إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ۩ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۩ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۩ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۩ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ۩ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۩ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ۩ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ۩ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
تحتفلُ الأمة في هذه الأيام المُبارَكات التي جمع الله فيها – سبحانه وتعالى – بركة ذكرى ميلادِ سيد الكائنات وشرف الموجودات إلى بركة ما أجرى على يدِ أبناء وبنات هذه الأمة من مجدِ الحرية والتخلّص من نير الظلم والاستعباد والطغيان، إنه عُرس الأمة، لم تشهد الأمة من عقودٍ وعقود أعراساً وأفراحاً بهيجة ومجيدة وكريمة كالتي تشهدها في هذه الأيام المُبارَكات بفضل الله ومنّه، وإني لعلى يقين أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قد قرَّ عيناً بما أجرى الله على أيدي أمته، قرَّ عيناً وهو يرى أمته تخرج من الظلمات إلى النور، من ظلمات الاستعباد والاضطهاد والقهر والاستذلال إلى انوار الحرية والتخلّص والاستقلال، والحبل كما يُقال الآن على الجرَّار، ثورةٌ هنا وثورةٌ هناك وثالثةٌ هنالك، ونسأل الله – تبارك وتعالى – ألا يتم الله هذا الحول إلا وقد تحرَّر العرب والمسلمون من هؤلاء الطُغاة الصغار الذين استعبدوهم بغير وجهٍ من الحق، فاليمن تشتعل وليبيا مُتفجِّرة وكذلك البحرين، وسنتحدَّث عن بعض هذه الشؤون في الخُطبة الثانية – إن شاء الله – ولكن جديرٌ بنا أن نقف الخُطبة على ذكرى مولانا وحبيبنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فلا شيئ يعدلها ولا شيئ يسبقها، فبعد اللهِ له الفضلُ في ما نحن فيه، هو الذي أخرج هذه الأمة، هذه الأمة لا تموت، قد تتقاعس وقد نتكص وقد تكع مرةً وقد تستنيم إلى الدعة والخذلان مرات ولكنها لا تبيد ولا تفنى ولا تموت لأن فيها روح محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وفيها هدي محمد، فيها نور محمد وكتاب محمد، ومحمدٌ بروحه بينها، فهو حاضرٌ لا يغيب، لسنا نعلم حليته فقط – أي لسنا نعلم حلية شخصه – بل نعلم روح شخصيته، والآن جاء الموعد، جاء موعد الابتلاء والاختبار والامتحان ليختبر كلٌ منا – من الرجال والنساء- كم فيه من روح محمد؟ كم هو وفيٌ لمحمد عليه الصلاة وأفضل السلام؟ بعض الناس يعترض ويقول عن أي ثورة تتحدَّث يا مولانا؟ عل تتحدَّث عن ثورة شباب بعضهم لا يُصلي ولا يصوم؟ ولكنه مسلم يا سيدي وأنا مُتأكِّد وأنا على منبر رسول الله أنه أحسن فقهاً في الإسلام منك ومن أمثالك من السلبيين المُثبِّطين المُعترِضين الأنانيين الذين لا يعرفون أن يدوروا إلا حول أنفسهم الحقيرة وحول ذوات حقيرة، حول مكسبه وإنجازاته وإبداعاته، أما ما يخص الأمة بل ما يعم الأمة في شؤوناتها المُختلِفة فهو لا شأن له به ولذلك يبدأ يتندَّر ويتراقع ويتساخف على هؤلاء الثوَّار الأبطال الأحرار الذين فنوا في أمتهم وفنوا في أهلهم وفنوا في دينهم وفي رسالتهم وربما دون أن يدروا، ولكن هذه حقيقتهم النبيلة جسَّدتها ثورتهم المجيدة، هل ينسى أمثال هؤلاء المُثبِّطين أن أعظم الجهاد كلمة حق عند سُلطانٍ جائر؟ لقد أتى هؤلاء بما هو أبعد من الكلمات، فالكلمات لنا ولأمثالنا، للمُنعَّمين المُترَفين الذين لا يُحسِنون إلا الكلام وبعضنا حتى الكلام لا يُحسِنه، يبلع لسانه ويبدأ يقول “يا رب استر، يا رب استر” لأن مصالحه قد تضيع ولأن مزاياه قد تغيب، ويبدأ إلى آخر لحظة يحسب الحسابات الجبانة والحسابات الحقيرة المنزورة الصغيرة التي لا تدور إلا حول نفسه، فله الويل والثبور وله التباب والخسار، والمجد كل المجد والعز كل العز في الدنيا والآخرة لمَن فنوا في أمتهم ولمَن وفَّوا لمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم – بالعهد والميثاق القائل – صلوات ربي وتسليماته عليه – إنه لا قُدِّسَت أمة – أي أن الله لا يُقدِّس أمةً – لا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوي غير مُتعتَع، أي غير مُضعضَع وغير مُخوَّف، بلسانٍ قوي صارم كالسيف يُطالِب بحقه من أعلى رأس في الدولة، ليس من مُجرَّد رجل أمن سخيف مُجرِم مُتوحِّش وإنما من أعلى رأس وإلا يرفع الله يده عن هذه الأمة ويضربها بعدوها ويضربها بالفقر وبالذل وبالمهانة وبالأمراض وبالجهل وبالأمية والعجرفة والتخلف لأنها أمة غير مُقدَّسة عند الله، أمة خزيانة تلك الأمة التي لا يُنتصَف فيها للضعفاء ولا يرتفع فيها إلا الوضعاء من أمثال الحشرات لأن الحشرات هى التي تستطيع أن تتسلَّق القيم العاليات وبسرعة، أما أصحاب الوزن الثقيل فلا يستطيعون ويُؤخَّرون دائماً.
يوم الأحد بكيت – والله – أمام شاشة التلفاز وأنا أرى مولانا العلَّامة إمام العصر القرضاوي والسرور على وجهه والراحة، فلم أره مُرتاحاً هذه الراحة من سنين دون أن يتكلم وقلت آن لك يا مولانا أن ترتاح، لقد أذهب الله هذه الغُمة، علماً بأن العلَّامة القرضاوي الذي تفتخر به الأمة لا يدخل مصر إلا مُهاناً، لا يدخل بلده مسقط رأسه إلا ويُوقَف في المطار بالساعة وبالساعة والنصف في غرفة ضيقة مُظلِمة، هكذا تنكيد وتنغيص، أيام وزير الداخلية السابق زكي بدر – عليه من الله ما يستحق – نعت شيخنا بأبشع النعوت والكلمات التي لا أستطيع أن أذكرها على منبر رسول الله والله العظيم، ألفاظ هو وأمثاله حقيقون بها، ألفاظ سوقية، وهى ألفاظ العوالم والرقَّصات والسوقيين في الشوارع، واليوم بكيت أشد من يوم الأحد وأنا أرى مولانا – أنا مُنذ الساعة التاسعة فتحت التلفاز وأنا أترقَّب خُطبته لأنني سمعت أنه سيخطب في ميدان التحرير – وهو يخطب والملايين مُتوافِرة، ليس هناك موضع حتى لإبرة أن تسقط، لا تسقط إبرة إلا سقطت على دماغ إنسان، وبدأ الشيخ يخطب، فقلت لا إله إلا الله، تُعِزّ مَن تشاء وتُذِلّ من تشاء، أتمنى على مُبارَك أو أتمنى أن مُبارَك يرى هذا المشهد ليعلم ولاء مصر لمَن وحب مصر لمَن ولكي يعلم الشعوب تُحِب مَن وتلعن مَن، وأسأل الله أن يمد في عمر شيخنا لأنه أبى إلا أن يُبكينا في الخُطبة الثانية مرةً أخرى فقال “كما منَّ الله علىّ وفرَّحني بأن أُصلي في هذا الجمع الكريم بعد ثورة التحرير فأسأله وأبتهل إليه أن يُمكِّن لي أن أُصلي في المسجد الأقصى وقد حرَّره الله من دنس الصهاينة الوالغين الغاصبين”، فقلنا آمين آمين آمين، لا أرضى بها واحدةً حتى أضم إليها ألف آمين، وإن شاء الله نحتسب على الله أن الله – تبارك وتعالى – يُنيله ويُنيلنا هذا المطلب وهذه الأمنية إن شاء الله تعالى.
