– ابتدأ أحد الحضور حديثه قائلاً بسم الله الرحمن الرحيم، سؤالي للأستاذ الدكتور عدنان يمثل في أنني أُريد نموذجاً لهذا الإنسان الذي امتلئت روحه بالله – عز وجل -وقويَ اتصاله بالله – عز وجل – فقويت علاقته بالله، فأنا أُريد نموذجاً لهذا الإنسان نحو الجمال ونموذجاً نحو العلم ونموذجاً نحو كل هذه الكليات لله سبحانه وتعالى، فسأله الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً هل تقصد أنك تُريد نموذجاً حياً؟ فأجاب قائلاً نعم أُريد نموذجاً حياً وشكراً.
– سأل المُحاوِر الحضور هل هناك أي سؤال آخر؟ فقال أحدهم السلام عليكم ورحمة الله، ورد السلام الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً وعليكم السلام ورحمة الله، فاستأنف المُتكِّلم كلامه قائلاً سؤالي للأستاذ الدكتور يكمن في أننا دائماً ما نسمع كلمات مثل أن أزمتنا روحية وليست فكرية، وفهمنا من خلال مُحاضَرتكم أن هناك علاقة تزامنية بين هذه المسائل، فهل هناك تعارض أم توافق؟
– طلب المُحاوِر من أحد الحضور أن يُلقي سؤاله قائلاً تفضل لكننا بعد ذلك سنتضطر أن نتوقف عند هذا السؤال، فقال سؤالي هو إذا كان هناك ثمة نقطة وسط ما بين الرياء والإخلاص هل يُمكِن أن نقوم بالأعمال الجيدة وننشرها بشكل علني لكي نكون قدوة للآخرين؟
– قال المُحاوِر أنه سيُضيف للأسئلة سؤالاً خاصاً به، لأن عنده الفرصة الآن التي تُمكِّنه من طرحه فربما لا يتمكَّن من طرحه فيما بعد، ثم قال أننا نتحدَّث عن الثورة الروحية الآن خاصة بعد أزمات بنيوية عرفها الفكر الإسلامي وبالذات في منحاه الفقهي مثل أزمة الفقه والاجتهاد وإلى آخره، فظهر للكثير من الناس ما ظهر لأبي حامد الغزالي فيما سبق وهو أن هناك نوع من اليبوسة في الاقتصار على المنحى الفقهي في الحياة – أي في حياة المسلمين – ومن هنا أهمية دور التجديد الروحي، لكن هناك مُشكِلة في قضية الثورة الروحية، والمُشكِلة هى أن التجديد الروحي يخضع في بعض الأحيان في تطوره للمأسسة، أي أنه يتحوَّل إلى مُؤسَسات، وبالضبط أقصد أنه يتحوَّل في بعض الأحيان إلى طرق وإلى بنيات مُغلَقة، وحينما نتحدَّث عن مؤسسة فإننا نتحدَّث عن هرميات ونتحدَّث عن بيروقراطية أيضاً ونتحدَّث عن السُلطة، ومن ثم سرعان ما يتحوَّل الشأن الروحي إلى سوق فيها طلب وعرض وفيها طموح إلى الزعامة حتى داخل هذا المنحى الروحي داخل الفكر الإسلامي وهذا ما نشهده طبعاً، فضلاً عن أن المُؤسَسات تتعرض إلى التوظيف السياسي وهذا ما نشهده أيضاً، إذن – طبعاً هذا التساؤل فقط لهذه النقطة – كيف يُمكِن لهذه الثورة الروحية لا أقول في معزل أو لا أقول بعيداً عن هذه المأسسة أن تُعطي ثمارها؟ أو كيف الحظر من هاته أو من هذه المطبات؟ وأشكرك يا أستاذ.
