استكمالاً لحديث الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم في الجزء الأول قال: أعتقد أننا الآن صرنا مُهيأين بعد الإشارة إلى نوعي المقاصد القدرية والشرعية أن نُعرِّف بهذه المقاصد، فما هى المقاصد القدرية؟ وما هى المقاصد الشرعية أو التشريعية؟
المقاصد القدرية أو التكوينية أو الخلقية – كما قلت لكم – وإن دل عليها النص ولفت إليها ونوّه بها إلا أنها تُفهَم وتُدرَك وتُبلَغ بالنظر في نظام الخليقة وفي نظام التكوين، وللإمام الجليل والعارف بالله الكبير جلال الدين الرومي – رضوان الله تعالى عليه – عبارة لطيفة يقول فيها لو أن سيداً من السادة أعطى عبداً له مسحاةً – آلةً للحفر – ووجهه إلى أرض يعرفها دون أن يتكلم – قال خُذ هذه المسحاة واذهب إلى تلك الأرض – فهذا بذاته يدل على أمر، أي أن هذه الحالة التكوينية تدل على أمر، فهى بحد ذاتها تُساوي وتُعادِل أمراً، وهو اذهب واستصلح الأرض أو اذهب واعزقها أو اذهب وافلحها، فالمسحاة آداة لهذا وأنت مُهيأ لهذا والأرض مادة لهذا الفعل، وهذا الذي حصل مع الإنسان قبل حتى أن يتلقى الوحي وبعدما نزل الوحي، فالإنسان يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – خُلِقَ على نحوٍ وبتركيبة على هيئةٍ مُعينة مادياً ومعنوياً، وذلك بليقاته العقلية والروحية – كما يُقال – في عالم يُناسِبه من جميع الجهات، وهذا ما يُعرَف الآن في الفيزياء الحديثة وأدبياتها بالمبدأ الإنساني Anthropic principle، وهو له طبعاً ثلاث صيغ معروفة: الصيغة الضعيفة والصيغة القوية والصيغة الأقوى للمبدأ الإنساني Anthropic principle، وعلى كل حال هو مبدأ مشهور جداً، قال عالم الفيزياء النمساوي الشهير شرودنجر Schrodinger هذا العالم يُساوي مسرحاً – هو أشبه بمسرح – ونحن المُشاهِدون، فهذا العالم مصوغٌ ومُفرَق في هيئة وفي تكوين كما هو الإنسان مصوغ ومُفرَق في هيئة وتكوين تحكي رسالة وتحكي أوامر وتحكي هوادي قدرية وليست شرعية وتقول له استكشف كظائم هذا العالم واستخرج دفائنه وخزائنه وارتفقه وانتفع به وأضف إليه وساهم في عملية الخلق فيه – فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩ كما قلنا قبل ليلتين، ومن ثم حوِّل وبدِّل وغيّر وركِّب واختبر وقارِن وجرِّب ووازِن وعادِل وامح وأثبت، لا بأس في هذا، هذه المقاصد كلها مقاصد خلقية تكوينية، وبما أن هذه المقاصد الخلقية القدرية التكوينة مدلول عليها بلسان الآيات فهذه الآيات دلت على أيٍ من هذه؟ نحن نُريد نماذج وأمثلةـ فعلى مثل ماذا مثلاً دلت؟ إذا قال الله – تبارك وتعالى – وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ فهذا مقصد العبادة، لكن هل هذا مقصد شرعي أم مقصد تكويني قدري؟ المسألة مثار اختلاف بلا شك، فلماذا؟ تقريباً أنا شبه مُتأكِد – ربما يشذ عن ذلك شيئ لكن أنا شبه مُتأكِد – من أن كل الآيات في كتاب الله – تبارك وتعالى – التي ذُكِرَ فيها الأمر بالعبادة على لسان رسول الله أو من الله مُباشَرةً لعباده مثل يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ۩ ومثل أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ۩ على لسان الأنبياء المُختلِفين والرسل – عليهم الصلوات والتسليمات – تُؤكِّد أن مقصد العبادة هو مقصد شرعي وليس مقصداً قدرياً تكوينياً، هناك آية واحدة في سورة مريم – عليها السلام – تقول إِنْ كُلّ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض – كلهم لأن هذا يشمل المسلم والكافر والمُؤمِن والجاحد – إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عَبْدًا ۩، لكن فرقٌ بين العبودة أو العبودية – كما يُقال ألوهة وألوهية – وبين العبادة طبعاً، فكل الخلائق بلا شك مقهورون بالعبوديةِ للربوبية، لكن منهم من اختار العبادة – أي أن يتقرب إلى الله بالعبادة – للإلوهة أو للإلهية أو الألوهية، وهذا هو