ويُوجَد حقيقته، حقيقتك مظلومية وحقيقته مصلحة، هذا هو! إذا كان ثمة صراع بين الحقائق بهذا المعنى، لكن ليس بين الحقائق بالمعنى الأرسطي، بالمعنى العقلي التجريدي، لا! هذا غير موجود في عالم الناس للأسف الشديد، ليس موجوداً في عالم الناس!
على كل حال نعود، الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – حارب الامتثالية، إذن حارب التجييش، ولذلك حارب العصبيات، حتى لنفسه! تعجَّب بعض المُؤرِّخين – وحُقَّ له أن يتعجَّب – وتساءل لماذا عُبِد الإمام عليّ في تاريخ الإسلام؟ هذا ربيب رسول الله، ابن عمه، أخوه، وربيبه، مُنذ نعومة أظفاره! لكنه عُبِد، محمد لم يُعبَد، عليّ عُبِد ومحمد لم يُعبَد! إذا جاز لي أن أُسمي هذا بلُغة واضحة جداً وصعبة وحدية سأقول هناك فشل نسبي في مشوار عليّ عليه السلام، ليس شرطاً أن يكون مسؤولاً عنه بالكُلية، لكن هناك فشل، ومحمد نجح، محمد نجح حيث أخفق عليّ، كيف يُعبَد عليّ؟ لن أقول هو مسؤول بطريق مُباشَرةً، أعوذ بالله، حاشاه وكلا، عليه السلام، لكن محمد نجح أكثر بكثير، تجاوز عليّاً بكثير، نجح! انتبهوا، وهناك كثيرون عُبِدوا في تاريخنا للأسف وتألَّهوا وادّعوا الإلهية، لكن إلى الآن لا تُوجَد طائفة – Sekte – أو فرقة عبدت محمداً، لماذا؟ بفضل محمد، صلى الله عليه وسلم، لأنه أرسى كل الدعائم وخط كل الحدود بشكل واضح ومُحدَّد، لكي يُعرِّف بنفسه ويُعيد تعريف نفسه باستمرار، ليُؤكِّد جُملة حقائق بالنسبة إليه هي بدهية وواضحة، لكنها خطيرة جداً في مشوار رسالته ودينه!
لو تأملتم كتاب الله العزيز فيما عدا خصيصتين ثنتين – أعني الخاتمية والعالمية – ستجدون الآتي، (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم للحضور هناك إشارة أيها الإخوة، بارك الله فيكم، في آخر المسجد يُوجَد ضيق، وهنا يُوجَد فراغ، فأفسحوا لإخوانكم بارك الله فيكم. ثم عاد فضيلته للحديث عن الخاتمية والعالمية، قائلاً هما حقيقتان برهنهما التاريخ، لم يأت بعد محمد إلى اليوم – بفضل الله، ألف وأربعمائة سنة وثُلث القرن – نبي سُلِّم له بأنه نبي سماوي، لم يأت بفضل الله! هذا أولاً، فعلاً هو خاتم إذن، الله قال هو خاتم الأنبياء، وهذا لا يعود إلى فضل ذاتي فيه، بل إلى فضل اصطفائي، الله آثر أن يختم النبوة بمحمد، هذا عمل الله، الشيئ الثاني عالمية دينه، دين تبشيري دعوي، قابل أن يدخل فيه – وهو يحث ويعمل على أن يدخل فيه – العالمون، لمصلحتهم طبعاً، فيما عدا ذلك ظل رسول الله وظل القرآن يُؤكِّد في عشرات المواضع شيئاً عجيبٌ تأكيده، وهو أنه مُجرَّد نبي رسول، شأنه شأن سائر إخوانه النبيين والرُسل، ما العجب في هذا؟ العجب واضح جداً.
كل مُفكِّر، كل مُصلِح، وكل ثائر أكثر ما يحرص عليه – حتى الباحث العلمي الأكاديمي – مفهوم ماذا؟ الجدة، مفهوم الابتكارية، وبلُغة الصحافة السبق، أن يأتي بشيئ لم يُسبَق إليه، أن يأتي بشيئ مُبتكَر، بشيئ جديد، أي بثورة! محمد لم يكن كذلك، بالعكس! ظل يُؤكِّد دائماً أنه ليس بدعاً من الرُسل، وأنه ليس من شأنه أن يأتي بالجديد، لماذا؟ لأن الحقيقة التي يُعاد إنتاجها ليست بحقيقة، انتبهوا! كل ما يُعاد إنتاجه ليست حقيقة، هي مُحاوَلات ربما ومُقارَبات – أي الــ Approaches – نحو الحقيقة، أما الحقيقة التي نزلت مع آدم وتسلمها نوح وإدريس والأنبياء العظام – إبراهيم ثم سُلالته وذُريته والأنبياء – فهذه لا يُعاد إنتاجها، إنها حقيقة واحدة، لا تلتوي بها سُبل العقل ولا سُبل الروح، لا إله إلا الله، انتهى! ولذلك التجديد فيها يُعتبَر هرطقة، الهرطقة الحقيقية والتجديف والإلحاد أن تدّعي التجديد في هذا، لا! لا يقبل التجديد، لا إله إلا الله من بدء الدنيا، لا إله إلا الله إلى نهاية الدنيا، لا إله إلا الله في الدنيا، لا إله إلا الله في الآخرة، وفي الجنة وفي النار أيضاً لا إله إلا الله، حقيقة مُطلَقة! حقيقة الحقائق، حاكمة في الوجود كله، حقيقة الواحدية والوحدة الربانية الإلهية.