لم نسمع شيخاً مُعاصِراً يتكلَّم عن فلسطين وعن غزة وعن الأقصى كشيخنا القرضاوي، وهذا سر نقمة أعداء الأمة عليها في الداخل والخارج، فهم يتندَّرون به ويتمسخرون ويتكلَّمون عنه لأنهم ليسوا مثله، لنرى الآن أين مقامات المشائخ الآخرين؟ أين المفاتي؟ أين مشائخ الجامعات الإسلامية العريقة؟ هل يُمكِن أن يُصلوا بهذا الجمع؟ سيُطرَدون، ستقول لهم الجموع الواعية – ليست الجموع المُستغفَلة والمُستحمَرة – ليس هذا عشك فادرج، فهذه ليست لك، اذهب وانطلق فلست منا ولسنا منك يا مَن ظل يُداري ويُماري ويُنافِق السُلطان إلى آخر لحظة، لأنهم حتى لا يُحسِنون الحساب، فلو أحسنوا الحساب لحدسوا بخط التاريخ الذي تخطه يد القدرة هذه الأيام – بفضل الله تبارك وتعالى – مع الشعوب زمع إرادة الشعوب، لقد استفاقت هذه الشعوب وبقية الطُغاة إلى الآن لا يستطيعون أن يروا الشعوب كما لم يرهم من قبل طاغية مصر، لأن الشعوب أيضاً وهى الملومة لم تُر نفسها ولم تقف على رجليها واستحالت إلى ديدان وإلى حشرات وخشاش الأرض، ومشى الطاغيةوهو يرى نفسه أعلى من السماك الأعلى وأعلى من الجوزاء، فهو لا يرى هذه الديدان ويوم استفاقت أمامه لم يرها لأنه لم يتعوَّد أن يراها ولكنها فرضت نفسها ووقفت على قدميها بدأت الآن تأخذ حجمها، فهذا حجم الشعب الذي يُقرِّر والشعب الذي يطلب، ونعود إلى مولانا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الآن، فللأسف يثور السؤال في هذه الأيام حتى على ألسنة جماعة من أهل العلم الذي نُجِل ونحترم ولا أدري ما السبب وقد واجهت هذا السؤال الآن غير مرة في ظرف شهر واحد وهو هل هناك أدلة قطعية على نبوة محمد؟ هذا شيئ عجيب يا أخي، هل تُريد دليلاً أكثر قطعيةً وأدخل في باب الإلزام من هذه الثورات؟ هؤلاء أبناء محمد، رحمة الله على شوقي القائل:
أَخوكَ عيسى دَعا مَيتًا فَقامَ وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ العدمِ
نحن نبتُ محمد، نحن ثمار محمد، والسيد الجليل عيسى ابن مريم – عليه السلام – يقول في إنجيله من ثمارهم تعرفونهم، ونحن ثمار محمد، فهذه الأمة الباذخة العظيمة الماجدة هى ثمار محمد التي تجلَّت أحسن تجلٍّ لها في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، والآن نعرف قيمتها حين نقيس هؤلاء ونُلقي أضواءّ على هؤلاء ونرى هؤلاء في ضوءِ ما لقينا وما تمرَّرنا وما كبدنا من طُغاة الأيام ومن طُغاة العصر، الطُغاة الذين الواحد منهم على أتم استعداد أن يُفني شعبه لقاء يبقى في كرسيه، وهذا شيئٌ عجيب يا أخي، ثم يشتكي بعد ذلك إلى أحبابه في إسرائيل وغيرها ويقول أمريكا قيَّدت يدي ولم تُعطني الإشارة الخضراء بأن أذبح النساء بالقنَّاصين وبالأسلحة التي استوردها من بلاد العدو أن أذبحهم بالألوف، فأمريكا – عليها من الله ما تستحق – قيَّدت يدي، لكن يبدو أن أمريكا أدركت أن الوضع اختلف وهذا ذكاء، وأنا أظن أن من ذكاء إدارة أوباما Obama والتحليل السريع أدركت أن المنطقة هى بركان سينفجر لا محالة، إن لم ينفجر اليوم سينفجر غداً أو بعد غد، فقالت إذن فلنمشي وهناك التنين الصيني الصاعد فلنمشي بخُطى وئيدة ولنتخلى عن غطرستنا وعجرفتنا لنُجاري الشعوب في ما تُأمِّل وفي ما تُريد، ولذلك ما أقوله هذا هو بُشرى سيئة لكل حكّام العرب فانتبهوا، اليوم القذَّافي قالت له أمريكا عليك أن تستجيب لمطالب الشعب، وبدأ اللحن بنفس الشيئ، وطبعاً لابد أن يستجيب في النهاية، فهو يعلم أنه لابد أن يستجيب، إن لم يستجب ليس لضميره وليس لمُقتضيات المرحلة وإنما لأنه يعلم أنه سيُعلَّق كما عُلِّقَ صدام من قبل سيُعاقَب، فأمريكا لا تلعب، ونحن لا نُعوِّل عليها وإنما نُعوِّل على كرم رب العالمين ولكن أمريكا يبدو أن عندها سياسة جديدة، كأنها تقول لابد أن نضمن استقرارنا في هذه المنطقة الشرق أوسطية لكي نستطيع أن نضمن المُستقبَل إزاء المُنافِس القوي الصين، وهذا تحليل وارد، فربما كان هذا، وأوباما Obama حين استمعنا إلى خطابه أنا كنت جد مسرور بخطابه، فأوباما Obama لم يُلق خطاباً عادياً وإنما ألقى قصيدة شعر نثرية أو شعراً منثوراً في الثورة المصرية، وهذاشيئ عجيب، فلو كانت ثورة شعبه ما قال الذي قال، يقول على العالم أن يتعلَّم من شباب مصر، وهذا صحيح ولذا أقول هذا للمُتغطرِّسين وللصغار وللأقزام في عقولهم ونفوسهم، نعم على العالم أن يتعلَّم من مصر ومن شبابها، اتركوا الحسد واتركوا الأحقاد واتركوا النفوس الصغيرة الحقيرة، لقد أثبت هذا الشباب أنه شبابٌ مُتميِّز تماماً ومُذهِل والله العظيم، قسماً بالله إنه لشبابٌ مُذهِل في وعيه وفي رقيه وفي تحضره، شيئ عجيب غير مشهود يا أخي، ثورة غير مسبوقة بهذا الحجم وبهذا الإبداع وبهذا الرقي، فلماذا نحقرها؟ لماذا نبخسها حقها وحظها؟ هل هذا حسداً من عند أنفسنا؟ هذا شيئ عجيب، آلمني جداً جداً جداً هذا الحسد وهذا الحقد الأسود، لا أدري لماذا ومصر مكسب للأمة كلها، أوباما Obama نفسه يقول مصر مُؤهَّلة ومُرصَدة – هذه ترجمة لكلامه – لا لتأدية دور كبير في الإقليم إنما على مُستوى العالم ربما، وهذا صحيح، فهذه هى مصر وهذا حجم مصر، ولذا يقول هى ستُؤدي دوراً على مُستوى العالم مصر، وهى مُهيَّأة لهذا بإذن الله تبارك وتعالى، فليُبارِك الله مصر وليُبارِك الله شعب مصر وشباب مصر وشواب مصر وثورة مصر وحرية مصر ودرس مصر وإلهام مصر، وليُبارِك الله أولاً أيضاً تونس والآن الشعوب الأخرى الثائرة بإذن الله تبارك وتعالى، هذا شيئ عجيب وهذا سؤالٌ عجيب ولكن لابد أن نتصدَّى للجواب عنه، وأنا أقول أن بيِنةُ محمد وبرهان محمد – صلوات ربي على محمد وآله وأصحابه مرةً وألف مرة والعود أحمد – مُركَّبةٌ من أمرين اثنين، من كتابه المُعجِز الذي أُوحيَ إليه وأُنزِلَ على قلبه الشريف الطهور الأبر ومن شخصيته وشخصه فهو نفسه برهان، اقرأ محمداً واقرأ سيرته واقرأ شمائله وخصاله الحميدة وخلاله المجيدة وشمائله العالية الشريفة وسوف تعلم أنه نبي، لو لم تكن فيه آيات مُبيِّنةٌ لكان وجهه يُنبيك بالخبرِ، وهذا ليس فقط في وجهه، وإنما في وجهه ومسالكه ومداخله ومخارجه، ورده وصدره وكل شيئ فيك يُنبيك عنه، ولذلك انتبهوا إلى الآية التي تقول وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ۩، فالله بيقول له يا خيرتنا، يا حبيبنا، يا صفوتنا وَقُلْ إِنِّي أَنَا – وانظروا إلى أَنَا ۩، انظروا إلىّ مَن أنا – النَّذِيرُ الْمُبِينُ ۩، فسوف تعلمون أني النذير المُبين بعد أن تعرفوا مَن أنا، تفكَّروا في وانظروا في شخصي وفي شخصيتي، انظروا في تاريخي وتقلَّباتي ومجارياتي وسوف يتأيَّد البرهان الأعظم بعد كتاب الله على صدق دعواي، ولنبدأ بالكتاب الذي أُنزِلَ عليه لأنه المُعجِزة الباقية، وفي الصحيح عنه صلوات ربي وتسليماته عليه ما من نبيٍ من الأنبياء إلا أوتيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلىّ وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة، إن شاء الله وإنه لكذلك، علماً بأن – قد ذكرت هذا في الكويت – في مبدأ القرن العشرين أو في مطلع القرن العشرين كانت الدوائر الاستعمارية الغربية تقطع بأن الأمة الإسلامية على وشك الاندثار، وقالوا أجيال معدودة وسوف ينتهي شيئ إسمه الأمة الإسلامية لأنها ستفنى ديموغرافياً، وهذا أمر معروف، وذكر هذا مراد هوفمان Murad Hofmann المسلم، وقد ذكره مُوثَّقاً بالوثائق الغربية، فهم قالوا لابد أن تفنى، واليوم نقرأ أن مع نهاية القرن الحادي والعشرين من بين كل اثنين تُصادفهما حول العالم سيكون أحدهما مسلماً، وهذا ما قاله الغرب في أول القرن العشرين وهو ما يقوله الغرب في أول القرن الحادي والعشرين، والعجيب أن أربعين في المائة من مسلمي اليوم حول العالم ينحدرون من أصول من آباء وأسلاف غير مسلمين قبل خمسمائة سنة، فقبل خمسمائة سنة أربعون في المائة من كل مسلمي اليوم لم يكونوا مسلمين، كانوا على أديان أخرى، وأيضاً هذا قرأناه في دوائر غريبة، فهذا ليس كلام المسلمين، وهذا شيئ عجيب، فهذه الأمة ليست فقط أمة ولودة، إنها أمة خلود – إن جاز التعبير – والدة لا تفنى، تمتد باستمرار وبسلاسة دون إزعاج لأنها أمة السلام والإسلام وأمة المحبة والرحمة، أمة وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، وسوف تُبرّهِن – إن شاء الله – رحمانيتها – بإذن الله – يوم تأخذ دورها وتُفرِغ عن منطقها وتصدر عن وحي رسالتها، فسوف تُبرّهِن رحمانيتها هذه الأمة، لأن المُستقبَل لنا، المُستقبَل لهذه الأمة بفضل الله تبارك وتعالى.
