بعد ذلك نأتي إلى مقصد يتفرع من الإحياء وهو الإصلاح والسلام، وقد تقول لي السلام واضح، إذا وُجِد سلام فإن هذا يخدم الإحياء وإذا وُجِدَت حروب فإن هذا ضد الإحياء، فالحروب دائماً والمعارك دائماً هى أم القطائع والقواطع والانقطاعات، لأنها قطع للحياة وقطع للعمران وقطع للعلم وقطع لكل شيئ، فإذن الإصلاح والسلام معاً، وطبعاً سمعتم الآية التي تقول أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، ومن ثم قد يقول لي أحدكم هذا قدري وهذا شرعي الآن، وهذا صحيح طبعاً ولا تُوجَد أي مُشكِلة في هذا، لماذا؟ هذه مسألة أخرى الآن، المقاصد الشرعية – هذه نُقطة حساسة جداً ومُهِمة – حقها وفرضها أن تسير مُتلائماً بـ ومُتناغمةً مع المقاصد القدرية طبعاً بلا شك بل تستند عليها، ولولا المقاصد القدرية ما أمكن أصلاً فرض المقاصد الشرعية طبعاً، ولن يُوجَد حتى المُكلَّف العاقل المُهيأ لأن يفهم ويبحث عن الحق وأن يخضع له وما إلى ذلك، فهذا مُستحيل طبعاً، لكن انتبهوا إلى أن بعض الناس يقول قد يقول نحن مُتعبَدون بالشرعِ وليس بالقدرِ، علماً بأن هذه المسألة معروفة جداً وأكثر مَن فصلا فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رضيَ الله عنهما، وهذا صحيح فنحن مُتعبَدون بالشرعِ وليس بالقدرِ، لكن أنا أقول لكم إذا تعلق الأمر بالمقاصد فإن المقاصد الشرعية لا تتعارض مع القدرية بل تُساعِدها وتُسعِدها وتعتمد عليها وتمتح منها أيضاً، وإن بدا لأول وهلة ما قد يُخالِف أو يتعارض مع هذا المعنى المُقرَّر، مثل ماذا مثلاً؟ سأضرب مثالاً واحداً على هذا، المقاصد القدرية تدل على أن الإنسان كائنٌ مُختَار، قصد الله أن يكون مُختَاراً، قال الله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ ۩، لكن هل هذا العرض عرض حُكمي أو عرض قدري؟ هذا العرض قدري، فنحن نُرجِّح أنه ما حصل العرض بطريقة انشائية ولكن بطريقة تكوينية، قال الله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۩، لكن هذه الأمانة ما هى؟ هناك عشرات الأقوال في تفسيرها، وأرجح هذه الأقوال الاختيار، فهو قال له أنا أُريد أن أعبدك طوعاً باختياري وكل مَن عداي يعبدك كرهاً مُضطَراً، لكن كيف يكون كرهاً؟ بطبيعته التكوينية، فالشمس تدور في مدارها وتسير في مسارها رغماً عنها ولا تستطيع أنها تقول اليوم – والله – مزاجي مُعتكِّر ولن أطلع اليوم مثلاً، وطبعاً هى في الحقيقة تدور على محورها والأرض هى التي تدور حتى لا يُقال انظروا إلى هذا الشيخ الذي يتحدَّث في القرن الواحد والعشرين ولا يفهم شيئاً، فبعض الناس هكذا يتساخف ويتراقع – وقاكم الله السخافة والرقاعة – فعلاً، وعلى كل حال قد تقول الأرض يا سيدي أنا مزاجي مُعتكِّر اليوم ولن أدور وسأقف هنا، وهذا طبعاً قد يُسبِّب كوارث طبعاً، لكن هذا لا يحصل لأن الأمر ليس بيدها، فهى محكومة بقانون ومقهورة بدستور إلهي، تقول الآية الكريمة التي تلوناها قبل ليلتين لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ۩، أي رغماً عنها، فهى محكومة بقانون ومقهورة به، ومقهوريتها بهذا الدستور الإلهي هى عبوديتها لله، فهى تعبد الله بهذه الطريقة، وهذا يحدث من الذرة إلى المجرة، فالإنسان فيه هذا الجانب طبعاً وهو مقهور بقوانين تحكم