النبي أكَّد هذا دائماً، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ۩، إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ۩، مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ۩، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ – حقيقته أنه رسول مثل سائر الرُسل – قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۩، وكما خلوا سيخلو، أي سيخلو منه الزمان، سيموت عليه السلام، أي سيقضي أجله، عجيب أن يُؤكِّد هذا، ظل دائماً يُؤكِّده! والأكثر من هذا أنه لم يدّع شيئاً فوق البشرية، قال قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ۩، الله أكبر! ببيان واضح سلس مفهوم سائغ مُختصَر ومن أقصر طريق قال لا أعلم الغيب، لكن في أمة محمد رأينا مَن يدّعي ويُدّعى فيه وله علم الغيب، انتبهوا! هؤلاء كُثر، بالآلاف في الماضي وفي الحاضر، وهذا تغييم للعقل، أستغفر الله! هذا تغييب للعقل، ليس فقط مُجرَّد تغييم وإنما تغييب للعقل، إذا قلنا إن هذه الأمة فقدت شطراً كبيراً من عقلها لا تغضبوا ولا تزعلوا، أحد المشايخ الإسلاميين – إسلامي مثلنا – مرة غضب علىّ، قال أنا يا شيخ سأعتب عليك، قلت اعتب، اعتب ولا تُوجَد مُشكِلة، ما الأمر؟ قال أنت مُتحامَل على أمتك، قلت له أمتي إذن هي، ما معنى مُتحامِل؟ أُحِب أن أُواجِه الحقيقة وإن مررتني، هي تُمرِّرني! هذه الحقيقة، أمة عبدت الحيوانات، كيف تقول لي عندها عقل؟ عبدت الحمير! ستقول لي كيف وأين؟ حدث هذا في التاريخ مرات، وربما يحدث إلى اليوم، وسأحكي لك قصة عجيبة جداً.
والبداية كانت مع أوائل المُتزهِّدين والمُتفقِّهين الذين كذبوا على الرسول، سوَّغوا لأنفسهم أن يكذبوا عليه، ولما قيل لهم كيف تكذبون عليه وهو القائل كذا وكذا؟ قالوا لم نكذب عليه، وإنما كذبنا له، لأجل مصلحته، دينه يحتاج إلى براهين للأسف، دين محمد يحتاج إلى براهين! فقير بالبرهان وعاجز عن الإقناع، فنحن أوجدنا براهين ومُعجِزات، ومن هنا يُقال دائماً إن الذاكرة والمخيال الشعبيين – ذاكرة الشعوب من أمثالنا، ذاكرة الجماهير والجماعات – تُجافي التاريخ، لا تُحِب التاريخ، تُناقِضه، وتُشاكِسه، أي التاريخ الصارم الواضح، إذا وُجِد هذا، وفي الحقيقة هناك تاريخنا، تاريخي وتاريخك، تاريخ ما يُكتَب للأسف وتاريخ مَن يكتب أيضاً ومَن يُكتَب له، التاريخ هو تاريخ مَن يكتب ومَن يُكتَب له، تاريخ الكاتب والمُخاطَب بهذا الخطاب، القضية نسبية، لكن الذاكرة لا ترضى بهذا، مثلاً لو ذهبنا إلى القرآن نستشيره ونستفسره ونستفصله عن صورة محمد – مَن هو محمد؟ أو بالأحرى مَن هو النبي بعامة؟ – سوف نجد صورة مُعتدِلة، لا نقول مُتواضِعة، هي سامية وراقية جداً، لكنها مُعتدِلة وواضحة، وهي برزخ، لكنه أقرب إلى عالم الإنسان، بل هو مُندمِج فيه بطريقة عضوية، وبعيد جداً من عالم الله تبارك وتعالى، النبي ليس إلهاً ولا قريب من أن يكون ظلاً لإله ولا شيئ من هذا العبث والسُخف، وكما نقول دائماً أين التراب من رب الأرباب؟ هو تراب، طين في نهاية المطاف! ليس رباً وليس ابناً للرب، لكن لو ذهبنا إلى المخيال الشعبي، إلى الذاكرة الشعبية، وإلى التصور الشعبي للنبي، سوف نعلم أنه لا تُوجَد مُعجِزة ولا تُوجَد خارقة تخطر على البشر إلا وأُلِّفت أحاديث وُوضِعت ونسبتها إلى النبي، ما رأيكم؟ طبعاً! يُقال هناك ألف مُعجِزة حسية لرسول الله، ما المقدار الصحيحة من هذه الألف المُعجِزة؟ كل ما يخطر على البال نُسِب إليه، مثل إحياء الموتى، تصوَّروا أن النبي فعلاً أكرمه الله بإحياء الموتى حقاً، أكان يُغفَل ذكر هذا من كتاب الله؟ مُعجِزة مثل هذه أيُغفَل عن ذكرها؟ هل النبي أحيا الموتى؟ ماذا تُريد؟ كل مُعجِزة تخطر على بالك نُسبِت للنبي عليه السلام، هذا يُدغدِغ المخيال الشعبي، هذا جميل جداً جداً، تلتقطه الذاكرة وتُضخِّمه، الشعوب بالذات هي التي تُفكِّر تفكيراً رغبوياً، أي Wishful thinking، الشعوب تُصدِّق ما تُحِب أن تُصدِّقه.