أراد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم الإجابة عن الأسئلة المطروحة فقال شكراً لكم جميعاً على هذه الأسئلة الذكية والجميلة، وأبدأ بسؤال أخي الفاضل عن الإخلاص، فهل هو قرار – أي أُقرِّر أن أُصبِح مُخلِصاً – أم تمهر وتدرب ومُمارَسة؟ ببساطة يا أخي الكريم ويا إخواني جميعاً وأخواتي بداية الإخلاص نيته، هل لديك النية حقاً أن تكون مُخلِصاً؟ هل لديك النية؟ هل لديك الإرادة؟ علماً بأن القرآن الكريم في عشرات الآيات يُحيل هذه المسائل إلى الإرادة، قال الله لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ۩ وقال أيضاً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا ۩ وهكذا، فهل تُريد؟ كأن القرآن يضعك مُباشّرةً مكشوفاً أمام نفسك و يقول لك لو أردت لوجدت مُباشَرةً بإذن الله تعالى، طبعاً ليس معنى أنك لو أردت لوجدت أنك تنتهي بخُطوة واحدة، لكن لوجدت الطريق ولوجدت أول خُطوة بإذن الله، ثم بعد ذلك يبدأ الترقي ويبدأ قطع مراحل الطريق، وحتى الأنبياء كانوا يزدلفون دائماً إلى الله، تقول الآية الكريمة كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ۩، ففي كل يوم هو أقرب وأقرب وأقرب، قال الله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ۩، لكن دائماً السير في الطريق الصحيح – بإذن الله تعالى – بالإرادة، فأوله يمثل في إرادتك، ولذلك تقول الآية الكريمة وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۩، ومن هنا أنا أقول لكم ابدأوا بالتوجه الحقيقي لكن مع تفتيش النفس تفتيشاً شحيحاً كما يُحاسِب الشريك الشحيح شحيحه بشُح، فتّش نفسك بلؤم لكي لا تكون ضحية لدغل نفسي يغيب عنك بحيث يكون مطلوبك في نهاية المطاف ليس الله وإنما شيئ آخر والله يكون واسطة، وهذا نوع من الشرك اللعين!
شيخ الطائفة الجُنيد – قدس الله سره – كان يقول لا تكونوا كفلان – وذكر أحد تلاميذه الذي لازمه أربعين سنة وكان مُريداً له – استبطن الدنيا أربعين سنة فلما أتته قفز عليها، وهذا شيئ عجيب، والرجل طبعاً عُرِض عليه القضاء وقَبِله، ولا يُمكِن لصوفي حقيقي أو عارف بالله أن يقبل هذه الوظيفة ، وفي الحديث المرفوع لرسول الله من ولى القضاء فقد ذُبِحَ بغير سكين، ولدينا الحديث الذي يقول قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، فهذه ملعنة إذن، مَن هذا العارف أو هذا الصوفي أو هذا السالك الذي يطلب وجه الله ويشتغل قاضياَ؟ هذه مسألة غير معقولة وبدعة رهيبة، فالجُنيد قال هذا الرجل أراد هذا الشيئ أربعين سنة، كأنه أراد الله – تبارك وتعالى – لا لينتهي إلى الله بل لينتهي بالله عائداً إلى الدنيا، وهذا شرك عجيب وخساسة في الهمة والعياذ بالله، لكن بعض الناس هكذا، بعض الناس يُحِب أن يصل إلى الله لكي تُستجاب دعوته لكي يدعو بها الدنيا، وهذا كلام فارغ، ولذلك يستحي عبدٌ أُوتيَ الإسم الأعظم أن يسأل الله به إلا الجنة، أي لا يسأل الله بالإسم الأعظم أي شيئ من الدنيا أبداً، فإذن النية يا أخي الكريم، عليك في الأول أن تُشحِّر النية، فتّش عن النية لأن أول الإخلاص نيته، فإن حصل – بإذن الله – استقامت الأمور، علماً بأنني أزعم أن المسألة كلها من فضل الله ثم بحُكم العقل، أينا أعقل وأينا أزكى وأينا أعرف بالمسالك يكون أقرب إلى الإخلاص والله العظيم، لأنه ما من عاقل يُمكِن أن يُخسِر صفقته مع الله من أجل صفقات في الدنيا، هذا كلام فارغ وهذه الدنيا فانية، الدنيا حقيرة ولا تستأهل شيئاً، لا تستأهل أن أبيع ما عند الله وأن أبيع الله نفسه – أستغفر الله العظيم – من أجل الدنيا، العاقل لا يفعل هذا، العاقل عنده همة ونفس طواّقة، يُريد شيئاً أكبر من الدنيا وأبعد من الدنيا وأخلد من الدنيا، الدنيا فانية، أليس كذلك؟ الكُبراء يموتون والملوك يموتون والأغنياء يموتون وأصحاب السُلطة يموتون، فهذه هى!