على بنيته وتحكم عليه، فهو عبدٌ بهذا الجانب ولكنه ليس عابداً، فكما قلت الكل مقهور في قبضة العبودية للربوبية، والإنسان أيضاً كذلك، أما العبادة فهى أمرٌ للإنسان بالاختيار، الإنسان قال أنا باختياري سأفعل هذا، تقول الآية الكريمة أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ ۩، فالله لم يقل والناس وإنما قال وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ ۩، كل من عدا الإنسان وماعدا الإنسان يسجد لله، لكن هل هذا سجود شرعي أم سجود تكويني؟ طبعاً سجود تكويني، كما يُسبِّح أيضاً – وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۩ – تسبيحاً تكوينياً وليس شرعياً، فأنا طبعاً أقول سبحان الله بلساني لكن هذه المخلوقات ليس عندها ألسنة، فالشمس والقمر وما إلى ذلك يُسبِّحون تسبيحاً تكوينياً، ومَن تأمل فيها قال سبحان مَن خلقها، سبحان مَن خلقها وكمَّلها، سبحان مَن أودع هذه الدقة الرياضية في الكون، لكن طبعاً هذا ينطبق على الذي يفهم، أما الجاهل فيقول لك هناك أخطاء، والله تحدى من قديم – من يوم ما نزل القرآن – قائلاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ۩، ونعود إلى الآية التي تقول وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ ۩، فإذن هذه هى الأمانة، لكن كيف عرفنا هذا التفسير؟ نحن تأملنا في صفة في الإنسان غير مُتوفِّرة لا في السماوات ولا في الأرض ولا في الجبال في الآية، فما هذه الصفة؟ هذه الصفة وجدنا أنها صفة الاختيار، فهو الكائن وحده المُختَار الذي يستطيع أن يُطيع ويستطيع أن يعصي ويستطيع أن يستعلن بإيمانه ويستطيع أن يتبجح بإلحاه، والله – سبحان الله – يحلم عليه ويصبر عليه ويمده ويرزقه ويُمتِّعه متاع الدنيا القليل حتى يُوافي الله على إحدى حالتين، إما حالة مُؤمِن – اللهم أحينا وأمتنا وابعثنا على الإيمان – أو حالة جاحد كافر ناكب والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إذن تحدَّثنا عن موضوع الإصلاح والإفساد والقدري والشرعي وكيف أنهما يتواءمان ولا يتعارضان، وقلنا لكم الإنسان مخلوق بهيئة بحيث يكون مُختَاراً، شاءه الله أن يكون مُختَاراً، وفي رأس الاختيار يُوجَد الاختيار الميتافيزيقي والاختيار الأنطولوجي إزاء الله، ففعلاً أنت مُختَار إزاء الله، لكن كيف يُقال أنك مُختَار؟ لأنك تستطيع – كما قلت – أن تتبجح بالكفر – لا إله إلا الله – وأن تقول أنا لا أُؤمِن به ولا أعترف به وأنه غير موجود، فهو يسمح لك بهذا ويأذن لك بهذا، ولو لم يكن هذا ما كنت تستطيع أن تقولها أصلاً، لأنك ستُسلَب مُباشَرةً وعيك وإرادتك أو حياتك قبل أن تقول، لكنك تقولها بطريقة عادية وتعيش حياتك وتُحارِبه وتُحالِف أعداءه من شياطين الإنس والجن ومع ذلك يتركك دون أي مُشكِلة، طاغور Tagore ماذا يقول؟ يقول أنا أُحِب الله لأنه أعطاني حرية أن أكفر به، ولذا نا عرفت أنه إله حق، لكن قد يسألني أحدكم هل هو يتكلَّم بلسان القرآن؟ وأنا بدوري أقول هو لا ولكنه يتكلَّم بلسان التأمل القدري أيضاً، فقدرياً الناس تكفر بالله وقدرياً يُوجَد أُناس كفار ملاحدة، وهؤلاء يتحدون الله تبارك وتعالى، ووجودياً قدرياً هم يعيشون، وواضح أنهم يعيشون طبعاً، لا يُوجَد أي إنسان كلما كفر استُئصِل أو بُوغِت بالموت، لكننا نُريد أن نفكك برهان طاغور Tagore هذا، فطاغور Tagore ثابت له وجود الخالق الرب لهذا الوجود بأدلة كثيرة جداً جداً ولذا هو يعرف هذا لأنه ليس رجلاً مُلحِداً، فالرب موجود والناس تكفر به وهذا معناه أنه يُعطيهم حرية أن يكفروا به وإلا ما استطاعوا أن يُعلِنوا هذا، ولذا قال أنا أُوقِّر هذا الإله وأُحِبه، لأنه يحترمني ولم ينتهك حريتي، ومثل هذا الرب حقيق أن يكون رباً لأنه غني، تقول الآية الكريمة إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ۩، وطبعاً لو كان فقيراً لما احتمل أن تكفر به، لو كان عنده انتخابات رئاسية أو ملوكية أي انتخابات غداً لقال أنا أُريد أكبر عدد من الناس، علماً بأن طريقة فهم المُتنطِعين من المسلمين للإسلام اليوم هكذا، كأن الله فقير، فيعتقدون أنه فقير للمُؤمِنين وللمُسلِمين وأنه فقير إلى إدخال الناس في الدين ولو بالقوة وإلى جعلهم يصلون بالقوة ويتحجبن بالقوة، فكل شيئ بالقوة وهذا غير صحيح بالمرة، هذا كله لا يزيد الله – لا إله إلا هو – وأضداده لا تنقصه، فهو يُريد هذا منا بالاختيار وبالقناعة وبالنية الصالحة، فيجب أن نتعبده بهذا لا أن نُعبَّد له بالقوة، وعلى كل حال الله ليس فقيراً ولا يحتاج إلى أصوات الناخبين ولا يحتاج إلى أصوات أي أحد، تقول الآية الكريمة فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ۩.الآن شرعاً – كما أقول دائماً وأدمنت هذا فأمللت الناس – لدينا أكثر من خمسمائة آية كلها تُؤكِّد حرية الإنسان العقدية وتُؤكِّد طبعاً حتى الحرية الميتافيزيقية الأنطولوجية بإزاء الله، فنحن أحرار أيضاً، علماً بأن الحرية الميتافيزيقية لا يُمكِن الحديث عنها مع نفي الله، وطبعاً الفيلسوف الوجودي الألماني الكبير كارل ياسبرز Karl Jaspers يقول المُلحِد حين يتحدث عن حريته – الميتافيزيقية طبعاً – نقول له بإزاء ماذا؟ أي أنت حر بإزاء ماذا؟ فأنت تقول أنا حر لكنك حر بإزاء ماذا؟ لو لم يكن هناك ثمة إله ما كان لهذه الحرية أي معنى، فالحديث عن حرية ميتافيزيقية يستدعي مُباشَرةً موضوعة الله، أي أن الله – لا إله إلا هو – موجود وأنني حر إزاءه، والآن أنا أريد حرية أمام الاجتماع وأمام البشر في أن أتدين بما أُريد وأن أنتحل ما أريد من مُنتحَلات عقدية أيدولوجية مثلاً، وهذه الحرية هى حرية الضمير كما تُسمى هنا في الغرب أو الحرية الدينية أو الحرية العقدية، وهذه الحرية الميتافيزيقية والعقدية مدلول عليهما بأكثر من خمسمائة آية وبطرق مُذهِلة ومُعجِبة بحيث لا يُقضى منها العجب، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، فهذا في كتاب إلهي كله ستة آلاف آية ومائتا آية، لكن تُوجَد أكثر من خمسمائة آية عن هذا، وطبعاً هذه الآيات منها ما يحكي الوضع القدري ومنها ما يحكي الحُكم الشرعي، والذي يحكي الوضع القدري – كما ذكرنا أمس – المفتاح فيه قول الله لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، فلا يُتصوَر أصلاً الإكراه في الدين، يُتصوَر أن تُرغِم أحداً على أن يفوه بما تُريد لكن لا يُتصوَر البتة أن تجعل قلبه يُذعِن بما أذعن به لسانه، فهذا لا يُتصوَر ولو أعطيته كل مُلك الدنيا ولو هددته في أعز ما يملك، فإنه سوف يوافقك بظاهره ولكن قلبه