الصحيح والدقيق ومع ذلك تبقى جنبةٌ ظاهرة لقدرية هذا المقصد مدلول عليها بقوله وَمَا خَلَقْتُ – الحديث عن الخلق وعن التكوين – الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩، فالعبادة شرعية، ولكن انتبهوا إلى أن هذا المقصد الشرعي لا يكون إلا بهذه الخِلقة وإلا بهذه الهيئة التكوينية المُهيّأة اللائقة بسؤال الأنطولوجيا الأكبر وبسؤال الحق والسؤال عن الحق – لا إله إلا هو – ثم بعد ذلك الازدلاف والتقرب إليه، تقول الآية الكريمة فِطْرَة اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لِخَلْقِ اللَّه ۩، علماً بأن مفهوم الفطرة من المفاهيم المُلتبِسة والتي أساء إليها الفكر الإسلامي المُعاصِر، هو أساء إليها جداً بطريقة أورثتنا مشاكل كثيرة في فكرنا، فالغرائز تُسمى فطرة عندهم والعادات والتقاليد التي يُشتبه أنها غرائز وهى ليست بغرائز يُقال أنها فطرة، وهذا غير صحيح، فالفطرة قرآنياً هى أن الإنسان مخلوق على نحو بحيث يهفو إلى الله ويسأل عن الله دائماً، فهو مهموم بهذه المسألة ولا يستطيع أن ينفك منها، وهذا ما سماه مونتسكيو Montesquieu – بعد ذلك سماه جان بول سارتر Jean-Paul Sartre نفس التسمية لأنه أخذها من مونتسكيو Montesquieu – ثقب الله، يقول مونتسكيو Montesquieu صاحب روح القوانين في دماغ كل واحد منا ثقبٌ لا يملأه إلا الله، وهى عبارة عرفانية من قديم وقد رددها ابن تيمية حتى مرات كثيرة، إن في القلب – في القلب الآدمي – خلة – فراغ أو ثقب – لا يسده إلا الله، وهذا ثابت حتى في حق أعتى الملاحدة، بدليل أنهم مشغولون على الدوام بقضية الله وإن من جهة النفي، لكن لماذا أنت مشغول بها؟ لو كان فعلاً منفياً في واقع الأمر كما تُنفى أي أسطورة أو أي خراف بائدة لماذا أنت معني إذن إلى هذا الحد إلى الآن وتُحاوِل أن تُقنِعنا بأنه غير موجود؟ هذا ثقب الله، وسارتر Sartre نفسه كان يُعاني منه، وفي النهاية طبعاً خضع له وقال وهو في سياق الموت ائتوني بالقسيس، وفعلاً جاء القسيس ولقنَّه وعمَّده في آخر لحظة، أي أنه لم ينج من ثقب الله، فهذه هى الفطرة – فِطْرَة اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاس ۩ – إذن، ولذلك يقول الله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩، فلهذه الجنبة هذا المقصد قدري، أي فيه جهة قدرية، وهذا واضح بلا شك، وأما كيف يُعبَد لا إله إلا هو؟ لا يُعبَد إلا بما شرع، وهذا المقصد شرعي، فلذلك نحن الآنيُمكِن أن نضع هذا المقصد في رأس المقاصد القدرية وفي رأس المقاصد الشرعية، فهذا مُمكِن ولا مُشكِلة في هذا لكن الموضوع مثار اختلاف.
يقول الله بعد ذلك الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ۩، وهذا مقصد قدري، فهذا ليس مقصداً شرعياً وإنما هو مقصد قدري وأيضاً مدلول عليه بقوله خَلَقَ ۩، فالله يقول الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ۩، وسأُعطيكم الآن تمييزاً بسيطاً جداً تميزون به بين القدري والشرعي، فالقدري لا يتخلَّف – لا يُمكِن أن يتخلَّف أبداً – ولا يتوقَّف على إراداتك أو إرادات البشر، فهو لا يتوقف على إرادة الإنسان، أراته أم لم تُريده هو يعمل فيك وأنت تعمل له في إتجاهه، فهذا هو القدري، وهذا – كما قلنا قُبيل قليل – كمسألة إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩، فأنت تبحث عنه رغماً عنك سواء شئت أم أبيت بطريقة أو بأخرى، والأوضح من هذا قول الله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ۩، فأنت تعمل وسواء آمنت أم كفرت أو أصلحت أم أفسدت فإن الله يقول لك عملك هذا هو امتحانك والنتيجة ستكون بعد ذلك على وفق المجموع، سوف نرى المجموع الأعظم لك أين كان وأي الكفتين رجحت، فالمُؤمِن مُبتلىً شاء أم أراد والكافر مُبتلىً شاء أم أراد، فرغماً عنه هو في الابتلاء، وهذا مقصد خلقي ومقصد قدري عام حاكم على الجميع.