نأتي إلى سؤال الطول والعرض، فالأخ يطلب توضيحاً لمسألة الطول والعرض، وهى مسألة سهلة وأنا ذكرتها على كل حال من قبل ولا أُحِب أن أُكرِّر نفسي، لكن لا بأس – إن شاء الله – في أن نُعيد ثانية، الأشياء يا أخي الكريم قد تتطاول وقد تتعارض، بمعنى أنها قد تتعارض فيقع بعضها في عرض بعض، نفترض أن هناك ثمة طريقاً ما – الطريق تُذكَّر وتُؤنَّث أيضاً والأفصح تأنيثها – مثلاً بسعة – أي بعرض – عشرة أمتار، فيُمكِن أن تتسع – مثلاً – لأربع سيارات، ومن ثم تتعارض، لكن لو جاءت الخامسة لن نجد أي مكان لها، لأن هذه السيارات وقع بعضها في عرضِ بعض، لكن يُمكِن للعربات التي تنقل الناس أن تتطاول، فتكون على الأرض – مثلاً – عربات مُتعارِضة لكن في طولها هليكوبتر Helicopter مثلاً، وهذه الطائرة يُوجَد في الأعلى منها طيارة – مثلاً – إيرباص Airbus، وفي الأعلى من هذه الطيارة تُوجَد سفينة فضاء، فكل هذه الأشياء موجودة دون أي مُشكِلة، فهذا مُتطاوِل في حين أن ذاك مُتعارِض، وهناك مثال آخر سأضربه لأنه ربما أحسن إيحاءاً من هذا، فهذا حسي قليلاً، وعلى كل حال المثال يتعلَّق بالمِلك أو المُلك أو المِلكية، أي مِلكية الشيئ، فالطفل الصغير ابن سنتين أو ثلاث سنوات حين يأتيه أبوه بلُعبة مُعينة ويُعطيها له أو يسمح له حتى أن يلعب ببعض أغراضه فإن هذه اللُعبة في الحقيقة مِلك لمَن؟ للأب، هى مال الأب، وهذا الطفل لا يستطيع إلى الآن أن يتملك شيئاً، لأنه لا يعرف معنى الشيئ ولا قيمة الشيئ ومن ثم قد يكسرها وهى ثمينة جداً، لكن هذا الطفل لو جاء أخوه الآخر الأصغر أو الأكبر منه لكي يُنازِعه اللُعبة فإنه يغضب ويقول هذه لُعبتي ويصيح قائلاً لُعبتي، في حين أن لو جاء الأب وأراد أن يأخذ هذه اللُعبة وأن يمنعه من العبث بها – مثلاً – لساعة مُعينة أو لساعات فإنه يخضع في نهاية المطاف ويبخع، والناس يرون هذا عدلاً، فالآن يُقال الطفل يملك هذه اللُعبة في عرض مِلك أخيه لها، لأن لا يُمكِن أن يمتلكها الاثنان في وقت واحد أبداً، هى إما لك وإما لي، ولذلك حين تأتي تُنازعني أغضب وأصيح، فإذن هى تقع في عرض المِلك، لكن الطفل يملك هذه اللُعبة في طول مِلك أبيه لها، فأبوه يمتلك هذه اللُعبة حقيقةً، وهو يمتلك هذه اللُعبة في طول مِلك أبيه ويمتلكها في عرض مِلك أخيه، وطبعاً هذه الطريقة أنا استخدمتها في حل مُشكِلة القدر – القضاء والقدر – لكن هذا موضوع ثانٍ وقد شرحنا هذا في مُحاضَرة ذات مرة، وأيضاً هذه الطريقة البسيطة تحل مُشكِلات كثيرة، فالقضاء والقدر كله – مثلاً – يُحَل بهذه الطريقة، أنت تُريد الشيئ في طول إرادة الله له وليس في عرض إرادة الله له، فلا تقل لي أن الآية تقول وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ۩ ومن ثم أنا مجبور، هذا غير صحيح، فأنت تُريده والله يُريده لكن في طولٍ واحد وليس في عرض بحيث تقول لي إذا تعارضت الإرداة إما أن يكون مُراداً له وإما أن يكون مُراداً لي، علماً بأن الكلام الإسلامي والثيولوجي – Theology – الإسلامي عملها بالطريقة هذه، وهذه المُقاربَة خطأ منذ البدائة ومن ثم وجدنا الاعتزالية وما إلى ذلك، فهذا كله غلط، في الحقيقة هذا فعلاً يقع في طول إرادة الله وليس في عرض إرادة الله، وهذا معنى الآية التي تقول وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ۩، الله ينسب المشيئة إلى ذاته وإلينا، فكيف هذا؟ إذن هذا ليس في العرض وإنما في الطول، ونفس الشيئ مع الآية التي تقول وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۩، فالله يقول لك هذا المال مالي وفي نفس الوقت هو مالك على جهة الاستخلاف، فإذن أنت تملكه في عرض مُلك الله أم في طول مُلك الله له؟ في طول مُلك الله، لأن قطعاً في نهاية المطاف هو يملكك وما تملك،ولكن هذا لا يمنع- أي تقرير أن الله يملكك وما تملك – أن يُنسَب وأن يُضاف هذا المال إليك وأن تأخذ أجراً حين تُقرِّر أن تتصدق ببعضه وأن تُوصي ببعضه وأن تُجاهِد ببعضه، فالله يقول لك افعل هذا وسأعطيك، في حين أن الآخر الذي يملك ولا يفعل لا يكتب له أجر وربما تحول إلى كيات يوم القيامة، لماذا؟ لأننا نملكه في طول مُلك الله له وليس في عرض مُلك الله، فهذه النظرية مُهِمة جداً وتحل مسائل كثيرة في الفقه وفي علم الكلام وفي أشياء كثيرة.