آبٍ أو مُتأبٍ، فهذا وضع قدري وهذه هيئة – كما قلت أمس – تكوينية، فالآية حاكية عن هيئة تكوينية، ومثل هذه الآيات عشرات بل مئات لكننا نُريد الآن آيات شرعية، قال الله أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۩، إذن هو يقول له لا تُكرِه الناس، ممنوع أن تسلك هذه الخُطة السيئة، لا تُرهِب الناس ولا تُكرِه الناس حتى يتبعوك على دينك، هذا شرعاً ممنوع، قال الله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، وهذه الآية مُستنِدة على القدري لكن ظاهرها شرعي، فهو يقول أنا لم أُؤمَر بإكراهكم ولست حفيظاً عليكم، قال الله لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ۩، وطبعاً حسابهم ليس للرسول ولا على الرسول، فالفصل بينهم ليس للأنبياء ولا لنا طبعاً ولكن الفصل لله يوم القيامة، علمنا بأننا نقول هذا باستمرار، فإذن الشرع هنا مُباشَرةً مشى في خُطة القدر ولم يُعارِضها، وللأسف الفقه الإسلامي في جوانب محدودة وليست كثيرة طبعاً منه فهم العكس، والآن هذا الفهم الإسلامي المُتنطِع جداً يظن أن من الخير بطريقةٍ أو بأخرى إكراه الناس لكي يكونوا كما نُريد ، أو كما يُريد شرع الله تبارك وتعالى وإن كانوا على غير قناعة وأن يتم هذا بإسم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وأيضاً سنقول هنا كلمة على الهامش ثم نمضي وهى أن في كتاب الله يُوجَد باستمرار الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، فهذا مقبول مطلوب وضروري، لكن لا يُوجَد في كتاب الله أن تُغيّر هذا الشيئ، كل ما يُمكِنك أن تصطنعه في سبيل التغيير هو أن تأمر وتنهى باللسان، لكن لا تستطيع ان تُرغِم أحداً بالقوة، يفعل هذا القانون الذي يُقرِّه المُجتمَع وقد يتبدل من حالة إلى حالة، لأن كل مُجتمَع له تقاليده وله أعرافه ومن حقه أن يرعاها، فهذا شئ آخر لكن هذا لا يُنسَب إلى الله تبارك وتعالى، هذا الموضوع يكون موضوعاً مدنياً لأنه شأن الناس، أما الموضوع الديني التعبدي الذي فيه حسنة وفيه سيئة وفيها ثواب وفيه عقاب – أي إما وإما – فهذا موضوع آخر ويخضع للاختيار الحر، إذن ما قد يبدو مُعارِضاً لخُطة القدرية من الأحكام الشرعية إنما هو غلط في الفهم والتأويل، بقليل من التأمل سنُلاحِظ أن هذا الشرعي يتساوق مع القدري بإذن الله تبارك وتعالى.
نعود إذن ونقول الإصلاح والسلام مُقابِل يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، لكن بم يكون الإصلاح؟ وهذا الإصلاح من مصاديق ماذا؟ الإصلاح من مصاديق الإحياء، والإحياء من مصاديق الرحمة، فالإصلاح يكون بماذا إذن؟ الآن الإجابة أصبحت سهلة جداً، فالإصلاح بالإيمان وعمل الصالحات، وبهذه الطريقة سينفتح أمامنا أفق جديد لمعنى الصالحات، فالصالحات لا تقتصر فقط على خصوص العبادات أو التعبديات، لكن المقصود بالصالحات كل ما تصلح به الحياة وكل ما يكون معه شأن الناس أقرب إلى الرفاه والتيسير والراحة وكل ما يكون معه أيضاً شأن البشر أقرب إلى الاستفادة من المُسخَرات وارتفاقها والانتفاع بها – أي الحضارة والمعنى الحضاري – أيضاً، فهذا معنى الصالحات، وطبعاً هذا المعنى الأعم للصالحات – آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩ – لأنه لا يقتصر فقط على العبادات.