الآن سأطرح سؤالاً، فقد يقول قائل إذن الابتلاء هذا في رأس المقاصد القدرية لكن ماذا عن الإصلاح والإفساد؟ تقول الآية الكريمة قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، وهذا الاستفصال أو هذا التساؤل – لن أقول الاعتراض وإنما سأقول الاستفصال أو التساؤل، فالملائكة لا تعترض، حاشاها أن تفعل هذا – بلا شك كان قبل إهباط آدم، يعني بلا ريب كان قبل إنزال الآيات، تقول الآية الكريمة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ۩، فهذا بعد الهبوط، وهناك آية تقول قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ۩، فإذن قبل هذا تقول الملائكة ما قالته في الآية الكريمة – قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩ – من قبل، فإذن الكلام هنا عن ماذا؟ عن غاية قدرية وعن مقصد تكويني وعن مقصد خلقي ولا دخالة بوجهٍ للمقاصد الشرعية بنسبة مائة في المائة، ومن هنا قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، كأنه يُشير إلى أن ليس بالضرورة أنهم يُفسِدون دائماً وإلى آخر الزمان وأنهم يسفكون الدماء، فهذا ليس بالضرورة، وهذا أمر عجيب، فهذا وعد إذن، ولذا هذه الآية اتفاءل بها كثيراً، فهذه الآية أعتقد أن فيها تفاؤل البشرية وتفاؤل الخليقة الإنسانية، وأنا واحد من الناس عندي إيمان شبه جزمي أن مُؤسَسة الحرب سيأتي عليها بعون الله يومٌ من الأيام – في زمان أسأل الله أن يكون قريباً – تُصبِح نَسْياً مَّنسِيّاً ۩، أي تُصبِح من الماضي كما أصبحت مُؤسَسة الرق من الماضي، وطبعاً أنا مملوء قناعةً أن أكثر نص وأكثر فكر وأكثر رؤية كونية تتكفل بهذا الإسلام، ولذا من البداية وقبل حتى – كما قلت لكم – تنبئة الأنبياء وإرسال المُرسَلين وإنزال الشرائع الإلهية مرموز ومُشار إلى هذا من هذا الطرف الخفي الكريم والرحيم أيضاً، تقول الآية الكريمة قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، كأنه يقول وهو لائقٌ أيضاً بمقصِدَي الإصلاح والسلام، فيُفسِد فيها يُقابِله مقصد الإصلاح، ويسفك الدماء وهو من الفساد – عطف الخاص على العام – يُقابِله مقصد التسالم والسلام، لأن النهاية ستنتهي هذه المسيرة البشرية بإذن الله – تبارك وتعالى – إلى هذا، وأنا أقول لكم يوم يظهر هذا الدين عَلَى الدِّين كُلّه ۩ لن يكون هذا بالقتل أو بالغزو أو بالذبح وإنما بالمقاصد وبالفهم الغائي المقاصدي لهذا الدين بإذن الله، فيوم نتشربه ويُخلَط ويُمزَج بلحمنا ودمنا ونُنشّيء عليه الأولاد لينشأ عليه الصغير ويربو عليه ويهرم عليه الكبير ونتواصى به سنكون نحن الرادة – الرادة للإصلاح وللسلام العالمي وللسلام الكوني – على أن هذا ديننا وهذه دعوتنا وهذه مُهِمتنا، فنحن منذورون لهذا – هذا هو نذرنا – بإذن الله تبارك وتعالى.