بالنسبة للنفس والروح أقول باختصار أن الذي انتهيت إليه ومُقتنِع به إلى الآن إلى أن ياتي دليل ربما يُقنِعني أكثر هو أن النفس ليست خصيصة إنسانية، النفس خصيصة حيوانية، فكل الكائنات الحية فيها نفس وحتى الملائكة من المفروض أنها كذلك، قال الله كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ۩، فكل ما له نفس من المخلوقات يموت، إذن النفس ما هى؟ النفس هى التي تجعل البنية حية وتُخرِجها من حيز الجمادية أو الموت إلى الحياة، فهذه إسمها النفس، وهى موجودة في الإنسان وموجودة في سائر أنواع الحيوانات، ومن المُؤكَّد أنها في الحور العين طبعاً وفي الملائكة وفي الجن وما إلى ذلك، فهذه إسمها النفس، أما الروح قرآنياً هى خصيخة إنسانية، فانتبهوا إلى أن ليس في القرآن آية واحدة تقول أن الروح يتمتع بها الحيوانات أو الملائكة، هذه يختص بها الإنسان، وهذا الذي جعله – كما قلت في المُحاضَرة – مسجود الملائكة، قال الله إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ۩ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ – نفس الشيئ دون أي مُشكِلة – وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۩، فإذن هذه خصيصة إنسانية، الروح نفخة إلهية عُلوية اختص الله بها الإنسان – هذا النوع فقط – وحده، فهذه هى الروح ببساطة، لكن طبعاً هذا ما لا يفهمه التطوريون، علماً بأنني سأُفصِّل هذا في السلسلة الثانية من نظرية التطور، وعلى كل حال هذا ما لا يفهمونه ولن يفهموا هذا إلا أن يُسلِّموا بالنص الإلهي، يُمكِن أن يكون الإنسان ترَّقى من كائنات أخرى أدنى دون أي مُشكِلة، لك في لحظة مُعينة حين أراد الله أن يخلق آدم وأن ينسله من ذُرية قوم آخرين – من مخلوقات أخرى ومن أوادم أخرى – ما الذي حصل؟ أين النقطة الفارقة؟ قال الله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، هنا نشأ خلقاً آخراً فاختلف وانماز من بين سائر الحيوانات كلها، فهو الحيوان بالتعريف المادي لكنه في الحقيقة بالتعريف الروحي ليس حيواناً، هو إنسان لأنه شيئ مُختلِف تماماً!