هل تذكرون قصة صدام والقمر في الأردن وفي بعض بلدات فلسطين؟ آلاف الناس قالوا إنهم رأوا صورته في القمر، ولذلك أنا أدعو إلى إعادة دراسة ما يُعرَف بالتواتر، ليس ضمن إطار الأسانيد فقط، وإنما ضمن إطار علم نفس الجماهير، سيكولوجيا الجماعات والجماهير Masses، ستستغرب وتقول لي كيف يا أخي؟ حوالي مائة ألف واحد أكَّدوا وأقسموا وحلفوا طلقات من أزواجهم أو نسائهم أنهم رأوا صورة صدام في القمر في الأردن وفي فلسطين، فكيف هذا؟ نعم، أنا أُصدِّق أنهم رأوا، وأُصدِّق حتى مَن قال أنه رآه، ولو كنت مُستفتياً في هذه القضية لقلت الآتي، لو قال لي شخص حلفت يمين طلاق أنني رأيته يا أخي، سأقول له أمسك عليك زوجك يا مهبول، لأنك حين رأيته لم يكن عندك عقل، أنت رأيت ما قال الناس إنهم رأوه، أنت رأيت ما أكَّد الناس أنه هو، وأنت لابد أن تكون من الناس لكي تشعر بانك لست نشازاً، ذهب عقلك وأصبحت تتحرَّك بالعقل الجمعي وبقوة الخيال الجمعية ورأيت هذا، وربما هناك مَن لم يره، لكن رأى أن المصلحة تقتضي تأييد رؤيته فادّعى أنه رآه، من الصحفيين أو المشايخ أو غيرهم، وبعضهم عقدوا خُطباً دينية، انتبه! تغييب للعقل، تغييب للعقل حقيقي، ضروري أن نفهم هذا.
هناك أسطورة الرمح المُقدَّس في التاريخ المسيحي، أسطورة الرمح المُقدَّس التي ذكرها بتفاصيلها إدوارد جيبون Edward Gibbon، المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير، صاحب تاريخ أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانيةThe History of the Decline and Fall of the Roman Empire، معروف إدوارد جيبون Edward Gibbon! قال في الحملة الصليبية الأولى طبعاً كان هناك قس يتبع كنيسة مرسيليا Marseille، في جنوب فرنسا طبعاً، المرفأ الشهير جداً! ذهب في الحملة وكان يُدعى بارتلمي Bartholomew، ذهب في الحملة الصليبية وكان شبه مُستشار مع القيادة العسكرية للحملية، طبعاً هذا عنده قدرة تجييش، رجل دين! يا أبناء الرب يسوع انقذوا كذا، تعرفون هذا! نفس الشيئ، مثل إنوسنت الثالث عشر Innocent XIII، البابا الكبير طبعاً! أكبر قوة تجييش، هو الذي حرَّك ما تعلمون، فذهب وطبعاً يبدو أن الجولات الأولى أو بعض الجولات كانت لصالح المُسلِمين، فتعب الجيش وتخوَّله الملل واليأس، فأراد أن يُساعِدهم، والله أعلم! فادّعى أنه نام ورأى في منامه قدّيساً، ليس قسيساً وإنما هو قدّيس، شخص مُقدَّس، ادّعى أنه رأى قدّيساً معروفاً عندهم اسمه القدّيس أندريه Andrew، فرنسي أو من أصول غالية، وقال إن القدّيس أندريه Andrew المُقدَّس المُبجَّل يُحذَره أشد العواقب والنُذر التي ستحل به إن هو لم يصدع لما يُؤمَر به، ما هو؟ قال له القدّيس أندريه Andrew الرمح الذي طُعِن به قلب السيد المسيح – في النهاية هو قُتِل بطعنة في قلبه – موجود ومدفون دفناً تحت محراب كنيسة القدّيس بُطرس Peter في أنطاكيا Antioch، وأنت تُؤمَّر أن تُبلَّغ هذه الرسالة وأن يُحفَّر ويُنقَّب ويُستخرَج هذا الرمح، ثم يُرفَع على رؤوس الأشهاد، لأنه حين يُرفَع ستحل البركة والنصر الربانيان على هذه الجيوش الصليبية المُوقَّرة، وسيُطعَن به قلب كل عربي أثيم، سيُحصَدون عن آخرهم بقوة هذا الرمح المُقدَّس.