مَن أراد أن يسير مع خط التاريخ فهذا هو خط التاريخ لمَن كان يفقه ما هو التاريخ وكيف يسير التاريخ، ليس أولئكم العُميان الذين لا يرون حتى مواطيء أقدامهم، بل – والله – لا يرون التاريخ خمسة أيام إلى الأمام، وهذا شيئ عجيب، وأنا مُتأكِّد أكثر هؤلاء البله الآن يحثون التراب على رؤوسهم ويقولون يا ويلنا ويا خسارنا لو أننا حدسنا بهذا المصير لغيَّرنا من خطابنا ولرفعتنا الثورة اليوم، ولكنكم عُميٌ وبُلهٌ طبعاً، مُستحيل النظام المُبارَكي أن يتسلَّح وأن يتترسَّن إلا بأمثالكم من البُله، فهو لم يتترسَّن بواحد عبقري واحد، وإنما بأمثال هؤلاء البُله يتسلَّح، فهو نظام أبله وهذه شخصيات بلهاء والعياذ بالله، والآن جاءت مرحلةٌ مُختلِفة!
نعود إلى الكتاب، إنه المُعجِزة الباقية وبها سيكون رسول الله أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة بإذن الله تعالى، فهذه أعظم أمة وهى أمة كثيرة مُبارَكة كما في التوراة، مكتوب هكذا أنها أمة كثيرة مُبارَكة، وهى أمة محمد بإذن الله تبارك وتعالى بالقرآن الكريم، والقرآن مُعجِز في بلاغته وفصاحته وبيانه ومُعجِزٌ في تشريعه، أربع آيات في الميراث يُستَل منها علمٌ كامل في مُنتهى الدقة والإبهار، فقط من أربع آيات، وخمس آيات في التشريع الجنائي يُبنى عليها هيكل تشريع مُتكامِل مُحيِّر، خمس آيات فقط، فما هذا؟ ما هذا الإعجاز؟ هذا إعجاز في الكتاب، ليذهب أي واحد منا بل ليذهب أكبر عبقري ويكتب خمس جمل أو حتى خمسين جُملة لكي يُستَل منها علم، هذا مُستحيل، هذا كله كلام فارغ، وستُرَد عليه أو يُرَد مُعظمها عليه، ولكن هذا كتاب عجيب، وهو مُعجِزٌ في إخباره بالغيوب، وسأُذكِّركم فقط بما تعرفون وبما تستحضرون دوماً ولكن لابد أن يُقال للمُتردِّدين وللمُتعلِّمين ما معنى قوله تبارك وتعالى قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۩؟ فالله يقول وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً ۩، وأحقد الناس على الرسالة وصاحبها كانوا هم يهود المدينة فلماذا لم يتمنوه لكي يُبرّهِنوا كذب الرسول والرسالة ويقولوا سنتمناه؟ لم يفعلوا ولم يثبت أن حبراً واحداً منهم قال أنا سأستجيب للتحدي يا محمد، لأنه يعلم صدق محمد وصدق كتاب محمد، صدق الوحي النازل على قلب محمد الأبر، وقد قال النبي المُحمَّد – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه وأتباعه أجميعن – والذي نفسي بيده لو تمنوه لماتوا من ساعتهم جميعاً، وهم يعلمون هذا، أليس هذا إعجازاً؟ هذا إعجاز يعرفه اليهود ويعرفه المسلمون، وإلا ما معنى أن تنزل سورة المسد تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۩؟وبعد ذلك قال الله مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ۩ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ۩، فالقرآن يقول هذا كافر رديٌ وسيموت كافراً وأيضاً سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ۩، وقد كان بوسعه أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك يا محمد يا ابن أخي رسول الله، وهكذا ينقض البناء من أساسه، أليس كذلك؟ لكنه لم يفعل لأنه لا يستطيع، لأن الله قلوب العباد بين أصبعين ونواصيهم كلهم جميعاً بيده وهو الذي أنزل هذا الكلام، ووالله العظيم لو كان هذا الكلام من تأليف محمد وترتيبه لقالها أبو لهب ولقال هذا يكذب عليكم وأنتم مُستغفَلون وأنا أشهد وبالتالي محمد يكذب – حاشاه – إذن، لكنه لم يستطع ، وفي نصارى نجران حين أتوا إلى المدينة حدث نفس الشيئ، حيث بدأوا يأخذون ويردون وأخذوا في اللدد وفي الخصومة واللجاج فأنزل الله فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ۩، فقالوا سوف ندفع الجزية، نخنع ونبخع والجزية ندفع لكن لا نُباهِل وإلا سننتهي من عند آخرنا، فلماذا إذن؟ هذا هو القرآن، القرآن الذي يتحدّى من المرحلة المكية في الحجر بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۩، وإلى اليوم تتبرَّهن هذه الآية، فهو كتابٌ محفوظ في الصدور وفي السطور ويزداد محفوظيةً على كر الأيام والليالي، وهذا شيئ غريب، في بداية القرن العشرين لما اقترح الخديوي تأثراً بالغرب – وهو مُقترَح جميل حقيقةً – أن يُطبَع المُصحَف الشريف قامت قيامة العلماء، وقالوا كيف يُطبِع؟ هذا لا يجوز، يجب أن يُخَط باليد، وبين أخذٍ ورد انتهى العلماء أنه لا بأس في هذا، فبعضهم قال لا بأس ومن المُمكِن أن يُطبَع، ويُعلِّق أحد المُستشرِقين – أعتقد كارل إيرنست Carl Ernst في كتابه Following Muhammad، أي نهج محمد أو اتباع خُطى محمد – قائلاً والعجيب اللافت – كما يقول إيرنست Ernst – أن هذا المُصحَف المطبوع قد تمت مُراجَعته على محفوظي الحفّاظ، فهو في القلوب، ولذلك إسمه القرآن، فأول إسم له هو القرآن وثاني إسم له هو الكتاب، وذلك لأنه محفوظٌ في الصدورِ ثم في السطورِ، فيُقال القرآن ثم الكتاب، أي أن القرآن أولاً، فهو كتاب عجيب، ومن هنا قوله وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وفعلاً لا يغسله الماء ، فلا يُمكِن أن يبيد لأنه كتاب الزمان وكل زمان، ولن يطرق الأرض من السماء طارقٌ بعد محمد، لقد ألقت السماء كلماتها الأخيرة، قال الله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩، فهذا هو القرآن وهذا بُرهانه، مَن شاء أن ينظر في دعوى النبوة ويتطلَّب برهاناً فهذا هو البرهان، اذهب إلى هذا إذن، فإخبار القرآن بالغيوب المُستقبَلة يُوجَد على نحوٍ مُدهِشٍ لافتٍ عجيب، وهو يُخبِر عن بنية الوجود والكون علويه وسُفليه بدقة يقف العلم مبهوتاً حائراً أمامها، فأَنَّى لمحمد أن يطلِع على هذه الحقائق؟ لم يطلِع عليها محمد إنما أُطلِع عليها وأُنزِلت عليه، قال الله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩.