هذه الروح هى التي تجعله يبحث عن الماوراء، وهى التي جعلته يُؤسِس الميتافيزيقا والفلسفة الميتافيزيقية، وهى التي جعلته عاشقاً للجمال فجعلته يتحسس للجمال ولمشاهد الجمال ويبحث عن المُستقبَل ويبحث في الموت والعدم ويخاف من الموت والنهاية والفناء، فهذه هى الروح، فإذا وُجِدَت الروح وُجِدَت هذه الأشياء، وإذا لم تُوجَد الروح لن تُوجَد هذه الأشياء، والنبي يقول لو أن البهائم تعلم ما تعلمون من الموت ما أكلتم منها سميناً، فإذن هى لا تعلم هذا ولا تعرف الموت والفناء، لكن الإنسان يعرف هذا، وبالتالي الحيوانات لا تُفكِّر في المُستقبَل لكن الإنسان يُفكِّر في المُستقبَل، فالحيوانات ليس عندها قدرات مُستقبَلية ومن ثم لا تُفكِّر لأن ليس فيها روح، وليس عندها حاسة جمالية حقيقية، فكل ما يُذكَر بصددها يُفعَل بالغريزة، أي أن كل هذه الأشياء مُبرمَجة Programmed، لكن الإنسان لا يفعل هذا بالبرمجة، بالعكس يفعل هذا حتى بالتنمية، فهو عنده هذه البذرة الجنينة التي يُنميها باستمرار ومن ثم يُنمي هذا الحس، لكن هو عنده بذرة هذا الحس الجمالي وبذرة أيضاً البحث الميتافيزيقي ولديه الخوف من الموت والإبحار دائماً في خُطط المُستقبَل، فهذه هى الروح التي تفتح كل هذه الآفاق للإنسان، وهذه هى الروح خصيصة إنسانية.
أخي الفاضل يسأل عن نموذج حي للمُسلِم الكامل، فهو يقول أنه يريد نموذجاً حياً لكن طبعاً لا نُريد أن نظلم الأحياء، بلا شك – إن شاء الله – كَمُلَ من الرجال الكثير – الكملة من الرجال ومن عباد الله وحتى ربما من النساء كثيرون في كل زمان ومكان – لكننا لا نُحِب أن نُمثِّل بأحد الأحياء، ونُريد أن نُمثِّل بأحد العلماء الذي كان قريب العهد بنا وهو مُحدِّث الشام الأكبر بدر الدين الحسني رحمة الله تعالى عليه وقدس الله سره، أنا في نظري أن هذا هو النموذج للمُسلِم الكامل وللرجل الكامل وللعارف الكامل وللوارث المحمدي وللعالم العامل الكامل كما ذكرت أخي الكريم تماماً، فهذا الرجل كان رجل علم وعمل ورجل روح وإخلاص، ومن هنا كان رجلاً عجيباً، فهو في الولاية لا ينقص عنه في العلم، كان عبقرياً في العلوم بشكل لم يُسمَّع تقريباً بمثله، والإمام الكتاني – حافظ المغرب – كان صديقه وشهد فيه قائلاً أنا أشهد – وربما حتى قال أقطع – أن الأمة لم تر بعد الحافظ ابن حجر العسقلاني إماماً وعالماً كبدر الدين الحسني، أي لا السخاوي ولا السيوطي ولا ابن حجر الهيتمي ولا أي أحد من هؤلاء، فلك أن تتخيَّل هذا، كان في العلم شيئاً عجيباً، وهذا طبعاً ليس في العلم الشرعي وحده بل في كل العلوم الشرعية بلا استثناء وكل العلوم الآلية وفي علم الطب أيضاً، يقول أحد أطباء الشام الكبار والله كنا نأتي إلى مجلسه فإذا فُتِحَت مسألة لها علاقة بالطب يتكلَّم في الطب كلاماً نتعلَّم نحن منه لأنه يعلم في الطب ما لا نعلمه، ولك أن تتخيَّل هذا، بل حتى علم الفلك كان له فيه باع وقدم راسخة، وكذلك الحال مع الرياضيات والحساب والكيمياء، وهذا شيئ عجيب، لكن كان يعرف الكيمياء القديمة ولما قيل له هناك كيمياء حديثة وذُكِرَ له هذا قال – عند عقل عجيب يثقب اللؤلؤ – نعم هذا يا باه كلام صحيح وسليم وأصح مما تعلَّمنا، ثم بدأ يتعلَّمها، نهم علمي غير طبيعي ووولاية – بإذن الله – تامة، فهو رجل ولي من كبار أولياء الله، لو تقرأ عنه وعن كراماته وعن تأييدات الله له تجد الشيئ عجب يا أخي الكريم، هذا الرجل في نظري هو نموذج للمُسلِم الكامل، وكان عنده الكرم أيضاً – كرم النفس وما إلى ذلك – والأدب والجمال، فهذا كله في الشيخ بدر الدين الحسني، علماً بأن أصله من المغرب وهو حسني النسب – ما شاء الله – والدوحة، شيئ لا يكاد يُصدَّق، فسبحان مَن خلق هذا البشر الذي هو آية على أن البشر يبلغ فعلاً درجة الكمال بإذن الله تبارك وتعالى.