فقام هذا الرجل مذعوراً كما يزعم – الله أعلم – وقال للمجلس العسكري حصل كذا وكذا يا جماعة، قالوا جميل جداً وصدَّقوا، يُحِبون أن يُصدِّقوا هذا، يُريدون أن تُكسَب الحرب بهذه الطريقة، ولذلك نحن نُحِب الدعاء أكثر من العمل، انتبهوا! حين يُقال لأحدهم – مثلاً – ادفع عشرة شلنات للعراق يقول هذا صعب، حين يُقال له ادفع عشرة فلسات لفلسطين يقول هذا صعب قليلاً، لكن حين يُقال له اذهب إلى مكة وصل وابك خلف الشيخ في السابع والعشرين يُرحِّب ويكون مُستعِداً أن يبكي لعشر ساعات، لماذا؟ لأنه طريق قصير للنصر هذا، ندعو ونبكي، مُمتاز جداً، بطريقة عجائزية ينتهي كل شيئ، لكن لا نُحِب أن نعمل وأن تُوجَد سياسة وإعلام وأموال وحركة وشغل وما إلى ذلك، لذلك لا نُريد هذا، كل الشعوب هكذا كسولة، وهذا منطق بدائي مُتوحِّش، ففرحوا وأحبوا هذا الشيئ، ونُصِّب أحد النُبلاء الفرنسين حارساً للرمح المزعوم، من الآن نصَّبوه، قالوا له انت حارس الرمح، وأنت المسؤول عن فرقة التنقيب والحفر، وبدأ الحفر! عساكر صليبيون طبعاً مليئون بالحماس والحُميا المُقدَّسة، وبدأوا يحفرون، حتى حفروا إلى عُمق اثني عشر قدماً، ولا يُوجَد رمح ولا ما يحزنون، وحل الليل وبدأ الناس يتهامسون، ما القصة؟ وما كان من القس بارتلمي Bartholomew هذا إلا أن أسمعهم صوت نصل الرمح، تنننن! فجُن جنون الجماهير النعسى، النعسى حقيقةً في عقولها، وبدأت تصرخ! فأعطاه للنبيل الفرنسي هذه المرة ملفوفاً بقطعة قماش أحمر، ورفعه على رؤوس الأشهاد وبدأوا يتصايحون ويُغشى على بعضهم ويصرخ بعضهم، تهيَّجوا جميعاً! ثم اكتُشِف بعد ذلك أن القسيس بارتلمي Bartholomew نفسه حين شعر بحراجة الموقف حتى النهاية انسل في جنح الليل دون حتى أن يراه النبيل – حارس الرمح لأنه كان قد غلبه النوم والنُعاس – ودخل في الحفرة بعد أن أخفى في طيات أثوابه نصلاً لرُمح عربي – أي من جُند المُسلِمين – ثم هناك ادّعى أنه وجده في أسفل الحُفرة.
المُهِم أن إدوارد جيبون Edward Gibbon قال المجلس العسكري كله صادق على أن الرُمح وُجِدَ هناك، قال لا أدري هل كانوا مُؤمِنين بذلك أو غير مُؤمِنين، لكن الذي أدريه أن مصلحتهم اقتضت أن يُؤكِّدوا إيمانهم بهذا، هذا طبعاً لكي يقدروا على قيادة هذه الجماهير الغبية من الجيوش الصليبية، وهكذا تُخدَع الشعوب والجيوش ويُكذَب عليها باسم الدين وباسم الرب وباسم القدس!
سأحكي لكم قصة أكثر مسخرةً من هذه القصة، للأسف من تاريخنا الإسلامي هذه المرة ومن المصادر التركية، الخواجة نصر الدين خوجة تعرفونه، جحا! هذه شخصية حقيقية طبعاً تاريخياً لكن نُسِب إليها الكثير طبعاً، وكان فيه بعض الظرف والدعابة بلا شك.