إحدى الكوارث التي هيمنت على بعض المسلمين في هذا العصر أنك ترى المسلم شديد التمسك بالعبادة – طقوسياً طبعاً وواضح أنه طقوسياً – وبالمظاهر الدينية والعبادية الطقوسية مع سعي يُشبِه أن يكون فساداً وإفساداً في الأرض، كالعدوان على الناس بلسانه وبقلمه وأحياناً بيده وأحياناً طبعاً بالمُفجِّرات والمُفخَّخات وما إلى ذلك فضلاً طبعاً عن العقوق وقطع الأرحام، فبعض الناس حين يتدين ويرى أنه أمعن في التدين يقطع أرحامه ويُغاضِب والديه ويقطع أعمامه وأخواله ويقطع علاقاته مع
إخوانه وجيرانه، ويقول لك أنه فعل هذا بإسم الدين وبإسم هجر المُبتدِع وما إلى ذلك، وهذا كله كلام فارغ، فمن أهم مقاصد الشريعة صلة الأرحام – وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ۩ – ومن أعظم الفساد في الأرض قطع الوصلات، وسترون بعد قليل أن من مُفرَدات الإصلاح التعارف، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ۚ – كل الناس فهذا ينطبق على المُؤمِن وغير المُؤمِن – وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ – لماذا؟ – لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ ۩، أين موضوعة القتال – لن أقول الجهاد وإنما سأقول القتال – هنا؟ هل قال الله ليتقاتلوا أو لكي يغزوا المُؤمِن فيكم الكافر ويستذله ويدفِّعه الجزية؟ هذا الكلام غير موجود هنا أبداً أبداً أبداً، فالأصل هو السلام بل ما يتجاوز السلام إلى التعارف وتبادل الخبرات وتبادل التأملات والاستبصارات والنظرات، فلم لا؟ هو هذا طبعاً، وهذا حصل ويحصل من الأيقاظ، ورسول الله لم يكن يأنف أن يستفيد من خبرات الكفار والمُشرِكين، ونحن نعلم مُذ كنا صغاراً أن هذا الأمر صحيح ونسمع عن عبد الله بن أريقط الذي كان من المُشرِكين وكان دليل رسول الله، والرسول كان يُستوصَف له الأطباء – أي يُوصَف له الأطباء – حين يعتل، وقد سُئلت عائشة من أين لكِ هذا العلم بالطب؟ فهى عندها علم – ما شاء الله – بالشعر وعلم بالفقه وبالحديث لكن لديها علم بالطب أيضاً، ولذا كانت – عليها الرضوان والرحمة – تعرف الطب جيداً، فقالت من كثرة ما كان الأطباء يأتون إلى رسول الله، وهؤلاء الأطباء كانوا مسلمين وغير مسلمين من مُختلَف الأنحاء، ويستفيد رسول الله من علمهم ولا بأس في هذا، وإلا ما المُشكِلة؟ وعمر بن الخطاب استفاد من نظم فارسية ونظم بيزنطية خاصة مثل تدوين الدواوين، فاستفاد خاصة من النظام الفارسي في هذا دون أن يكون عندنا أي مُشكِلة، والنبي – على ما أعتقد هذا في سيرة ابن إسحاق أو طبقات ابن سعد، فقد نسيت والله لأنني قرأته من فترة طويلة – وُصِفَ له آلة عسكرية إسمها الدبّاب، كأنها آلة خشبية – مثلاً – وتُطلى بأشياء وما إلى ذلك لكن المُهِم هو أنها يُخاض بها الحروب، وهذا شيئ عجيب، واليونان عرفوا هذه الأشياء طبعاً، وأنتم تعرفون قصة طروادة – مثلاً – وهوميروس وإلى آخره، ومن هنا يُقال لك حصان طروادة، وهذا نوع من الدبّاب، وعلى كل حال النبي بعث وفداً – Delegation – من الصحابة ليتعلَّموا صناعة هذا الدبّاب، فهذا أمر عادي، والنبي لبس حتى لباس غير المسلمين، فلبس جُبة كسراونية ولبس أيضاً جُبة جاءته من بيزنطة دون أي مُشكِلة، قال الله لِتَعَارَفُوا ۚ ۩، ولذا أنا قلت من قريب لا يأنف المسلم المُتواضِع لله تبارك وتعالى والمُتعارِف مع أخوته من بني الإنسان أن يُقِر بالتلمذة وأن يقول أنا الآن في مقام تلميذ وليس عندي أي مُشكِلة في هذا بل أشكر لمَن علمني حرفاً وإن يكن حتى مُلحِداً، فبغض النظر عن هذا هو أخي في الإنسانية في نهاية المطاف وقد تعلَّمت منه ومن ثم أشكر له، وشكري له أن أدعو الله له بالهداية وأن يفتح الله على قلبه، فأنا أتعلَّم منه لأنني تلميذه وهو أستاذي، وله علىّ شكر التلميذ لأستاذه، وهذا هو الإسلام، فإذن عمل الصالحات مفهوم واسع جداً.
(يُتبَع الجزء الخامس)
أضف تعليق