الشيخ علي الطنطاوي – رحمة الله عليه – أيضاً من العلماء الجميلين الطيبين، كم أحب هذا الرجل، الشيخ علي الطنطاوي تُوفى قبل ربما عقد ونصف – في أواخر التسعينيات – أو أكثر ومن ثم هذا قريب من عقدين، وهو – رحمة الله تعالى عليه – من العلماء الطيبين الصالحين، حيث كان عالماً موسوعياً أيضاً وكان يقرأ طيلة حياته، وقال أنا لي سبعون سنة أقرأ كل يوم ثمانى ساعات، أي أنه يفعل هذا يومياً، ومع ذلك لم يدع مرة أنه عالم، وهو من الشيوخ العلماء ما شاء الله، فهو عالم موسوعي وبحر في الأدب والجمال، وما دام ذكرناه لابد أن نذكر بعض مناقبه أو شيئاً واحداً – منقباً له – منها، وهذا الشيئ أثر فىّ كثيراً جداً، وهو أن الشيخ علي الطنطاوي كان له بنات، على ما أعتقد سبع أو ثمانى بنات لأنه لم يُرزَق الذكور،وزوجته كانت دائماً تشكو منه وتشكوه إلى نفسه ، وهو لا يرعوي، لكن ماذا كان يفعل الشيخ الطنطاوي؟
علماً بأن هذا هو العلم، وأنا حين قرأت مُذكِراته أُعجِبت بها، فهو عنده ثماني مُجلَدات إذا شرعت في قرائتها لن تتركها كما أزعم حتى تنتهي منها، فهى من أجمل ما تقرأ في حياتك، وأسلوب علي الطنطاوي حين يكتب لا يُقارَن لا بأسلوب العقاد ولا طه حسين ولا أي أحد، فهو من أجمل مَن كتب بالعربية، وأسلوبه على سهولته هو أسلوب السهل المُمتنِع، فالسهل المُمتنِع ليس لطه حسين وإنما لعلي الطنطاوي، وقد شهد له القامة الهائلة عباس العقاد وكان أسن منه بكثير، فالشيخ علي الطنطاوي كان في الثلاثينيات، وقد قرأ له في الرسالة، وحين تمرض محمد حسن الزيات – رحمة الله عليه الذي هو أيضاً من أصحاب الأساليب الجميلة جداً – أصبح يُحرِّر الرسالة في تلك الفترة، ففالعقاد قرأ له ثم قال هذا الشاب أديب، أشهد له أنه أديب، علماً بأن العقاد لا يشهد لأحد بسهولة لأن من الصعب أن يُعجِبه شيئاً لكنه قال أشهد له أنه أديب، فهو أديب بحق، وعلى كل حال الشيخ الطنطاوي – هذا الأديب المُحبَّب الطيب المُؤطأ الأكناف – كانت زوجته تشكوه دائماً لأنه حين يقبض مُرتَبه كان يفعل شيئاً عجيباً، وهو طبعاً عنده بنات، والبنات لابد من الاعتناء بهن وبمُستقبَلهن وما إلى ذلك، فماذا كان يفعل؟ طبعاً إذا كان عنده أي ديون فإنه كان يُسدِّد الديون، وكان يدفع إيجار البيت وأشياء مُعينة، وما فضل لا يدخر منه فلساً، يُنفِقه كله في سبيل الله، فتقول له يا عليّ هذا لا يصح لأن عندك بنات، ماذا عن المُستقبَل؟ فيقول لها الله سوف يُدبِّرها، فما هذا؟ هل يُوجَد علماء بهذه الطريقة؟ نعم، والآن نحن نرى نمطاً آخر من العلماء يكون الواحد منهم مُستعِداً أن يُضحي بالأمة وأن يُؤلِّب بعضها على بعض وأن يذبح بعضها ببعض في سبيل مُرتَبات وأموال ومزايا مادية، وهذا الشيئ بمثابة لعنة حقيقية، فنسأل الله أن يرفع عنا هذه الغمة، لكن هذا يتبرع بآخر فلس كل شهر، فلماذا يفعل هذا إذن؟ هذا الرجل الصالح – رحمة الله على روحه الطاهرة – فعل هذا لأن من شيوخه مَن كان يفعل هذا بالضبط، فكان يتصدَّق بكل ما فضل ولا يدخر فلساً طيلة حياته، ومن ثم هو تعلَّم منه، فواحد تعلَّم عن واحد وهكذا إلى آخر هذه السلسلة الحية الطيبة الكريمة!