كان نصر الدين خوجة الشهير بجُحا مُريداً عن شيخ جليل القدر من أولياء الله الكبار في بلاد تركيا يُدعى حاجي بكير، أي الشيخ حاجي بكير! حاجي بكير هذا من أين أخذ شُهرته؟ من شُهرة شيخه ولي أولياء الله تعالى والمُقدَّس الكبير الشيخ فلان ابن علان ابن سُلطان المدفون في مسجد والذي صار كعبة للقُصّاد ومزاراً لذوي الحاجات من العوانس والأرامل والمُطلَّقين والمُطلَّقات والذين لا خلف لهم ولا عقب ولا مال ولا رزق، الكل يأتي هناك! وكذلك الحال مع المغمومين والمحزونين والمقطوعين، الكل يأتي هناك وينذر ويذبح ويُهدي ويدفع الأموال، حتى تأثَّل حاجي بكير ثروة عظيمة، تأثَّل ثروة عظيمة من المال! وصار له الكثير من البساتين والأوقاف، وقصة طويلة عريضة! وجُحا المسكين هذا – نصر الدين خوجة – مُجرَّد مُريد فقير عنده، عرضت له في يوم من الأيام سفرة أو رحلة، فاستئذن حاجي بكير أن يُسافِر، قال له سأُعيرك أتاناً – أُنثى الحمار، قال له سأُعيرك أتاناً، وهي عجوز شمطاء مُتعَبة – تذهب بها وتُسافِر على أن تذهب وتعود في كذا وكذا يوم، أي ثلاثة أو أربعة أيام، ليس أكثر من هذا لأنه يخدمه، يشتغل ويُنظِّف ويقم هذا المسكين، فذهب بها! لكنها لفرط عجزها وضعفها نفقت في الطريق، في نصف الطريق ماتت هذه، فاحتار طبعاً وأُسقِط في يده، بماذا يعود إلى شيخه حاجي بكير؟ ماذا يقول له؟ ماتت الأتان! والرجل حبّاب للمال، الشيخ الولي الكبير حبّاب للمال جداً، وهذا تورَّط لأنه ماذا سيقول له في شأن الأتان؟ ثم عرض له أن يدفنها، وبين هو يدفنها خطر له خاطر شيطاني، لِمَ لا أبني عليها ضريحاً حتى إذا سُئلت أجبت؟ وفعلاً بدأ يُشيِّد الضريح ويُجمِّله، فسأله أحد المارة لمَن هذا؟
طبعاً أمة تعبد الأولياء، انتبهوا! تعبد الأموات، ما عادت تعبد الله حقاً وتطلب من الله، عادت تعبد هؤلاء، وطبعاً هذا انحطاط وبدائية، محمد رفعنا إلى رُتبة المُتجرِّدين، أمة لا إله إلا الله، لا نعبد إلا الله، لا نثق إلا بالله، لا نسأل إلا الله، ثم بعد ذلك كلنا نحن بشر، محمد مثلنا مُحتاج إلى الله، ولا يعلم خيره من شره، انتبهوا! قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ۩، قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۩، لكن الأمم البدائية حين تُصبِح بدائية أو تنحط إلى بدائية لا يُعجِبها هذا، يُعجِبها الشيئ المحسوس الملموس، له لحية أو له لعمامة أو له ضريح أو له اسم أو له مكان نقصده بخُطوات، مائة خُطوة أو مائة ألف خُطوة حتى أو مائة كيلو متر، لا تُوجَد مُشكِلة، لابد من شيئ محسوس، أصبحنا بدائيين، أصبحنا مُنحَطين مُتوحِّشين، بعد أن كنا أمة ذات عقل وذات رقي، لذلك لا أُؤمِن أن هناك نهضة روحية مع غياب العدل، انتبهوا! هذا مُستحيل، لا يجتمعان، النهضة الروحية الحقيقية تُنتِج نهضة عقلية حقيقية، لكن يُمكِن أن تكون نهضة عقلية بلا نهضة روحية لكن ستأكل نفسها، ستسهلك نفسها كنهضة الغرب هذه العقلية لكنها ليست روحية.