نأتي الآن إلى رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه – لنتأمَّل في شخصيته تأملات سريعة جداً طبعاً فهى نُقطةٌ من بحر وسطرٌ من قيمطر، أي لا شيئ ولكننا بما يتناسب مع المقام العاجل سننظر في شخصيته عليه الصلاة وأفضل السلام، أما المُعجِزات والخوارق فلم يُخلِه الله منها أيضاً وقد رآه المئون من الصحابة وبعضهم جاوز الألف والألف وخمسمائة كنبوع الماء من بين أصابعه، وكإطعامه الجمّاء الغفير والعدد الكثير من الناس من أرغفة معدودة، وهذا جاوز الألف والألف وخمسمائة، وهذا كله ثابت ونقطع به على غيبه، فهذا من كراماته ومعاجزه الإلهية، لأن الله خرق له العادة، وكحنين الجذع وكل مَن بالمسجد استمع إلى هذا الحنين، فهم سمعوا حنين الجذع، لأن لما صُنِع له المنبر ترك جذعه الذي كان يعتليه ليخطب فيهم فجعل الجذع يحن، وكل مَن بالمسجد رأى هذا، وهذا مروي عن أكثر من سبعين من الصحابة فهو مُتواتِر قطعي، وهم كانوا يرون هذا، وكانوا يرون كيف يُجيب الله دعاءه، وقد عقدنا أكثر من خُطبة عن دعوات النبي المُستجابات، فهذا شيئٌ عجب يا أخي، وكانت أدعية في شؤون مُختلِفة سماوية وأرضية وفردية واجتماعية، يدعو لشخص فيستجيب الله من فوره، يدعو لجماعة يستجيب الله، يدعو على جماعة يستجيب الله، يدعو على شخص يستجيب الله، يدعو بالسُقية فتُرسِل السماء عزازيلها حتى يبدأ النا يستغيثون، يقول اللهم حَوَالَيْنَا ولا علينا، على الآكام والظراب وفي الأودية، وهذا شيئ عجيب لكنهم كانوا يرونه، ويستجيب الله وتُقلِع السماء ويستهل وجهه مُنوَّراً، يتوضَّأ ويقول أشهد أني عبد الله ورسوله، طلبتم مني ودعوت لكم وأُجِبتم في مقامي هذا، فيتوضَّأ وجهه ويتنوَّر – صلوات ربي وتسلمياته عليه – بهذا – اللهم احشرنا في زمرته وشفِّعه فينا يا رب العالمين وأقِرّ عينه بنا وبأمتك جمعاء – ويقول أشهد أني عبد الله ورسوله، فهل تُريدون بيِّنة؟ هذه البيِّنة، ماذا تُريدون إذن؟
حين بالغ الكفّار – كفّار مكة وسدنة الشرك والوثنية فيها – في مُعاداته ومُعاداة صحبه دعا عليهم اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف سبعاً حسوماً شداداً، فسلَّط الله عليهم القحط فقحِطوا ولم تُرسِل السماء قطرة مطر سبع سنين حتى أكلوا الجلود والدماء ممزوجة أو مُفرَدة، علماً بأن ممزوجة تُسمى العلهز، فهم أكلوا العلهز ثم أتوه في مدينته المُنوَّرة – صلوات ربي وتسليماته على مُنوِّرها مليون ومليون مرة – يستغيثون به وقالوا يا محمد ادع ربك أن يرفع عنا هذا البلاء، لقد هلكنا ، هلك الزرع والضرع ، الكبير والصغير، فدعا لهم فأغاثهم الله، فما هذا؟ هل تُريدون بيِّنة؟ هذه البيِّنة، دعاؤه المُستجاب – صلوات ربي وتسلمياته عليه – من أكبر البيِّنات، ولكن يتدنَّى عن هذا ولا ينقص عنه صفاته العظيمة الكريمة التي بلغ في كلها مجموعة وفي آحادها مُفرَّقة الأمد الأقصى والغاية القصوى الأبعد سماحةً وجوداً وندىً وعفواً وصفحاً وحلماً وصبراً وعفةً وتعفّفاً وقناعةً ورضاً ورحمةً ورأفةً ووفور شفقة وأبوةً حانية، فهو بلغ الأمد الأقصى وقد تسنَّت له مُجتمِعة وتسنَّت له مُتفرِّقة ولم تجتمع في شخص لا قبله ولا بعده على هذا النحو، والأعجب من هذا أن طريقته فيها كلها واحدة قبل النبوة وبعد النبوة، ولكنها زادت بعد نبوته واستفحلت واستبحرت وظهرت ولم تتفاوت، لم ينزع عن خصلة إلى ما دونها من سيء الخصال أبداً ولا لمرة واحدة، فما هذا؟ ما قول العالمين في رجلٍ لم تُؤثَر عنه كذبة واحدة في حياته أبداً؟ وقد كان أعداؤه أحرص الناس على أن يأثروا عنه كذبة واحدة لكنه لم يُمكِنهم ذلك، فما هذا الإنسان؟ وانظروا أيضاً إلى سلوكه، حيث كان مع أهل الدنيا والثراء في غاية الترفّع، ومع أهل المسكنة والفقر والعدم في غاية التواضع، قال الله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، فهو مع أهل الدنيا والتموّل والإثراء في غاية الترفّع، ومع أهل المسكنة والعدم والفقر في غاية التواضع، فمَن مثله هذا الإنسان؟ مَن مثله؟ مَن يُجاريه؟ مَن يُشابِهه؟ مَن يُدانيه؟ لا أحد، ولذلك أحبته أمته كما لم تُحِب أمة نبيٍ نبيها من قبل، أما من بعده فلا نبي بعده، لم يحدث أن أمةً أحبت نبيها ما أحبت هذه الأمةُ نبيها – إي والله – وقلوبنا إلى اليوم مُفعَمة بحبه، والله أنا مُتأكِّد أنك حين تأتي بأبسط المسلمين إسلاماً وقد يكون فاسقاً لا يُصلي ولا يصوم وتقول له لو تسنّى لك أن ترى رسول الله لدقيقة واحدة ماذا كنت دافعاً؟ سيقول أدفع حياتي، هل يُمكِن أن أراه هكذا؟ أنا أدفع حياتي من أجل هذا، خُذوا حياتي ومالي وأهلي وولدي على أن أُمتَّع برؤيته للحظة واحدة، وهو مسلم فاسق لا يُصلي والله، وهذا شيئ عجيب، فقد أحببناه من كل قلوبنا – صلوات ربي وتسليماته عليه – طبعاً، وهذا برهان أيضاً على صدق نبوته، أي ما جعل الله له في الأفئدة الصادقة، ونحن من أطهر الناس، علماً بأننا لا نقولها عجرفة، فهذه الأمة – والله العظيم – من أعف الأمم وأصدق الأمم وأبر الأمم وأرحم الأمم، هى أمة عظيمة، وقارنوا تاريخها بتاريخ الآخرين، قارنوا مذابحها ومجازرها وكم جزرت وكم ذبَّحت في الآخرين؟ لم تكد تفعل شيئاً كهذا في تاريخها، وانظروا ماذا فعل الآخرون بنا ولا يزالون، فرق كبير لأنها أمة رحيمة، أمة نبيها وهو القائل أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم، نعم الحظان، نعم النبي ونعمت الأمة، ومُستحيل أن يُحظي الله نبيه الخاتم الأجل الحبيب الجليل المُقرَّب إلا بأعظم وأكرم أمة، فإذن هذه هى الأمة، فأنتم موفون ثمانين أمة وأنتم أكرمها على الله تبارك وتعالى، وهذا ليس كلاماً وليس تبجحاً مني كمسلم وإنما هو كلامه صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
آتي الآن إلى نُقطة أختم بها هذه الخُطبة الأولى، فكما قلت نستطيع أن نرى أثماره – أي ثماره – في أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، فنُقايسهم بطواغيت اليوم ونرى الذين تخرَّجوا على يد محمد من مدرسة محمد والذين تخرَّجوا من المدارس الأخرى أياً تكن وأياً كانت، فهذا هو الفارق، ولكن كيف ربَّاهم؟ بالله كيف ربَّاهم محمد هذه التربية؟ هذا الشيئ مُدهِش ومُحيِّر، كان من دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ ۩، فاستجاب الله ولكن على نحوٍ مُختلِف مع تقديم وتأخير له دلالة وأي دلالة، فقال لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ۩، فتلتزكية قبل التعليم، أي قبل تعليم الكتاب والحكمة، لأن ديننا ليس محفوظات، ليس حافظاً لكتاب الله وسُنة رسوله هذا الولي، فيجب أن تكون زاكياً ثم بعد ذلك تأخذ بحظك من الكتاب والسُنة والعلم والكلام، فهذه هى الزكاة وهذه هى طريقة محمد المُتفرِّدة، حيث مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يُزكِّي النفوس، ومسيره كله مسير التزكية ولكنه أراد أن يُدعِّم البناء بإرساء الأسس الذاهبة في أرض النفس.