الشيخ الحسني كان يُحِب الخزف – البورسلان – جداً وكان عنده نزعة إعجاب به،وكان يُحِب الكتب طبعاً ويدفع بها مئات وربما ألوف الليرات الذهبية، فهو كان عنده كُتب مطبوعة وعنده كتب مخطوطة بكميات هائلة، وكان يبعث إلى الهند وإلى أي مكان ويدفع من أجل المخطوطات النادرة أي ثمن يُطلَب فيها، فالشيخ الحسني – رحمة الله عليه – كان يعشق العلم، وكان يعشق أيضاً هذا الخزف، وعنده منه أكياس لأنه كان يُحِبه جداً جداً، يقول الشيخ الطنطاوي دخل مرة أحد التلاميذ الذين كانوا عنده فعثرت رجلت بالخزف فتكسر خزف كثير، وطبعاً أصحاب الشيخ وتلاميذه صُعِقوا، والشيخ سمع هذا فأدرك ما حصل، لكنه قال يا باه لا تُوجَد مُشكِلة يا باه، لا تُوجَد مُشكِلة أبداً يا باه، وأعطاه مالاً – الشيخ أعطى تلميذه – حتى يُطيب خاطره لكي يُفهِمه أنه ليس غضباناً بل هو راضٍ عنه وقال له خُذ أيضاً هذه الفلوس مني يا بني، وهذا شيئ عجيب، علماً بأنه – قدس الله روحه الطاهرة – طيلة حياته التي جاوزت ونيفت على الثمانين لم يسمح أن يُغتاب أحدٌ مرة في مجلسه، أي أنه لا يسمح لبشر أن يغتاب أحداً في مجلسه، فانظروا إلى الولاية وإلى العلم وإلى الصلاح وإلى الربانية، وأخيراً يبعث له السلطان عبد الحميد الثاني – الإمبراطور وسلطان المسلمين – له سفينة إلى اللاذقية ورسالة طبعاً يقول له يُشرِّفنا يا مولانا أن تُشرِفنا في الباب العالي في الأستانة، أي أنه يقول له زُرنا، ولك أن تتخيَّل هذا، فيقولوا له يا مولانا السلطان يبعث لك سفينة وما إلى ذلك، فماذا قال؟ رفض الدعوة بكل بساطة وقال ياباه – هذه عنده كانت كلمة يقولها، فدائماً ما كان يقول يا باه – غير مأذون، أي لا يُوجَد إذن، فهل الرجل يتحرَّك بإذن؟ هذا شيئ عجيب، وهو شيخ مشايخ المسلمين وشيخ بلاد الشام، وفي اليوم ذاته عصراً طلب أن تُجهَز له دابة – أعتقد حمار أكرمكم الله، أي أنها كانت دابة مُتواضِعة – وذهب مع أحد تلاميذه الذي أصبح فقيهاً حنفياً كبيراً بعد ذلك إلى الهامة – قرية في مكان قريب جداً من دمشق – لماذا؟ لكي يزور فيها شيخاً كان إماماً في مسجد مُتواضِع يُصلي فيه عشرات الناس، وكان هذا الشيخ أمنيته أن شيخ الإسلام والمسلمين أن يزوره يوماً، فذهب إليه وزاره، أي أنه يرد دعوة السلطان ويزور أحد فقراء أئمة المساجد، أرأيتم كيف هى الربانية؟ هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، اقرأوا عنه إذن، اقرأ لكي ترى النموذج الكامل للمُسلِم الكامل والإنسان الكامل الذي بحث عنه ابن الرومي وبحث عنه محمد إقبال، ولذا أنا أقول لك أنني أزعم أن الشيخ بدر الدين الحسني هو الإنسان الكامل، فهو نموذج للمُسلِم الإنساني الكامل والمُؤمِن الكامل علماً وعملاً وظاهراً وباطناً وعلماً وولاية، أي أنه جمع الجناحين معاً، وهذا شيئ عجيب، ولذا كان سيد الطائفتين في هذا العصر. رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
(يُتبَع الجزء الخامس)
أضف تعليق