على كل حال فسأله، قال هذا شيخي فلان ابن فلان، هذا من كبار أولياء الله، صاحب سر باتع – كما يقول العوام – ونافذ، وأوصاني بأن أبني على قبره كذا وكذا، ما هي إلا أيام معدودات وليالٍ منزورات حتى كثر القصّاد يا حبيبي وحجّاج هذه الكعبة الجديدة من النساء والرجال، فقلَّ رزق حاجي بكير، أغلب الذين كانوا يذهبون إلى شيخه هناك توقَّفوا عن الذهاب، قليل ظل يرتاد حاجي بكير، فغضب الشيخ الكبير حاجي بكير، شيخ جحا نفسه! فجاء إلى نصر الدين خوجة وألح عليه واستحلفه وعزم عليه إلا أخبره بنبأ هذا الشيخ الجديد، فقال يا سيدي أتُريد الحقيقة؟ لكن عزمت عليك بالله أكتم علىّ ولا تقطع رزقي، قال ما هو؟ ماذا هناك؟ قال هذه ظريفة، وهذا اسم الأتان، أي اسم الحمارة هذه، كان اسمها ظريفة، سماها ظريفة! بالتركي اسمها ظريفة، قال هذه ظريفة، قال ظريفة؟ قاتلك الله، قال يا سيدي، اكتم علىّ يا سيدي كذا وكذا، هذه مُصيبة والناس سوف يقتلونني، قال شريطة، قال اشرط، قال الشَركة، نشترك! المعلوم والمدخول لي ولك، رزق الهبل على المجانين، إذا هذا استهبال فهؤلاء مجانين، طوّاف يأتون لكي يبكوا ويدعوا وما إلى ذلك، مجانين! أمة مجانين للأسف، والله شيئ يُقرِّح الأكباد، أُقسِم بالله، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، أين نحن من الله يا أخي؟ لا يُسَد بابه، لا إله إلا هو! ماذا أُريد من صاحب القبر هذا؟ رحمة الله عليه أياً كان، لكن رحمة الله على ظريفة؟!
على كل حال قال على أن نشترك، قال لك ذلك، ولكن يا سيدي – هذا جحا – ماذا ستقول للشيخ صاحب المقام هناك عندك؟ فعلمي أنه شيخ كبير وسره نافذ جداً، لعله يعود علينا بعقاب، أنا وأنت! قال اسكت، الشيخ ذاك هو أبو ظريفة يا حبيبي، نعم! هذه قصة من التاريخ، الشيخ هناك هو أبو ظريفة، كان حماراً قوية – قال – رحمة الله عليه، كان جحشاً مُمتازاً – قال – قوياً ونفق، وكان رزقي على متنه، على ظهره! فتحيَّلت بهذه الحيلة وفتح الله علىّ بها، صرت أنا شيخاً من الشيوخ وهو صار من الأولياء، قال والحمد لله، ربي كريم، ربي لطيف، قال كريمته – ظريفة بنت ظريف – على العهد والطريق، الحمد لله تُواصِل طريقه، وربما تستمر المسألة!
أين العقل يا أحبابي؟ أين العقل؟ ما أدراني أن هذا صحيح؟ الدكتور العلّامة الكبير أحمد أمين هو مُؤرِّخ الفكر الإسلامي في وقته – رحمة الله عليه – وصاحب فجر وضُحى وظُهر الإسلام ويوم الإسلام، ختمها بيوم الإسلام! أحمد أمين – رحمة الله عليه – العلّامة المصري الكبير في كتابه قاموس العادات والتقاليد الشعبية ذكر قصة عجيبة جداً، قصة رجل اسمه صالح وما هو بالصالح بل هو طالح، طالح الطالحين! اسم على غير مُسمى، هذا كان يدّعي الدروشة وأنه تقريباً شبه أخرس لا يُبين، يجلس هكذا في ضعف، وكلما به رجل أو امرأة ذو أو ذات هيئة – كيف يعرف أنه ذو هيئة؟ يُوجَد ذهب مثلاً في رقبته أو في يديه أو يلبس لباساً جيداً – يقول يا واحد، يُوحِّد الله، ما شاء الله، مجذوب! فيختفي الرجل أو تختفي المرأة ثم لا يعود، لماذا؟ حين يقول يا واحد تخرج جماعة من قطّاع الطرق السلّابين النهّابين القتلة فيأخذونه ويقتلونه ثم يدفنونه أو يرمونه في الترعة أو في النيل ويأخذون ما عنده، اختفى عشرات الناس! شكت الشرطة المصرية في هذا، أيام الخديوي إسماعيل هذا، هذا أيام الخديوي إسماعيل إسماعيل! أي أنه قريب جداً، شكت الشرطة المصرية فنصبت كميناً، أخونا الشيخ الدرويش قال يا واحد فخرجوا، قال فأخذوا المُوحِّد ومَن يُوحَّد بهم، تعالوا! اكتشفوا وقالوا لابد من إنزال أشد العقاب، فجاءت مُغنية – والعياذ بالله – سُمعتها في الطين كما يُقال، وحلفت وأقسمت أن هذا درويش ومسكين ولا علاقة له وأنها تعرفه ولابد من تركه، وطبعاً شفَّعوها لأنها مُغنية، حكومة فاسدة – للأسف – وإدارة فاسدة، فشفَّعوها