يروي الإمام أحمد والإمام الحاكم وصحَّحه وابن حبان والطبراني والبيهقي في الشعُب وغيرهم عن شدَّاد بن أوس – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين صحابة ومُحدِّثين – وقد بكى – الراوي رأى شدَّداً يبكي، ونحن نُريد أن نعرف ما الذي أبكى هذا الصحابي الجليل – فقال له ما الذي يُبكيك؟ فقال يُبكيني شيئٌ سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وأصحابه وسلم – قاله، أي أنه مرة قال شيئ وأنا أتذكره الآن وأبكي، قال عليه الصلاة وأفضل السلام إني لأتخوَّف على أمتى الشرك والشهوة الخفية، فالنبي كان هذا – أي الشرك والشهوة الخفية – يُقلِقه جداً، قال فقلت يا رسول الله أتُشرِك أمتك من بعدك؟ فقال إنهم ليسوا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يُراءون الناس بأعمالهم، فهو قال هذا الشرك، فيُصلي أحدهم من أجل الناس ويصوم من أجل الناس ويتصدَّق من أجل الناس ويتكلَّم ويُعلِّم ويتعلَّم من أجل الناس وليس من أجل الله هذا، وهذا الذي أبكى شدَّاداً وأمرٌ آخر، قال فقلت وما الشهوة الخفية يا رسول الله؟ أنت تتخوَّف على الأمة الشرك، نحن فهمنا الشرك والرياء وليس شرك الوثنية بعبادة الأحجار والأصنام والأجرام إنما شرك الرياء والعياذ بالله، فما الشهوة الخفية؟ واسمعوا الآن إلى الإجابة، هذا شيئ عجيب يا أخي، لكن هذه هى التربية المُحمَّدية، فال الشهوة الخفية أن يُصبِح أحدهم – أي أحد أفراد أمتي – صائماً – والمقصود تطوعاً كما قال الشرّاح طبعاً وليس الفريضة، وحتى السياق الذي يقول فيه أن يُصبِح أحدهم يُؤكِّد أن من الواضح أنه يتحدَّث عن صوم تطوّع – فتعرض له شهوةٌ من شهوات نفسه فيدع صومه ويُواقِع شهوته، وهذا الذي أصاب الأمة، فأصبحت أمة ضعيفة رِخوة وضعفت رقابتها الذاتية وانضباطها الذاتي ضعف.
سألت إخواني قبل أيام وقلت لهم ما الذي يجمع بين رجل له غدرات زوجية – خيانات زوجية – وبين رجل يركب في درجة رجال الأعمال في الطائرة – Business Class – ويتناول أربع وجبات في أربع ساعات؟ علماً بأنني رأيت هذا بعيني وتقزَّزت، أنا تناولت نصف وجبة ولا أُريد أكثر من هذا وإن كان مُتاحاً، فماذا أفعل به؟ لماذا أفعل غير هذا؟ لكنني وجدت الناس حولي كل نصف ساعة يطلبون ويأكلون ويشربون ويأكلون ويشربون ويأكلون ويشربون باستمرار، أجانب وعرب طبعاً، وأحدهم كان من النمسا كان هنا، أي أنه نمساوي أجنبي، فعلى مدار الأربع ساعات أكل وشرب مُستمِر ودائماً ما يُرَن الجرس للمزيد، فما الذي يجمع بين هذا وبين هذا؟ ما الذي يجمع بين طاغية يبطش بأمته وبين رجل تُبطِره النعمة؟ ما أطيبه فقيراً وما أبطره وأكفره غنياً، لما اغتنى بطر وطلَّق زوجته وترك مسجده ورسالته في الحياة وبدأ ما شاء الله يفعل ما يُريد بل وربما التحق بالفسقة المُنحَلين من الناس، فما الذي يجمع بين هذا بذاك؟ ما الذي يجمع بين رجل تترك له منزلك في العُطلة الصيفية فلا يترك شيئاً إلا فتَّشه – فتَّش كل شيئ في منزلك كأنه مُخابَرات وأنت ائتمنته وأكرمته بأن يقضي العُطلة في بيتك الجميل – وبين ما نتكلَّم عنه؟ ما الذي يجمع بين هذا وهذا وهذا وهذا وهذا؟ النموذج واحد، فهناك نموذج واحد وهو انمحاء وزواء الرقابة الذاتية والوازع الرحماني في نفس الإنسان، لكن المُؤمِن تُتاح له أشياء كثيرة ولا يفعلها، والآخرون يفعلونها، وهناك مَن يعف عنك ولا يظلمك ولا يضربك ولا يُهينك فقط لأنه لا يستطيع، فلو استطاع وأُعطِيَ منصباً وأصبح وزيراً للداخلية – مثلاً – أو أصبح ضابط أمن سوف يهشم نفوسنا وسوف يذل كبريائنا وسوف يُهين كرامتنا، فبالأمس كنت أديباً وكنت بني آدم لكنك أصبحت وحشاً، فلماذا؟ لأنه لم يكن يستطيع، وهذا معنى قولي مرةً كثيرٌ من الناس هم سرَّاق وقتلة ودعّار وعهّار مع وقف التنفيذ، فما الذي وقف التنفيذ؟ أنهم لا يستطيعون، كما قال أبو الطيب:
وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجد ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ
لأنه غير قادر، فلماذا لا يخون زوجته مثلاً؟ لأنه لا يجد فاسقة ترضى به، لو وجد فاسقة مثله – وهو فاسق – ترضى به لخان زوجته، فهو لا يخونها ليس لأنه عفيف وإنما لأنه غير قادر، وكذلك لماذا لا يمد يده؟ لم تُمكِنه فرصة أن يمد يده ولا يُرى، ولكن لو أمكن لفعل، لكن الصحابة لم يكونوا كذلك مُطلَقاً، وإلا ما الذي كان يحول بين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ أن يبطشوا بمَن أساء إليهم وبمَن سبهم في رعيتهم وهم أباطرة العصر وخلفاء الأمة؟ خشية الله، وهم الذين تعلَّموا – كما ذكرت في الخُطبة السابقة – من حبيبهم وأستاذهم الأعظم وخليلهم الأكرم لولا خشية القود – كما كان يقول للجارية الصغيرة – لأوجعتك بهذا السواك، ولكن يعلم وهو خير عباد الله أن الله لن يجعل له ضمانة أن يُقتاد وأن يُقتَص منه، لأن الله ليس رب محمد وحده، الله رب العالمين، مسلمين وكافرين، والله لا يرضى بالظلم لا في حق مسلم ولا في حق كافر، فكيف في حق بريء؟ لا يُوجَد أحد عنده عصمة ولا رسول الله، فلو ظلم أحداً لاقتُصَ منه يوم القيامة وهو الذي يقول هذا، والصحابة تعلَّموا هذا، واليوم نسمع أن في ليبيا قُتِل عشرات الناس بالأمس، عشرات الناس قُتِلوا في مدينة البيضاء وغيرها وإجدابيا، ويُقال في إجدابيا خمسة وثلاثين واحد، أي مجزرة، وهذا ليس بأيدي الأمن الليبي وإنما بأيدي المُرتزَقة، مُرتزَقة من أفريقيا يُسمونهم الآن أصحاب القبعات أو الطواقي الصفر، فهؤلاء مُرتزَقة والناس رأوهم بأعينهم، وأنا إلى هذا المسجد المُبارَك تلقيت رسالة هاتفية – SMS – يقول لي الأخ الذي أرسلها بفضل الله قبضوا عليهم في مدينة البيضاء – أي قبضوا على هؤلاءالمُرتزَقة أو على جماعة منهم -، وبعضهم من دولة عربية وبعضهم من دول أفريقية أخرى، ومن أعلى سُلطة جاء التفاوض فقالوا لهم لقاء كل واحد تُسلِّمونه لنا ثمانية وثمانين ألف يورو لكن فقط سلِّموه، وشيوخ البيضاء – أي شيوخ السن – وشيوخ القبائل رفضوا ذلك وقالوا لن نُسلِّمهم وسوف تكون فضيحة بجلاجل كما يُقال – إن شاء الله – على الجزيرة وغير الجزيرة، فكيف تقتل شعبك بالمُرتزَقة؟ كيف تأتي بالمُرتزَقة؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن مدينة البيضاء – بفضل الله تبارك وتعالى – فيها الأمن الليبي، وهو أمن مسكين في نهاية المطاف ومُضطهَد ومُستذَل ومُكرَه على أمره، ومُستحيل أن يُقال أنه مُنعَّم،المُنعمَّون طبقة مُخملية فوق فقط، أي كبار الضباط والأولية والجنرالات، وهذا إذا كان هناك جنرالات وألوية، ولكن مَن دون ذلك كله مقهور ومُداس بالصرماية – أي بالحذاء – القديمة كما يُقال – أكرمكم الله وأكرمكن جميعاً وجمعاوات – ولذا الأمن انضم إلى الناس وأعطاهم الأسلحة وقال لهم ادفعوا عن أنفسكم، فعاد هؤلاء المُرتزَقة الأفريقان وغيرهم والآن يُحاصِرون مدينة البيضاء من الخارج، والمدينة من الداخل مُحرَّرة بالكامل بفضل الله تبارك وتعالى، حرَّرتها الثورة الليبية إن شاء الله، وإن شاء الله نشهد نصراً قريباً في ليبيا بإذن الله تبارك وتعالى، اللهم آمين بحق “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” في هذه الساعة المُبارَكة، وعلى كل حال قالوا لهم سندفع ثمانية وثمانين ألف يورو وسلِّمونا هؤلاء فقالوا نحن لا نُسلِّم أحداً، فمن أجل ماذا تقتل أهلك وتقتل شعبك؟ يا أخي من أربعين سنة وأنت في الحكم وهذا يكفي، أربعون سنة يا رجل، نحن لا نستطيع أن نعد الرؤساء الأمريكان الذين جاءوا وذهبوا في أربعين سنة، هذا مُستحيل لأن من الصعب جداً أن نستحضرهم كلهم، يأتي رئيس ويذهب رئيس ويأتي رئيس ويذهب رئيس ويأتي رئيس ويذهب رئيس وهذا يجلس في السُلطة من أربعين سنة، وهذا شيئ لا يُصدَّق يا أخي، لكن كما قال لي أحد إخواني المصريين الآن أنا أمشي وأرفع رأسي وأقول أنا عربي وأنا مصري، وهذا صحيح، وأنا قلت والله العظيم ما فعله شعبانا الكريمان في تونس وفي مصر وما تفعله الآن سائر الشعوب الحرة بإذن الله – تبارك وتعالى – هذا بضربة واحدة أحرز مكسبين عظيمين، المكسب الأول هو أن – إن شاء الله – ستنتهي الصورة النمطية للعربي البدوي المُتخلِّف الجاري وراء الجمال والإبل في الصحراء، البوَّال على عقبيه والذي لا يُساوي أكثر من فرنك صديء، لكن العربي كائن مُتحضِّر يعيش العصر ويطلب أقصى ما يتمناه الإنسان في هذا العصر، أي الديمقراطية والحرية والكرامة والمُشارَكة والمُساواة والعدالة، فهذا هو العربي، والمكسب الثاني العظيم هو أن خُرافة الإسلاموفوبيا Islamophobia والتخويف بالإسلام والإسلام دين إرهاب سوف تنتهي، فبعد مصر لن يقول أحد أن المسلم يُعتبَر إرهابياً، فهذا انتهى، أكثر إنسان مُسالِم وسلمي في العالم هو المسلم والعربي، فما رأيكم؟ نعم ثورة مصر – والله العظيم – أثبتت هذا، فأعظم بشر على وجه الأرض يُسالِمون ويُحِبون السلم هم المسلمون، والعرب منهم بفضل الله سواء كانوا مسلمين أو نصارى فهم مُسلمِون ثقافة وحضارة، هم أبناء حضارتنا ويعتزون بها ونعتز بهم وبانتمائهم إلى هذه الحضارة، فانتهت إذن خُرافة العربي المُتخلِّف وخُرافة المسلم الإرهابي وسوف ترون هذا حتى في الخطاب الغربي طبعاً، فلما أوباما Obama يقول العالم يتعلَّم من شباب مصر ما معنى هذا؟ هل هو يتعلَّم من الإرهابيين؟ هذا مُستحيل، هل يتعلَّم من المُتخلِّفين؟ هذا مُستحيل، فضلاً عن أنه قال مصر مُرصَدة لإداء دور على مُستوى العالم ربما، فلماذا؟ هل لأنها مُتخلِّفة؟ هل لأنها إرهابية؟ بالعكس هذه دولة عظيمة وعندها ما تُعطيه، وهم يعرفون هذا، وسوف تُبرّهِن هذا إن شاء الله تبارك وتعالى.
إذن هذا هو الفرق، ونحن لن نتحدَّث عن عمر وعن عليّ وعن عثمان ولكننا نُذكِّر للمرة الألف بعثمان، فدائماً أنا أذكر هذا ونحن نعلم أن عثمان له أخطاء، فعثمان بشر، وكذلك عمر له أخطاء وأبو بكر، فهم ليسوا أنبياء، ولكن كل أخطاء عثمان – والله العظيم الذي لا إله إلا هو – تذوب في حسنة واحدة وله ألوف الحسنات عثمان بشهادة رسول الله، حيث قال ما على ابن عفان ما فعل بعدها، وذلك حين جيَّش جيش العُسرة، فاذهب واعمل ما تُريد فقد غفر الله لك، ولكن أنا أعتقد من أعظم حسنات عثمان – رضوان الله تعالى عليه – هى إباؤه سفك الدماء، فأعظم الحسنات إباء عثمان أن تُسفَك محجنة دم مسلم من الخوارج الذين خرجوا عليه وعلى طاعته وعلى سُلطته الشرعية وتهدَّدوه وفعلوا بالقتل، لكنه رفض أن تُسفَك محجنة دم منهم – من هؤلاء الخوارج الظلمة الثائرين بالباطل – بسببه هو، وقال أنا أموت لكن هم لا يموتون، فالله أكبر يا أخي، أين هذا الآن؟ هذا الدرس المُعاكِس تماماً لدرس مُبارَك والقذَّافي وكل طواغيت العرب اليوم، ونحن رأينا في كم معركة انتصر خالد بن الوليد كما كان ينتصر دائماً لأنه مُظفَّر مُعزَّز بتأييد من الله تبارك وتعالى، لكن يفصله عمر بكتاب ويقوم بالعملية بلال بن رباح ويبخع خالد له، هذا أمر عادي ولا مُشكِلة فيه ومن ثم لن أتمرَّد ولن أرفع سيفي ولن أخرج على خليفة الزمان – وهو الخليفة الشرعي عمر – لأنني ما عملت ولا أعمل إلا لله، وقد وقع أجري على الله، فما هذه الشخصيات العظيمة؟ هؤلاء هم تلاميذ محمد، ولكن انظروا بالمُقابِل من أين أوتينا ومن أين تُؤتى الأمة من خروجها على هذا الخط الراشد في التربية المُحمَّدية المُصطفوية المُطهَّرة، وأُذكِّركم بحديث عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم، وهو حديثٌ عجيب وجميل، وعياض بن حمار صحابي من قدماء الصحابة، وقد أسلم قديماً ومعدود في البصريين في الطبقات، وعلى كلٍ يقول عياض سمعت رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول – هو سمع هذا من رسول الله أُذناً لفم – أهل الجنةِ ثلاثة – وطبعاً بعد قليل سيقول وأهل النار خمسة، لكن مَن هم أهل الجنة؟ اللهم اجعلنا منهم، مَن هم أهل النار؟ اللهم جنِّبنا مصيرهم ومئالهم -، ذو سُلطانٍ مُقسِط مُتصِّدقٌ مُوفَّق، فهذا أول واحد، هل تعرفون لماذا؟ لأنه صاحب سُلطان ويستطيع بفضل سُلطانه وقوته أن يسطو بالضعفاء ولكنه لا يفعل وهو مُقسِط عادل، لأن عنده رقابة ذاتية، والنبي دائماً يُراهِن على هذا المعنى، أي على معنى الرقابة الذاتية وتربية النفس أولاً وتربية الإنسان، وقد أخذني شيئ من الأسف والحزن حين استمعت إلى أكثر من شخصية مصرية مُحترَمة في تلفزيون الثورة، فهل تعرفون ما هو تلفزيون الثورة الآن؟ الفضائية المصرية، فهى التي تتحدَّث الآن عن الثورة، وهذا شيئ عجيب، نفس الشخصيات التي كانت ضد الثورة الآن تتغنى بالثورة والثورة المُبارَكة وتقول العهد البائد، وهذا شيئ لا يُصدَّق، لكن هؤلاء هم الآكلون على كل الموائد، فقط أقنعة تُخلَع ويُلبَس غيرها، وتُنزَع وجوه ويُوضَع غيرها دون أي مُشكِلة، فهذا أمر عادي بالنسبة لهم، قال رسول الله إذا لم تستح فاصنع ما شئت، فاللهم لا تُدخِلنا مُدخَلهم، يكفي هذا دناءةً وخساسة ورذالة ونذالة، فلا أدري ماذا ستقول له امرأته وأولاده، سوف يقولون له يا بابا ما هذا؟ لقد وضعت رأسنا في التراب بهذه المواقف السخيفة التي تفعلها، ما هذه الحربائية؟ ما هذا التلوّن؟ وعلى كل حال هذا كان في تلفزيون الثورة، وهناك أكثر من شخصية مُحترَمة كانت تتحدَّث عن كيف ينبغي إعاة تأهيل قوات الأمن، ولم يذكر أحد منهم أنه ينبغي تأهيلهم دينياً روحياً كما أتكلم هنا رغم أن هذا هو التأهيل الحقيقي، كله كلام عن حقوق الإنسان وما إلى ذلك، فقالوا لابد من دورات في حقوق الإنسان، لكن هل هم لا يعرفون ما هى حقوق الإنسان؟ هل مَن ارتكب الجرائم لم يكن يعرف أن من الحرام قتل الناس وهتك أعراض الناس ودس الخشب في أدبارهم؟ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩ يا أخي، هل كان لا يعرف هذا؟ البهائم تعرف هذا وليس البشر، ولكن لا يُوجَد خوف من الله، والعامة تقول خاف مِن الذي لا يخاف مِن الله، فالذي لا يعرف الله يفعل – والله العظيم – كل شيئ، فهذا الإنسان وحش ولا يتأنّسَن إلا بالإيمان، وعلى كل حال النبي يقول ذو سُلطانٍ مُقسطٌ مُتصدِّقٌ مُوفَّق، لكن مَن الثاني يا رسول الله الذي هو من أهل الجنة – اللهم اجعلنا منهم – كما قلت؟ انتبهوا إلى أن الرسول لم يقل الذي يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة أو الذي يعتمر عشرين عُمرة غير عُمرة الإسلام – لم يذكر أي أحد منهم – أبداً، وسوف نرى مَن هم الثلاثة الذين هم من أهل الجنة، فيجب أن يكون عندك سُلطة وتُقسِط، وقد تقول لي لكني لست مثل مُبارَك أو القذَّافي، وأنا أقول لك لا يا حبيبي كُن مُقسِطاً حتى لو كان عندك سُلطة على عشرة من الناس، كَن مُقسِطاً واحكم حتى على ابنك وعلى أخيك وعلى نفسك بالحق، لا تتعد الحق ولو على نفسك، ومن ثم سوف تكون من أهل الجنة إن شاء الله، والثاني هو ذو قلبٍ رقيق – عنده حنان وحنو، وهو سريع الدمعة ورقيق القلب – على كل ذي قُربى ومسلم، ونحن نقول بحسب أحاديث أُخرى صحيحة يجب أن يكون كذلك على كل شيئ، قُربى ومسلم وحيوان أعجم وشخص غير مسلم أيضاً، يجب أن يكون كذلك مع الكل، فحتى الحيوان الأعجم يدخلك الجنة أيضاً، في كل كبدٍ رطبٍ أجرٌ كما في الصحيح، فإذن لابد من الحنان والرأفة البعد عن القسوة والفظاظة والغلظة والتوحش والجبروت على الناس، فهذا هو طريق الجنة، أما الثالث وهو الشخص الأخير هو عفيفٌ مُتعفِّفٌ ذو عيال، لكن ما الفرق بين عفيف ومُتعفِّف؟ العفيف يكون عفيفاً ي نفسه، سجية طبعٍ وملكة نفسٍ، أما المُتعفِّف فيكون هكذا في الواقع العملي، بمعنى أن حين تعرض له شهوة أويعرض له طمعٌ يتعفَّف، هو يُطبِّق هذا عملياً، وهذا هو الفرق بين عفيف ومُتعفِّف، أي نظراً وتطبيقاً وسجيةً وسلوكاً، فانظر إلى هذه البلاغة النبوية، فالنبي قال بوجود فرق بين عفيف مٌتعفِّف، وهو أيضاً ذو عيال، وصاحب العيال لا يكون مُتعفِّفاً بل أن من المُمكِن أن يشحذ حتى في نهاية المطاف بل من المُمكِن أن يسرق لأن عنده عيال، لكن النبي قال رغم ظروفه التي لا تتسق مع العفة ومُقتضياتها إلا أنه عفيف مُتعفِّف، فالنبي يُربينا على عزة النفس وعلى كرامة الشخصية.
نأتي الآن إلى الخمسة الذين هم أهل النار – والعياذ بالله – حيث قال وأهل النار خمسة، فانظروا بالله عليكم وعليكن بمَن بدأ، أولاً قال الضعفاءُ فيكم الذين لا زَبْر لهم، الذين هم فيكم تبعٌ لا يبغون أهلاً ولا مالاً، لكن ما معنى هذا؟ النبي قال شخص ضعيف لا زَبْر له، فما معنى لا زَبْر له؟ أي لا عقل مُتماسِكاً له، نقول له اضرب فيضرب، طخ الناس فيطخ الناس، كسِّر الناس فيُكسِّر الناس، بلطجَّ على الناس فيتبلطَّج على الناس، فالنبي قال هذا أول واحد من أهل جهنم، وإذا قال أنا عبد مأمور سوف يقول له النبي يا ملعون لست من أمتي، أنا بريءٌ منك، إلم ينم إليك علم وألم يأتك الخبر أنني جعلت في رأس قائمة الجهنميين أمثالك؟ أنا جعلت أمثالك في رأس القائمة بلأن مثلك هو شخص ضعيف لا عقل له ولا استقلال له، وهذا هو معنى لا زبر له، أي لا عقل له كما قيل، وقيل لا تماسك له، أي يأتيه الأمر فيُنفِّذ مُباشَرة، ثم قال النبي الذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً ولا مالاً، فهو يستغني بالحرام عن الحلال، لا يُريد أن يتزوَّج وإنما يلوج من هنا ومن هنا كما يقول التوانسة لأن هذا ليس من همه، همه فقط بطنه وفرجه لأن ليس لديه أي طموحات حقيقية، يُلبي الأوامر – أوامر أسياده – فقط، لذا النبي قال هذا رقم واحد من أهل جهنم، فلا تقل لي من الآن فصاعداً أنا عبد مأمور، الله يخليك لا تقلها فنحن نكره هذه الكلمة ومحمد يكرهها، وهو القائل لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لا رئيس ولا ضابط ولا قائد ولا أبي ولا أمي ولا أي أحد، الله فوق الجميع وقبل الجميع يا أخي، فهنا ينشأ الضمير الدينيـ وعلى كل حال هذا رقم واحد، فمَن الرقم الثاني يا رسول الله؟ قال ورجلٌ ذو طمع – لا يشبع وليس عنده قناعة ذاتية، تزوج أحسن امرأة ومع ذلك يطلع على امرأتكَ وعلى امرأتي وعلى امرأته لأن هذا الخسيس لا يقنع، عنده أموال تصل إلى مئات الألوف ومع ذلك يطلع على الذي عندك وعلى الذي عندي ويُفسِد ويُخرِّب عليك وعلىّ أي مشروع، طمَّاع يُريد أن يأخذ كل شيئ قدر المُستطاع دون أن يشبع من أي شيئ – لا يخفى له طمعٌ وإن دق إلا خانه، وطبعاً هذه الجُملة تحتاج في شرحها إلى كلام مُعقَّد، ويُوجَد فرق بين يخفى له ويخفى عليه، لكن المُهِم هو أن المقصود كما قال الشرّاح مثل عياض وغيره أنه يُفتِّش على أي شيئ يستطيع أن يتخوله فيتخوله، فهو يُفتِّش ورائك ويُفتِّش ورائي لكي يبحث عن أي مدخل يدخل من خلاله، ويبحث عن أي شيئ يستطيع أن يأخذه فيأخذه، ولذا النبي قال هذا من أهل جهنم، فهذا رقم اثنين يا حبيبي، هذا كلام عجيب يا أخي، هذا قسماً بالله أحسن مان أن تقرأ ألف صفحة في الأخلاق وفلسفة التربية، هذا المُربّي العظيم ينطق عن منطق إلهي رباني علوي، لكن مَن الثالث يا رسول الله، يا مُعلِّم الناس الخير؟ الثالث مَن هو؟ قال ورجلٌ لا يُصبِح ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك، أي أنه يُحِب أن يُفسِد أهلك عليك وأولادك وبناتك وامراتك ومالك بأي طريقة، يُحاوِل أن يتغوَّل أي شيئ من مالك، ليل نهار وهو شغَّال على هذا، وينسج الخُطط ويعمل الفخاخ ويكذب ويدّعي من أجل أن ينال هذا، لذا النبي قال هذا سيكون رقم ثلاثة من أهل جهنم، وهذا شيئ يُخوِّف، أُقسِم بالله شيئ يُخوِّف، علماً بأن كثير من الناس هم كذلك، يُوجَد الكثير من الناس يسيرون بهذه الطريقة تماماً، ويرون أن هذا منهجهم وهذه شطارتهم وأن هذه هى الفهلوة الخاصة بهم في الحياة، وعلى كل حال يقول عياض بن حمار وذكر البخل أو الكذب، أي أنه قال لا أعرف الرابع لكن هو له علاقة بالبخل أو الكذب، وماذا عن الخامس؟ قال والخامس الشنظير الفحَّاش، أي قليل الأدب وطويل اللسان، الذي يتكلَّم في الناس ويسب هذا ويسب هذا ويهتك عِرض هذا ويُسيء إلى هذا، فهو قال هذا رقم خمسة من أهل جهنم، فهل رأيتم كيف هو منهاج التربية المُحمَّدية؟ هو هذا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