تقول الآية الكريمة قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، فإذن المقصد القدري من هذه الخليقة هو ماذا؟ الإصلاح وإحلال السلام بعد ذلك، فهذا مقصد لله تبارك وتعالى، لكن قد يسأل سائل قائلاً أين مكان وأين موقع التسخير والتكريم في موضوعة المقاصد القدرية؟ هناك آيات قرآنية كثيرة تدل على هذا، قال الله أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۩، وقال أيضاً وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، إلى آخر آيات التسخير، وهناك آية التكريم في سورة بني إسرائيل أو الإسراء، قال الله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ۩، لكن أين موقع التكريم والتسخير من قضية المقاصد القدرية؟ هل التكريم مقصد؟ ستقولون طبعاً غير مقصود، فواضح أنه ليس مقصداً، هذا فعل إلهي من جهة واحدة، فهو شاء أن يخلقك مُكرَّماً، هذه هدية ومنحة وهبة إلهية وانتهى كل شيئ، لكن حين يُذكَر المقصد أو يُذكَّر بالمقصد فإن المقصد يكون دائماً مُزودَجاً، فيه جانب عمل الله ولا يتم إلا بجانب عمل الإنسان ولذا هو فيه أيضاً، وبهذا يضح وجه الغاية والمقصد، لكن حين يكون مُقتصِراً على عمل الله وحده – لا إله إلا هو – لا يكون مقصداً، ولكنه قد يكون تهيئةً وتتميماً للمقاصد نفسها من حيث مادتها ومن حيث ما يُهيء لها، وهذا هو الصحيح، وبعد ذلك لابد أن نلتفت – أحبتي في الله – إلى أن التسخير يخدم في إتجاه التكريم طبعاً وآية بني إسرائل دلت على هذا، حيث قالت وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ – كأن هذه الجملة جملة بيان – فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۩، فكل هذا تسخير، ولذا البر مُسخَّر لك والبحر مُسخَّر لك والآن الجو مُسخَّر لك، لكن قد يقول قائل بما أن هذا الكلام كلامٌ إلهي لماذا لم يقل والجو؟ طبعاً أنتم الآن تفهمون الجو طبعاً لأنكم تركبون الطائرات ونحن أتينا بالطائرات وهناك مَن يركب سفن الفضاء أيضاً ويُجاوِز أقطار الأرض بمراحل ومفاوز فلكية، لكن لو قال الله هذا في هذه الآية والجو لكفر الناس، فهذه الكلمة غير معقولة، كيف يُقال والجو؟ الإنسان حين تزلق رجله من فوق هضبة يقع ويتكسر ويتحطَّم أو يموت، فكيف يُقال والجو؟ ولكنه دل عليه في آية في العنكبوت، فهو كظمه هكذا وأبطن وأخفى الإشارة إليه بطريقة فهمها بعض الألباء الأذكياء كالإمام الفخر الرازي حيث قال وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۩، قال الفخر الرازي فإن فُرِضَ أو تُصوِرَ مُكنة غير مُحاوَلة الإعجاز في الأرض فسوف تكون مُكنة مُحاوَلة الإعجاز في السماء، وهذه إشارة واضحة إلى أن الإنسان سينجح يوماً في مُجاوَزة أقطار الأرض وأيضاً في استعمار أجرام السماء، فالقرآن قال هذا، لأنه حين يقول لنا وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۩ نفهم هذا، فنحن قُطّان هذه الأرض وسُكّان هذه الأرض، والله يقول لنا أنتم في قبضتي، فكوكبكم في قبضتي ولا أحد يُعجِزني، وهذا مفهوم طبعاً، لكن حين يقول وَلَا فِي السَّمَاءِ ۩ فهذا أمر عجيب، كيف يُقال في السماء؟ هذه إشارة طبعاً إلى أنكم ستقطنون هذه السماء يوماً، قال تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ۩، وحتى الآية فيها فيها روح فلكية، فالله يقول وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ۩ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ۩، وهذا شيئ عجيب، فهذه إشارة إلى هذا، إذن كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر والجو أيضاً لكن بهذه الإشارة الخفية التي يفهمها أهلها، لكن هل تعرفون لماذا هذا التكريم؟ تهيئة للمقصد القدري الأساس أو الأصيل وهو الابتلاء، لكي تُبتلى ولكي تُمتحَن، فأنا سأقطع معذرتك وأُقيم الحُجة عليك، لكن هل يصوغ أو يجوز أو هل من العدل والإنصاف أن يُبتلى تلميذ أو طالب ما بالامتحان في مادة مُعينة لم يُلقَّنها ولم يُعلَّمها ولم يُدرَّسها؟ هذا شيئ غير معقول، فبعد أن تُعلِّمه وتقطع حُجته وتقطع معذرته وتُقيم عليه الحُجة يُمكِن أن تمتحنه بعد ذلك، ومن هنا الله يقول لك أنا كرَّمتك وسخرت لك كل شيئ وخلقتك على هيئة وبأدوات وماكينات تستطيع أن تُصلِح وأن تُجانِب وتُتارِك الفساد أو تستطيع أن تُحقِّق المقاصد القدرية منك فضلاً طبعاً بعد ذلك عن الشرعية، فالآن أنت محجوج أمام الله تبارك وتعالى.
هذا موضع التسخير وموضع التكريم في الحكاية، ولا نُحِب أن نستتلي في ذكر هذه المقاصد القدرية، لكن – كما قلت – تُؤخَذ بالتأمل في سُنن الخليقة وفي تصاريف هذه الخليقة، أما المقاصد الشرعية فيستقل الشرع بنصه وبالوحي وبالآي في الدلالة عليها، فلابد من نص.
(يُتبَع الجزء الثالث)
أضف تعليق