فيه فأخذته ووضعت القيد في يديه، لذلك سُميَ بعد ذلك صالح أبي حديد، اسمه صالح أبي حديد! ربما المصريون يعرفون جامعاً كبيراً في القاهرة اسمه جامع صالح أبي حديد، يُزار إلى اليوم! ويُقال إنه تُحفة معمارية، عليّ مبارك باشا صاحب الخُطط التوفيقية قال أنا غير قادر على أن أفهم كيف بُنيَ على اسمه وعلى جثمانه النجس هذا المسجد العظيم، سوف نرى أن هذا بأمر الخديوي إسماعيل، أمة لا عقل لها – كما أقول لكم – للأسف، إلا ما بقيَ لها من عقل طبعاً، فالمُهِم أخذته وهكذا فترة حتى نُسيت قصته، ثم أشاعت في الناس أنه وليٌ مُكاشَف وأنه مُخاطَب وأنه ينطق بالغيوب، فحدث نفس الشيئ، قصده أصحاب الحاجات والملهوفون، وكثر الناس وهو لا يكاد يُبين، يُغمغِم بحروف لا يستبين السامع منها شيئاً، ثم تأخذ هي المعلوم، وكوَّنت ثروة طائلة جداً جداً حتى قضى، هلك هذا الفاسق المُجرِم، السلّاب النهّاب القاتل هلك، فبلغ صيته وسُمعته – أنه من الأولياء الكبار ورحمة الله عليه وقدَّس الله سره الكريم – الخديوي إسماعيل فأمر بناء المسجد على قبره ويُسمى مسجد سيدي الشيخ صالح أبي حديدة.
ما أكثر الأسياد في بلادنا! سيدي بوزيد، سيدي بوسعيد، سيدي فلان، وسيدي علان! أسياد كثر بالآلاف في كل مكان، الله أعلم، الله المرجو – تبارك وتعالى – ألا يكون أكثرهم أتانات وحميراً، شيئ عجيب في هذه الأمة!
النبي – عليه السلام – أراد تعقيل – لا أقول أراد عقلنة وإنما أراد تعقيل – هذه الأمة، أراد لها ألا تنحط إلى هذه الوهدة، لكنها فعلت حين آثرت ألا تتبعه، فقد اكتفت هي أن تتغزَّل بطول حاجبيه وسواد عينيه وجلاحة جبينه وجمال وجنتيه الأزهرتين، جعلوه كأنه ما يُتغزَّل به، هذا الذي أخذوه منه – صلى الله عليه وسلم – للأسف الشديد، وبعضهم أخذ منه الطقوس والمراسيم الظاهرية، أين روح محمد؟ أين رسالة محمد؟ أين مشوار محمد؟ أين مسيرة محمد؟ أين تركة محمد الحقيقية أيها الإخوة؟ أين هي؟ أين هي؟ للأسف لابد أن يُنبَش عنها من جديد!
اسمعوا هذا الموقف الذي تعرفونه جميعاً لكن فكِّروا في إطار خُطبة اليوم في دلالته، يا له من موقف! أخرج مُسلِم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال مات إبراهيم ابن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وانكسفت الشمس، أي في اليوم الذي مات فيه إبراهيم – عليه السلام – ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس ما انكسفت إلا لموت إبراهيم!
طبعاً هذه عقلية الجماهير، نفس الشيئ! تُريد مُعجِزة، تُريد خُرافة، تُريد خيالاً، تُريد سُلطاناً في القمر، هذه هي! هذه الأمم، قالوا ما انكسفت إلا لموت إبراهيم، واضح! إبراهيم مات وهو ابن النبي، ابنه الوحيد الذكر، يقول جابر فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – وصلى بهم ست ركعات بأربع سجدات حتى آضت الشمس – أي رجعت، تجلت! آض تعني رجع، أي أنها عادت ورأوها – ثم قام، انتبهوا الآن، كان بوسعه مثل كل القادة والزُعماء – أستغفر الله العظيم – والدجاجلة والأنبياء الكذبة أن يقول نعم، قد رأيتم ولا أدّعي أنني أُريكم ما لا أرى، رأيتم! كُسِفت لموته عليه السلام، ولو قد عاش لكان وارث أبيه، إلى آخر هذا الكلام الفارغ! قام بأسلوب مُختلِف تماماً ليقول – صلى الله عليه وسلم – أيها الناس – بعد أن حمد الله وأثنى عليه وقدَّسه ومجَّده، عبد الله ورسوله، اللهم اجزه عنا خير الجزاء واجمعنا به، اللهم أحينا على سُنته وأمتنا على مِلته، هذا ما نرجوه والله – إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله – قضايا كونية هذه – لا تنكسفان لموت عظيم أو قال لموت أحد في رواية، غير صحيح الكلام هذا، هذا ليس له علاقة بابني إبراهيم بالمرة لا من قريب ولا من بعيد! فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة.