قلت لأحد إخواني مرة لماذا بعض الناس – والعياذ بالله – إذا نزل – مثلاً – ربما فندقاً مُعيَّناً يُقدِّم خدمات ساقطة – هكذا سأصفها لأنه يُقدِّم خدمات ساقطة – يستجيب لها ويطلب السقاطة وهو قبل ساعتين كان يُصلي معنا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأنه مُتاح، ومن ثم يقول هذا مُتاح وخُفية فلنفعله، فأي أخلاق هذه؟ ما هذه الأخلاق؟ وما هذا الدين؟ وما هذه الشخصية؟ وما هذه الشخصيات؟ فعلاً في مُنتهى السقاطة والدنو والانحطاط، وهذا المنطق يفهمه الغربي هنا لكن أنتَ كمسلم وأنتِ كمسلمة لا يُمكِن أن تفهمه أو تفهمينه، لا يُمكِن أن تصدر عنه أو تصدرين عنه، فنحن نختلف تماماً، تقول الآية الكريمة إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، والنبي يُحدِّث عن اُناس من أمته يأتون بأعمال كأمثال جبال تهامة فلا ينظر الله فيها ويأمر بها فتصير هباءً منثوراً، ومن ثم الصحابة فزعوا، فمَن هم يا رسول الله؟ قال منكم، يصلون كما تصولون ويصومون ويأخذون وهناً من الليل ولكن كان أحدهم إذا خلا بمحارم الله انتهكها، أي لا يُوجَد عنده ضابط داخلي أو وازع داخلي، عنده فقط رادع خارجي، وهنا في أوروبا وفي أمريكا وفي العالم الغربي بشكل عام عندهم فلسفة حقيرة جداً جداً جداً في نظري – من أحقر ما يكون – وهى فلسفة الأخلاق الإجرائية كما يُسمونها، فهم يقولون الـ Process Ethics، بمعنى الأخلاق العملية والإجرائية، أي أخلاق صيرورة، فكل شيئ يتبدَّل ويتغيَّر دون أي مُشكِلة لأن هذه هى الحداثة، فالحداثة أن تُغيِّر أخلاقك وشعارك مع كل شعار آخر، فكل يوم والثاني تُغيِّر هذا، فأنت مُتحدِّث أو حداثي، وهم عندهم منطق في هذه في الحياة يقول أن كل مُمكِن هو مرغوب، أي أن كل Possible هو Desirable، فكل شيئ مُمكِن مرغوب Desirable، لكن لماذا هو مرغوب؟ لأنه موجود، وسأحكي لكم مثالاً وأختم هذه الخُطبة حتى لا أُطيل عليكم وقد فعلت فاعذورني: حين التقط أحد الإنجليز بجهاز مُتقدِّم جداً مُكالَمة بين الأميرة ديانا Diana وصديق قديم لها وكان فيها بعض الكلام الذي فيه غراميات وأشياء لا تليق وسقطات قدَّم مُباشَرةً التسجل لصحيفة مشهورة في بريطانيا، والصحيفة مُباشَرةً أعلنت عن ذلك وقالت لدينا تسجيل صوتي مُؤكَّد للأميرة – أميرة ويلز Wales – وهى تُخابِر أو يُخابِرها صديق قديم والمُكالَمة عشقية غرامية، لكن ما الذي يعنينا؟ هذا لا يعنيني ولا أُريد أن أسمعه ولا علاقة لي بهذه السقطات، لكن مئات ألوف الناس أبدو رغبة أن يستمعوا إلى هذا فقط لمُجرَّد أنه مُمكِن، فإذا كنا من المُمكِن الاستماع إليه فلنفعل ولنستمع إلى هذا الشيئ، فهذا مُمكِن – Possible – وبالتالي هو مرغوب – Desirable – طبعاً، وهذه الصحيفة قالت لابد من دفع المال مُقابِل هذا وهو مال كثير وليس مالاً عادياً، لكنهم وافقوا وقالوا سوف ندفع، وفتحوا الخط – أف – وأتت ألوف المُكالَمات من الناس، فقالوا لابد من وجود أكثر من خط، فلا يُمكِن تلقي المُكالَمات عن طريق خط واحد، ففتحوا خطاً ثانياً ثم خطاً ثالثاً ورابعاً ومائةً ومائة وعشرين وهكذا إلى أن وصل الأمر إلى مائتي خط، لأن هذه الشعوب تعيش حالة من الانحطاط والخواء الروحي والمعنوي، لكن نحن كمسلمين لا ينبغي أن نفعل هذا، وأنا الآن أُحدِّثكم عن نفسي وأعلم أن كثيراً من إخواني – والله – على هذه الخليقة، فأنا – والله – لا أفتح رسالة تأتي لزوجتي أو لابني أو لابنتي وهكذا مع كل شيئ لا يخصني، هى تفتحها بنفسها، فأنا لا أتهم أحداً ولا أبحث عن أحد ولا أُحِب من أحد أن يُحدِّثني عن أحد، هذه هى أخلاق الإسلام وهذه هى أخلاق النبي المُحمَّد، فيجب أن تُفرِّق بين أمرين – هذا البُعد الثالث – الآن، حيث يُوجَد أمر أُريده وأمر لا أُريده مع أن كلا الأمرين مُتاحان مُمكِنان، فهذا مُمكِن وهذا مُمكِن، لكن فقط الحيوان – أكرمكم الله وأكرمكن – الذي لا تُوجَد مسافةٌ بين ما يُريد وبين ما يُمكِنه فعله، فهو إذا أراد شيئاً وهو موجود فإنه مُباشَرةً يقفز عليه، لكن الإنسان عنده بُعد يُسمونه في فلسفة الأخلاق بالبُعد الثالث، حيث يُوجَد شيئ من المُمكِن أن شتهيه ومن المُمكِن أن أكون مدفوعاً إليه بالغريزة وبالحس الغليظ فيّ وبآدميتي ومن المُمكِن أن أعمله لكن لا مُسوِّغ شرعياً له ولا مُسوِّغ أخلاقياً وضمائرياً له فإذن لن أفعله، وبالتالي أنا إنسان الآن إذن، لأنني أتحكَّم في نفسي وأعرف متى أمشي ومتى أقف، ولذلك أنا أقول لكم أن مثل هذا الإنسان الذي يُربَّى هذه التربية سوف يُصبِح غداً ضابطاً في الشرطة ووالله العظيم لن يضرب أحداً، سوف يقول لك لن أضرب أي أحد، فكيف أضرب إخواني؟ هذا مُستحيل، وإذا قيل له سوف نسجنك ونفعل كذا وكذا فإنه سوف يقول اسجنوني بل وأعدموني حياتي لكنني لن أفعل، فكيف أقتل إخواني؟ لن أفعل هذا، وبالتالي سوف نُصبِح أمة مُحترَمة، نُصبِح أمة راقية ونُصبِح أمة يُمكِن أن يُراهَن عليها.
اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم اجعلنا من عبادك أولي الألباب الهُداة الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم عليك بالطُغاةِ والظلمةِ والمُجرِمين وأعوانهم وأشياعهم، اللهم أحصِهم عدداً وأهلِكهم بدداً ولا تُبق منهم أحداً وخلِّصنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم مُنَّ على أمة حبيبك محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم – بحريتها وعزها ونصرها وظفرها وتمكينها برحمتك وقدرتك يا أرحم الراحمين، يا بالغ القدرة، يا مَن لا يُعجِزه شيئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩
ــــــــــــــــــــــــــــ
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.
(18/2/2011)
أضف تعليق