قال هذه آيات يُخوِّف الله بها مَن شاء مِن عباده والحل في الصلاة، لا تقل مات إبراهيم أو وُلِدَ فلان أو مات فلان، قال هذا الكلام أساطير الأولين، خُرافات لا وجود لها، الله أكبر! أعظم فرصة كان لنهّاز أو كذّاب أن ينتهزها، أليس كذلك؟ خاصة في شعوب مثل هذه، هي التي ألَّفتها، هي التي أطلَّقت هذه الخُرافة، بعضهم لا أقول يهتبل السوانح وينتهز الفرص أو يفترصها بالعكس يخلقها ويُهيء لها!
رسول الله يا أحبابي – وفكِّروا مرة أُخرى – كان شديد التبسط في ثيابه ومسلكه ومجلسه ومأكله ومشربه، وكثير الاندماج في جماعته، أليس كذلك؟ والزُعماء لا يفعلون هذا، أنا قرأت في كتاب تنوير القلوب للشيخ محمد أمين الكُردي – قدَّس الله سره – شيئاً عجيباً، هذا شيخ كبير وله كرامات يُحكى عنها، المُهِم قال – رحمة الله عليه – في آخر كتابه – وهذا ليس عند الشيخ الكُردي فقط بل عند كل مشايخ الصوفية – من آداب الشيخ ألا يتبسَّط مع تَلاميذه، ممنوع تخرج عليهم في ثياب النوم، ممنوع تخرج عليهم بشعرك من غير العمامة أو بدون الكحل أو بدون اللحية المُسرَّحة، ممنوع! كله ممنوع ممنوع، لماذا؟ حتى لا تنزل الهيبة، لابد أن تظل لك هيبة دائمة عليهم، عندك مجلس مُعيَّن، عندك شكل مُعيَّن، عندك معيار – Standard – مُعيَّن، لا ينبغي أن تنزل عنه، لكي تقدر على أن تستلب عقولهم!
محمد على كل حال من أول يوم رسالته ليست هي أن يستلبنا، لا والله! أن يهبنا، هو أعطانا ما سُلِبناه، محمد من أول يوم ما أراد أن يُغرِّبنا عن أنفسنا، بالعكس أراد أن يُوحِّدنا بحقائقنا، أن يُعيد فرديتنا واستقلالنا، ولذلك كان لا ينحاش عنا ولا منا، يجلس بيننا، يأكل مثلنا، ينام بين أصحابه على التراب وعلى الحصير في المسجد وفي قارعة الطريق تحت شجرة وجاء مَن أراد أن يغتاله صلى الله عليه وسلم، عادي! بكل بساطة يجلس حيث انتهى به المجلس، محمد يلبس مثلما يلبسون وليس هذا فحسب، ذات مرة جلس فبقوا هم قائمين، فقال ما هذا؟ مَن أحب أن يتمثَّل له الناس قياماً – أو قال يمتثل – فليتبوأ مقعده من النار، لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لملوكها، أجلس وأنتم تظلون واقفين! أي Bodyguards، تعرفون الــ Bodyguards، كلهم الآن يُحِبون الــ Bodyguards حتى بعض المشايخ البُسطاء من أمثالنا كان عندهم Bodyguards، كلنا صرنا خطيرين، ما شاء الله علينا، نُهدِّد أمن العالم! ما هذا؟ محمد لم يكن كذلك، قال لا، اجلس وتجلسون، مثلي مثلكم، لا يُوجَد فرق!
ونجح مع هذا كله أن يسوسهم أعظم سياسة، أليس كذلك؟ وأن يختلب عقولهم دون أن يستلبها، ليُحِبونه حُباً جماً وعقولهم معهم، يُطيعونه طاعة شبه مُطلَقة لكن فيما تُبرِّره عقولهم، فإن خالف أمره ما يقتنعون به لووا والتووا بين يديه حتى يُقنِعهم، لأنه هكذا رباهم صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة في هذا المقام الكريم ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا مريضاً إلا شفيته ولا ميتاً إلا رحمته ولا غائباً إلا رددته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه وطلاقه يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك ألا تدع لنا حاجة من حوائج الدنيا لنا فيه صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها ويسَّرتها بمنّك وفضلك إلهنا ومولانا رب العالمين، اغفر لنا ولمَن حضر ولوالدينا ولإخواننا وأخواتنا وقراباتنا وأزواجنا وذرارينا وأخلافنا جميعاً برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(18/8/2007)
أضف تعليق